المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقَدّمة التحقيق إنَّ الحمدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ ونَسْتَعينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعوذُ باللهِ مِن - لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف - ت عامر

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

‌مقَدّمة التحقيق

إنَّ الحمدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ ونَسْتَعينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهْدِهِ اللهُ فلا مضلَّ لهُ، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ لهُ. وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشْهَدُ أن مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ.

• الكتبُ كثيرٌ جدًّا، لكنَّ أكثرَها لا يَلْبَثُ أنْ يَنْدَثِرَ كعشبٍ ربيعيٍّ عاجَلَتْهُ شمسُ الصَّيفِ المحرقةِ فتَرَكَتْهُ غثاءً أحوى، وتَبْقى كلمةٌ طيِّبةٌ كشجرةٍ طيِّبةٍ أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السَّماءِ تُؤْتي أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها.

وهذهِ كلمةٌ طيِّبةٌ كشجرةٍ طيِّبةٍ ما زالَ المسلمونَ يَجْتَنونَ مِن ثمارِها قرنا بعدَ قرنٍ، وذلك في تقديري لأسبابٍ كثيرةٍ: أهمُّها: شخصيَّةُ مصنِّفِها وشهادةُ الأئمَّةِ لهُ بالإتقانِ في العلمِ والإمامةِ في الدِّينِ والاعتدالِ والزُّهدِ والإخلاصِ وصدقِ النِّيَّةِ. والثَّاني: حسنُ اختيارِهِ لموضوعِ كتابِهِ لِيَكونَ عامَّ النَّفعِ لا يَسْتَغْني عنهُ عامِّيٌّ ولا متعلِّمٌ. والثَّالثُ: وضوحُ رؤيتِهِ وحسنُ تنظيمِهِ لموضوعِهِ وعرضُهُ لهُ مباشرةً بلغةٍ علميَّةٍ رصينةٍ متوسِّطةٍ بينَ ركّةِ الضعفاءِ وتقعُّرِ المتفيهقينَ بألفاظِهِمُ الوحشيَّةِ أو أساليبِهِمُ الرُّومنسيَّةِ الموغلةِ في التَّصويرِ والتَّخييلِ. والرَّابعُ: توسُّطُهُ بينَ الطُّولِ المملِّ المستغرقِ في التَّفاصيلِ التي لا طائلَ تحتَها، والقصرِ المخلِّ الذي لا يَفِي الموضوعَ حقَّهُ ولا يُشْبِعُ حاجةَ القارئ للاطِّلاعِ.

• في سبيلِ الوصولِ إلى متنٍ مشرقٍ يَلِيقُ بهذا الكتابِ الفذِّ اعْتَمَدْتُ على واحدةٍ من أجودِ مطبوعاتِ الكتابِ وثلاثةٍ من الأُصولِ الحطِّيَّةِ قَدَّمَها الأخُ المفضالُ سَعْدُ بنُ عَبْدِ اللهِ السَّعْدانُ أعْظَمَ اللهُ جزاءَهُ على تطوُّعِهِ المتكرِّرِ بمثلِ هذهِ الفضيلةِ لا يُريدُ لها جزاءً ولا شكورًا. وهذا وصفٌ مختصرٌ لتلكَ الأُصولِ:

ص: 5

*‌

‌ أوَّلًا: الأصلُ الخطِّيُّ المعتمدُ (خ)

1) هوَ نسخةٌ خطِّيَّةٌ نفيسةٌ محفوظةٌ في قسمِ المخطوطاتِ في جامعةِ الإمامِ مُحَمَّدِ بن سُعودٍ برقم 4271 ف مصوَّرةٌ عن أصلٍ محفوظٍ في مكتبةِ شستربتي بالرَّقمِ نفسِه.

2) عددُ صفحاتِها 279، في كلِّ صفحةٍ 23 سطرًا، في كلِّ سطرٍ 15 كلمةً تقريبًا.

3) الخطُّ جميلٌ مضبوطٌ ضبطًا حسنًا بعلاماتِ التَّرقيمِ، واسْتُعْمِلَ القلمُ الأحمرُ في رؤوسِ الفقراتِ الرَّئيسةِ، وخُطَّ خطٌّ واضحٌ فوقَ الفقراتِ الجديدةِ غالبًا، وجاءَ الشِّعرُ واضحًا مفصولًا عن سائرِ الكلام.

4) في حواشي النُّسخةِ تصويباتٌ لما وَقَعَ في المتنِ مِن الأخطاءِ واستدراكاتٌ للسَّقطِ، لكنَّ غالبَ هذهِ الحواشي مستفادٌ مِن النُّسخةِ الأُمِّ أو نسخٍ أُخرى للكتابِ، فإنْ شَكَّ النَّاسخُ في لفظةٍ ما؛ أشارَ في الحاشيةِ إلى ما يَراهُ صوابًا بقولِهِ:"لَعَلَّها كذا"، ممَّا يَشْهَدُ لأمانتِهِ في التَّحمُّلِ والأداءِ. نعم؛ قد تَجِدُ في الحاشيةِ بينَ فينةٍ وأُخرى تعليقًا للنَّاسخِ أو المقابلِ، لكنَّهُ واضحٌ مفصولٌ عن المتنِ بصورةٍ لا لبسَ فيها.

5) وقد جاءَ اسمُ النَّاسخِ ومكانُ النَّسخِ وتاريخُهُ صريحًا في قولِهِ آخرَ المخطوطِ: "آخرُها، أحْسَنَ اللهُ خاتمتَها، وكانَ الفراغُ منها على يدِ أفقرِ عبادِ اللهِ وأحوجِهِم إلى رحمتِهِ النَّادمِ على ما كانَ مِن كسبِهِ إلْياسَ بن خَضرِ بن مُحَمَّدٍ الدَّاعي لمالكِهِ وكاتبِهِ بطولِ البقاءِ وعلوِّ الدَّرجاتِ والارتقاءِ، وهوَ الشَّيخُ الإمامُ علاءُ الدِّينِ عليُّ بنُ سُلَيْمانَ المِرْداوِيُّ أمْتَعَ اللهُ بطولِ بقائِهِ وأعادَ علينا وعلى المسلمينَ مِن بركاتِهِ غَفَرَ اللهُ لهُ ولوالديهِ ولكاتبِ هذهِ الأسطرِ ولجميعِ المسلمينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وذلكَ في اليومِ الثَّاني والعشرينَ مِن شهرِ اللهِ المحرَّمِ مِن شهورِ سنةِ خمسينَ وثمانِ مئةٍ بالمدرسةِ الموسومةِ بالشَّيخِ أبي عمر

" إلخ.

6) والاستدراكاتُ الكثيرةُ في حواشي المخطوطِ ناطقةٌ بأنَّهُ قوبِلَ على أكثرَ مِن نسخةٍ خطِّيَّةٍ، بل جاءَ هذا صريحًا في قولِهِ: "بلغ مقابلةً حَسنةً صحيحةً على نسختينِ، وذلكَ برباطِ العبَّاسِ عمِّ نبيِّنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم ورَضِيَ عنهُ، وذلك بمَكَّةَ المشرَّفةِ، على يدِ كاتبِها، إلَّا الصَّفحةَ الأخيرةَ؛ فإنَّ كاتبَها المسمَّى فيها، قالَ ذلكَ وكَتَبَ عَلِيُّ بنُ سُلَيْمانَ

ص: 6

المِرْداوِيُّ الحنبليُّ عَفا اللهُ عنهُ وعن ولدِهِ، وذلكَ في أيَّامٍ آخرُها نهارُ السَّبتِ خامسَ عشرَ جمادى الآخرةِ سنةَ سبعٍ وخمسينَ وثمانِ مئةٍ".

*‌

‌ ثانيًا: الأصل الخطِّيُّ المساعد (م)

1) هو نسخةٌ خطِّيَّةٌ محفوظة في قسمِ المخطوطاتِ في جامعةِ الإمامِ مُحَمَّدِ بن سُعودٍ برقم 4886 ف مصوَّرةٌ عن أصلٍ محفوظٍ في مكتبةِ شسشربتي بالرَّقمِ نفسِهِ.

2) تَقَعُ هذهِ النُّسخةُ في 314 صفحةً، في كلِّ صفحةٍ 17 سطرًا، في كلِّ سطرٍ 12 كلمةً تقريبًا. وقد سَقَطَتِ الصَّفحاتُ العشرُ الأُولى منها.

3) الخطُّ مقروءةٌ مضبوطٌ بعلاماتِ التَّرقيمِ، وهاهُنا خطٌّ واضحٌ فوقَ رأْسِ كلِّ فقرةٍ، واسْتُعْمِلَ القلمُ الأحمرُ لتمييزِ العناوينِ، ومُيِّزَ الشِّعرُ عن سائرِ الكلامِ. ومعَ ذلكَ فروحُ العجلةِ واضحةٌ في هذهِ النُّسخةِ، فالسَّقطُ فيها متكرَّرٌ، يَتَراوَحُ بينَ كلمةٍ وسطرٍ وفقرةٍ وصفحاتٍ عدَّةٍ، ولم يُسْتَدْرَكْ في الحواشي إلَّا أشياءُ يسيرةٌ جدًّا مِن السَّقطِ والتَّحريفِ، ممَّا يُرَجِّحُ أنَّها لم تَحْظَ بالمقابلةِ والعنايةِ اللائقينِ خلافًا للنُّسخةِ الأُولى.

4) وجاءَ في آخرِها: "آخرُهُ، تَمَّ وكَمَلَ وكانَ الفراغُ مِن الكتابِ المباركِ في سابعَ عشرَ رمضانَ المعظَّمِ على يدِ العبدِ الفقيرِ إلى اللهِ تَعالى مُحَمَّدِ بن مُحَمَّدٍ الجَمَّاعِيلِيُّ غَفَرَ اللهُ لهُ ولوالديهِ ولجميعِ المسلمينَ آمينَ. وكانَ في سنةِ خمسٍ وتسعِ مئةٍ والحمدُ للهِ وحدَهُ".

*‌

‌ ثالثًا: الأصل الخطِّيُّ المساعدُ (ن)

1) هوَ نسخةٌ خطَيَّةٌ محفوظةٌ في قسمِ المخطوطاتِ بجامعةِ مُحَمَّدِ بن سُعودٍ برقم 5050 ف مصوَّرةٌ عن أصلٍ محفوظٍ في مكتبةِ شستربتي بالرَّقمِ نفسِهِ.

2) تَقَعُ هذه النُّسخةُ في 262 صفحةً، في كلِّ صفحةٍ 17 سطرًا، في كلِّ سطرٍ 11 كلمةً تقريبًا. وقد سَقَطَتِ الصَّفحاتُ العشرُ الأُولى منها.

3) الخطُّ واضحٌ غيرُ جميلٍ، مضبوطٌ بعلاماتِ التَّرقيمِ، واسْتُعْمِلَ القلمُ الأحمرُ في رؤوسِ الفقراتِ والموضوعاتِ، وأُشيرَ إلى الشِّعرِ بلفظةِ "شعر".

4) هذه النُّسخةُ جيِّدةٌ في الجملةِ تَشي بدقَّةِ النَّاسخِ وتحرِّيهِ، لكنَّ الخرومَ فيها

ص: 7

متكرِّرةٌ جدًّا تتَراوَحُ بينَ صفحةٍ واحدةٍ وصفحاتٍ عدَّةٍ.

5) وجاءَ في آخرِها: "تَمَّ الكتابُ بحمدِ اللهِ تَعالى وعونِهِ، وكانَ الفراغُ مِن نسخِهِ يومَ الخميس المباركِ تاسعَ عشرَ ذي القعدةِ مِن سنةِ اثنتينِ وستِّينَ وثمانِ مئةٍ"، ثمَّ جاءتْ بعدَ ذَلكَ إضافاتٌ بغيرِ خطِّ النَّاسخِ لمادَّةٍ لا علاقةَ لها بالكتابِ.

*‌

‌ رابعًا: الأصلُ المطبوعُ (ط)

1) طبعةٌ جيِّدةٌ مِن إصدارِ دارِ ابن كثيرٍ بتحقيقِ ياسين مُحَمَّد السَّوَّاس في 680 ص.

2) بَذَلَ المحقِّقُ جَزاهُ اللهُ خيرًا جهدًا كبيرًا في خدمةِ متنِ الكتابِ، فقابَلَ واحدةً مِن أفضلِ طبعاتِهِ على أربعِ نسخٍ خطِّيَّةٍ، ولكنَّهُ للأسفِ جَعَلَ المطبوعَ أصلًا بَنى عليهِ عملَهُ، ولو عَكَسَ لَكانَ خيرًا للكتابِ، ولا سيَّما أن بعضَ نسخِهِ نفيسٌ يَصلُحُ أنْ يُعْتَمَدَ أصلًا وحدَهُ! ثمَّ وَثَّقَ عملَهُ بإثباتِ فروقِ النَّسخِ في الحواشي، ولكنَّهُ بالَغَ في ذلك إلى حدٍّ بعيدٍ فأوْرَثَ الكتابَ سيلًا من حواشي فروقٍ لا ضرورةَ لها! وكذلكَ أوْدَعَ كل زيادةٍ وَقَفَ عليها في نسخةِ ما في المتنِ، فأوْرَثَ المتنَ ركَّةً أحيانًا وضَمَّ إليهِ جملةً غيرَ قليلةٍ مِن زياداتِ النُّسَّاخِ وتعليقاتِهِم!

3) ضَبَطَ متنَ "اللطائف" بعلاماتِ التَّرقيمِ ضبطًا ممتازًا نادرَ الخطأ. ولكنَّهُ قَصَّرَ في علاماتِ الوقفِ وتقسيم الفقراتِ، فجاءَ توزيعُهُ للفقراتِ في غيرِ محلِّهِ أحيانًا، وزادَ النَّاشرُ فدَقَّ الكتابَ دقًّا توخِّيًا للاختصارِ، فجاءَ المتنُ مضغوطًا كمخطوطاتِ الأقدمينَ، وزادَ ضغطُ الحواشي على كثرتِها الطِّينَ بِلَّةً، فلا تكادُ تَصِلُ إلى حاجتِكَ منها إلَّا بعدَ جهدٍ عسيرٍ. وهذهِ قضيَّةٌ شائكةٌ، النَّاسُ فيها بينَ مفرطٍ ومفرِّطٍ، والقارئ المعاصرُ أحوجُ شيءٍ إلى التَّوسُّطِ بينَ هذا وذاكَ، فالمتنُ الأنيقُ حسنُ التَرتيبِ يَجْعَلُهُ يُقْبِلُ على قراءةِ الكتابِ منشرحَ الصَّدرِ، والحاشيةُ البيِّنةُ السَّهلةُ المنالِ تُقَرِّبُهُ إلى غايتِهِ وتُيَسِّرُ له أعظمَ المنفعةِ دونَ أنْ يُصْبِحَ صدرُهُ ضيِّقًا حرجًا كأنَّه يَصَّعَّدُ في السَّماءِ.

4) ثمَ عُنِي عنايةً طيِّبةً بتخريجِ النُّصوصِ القرآنيّةِ وضبطِها ضبطًا كاملًا. ولكنَّه قَصَّرَ في العنايةِ بالنُّصوصِ الحديثيَّةِ: فتَوَسَّعَ في تخريجِ حديثِ الصَّحيحينِ أو أحدِهِما معَ أنَّهُ محلُّ اختصارٍ! واقْتَصَرَ في تخريجِ غيرِهِ على العزوِ لـ "مسند أحمد" أو "السُّنن" أو

ص: 8

"التَّرغيب والتَرهيب" أو "مجمع الزَّوائد"! وأعْرَضَ غالبًا عن رواياتِ الحديثِ المختلفةِ والزِّياداتِ التي أكْثَرَ المصنِّفُ مِن إلحاقِها بمتونها الأصليَّةِ معَ ضعفِ كثيرٍ منها! وأغْفَلَ جملةً غيرَ قليلةٍ مِن النُّصوصِ! وأمَّا الحكمُ على النَّصِّ الحديثيِّ الذي هوَ غايةُ مبتغى القارئ؛ فالتَّقصيرُ فيهِ أوضحُ وأبلغُ!

5) لم تَنَلِ القضايا الفقهيَّةُ والسُّلوكيَّةُ التي طُرِحَتْ في الكتابِ والمذاهبُ المختلفةُ فيها أدنى تحريرٍ وبيانٍ، معَ أنَّها غايةٌ في الأهمِّيَّةِ بالنِّسبةِ لطالبِ العلمِ المعاصرِ، بخلافِ السَّابقينَ الذينَ كانوا يَتَلَقَّوْنَ الكتبَ في مجالسِ العلمِ ويَعْتَمِدونَ على الأشياخِ في تحريرِ ما يَلْتَبِسُ فيها.

6) وشهادتي أن المحقِّقَ بَذَلَ جهدًا طيِّبًا في خدمةِ متنِ هذهِ الطَّبعةِ وجهدًا مشكورًا في تخريجِها "حسبَ الطَّاقةِ" كما ذَكَرَ، ممَّا يَدُلُّ على تواضعِهِ ووقوفِهِ عندَ ما يَعْلَمُ وبعدِهِ عن التَّشبُّعِ والادِّعاءِ. فأينَ هذا ممَّن سَطا على جهدِ غيرِهِ في المتنِ والحواشي، ثمَّ بَهْرَجَ مقدِّمةَ كتابِهِ بصورِ مخطوطاتٍ ما رَجَعَ إليها في قليلٍ ولا كثيرٍ، ثمَّ خاضَ في حديثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تصحيحًا وتضعيفًا بغيرِ علم ولا تقوى؟! وأينَ طبعتُهُ مِن طبعاتِ تجَّارٍ اسْتَنْزَفوا هذا الكتابَ وغيرَهُ ورَوَّجوا بالغلافِ الفاخرِ والورقِ النَّاصعِ والحبرِ الملوَّنِ لعجائبَ يَنْدى لها الجبينُ ممهورةٍ بتواقيعِ أدعياءِ التَّحقيقِ والتَّخريجِ ولا تحقيقَ ولا تخريجَ؟!

• أمَّا عن هذهِ الطَّبعةِ؛ فرجائي أنَّني أعْذَرْتُ نفسي أمامَ ربِّي وأمامَ القارئ الكريمِ بما بَذَلْتُهُ مِن الجهدِ والوقتِ في إنجازِها على هذهِ الصُّورةِ التي تَراها:

1) فكانَتْ سلامةُ المتنِ ويسرُهُ محطَّ نظري، فالمتنُ غايةُ الكتابِ التي ما وراءَها غايةٌ، والقارئُ إنَّما قَصَدَ أصلًا "لطائف ابن رَجَب" لا الشُّروحَ والتَّعليقاتِ.

وقد نَظَرْتُ في مخطوطاتِ الكتابِ فرَأيْتُ النُّسخةَ الخطِّيَّةَ (خ) كاملةً دقيقةً قُوبِلَتْ على نسختينِ خطِّيَّتينِ فأتَّخَذْتُها أصلًا وعَمِلْتُ جاهدًا لأجْعَلَ متنَ هذهِ الطبعةِ صورةً صادقةً عنها، فأثْبَتُّ ما وَجَدْتُهُ فيها صحيحًا راجحًا أو حسنًا صالحًا ولو كانَ مخالفًا للأصلينِ المساعدينِ (م) و (ن)، وأمَّا ما وَجَدْتُهُ ضعيفًا مرجوحًا - وهوَ قليلٌ - فاسْتَغْنَيْتُ عنهُ بما في الأصلينِ المساعدينِ (م) و (ن) أو الأصلِ المطبوعِ (ط) وأشَرْتُ

ص: 9

إلى ذلكَ في الحاشيةِ، وما كانَ في (خ) مِن زيادةٍ على بقيَّةِ الأُصولِ فأثْبَتُّها دونَ إشارةٍ، وما كانَ في (م) أو (ن) مِن زيادةٍ حسنةٍ مناسبةٍ؛ فأثْبَتُّها بينَ حاصرتينِ []، وما كانَ مِن زيادةٍ منِّي أو مِن (ط) فأشَرْتُ إليهِ في الحاشيةِ.

وبهذا أكونُ قد نَقَلْتُ لطالبِ العلمِ ما في الأصلِ الخطِّيِّ (خ) بصورةٍ أمينةٍ إنْ شاءَ اللهُ، وقَدَّمْتُ لهُ متنًا أقربَ ما يَكونُ إلى الصُّورةِ التي تَرَكَهُ عليها المصنِّفُ، ونَفَعْتُهُ بفوائدِ الأصلينِ المساعدينِ (م) و (ن) والأصلِ المطبوعِ (ط) دونَ أنْ أُرْهِقَهُ بسيلٍ مِن حواشي الفروقِ التي لا يَنْتَفعُ بها المدقِّقُ المختصُّ لأنَّهُ لا يَكادُ يَشْتَفي بغيرِ رؤيةِ المخطوطِ ولا حاجةَ للأغلبيَّةِ السَّاحقةِ مِن القرَّاءِ بها.

2) ثمَّ عُنِيتُ عنايةً بالغةً بعلاماتِ الوقفِ، وذلكَ لِما أراهُ مِن أهمَيَّةِ هذا العنصرِ وضرورةِ تنظيمِهِ لإعانةِ القارئ على الوقوفِ على تفاصيلِ المادَّةِ وتحصيلِ أكبرِ قدرٍ ممكنٍ مِن الفائدةِ.

3) ثمَّ عنايةً فوقَ ذلكَ بضبطِ النَّصِّ بعلاماتِ التَّرقيمِ، ولم أقْتَصِرْ على آيةٍ ولا حديثٍ ولا أثرٍ ولا متنٍ، ولكنَّني عَمَّمْتُهُ على جميعِ النَّصِّ بالقدرِ الكافي لفهمِهِ.

4) ثمَّ عُنيتُ بتقسيمِ النُّصوصِ إلى أفكارٍ رئيسةٍ وفرعيَّةٍ وفقراتٍ وَسَمْتُها بـ • أو • أو - أو رقَّمْتُها بأرقامٍ بين حاصرتينِ []؛ لِيَتَنَفَّسَ القارئُ عندَ انتهاءِ كلِّ فكرةٍ ويَسْتَرْجِعَ ما مَرَّ معَهُ فيها ويَصِلَ بينَها وبينَ أخواتِها لِيُكَوِّنَ فكرةً عامَّةً عن الموضوعِ.

5) وانْتَفَعْتُ في أغلبِ الأحيانِ بما أوْدَعَهُ الأخُ السَوَّاسُ مِن تخريجِ الآياتِ لدقَّتِهِ وراجَعْتُ كثيرًا منها عندَ أدنى شكٍّ للتَّأكُّدِ، فأفادَ هذا مزيدًا مِن الدِّقَةِ والتَّصويبِ.

6) قُمْتُ بدراسةٍ توثيقيَّهةٍ جادَّةٍ لجميعِ النَّصوصِ الحديثيَّةِ الواردةِ في الكتابِ على ما هوَ معهودٌ: فما كانَ مِن مخرَّجاتِ الصَّحيحينِ أو أحدِهِما؛ فقدِ اكْتَفَيْتُ فيهِ بالعزوِ، وحسبُكَ بهِما. وما عدا ذلكَ؛ فعُنِيتُ بتخريجِهِ ممَّا تَيَسَّرَ لي مِن كتبِ السُّنَّةِ والرِّجالِ، وذَكَرْتُ ما يَلْزَمُ مِن رجالِ إسنادِهِ دونَ ما لا يَلْزَمُ مِن المتابعاتِ التي تتقَوَّى بالكثرةِ وتَنْتَهي إلى طريقٍ واحدةٍ، وبَيَّنْتُ حالَهُ مباشرةً أو بنقلِ ما تَيَسَّرَ مِن أقوالِ أهلِ العلمِ فيهِ، ولم أُخْطِئْ ختمَ التَّخريجِ بحكمِ الشَّيخِ الألْبانِيِّ قَدَّسَ اللهُ روحَهُ إنْ وَقَفْتُ عليهِ، ثمَّ

ص: 10

صَدَّرْتُ ذلكَ كلَّهُ بحكميَ الشَّخصيِّ الذي لا يَخْرُجُ غالبًا عن أقوالِ أئمَّةِ هذا العلمِ. وهذهِ طريقةٌ ما زِلْتُ أعْمَلُ عليها وأدْعو إليها؛ لِيَتَّصِلَ ماضي هذا العلمِ الشَّريفِ بحاضرِهِ، وتَطْمَئِنَّ قلوبُ طلَّابِ العلمِ لِما بينَ أيديهِم مِن الأحكامِ، ويَنْسَدَّ البابُ على الأدعياءِ الذينَ راحوا يَخِبُّونَ ويَضَعُونَ في حديثِهِ صلى الله عليه وسلم تصحيحًا وتضعيفًا نصرةً لباطلِهِم.

7) وأمَّا الموقوفاتُ والإسرائيليَّاتُ ونحوُها؛ فلم أجْتَهِدْ فيها اجتهاديَ في المرفوعِ، وإنَّما خَرَّجْتُ منها: ما ذَكَرَ المصنِّفُ أنَّهُ جاءَ مرفوعًا، أو ما ساقَهُ المصنِّفُ بطريقةٍ يَلْتَبِسُ بها على القارئ بالمرفوعِ، أو ما يُظَنُّ لهُ حكمُ الرَّفعِ، أو ما يَنْبَني عليهِ حكمٌ فقهيٌّ أو سلوكيٌّ غيرُ صائبٍ.

8) ثمَّ إنْ كانَ الكلامُ واضَّحًا لا لبسَ فيه؛ فالسُّكوتُ مِن ذهبٍ. وإنْ لم يَكُنْ كذلكَ؛ فلن تَعْدَمَ تعقُّبًا لقولٍ أو تحريرَ وجهِ الصَّوابِ في مسألةٍ فقهيَّةٍ أو سلوكيَّةٍ.

9) ثمَّ خَتَمْتُ عملي بفصولٍ أوْدَعْتُ فيها خلاصةَ معرفتي بالكتابِ ومصنِّفِهِ.

• ولقد أعْلَمُ أنَّني لَسْتُ مِن أهلِ الكمالِ، وأرْجو أنْ لا أكونَ مِن مدَّعيهِ والمتشبِّعينَ بهِ، لكنْ حسبي أنَّني اجْتَهَدْتُ في سبيلِ ذلكَ ما آلَيْتُ: فإنْ قارَبْتُ؛ ففضلٌ مِن اللهِ وحدَهُ. وإنْ كانَتِ الأُخرى؛ فمَن أفْرَغَ في الكتابِ جهدًا دؤوبًا وصبرًا طويلًا وسَعى ما اسْتطاعَ في تيسيرِ عسيرِهِ وتقريبِ بعيدِهِ فقد بَسَطَ عذرَهُ.

واللهَ وحدَهُ أسْألُ، وبأسمائِهِ وصفاتِهِ أتَوَسَّلُ، أنْ يَكْتُبَ لجهديَ الدَّؤوبِ وصبريَ الطَّويلِ ثمرةً طيِّبةً يَحِلُّ نفعُها على المؤلِّفِ والمحقِّقِ والقارئ، وأنْ يَتَقَبَّلَ منِّي ويَرْضى عنِّي ويَغْفِرَ ذنبي ويَسْتُرَ عيبي، وأنْ يُلْهِمَني الإخلاصَ في شأْني كلِّهِ ولا يَجْعَلَ لأحدٍ مِن خلقِهِ فيهِ شيئًا؛ إنَّهُ وليُّ ذلكَ والقادرُ عليهُ.

والحمدُ للهِ الذي بنعمتِهِ تَتِمُّ الصالحاتُ، والسَّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ.

* * * * *

ص: 11

الورقة الأولى من الأصل الخطي المعتمد (خ)

ص: 13

الورقة الأخيرة من الأصل الخطي المعتمد (خ)

ص: 14

الورقة الأولى من الأصل الخطي المساعد (م)

ص: 15

الورقة الأخيرة من الأصل الخطي المساعد (م)

ص: 16

الورقة الأولى من الأصل الخطي المساعد (ن)

ص: 17

الورقة الأخيرة من الأصل الخطي المساعد (ن)

ص: 18

‌ترجمة موجزة للحافظ ابن رجب

•‌

‌ أوَّلًا: اسمُهُ ونسبُهُ وكنيتُهُ وشهرتُهُ ولقبُهُ

هوَ الإمامُ، الحافظُ، العلَّامةُ، زَيْنُ الدِّينِ

(1)

، أبو الفَرَجِ

(2)

، عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ أحْمَدَ بن عَبْدِ الرَّحْمنِ

(3)

بن الحَسَنِ

(4)

بن مُحَمَّدِ بن أبي البَرَكاتِ مَسْعودٍ، البَغْدادِيُّ، الدِّمَشْقِيُّ، المَعْروفُ بِابْنِ رَجَبٍ الحَنْبَلِيِّ.

ورَجَبٌ هوَ لقبُ عَبْدِ الرَّحْمنِ الجدِّ، لُقِّبَ بهِ لأنَّهُ وُلِدَ في رجبٍ، ثمَّ سارَ لقبُهُ في أولادِهِ، فعُرِفَ ولدُهُ أحْمَدُ بابنِ رَجَبٍ، ثمَّ عُرِفَ حفيدُهُ عَبْدُ الرَّحْمنِ بابْنِ رَجَبٍ أيضًا.

•‌

‌ ثانيًا: مولدُهُ ونشأتُهُ

وُلِدَ ابنُ رَجَبٍ في بَغْدادَ سنةَ 736 هـ

(5)

.

ونَشَأ وتَرَعْرَعَ في أُسرةٍ مشهورةٍ بالعلمِ والصَّلاحِ:

فقد وَصَفَ المؤرِّخونَ جدَّهُ بأنَّهُ "الشَّيخُ، الإمامُ، المحدِّثُ"، وذَكَرَ ابنُ رَجَبٍ في

(1)

لقّبه ابن فهد في "لحظ الألحاظ" بشهاب الدين! وردّه الطهطاوي في "التنبيه والإيقاظ" وبيّن أنّ شهاب الدين هو لقب أبيه لا لقبه. وقال ابن العماد في "الشذرات": "زين الدين وجمال الدين"! ولم أر من تابعه على ذلك، فإن كان محفوظًا فلعلّه كان يلقّب أوّلًا بجمال الدين ثمّ غلب عليه لقب زين الدين.

(2)

قال ابن فهد في "لحظ الألحاظ": "أبو العبّاس أو أبو الفرج"! وردّه الطهطاوي في "التنبيه والإيقاظ" وبيّن أنّ أبا العبّاس كنية أبيه لا كنيته.

(3)

قال ابن فهد في "لحظ الألحاظ": "عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن عبد الرحمن "! وردّه الطهطاوي في "التنبيه والإيقاظ" وبيّن أنّ رجبًا هو لقب جدّه عبد الرحمن وأنّه لا لزوم لإضافة "ابن" بينهما.

(4)

في "المقصد الأرشد": "بن الحسين"! فإن لم يكن هذا تحريفًا من طابع أو ناسخ فوهم لم يتابعه عليه أحد ممّن ترجم لابن رجب.

(5)

على ذلك اتّفق من ترجم لابن رجب من المؤرّخين، ومنهم العسقلاني في "إنباء الغمر"، ثمّ وهم يرحمه الله في "الدرر الكامنة" فزعم أنّ مولده سنة 706 هـ، وتابعه على وهمه السيوطي في "ذيل تذكرة الحفّاظ"، وردّه الطهطاوي في "التنبيه والإيقاظ" وبيّن أنّ هذا الأخير هو تاريخ مولد أبيه على الأغلب.

ص: 19

"طبقاته" لهُ حلقةً علميَّةً في بَغْدادَ كانَ يُقْرَأُ عليهِ فيها الحديثُ، وذَكَرَ أنَّهُ حَضَرَ هذهِ الحلقةَ في طفولتِهِ.

وأبوهُ هوَ الشَّيخُ، الإمامُ، المقرئُ، المحدِّثُ، شهابُ الدِّينِ، أبو العَبَّاسٍ، كانَ لهُ رحلةٌ وسماعٌ ومشاركةٌ في الإقراءِ والتَّدريسِ بدِمَشْقَ.

وليسَ مِن المستغربِ بعدَ هذا أنْ نَرى ابنَ رَجَبٍ الأبَ يَنْتَقِلُ معَ ولدِهِ إلى دِمَشْقَ سنةَ 744 هـ، ويَعْتَني بإشراكِهِ معَهُ في حضورِ مجالسِ العلم فيها وتحصيلِ الإجازاتِ العلميَّةِ لهُ مِن كبارِ شيوخِها، ممَّا سَيَكونُ لهُ أبلغُ الأثرِ في حثِّ الفتى اليافعِ على المثابرةِ والجدِّ في التَّحصيلِ والسَّماعِ.

•‌

‌ ثالثًا: طلبُهُ للعلمِ وتحصيلُهُ

تابَعَ الحافظُ ابنُ رَجَبٍ الطَريقَ الذي اخْتَطَّهُ لهُ والدُهُ بصحبتِهِ وبدونِهِ، فارْتَحَلَ وطَوَّفَ الشَّامَ والعراقَ ومصرَ والحجازَ وسَمعَ وحَصَّلَ حتَّى كَثُرَتْ أشياخُهُ وخَرَّجَ لنفسِهِ مشيخةً لطيفةً.

فأجازَ لهُ: عبدُ المُؤْمِنِ بنُ عَبْدِ الحَقِّ بن عَبْدِ اللهِ البَغْدادِيُّ الحَنْبَلِيُّ (ت 739 هـ)، والقاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ البِرْزالِيُّ (ت 739 هـ)، وزَيْنَبُ بنتُ أحْمَدَ بن عَبْدِ الرَّحيمِ المَقْدِسِيَّةُ (ت 740 هـ)، وعَبْدُ الرَّحيمِ بنُ عَبْدِ اللهِ الزُرَيْراتِيُّ (ت 741 هـ)، ومُحَمَّدُ بنُ أحْمَدَ بن حَسَّانَ التَّلِّيُّ (ت 741 هـ)، وعَلِيُّ بنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بن أحْمَدَ البَغْدادِيُّ الحَنْبَلِيُّ (ت 742 هـ)، ومُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرِ بن إبْراهيمَ بن عَبْدِ الرَّحْمنِ بن النَّقيبِ (ت 745 هـ)، والنَّوَوِيُّ

(1)

وغيرُهُم.

وسَمعَ بدِمَشْقَ مِن: عَلِيِّ بن زَيْنِ الدِّينِ المنجا (ت 750 هـ)، ويوسُفَ بن عَبْدِ الرَّحْمنِ بن نَجْمٍ الحَنْبَلِيِّ (ت 751 هـ)، ويوسُفَ بن يَحْيى بن النَّاصِحِ الشِّيرازِيِّ الدِّمَشْقِي (ت 751 هـ)، وابنِ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةَ (ت 751 هـ)، وأحْمَدَ بن عَبْدِ الهادي بن

(1)

ذكر ابن مفلح في "المقصد الأرشد" وابن العماد في "الشذرات" أنّ النووي من شيوخ ابن رجب بالإجازة، والنووي عند الإطلاق هو أبو زكريّا يحيى بن شرف (ت 676 هـ)، ولم يلحقه ابن رجب ولا أبوه، فإمّا أنّ المراد بالنووي نووي آخر غير أبي زكريّا، أو أنّه تحريف صوابه النويري. والله أعلم.

ص: 20

يوسُفَ المَقْدِسِيِّ (ت 754 هـ)، ويوسُفَ بن عَبْدِ اللهِ بن العَفيفِ النَّابُلُسِيِّ (ت 754 هـ)، وأحْمَدَ بن عَبْدِ الرَّحْمنِ الحَريرِيِّ المَقْدِسِي (ت 758 هـ)، وعَبْدِ اللهِ بن مُحَمَّدِ بن إبْراهيمَ بن قَيِّمِ الضِّيائِيَّةِ (ت 761 هـ)، وعَبْدِ الرَّحْمنِ بن أبي بَكْرٍ أخي ابن القَيِّمِ (ت 769 هـ)، وأحْمَدَ بن الحَسَنِ بن عَبْدِ اللهِ ابن قاضي الجبلِ (ت 771 هـ)، وأحْمَدَ بن مُحَمَّدِ بن عُمَرَ الشِّيرازِيِّ الدِّمَشْقِي (ت 771 هـ)، وعُمَرَ بن حَسَنِ بن فَريدٍ المَراغِيِّ الحَلَبِي الدِّمَشْقِيِّ (ت 778 هـ)، ومُحَمَّدِ بن إسْماعيلَ بن إبْراهيمَ بن الخَبَّازِ، وإبْراهيمَ بن داوودَ العَطَّارِ

وغيرِهِم.

وسَمعَ بمِصْرِ مِن: مُحَمَّدِ بن مُحَمَّدِ بن إبْراهيمَ الميدومِيِّ (ت 754 هـ)، ومُحَمَّدِ بن إسْماعيلَ بن عَبْدِ العَزيزِ الأيُّوبِيِّ (ت 756 هـ)، ومُحَمَّدِ بن مُحَمَّدٍ القَلانِسِيِّ الحَنْبَلِيِّ (ت 765 هـ)، وعَبْدِ العَزيزِ بن مُحَمَّدِ بن إبْراهيمَ بن جَماعَةَ قاضي الدِّيارِ المِصْرِيَّةِ (ت 767 هـ) قالَ العَسْقَلانِيُّ: "ورافَقَ شيخَنا

".

وسَمعَ ببَغْدادَ مِن: عَبْدِ اللهِ بن عَبْدِ المُؤْمِنِ بن الوَجيهِ الواسِطِيِّ (ت 740 هـ)، وأحْمَدَ بن مُحَمَّدِ بن سُلَيْمانَ الحَنْبَلِيِّ، والحُسَيْنِ بن بَدْرانَ البَصْرِيِّ البَغْدادِيِّ (ت 747 هـ)، وأحْمَدَ بن عَلِيِّ بن مُحَمَّدٍ البابَصرِيِّ البَغْدادِيِّ (ت 750 هـ)، وعُمَرَ بن عَلِيِّ بن عَمْرٍو القَزْوينِيِّ (ت 750 هـ)، وعُمَرَ بن عَلِيٍّ البَغْدادِيِّ البَزَّارِ.

وسَمِعَ بمَكَّةَ مِن عُثْمانَ بن يوسُفَ بن أبي بَكْرٍ النُّوَيْرِيِّ المالِكِيِّ (ت 756 هـ).

وسَمعَ بالمَدينَةِ مِن: عَفيفِ الدِّينِ عَبْدِ اللهِ بن مُحَمَّدِ بن مُحَمَّدٍ الخَزْرَجِيِّ العبادِيِّ (ت 760 هـ).

وسَمعَ بالقُدْسِ مِن الحافظِ العَلائِيِّ خَليلِ بن كَيْكَلْدي (ت 761 هـ).

•‌

‌ رابعًا: تلاميذُهُ

تَفَرَّغَ ابنُ رَجَبٍ رحمةُ اللهِ عليهِ للتَّدريس والإفادةِ فتَكاثَرَ عليهِ طلَّابُ العلمِ حتَّى قالَ شهابُ الدِّينِ بنُ حِجِّي: "تَخَرَّجَ بهِ غالبُ أَصحابِنا الحنابلةِ بدمشقَ".

ومِن أجلَّةِ مَن تَخَرَّجَ بهِ مِن أهلِ العلمِ: الإمامُ الأُصوليُّ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بن عَبَّاسٍ البَعْلِيُّ الدِّمَشْقِيُّ الشَهيرُ بابنِ اللحَّامِ، والقاضي مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ المَقْدِسِيُّ الحَنْبَلِيُّ خطيبُ

ص: 21

جامعِ المُظَفَّرِ، وقاضي قضاةِ دِمَشْقَ مُحَمَّدُ بنُ مُحَمَّدِ بن عُبادَةَ السَّعْدِيُّ الأنْصارِيُّ (ت 820 هـ)، وقاضي القضاةِ أبو بَكْرِ بنُ إبْراهيمَ بن مُحَمَّدِ بن مُفْلحٍ (ت 825 هـ)، والإمامُ العلَّامةُ القاضي عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بن أبي بَكْرٍ السُّلَمِيُّ الحَمَوِيُّ (ت 828 هـ)، وقاضي القضاةِ أحْمَدُ بنُ أبي بَكْرِ بن أحْمَدَ بن عَلِيٍّ الحَنْبَلِيُّ المعروفُ بابنِ الرَّسَّامِ (ت 844 هـ)، ومفتي الدِّيارِ المِصْرِيَّةِ أحْمَدُ بنُ نَصْرِ اللهِ بن أحْمَدَ البَغْدادِيُّ ثمَّ المِصْرِيُّ (ت 844 هـ)، وعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ مُحَمَّدِ بن عَبْدِ اللهِ المِصْرِيُّ الحَنْبَلِيُّ الفقيهُ الشَّهيرُ بالزَّرْكَشِيِّ (ت 846 هـ)، والمقرئُ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ أحْمَدَ بن مُحَمَّدٍ الدِّمَشْقِيُّ المَكِّيُّ الشَّافِعِيُّ (ت 853 هـ)، وقاضي مَكَّةَ مُحَمَّدُ بنُ أحْمَدَ بن سَعيدٍ المَقْدِسِيُّ النابُلُسِيُّ (ت 864 هـ)، وأحْمَدُ بنُ عَلِيِّ بن مُحَمَّدٍ الأنْصارِيُّ الحَنْبَلِيُّ الشَّهيرُ بابنِ الشَّحَّامِ (ت 864 هـ)

وغيرُهُم كثيرٌ.

•‌

‌ خامسًا: مصنَّفاتُهُ

ابنُ رَجَبٍ واحدٌ مِن الأئمَّةِ المتفنِّنينَ في مختلفِ علومِ الشَّريعةِ والمصنِّفينَ المكثرينَ في مختلفِ أبوابِها:

فلهُ في علومِ القرآنِ: "إعراب البسملة" و"إعراب أُمِّ الكتاب" و"تفسير سورة الفاتحة" و"تفسير سورة الإخلاص" و"تفسير سورة النَّصر" و"الاستغناء بالقرآن".

ولهُ في علومِ الحديثِ: "فتح الباري بشرح صحيح البخاريِّ" وَصَلَ فيهِ إلى كتابِ الجنائزِ ولمْ يُتِمَّهُ، وقد وَصَفَهُ أهلُ العلمِ بأنَّهُ شرحٌ نفيسٌ. و"شرح جامع التِّرْمِذِيِّ" وهوَ شرحٌ نفيسٌ فيما ذَكَرَهُ العَسْقَلانِيُّ. و"شرح علل التِّرْمِذِيِّ" و"مشكل الأحاديث الواردة في الطَّلاق الثَّلاث واحدة"، ومجموعةُ رسائلَ يَتَضَمَّنُ كلٌّ منها شرحَ حديثٍ واحدٍ منها:"الحكم الجديرة بالإذاعة من قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بُعِثْتُ بالسَّيف بين يدي السَّاعة"، "شرح حديث كَعْب بن مالِك ما ذئبان جائعان"، "اختيار الأولى في شرح اختصام الملأ الأعلى"، "الكلام على كلمة الإخلاص وتحقيقها"، "غاية النَّفع في شرح حديث تمثيل المؤمن بخامة الزَّرع"، "نور الاقتباس من مشكاة وصيَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لابن عَبَّاس"، "كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة"، "شرح حديث زيد بن ثابت قُلْ حين تُصْبِحُ لبَّيك

ص: 22

لبَّيك وسعديك"، "شرح حديث ابن عَبَّاسٍ الخمر أُمُّ الخبائث"، "شرح حديث شَدَّاد بن أوْس إذا كَنَزَ النَّاس الذَّهب والفضَّة فاكْنُزوا أنتم هؤلاءِ الكلمات"، "شرح حديث عمَّار بن ياسر اللهمَّ بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق"، "شرح حديث أنَس يَتْبَعُ الميِّت ثلاث"، "شرح حديث أبي سَعيد في قول النِّساء للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَنا عليك الرِّجال"، "شرح حديث أبي أُمامَة إنَّ أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذّ"، "شرح حديث أبي أُمامَة الحمَّى غيرٌ من جهنَّم فما أصاب المؤمن منها كان حظَّه من النَّار".

ولهُ في الفقهِ: "القواعد الفقهيَّة" وهو كتابٌ نفيسٌ يَدُلُّ على تبحُّرِهِ في هذا الفنِّ، و"الاستخراج في أحكام الخراج" و"أحكام الخواتيم وما يَتَعَلَّق بها" و"إزالة الشُّنعة عن الصَّلاة بعد النِّداء يوم الجمعة" و"الإيضاح والبيان في طلاق الغضبان" و"الرَّدُّ على من اتَّبَعَ غير المذاهب الأربعة" و"القول المعذاب في تزويج أُمَّهات أولاد الغيَّاب" و"الكشف والبيان عن حقيقة النُّذور والأيمان" و"نزهة الأسماع في مسألة السَّماع" و"تعليق الطَّلاق بالولادة" و"مختصر فيما روي عن أهل المعرفة والحقائق في معاملة الظَّالم السَّارق".

ولهُ في التَّراجمِ والسِّيرِ: "الذَّيل على طبقات الحنابلة" و"مختصر سيرة عمر بن عبد العزيز" و"سيرة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز" و"مشيخة ابن رجب" و"وقعة بدر".

ولهُ في الرَّقائقِ: "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" و"بيان فضل علم السلف على الخلف" و"التَّخويف من النَّار والتَّعريف بحال دار البوار" و"أهوال القبور" و"الفرق بين النَّصيحة والتَّعيير" و"الذُّلُّ والانكسار للعزيز الجبَّار" وهو "الخشوع في الصَّلاة" و"فضائل الشَّام" و"استنشاق نسيم الأُنس من نفحات رياض القدس" و"الإلمام في فضائل بيت الله الحرام" و"الاستيطان فيما يعتصم به العبد من الشَّيطان" و"ذمُّ الخمر" و"فضل صدقة السِّرِّ".

•‌

‌ سادسًا: مذهبُهُ

النَّاظرُ في لقبِ ابن رَجَبٍ الحَنْبَلِيِّ وأشياخِهِ وتلاميذِهِ ثمَّ في رسالتِهِ في الرَّدِّ على

ص: 23

مَنِ اتَّبَعَ غيرَ المذاهبِ الأربعةِ سَيَظُنُّ باديَ الرأْيِ أنَّهُ أمامَ حنبليٍّ جلدٍ متعصِّبٍ لمذهبِهِ لا يَعْرِفُ غيرَهُ.

لكنَّ الواقعَ العمليَّ لا يَدْعَمُ هذا الاستنتاجَ بوجهٍ مِن الوجوهِ:

فابنُ رَجَبٍ عظيمُ العنايةِ بنصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ إلى درجةٍ يَعِزُّ نظيرُها، لا يَذْكُرُها استدلالًا لصحَّةِ المذهبِ بل أصلًا يُتَّبَعُ ويُعْمَلُ بمقتضاهُ ويُدارُ معَهُ حيثُ دارَ.

وهوَ حفيٌّ جدًّا بنقلِ أقوالِ الأئمَّةِ وأصحابِهِم في مختلفِ القضايا الفقهيَّةِ، وترجيحِ ما وافَقَ الدَّليلَ منها، وتبجيلِ أصحابِها.

قالَ العَسْقَلانِيُّ: "نُقِمَ عليهِ إفتاؤُهُ بمقالاتِ ابن تَيْمِيَّةَ ثمَّ أظْهَرَ الرُّجوعَ عن ذلكَ فنافَرَهُ التَّيْمِيُّونَ فلم يَكُنْ معَ هؤلاءِ ولا معَ هؤلاءِ، وكانَ قد تَرَكَ الإفتاءَ بأخرةٍ".

وهذا - إنْ قُرِئَ بعمقٍ بعيدًا عن السَّطحيَّةِ - يَدُلُّ دلالةً أكيدةً على اعتدالِ ابن رَجَبٍ وبعدِهِ عن العصبيَّةِ المذهبيَّةِ واتِّباعِهِ لما يَراهُ أقربَ إلى الحقِّ وأولى بنصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ. وذلكَ أن ابنَ رَجَبٍ يَعْلَمُ تمامَ العلمِ أن تراجعَهُ عن بعضِ مقالاتِ شيخِ الإسلامِ لن يُقَرِّبَهُ إلى أعدائِهِ ويَرْفَعَهُ عندَهُم بل سَيُنَفِّرُ عنهُ بعضَ المتشدِّدينَ مِن أتباعِ شيخِ الإسلام - وهذا ما حَصَلَ -، ومعَ ذلكَ؛ فقد آثَرَ ما رآهُ حقًّا وصَدَعَ بهِ، وهذهِ مئنَّةُ الصِّدقِ والورعِ. ومِن الطَّبيعيِّ أنْ يَتَأثَّرَ طالبُ العلمِ أوَّلَ الأمرِ بمذاهبِ أشياخِهِ ثمَّ يَسْتَقِلَّ ببعضِ الآراءِ بعدَما تَكْتَمِلُ شخصيَّتُهُ العلميَّةُ.

•‌

‌ سابعًا: ثناء أهل العلم عليه

قالَ ابن حِجِّي: "أتْقَنَ الفنَّ وصارَ أعرفَ أهلِ عصرِهِ بالعللِ وتتبُّعِ الطُّرقِ".

وقالَ ابنُ ناصِرِ الدِّينِ الدِّمَشْقِيُّ: "الشَّيخُ، الإمامُ، العلَّامةُ، الزَّاهدُ، القدوةُ، البركةُ، الحافظُ، العمدةُ، الثِّقةُ، الحجَّةُ، أوعظُ المسلمينَ، مفيدُ المحدِّثينَ

أحدُ الأئمَّةِ الزهَّادِ والعلماءِ العبَّادِ".

وقالَ ابنُ قاضي شُهْبَةَ: "الشَّيخُ، الإمامُ، العلَّامةُ، الحافظُ، الزَّاهدُ، الورعُ، شيخُ الحنابلةِ وفاضلُهُم، أوحدُ المحدِّثينَ".

وقال العَسْقَلانِيُّ: "الشَّيخُ، المحدِّثُ، الحافظُ، مَهَرَ في فنونِ الحديثِ أسماءً

ص: 24

ورجالًا وطرقًا واطِّلاعًا على معانيهِ، وكانَ صاحبَ عبادةٍ وتهجُّدٍ". وهذهِ شهادةٌ من عظيمٍ من عظماءِ هذا الفنِّ.

وقالَ ابنُ فَهْدٍ: "الإمامُ، الحافظُ الحجَّةُ، والفقيهُ العمدةُ، أحدُ العلماءِ الزُّهَّادِ والأئمَّةِ العبَّادِ، مفيدُ المحدِّثينَ، واعظُ المسلمينَ".

وقالَ ابنُ مُفْلحٍ: "الشَّيخُ، العلَّامةُ، الحافظُ، الزَّاهدُ، شيخُ الحنابلةِ".

وقالَ ابنُ عَبْدِ الهادي: "الشَّيخُ، الإمامُ، أوحدُ الأنامِ، قدوةُ الحفَّاظِ، جامعُ الشَّتاتِ والفضائلِ، الفقيهُ، الزَّاهدُ، البارعُ، الأُصوليُّ، الفقيهُ، المحدِّثُ".

وقالَ السُّيوطيُّ: "الإمامُ الحافظُ، المحدِّثُ الواعظُ".

وقالَ ابنُ العمادِ: "الشَّيخُ، الإمامُ، العالمُ، العلَّامةُ، الزَّاهدُ، القدوةُ، البركةُ، الحافظُ العمدةُ، الثِّقةُ الحجَّةُ".

•‌

‌ ثامنًا: وفاتُهُ

قالَ ابنُ ناصِرِ الدِّينِ الدِّمَشْقِيُّ: "تُوُفِّيَ الشَّيخُ زينُ الدِّينِ بنُ رَجَبٍ في شهرِ رَجَبٍ سنةَ خمسٍ وتسعينَ وسبعِ مئةٍ، ودُفِنَ بمقبرةِ البابِ الصَّغيرِ جوارَ قبرِ الشَّيخِ الفقيهِ الزَّاهدِ أبي الفَرَجِ عَبْدِ الواحِدِ بن مُحَمَّدٍ الشِّيرازِيِّ ثمَّ المَقْدِسِيِّ الدِّمَشْقِي المتوفَّى في ذي الحجَّةِ سنةَ ثمانينَ وأربعِ مئةٍ، وهوَ الذي نَشَرَ مذهبَ الإمامِ أحْمَدَ بن حَنْبَلٍ ببيتِ المقدسِ ثمَّ بدمشقَ رحمه الله".

قالَ ابنُ ناصِرِ الدِّينِ: "لقد حَدَّثَني مَن حَفَرَ لحدَ ابن رَجَبٍ أن الشَّيخَ زينَ الدِّينِ جاءَهُ قبلَ أنْ يَموتَ بأيَّامٍ فقالَ احْفِرْ لي هُنا لحدًا وأشارَ إلى البقعةِ التي دُفِنَ فيها. قالَ: فحَفَرْتُ لهُ. فلمَّا فَرَغَ؛ نَزَلَ في القبرِ واضْطَجَعَ فيهِ فأعْجَبَهُ وقالَ: هذا جيِّدٌ. قالَ: فواللهِ؛ ما شَعَرْتُ بهِ بعدَ أيَّامٍ إلَّا وقد أُتِيَ بهِ ميِّتًا محمولًا في نعشِهِ، فوَضَعْتُهُ في ذلكَ اللحدِ ووارَيْتُهُ فيهِ".

•‌

‌ تاسعًا: مصادر ترجمته

" ذيل طبقات الحنابلة"(مواضع) لابنِ رَجَبٍ، "الردُّ الوافر"(ص 176) لابنِ ناصرِ الدِّينِ، "الدرر الكامنة"(2/ 331) للعَسْقَلانِيِّ، "إنباء الغمر"(3/ 175) للعَسْقَلانِيِّ،

ص: 25

"تاريخ ابن قاضي شهبة"(1/ 3/ 488) لابنِ قاضي شُهْبَةَ، "لحظ الألحاظ ذيل تذكرة الحفَّاظ"(ص 185) لابنِ فَهْدٍ المَكِّيِّ، "المقصد الأرشد"(2/ 568/81) لابنِ مُفْلحٍ المَقْدِسِيِّ، "ذيل التقييد"(2/ 72/ 1176)، "الضوء اللامع"(مواضع) للسَّخاوِيِّ، "الجوهر المنضَّد"(46 - 57/ 53)، "ذيل تذكرة الحفَّاظ"(ص 367) للسُّيوطِيِّ، "الدارس في تاريخ المدارس"(2/ 76) للنُّعَيْمِيِّ، "المنهج الأحمد"(2/ 174/ 1) للعُلَيْمِيِّ، "فيض القدير"(6/ 82) للمُناوِيِّ، "كشف الظنون"(مواضع) لحاجي خَلِيفَةَ، "شذرات الذهب"(6/ 339) لابنِ العِمادِ، "كشف الخفاء"(2410) للعَجْلونِيِّ، "السحب الوابلة"(ص 116) لابنِ حُمَيْدٍ المَكِّيِّ، "هديَّة العارفين"(1/ 527) للبَغْدادِيِّ، "التنبيه والإيقاظ"(ص 76 و 160) للطَهْطاوِيِّ، "الأعلام"(3/ 295) للزِّرِكْلِيِّ.

* * * * *

ص: 26

‌تعريف موجز بكتاب لطائف المعارف

•‌

‌ أوَّلًا: حول نسبة الكتاب لمصنِّفه

" لطائف المعارف" واحدٌ مِن مصنَّفاتِ الحافظِ ابن رَجَبٍ رحمه الله بلا ريبٍ:

1) فقدِ اتَّفَقَ أهلُ العلمِ، سواء منهُم مَن تَرْجَمَ للمصنَّفاتِ أو لمصنِّفيها، على نسبةِ كتابِ "لطائف المعارف" لابنِ رَجَبٍ الحَنْبَلِيِّ، ولم يُحْفَظْ عن أحدِهِم خلافًا في هذهِ النِّسبةِ ولا تحفُّظًا في شأْنِها.

2) وكذلكَ اتَّفَقَتْ مخطوطاتُ "اللطائف" المختلفةُ على نسبةِ الكتابِ لابنِ رَجَبٍ على صفحاتِ العناوينِ، ولم يُحْفَظْ خلافٌ في هذا ولا تحفُّظٌ.

3) ولن يَخْفى على مَن تَصَفَّحَ هذا الكتابَ أن مصنِّفَهُ واحدٌ مِن أئمَّةِ الحنابلةِ، فهذا ظاهرٌ جدًّا في غيرِ موضعٍ مِن الكتابِ.

4) ولو أن واحدًا مِن طلَّابِ العلمِ وَضَعَ كتابيِ "اللطائف" و"جامع العلوم والحكم" أمامَهُ ثمَّ راحَ يُقَلِّبُ صفحاتِهِما ويَنْظُرُ في منهجِ تصنيفِهِما وطريقهِ إيرادِ النُّصوصِ الحديثيَّةِ فيهِما وشرحِها وطبيعةِ الشَّواهدِ الشِّعريَّةِ؛ لَما تَرَدَّدَ في نسبةِ الكتابينِ إلى مصنِّفٍ واحدٍ، وذلكَ لعظمِ التَّشابهِ وكثرةِ القواسمِ المشتركةِ بينَهُما.

5) ويَسْتَشْهِدُ ابنُ رَجَبٍ في المجلسِ الثَّاني من المحرَّمِ بأبياتٍ مِن قصيدةِ ابن القَيِّمِ "فَحَيَّ على جنَّاتِ عدنٍ" كما اسْتَشْهَدَ بالأبياتِ نفسِها في "جامع العلوم والحكم" مصرِّحًا في الأخيرِ بنسبتِها لأحدِ أشياخِهِ، وهوَ ابنُ القَيِّمِ، رحمةُ اللهِ عليهِما.

وعلى هذا؛ فقد اجْتَمَعَتْ أدلَّةُ البحثِ التَّحليليِّ الدَّاخليِّ وأدلَّةُ البحثِ التَاريخيِّ الخارجيِّ على صحَّةِ نسبةِ "لطائف المعارف" للحافظِ ابن رَجَبٍ بما يُغني عن مزيدٍ مِن التَّفصيلِ فيهِ.

ص: 27

•‌

‌ ثانيًا: حول عنوان الكتاب

اخْتَلَفَ أهلُ العلمِ مِن المؤرِّخينَ والمؤلِّفينَ في المصنَّفاتِ في تسميةِ هذا الكتابِ: فمنهُم مَنِ اقْتَصَرَ على "اللطائف" أو "لطائف المعارف"، ومنهُم مَن ألْحَقَ بهِ "في وظائف الأيَّام" أو "في مواسم العبادات" أو "في الوعظ" للدِّلالةِ على موضوعِهِ.

وقد صَرَّحَ الحافظُ ابنُ رَجَبٍ في مقدِّمةِ كتابِهِ بالاسمِ الذي اخْتارَهُ لكتابِهِ فقالَ: "وسَمَّيْتُهُ لطائفَ المعارفِ فيما لمواسمِ العامِ مِن الوظائف"، فقَطَعَ بهذا البابَ على الظُّنونِ والتَّخرُّصاتِ.

•‌

‌ ثالثًا: حول مقاصد ابن رجب من الكتاب

أوْضَحَ الحافظُ ابنُ رَجَبٍ يَرْحَمُهُ اللهُ مقصدَهُ مِن تصنيفِ "اللطائف" في مقدِّمةِ الكتابِ، فقالَ (ص 44): "وقدِ اسْتَخَرْتُ الله تَعالى في أنْ أجْمَعَ في هذا الكتابِ وظائفَ شهورِ العامِ وما يَخْتَصُّ بالشُّهورِ ومواسمِها مِن الطَّاعاتِ

لِيَكونَ ذلكَ عونًا لنفسي ولإخواني على التَّزوُّدِ للمعاد والتَّأهُّبِ للموتِ قبلَ قدومِهِ والاستعداد

ويَكونَ أيضًا صالحًا لمَن يُريدُ الانتصابَ للمواعظِ مِن المذكِّرين".

وعلى هذا؛ فقد تَوَجَّهَ الحافظُ ابنُ رَجَب يَرْحَمُهُ اللهُ في كتابِهِ هذا إلى طائفتينِ مِن الخلقِ: أولاهُما: عمومُ مَن يُريدُ الآخرةَ ويَسْعى للتَّأهُّبِ لها مِن المسلمينَ. والثَّانيةُ: مَنِ انْتَصَبَ للخطابةِ في العوامِّ ووعظِهِم وإرشادِهِم.

•‌

‌ رابعًا: مع ابن رجب على صفحات الكتاب

مَهَّدَ الحافظُ ابنُ رَجَبٍ للكتابِ بخطبةٍ مناسبةٍ لموضوعِهِ دَلَفَ منها إلى آيتي يونُسَ والإسراءِ في خلقِ الليلِ والنَّهارِ والشَّمس والقمرِ فشَرَحَهُما وقَرَّرَ مِن خلالِ ذلكَ فكرةَ مواسمِ العباداتِ وفضلِ بعضِ الأيَّامِ والشُّهورِ ولزومِ استغلالِ المواسمِ الفاضلةِ إلى أنْ قالَ: "وقدِ اسْتَخَرْتُ الله تَعالى في أنْ أجْمَعَ في هذا الكتابِ وظائفَ شهورِ العامِ وما يَخْتَصُّ بالشُّهورِ ومواسمِها مِن الطَّاعاتِ

وقد جَعَلْتُ هذهِ الوظائفَ المتعلِّقةَ بالشُّهورِ مجالسَ مجالسَ مرتبةً على شهورِ السَّنةِ الهلاليَّةِ، فأبْدَأُ بالمحرَّمِ وأخْتِمُ بذي الحجَّةِ، وأذْكُرُ في كلِّ شهرٍ ما فيهِ مِن هذهِ الوظائفِ، وما لم يَكُنْ لهُ وظيفةٌ خاصَّةٌ لم

ص: 28

أذْكُرْ فيه شيئًا، وخَتَمْتُ ذلكَ كلَّهُ بوظائفِ فصولِ السَّنةِ الشَّمسيَّةِ، وهيَ ثلاثةُ مجالسَ في ذكرِ الرَّبيعِ والشِّتاءِ والصَّيفِ، وخَتَمْتُ الكتابَ كلَّهُ بمجلسٍ في التَّوبةِ والمبادرةِ بها قبلَ انقضاءِ العمرِ".

ثمَّ اسْتَفْتَحَ وظائفَ الشُّهورِ بمجلسٍ في فضلِ التَّذكيرِ باللهِ صَدَّرَهُ بحديثِ أبي هُرَيْرَةَ: "لو أنَّكُم إذ خَرَجْتُم مِن عندي كُنْتُم على حالِكُم؛ لَزارَتْكُمُ الملائكةُ"، ثمَّ طَوَّلَ الكلامَ في فضائلِ مجالسِ الذِّكرِ وأحوالِ النَّاسِ بعدَ انقضائِها، ثمَّ في أثرِ المواعظِ في القلوبِ، ثمَّ في حكمِ اللهِ تَعالى في إلقاءِ الغفلةِ على قلوبِ العبادِ لِتَقَعَ منهُمُ الذُّنوبُ، ثمَّ في بدءِ الخلقِ مِن ماءٍ، ثمَّ في صفةِ الجنَّةِ وأهلِها، ثمَّ خَتَمَ المجلسَ بالتَّعريضِ بالدُّنيا الفانيةِ وأحوالِ أهلِها.

ثمَّ صَدَّرَ المجلسَ الأوَّلَ مِن وظائفِ المحرَّمِ بحديثِ مسلمٍ "أفضلُ الصِّيامِ بعدَ رمضانَ شهرُ اللهِ المحرَّمُ". فشَرَحَهُ ووَسَّعَ الكلامَ في فضلِ الأشهرِ الحرمِ وفضلِ العشرِ الأوَّلِ مِن المحرَّمِ وفضلِ الصِّيامِ والقيامِ فيهِ.

ثمَّ أفْرَدَ المجلسَ الثَّانيَ للكلامِ في فضلِ عاشوراءَ وأحوالِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وما اسْتَقَرَّ عليهِ أمرُهُ فيهِ، ثمَّ أوْرَدَ جملةً مِن المرويَّاتِ في عجائبِ عاشوراءَ وما جاءَ في فضلِ بعضِ الأعمالِ فيهِ.

ثمَّ صَدَّرَ المجلسَ الثَّالثَ بحديثِ أبي هُرَيْرَةَ المتَّفقِ عليهِ "مَن حَجَّ هذا البيتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رَجَعَ مِن ذنوبِهِ كيومَ وَلَدَتْهُ أمُّهُ". ثمَّ فَصَّلَ في علاماتِ الحجِّ المبرورِ وتلقِّي الحاجِّ - وكانَ يُوافِقُ في هذا الشَّهرِ - وسؤالِهِ الدُّعاءَ والاستغفارَ.

وفي وظائفِ صفرٍ اقْتَصَرَ الحافظُ على حديثِ أبي هُرَيْرَةَ المتَّفقِ عليهِ "لا عدوى ولا هامةَ ولا صفرَ"؛ فتكلَّمَ في العدوى والأسبابِ واليمنِ والشُّؤمِ والتَّوفيقِ بينَ النُّصوصِ الواردةِ فيها ومواقفِ أهلِ العلمِ منها جميعًا.

ثمَّ اخْتَصَّ المجلسينِ الأوَّلَ والثَّانيَ مِن ربيعٍ الأوَّلِ بالكلامِ عن المولدِ النَّبويِّ، فتوسَّعَ في علاماتِ نبوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم قبلَ ظهورِهِ، وتوقيتِ ولادتِهِ صلى الله عليه وسلم باليومِ والشَّهرِ والسَّنةِ، وصفة ولادتِهِ صلى الله عليه وسلم، وعَرَّجَ خلالَ ذلكَ على فضائلِ الشَّامِ

ص: 29

ثمَّ أفْرَدَ مجلسًا ثالثًا للكلامِ في وفاتِهِ صلى الله عليه وسلم صَدَّرَهُ بحديثِ أبي سَعيدٍ المتَّفقِ عليهِ في آخرِ خطبةٍ خَطَبَها صلى الله عليه وسلم، فبيَّنَ أن الموتَ حقٌّ على العبادِ عليهِم أنْ يُكْثِروا مِن ذكرِهِ، وأوَّلَ ما أُعْلِمَ بهِ صلى الله عليه وسلم مِن اقترابِ أجلِهِ، وتعريضَهُ صلى الله عليه وسلم بذلكَ، وبدءَ شكواهُ صلى الله عليه وسلم واشتدادَها واحتضارَهُ وشدَّةَ الموتِ عليهِ ووقتَ وفاتِهِ ودفنِهِ وأحوالَ الصَّحابةِ عندَ ذلكَ وتعزِّيَ المسلمينَ في مصائبِهِم بموتِهِ صلى الله عليه وسلم.

ثمَّ أغْفَلَ ربيعًا الثانيَ والجماديينِ وصَدَّرَ رجبًا بحديثِ أبي بَكْرَةَ المتَّفقِ عليهِ في خطبتِهِ صلى الله عليه وسلم في حجَّةِ الوداعِ "إنَّ الزَّمانَ قدِ اسْتَدارَ كهيئتِهِ يومَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ والأرضَ"، وعَرَضَ في تضاعيفِ شرحِهِ للأشهرِ الحرمِ والقتالِ فيها واختصاصِ رجبٍ بصلاةٍ أو صيامٍ أو ذبحٍ وبعضِ ما رُوِيَ فيهِ مِن الحوادثِ العظيمةِ.

ثمَّ صَدَّرَ المجلسَ الأوَّلَ مِن فضائلِ شعبانَ بحديثِ أُسامَةَ في صيامِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في شعبانَ، ثمَّ عَرَضَ في تضاعيفِ شرحِهِ لسرِّ صيامِهِ صلى الله عليه وسلم في شعبانَ وهديِهِ في الصِّيامِ مِن العامِ ومِن الشَّهرِ ومِن الأيَّامِ.

ثمَّ اسْتَفْتَحَ المجلسَ الثَّانيَ بحديثِ أبي هُرَيْرَةَ "إذا انْتَصَفَ شعبانُ فلا تَصوموا"، فتكَلَّمَ في سندِهِ وموقفِ أهلِ العلمِ منهُ وفضلِ ليلةِ النِّصفِ منهُ وصومِ يومِها.

ثمَّ خَتَمَ وظائفَ شعبانَ بمجلسٍ صَدَّرَهُ بحديثِ عِمْرانَ المتَّفقِ عليهِ في صيامِ سررِ شعبانَ، ففَصَّلَ في شرحِهِ والتَّوفيقِ بينَهُ وبينَ النَّهيِ عن تقدُّمِ رمضانَ بالصِّيامِ وأسرارِ هذا النَّهيِ واستقبالِ رمضانَ.

ثمَّ صَدَّرَ المجلسَ الأوَّلَ من وظائفِ رمضانَ بحديثِ "كلُّ عملِ ابن آدَمَ لهُ إلَّا الصَّوم"، فأطالَ في شرحِهِ وفي أسرارِ مضاعفةِ الأجرِ واختصاصِ اللهِ الصَّومَ بهِ وطبقاتِ الصُّوَّامِ وخلوفِ فمِ الصَّائمِ.

ثم صَدَّرَ المجلسَ الثَّانيَ منهُ بحديثِ ابن عَبَّاسٍ المتَّفقِ عليهِ "كانَ صلى الله عليه وسلم أجودَ ما يَكونُ في رمضانَ"، ففَصَّلَ القولَ في جودِهِ صلى الله عليه وسلم ومضاعفتِهِ في رمضانَ وطولِ تهجُّدِهِ وتلاوتِهِ للقرآنِ.

ثمَّ صَدَّرَ المجلسَ الثَّالثَ مِن وظائفِ رمضانَ بحديثِ أبي سَعيدٍ المتَّفقِ عليهِ "أنَّهُ

ص: 30

كانَ صلى الله عليه وسلم يَعْتكفُ العشرَ الأوسطَ مِن رمضانَ"، ففَصَّلَ القولَ في مذاهبِ العلماءِ في التماسِ ليلةِ القدرِ في النِّصفِ الأخيرِ من رمضانَ، وفي معركةِ بدرٍ، وفي تصفيدِ الشَّياطينِ في رمضانَ عمومًا وليلةِ القدرِ خصوصًا.

وصَدَّرَ المجلسَ الرَّابعَ بحديثِ عائشةَ المتَّفقِ عليهِ "كانَ صلى الله عليه وسلم إذا دَخَلَ العشرُ شدَّ مئزرَهُ"، ثمَّ شَرَحَهُ مبيِّنًا الأُمورَ التي كانَ صلى الله عليه وسلم يَخْتَصُّ بها العشرَ الأخيرَ مِن رمضانَ.

ثمَّ أفْرَدَ مجلسًا آخرَ صَدَّرَهُ بحديثِ ابن عُمَرَ المتَّفقِ عليهِ أنَّهُم أُروا ليلةَ القدرِ في المنامِ في السَّبعِ الأواخرِ، وفَصَّلَ تفصيلًا طويلًا في ليلةِ القدرِ ومذاهبِ أهلِ العلمِ فيها وأدلَّتِهم وفي العملِ في تلكَ الليلةِ.

ثمَّ أفْرَدَ مجلسًا سادسًا لوداعِ رمضانَ صَدَّرَهُ بحديثِ أبي هُرَيْرَةَ المتَّفقِ عليهِ "مَن صامَ رَمضانَ إيمانًا واحتسابًا"، ثمَّ شَرَحَهُ مطوَّلًا فَعَرَضَ لأثرِ الصِّيامِ في تكفيرِ الذُّنوبِ ولخسرانِ مَن فاتَهُ المغفرةُ في رمضانَ وللخصالِ الموجبةِ للعتقِ من النَّارِ في رمضانَ.

ثمَّ صَدَّرَ المجلسَ الأوَّلَ مِن وظائفِ شوَّالٍ بحديثِ أبي أيُّوبَ عندَ مُسْلِمٍ "مَن صامَ رمضانَ ثمَّ أتْبَعَهُ ستًّا من شوَّالٍ"، ففَضَّلَ القولَ فيهِ وفي مذاهبِ أهلِ العلمِ في العملِ بهِ.

وصَدَّرَ المجلسَ الثَّانيَ مِنهُ بحديثِ أبي هُرَيْرَةَ المتَّفقِ عليهِ "أفضلُ الأعمالِ إيمانٌ باللهِ ورسولِهِ

"، ثمَّ تَوَسَّعَ في شرحِهِ وعَرَضَ مِن خلالِهِ لفضلِ الحجِّ وتفضيلِهِ على الجهادِ والصَّدقةِ ومعاني برِّ الحجِّ.

ثمَّ صَدَّرَ المجلسَ الثَّالثَ بحديثِ أبي هُرَيْرَةَ المتَّفقِ عليهِ "ذَهَبَ أهلُ الدُّثورِ بالأُجورِ"، وتَوَسَّعَ في شرحِهِ وعَرَضَ لفضلِ المالِ واستباقِ أغنياءِ الصَّحابةِ وفقرائِهِم إلى الخيراتِ، ثمَّ لفضلِ الذِّكرِ وأنَّهُ تعويضٌ عظيم ورحمةٌ مهداةٌ لمَن لا يَسْتَطيعُ الحجَّ والصَّدقةَ ونحوَها.

ثمَّ اقْتَصَرَ في وظائفِ ذي القعدةِ على مجلسٍ واحدٍ أوْرَدَ فيهِ حديثَ الباهِلِيِّ الذي سَرَدَ الصَّومَ حتَّى تَغَيَّرَ حالُهُ، فعَرَضَ في تضاعيفِ شرحِهِ لصيامِ الدَّهرِ وأفضلِ الصِّيامِ وهديِهِ صلى الله عليه وسلم في ذلكَ، ثمَّ خَتَمَ بذكرِ خصائصِ ذي القعدةِ.

وفي المجلسِ الأوَّلِ مِن وظائفِ ذي الحجَّةِ أوْرَدَ حديثَ ابن عبَّاسٍ عندَ البُخارِيِّ

ص: 31

"ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ مِن عشرِ ذي الحجَّةِ"، ثمَّ فَصَّلَ في شرحِهِ مبيِّنًا فضلَ العملِ في العشرِ ومضاعفةَ الأجرِ فيهِ واستحبابَ صيامِهِ وقيامِهِ والذِّكرِ فيهِ، وفي غيرِ ذلك مِن فضائلِ العشرِ وخصائصِهِ.

ثمَّ اسْتَفْتَحَ المجلسَ الثَّانيَ بحديثِ عُمَرَ المتَّققِ عليهِ في نزولِ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، وتَوَسَّعَ في أعيادِ المؤمنينَ في الدُّنيا وفي الجنَّةِ، وفي فضائلِ يومِ عرفةَ والأسبابِ التي يُرْجى بها العتقُ والمغفرةُ فيهِ والذُّنوبِ التي تَمْنَعُ العتقَ والمغفرةَ فيهِ، ثمَّ ذَكَرَ طرفًا مِن أحوالِ الصَّالحينَ في هذا اليومِ.

ثمَّ اسْتَفْتَحَ الثَّالثَ بحديثِ نُبَيْشَةَ الهُذَلِيِّ عندَ مسلمٍ "أيَّامُ منى أيَّامُ أكلٍ وشربٍ"، ففَصَّلَ القولَ في شرحِهِ مبيِّنًا أنواعَ الذِّكرِ في تلكَ الأيَّامِ وحكمَ الأمرِ بالذِّكرِ عندَ انقضاءِ الحجِّ وحكمَ صيامِ أيَّامِ التَّشريقِ.

ثمَّ أفْرَدَ الرَّابعَ للكلامِ في ختامِ العامِ، وصَدَّرَهُ بحديثِ جابِرٍ "لا تَتَمَّنَوُا الموتَ فإنَّ هولَ المُطَّلَعِ شديدُ"، وفَصَّلَ في شرحِهِ مبيِّنًا أحوالَ النَّاسِ في تمنِّي الموتِ وعللَ النَّهيِ عن ذلك.

ثمَّ أفْردَ مجلسًا لذكرِ فصلِ الرَّبيعِ صَدَّرَهُ بحديثِ أبي سَعيدٍ المتَّفقِ عليهِ "إنَّ هذا المالَ خضرةٌ حلوةٌ"، ثمَّ فَصَّلَ في شرحِ الحديثِ فبَيَّنَ خوفَهُ صلى الله عليه وسلم على أُمَّتِهِ من الافتنانِ بالدُّنيا وعَرَضَ لدلالةِ كلِّ ما في الدُّنيا على الآخرةِ.

ثمَّ أفْرَدَ مجلسًا للصَّيفِ صَدَّرَهُ بحديثِ أبي هُرَيْرَةَ المتَّفقِ عليهِ "اشْتكتِ النَّارُ إلى ربِّها فأذِن لها بنفسينِ"، فشَرَحَهُ بإسهابٍ وعَرَضَ لدلالةِ أحوالِ الدُّنيا على الآخرةِ.

ثمَّ أفْرَدَ مجلسًا لفصلِ الشِّتاءِ صَدَّرَهُ بحديثِ أبي سَعيدٍ "الشِّتاءُ ربيعُ المؤمنِ"، فتكَلَّمَ في قيامِ ليلِهِ وصيامِ نهارِهِ وفضلِ إيثارِ الفقراءِ فيهِ وتذكيرِهِ بزمهريرِ جَهَنَّمَ.

ثمَّ خَتَمَ الكتابَ بمجلسٍ في الحثِّ على التَّوبةِ قبلَ الموتِ وأنَّها وظيفةُ العمرِ بطولِهِ صَدَّرَهُ بحديثِ ابن عُمَرَ "إنَّ الله عز وجل يَقْبَلُ توبةَ العبدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ"، ثمَّ فَصَّلَ في معنى عملِ السُّوءِ بجهالةٍ والتَّوبةِ مِن قريبٍ والتَوبةِ عندَ الغرغرةِ والموتِ وخاتمةِ الإصرارِ على المعاصي وانقسامِ النَّاسِ في التَّوبةِ

وغيرِ ذلكَ مِن أُمورِها.

ص: 32

•‌

‌ خامسًا: ملاحظات عامَّة على الكتاب

*‌

‌ حول الخطَّة والتقسيم والمنهج:

مِن خلالِ نظرةٍ سريعةٍ للوصفِ الآنفِ لمادَّةِ "اللطائف" أسْتَطيعُ أنْ أُقَرِّرَ ما يَلي:

1) قَدَّمَ الحافظُ ابنُ رَجَب لكتابِهِ بمقدِّمةٍ رصينةٍ تَلْتَزِمُ بالمعاييرِ العلميَّةِ المعتمدةِ اليومَ في أرقى الجامعاتِ الحديثةِ، وهذا أمرٌ يَنْدُرُ أنْ تَراهُ في غيرِ مصنَّفاتِ المحقِّقينَ المدقِّقينَ مِن أهلِ العلمِ، بل لا يَزالُ كثيرٌ مِن الأبحاثِ المعاصرةِ خلوًا منهُ.

وهذا المستوى الملفتُ للنَّظرِ للمقدِّمةِ يُرَجِّحُ أن ابنَ رَجَبٍ كَتبَها بعد انتهائِهِ مِن تصنيفِ الكتابِ أو راجَعَها على الأقلِّ وحَرَّرَها بعدَ ذلكَ، وقولُهُ: "جَعَلْتُ

وخَتَمْتُ

وخَتَمْتُ

"، هذهِ الأفعالُ الماضيةُ مشعرٌ قويٌّ بأنَّ الكتابَ كانَ قد تمَّ وانْتَهى قبلَ كتابةِ المقدِّمةِ أو تحريرِها.

2) ثمَّ رَأيْت ابنَ رجبٍ يقولُ في وظائفِ ذي الحجَّةِ (ص 594): "وسَنَذْكُرُهُ عندَ ذكرِ المحرَّمِ إنْ شاءَ اللهُ"! فهذا يَدُلُّ على أن ابنَ رَجَبٍ لم يُصَنِّفْ وظائفَ الشُّهورِ مبتدئًا بالمحرَّمِ منتهيًا بذي الحجَّةِ، وإلَّا لَقالَ: وقد ذَكَرْناهُ. فمِن المحتملِ أنَّهُ صَنَّفَ مفرداتِهِ على التَّيسيرِ لا على التَّرتيبِ. والأرجحُ والأقوى أنَّهُ صَنَّفَها بالتَّرتيبِ الزَّمانيِّ ابتداءً مِن الشَّهرِ الذي باشَرَ فيهِ بالعملِ، وهكذا جاءَ شهرُ المحرَّمِ بعدَ ذي الحجَّةِ، فيَكونُ تصنيفُهُ وتهذيبُهُ للكتابِ قدِ اسْتَغْرَقَ دورةَ سنةٍ كاملةٍ، فكانَ يُصَنِفُ في كلِّ شهرٍ وظائفَهُ الخاصَّةَ بهِ، يَشْهَدُ لهذا علوُّ الجانبِ الرُّوحيِّ في الكتابِ، ممَّا يوحي بأنَّ التَّجربةَ لم تَكُنْ نظريَّةً صرفةً بالنِّسبةِ لهُ، بل إنَّهُ خاضَها عمليًّا وربَّما دَرَّسَها لتلامذتِهِ مباشرةً على طريقةِ الأقدمينَ في المبادرةِ إلى بثِّ مصنَّفاتِهِم قبلَ اكتمالِها استعجالًا لبثِّ الخيرِ واكتسابًا لمزيدٍ مِن التَّحريرِ والتَّنقيحِ.

3) جرى الحافظُ ابنُ رَجَبٍ في عرضِ مادَّةِ الكتابِ على طريقتِهِ في "جامع العلوم والحكم" حذوَ القذَّةِ بالقذَّةِ. فكانَ يَسْتَفْتحُ كلَّ مجلسٍ مِن مجالسِ الكتابِ بحديثٍ مِن مخرَّجاتِ الشَّيخينِ أو أحدِهِما غالبًا، فيَجْعَلُهُ رأْسًا للبابِ ويَنْطَلِقُ مِن خلالِ شرحِهِ إلى عرضِ مسائلِ البابِ والقضايا المتَّصلةِ بها، فيُعالِجُها معالجةً دقيقةً مستشهدًا بسيلٍ مِن

ص: 33

النُّصوصِ القرآنيَّةِ والحديثيَّةِ وآثارِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ والأخبارِ الإسرائيليَّةِ وأخبارِ المتصوِّفةِ والصَّالحينَ وأشعارِ التَّرسُّلِ والمواعظِ وكثيرًا ما يُضيفُ من لدنْهُ عباراتٍ رقيقةً مسجوعةً غالبًا تُناسِبُ المقامَ الوعظيَّ.

4) وقد أوْرَثَ هذا المنهجُ المطَّردُ مجالسَ الكتابِ توازنًا دقيقًا وتعادلًا في الحجمِ والقوَّةِ ووفرةِ المادَّةِ العلميَّةِ فلا تَجِدُ فيها مجلسًا ضئيلَ الفائدةِ مكرَّرَ المادَّةِ معَ أن عباداتِ المواسمِ المختلفةِ لا تَكادُ تَخْرُجُ عن صلاةٍ أو صيامٍ أو حجٍّ.

*‌

‌ حول الأسلوب:

1) اعْتَمَدَ الحافظُ يَرْحَمُهُ اللهُ في كتابِهِ هذا أُسلوبًا علميًّا يَتَّسِمُ بالسُّهولةِ واليسرِ: فالألفاظُ شائعةٌ متداولةٌ بعيدةٌ عن الغرابةِ والوحشيَّةِ، والجملُ قصيرةٌ مفهومةٌ بعيدةٌ عن مجازاتِ الأدباءِ واستعاراتِهِم، والسِّياقاتُ متتابعةٌ مباشرةٌ بعيدةٌ عن اعتراضاتِ الخطباءِ والمتعالمينَ اعتراضًا تلوَ الآخرِ.

2) ويَدَّخِرُ الحافظُ يَرْحَمُهُ اللهُ السَّجعَ والجناسَ والطِّباقَ والمقابلةَ والتَّربيعَ والتَّخميسَ وغيرَ ذلكَ مِن أساليبِ الصَّنعةِ، حتَّى إذا ما قَضى وطرَهُ مِن الشُّروحِ العلميَّةِ الدَّقيقةِ والأبحاثِ الفقهيَّةِ الرَّصينةِ، اسْتَثْمَرَ تلكَ الأساليبَ أحسنَ استثمارٍ في تزيينِ العباراتِ الوعظيَّةِ الرَّقيقةِ التي يورِدُها آخرَ المجلس فأكْسَبَها أمواجًا عاطفيَّةً دفَّاقةً محبَّبةً إلى الأسماعِ سريعةَ الانزلاقِ على الألسنةِ بالغةَ التَّأَثيرِ في القلوبِ.

3) ويَحْتَفِلُ ابنُ رَجَبٍ احتفالًا بالغًا بالأدلَّةِ العلميَّةِ، فلا يَكادُ يورِدُ قضيَّةً إلَّا ويُتْبِعُها بسيلٍ مِن النُّصوصِ القرآنيَّةِ والحديثيَّةِ وآثارِ السَّلفِ الصَّالحِ وأقوالِ أصحابِ المذاهبِ، ولا يَكادُ يَنْتَهي إلى حكمٍ إلَّا بعدَ استقصاءِ مذاهبِ أهلِ العلمِ في المسألةِ وإيرادِ أدلَّتِهِم ومناقشتِها وترجيحِ أقواها

وقد تَواتَرَ هذا كثيرًا حتَّى تَجاوَزَتِ النُّصوصُ القرآنيَّةُ في هذا الكتابِ 500 نصٍّ والنُّصوصُ الحديثيَّةُ 1500 نصٍّ.

*‌

‌ حول الشواهد:

وعلى كثرةِ الشواهدِ يُمْكِنُ أنْ أُسَجِّلَ عليها الملاحظاتِ التَّاليةَ:

1) الأحاديثُ المرفوعة في رأْسِ المجلسِ التي تَتَفَرَّعُ منها عناصرُ المجلسِ هيَ

ص: 34

في الغالبِ العامِّ صحيحةٌ مِن مخرَّجاتِ الشَّيخينِ أو أحدِهِما. بخلافِ الأحاديثِ الواردةِ في تضاعيفِ المجلسِ والرِّواياتِ المختلفةِ للحديثِ الواحدِ والزِّياداتِ التي تَرِدُ في بعضِ الرِّواياتِ دونَ غيرِها؛ فهاهُنا نسبةٌ غيرُ قليلةٍ مِن المراسيلِ والمنقطعاتِ والضِّعافِ والواهياتِ بلِ المنكراتِ والموضوعاتِ! نعم؛ ربَّما بَيَّنَ الحافظُ ابنُ رَجَبٍ علَّةَ بعضها أو نبَّهَ إلى ضعفِهِ، لكنْ بنفسٍ رخوٍ لا يَعْدو غالبًا قولَهُ:"فيهِ ضعفٌ"، ولو كانَ الحديثُ منكرًا أو موضوعًا! وهذا مؤشِّرٌ قويٌّ إلى أن الحافظَ يَرْحَمُهُ اللهُ اسْتَرْوَحَ إلى قاعدةِ الأخذِ بيسيرِ الضَّعفِ في المواعظِ، بل إنَّهُ صَرَّحَ بذلكَ في تضاعيفِ الكلامِ، لكنَّهُ - شأْنَ أكثرِ العاملينَ على هذهِ القاعدةِ - انْزَلَقَ إلى الواهي والمنكرِ والموضوعِ! وللمحقِّقينَ مِن أهلِ العلمِ كلامٌ طويلٌ في إبطالِ هذهِ القاعدةِ ليسَ هذا محلَّ بسطِهِ، فمَن شاءَ التَّوسُّع؛ فلْيَرْجِعْ إلى مقدِّمةِ "مفتاح دار السَّعادة"(ص 35).

2) وفي الكتابِ جملةٌ مِن آثارِ الصَّحابةِ والتَّابعينَ قد جاءَ خلافُها عن الصَّحابيِّ نفسِهِ أو عن غيرِهِ مِن الصَّحابةِ ممَّا يَجْعَلُ التَّسليمَ لها موضعَ نظرٍ.

3) وهاهُنا جملةٌ مِن الإسرائيليَّاتِ يَسوقُها ابنُ رَجَبٍ مصدَّرةً بـ "وفي بعضِ الآثار"، وأكثرُ هذهِ الإسرائيليَّاتِ ممَّا يَصْلُحُ للاستشهادِ والاعتضادِ، ولكنَّ بعضَها لا يَخْلو مِن نكارةٍ.

4) وهاهُنا جملةٌ مِن الآثارِ والأخبارِ صَدَّرَها ابنُ رَجَبٍ بقولِهِ: "وجاءَ عن بعضِ السَّلفِ"، لكن لفظةَ "السَّلف" هُنا عامَّةٌ تَتَناوَلُ العبَّادَ والزُّهَّادَ والصُّوفيَّةَ، ومِن هُنا اعْتَرى بعضَ تلكَ الآثارِ والأخبارِ نكارةٌ أو مبالغةٌ أو غلوٌّ أو بعدٌ عن الحنيفيَّةِ السَّمحةِ.

5) والأشعارُ في الكتابِ كثيرةٌ، وبعضُها عظيمُ الوقعِ في النَّفسِ، لكنْ يَبْدو أن المصنِّفَ ساقَهُ اعتمادًا على ذاكرتِهِ، فكَثُرَتِ الأوهامُ في أوزانِها وربَّما خَلَطَ بينَ أبياتٍ مِن قطعٍ مختلفةٍ

وهذا مأْلوفٌ جدًّا في أشعارِ الفقهاءِ الذينَ يَعْتَنونَ بالمعاني لا بالأوزانِ.

•‌

‌ سادسًا: مكانة "لطائف المعارف" في مكتبة طالب العلم المعاصر

وشهادتي أن ابنَ رَجَبٍ وَفَّى بالمقاصدِ التي تَطَلَّعَ إليها عندَما باشَرَ بتصنيفِ

ص: 35

"لطائف المعارف" غايةَ الوفاءِ، وقَدَّمَ كتابًا فذًّا نادرَ المثالِ، ولا واللهِ؛ ما مَرَّ بي - على كثرةِ المصنَّفاتِ في هذا البابِ - كتابٌ على هذا الحسنِ في التَّبويبِ والرَّشاقةِ في العرضِ والتَّرتيبِ.

فحَرِيٌّ بطالبِ العلمِ أنْ لا يُخْلِيَ مكتبتَهُ مِن هذا السِّفرِ النَّفيسِ الجمِّ الفوائدِ، وأنْ يَشُدَّ عليهِ يدًا، ولا يَحْرِمَ نفسَهُ مِن العودةِ إليهِ بينَ الفينةِ والأُخرى للموعظةِ والادِّكارِ، فالنِّسيانُ آفةُ الإنسانِ مذ خَلَقَ اللهُ آدَمَ عليه السلام، وما منَّا إلَّا مقصِّرٌ موغلٌ في التَّقصيرِ عظيمُ الحاجةِ إلى موعظةٍ توقِظُهُ مِن نومِ الغفلةِ قبلَ أنْ يَسْتَيْقِظَ وهوَ في عسكرِ الموتى.

وحريٌّ بطلَّابِ العلمِ أنْ يَتَهادَوْا هذا السِّفرَ النَّفيسَ فيما بينَهُم بمناسبةٍ وبغيرِ مناسبةٍ كما يَتَهادى النَّاسُ الهدايا والتُّحفَ والجواهرَ والدُّررَ، وأنْ يَتَناصَحوا بالإقبالِ عليهِ درسًا ومراجعةً كلَّ حينٍ.

وحريٌّ بأهلِ الوعظِ والإرشادِ والخطابةِ أنْ يُقْبِلوا على هذا الكتابِ درسًا وفهمًا واستحفاظًا، ثمَّ يُغْنوا بهِ خطبَهُم ومجالسَهُم ويَبُثُّوا فوائدَهُ الجمَّةَ بينَ النَّاسِ كلًّا في مناسبتِهِ. وما أقلَّ الخطبَ المفيدةَ في هذهِ الأيَّامِ! وما أكثرَ الزَّبدَ الذي يَذْهَبُ جفاءً!

وحريٌّ بأساتذةِ المراحلِ الثَّانويَّةِ والجامعيّةِ أنْ يَحُثُّوا تلاميذَهُم على اقتناءِ هذا الكتابِ والانتفاعِ بما فيهِ مِن المطالبِ العاليةِ وإشاعتِها في بيوتِهِم وبينَ آبائِهِم وأمَّهاتِهِم وإخوانِهِم وأخواتِهِم.

وبالجملة؛ فلا أعْلَمُ مسلمًا على وجهِ الأرضِ - قلَّ علمُهُ أو كَثُرَ - إلَّا ولهُ في هذا الكتابِ حاجة حقيقيَّةٌ وفائدةٌ جمَّةٌ، وذلكَ لأنَّهُ جَمَعَ إلى عمومِ موضوعِهِ وجلالةِ فوائدِهِ حسنَ التَّبويبِ والتَّرتيبِ وسهولةَ الأخذِ والتَّناولِ وعمقَ الأثرِ

هذا؛ وقد آنَ أنْ تُبْحِرَ وحدَكَ في هذا البحرِ الزَّاخرِ وتَفْتَحَ بنفسِكَ أصدافَهُ وتَقِفَ على دررِهِ ولا بدَّ أنَّكَ واجدٌ ما وَجَدْتُهُ وموقنٌ بصدقِ قولي وأنَّني ما أطْنَبْتُ ولا بالَغْتُ في وصفِهِ.

* * * * *

ص: 36

[مقدمة المصنف]

• بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، وبهِ ثقتي.

الحمدُ للهِ الملكِ القهَّار، العزيزِ الجبَّار، الرَّحيمِ الغفَّار، مقلِّبِ القلوبِ والأبصار، مقدِّرِ الأُمورِ كما يَشاءُ ويَخْتار، مكوِّرِ النَّهارِ على الليلِ ومكوِّرِ الليلِ على النَّهار. أسْبَلَ ذيلَ الليلِ فأظْلَمَ للسُّكونِ والاستتار، وأنارَ منارَ النَّهارِ فأضاءَ للحركةِ والانتشار، وجَعَلَهُما مواقيتَ للأعمالِ ومقاديرَ للأعمار. وسَخَّرَ الشَّمسَ والقمرَ يَجْرِيانِ بحسبانٍ ومقدار، ويَعْتَقِبانِ في دارةِ الفَلَكِ الدَّوَّارِ على تعاقبِ الأدوار، وجَعَلَهُما معالمَ تُعْلَمُ بهِما أوقاتُ الليالي والأيَّامِ والشُّهورِ والأعوامِ في هذهِ الدَّار، ويُهْتَدى بهِما إلى ميقاتِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ والحجِّ والصِّيامِ والإفطار؛ حجَّهً قائمةً قاطعةً للأعذار، وحكمةً بالغةً مِن حكيمٍ عليمٍ ذي اقتدار

(1)

. أحْمَدُهُ وحلاوةُ محامدِهِ تَزْدادُ معَ التكرار، وأشْكُرُهُ وفضلُهُ على مَن شَكَرَ مدرار.

وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ شهادةً تُبَرِّئُ قائلَها مِن الشِّركِ بصحَّةِ الإقرار وتُبَوِّئُ قائلَها دارَ القرار.

وأشْهَدُ أن مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ؛ البدرُ جبينُهُ إذا سُرَّ اسْتَنار، واليمُّ يمينُهُ فإذا سُئِلَ أعطى عطاءَ مَن لا يَخْشى الإقتار، والحنيفيَّةُ دينُهُ الدِّينُ القيِّمُ المختار، رَفَعَ اللهُ ببعثِهِ عن أُمَّتِهِ الأغلالَ والآصار، وكَشَفَ بدعوتِهِ أذى البصائرِ

(2)

وقذى الأبصار، وفَرَّقَ

(1)

لاحظ حسن المطلع ومناسبته لموضوع الكتاب.

(2)

كذا قال متابعة للجناس اللفظيّ، ولو قال "عمى البصائر"؛ لكان أبلغ في الدلالة على الحقيقة؛ فإنّ بصائر الخلق جميعًا عربهم وعجمهم كانت في عمى حقيقيّ قبل مجيئه صلى الله عليه وسلم. ومن هنا عزف المحدثون من أهل الأدب عن الجناس والسجع ونحوه ووصفوه بالصنعة اللفظيّة واتّهمهوه بتعسير الطريق وتطويله.

ص: 37

بشريعتِهِ بينَ المتَّقينَ والفجَّار، حتَّى امْتازَ أهلُ اليمينِ مِن أهلِ اليسار، وانْفَتَحَتْ أقفالُ القلوبِ فانْشَرَحَتْ بالعلمِ والوقار، وزالَ عن الأسماعِ أثقالُ الأوقار

(1)

. صَلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ أُولي الإقدامِ والأقدار، وعلى أصحابِهِ أقطابِ الأقطار، صلاةً تُبَلِّغُهُم في تلكَ الأوطانِ نهايةَ الأوطار، وسَلَّمَ تسليمًا.

• أمَّا بعدُ؛ فقد قالَ اللهُ عز وجل: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [الإسراء: 12]. وقالَ تَعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: 5]. فأخْبَرَ سبحانه وتعالى أنَّهُ عَلَّقَ معرفةَ السِّنينَ والحسابَ على تقديرِ القمرِ منازلَ. وقيلَ: بل على جعلِ الشَّمسِ ضياءً والقمرِ نورًا؛ لأنَّ حسابَ السَّنةِ والشَّهرِ يُعْرَفُ بالقمرِ، واليومِ والأُسبوعِ يُعْرَفُ بالشَّمسِ، وبهِما يَتِمُّ الحسابُ

(2)

.

وقولُهُ تَعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ} : لمَّا كانَ الشَّهرُ الهلاليُّ لا يَحْتاجُ إلى عدٍّ لتوقيتِهِ بما بينَ الهلالينِ؛ لمْ تقُلْ: لِتَعْلَموا عددَ الشُّهورِ؛ فإنَّ الشَّهرَ لا يُحْتاجُ إلى عدِّهِ إلَّا إذا غُمَّ آخرُهُ، فيُكْمَلُ عددُهُ بالاتِّفاقِ؛ إلَّا في شهرِ شَعْبانَ إذا غُمَّ آخرُهُ بالنِّسبةِ إلى صومِ رمضانَ خاصَّةً؛ فإنَّ فيهِ اختلافًا مشهورًا

(3)

. وأمَّا السَّنةُ؛ فلا بدَّ مِن عددِها؛ إذ ليسَ لها حدٌّ ظاهرٌ في السَّماءِ، فيُحْتاجُ إلى عددِها بالشُهورِ، ولا سيَّما معَ تطاولِ السِّنينَ وتعدُّدِها

(4)

.

(1)

الأوقار: جمع وقر بفتح الواو، وهو ثقل السمع أو ذهابه.

(2)

وفي كلا القولين نظر: أمّا الأوّل؛ فلأنّه راعى بعض آية يونس ولم يلتفت إلى آية الإسراء بالكلّيّة. وأمّا الثاني؛ فلأنّه اقتصر على بعض آية يونس وأغفل بعضها، وآية يونس ظاهرة في أنه تعالى علّق حساب الأزمنة المختلفة بالأمرين معًا. وقولهم "الأسبوع يعرف بالشمس" فيه نظر أيضًا؛ لأنّ حساب الأسابيع بالقمر أيسر، وهو ما يعرف بالتربيع عند أهل الفلك.

(3)

قال ابن عبد الهادي رحمة الله عليه: "الذي دلّت عليه الأحاديث وهو مقتضى القواعد؛ أنّه أيّ شهر غمّ أكمل ثلاثين، سواء في ذلك شعبان ورمضان وغيرهما". وهو مذهب الجمهور وأحد أقوال الإمام أحمد في المسألة. وانظر "فتح الباري"(4/ 122).

(4)

فيه نظر فيما يتعلّق بالسنة الواحدة على الخصوص؛ لأنّ اختلاف منازل الشمس في قبّة السماء =

ص: 38

وجَعَلَ اللهُ السَّنةَ اثنيْ عشرَ

(1)

شهرًا، كما قالَ تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36]، وذلكَ بعددِ البروجِ التي تَكْمُلُ بدَوْرِ الشَّمسِ فيها السَّنةُ الشَّمسيَّةُ، فإذا دارَ القمرُ فيها كلِّها؛ كَمَلَتْ دورتُهُ السَّنويَّةُ

(2)

.

وإنَّما جَعَلَ اللهُ الاعتبارَ بدورِ القمرِ؛ لأنَّ ظهورَهُ في السَّماءِ لا يَحْتاجُ إلى حسابٍ ولا كتابٍ، بل هوَ أمرٌ ظاهرٌ يُشاهَدُ بالبصرِ، بخلافِ سيرِ الشَّمسِ؛ فإنَّهُ تَحْتاجُ معرفتُهُ إلى حسابٍ وكتابٍ

(3)

، فلم يُحْوِجْنا إلى ذلكَ، كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لا نكتُبُ ولا نَحْسُبُ، الشَّهرُ هكذا وهكذا وهكذا (وأشارَ بأصابعِهِ العشرِ وخَنَسَ إبهامَهُ في الثَّالثةِ). صوموا لرؤيتِهِ وأفْطِروا لرؤيتِهِ، فإنْ غُمَّ عليكُم؛ فأكْمِلوا العِدَّةَ"

(4)

.

وإنَّما عَلَّقَ اللهُ تَعالى على الشَّمسِ أحكامَ اليومِ مِن الصَّلاةِ والصِّيامِ حيثُ كانَ ذلكَ أيضًا مشاهدًا بالبصرِ لا يَحْتاجُ إلى حسابٍ ولا كتابٍ: فالصَّلاةُ تَتَعَلَّقُ بطلوعِ الفجرِ وطلوعِ الشَّمسِ وزوالِها وغروبِها ومصيرِ ظلِّ الشيءِ مثلَهُ وغروبِ الشَّفقِ، والصِّيامُ يَتَوَقَّتُ بمدَّةِ النَّهارِ مِن طلوعِ الفجرِ إلى غروبِ الشَّمسِ.

وقولُهُ تَعالى: {وَالْحِسَابَ} ، يَعْني بالحسابِ: حسابَ ما يَحْتاجُ إليهِ النَّاسُ مِن مصالحِ دينِهِم ودنياهُم كصيامِهِم وفطرِهِم وحجِّهِم وزكاتِهِم ونذورِهِم وكفَّاراتِهِم وعِدَدِ نسائِهِم ومُدَدِ إيلائِهِم ومُدَدِ إجاراتِهِم وحلولِ آجالِ ديونِهِم

وغيرِ ذلكَ ممَّا يَتَوَقَّتُ بالشُّهورِ والسِّنينَ. وقد قالَ اللهُ عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]: فأخْبَرَ أن الأهلَّةَ مواقيتُ للنَّاسِ عمومًا، وخَصَّ الحجَّ

= وتنقّلها من برج لآخر حدّ سماويّ ظاهر لأهل الفلك والحساب يغني عن عدّ الشهور. وأمّا تعداد السنين؛ فنعم؛ فإنّه لا يعرف إلَّا بطرائق علميّة وحسابات فلكيّة دقيقة.

(1)

في خ: "اثنا عشر"؛ على حكاية لفظ الآية، وله وجه صحيح لغة، والأولى ما أثبتّه من ط.

(2)

وذلك أنّ القمر يدور على البروج التي تدور عليها الشمس جميعًا، لكن لمّا كانت حركة القمر بين النجوم أظهر؛ دقّقوا فيها أكثر، فقسّموا تلك البروج إلى ثمانية وعشرين منزلًا.

(3)

لأنّ ضوء النهار يحول دون رؤية النجوم ومعرفة البرج الذي تنزل فيه الشمس بالنظر المباشر.

(4)

رواه: البخاري (30 - الصوم، 13 - لا نكتب ولا نحسب، 4/ 126/ 1913)، ومسلم (13 - الصيام، 2 - وجوب الصوم لرؤية الهلال، 2/ 761/ 1080)؛ من حديث ابن عمر. وليس عند أحدهما هذا السياق بطوله، ولكنّ ابن رجب رحمه الله جمعه من رواياتهما المختلفة للحديث.

ص: 39

مِن بين ما يُوَقَّتُ بهِ للاهتمامِ بهِ.

• وجَعَلَ اللهُ سبحانه وتعالى في كلِّ يومٍ وليلةٍ لعبادِهِ المؤمنينَ وظائفَ موظَّفةً عليهِم مِن وظائفِ طاعتِهِ: فمنها ما هوَ مفترَضٌ كالصَّلواتِ الخمسِ، ومنها ما يُنْدَبونَ إليهِ مِن غيرِ افتراضٍ كنوافلِ الصَّلاةِ والذِّكرِ وغيرِ ذلكَ.

وجَعَلَ في شهورِ الأهلَّةِ وظائفَ موظَّفةً أيضًا على عبادِهِ: كالصِّيامِ، والزَّكاةِ، والحجِّ. ومنهُ فرضٌ مفروضٌ عليهِم كصيامِ رَمَضانَ وحَجَّةِ الإسلامِ، ومنهُ ما هوَ مندوبٌ كصيامِ شَعْبانَ وشَوَّالٍ والأشهرِ الحُرُمِ.

• وجَعَلَ اللهُ سبحانَهُ لبعضِ الشُّهورِ فضلًا على بعضٍ: كما قالَ تَعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، وقالَ تَعالى:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وقالَ:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآن} [البقرة: 185].

كما جَعَلَ الأيَّامَ واللياليَ بعضَها أفضلَ مِن بعضٍ، وجَعَلَ ليلةَ القَدْرِ خيرًا مِن ألفِ شهير، وأقْسَمَ بالعَشْرِ - وهوَ عشرُ ذي الحِجَّةِ على الصَّحيحِ كما سَنَذْكُرُهُ في موضعِهِ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى -.

وما مِن هذهِ المواسمِ الفاضلةِ موسمٌ إلَّا وللهِ تَعالى فيهِ وظيفةٌ مِن وظائفِ طاعاتِهِ يُتَقَرَّبُ بها إليه، وللهِ فيهِ لطيفةٌ مِن لطائفِ نفحاتِهِ يُصيبُ بها مَن يَعودُ بفضلِهِ ورحمتِهِ عليه. فالسَّعيدُ مَنِ اغْتَنَمَ مواسمَ الشُّهورِ والأيَّامِ والسَّاعات، وتَقَرَّبَ فيها إلى مولاهُ بما فيها مِن وظائفِ الطَّاعات، فعَسى أنْ تُصيبَهُ نفحةٌ مِن تلكَ النَّفحات، فيَسْعَدُ بها سعادةً يَأْمَنُ بعدَها مِن النَّارِ وما فيها مِن اللفَحات.

وقد خَرَّجَ ابنُ أبي الدُّنْيا والطَّبَرانِيُّ وغيرُهُما مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: "اطْلُبوا الخيرَ دهرَكُم، وتَعَرَّضوا لنفحاتِ رحمةِ ربِّكُم؛ فإنَّ للهِ نفحاتٍ مِن رحمتِهِ يُصيبُ بِها مَن يَشاءُ مِن عبابٍ، وسَلُوا الله أنْ يَسْتُرَ عوراتِكُم ويُؤَمِّنَ روعاتِكُم"

(1)

(1)

(ضعيف). رواه: الطبراني (1/ 250/ 720)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 221)، والقضاعي في "الشهاب"(701)، والبيهقي في "الشعب"(1121 و 1122)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(5/ 339)، والبغوي =

ص: 40

وفي روايةٍ للطَّبَرانِيِّ مِن حديثِ مُحَمَّدِ بن مَسْلَمَةَ مرفوعًا: "إنَّ للهِ في أيَّامِ الدَّهرِ نفحاتٍ، فتَعَرَّضوا لها، فلَعَلَّ أحدَكُم أنْ تُصيبَهُ نفحةٌ فلا يَشْقى بعدَها أبدًا"

(1)

.

وفي "مسند الإمام أحْمَدَ": عن عُقْبَةَ بن عامِرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "لَيْسَ مِن

= في "السنّة"(1378)، وابن عساكر (24/ 123)، والرافعي في "التدوين"(3/ 192)؛ من طريق يحيى بن أيّوب، عن عيسى بن موسى بن إياس بن بكير، عن صفوان بن سليم، عن أنس

رفعه.

قال الهيثمي في "المجمع"(10/ 234): "رجال الصحيح، غير عيسى بن موسى بن إياس بن بكير وهو ثقة"! قلت: ضعّفه أبو حاتم وذكره ابن حبّان في "الثقات"، فالقول فيه قول أبي حاتم على أيّ مقاييس الجرح والتعديل جرينا، وعلى التنزّل فلا يعدو أن يكون صالحًا في المتابعات، فهذه علّة. والعلّة الثانية: أنّه اضطرب فيه، فقد رواه: ابن أبي الدنيا في "الفرج"(27)، والبيهقي في "الشعب"(1123)، وابن عساكر (24/ 123)؛ من طريق الليث بن سعد، عنه، عن صفوان بن سليم، عن رجل من أشجع، عن أبي هريرة

رفعه. قال البيهقي: "وهذا هو المحفوظ دون الأوّل". قلت: لأنّ الليث ثقة ثبت ويحيى صدوق ربّما أخطأ، وإن كان الأظهر أنّ الاضطراب هنا من عيسى نفسه، وهذا يدلّ على ضعفه أيضًا. والعلّة الثالثة: أنّ كلا الوجهين منقطع؛ لأنّ رواية صفوان عن أنس منقطعة، وروايته عن أبي هريرة فيها رجل مبهم وهذا صنو الانقطاع.

وله شاهد ضعيف جدًّا من حديث محمَّد بن مسلمة يأتي الكلام عليه في الحاشية التالية.

وآخر من حديث أبي هريرة ذكره الألباني في "الصحيحة"(1890) ونسبه إلى الخرائطي في "المكارم" نقلًا عن "الجامع الكبير"، وقد تتبّعت "المكارم" حديثًا حديثًا فلم أقف عليه، والغالب أنّه من أوجه الاضطراب المشار إليها في حديث أنس وليس بالشاهد المستقلّ.

والحديث؛ ضعّفه أبو نعيم والبغوي والسيوطي وابن عراق والشوكاني والمناوي، ومال إلى تقويته الهيثمي، وصحّحه الألباني بشاهديه، وقد تبيّن لك ما في أحدهما وسيأتيك ما في الآخر.

وقد جاء موقوفًا على أبي الدرداء عند ابن أبي شيبة (34583) وأبي نعيم في "الحلية"(221) بسند لا بأس به، وهو أشبه.

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه الطبراني في "الكبير"(19/ 233/ 519) و، "الأوسط"(2877 و 6243) من طريق الحسن بن صالح بن أبي الأسود، [ثنا عمّي منصور بن أبي الأسود]، عن شيخ يكنى أبا محمّد، عن شيخ يقال له المهاجر، عن ابن مسلمة

رفعه. قال الطبراني: "لا يروى عن ابن مسلمة إلَّا بهذا الإسناد". قلت: بل له إسناد آخر. وقال الهيثمي (10/ 234): "فيه من لم أعرفهم، ومن عرفتهم وثقوا". قلت: الحسن مجهول زائغ وإنَّ وثّقه ابن حبّان، وأبو محمّد والمهاجر مجهولان، فالسند واهٍ.

ورواه الرامهرمزي في "المحدّث"(ص 497): ثنا همّام بن محمّد العبدي، ثنا إبراهيم بن الحسن العلّاف، ثنا نائل بن نجيح، ثني عائذ بن حبيب، عن محمّد بن سعيد؛ قال لمّا مات محمَّد بن مسلمة وجدنا في ذؤابة سيفه: وسمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم

فذكره. وهذا واهٍ أيضًا: همّام لم أقف له على ترجمة. ونائل ضعيف. ومحمّد بن سعيد أخشى أنّه الكذّاب المصلوب، وفي السند انقطاع أيضًا.

وخلاصة القول أنّ السندين واهيان بمرّة، والضعف لازم للحديث جملة وتفصلًا.

ص: 41

عملِ يومٍ إلَّا يُخْتَمُ عليهِ"

(1)

.

ورَوى ابنُ أبي الدُّنْيا بإسنادِهِ عن مُجاهِدٍ، قالَ: ما مِن يومٍ إلَّا يَقولُ: ابنَ آدَمَ! قد دَخَلْتُ عليكَ اليومَ، ولنْ أرْجِعَ إليكَ بعدَ اليومِ، فانْظُرْ ماذا تَعْمَلُ فيَّ. فإذا انْقَضى؛ طَواهُ، ثمَّ يُخْتَمُ عليهِ فلا يُفَكُّ حتَّى يَكونَ اللهُ هوَ الذي يَفُضُّ ذلكَ الخاتَمَ يومَ القيامةِ، ويَقولُ اليومُ حينَ يَنْقَضي: الحمدُ للهِ الذي أراحَني مِن الدُّنيا وأهلِها. ولا ليلةٍ تَدْخُلُ على النَّاسِ إلَّا قالَتْ كذلكَ.

وبإسنادِهِ عن مالِكِ بن دينارٍ؛ قالَ: كانَ عيسى عليه السلام يَقولُ: إنَّ هذا الليلَ والنَّهارَ خزانتانِ، فانْظُروا ما تَضَعونَ فيهِما. وكانَ يَقولُ: اعْمَلوا الليلَ لِما خُلِقَ لهُ، واعْمَلوا النَّهارَ لِما خُلِقَ لهُ.

وعنِ الحَسَن؛ قالَ: ليسَ يومٌ يَأْتي مِن أيَّامِ الدُّنيا إلَّا يَتكَلَّمُ يَقولُ: يا أيُّها النَّاسُ! إنِّي يومٌ جديدٌ، وإنِّي على ما يُعْمَلُ فيَّ شهيدٌ، وإنِّي لو قد غَرَبَتْ شمسي لمْ أرْجِعْ إليكُم إلى يومِ القيامةِ.

وعنهُ أنَّهُ كانَ يَقولُ: يا ابنَ آدَمَ! اليومُ ضيفُكَ، والضيفُ مرتحلٌ، يَحْمَدُكَ أو يَذُمُّكَ، وكذلكَ الليلُ.

وبإسنادِهِ عن بكرٍ المُزَنيِّ؛ أنَّهُ قالَ: ما مِن يومٍ أخْرَجَهُ اللهُ إلى أهلِ الدُّنيا إلَّا يُنادي: ابنَ آدَمَ! اغْتَنِمْني؛ لَعَلَّهُ لا يومَ لكَ بعدي. ولا ليلةٍ إلَّا تُنادي: ابنَ آدَمَ! اغْتَنِمْني؛ لَعَلَّهُ لا ليلةَ لكَ بعدي.

(1)

(صحيح). رواه: أحمد (4/ 146)، وابن أبي الدنيا في "المرض"، والروياني (177)، والطبراني في "الكبير"(17/ 284/ 782) و"الأوسط"(3257)، والحاكم (4/ 260 و 308)، والبغوي في "السنّة"(1428)؛ من طريقين قويّتين، عن يزيد بن أبي حبيب، أن أبا الخير - وهو مرثد بن عبد الله - حدّثه، عن عقبة بن عامر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ قال: فذكره وزاد: "فإذا مرض المؤمن؛ قالت الملائكة: يا ربّنا! عبدك فلان قد حبسته. فيقول الربّ عز وجل: اختموا له على مثل عمله حتّى يبرأ أو يموت".

قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن يزيد إلّا ابن لهيعة". قلت: بل رواه عنه أيضًا الإمام الثقة الفقيه عمرو بن الحارث. وقال الهيثمي (2/ 306): "فيه ابن لهيعة وفيه كلام". قلت: رواه عنه ابن المبارك عند أحمد وابن أبي الدنيا وروايته عنه جيّدة وقد توبع، وبقيّة السند ثقات رجال الستّة، فهو صحيح. وقد صحّحه الحاكم وابن كثير والذهبي والألباني.

ص: 42

وعن عُمَرَ بن ذَرٍّ؛ أنَّهُ كانَ يَقولُ: اعْمَلوا لأنفسِكُم رَحِمَكُمُ اللهُ في هذا الليلِ وسوادِهِ؛ فإنَّ المغبونَ مَن غُبِنَ خيرَ الليلِ والنَّهارِ والمحرومَ مَن حُرِمَ خيرَهُما، إنَّما جُعِلا سبيلًا للمؤمنينَ إلى طاعةِ ربِّهِم ووبالًا على الآخرينَ للغفلةِ عن أنفسِهِم، فأحْيُوا للهِ أنفسَكُم بذكرِهِ؛ فإنَّما تَحْيا القلوبُ بذكرِ اللهِ عز وجل. كم مِن قائمٍ للهِ في هذا الليلِ قدِ اغْتبَطَ بقيامِهِ في ظلمةِ حفرتِهِ! وكم مِن نائمٍ في هذا الليلِ قد نَدِمَ على طولِ نومِهِ عندَما يَرى مِن كرامةِ اللهِ عز وجل للعابدينَ غدًا! فاغْتَنِموا ممرَّ السَّاعاتِ والليالي والأيَّامِ رَحِمَكُمُ اللهُ.

وعن داوودَ الطَّائِيِّ أنَّهُ قالَ: إنَّما الليلُ والنَّهارُ مراحلُ، يَنْزِلُها النَّاسُ مرحلةً مرحلةً، حتَّى يَنْتَهِيَ بهِم ذلكَ إلى آخرِ سفرِهِم، فإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تُقَدِّمَ في كلِّ مرحلةٍ زادًا لِما بينَ يديها؛ فافْعَلْ؛ فإنَّ انقطاعَ السَّفرِ عن قريبٍ ما هوَ، والأمرُ أعجلُ مِن ذلك، فتَزَوَّدْ لسفرِك، واقْضِ ما أنتَ قاضٍ مِن أمرِك، فكأنَّكَ بالأمرِ قد بَغَتَك.

قالَ ابنُ أبي الدُّنْيا: وأنْشَدَنا مَحْمودُ بنُ الحَسَنِ

(1)

:

مَضى أمْسُكَ الماضي شَهيدًا مُعَدَّلًا

وأعْقَبَهُ يَوْمٌ عَلَيْكَ جَديدُ

فَإنْ كُنْتَ بِالأمْسِ اقْتَرَفْتَ إساءَةً

فَثَنِّ بِإحْسانٍ وَأنْتَ حَميدُ

فَيَوْمُكَ إنْ أعْتَبْتَهُ عادَ نَفْعُهُ

عَلَيْكَ وَماضي الأمْسِ لَيْسَ يَعودُ

(2)

فَلا تُرْجِ فِعْلَ الخَيْرِ يَوْمًا إلى غَدٍ

لَعَلَّ غَدًا يَأْتي وَأنْتَ فَقيدُ

وفي "تفسير عَبْدِ بن حُمَيْدٍ" وغيرِهِ مِن التَّفاسيرِ المسندةِ: عن الحَسَنِ، في قولِ اللهِ تَعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، قالَ: مَن عَجَزَ بالليلِ؛ كانَ لهُ مِن أوَّلِ النَّهارِ مُسْتَعْتَبٌ، ومَن عَجَزَ بالنَّهارِ؛ كانَ لهُ مِن الليلِ مُسْتَعْتَبٌ.

وعن قَتادَةَ: إنَّ المؤمنَ قد يَنْسى بالليلِ ويَذْكُرُ بالنَّهارِ ويَنْسى بالنَّهارِ ويَذْكُرُ

(1)

في خ: "محمود بن الحسين"! وهو تحريف صوابه ما أثبتّه، وهو شاعر من أهل المواعظ روى عنه ابن أبي الدنيا. ترجمته في "أعلام النبلاء"(11/ 461).

(2)

إن أعتبته: إن أزلت عتبه ولم تقصّر في أداء ما له من الحقوق؛ عاد نفع ذلك عليك.

ص: 43

بالليلِ. قالَ: وجاءَ رجلٌ إلى سلْمانَ الفارِسيِّ فقالَ: إنِّي لا أسْتَطيعُ قيامَ الليلِ. قالَ لهُ: فلا تَعْجِزْ بالنَّهارِ. قالَ قَتادَةُ: فَأدُّوا إلى اللهِ مِن أعمالِكُم خيرًا

(1)

في هذا الليلِ والنَّهارِ؛ فإنَّهُما مَطِيَّتانِ تُقْحِمانِ النَّاسَ إلى آجالِهِم، تُقَرِّبانِ كلَّ بعيدِ، وتُبْلِيانِ كلَّ جديدٍ، وتَجيئانِ بكلِّ موعودٍ، إلى يومِ القيامةِ.

• وقدِ اسْتَخَرْتُ الله تَعالى في أنْ أجْمَعَ في هذا الكتابِ وظائفَ شهورِ العام، وما يَخْتَصُّ بالشُّهورِ ومواسمِها مِن الطَّاعاتِ كالصَّلاةِ والصَّيام، والذِّكرِ والشُّكرِ وبَذْلِ الطَّعامِ وإفشاءِ السَّلام

وغيرِ ذلكَ مِن خصالِ البَرَرَةِ الكرام: لِيَكونَ ذلكَ عونًا لنفسي ولإخواني على التَّزوُّدِ للمعاد، والتَّأهُّبِ للموتِ قبلَ قدومِهِ والاستعداد، وأُفَوِّضُ أمري إلى اللهِ إنَّ الله بصيرٌ بالعباد. ويَكونَ أيضًا صالحًا لِمَن يُريدُ الانتصابَ للمواعظِ مِن المذكِّرين؛ فإنَّ مِن أفضلِ الأعمالِ عندَ اللهِ لِمَن أرادَ بهِ وجهَ اللهِ إيقاظَ الرَّاقدينَ وتنبيهَ الغافلين: قالَ اللهُ تَعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]، ووَعَدَ مَن أمَرَ بصدقةٍ أو معروفِ يَبْتَغي بهِ وجهَهُ أجرًا عظيما، وأخْبَرَ نبيُّهُ صلى الله عليه وسلم أن "مَن دَعا إلى هدًى؛ فلهُ مثلُ أجرِ مَن تَبِعَهُ"

(2)

وكَفى بذلكَ فضلًا عميما.

وقد جَعَلْتُ هذهِ الوظائفَ المتعلِّقةَ بالشُّهورِ مجالسَ مجالسَ، مرتَّبةً على ترتيبِ شهورِ السَّنةِ الهلاليَّةِ، فأبْدَأ بالمُحَرَّمِ وأخْتِمُ بذي الحِجَّةِ، وأذْكُرُ في كلِّ شهرٍ ما فيهِ مِن هذهِ الوظائفِ، وما لم يَكُنْ لهُ وظيفةٌ خاصَّةٌ لمْ أذْكُرْ فيهِ شيئًا. وخَتَمْتُ ذلكَ كلَّهُ بوظائفِ فصولِ السَّنةِ الشَّمسيَّةِ، وهيَ ثلاثةُ مجالِسَ في ذكرِ الرَّبيعِ والشِّتاءِ والصَّيفِ. وخَتَمْتُ الكتابَ كلَّهُ بمجلسٍ في التَّوبةِ والمبادرةِ بها قبلَ انقضاءِ العمرِ؛ فإنَّ التَّوبةَ وظيفةُ العمرِ كلِّهِ. وأبْدَأُ قبلَ ذكرِ وظائفِ الشُّهورِ بمجلسٍ في فضلِ التَّذكيرِ باللهِ يَتَضَمَّنُ ذِكْرَ بعضِ ما في مجالسِ التَّذكيرِ مِن الفضلِ. وسمَّيْتُهُ "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف".

واللهُ المسؤولُ أنْ يَجْعَلَهُ خالصًا لوجهِهِ الكريم، ومقرِّبًا إليهِ وإلى دارِهِ دارِ السَّلامِ

(1)

كذا في خ وط! وفي "الدر المنثور"(الفرقان 62): "فأروا الله من أعمالكم خيرًا"، وهو أجود.

(2)

رواه مسلم (47 - العلم، 6 - من سنّ سنّة حسنة، 4/ 2060/ 2674) من حديث أبي هريرة.

ص: 44

والنَّعيمِ المقيم، وأنْ يَنْفَعَني بهِ وعبادَهُ المؤمنين، وأنْ يُوَفِّقَنا لِما يُحِبُّ ويَرْضى ويَخْتِمَ لَنا بخيرٍ في عافيةٍ؛ فإنَّهُ أكرمُ الأكرمينَ وأرحمُ الرَّاحمين، آمين.

وهذا أوانُ الشُّروعِ فيما أرَدْناه والبداءةِ بالمجلسِ الأوَّلِ كما شَرَطْناه، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله

(1)

.

* * * * *

(1)

من هنا يبدأ الأصل الخطّيّ المساعد (م).

ص: 45

‌مجلس في فضل التذكير بالله ومجالس الوعظ

خَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ حِبَّانَ في "صحيحه" مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ قالَ: قُلْنا: يا رسولَ اللهِ! ما لَنا إذا كُنَّا عندَكَ رَقَّتْ قلوبُنا وزَهِدْنا في الدُّنيا وكنَّا مِن أهلِ الآخرةِ، فإذا خَرَجْنا مِن عندِكَ فآنَسْنا أهلَنا

(1)

وشَمَمْنا أولادَنا أنْكَرْنا أنفُسَنا؟! فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لو أنَّكم إذا خَرَجْتُمْ مِنْ عِنْدي كُنْتُم على حالِكُم ذلِكُم؛ لَزارَتْكُمُ الملائكةُ في بيوتِكُم. ولو لمْ تُذْنِبوا لَجاءَ اللهُ بخلقٍ جديدٍ حتَّى يُذْنِبوا فيَغْفِرَ لهُم". قلتُ: يا رسولَ اللهِ! ممَّ خُلِقَ الخلقُ؟ قالَ: "مِن الماءِ". قُلْتُ: الجنَّةُ ما بناؤُها

(2)

؟ قالَ: "لَبِنَةٌ مِن ذهب ولَبِنَةٌ مِن فضَّةٍ، ومِلاطُها المسكُ الأذفرُ، وحصباؤُها اللؤلؤُ والياقوتُ، وتربتُها الزَّعفرانُ، مَن يَدْخُلُها يَنْعَمُ لا يَبْأسُ ويَخْلُدُ لا يَموتُ، لا تَبْلى ثيابُهُم ولا يَفْنى شبابُهُم"

(3)

.

(1)

في خ وم: "عافسنا أهلنا"، وأثبتّ ما في ط لأنّه لفظ الترمذي الذي لا يستقيم السياق إلّا به.

(2)

في خ: "فممّ خلق الخلق

ممّا بناؤها"، وما أثبتّه من م وط أولى بسياق "المسند".

(3)

(حسن بشواهده). حديث مطوّل مؤلّف من خمسة أحاديث رواها مجموعة أو مفرّقة: ابن المبارك في "الزهد"(1075)، والطيالسي (2583 و 2584)، والحميدي (1150)، وإسحاق (1/ 317 / 3030 - 30)، وأحمد (2/ 304 و 305 و 444 و 445 و 477)، وهنّاد في "الزهد"(130)، وعبد بن حميد (1420)، والدارمي (2/ 333)، والبخاري في "الكنى"(ص 74)، وابن ماجه (7 - الصيام، 48 - الصائم لا تردّ دعوته، 1/ 557/ 1752)، والترمذي (49 - الدعوات، 129 - العفو والعافية، 5/ 578/ 3598)، والحارث (1071 - الهيثمي)، وابن خزيمة (1901)، وابن حبَّان (3428 و 7387)، والطبراني في "الأوسط"(7107)، وأبو نعيم في "الجنّة"(100 و 136)، والبيهقي في "السنن"(5/ 343، 8/ 162، 10/ 88) و"الشعب"(7101) و"البعث"(258)، والخطيب في "الكفاية"(ص 249)، والبغوي في "السنّة"(1395)، والمزّي في "التهذيب"(34/ 269)؛ من طرق، عن سعد الطائي أبي مجاهد، عن أبي المدلّة، عن أبي هريرة

رفعه، وزاد بعضهم فيه:"ثلاثة لا تردّ دعوتهم: الصائم حتّى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم".

قال الترمذي: "حسن

وأبو مدلّة هو مولى عائشة وإنّما نعرفه بهذا الحديث". وتعقّبه الألباني في =

ص: 46

• كانَتْ مجالسُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم معَ أصحابِهِ عامَّتُها مجالسَ تذكيرٍ باللهِ وترغيبٍ وترهيبٍ: إمَّا بتلاوةِ القرآنِ، أو بما آتاهُ اللهُ مِن الحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وتعليمِ ما يَنْفَعُ في الدِّينِ. كما أمَرَهُ اللهُ تَعالى في كتابهِ أنْ يُذَكِّرَ ويَعِظَ ويَقُصَّ، وأنْ يَدْعُوَ إلى سبيلِ ربِّهِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ، وأنْ يُبَشِّرَ ويُنْذِرَ.

وسَمَّاهُ اللهُ مبشِّرًا ونذيرًا وداعيًا إلى اللهِ. والتَّبشيرُ والإنذارُ هوَ التَّرغيبُ والتَّرهيبُ، فلذلكَ كانَتْ تلكَ المجالسُ تُوجِبُ لأصحابِهِ - كما ذَكَرَ أبو هُرَيْرَةَ في هذا الحديثِ - رقَّةَ القلوبِ؛ والزُّهدَ في الدُّنيا والرَّغبةَ في الآخرةِ.

* فأمَّا رقَّةُ القلوبِ؛ فتَنْشَأُ عن الذِّكْرِ؛ فإنَّ ذكرَ اللهِ يوجِبُ خشوعَ القلبِ وصلاحَهُ ورقَّتَهُ ويَذْهَبُ [بـ]ـــالغفلةِ عنهُ:

قالَ تَعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

وقالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2].

وَقالَ: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ. الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحجّ: 35 - 34].

وقالَ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا

= "الضعيفة"(1358) فقال: "إذا كان كذلك فالقواعد تقتضي أنّه رجل مجهول". قلت: صحّح له الترمذي وابن خزيمة وابن حبّان ونصّ بعض الرواة على توثيقه عند أحمد وابن ماجه وغيرهما، وأشار المزّي في "التحفة"(15457) إلى رواية سعيد بن عبيد الطائي عنه، فإن كان محفوظًا ارتفعت عنه الجهالة، وإن كان وهمًا أو تحريفًا فالرجل لا يعدو أن يكون مقبولًا كما ذكر العسقلاني.

ورواه: الضبّي في "الدعاء"(128)، ومن طريقه الترمذي (39 - الجنّة، 2 - صفة الجنّة ونعيمها، 4/ 672/ 2526)؛ عن حمزة الزيّات، عن زياد الطائي، عن أبي هريرة

رفعه بطوله. قال الترمذي: "ليس إسناده بذلك القويّ، وليس هو عندي بمتّصل". قلت: زياد مجهول، وروايته عن أبي هريرة مرسلة، ولا يبعد أن يكون تلقّاه عن أبي مجاهد أو عن أبي مدلّة فتؤول هذه الطريق إلى الأولى.

لكن لا يخلو شيء من قطع الحديث من طرق أخرى أو شواهد تقوّيه سيأتي تفصيل القول فيها تباعًا عند شرحه فلا أطيل بذكرها هنا، ولذلك قوّاه الترمذي وابن خزيمة وابن حبّان والبغوي والعسقلاني والألباني.

ص: 47

{يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16].

وَقالَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].

وَقالَ العِرْباضُ بنُ سارِتةَ: وَعَظَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغةً وَجِلَتْ مِنها القلوبُ وذَرَفَتْ مِنها العيونُ

(1)

.

وقالَ ابنُ مَسْعودٍ: نِعْمَ المجلسُ المجلسُ الذي تُنْشَرُ فيهِ الحكمةُ وتُرْجى فيهِ الرَّحمةُ؛ مجلسُ الذِّكرِ

(2)

.

وشَكا رجلٌ إلى الحَسَنِ قساوةَ قلبِهِ فقالَ: أدْنِهِ مِن الذِّكرِ.

وقالَ: مجالسُ الذِّكرِ مَحْياةُ العلمِ وتُحْدِثُ في القلبِ الخشوعَ.

القلوبُ الميِّتةُ تَحْيا بالذِّكرِ كما تَحْيا الأرضُ المَيْتةُ بالقَطْرِ.

بِذِكْرِ اللهِ تَرْتاحُ القُلوبُ

ودُنْيانا بِذِكْراهُ تَطيبُ

* وأمَّا الزُّهدُ في الدُّنيا والرَّغبةُ في الآخرةِ؛ فبما يَحْصُلُ في مجالسِ الذِّكرِ: مِن

(1)

(صحيح). قطعة من حديث جليل طويل من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام رواه: أحمد (4/ 126 - 127)، والدارمي (1/ 44)، والبخاري في "التاريخ"(2/ 365)، وابن ماجه (المقدّمة، 6 - اتّباع سنّة الراشدين، 1/ 15/ 42 - 44)، وأبو داوود (34 - السنّة، 5 - لزوم السنّة، 2/ 611/ 4607)، والترمذي (42 - العلم، 6 - الأخذ بالسنة، 5/ 44/ 2676)، والحارث بن أبي أسامة (55 و 56 - زوائد الهيثمي)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(26 - 34 و 48 و 49 و 54 - 59 و 1037 - 1045)، وابن نصر في "السنّة"(69 - 72)، والطحاوي في "المشكل"(2/ 69)، وابن حبّان (5)، والطبراني في "الكبير"(18/ 245/ 617 - 624 و 642) و"الشاميّين"(437 و 438 و 786)، والآجرّي في "الشريعة"(79 - 81)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 97 - 95) و "المدخل"(1/ 79 - 81)، واللالكائي في "السنّة"(79 - 81)، وأبو نعيم في "المستخرج"(1 - 5)، والداني في "السنن"(124)، والبيهقي في "السنن"(6/ 541) و"المدخل"(50 و 51)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(2/ 489)، والبغوي في "شرح السنّة"(102)، وابن عساكر (40/ 176)؛ من طرق كثيرة، عن العرباض

به مطوّلًا ومختصرًا.

وبعض طرق هذا الحديث حسن لذاته، وأكثرها حسن في الشواهد، وبعضها يسير الضعف، والحديث بمجموعها صحيح غاية، ولذلك تتابع أهل العلم على تقويته كالترمذي وابن خزيمة وابن حبّان والحاكم وأبي نعيم والبغوي والمنذري والنووي والذهبي والعسقلاني والألباني.

(2)

في خ: "مجالس الذكر"، وما أثبتّه من ط أولى بالسياق.

ص: 48

ذكرِ عيوبِ الدُّنيا وذمِّها والتَّزهيدِ فيها، وذكرِ فضلِ الجنَّةِ ومدحِها والتَّرغيبِ فيها، وذكرِ النَّارِ وأهوالِها والتَّرهيب مِنها.

وفي مجالسِ الذِّكرِ تتَنَزَّلُ الرَّحمةُ وتَغْشى السَّكينةُ وتَحُفُّ الملائكةُ ويَذْكُرُ اللهُ أهلَها فيمَن عندَهُ

(1)

.

وهمُ القومُ لا يَشْقى بهِم جليسُهُم: فربَّما رُحِمَ معَهُم مَن جَلَسَ إليهِم وإنْ كانَ مذنبًا، وربَّما بَكى فيهِم باكٍ مِن خشيةِ اللهِ فوُهِبَ أهلُ المجلسِ كلُّهُم لهُ.

وهيَ رياضُ الجنَّةِ؛ قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إذا مَرَرْتُمْ برياضِ الجنَّةِ فارْتَعُوا". قالوا: وما رياضُ الجنَّةِ؟ قالَ: "مجالسُ الذّكرِ"

(2)

.

(1)

جاء في حاشية خ هنا: "وعن أبي هريرة وأبي سعيد؛ أنّهما شهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال: لا يقعد قوم يذكرون الله تعالى إلّا حفّتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده". والغالب أنّه من تعقّبات النسّاخ.

(2)

(صحيح بطرقه وشواهده). وقد جاء عن جماعة من الصحابة.

* فرواه: أبو نعيم في "الحلية"(6/ 354)، والخطيب في "الفقيه والمتفقّه"(1/ 12)؛ من طريقين إحداهما قويّة، عن محمّد بن عبد بن عامر السمرقندي (وسمّاه أبو نعيم: محمّد بن عبد الله بن عامر)، عن قتيبة بن سعيد، ثنا مالك بن أنس، عن نافع، (زاد أبو نعيم: عن سالم)، عن ابن عمر

رفعه. قال أبو نعيم: "غريب من حديث مالك، لم نكتبه إلّا من حديث محمّد بن عبد الله بن عامر". قال الألباني في "الصحيحة"(2562): "ولم أعرفه، ويحتمل أن (عامر) محرّف من (نمير)، فإن كان كذلك؛ فهو ثقة. ثمّ رأيت ما يرجّح أنّه هو، فقد ذكره المزّي في الرواة عن قتيبة". قلت: ذكر المزّي له في الرواة عن قتيبة دليل ظنّي وليس بالحاسم، ولو وقف الشيخ رحمة الله عليه على سند الخطيب؛ لعلم أنّه ليس بتحريف، ولكنّه محمّد بن عبد بن عامر السمرقنديّ الكذاب الوضّاع. وعليه؛ فالسند ساقط.

ورواه الدارقطني في "غرائب مالك"(5/ 84 - لسان) من طريق محمّد بن إسحاق الصيرفي أبي ذرٍّ، عن عليّ بن معبد بن نوح، عن عليّ بن معبد بن شدّاد، عن مالك

به فذكره. قال الدارقطني: "باطل موضوع، وأبو ذرٍّ هذا كان ضعيفًا".

* ورواه الخطيب في "الفقيه والمتفقّه"(1/ 13) من طريق أبي عثمان سعيد بن عثمان الحمصي، نا عبيد بن جناد صدوق، نا عطاء بن مسلم الحلبي، عن زيد العمّي، عن القاسم بن محمّد، عن عبد الله بن عمرو

رفعه. وهذا واه فيه علل: أولاها: أنّ سعيدًا وعطاء وزيدًا ضعاف. والثانية: أنّ سعيدًا خولف فرواه الخطيب (بعده) من طريق موسى بن مروان، عن عطاء، عن زيد بن حبّان، عن القاسم بن الوليد، عن ابن مسعود

رفعه بنحوه. ورواية موسى أرجح لأنّه صدوق كما تفيده ترجمته في "التهذيب"، فالحديث لابن مسعود، لولا أنّ زيدًا لا يعدو أن يكون صالحًا في المتابعات ورواية القاسم عن ابن مسعود مرسلة. والثالثة: أنّ عطاء هذا خولف، فرواه الخطيب (بعده) من طريق مسلسلة بالأئمة الثقات، عن القاسم بن الوليد، عن =

ص: 49

• فإذا انْقَضى مجلسُ الذِّكرِ؛ فأهلُهُ بعدَ ذلكَ على أقسامٍ:

* فمنهُم مَن يَرْجِعُ إلى هواهُ فلا يَتَعَلَّقُ بشيءٍ ممَّا سَمِعَهُ في مجلسِ الذِّكرِ ولا يَزْدادُ هدًى ولا يَرْتَدعُ عن ردًى. هؤلاءِ شرُّ الأقسامِ، ويَكونُ ما سَمِعوهُ حُجَّةً عليهِم فتَزْدادُ بهِ عقوبتُهُم

(1)

، وهؤلاءِ الظَّالمونَ لأنفسِهِم، {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ

= الضحّاك، قال ابن مسعود

فذكره موقوفًا. والضحّاك عن ابن مسعود مرسل.

وخلاصة القول أنّ إسناد الحديث إلى ابن عمرو منكر واه والمحفوظ إسناده إلى ابن مسعود، والرفع في حديث ابن مسعود منكر والمحفوظ فيه الوقف، والوقف أيضا ضعيف منقطع.

• ورواه الطبراني (11/ 78/ 11158) من طريق أحمد بن العبّاس صاحب الشامة، ثنا الحارث بن عطيّة، ثنا بعض أصحابنا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عبّاس

رفعه لكن قال: "مجالس العلم". قال المنذري والهيثمي (1/ 131): "فيه رجل لم يسمّ". قلت: والحارث يهم.

• ورواه الترمذي (49 - الدعوات، 83 - باب، 5/ 532/ 3509) من طريق يزيد بن حبّان، أنّ حميدًا المكّيّ حدّثه، أنّ عطاء بن أبي رباح حدّثه، عن أبي هريرة

رفعه لكن قال: "المساجد". قال الترمذي: "حسن غريب". قلت: يزيد كثير الخطأ وحميد مجهول. لكن له طريق أخرى بلفظ الترجمة تقريبًا عند ابن شاهين أشار إليها العجلوني في "كشف الخفاء" فلعلّه يتقوّى بها.

• ورواه: أحمد (3/ 150)، والترمذي (49 - الدعوات، 83 - باب، 5/ 532/ 3510)، والبزّار (3063 - كشف)، وأبو يعلى (3432)، وابن حبّان في "المجروحين"(2/ 252)، وابن عدي (6/ 2147)، والبيهقي في "الشعب"(529)، والأصبهاني (1347)؛ من طريق محمّد بن ثابت البناني، ثني أبي، عن أنس

رفعه. قال الترمذي: "حسن غريب"، وأقرّه المنذري. قلت: محمَّد بن ثابت ضعيف.

ورواه: ابن أبي الدنيا، والطبراني في "الدعاء"(1890)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 268)، والخطيب في "الفقيه"(1/ 12)؛ من طريقين قوّيتين، عن زائدة بن أبي الرقاد، عن زياد النميري، عن أنس

رفعه. وهذا واهٍ: زائدة منكر الحديث، وزياد ضعيف.

* ورواه: عبد بن حميد في "المسند"(1107)، وابن أبي الدنيا، والبزّار (3064 - كشف الأستار)، وأبو يعلى في "المسند"(1865 و 1866 و 2138)، وابن حبّان في "المجروحين"(2/ 81)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(2522) و"الدعاء"(1891)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 494)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(528)، والقشيري في "الرسالة"(ص 101)، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب"(1354)؛ من طرق، عن عمر مولى غفرة، عن أيّوب بن خالد بن صفوان، عن جابر

رفعه. قال البزّار: "لا يروى إلّا بهذا الإسناد، تفرّد به عمر". وصحّحه الحاكم، ووافقه البوصيري، وأعلّه المنذري والذهبي والهيثمي بعمر مولى غفرة، قلت: عمر وأيّوب ليّنان والسند ضعيف.

وملخّص ما تقدّم هنا أنّ هذا المتن: موضوع على ابن عمر، منكر من حديث ابن عمرو، ومنكر مرفوعًا عن ابن مسعود، وأمّا أحاديث ابن عبّاس وأبي هريرة وأنس وجابر فمتراوحة بين الضعف واللين، فاجتماعها يقوّي هذا المتن ويصحّحه، وإلى ذلك مال الترمذي والحاكم والمنذري والعسقلاني والألباني.

(1)

في خ: "فيزدادوا به عقوبة"! وهو خطأ نحويّ! والأولى ما أثبتّه من م وط.

ص: 50

وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [النحل: 108].

* ومنهُم مَن يَنْتَفعُ بِما سَمِعَهُ. وهُم على أقسامٍ: فمِنْهُم مَن يَرُدُّهُ ما سَمِعَهُ عن المحرَّماتِ ويُوجبُ لهُ التزامَ الواجباتِ، وهؤلاءِ المقتصدونَ أصحابُ اليمينِ. ومنهُم مَن يَرْتَقي عن ذَلكَ إلى التَّشميرِ في نوافلِ الطَّاعات والتَّورُّعِ عَن دقائقِ المكروهات ويَشْتاقُ إلى اتِّباعِ آثارِ مَن سَلَفَ مِن السَّادات، وهؤلاءِ السابقونَ المقرَّبونَ.

• ويَنْقَسِمُ المنتفعونَ بسماعِ مجلسِ الذكرِ في استحضارِ ما سَمِعوهُ

(1)

في المجلسِ والغفلةِ عنهُ إلى أقسامٍ ثلاثةٍ:

• فقسمٌ يَرْجِعونَ إلى مصالحِ دنياهُمُ المباحةِ فيَشْتَغِلونَ بها فتَذْهَلُ بذلكَ قلوبُهُم عمَّا كانوا يَجِدونَهُ في مجلسِ الذِّكرِ مِنِ استحضارِ عظمةِ اللهِ وجلالِهِ وكبريائِهِ ووعدِهِ ووعيدِهِ وثوابِهِ وعقابِهِ، وهذا هوَ الذي شَكاهُ الصَّحابةُ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وخَشُوا - لكمالِ معرفتِهِم وشدَّةِ خوفِهِم - أنْ يَكونَ نفاقًا، فأعْلَمَهُمُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ ليسَ بنفاقٍ.

وفي "صحيح مسلم"

(2)

: عن حَنْظَلَةَ؛ أنَّهُ قالَ: يا رسولَ اللهِ! نافَقَ حَنْظَلَةُ. قالَ: "وما ذاكَ؟ ". قالَ: نَكونُ عندَكَ فتُذَكِّرُنا بالجنَّةِ والنَّارِ كأنَّهُما رَأْيُ عينٍ، فإذا رَجَعْنا مِن عندِكَ؛ عافَسْنا

(3)

الأزواجَ والضَّيْعَةَ ونَسِينا كثيرًا. فقالَ: "لو تَدومونَ على الحالِ التي تَقومونَ بِها مِن عندي؛ لَصافَحَتكُمُ الملائكةُ في مجالسِكُم وفي طرقِكُم، ولكنْ يا حَنْظَلَةُ! ساعةً وساعةً". وفي روايةٍ لهُ أيضًا: "لَو كانَتْ تكونُ قلوبُكُم كَما تَكونُ عندَ الذِّكرِ؛ لَصافَحَتْكُمُ الملائكةُ حتَّى تُسَلِّمَ عليكُمْ في الطُّرفِ".

ومعنى هذا أن استحضارَ ذكرِ الآخرةِ بالقلبِ في جميعِ الأحوالِ عزيزٌ جدًّا، ولا يَقْدِرُ كثيرٌ مِن النَّاسِ أو أكثرُهُم عليهِ، فيُكْتَفى منهُم بذكرِ ذلكَ أحيانًا وإنْ وَقَعَتِ الغفلةُ عنهُ في حالِ التَّلبُّسِ بمصالحِ الدُّنيا المباحةِ. ولكنَّ المؤمنَ لا يَرْضى مِن نفسِهِ بذلكَ، بل يَلومُ نفسَهُ عليهِ ويَحْزُنُهُ ذلكَ من نفسِهِ.

(1)

فالتقسيم الأوّل باعتبار انتفاعهم بما سمعوه وهذا باعتبار استحضارهم له.

(2)

(49 - التوبة، 3 - فضل دوام الذكر، 4/ 2106/ 2750)؛ الروايتين.

(3)

في حاشية خ: "أي: عالجنا".

ص: 51

العارفُ يَتَأسَّفُ في وقتِ الكدرِ على زمنِ الصَّفاء، ويَحِنُّ إلى زمنِ القربِ والوصالِ في حالةِ الجفاء.

ما أذْكُرُ عَيْشَنا الَّذي قَدْ سَلَفا

إلَّا وَجَفَ القَلْبُ وَكَمْ قَدْ وَجَفا

واهًا لِزَمانِنا الَّذي كانَ صَفا

واأسَفا وَهَلْ يَرُدُّ فائتًا واأسَفا

(1)

* وقسمٌ آخرُ يَسْتَمِرُّونَ على استحضارِ حالِ مجلسِ سماعِ الذِّكرِ، فلا يَزالُ تذكُّرُ ذلكَ بقلوبِهِم ملازمًا لهُم، وهؤلاء على قسمينِ:

أحدُهُما: مَن يَشْغَلُهُ ذلكَ عن مصالحِ دنياهُ المباحةِ، فيَنْقَطعُ عن الخلقِ فلا يَقْوى على مخالطتِهِم ولا القيامِ بوفاءِ حقوقِهِم. وكانَ كثيرٌ مِن السَّلفِ

(2)

على هذهِ الحالِ: فمنهُم مَن كانَ لا يَضْحَكُ، ومنهُم مَن كانَ يَقولُ: لو فارَقَ ذكرُ الموتِ قلبي ساعةً؛ لفَسَدَ.

والثَّاني: مَن يَسْتَحْضِرُ ذكرَ اللهِ وعظمتَهُ وثوابَهُ وعقابَهُ بقلبِهِ، ويَدْخُلُ ببدنِهِ في مصالحِ دنياهُ مِنِ اكتسابِ الحلالِ والقيامِ على العيالِ، ويُخالِطُ الخلقَ فيما يُوصِلُ إليهِم بهِ النَّفعَ ممَّا هوَ عبادةٌ في نفسِهِ، كتعليمِ العلمِ والجهادِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكرِ. وهؤلاء أشرفُ القسمينِ، وهُم خلفاءُ الرُّسلِ، وهمُ الذينَ قالَ فيهِم عَلِيٌّ رضي الله عنه: صَحِبوا الدُّنيا بأبدانٍ أرواحُها معلَّقةٌ بالمحلِّ الأعلى

(3)

.

وقد كانَ حالُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عندَ الذِّكرِ يَتَغَيَّرُ ثمَ يَرْجِعُ بعدَ انقضائِهِ إلى مخالطةِ النَّاسِ والقيامِ بحقوقِهِم:

ففي "مسند البزَّار" و "معجم الطَّبرانيِّ": عن جابرٍ؛ قالَ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا نَزَلَ عليهِ الوحيُ؛ قلتَ: نذيرُ قومٍ، فإذا سُرِّيَ عنهُ؛ فأكثرُ النَّاسِ ضحكًا وأحسنُهُم خُلُقًا

(4)

.

(1)

في حاشية خ: "خ لو كان يردّ فائتًا واأسفا"؛ يعني أنّه في نسخة كذلك.

(2)

العباد أو الزهّاد أو الصوفية، وستأتيك كلمة "السلف" بهذا المعنى كثيرًا، فتنبّه.

(3)

قطعة من وصيته الطويلة لكميل بن زياد، وقد أطال ابن القيم في شرحها واستفرغ الوسع، فانظره في "مفتاح دار السعادة"(1/ 347 - 412 - ط. ابن خزيمة).

(4)

(منكر بهذا السياق). رواه: البزّار (2477 - كشف)، وابن عدي (6/ 2194)، والذهبي في "الميزان"(3/ 615) و "النبلاء"(6/ 315)؛ عن طريق أبي حفص الأبار، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن جابر

به.

ص: 52

وفي "مسند الإمام أحمد": عن عَلِيٍّ أوِ الزُّبَيْرِ؛ قالَ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُنا فيُذَكِّرُنا بأيَّامِ اللهِ حتى يُعْرَفَ ذلكَ في وجهِهِ، وكأنَّهُ نذيرُ جيشٍ يُصَبِّحُهُمُ الأمرُ غُدوةً. وكانَ إذا كانَ حديثَ عهدٍ بجبْريلَ لمْ يَتبَسَّمْ ضاحكًا حتى يَرْتَفعَ عنهُ

(1)

.

وفي "صحيح مسلم"

(2)

: عن جابرٍ رضي الله عنه؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا خَطبَ [وذَكَرَ السَّاعةَ] اشْتَدَّ غضبُهُ وعَلا صوتُهُ كأنَّهُ منذرُ جيشٍ تقولُ صَبَّحَكُمْ ومَسَّاكُمْ.

وفي الصَّحيحين

(3)

: عن عَدِيِّ بن حاتِمٍ؛ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: "اتَّقُوا النَّارَ". قالَ: وأشاحَ. ثمَّ قالَ: "اتَّقُوا النَّارَ". ثمَّ أعْرَضَ وأشاحَ. ثلاثًا. حتَّى ظَنَنَّا أنَّهُ يَنْظُرُ إليها. ثمَّ قالَ: "اتَّقُوا النَّارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ، فمَن لم يَجِدْ؛ فبكلمةٍ طيِّبةٍ".

وسُئِلَتْ عائِشَةُ رضي الله عنها: كيفَ كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا خَلا معَ نسائِهِ؟ قالَتْ: كانَ كرجلٍ مِن رجالِكُم؛ إلَّا أنَّهُ كانَ أكرمَ النَّاسِ وأحسنَ النَّاسِ خُلُقًا، وكانَ ضحَّاكًا بسَّامًا

(4)

.

= قال الهيثمي في "المجمع"(9/ 20): "إسناده حسن". قلت: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى سيّئ الحفظ جدًّا لا يحتمل منه هذا التفرّد، ولا سيما أن الحديث جاء عن جابر عند مسلم بغير هذا السياق، وأن الصحيح المشهور أنَّه صلى الله عليه وسلم كان لا يضحك إلا تبسمًا. ولذلك أورد ابن عدي هذا الحديث في منكرات ابن أبي ليلى، وقال الذهبي:"هذا حديث منكر".

(1)

(حسن بشواهده). رواه: إسحاق (كما في المختارة)، وأحمد (1/ 167)، والبزّار (2/ 191 - مجمع)، وأبو يعلى (677)، والطبراني في "الكبير"(2/ 191 - مجمع) و "الأوسط"(2655)، والضياء في "المختارة"(3/ 72/ 877 و 878)؛ من طريق أبي الزبير، عن عبد الله بن سلمة، عن عليّ أو الزبير

به. وهذا سند فيه ضعف يسير من أجل ابن سلمة فإنه لا يعدو أن يكون صالحًا في المتابعات، وأبو الزبير فالمشهور تدليسه عن الصحابة ولم أر من يذكر له تدليسًا عن التابعين.

لكن يشهد لأوّله حديث مسلم الآتي بعده، ويشهد لآخره الحديث السابق وحديث الصحيحين المشهور فيما كان يأخذه صلى الله عليه وسلم من الشدة عند نزول الوحي، وإلى تقويته مال الضياء والهيثمي والعسقلاني.

(2)

(7 - الجمعة، 13 - تخفيف الصلاة والخطبة، 2/ 592/ 867).

(3)

البخاري (81 - الرقاق، 51 - صفة الجنة والنار، 11/ 417/ 6563)، ومسلم (12 - الزكاة، 20 - الحث على الصدقة، 2/ 704/ 1016).

(4)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن سعد (1/ 365)، وإسحاق (2/ 434/ 1001، 3/ 1008/ 1750)، وهنّاد في "الزهد"(1287)، وابن أبي الدنيا في "المكارم"(397)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق"(63)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم "(24)، وتمّام في "الفوائد"(1418)؛ من طرق، عن حارثة بن محمّد بن أبي الرجال، عن عمرة، عن عائشة

به.

ص: 53

فهذِهِ الطَّبقةُ خلفاءُ الرُّسلِ؛ عامَلوا الله بقلوبِهِم، وعاشَروا الخَلْقَ بأبدانِهِم، كما قالَتْ رابِعَةُ:

وَلَقَدْ جَعَلْتُكَ في الفُؤادِ مُحَدِّثي

وَأبَحْتُ جِسْمِيَ مَنْ أرادَ جُلوسي

فَالجِسْمُ مِنِّي لِلْجَليسِ مُؤانِسٌ

وَحَبيبُ قَلْبِيَ في الفُؤادِ أنيسي

• المواعظُ سياطٌ تُضْرَبُ بها القلوبُ فتُؤَثِّرُ فيها كتأْثيرِ السِّياطِ في البدنِ، والضَّربُ لا يُؤَثِّرُ بعدَ انقضائِهِ كتأْثيرِهِ في حالِ وجودِهِ، لكنْ يَبْقى أثرُ التَّألُّمِ بحسبِ قوَّتهِ وضعفِهِ، فكلَّما قَوِيَ الضَّرْبُ؛ كانَتْ مدَّةُ بقاءِ الألمِ أكثرَ.

كانَ كثيرٌ مِن السَّلفِ إذا خَرَجوا مِن مجلسِ سماعِ الذِّكرِ خَرَجوا وعليهِمُ السَّكينةُ والوَقارُ: فمنهُم مَن كانَ لا يَسْتَطيعُ أنْ يَأْكُلَ طعامًا عَقيبَ ذلكَ، ومِنهم مَن كانَ يَعْمَلُ بمقتضى ما سَمِعَهُ مدَّةً.

أفضلُ الصَّدقةِ تعليمُ جاهلٍ أو إيقاظُ غافلٍ.

ما وُصِلَ المُسْتَثْقِلُ في نومِ

(1)

الغفلةِ بأفضلَ مِن ضربِهِ بسياطِ الموعظةِ لِيَسْتَيْقِظَ.

المواعظُ كالسِّياطِ تَقَعُ على نِياطِ القلوبِ: فمَن آلَمَتْهُ فصاحَ؛ فلا جُناح، ومَن زادَ ألمُهُ فماتَ؛ فدمُهُ مباح.

قَضَى اللهُ في القَتْلى قِصاصَ دِمائِهِمْ

وَلكِنْ دِماءُ العاشِقينَ جُبارُ

(2)

وَعَظَ عَبْدُ الواحِدِ بنُ زَيْدٍ [يومًا]، فصاحَ رجلٌ: يا أبا عُبَيْدَةَ! كُفَّ! فقدْ كَشَفْتَ [بـ]ـالموعظةِ قناعَ قلبي. فأتَمَّ عَبْدُ الواحِدِ موعظتَهُ، فماتَ الرَّجلُ.

صاحَ رجلٌ في حلْقةِ الشِّبْلِيِّ فماتَ، فاسْتَعْدى أهلُهُ على الشِّبْلِيِّ إلى الخليفةِ، فقالَ الشِّبْلِيُّ: نفسٌ رَنَتْ فحَنَّتْ، فدُعِيَتْ فأجابَتْ، فما ذنبُ الشِّبْلِيِّ

(3)

؟

= وهذا سند واه من أجل حارثة فإنه في حد الترك، وقد ذكر ابن عدي والذهبي هذا الحديث في منكراته، وليس الشأن في كونه صلى الله عليه وسلم أكرم الناس وأحسنهم خلقًا فلعمر الله قد كان فوق ذلك، ولكن الشأن في صحّة نسبة هذا الكلام لعائشة، فلا يصح، وفي قولها "ضحاكًا" نكارة على كل حال.

(1)

من هنا يبدأ الأصل الخطي المساعدن.

(2)

جبار: مهدورة لا قصاص فيها.

(3)

ذنبه أنه رأس هذه البدعة وفاتح باب الضلالة! يمنّون الشاب الغضّ الغرّ بالمكاشفة والمكافحة =

ص: 54

فَكَّرَ في أفْعالِهِ ثُمَّ صاحْ

لا خَيْرَ في الحُبِّ بِغَيْرِ افْتِضاحْ

قَدْ جِئْتكُمْ مُسْتَأْمِنًا فَأرْحَموا

لا تَقْتُلوني قَدْ رَمَيْتُ السِّلاحْ

إنَّما يَصْلُحُ التَّأديبُ بالسَّوطِ مِن صحيحِ البدنِ ثابتِ القلبِ قويِّ الذِّراعينِ، فيُؤْلِمُ ضربُهُ، فيَرْدَعُ. فأمَّا مَن هوَ سَقيمُ البدنِ لا قوَّةَ لهُ؛ فماذا يَنْفَعُ تأْديبُهُ بالضَّربِ؟!

كانَ الحَسَنُ إذا خَرَجَ إلى النَّاسِ فكأنَّهُ رجلٌ عايَنَ الآخرةَ ثمَّ جاءَ يُخْبِرُ عنها، وكانوا إذا خَرَجوا مِن عندِهِ؛ خَرَجوا وهُم لا يَعُدُّونَ الدُّنيا شيئًا.

وكانَ سُفْيانُ يُتَعَزَّى بمجالسِهِ عن الدُّنيا.

وكانَ أحْمَدُ لا تُذْكَرُ الدُّنيا في مجلسِهِ ولا تُذْكَرُ عندَهُ.

قالَ بعضُهُم: لا تَنْفَعُ الموعظةُ إلَّا إذا خَرَجَتْ مِن القلبِ؛ فإنَّها تَصِلُ إلى القلبِ، فأمَّا إذا خَرَجَتْ مِن اللسانِ؛ فإنَّها تَدْخُلُ مِن الأذنِ ثمَّ تَخْرُجُ مِن الأخرى.

قالَ بعضُ السَّلفِ: إنَّ العالِمَ إذا لمْ يُرِدْ بموعظتِهِ وجهَ اللهِ؛ زَلَّتْ موعظتُهُ عن القلوبِ كما يَزِلُّ القَطْرُ عن الصَّفا.

كانَ يَحْيى بنُ مُعاذٍ يُنْشِدُ في مجالسِهِ:

مَواعِظُ الواعِظِ لَنْ تُقْبَلا

حَتَّى يَعِيَها قَلْبُهُ أوَّلا

يا قَوْمِ مَنْ أظْلَمُ مِنْ واعِظٍ

خالَفَ ما قَدْ قالَهُ في المَلا

أظْهَرَ بَيْنَ النَّاسِ إحْسانَهُ

وَبارَزَ الرَّحْمنَ لَمَّا خَلا

العالمُ الذي لا يَعْمَلُ بعلمِهِ مَثَلُهُ كمَثَلِ المصباحِ يُضيءُ للنَّاسِ ويُحْرِقُ نفسَهُ.

قالَ أبو العَتاهِيَةِ:

وَبَّخْتَ غَيْرَكَ بِالعَمى فَأفَدْتَهُ

بَصَرًا وَأنْتَ مُحَسِّنٌ لِعَماكا

وَفَتيلَةُ المِصْباحِ تُحْرِقُ نَفْسَها

وَتُضيءُ لِلأعْشى وَأنْتَ كَذاكا

المواعظُ دِرياقُ

(1)

الذُّنوبِ، فلا يَنْبَغي أنْ يَسْقِيَ الدِّرياقَ إلَّا طبيبٌ حاذقٌ معافى،

= والوصول، ويزيّنون له الجوع والسهر والذكر المرهق، فينهار جسده تحت وطأة هذا ويتوقّف قلبه! ثمّ يقولون: ما ذنبنا؟! يقول شيخ الإسلام: "إذا كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا". فهذا كذاك.

(1)

الدرياق والترياق واحد، وهو الدواء المضاد للسم.

ص: 55

فأمَّا لَديغُ الهوى؛ فهوَ إلى شربِ الدِّرياقِ أحوجُ مِن أنْ يَسْقِيَهُ لغيرِهِ.

في بعضِ الكتبِ السَّالفةِ: إذا أرَدْتَ أنْ تَعِظَ النَّاسَ؛ فعِظْ نفسَكَ، فإنِ اتَّعَظَتْ، وَإلَّا؛ فاسْتَحْيِ مِنِّي.

وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقى

طَبيبٌ يُداوِي النَّاسَ وَهْوَ سَقيمُ

(1)

يا أيُّها الرَّجُلُ المُقَوِّمُ غَيْرَهُ

هَلَّا لِنَفْسِكَ كانَ ذا التَّقْويمُ

(2)

فَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَها عَنْ غَيِّها

فَإنِ انْتَهَتْ عَنْهُ فَأنْتَ حَكيمُ

فَهُناكَ يُقْبَلُ ما تَقولُ وَيُقْتَدى

بِالقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْليمُ

لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ

عارٌ عَلَيْكَ إذا فَعَلْتَ عَظيمُ

لمَّا جَلَسَ عَبْدُ الواحِدِ بنُ زَيْدٍ للوعظِ؛ أتَتْهُ امرأةٌ مِن الصَّالحاتِ فأنْشَدَتْهُ:

يا واعِظًا قامَ لاحْتِسابٍ

يَزْجُرُ قَوْمًا عَنِ الذُّنوبِ

تَنْهى وَأنْتَ المُريبُ حقًّا

هذا مِنَ المُنكَرِ العَجيبِ

لَوْ كُنْتَ أصْلَحْتَ قَبْلَ هذا

عَيْبَكَ أوْ تُبْتَ مِنْ قَريبِ

كانَ لِما قُلْتَ يا حَبيبي

مَوْقِعُ صِدْقٍ مِنَ القُلوبِ

تَنْهى عَنِ الغَيِّ وَالتَّمادي

وَأنْتَ في النَّهْيِ كَالمُريبِ

لمَّا حاسَبَ المتَّقونَ أنفسَهُم؛ خافوا مِن عاقبةِ الوعظِ والتَّذكيرِ.

قالَ رجلٌ لابنِ عَبَّاسٍ: أريدُ أنْ آمُرَ بالمعروفِ وأنْهى عن المنكر. فقالَ لهُ: إنْ لمْ تَخْشَ أنْ تَفْضَحَكَ هذهِ الآياتُ الثَّلاثُ؛ فافْعَلْ، وإلَّا؛ فأبْدَأْ بنفسِكَ. ثمَّ تَلا:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44]، وقولَهُ تَعالى:{لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]. وقولَهُ حكايةً عن شُعَيْبٍ عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].

(1)

هذا البيت من البحر الطويل، والأبيات التي تليه من البحر الكامل، وهذا يدل على ضرورة فصله عن تلك المقطوعة لأنه لا ينتمي إليها.

(2)

في خ: "يا أيها الرجل المعلم

ذا التعليم"، وفوق "المعلم" "المقوم" وفوق "التعليم" "التقويم". وأثبتّ ما في م ون وط.

ص: 56

قالَ النَّخَعِيُّ: كانوا يَكْرَهونَ القَصَصَ لهذهِ الآياتِ الثَّلاثِ.

قيلَ لمُوَرِّقٍ العِجْلِيِّ

(1)

: ألا تَعِظُ أصْحابَكَ؟ قال: أكْرَهُ أنْ أقول ما لا أفْعَلُ.

تَقَدَّمَ بعضُ الصَّالحينَ لِيُصَلِّي بالنَّاسِ إمامًا، فالْتَفَتَ إلى المأْمومينَ يُعَدِّل الصُّفوفَ وقال: اسْتَوُوا! فغُشِيَ عليهِ، فسُئِلَ عن سببِ ذلكَ، فقال: لمَّا قُلْتُ لهُمُ: اسْتَقيموا؛ فَكَّرْتُ في نفسي فقُلْتُ لَها: فأنتِ، هلِ اسْتَقَمْتِ معَ اللهِ طرفةَ عينٍ

(2)

؟

ما كُلُّ مَنْ وَصَفَ الدَّوا يَسْتَعْمِلُهْ

وَلا كُلُّ مَنْ وَصَفَ التُّقى [هُوَ] ذو تُقى

(3)

وَصَفْتُ التُّقى حَتَّى كَأنِّيَ ذو تُقى

وَريحُ الخَطايا مِن ثِيابِيَ تَسْطَعُ

ومعَ هذا كلِّهِ فلا بُدَّ للنَّاسِ مِن الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكرِ والوعظِ والتَّذكيرِ، ولو لمْ يَعِظِ النَّاسَ إلَّا معصومٌ مِن الزَّللِ؛ لمْ يَعِظْ بعدَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم أحدٌ؛ لأنَّهُ لا عصمةَ لأحدٍ بعدَهُ.

لَئِنْ لَمْ يَعِظِ العاصِينَ مَنْ هُوَ مُذْنِبُ

فَمَنْ يَعِظُ العاصِينَ بَعْدَ مُحَمَّدِ

(4)

ورَوى ابنُ أبي الدُّنيا بإسناد فيهِ ضعفٌ: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"مُروا بالمعروفِ وإنْ لمْ تَعْمَلوا بهِ كلِّهِ، وانْهَوْا عن المنكرِ وإنْ لمْ تَنْتَهوا عنهُ كلِّهِ"

(5)

.

(1)

في خ و ن: "لمطرّف العجلي"! وجاء فوقها في ن: "لمورّق". وجاءت في م وط على الجادّة.

(2)

فأبقِ هذا سرًّا بينك وبين ربك ولا تبح به للخلق! ما أكثر ما كان يغشى على أصحاب الدعاوى.

(3)

في ن: "الدواء استعمله"، وأثبتّ ما في خ وم، وأضفت [هو] ليستقيم الوزن.

(4)

صدر البيت غير مستقيم وزنًا، وعجزه من الطويل.

(5)

(ضعيف جدًّا). رواه ابن أبي الدنيا في "المعروف"(2283 - ضعيفة) والبيهقي في "الشعب"(7570) من طريق طلحة بن عمرو المكّي، ورواه ابن عديّ في "الكامل"(6/ 2300) ثنا محمَّد بن أحمد بن عيسى المرّوذي ثنا الحسن بن عرفة ثنا المحاربي عن العلاء بن المسيّب؛ كلاهما عن عطاء، عن أبي هريرة

رفعه. قال ابن عدي: "غير محفوظ". قلت: في طريق البيهقي وابن أبي الدنيا طلحة المكيّ متروك، وفي طريق ابن عديّ المرّوذي وضّاع. ومن هنا يتبين لك ما في قول ابن رجب رحمه الله:"بإسناد فيه ضعف"!

ورواه: الطبراني في "الصغير"(982) و "الأوسط"(6624)، وابن عساكر في "التاريخ"(36/ 432)؛ من طريق محمّد بن عبد الله بن محمَّد بن عثمان الأنصاري، ثنا عبد القدّوس بن عبد السلام بن عبد القدّوس بن حبيب الكلاعيّ، عن أبيه، عن جدّه، عن الحسن، عن أنس

رفعه. قال الطبراني: "لم يروه عن الحسن إلّا عبد القدوس، تفرّد به ولده". وقال الهيثمي (7/ 280): فيه "عبد السلام بن عبد القدّوس بن حبيب عن أبيه وهما ضعيفان". قلت: قصّر يرحمه الله تعالى: الأنصاريّ وعبد القدّوس الحفيد مجهولان، وعبد السلام متروك، وعبد القدّوس الجد كذاب.

ص: 57

وقيلَ للحَسَن: إنَّ فلانًا لا يَعِظُ وتقولُ: أخافُ أنْ أقولَ ما لا أفْعَلُ. [فـ]ـقالَ الحَسَنُ: وأيُّنا يَفْعَلُ ما يَقولُ؟! وَدَّ الشَّيطانُ أنَّهُ قدْ ظَفِرَ بهذا فلمْ يَأْمُرْ أحدٌ بمعروفٍ ولمْ يَنْهَ عن منكرٍ.

وقال مالِكٌ: عن رَبيعَةَ، قال سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: لو كانَ المرءُ لا يَأْمُرُ بالمعروفِ ولا يَنْهى عن المنكرِ حتَّى لا يَكونَ فيهِ شيءٌ؟ ما أمَرَ أحدٌ بمعروفٍ ولا نَهى عن منكرٍ. قال مالِكٌ: وصَدَقَ، ومَن [ذا] الذي ليسَ فيهِ شيءٌ؟!

مَنْ ذا الَّذي ما ساءَ قَطْ

وَمَنْ لَهُ الحُسْنى فَقَطْ

(1)

خَطَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ رحمه الله يومًا، فقال في موعظتِهِ: إنِّي لأقولُ هذهِ المقالةَ وما أعْلَمُ عندَ أحدٍ مِن الذُّنوبِ أكثرَ ممَّا أعْلَمُ عندي، فأسْتَغْفِرُ الله وأتوبُ إليهِ.

وكَتَبَ إلى بعضِ نوَّابِهِ على بعضِ الأمصارِ كتابًا يَعِظُهُ فيهِ فقال في آخرِهِ: وإنِّي لأعِظُكَ بهذا، وإنِّي لكثيرُ الإسرافِ على نفسي، غيرُ مُحْكِمٍ لكثيرٍ مِن أمري، ولو أن المرءَ لا يَعِظُ أخاهُ حتَّى يُحْكِمَ نفسَهُ؛ إذًا لتَواكَلَ النَّاسُ الخيرَ

(2)

، وإذا لَرُفعَ الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المنكرِ، وإذًا لاسْتُحِلَّتِ المحارمُ وقَلَّ الواعظونَ والسَّاعون للهِ بالنَّصيحةِ في الأرضِ، والشَّيطانُ وأعوانُهُ يَوَدُّونَ أنْ لا يَأمُرَ أحدٌ بمعروفٍ ولا يَنْهى عن منكرٍ، وإذا أمَرَهُمْ أحدٌ أو نَهاهُمْ؛ عابوهُ بما فيهِ وبما ليسَ فيهِ، كما قيلَ:

وَأُعْلِنَتِ الفَواحِشُ في البَوادي

وَصارَ النَّاسُ أعْوانَ المُريبِ

إذا ما عِبْتُهُمْ عابوا مَقالي

لِما في القَوْمِ مِنْ تِلْكَ العُيوبِ

وَوَدُّوا لَوْ كَفَفْنا فَاسْتَوَيْنا

فَصارَ النَّاسُ كَالشَّيْءِ المَشوبِ

وَكُنَّا نَسْتَطِبُّ إذا مَرِضْنا

فَصارَ هَلاكُنا بِيَدِ الطَّبيبِ

كانَ بعضُ العلماءِ المشهورينَ لهُ مجلسٌ للوعظِ، فجَلَسَ فيهِ يومًا، فنَظَرَ إلى مَن

= فحديث أبي هريرة ساقط بوجهيه، وحديث أنس دونه بكثير، واجتماعهما لا يفيد الحديث شيئًا، وقد مال إلى ضعفه ابن عدي والهيثمي، وقال الألباني:"ضعيف جدًّا".

(1)

زاد في حاشية خ هنا: "محمد الهادي الذي عليه جبريل هبط".

(2)

يعني: ترك كلّ واحد من الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لغيره بحجّة أنّه عاصٍ لله تعالى لا يليق أن يتولّى هذه المهمة.

ص: 58

حولَهُ - وهُم خلقٌ كثيرٌ وما منهُم إلَّا مَن قد رَقَّ قلبُهُ أو دَمَعَتْ عينُهُ -، فقالَ لنفسِهِ فيما بينَهُ وبينَها: كيفَ بكِ إنْ نَجا هؤلاءِ وهَلَكْتِ أنتِ؟ ثمَّ قالَ في نفسِهِ: اللهمَّ! إنْ قَضَيْتَ عليَّ غدًا بالعذابِ؛ فلا تُعْلِمْ هؤلاءِ بعذابي؛ صيانةً لكرمِكَ لا لأجلي؛ لئلَّا يُقالَ: عَذَّبَ مَن كانَ في الدُّنيا يَدُلُّ عليهِ. إلهي! قدْ قيلَ لنبيِّكَ صلى الله عليه وسلم: اقْتُلِ ابنَ أبيٍّ المنافقَ! فقالَ: "لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أن مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أصحابَهُ"

(1)

، فامْتَنَعَ مِن عقابِهِ لمَّا كانَ في الظَّاهرِ يُنْسَبُ إليهِ، وأنا على كلِّ حالٍ فإليكَ أُنْسَبُ.

زَوَّرَ رجلٌ شفاعةً إلى بعضِ الملوكِ على لسانِ بعضِ أكابرِ الدَّولةِ، فاطَّلَعَ المزوَّرُ عليهِ على الحالِ، فسَعى عندَ الملكِ في قضاءِ تلكَ الحاجةِ واجْتَهَدَ حتَّى قُضِيَتْ، ثمَّ قالَ للمزوِّرِ عليهِ: ما كنَّا نُخَيِّبُ مَن عَلَّقَ أملَهُ بنا ورَجا النَّفعَ مِن جهتِنا.

إلهي! فأنتَ أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الرَّاحمين، فلا تُخَيِّبْ مَن عَلَّقَ أملَهُ ورجاءَهُ بكَ وانْتَسَبَ إليكَ ودَعا عبادَكَ إلى بابِكَ، و [إنْ] كانَ متطفِّلًا على كرمِكَ ولمْ يَكُنْ أهلًا للسَّمسرةِ بينَكَ وبينَ عبادِكَ، لكنَّـ[ـهُ]، طَمعَ في سعةِ جودِكَ وكرمِكَ، فأنتَ أهلُ الجودِ والكرمِ، وربَّما اسْتَحْيا الكريمُ مِن رَدِّ مَن تَطَفَّلَ على سِماطِ كرمِهِ.

إنْ كُنْتُ لا أصْلُحُ لِلْقُرْبِ

فَشَأْنكُمْ صَفْح عَنِ الذَّنْبِ

• وقولُهُ صلى الله عليه وسلم: "لو لمْ تذْنِبوا؛ لجاءَ اللهُ بخلقٍ جديدٍ حتَّى يُذْنِبوا فيَغْفِرَ لهُم":

وخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ

(2)

مِن وجهٍ آخرَ: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"لو لمْ تُذْنِبوا؛ لَذَهَبَ اللهُ بكم، ثمَّ جاءَ بقومٍ يُذْنِبونَ ثمَّ يَسْتَغْفِرونَ فيَغْفِرُ لهُم".

ومِن حديثِ: أبي أيُّوبَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ [قالَ]:"لولا أنَّكُم تُذْنِبونَ؛ لَخَلَقَ اللهُ خلقًا يُذْنِبونَ، ثمَّ يَغْفِرُ لهُم". وفي رواية [لهُ] أيضًا: "لو لمْ يَكُنْ لكُم ذنوبٌ يَغْفِرُها اللهُ؛ لَجاءَ اللهُ بقومٍ لهُم ذنوبٌ، فيَغْفِرُها لهُم"

(3)

.

(1)

رواه: البخاري (61 - المناقب، 8 - ما ينهى من دعوى الجاهليّة، 6/ 546/ 3518)، ومسلم (45 - البرّ، 16 - نصر الأخ، 4/ 1998/ 2584)؛ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(2)

(49 - التوبة، 2 - سقوط الذُّنوب بالاستغفار، 4/ 2106/ 2749).

(3)

وكلا الروايتين عند مسلم (الموضع السابق، 4/ 2105/ 2748).

ص: 59

والمرادُ بهذا أنَّ للهِ حكمةً في إلقاءِ الغفلةِ على قلوبِ عبادِهِ أحيانًا حتَّى يَقَعَ مِنهم بعضُ الذُّنوبِ؛ فإنَّهُ لوِ اسْتَمَرَّ [تْ] لهُمُ اليقظةُ التي يكونونَ عليها في حالِ سماعِ الذِّكرِ؛ لَما وَقَعَ منهُم ذنبٌ. وفي إيقاعِهِم في الذُّنوبِ أحيانًا فائدتانِ عظيمتانِ

(1)

:

إحداهما: اعترافُ المذنبينَ بذنوبِهِم وتقصيرِهِم في حقِّ مولاهُم وتنكيسُ رؤوسِ عُجْبِهِم، وهذا أحَبُّ إلى اللهِ مِن فعلِ كثيرٍ مِن الطَّاعاتِ؛ فإنَّ دوامَ الطَّاعاتِ قدْ يوجِبُ لصاحبِها العُجْبَ.

وفي الحديثِ: "لو لمْ تُذْنِبوا؛ لَخَشِيتُ عليكُم ما هوَ أشدُّ مِن ذلكَ؛ العُجْبَ"

(2)

.

قالَ الحَسَن: لو أن ابنَ آدمَ كلَّما قالَ أصابَ وكلَّما عَمِلَ أحْسَنَ؛ أوْشَكَ أنْ يُجَنَّ مِن العُجْبِ.

قالَ بعضُهُم: ذنبٌ أفْتَقِرُ بهِ إليهِ أحَبُّ إليَّ مِن طاعةٍ أدلُّ بها عليهِ.

أنينُ المذنبينَ أحَبُّ إليهِ مِن زَجَلِ المسبِّحينَ

(3)

؛ لأنَّ زَجَلَ المسبِّحينَ ربَّما شابَهُ الافتخارُ، وأنينُ المذنبينَ يَزِينُهُ الانكسارُ والافتقارُ.

(1)

فصّل ابن القيّم في الحكم الإلهيّة في قضاء المعصية على العباد فأتى بفوائد فذّة وبدائع مطربة.

فانظرها في: "مدارج السالكين"(1/ 279) و "مفتاح دار السعادة"(1/ 77).

(2)

(حسن). رواه: البزار (3633 كشف)، والعقيلي (2/ 159)، وابن عديّ في "الكامل"(3/ 1152)، والقضاعي في "الشهاب"(1447)، والبيهقي في "الشعب"(7255)؛ من طريقين قويتين، عن سلام بن أبي الصهباء، عن ثابت، عن أنس

رفعه.

قال البزار: "لا نعلم رواه عن ثابت إلّا سلّام، وهو مشهور". وقال العقيلي: "لا يتابع عليه عن ثابت، وقد روي بغير هذا الإسناد بإسناد صالح". وقال المنذري والهيثمي: "إسناده جيد". قلت: هو كذلك إن كان سلّام بن أبي الصهباء هو سلّام بن سليمان المزني المترجم في "التهذيب"، وهو وجيه جدًّا. وإن كان غيره؛ فحديثه لا يعدو أن يكون صالحًا في الشواهد. ولهذا قال الذهبي عقبه في "الميزان" (2/ 180):"ما أحسنه من حديث لو صحّ". وتعقّبه الألباني في "الصحيحة"(658) بقوله: "هو حسن على الأقل بشاهده الآتي وغيره؛ فقد أخرجه أبو الحسن القزويني في "الأمالي" (12/ 1) عن كثير بن يحيى، ثنا أبي، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد

مرفوعًا. وهذا إسناد لا بأس به في الشواهد، رجاله ثقات، غير يحيى والد كثير، وهو يحيى بن كثير أبو النضر صاحب البصري، قال الحافظ: ضعيف".

وجملة القول أنه: إن كان ابن أبي الصهباء هو سلّام بن سليمان المزني؛ فالحديث فوق الحسن، وإن كانا اثنين؛ فالحديث حسن بشاهده، وقد مال إلى تقويته العقيلي والمنذري والهيثمي والمناوي والألباني.

(3)

زجل المسبّحين: أصواتهم عند التسبيح.

ص: 60

في حديثٍ: "إنَّ الله لَيَنْفَعُ العبدَ بالذَّنبِ يُذْنِبُهُ"

(1)

.

قالَ الحَسَنُ: إنَّ العبدَ لَيَعْمَلُ الذَّنبَ فلا يَنْساهُ ولا يَزالُ متخوِّفًا منهُ حتَّى يَدْخُلَ الجنَّةَ.

المقصودُ: مِن زللِ المؤمنِ ندمُهُ، ومِن تفريطِهِ أسفُهُ، ومنِ اعوجاجِهِ تقويمُهُ، ومِن تأخُّرِهِ تقديمُهُ، ومِن زلقِهِ في هوَّةِ الهوى أنْ يُؤْخَذَ بيدِهِ فيُنَجَّى إلى نجوةِ النَّجاةِ، كما قيلَ:

قُرَّةَ عَيْني لا بُدَّ لي مِنْكَ وإنْ

أوْحَشَ بَيْني وَبَيْنَكَ الزَّلَلُ

قُرَّةَ عَيْني أنا الغَريقُ فَخُذْ

كَفَّ غَريق عَلَيْكَ يَتَّكِلُ

الفائدةُ الثَّانيةُ: حصولُ المغفرةِ والعفوِ مِن اللهِ تَعالى لعبدِهِ؛ فإنَّ الله يُحِبُّ أنْ يَعْفُوَ ويَغْفِرَ، ومِن أسمائِهِ الغفَّارُ والعفوُّ والتَّوَّابُ

(2)

، فلو عَصَمَ الخلقَ؛ فلِمَن كانَ يَكونُ العفوُ والمغفرةُ؟

قالَ بعضُ السَّلفِ: أوَّلَ ما خَلَقَ اللهُ القلمَ كَتَبَ: إنِّي أنا التَّوَّاب، أتوبُ على مَن تاب.

قالَ أبو الجَلْدِ: قالَ رجلٌ مِن العاملينَ للهِ بالطَّاعةِ: اللهمَّ! أصْلِحْني صلاحًا لا فسادَ عليَّ بعدَهُ. فأوْحى اللهُ إليهِ أن عبادِيَ المؤمنينَ كلَّهُم يَسْألونَني مثلَ ما سَألْتَ، فإذا أصْلَحْتُ عبادي كلَّهُم؛ فعلى مَن أتَفَضَّلُ وعلى مَن أجودُ بمغفرتي؟!

كانَ بعضُ السَّلفِ تقولُ: لو أعْلَمُ أحبَّ الأعمالِ إلى اللهِ؛ لأجْهَدْتُ نفسي فيها. فرَأى في منامِهِ قائلًا يَقولُ لهُ: إنَّكَ تُريدُ ما لا يَكونُ، إن الله يُحِبُّ أنْ يَغْفِر

(3)

.

(1)

(ضعيف). رواه: العقيلي في "الضعفاء"(4/ 258)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 198 و 199)، والقضاعي في "الشهاب"(1095)، وابن الجوزي في "الواهيات"(1315)؛ من طريق قوية، عن مضر بن نوح السلمي، ثنا عبد العزيز بن أبي روّاد، عن نافع، عن ابن عمر

رفعه.

وهذا سند ضعيف من أجل مضر هذا؛ فإنه مجهول لا يعرف بالنقل، وجاء بحديث لم يشاركه فيه أحد، ولذلك ضعّفه العقيلي وابن الجوزي والذهبي والعراقي والعسقلاني والمناوي والألباني.

(2)

في خ: "الغفّار والغفور والتوّاب"، والأولى ما أثبته من م ون وط.

(3)

يتوسع ابن رجب رحمة الله عليه في هذا الكتاب في استعمال عبارة "بعض السلف" لتشمل كثيرًا من العباد والزهاد والصوفية! وقد سأل بعض الصحابة رضوان الله عليهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أحب الأعمال إلى الله =

ص: 61

قالَ يَحْيى بنُ مُعاذٍ: لو لمْ يَكُنِ العفوُ أحبَّ الأشياءِ إليه؛ لم يَبْتَلِ بالذَّنبِ أكرمَ الخلقِ عليه.

يا رَبِّ أنْتَ رَجائي

وفيكَ أحْسَنْتُ ظَنِّي

يا رَبِّ فَاغْفِرْ ذُنوبي

وَعافِني وَاعْفُ عَنِّي

العَفْوُ مِنْكَ إلهي

وَالذَّنْبُ قَدْ جاءَ مِنِّي

وَالظَّنُّ فيكَ جَميلٌ

حَقِّقْ بِحَقِّكَ ظَنِّي

• وقولُهُ صلى الله عليه وسلم لأبي هُرَيْرَةَ - لمَّا سَألَهُ: ممَّ خُلِقَ الخلقُ، فقالَ لهُ:"مِن الماءِ" - يَدُلُّ على أن الماءَ أصلُ جميعِ المخلوقاتِ ومادَّتُها وجميعُ المخلوقاتِ خُلِقَتْ منهُ

(1)

.

وفي "المسندِ" مِن وجهٍ آخرَ عن أبي هُرَيْرَةَ؛ قالَ: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ! إذا رَأيْتُكَ؛ طابَتْ نفسي وقَرَّتْ عيني، فأنْبِئْني عن كلِّ شيءٍ. فقالَ:"كلُّ شيءٍ خُلِقَ مِن ماءٍ"

(2)

.

= فأجابهم في غير ما حديث صحيح بغير هذا الجواب الغريب العجيب! وفي هذا الجواب إشكال من جهة أنّ العفو هو من أحبّ أفعال الربّ تعالى إلى نفسه وليس هو أحبّ أفعال العباد إلى الربّ، فتأمّل الفرق.

(1)

زاد في حاشية خ هنا: "أورد السيوطي في كتاب

قال: خاتمة: أخرج الطبراني عن مسلم الهجري؛ قال: قلت لعبد الله بن عمرو: ممّ خلق الخلق؟ قال: من ماء وريح ونور وظلمة. فأتيت ابن عبّاس فسألته عن ذلك؟ فقال فيها كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهم. والله أعلم. وبها ختم كتابه".

(2)

(صحيح). رواه: إسحاق (1/ 184/ 133)، وأحمد (2/ 295 و 323 و 324 و 493)، وابن أبي الدنيا في "التهجّد"(4)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(الأنبياء، 30 - ابن كثير)، وابن حبّان (508 و 2559)، والحاكم (4/ 129 و 160)، وابن مردويه (الأنبياء 30 - الدرّ)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 59)، والبيهقي في "الشعب"(8051) و "الصفات"(808)؛ كلّهم من طريق همّام بن يحيى إلّا ابن أبي حاتم فمن طريق سعيد بن بشير، كلاهما عن قتادة، عن أبي ميمونة (ووقع في مسند إسحاق: هلال بن أبي ميمونة، وهو خطأ، فقد رواه ابن حبّان عن إسحاق نفسه على الجادة)، عن أبي هريرة

رفعه وزاد: قلت: يا رسول الله! أنبئني عن أمر إذا أخذت به دخلت الجنّة. قال: "أفش السلام وأطعم الطعام وصل الأرحام وقم بالليل والناس نيام وادخل الجنّة بسلام". وهذا سند يمكن أن يعلّ من أحد وجهين:

أشار إلى أولهما: ابن كثير بقوله: "رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلًا". قلت: لم أقف عليه، ولكن الوصل زيادة ثقة - وهو همَّام بن يحيى - تابعه عليها ضعيف - وهو سعيد بن بشير - فيتعيّن المصير إليها.

وأشار إلى الثاني الألباني في "الضعيفة"(1324) بقوله: "ضعيف. قال الدارقطني: أبو ميمونة عن أبي هريرة وعنه قتادة مجهول يترك

"، ثمّ ذكر تصحيح الحاكم والذهبي وقال: "مع أنّه أورد أبا ميمونة في "الميزان" ونقل عن الدارقطني ما ذكرته آنفًا من التجهيل وأقرّه". قال: "وأمّا الحاكم فلعله ظنّ أبا ميمونة هذا =

ص: 62

وقد حَكى ابنُ جَريرٍ وغيرُهُ عن ابن مَسْعودٍ وطائفةٍ مِن السَّلفِ: أن أوَّل المخلوقاتِ الماءُ.

وقد رَوى الجُوزْجانِيُّ بإسنادِهِ عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو؛ أنَّهُ سُئِلَ عن بدءِ الخَلْقِ. فقال: مِن ترابٍ وماءٍ وطينٍ ومِن نارٍ وظلمةٍ. فقيلَ لهُ: فما بدءُ الخلقِ الذي ذَكَرْتَ؟ قال: مِن ماءٍ يَنْبوعٍ.

وقد أخْبَرَ اللهُ في كتابِهِ أن الماءَ كانَ موجودًا قبلَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ، فقال:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}

= هو الفارسي وليس الأبّار أو أنّه ظنّ أنَّهما واحد، والراجح التفريق، وإليه ذهب الشيخان وأبو حاتم وغيرهم كالدارقطني؛ فإنّه وثّق الفارسيّ في "كناه"، قال الحافظ في "التهذيب" عقبه: وهذا ممّا يؤيّد أنّه غير الفارسيّ". قلت: هذا كلام طويل يحتاج إلى تفصيل:

[1]

فأمّا البخاريّ؛ فلم ينصّ على التفريق بين الرجلين، ولا أتى للفظة "الأبّار" في "الكنى"(ص 74) على ذكر، ولو كانا عنده اثنين لترجم لهما ترجمتين منفصلتين في "الكنى" تقطعان الشكّ. وأمّا قوله في "التاريخ"(4/ 129)"أراه الفارسيّ" فظن محض حمّال لأوجه، ولعلّه ترجم للأبّار ثمّ ختم بقوله "أراه الفارسي" يعني نفسه! [2] وأمّا مسلم؛ فقد تابع البخاريّ في "الكنى" حذو القذّة بالقذّة [3] ولم يصرّح الدارقطني بالتفريق بين الرجلين، وتجهيله صاحب قتادة وتوثيقه الآخر ليس بالدليل الحاسم، فما أكثر ما يذهل أهل الجرح والتعديل ويتردّدون في هذا الباب فيقوّون الرجل تارة ويضعّفونه أخرى. [4] وإيراد الذهبيّ لترجمة ما في "الميزان" لا تفيد بالضرورة إقراره إيّاها؛ فقد التزم فيه ألّا يخلّ بترجمة أوردها أصحاب الضعفاء حتّى لا تستدرك عليه، ولذلك رأيناه عندما ذكر خلاصة رأيه في المسألة في "الكاشف" يجعلهما رجلًا واحدًا ثقة. [5]، وكدلك فعل العسقلاني، فترجم لهما ترجمة واحدة في "التقريب" ثمّ قال:"ومنهم من فرّق بين الفارسيّ والأبّار"، ولم يجزم فيهما بقول. [6] وأمّا أبو حاتم وابنه فكلامهما في "الجرح"(2/ 284، 4/ 212، 9/ 447) ظاهر في أنّ الفارسي والأبار رجل واحد وليس العكس. [7]، وكذلك مال الإمام أحمد والمزّيّ إلى أنّهما رجل واحد. [8] ومن المستبعد - فيما أرى - أن يجتمع رجلان في مدينة واحدة في عصر واحد وعلى شيخ واحد وكنية واحدة ولا يعرف لكلّ منهما اسم ولا يروي كل منهما إلّا حديثًا واحدًا أو حديثين ثمّ لا يفرّق الرواة بينهما تفريقًا حاسمًا صريحًا! [9] وعلى فرض أنّهما أثنان؛ فينبغي أن يكون الأبّار ثقة كالفارسيّ ولا فرق؛ فقد قال ابن معين:"أبو ميمونة الأبّار صالح"، وتابعه أبو حاتم وابنه، وصحّح له ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم، فهذا أولى من تجهيل الدارقطني، ولا سيّما أنّه لم يأت بحديث منكر. [10]، وعلى فرض أنّه ضعيف مجهول، وأنّ السند كذلك، فهو حسن على الأقلّ بشاهده المتقدّم (ص 46) من حديث أبي هريرة نفسه. وقد صحّح هذا الحديث ابن حبّان والحاكم ووافقه الذهبي والمنذري، وقال ابن كثير:"على شرط الصحيحين؛ إلّا أنّ أبا ميمونة من رجال السنن، واسمه سليم، والترمذي يصحّح له"، وقال الهيثمي (5/ 19):"رجال الصحيح خلا أبي ميمونة وهو ثقة"، وقال العسقلاني في "الفتح" (5/ 29):"إسناده صحيح". وقوّاه شاكر.

ص: 63

[هود: 7].

وفي "صحيح البخاريِّ"

(1)

: عن عِمْرانَ بن حُصَيْنٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"كانَ اللهُ ولمْ يَكُنْ شيءٌ قبلَهُ (وفي روايةٍ: معَهُ)، وكانَ عرشُهُ على الماءِ، وكَتَبَ في الذِّكرِ كلَّ شيء، ثمَّ خَلَقَ السَّماواتِ والأرضَ".

وفي "صحيح مسلم"

(2)

: عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إن الله قَدَّرَ مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، وكانَ عرشُهُ على الماءِ".

ورَوى ابنُ جَريرٍ وغيرُهُ عن ابن عَبَّاس

(3)

: إنَّ الله عز وجل كانَ عرشُهُ على الماءِ، ولمْ يَخْلُقْ شيئًا غيرَ ما خَلَقَ قبلَ الماءِ، فلمَّا أرادَ أنْ يَخْلُقَ [الخلقَ]؛ أخْرَجَ مِن الماءِ دخانًا، فارْتَفَعَ فوقَ الماءِ فسَما عليهِ، فسُمِّيَ سماءً، ثمَّ أيْبَسَ الماءَ فجَعَلَهُ أرضًا واحدةً، ثمَّ فتَقَها فجَعَلَها سبعَ أرضينَ، ثمَّ اسْتَوى إلى السَّماءِ وهيَ دخانٌ، وكانَ ذلكَ الدُّخانُ مِن نَفَسِ الماءِ حينَ تنفَّسَ، [ثمَّ] جَعَلَها سماءً واحدةً، ثمَّ فَتَقَها فجَعَلَها سبعَ سماواتٍ.

وعَن وَهْبٍ: إنَّ العرشَ كانَ قبلَ أنْ تُخْلَقَ السَّماواتُ والأرضُ على الماءِ، فلمَّا أرادَ اللهُ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأرضَ؛ قَبَضَ مِن صفاءِ الماءِ قبضةً، ثمَّ فَتَحَ القبضةَ فارْتَفَعَتْ دخانًا، ثمَّ قَضاهُنَّ سبعَ سماواتٍ في يومينِ، ثمَّ أخَذَ طينةً مِن الماءِ فوَضَعَها في مكانِ البيتِ، ثمَّ دَحا الأرضَ منها.

والآثارُ في هذا البابِ كثيرةٌ

(4)

.

(1)

(59 - بدء الخلق، 1 - {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، 6/ 286/ 3190 و 3191).

(2)

(46 - القدر، 2 - حجاج آدم وموسى، 4/ 2044/ 2653).

(3)

بسند واهٍ.

(4)

وأغلبها روايات إسرائيليّة صريحة، وما أسند منها إلى الصحابة فأكثره لا يصحّ، وما صحّ منها عنهم فممّا تلقّوه عن أهل الكتاب. والتناقض هاهنا كبير لا يكاد الباحث المدقّق معه يخرج بغير الحيرة.

ومن العصمة النافعة والله أن يتمسك المرء هاهنا بالصحيح الصريح من المرفوعات - كقوله صلى الله عليه وسلم: "أوّل ما خلق الله القلم، ثمَّ قال له اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة" - ويكفّ عمّا وراء ذلك من التفاصيل التي ليس لها أثر عمليّ نافع في حياة المسلم ولا تعدو أن تكون صحيحة غير صريحة أو صريحة غير صحيحة، {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} .

ص: 64

وهذا كلُّهُ يُبَيِّنُ أن السَّماواتِ والأرضَ خُلِقَتْ مِن الماءِ.

والخلافُ في أنَّ الماءَ هل هوَ أوَّلُ المخلوقاتِ أم لا مشهورٌ: وحديثُ أبي هُرَيْرَةَ يَدُلُّ على أن الماءَ مادَّةُ جميعِ المخلوقاتِ. وقد دَلَّ القرآنُ على أن الماءَ مادَّةُ جميعِ الحيواناتِ: قالَ تَعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وقالَ تَعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45].

وقولُ مَن قالَ: إنَّ المرادَ بالماءِ النُّطفةُ التي يُخْلَقُ منها الحيواناتُ بعيدٌ؛ لوجهينِ:

أحدُهُما: أن النُّطفةَ لا تُسَمَّى ماءً مطلقًا بل مقيَّدًا: كقولهِ تَعالى: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 6 - 7]، وقولِهِ تَعالى:{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20].

والثَّاني: أن مِن الحيواناتِ ما يَتَوَلَّدُ مِن غيرِ نطفةٍ، كدودِ الخلِّ والفاكهةِ ونحوِ ذلكَ، فليسَ كل حيوانٍ مخلوقًا مِن نطفةٍ

(1)

، والقرآنُ دَلَّ على خلقِ جميعِ ما يَدُبُّ وما فيهِ حياةٌ مِن ماءٍ، فعُلِمَ بذلكَ أن أصلَ جميعِها الماءُ المطلقُ

(2)

.

ولا يُنافي هذا قولُهُ تَعالى {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27] وقولُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم "خُلِقَتِ الملائكةُ مِن نورٍ"

(3)

؛ فإن حديثَ أبي هُرَيْرَةَ دَلَّ على أن أصلَ النُّورِ والنَّارِ الماءُ، كما أن أصلَ التُّرابِ الذي خُلِقَ منهُ آدَمُ الماءُ؛ فإنَّ آدَمَ خُلِقَ مِن طينٍ، والطِّينُ ترابٌ مختلطٌ بماءٍ، والترابُ خُلِقَ مِن الماءِ، كما تَقَدَّمَ عن ابن عَبَّاسٍ وغيرِهِ

(4)

.

(1)

فيه نظر! والكيمياء الحيويّة الجريئيّة المعاصرة تؤكد وقوع التكاثر الجنسي في جميع الكائنات الحيّة الحيوانيّة والنباتية، ودود الخلّ والفاكهة وغيره ممّا هو فوقه أو دونه خاضع لهذه العمومية.

(2)

ويمكن أن يضاف هاهنا أيضًا أن لفظة "ماء" إذا أطلقت فإنما تنصرف إلى الماء الذي يسقط من السماء وتجري به الينابيع والأنهار، والأصل أن لا يصرف اللفظ عن ظاهره إلّا بقرينة، ولا قرينة. ثمّ هذه النطفة؛ أليست ماء؟! ألا تسبح في الماء؟!

(3)

رواه مسلم (53 - الزهد، 10 - أحاديث متفرّقة، 4/ 2294/ 2996) من حديث عائشة.

(4)

ويشهد له حديثًا أبي هريرة وابن عمرو الصحيحان اللذان تقدّما آنفًا.

ص: 65

وزَعَمَ مُقاتِلٌ أن الماءَ خُلِقَ مِن النُّورِ! وهوَ مردودٌ بحديثِ أبي هُرَيْرَةَ هذا وغيرِهِ.

ولا يُسْتَنكرُ خَلْقُ النَّارِ مِن الماءِ؛ فإنَّ الله بقدرتِهِ جَمَعَ بينَ الماءِ والنَّارِ في الشَّجرِ الأخضرِ، وجَعَلَ ذلكَ مِن أدلَّةِ القدرةِ على البعثِ. وقد ذَكَرَ الطَّبائعيُّونَ أن الماءَ بانحدارِهِ يَصيرُ بخارًا، والبخارُ يَنْقَلِبُ هواءً، والهواءُ يَنْقَلِبُ نارًا

(1)

. واللهُ أعلمُ.

• وقولُهُ صلى الله عليه وسلم لأبي هُرَيْرَةَ حينَ سألَهُ عن بناءِ الجنَّةِ فقالَ: "لَبِنَةٌ مِن ذهبٍ، ولَبِنَةٌ مِن فضَّةٍ، وملاطُها المسكُ الأذفرُ، وحصباؤُها اللؤلؤُ والياقوتُ، وتربتُها الزَّعفرانُ".

وقد رُوِيَ أيضًا هذا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن حديثِ أبنِ عُمَرَ مرفوعًا

(2)

، خَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ. فهذهِ أربعةُ أشياءَ:

• أحدُها: بناءُ الجنَّةِ: ويُحْتَمَل أن المرادَ بنيانُ قصورِها ودورِها، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بناءُ حائطِها وسورِها المحيطِ بها، وهوَ أشبهُ.

وقد رُوِيَ مِن وجهٍ آخرَ عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا وموقوفًا - وهوَ أشبهُ -: "حائطُ الجنَّةِ لبنةٌ مِن فضَّةٍ ولبنةٌ مِن ذهبٍ، ودرجُها الياقوتُ واللؤلؤُ". [قال]: وكُنَّا نَتَحَدَّثُ أن رَضْراضَ أنهارِها اللؤلؤُ وترابَها الزَّعفرانُ

(3)

.

(1)

نظريّات قديمة مبنية على الحدس والأوهام أسقطها العلم الحديث. نعم؛ من غير المستنكر اليوم أن يتحول الماء بتأثير الصواعق أو الشحنات الكهربائية القويّة إلى شوارد قابلة للاشتعال. وإنّما ذكرت ذلك توثيقًا لكلام ابن رجب رحمة الله عليه، وإلّا؛ فالمعتمد عند أهل السنّة أنّ الحديث الصحيح حجّة قائمة بنفسها لا تحتاج إلى دليل علميّ لتوثيقها.

(2)

(صحيح بشواهده). رواه: ابن أبي شيبة (33944)، وابن أبي الدنيا في "الجنّة"(12)، وابن الأعرابي في "المعجم"، والطبراني في "الكبير"(10/ 400 - مجمع)، وابن مردويه (10/ 496 - بداية ونهاية)، وأبو نعيم في "الجنة"(96 و 139 و 238)؛ من طريق أبي ربيعة عمر بن ربيعة الإيادي، عن الحسن، عن ابن عمر

رفعه. قال البوصيري: "إسناد حسن". وقال الهيثمي: "رواه الطبراني بإسناد حسّن الترمذي لرجاله". قلت: أبو ربيعة لا يعدو أن يكون صالحًا في الشواهد، والحسن عنعن على تدليسه.

لكن يشهد له حديث أبي هريرة الطويل المتقدم (ص 46).

ولهذه القطعة طريق أُخرى عن أبي هريرة عند: ابن طهمان في "مشيخته"(33)، وأحمد (2/ 362)، والبزّار (3509 - كشف)، والطبراني في "الأوسط"(2553)، وأبي نعيم في "الحلية"(2/ 248 و 249) وفي "الجنّة"(137 و 138)، والبيهقي في "البعث"(256 و 257)؛ من طريقين إحداهما قويّة، عن العلاء بن زياد العدوي، عن أبي هريرة

رفعه. قال الهيثمي (10/ 397): "رجاله رجال الصحيح"، وصحّحه العسقلاني.

(3)

(صحيح). يرويه قتادة واختلف عليه فيه على ثلاثة أوجه: روى أولها: معمر في "الجامع" =

ص: 66

وفي "مسند البزَّار": عن أبي سَعيدٍ مرفوعًا: "خَلَقَ اللهُ الجنَّةَ لبنةً مِن فضَّةٍ ولبنةً مِن ذهبٍ، ومِلاطُها المسكُ، فقالَ لها: تَكَلَّمي، فقالَتْ: قدْ أفْلَحَ المؤمنونَ، فقالَتِ الملائكةُ: طوبى لكِ منزلَ الملوكِ"

(1)

.

وممَّا يُبيِّنُ أن المرادَ ببناءِ الجنَّةِ في هذهِ الأحاديثِ بناءُ سورِها المحيطِ بها:

ما في الصَّحيحين

(2)

: عن أبي موسى، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "جنَّتانِ مِن ذهبٍ

= (20875)، وابن أبي الدنيا، ونعيم بن حمّاد في "زوائد الزهد"(252)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 249) تعليقًا، والبغوي في "السنّة"(4391)؛ من طريق معمر، عن قتادة، عن العلاء بن زياد، عن أبي هريرة

وقفه. وروى الثاني: نعيم في "زوائد الزهد"(251) عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن أبي هريرة

وقفه. وروى الثالث: ابن طهمان في "مشيخته"(33)، وأبو نعيم في "الجنّة"(138)، والبيهقي في "البعث"؛ من طريق مطر الورّاق، عن العلاء، عن أبي هريرة

رفعه بنحوه.

ومن الواضح هنا أنّ الوجه الأوّل هو أرجح الأوجه؛ لأنّ معمرًا ثقة ثبت، فوصله للحديث زيادة معتبرة يتعين المصير إليها. والوجه الثاني يزيده قوّة. وأمّا الرفع؛ فتفرّد به مطر الورّاق وهو ضعيف، فالرفع هنا منكر.

ومع ذلك؛ فلهذا المتن حكم الرفع لأمور: أولاها: أنّه لا يقال اجتهادًا. والثاني: أنّه وقع في بعض المصادر "وكنّا نحدّث"، فهذا يرجّح أنّ له حكم الرفع. والثالث: أنّ لأكثره شواهد مرفوعة صحيحة.

(1)

(صحيح). يرويه سعيد الجريري واختلف عليه فيه على أوجه: روى أوّلها: ابن أبي الدنيا في "الجنّة"، والبزّار (3508 - كشف)، والطبراني في "الأوسط"(3713)، وأبو الشيخ، وأبو نعيم، في "الحلية"(6/ 204) و"الجنّة"(140 و 237)، والمخلص في "الفوائد"، والبيهقي في "البعث"(214)؛ من طريق عديّ بن الفضل، عن الجريريّ، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد

رفعه. قال البزّار: "لا نعلم أحدًا رفعه إلّا ابن الفضل وليس بالحافظ". قلت: قصّر يرحمه الله فإنه متروك. وقال أبو نعيم: "تفرّد به الجريري عن أبي نضرة، فرواه وهيب بن خالد عن الجريري نحوه". قلت: اختلفت الرواية عن وهيب فجاءت مرة بالرفع عند البيهقي في "البعث"(261) ومرّة بالوقف كما سيأتي. وروى الثاني: البزّار (3507 - كشف) من طريق قويّة عن حمّاد بن سلمة، وأبو نعيم في "الجنة"(237) من طريق قويّة عن وهيب بن خالد، كلاهما عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد

وقفه. وهذا قوفي. وروى الثالث: يحيى في "زوائد الزهد"(1457) من طريق الخفّاف، أنا أبو مسعود، عن أبي نضرة

وقفه. وهذا لا بأس به من أجل الخفّاف؛ ففي حفظه شيء.

ومن البيّن هنا أن الوجه الثاني هو أرجح الأوجه: لتتابع ثقتين عليه خلافًا للأول ولأنّ فيه زيادة ثقة يتعيّن المصير إليها خلافًا للثالث. فالمعروف إذا في هذا المتن وقفه على أبي سعيد ورفعه منكر. ومع ذلك فالمسألة لا تعدو أن تكون اصطلاحية؛ لأن للموقوف هنا حكم الرفع لأنّه لا يقال إلّا بتوقيف، وقد أحسن الهيثمي إذ قال (10/ 400):"رجال الموقوف رجال الصحيح، وأبو سعيد لا يقول هذا إلا بتوقيف". ثمّ له شواهد أخرى بنحوه مرفوعة ستأتي قريبًا.

(2)

البخاري (97 - التوحيد، 24 - وجوه يومئذ ناضرة، 13/ 423/ 7444)، ومسلم (1 - الإيمان، 80 - رؤية المؤمنين ربهم، 1/ 163/ 180).

ص: 67

آنيتُهُما وما فيهِما، وجنَّتانِ مِن فضَّةٍ آنيتُهُما وما فيهِما".

وقد رُوِيَ عن أبي موسى مرفوعًا وموقوفًا: "جنَّتانِ مِن ذهبٍ للمقرَّبينَ، وجنَّتانِ مِن فضَّةٍ لأصحابِ اليمينِ"

(1)

.

وفي "الصَّحيحِ"

(2)

أيضًا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قالَ: "إنَّها جنانٌ كثيرةٌ". وقد رُوِيَ أن بناءَ بعضِها مِن درٍّ وياقوتٍ:

خَرَّجَ ابنُ أبي الدُّنيا من حديثِ أنسٍ مرفوعًا: "خَلَقَ اللهُ جنَّةَ عدنٍ بيدِهِ؛ لَبِنةً مِن درَّةٍ بيضاءَ ولَبِنَةً مِن ياقوتةٍ حمراءَ ولَبِنَةً مِن زَبَرْجَدَةٍ خضراءَ، مِلاطُها المسكُ وحصباؤُها اللؤلؤُ وحشيشُها الزَّعفرانُ، ثمَّ قالَ لها: انْطِقي! قالَتْ: قدْ أفْلَحَ المؤمنونَ. قالَ: وعزَّتي لا يُجاوِرُني فيكِ بخيلٌ"

(3)

.

(1)

(صحيح موقوفًا منكر مرفوعًا). وقد اختلف في متن هذا الحديث وفي رفعه:

* فرواه: الطبري (33089)، وابن أبي حاتم (13/ 431 - فتح الباري)، وابن مردويه (الرحمن 46 - در)، والبيهقي في "البعث"(10/ 489 - بداية)؛ من طريق مؤمّل، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبي موسى

فذكره بلفظ الترجمة. قال حمّاد: لا أعلمه (يعني: ثابتًا) إلّا رفعه. قال العسقلاني: "رجاله ثقات". قلت: مؤمّل كثير الخطأ لا يعدو أن يكون صالحًا في الشواهد، فإن كان ابن أبي حاتم وابن مردويه روياه من طريقه - وهو الغالب الراجح - فالسند ضعيف.

* ورواه أبو نعيم في "الجنة"(436) من طرق، عن الحارث بن عبيد، عن أبي عمران، عن أبي بكر بن أبي موسى، عن أبي موسى

رفعه بلفظ: "جنتان من ذهب للسابقين، وجنّتان من فضة للتابعين". والحارث بن عبيد كثير الخطأ لا يعدو أن يكون صالحًا في الشواهد، فالسند ضعيف.

* ورواه: ابن أبي شيبة (34803) والحاكم (2/ 474) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، والحاكم (1/ 84) من طريق آدم بن أبي إياس، وأبو نعيم في "الجنّة"(142) من طريق معاذ بن معاذ؛ ثلاثتهم عن حماد، عن ثابت أو عن أبي عمران أو عنهما، عن أبي بكر بن أبي موسى

به موقوفًا باللفظ الثاني.

فأما المتن؛ فالأمر فيه قريب ومعنى اللفظين واحد، وإن كان الأظهر أن ابن رجب ذكره بالمعنى.

والرفع عن حماد منكر له علل: أولاها: أنّه جاء على الشك لا يقينًا، والثانية: أنه تفرّد به مؤمل وهو سيئ الحفظ. والثالثة: أن الثقات خالفوه فرووه عنه موقوفًا. والرفع عن أبي عمران منكر أيضًا له علّتان: أولاهما: أنّه تفرد به الحارث وهو سيئ الحفظ، والثانية: أنّه خالفه الثقات فرووه عنه موقوفًا. فبان أن الصواب في هذا المتن الوقف، ورفعه منكر، وليس للموقوف هاهنا حكم الرفع؛ لأنّه قد يقال اجتهادًا من باب التفسير.

(2)

البخاري (56 - الجهاد، 14 - من أتاه سهم، 6/ 25/ 2809) من حديث أنس.

(3)

(موضوع). رواه: ابن أبي الدنيا في "الجنّة"(20)، وأبو نعيم في "الجنّة"(17) مختصرًا؛ من طريق محمَّد بن زياد بن زبار، ثنا بشر بن حسين، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس

رفعه.

ص: 68

ورَوى عَطِيَّةُ عن أبي سَعيدٍ؛ قالَ: إنَّ الله خَلَقَ جنَّةَ عدنٍ مِن ياقوتةٍ حمراءَ، ثمَ قالَ لَها: تَزَيَّني، فتَزَيَّنَتْ، ثمَّ قالَ لَها: تَكَلَّمي، فقالَتْ: طوبى لِمَن رَضِيتَ عنهُ، ثمَ أطْبَقَها وعَلَّقَها بالعرشِ، فهيَ تُفْتَحُ في كل سَحَرٍ، فذلكَ بردُ السَّحرِ

(1)

.

وعنِ ابن عَبَّاسٍ؛ قالَ: كانَ عرشُ اللهِ على الماءِ، ثمَّ اتَّخَذَ لنفسِهِ جنَّةً، ثمَّ اتَّخَذَ دونَها أُخرى، وطَبَّقهُما بلؤلؤةٍ واحدةٍ لا يَعْلَمُ الخلائقُ ما فيهِما، وهُما اللتانِ {لَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]

(2)

.

وذَكَرَ صَفْوانُ بنُ عَمْرٍو عن بعضِ مشايخِهِ؛ قالَ: الجنَّةُ مئةُ درجةٍ: أوَّلُها: درجةُ فضَّةٍ، وأرضُها فضَّةٌ، ومساكنُها فضَّةٌ، وترابُها المسكُ. والثانيةُ: ذهبٌ، وأرضُها ذهبٌ، وآنيتُها ذهبٌ، وترابُها المسكُ. والثَّالثةُ: لؤلؤٌ، [وأرضُها لؤلؤٌ]، وآنيتُها لؤلؤٌ، وترابُها المسكُ. وسبعٌ وتسعونَ بعدَ ذلكَ ما لا عينٌ رأتْ ولا أُذنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ. ثمَّ تَلا:{فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].

وفي الصَّحيحينِ

(3)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"يَقولُ اللهُ عز وجل: أعْدَدْتُ لعبادي الصَّالحينَ: ما لا عين رَأتْ، ولا اذن سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ". ثمَّ يَقولُ أبو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤوا إنْ شِئْتُمْ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].

وفي "صحيح مسلم"

(4)

: عن المُغيرَةِ بن شُعْبَةَ يَرْفَعُهُ: "سَألَ موسى رَبَّهُ؛ قالَ: يا ربِّ! ما أدنى أهلِ الجنَّةِ منزلةً؟ قالَ: هوَ رجلٌ يَجيءُ بعدَما أدْخِلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، فيُقالُ لهُ: أدْخُلِ الجنَّةَ، فيَقولُ: يا ربِّ! كيفَ وقد أخَذَ النَّاسُ منازلَهُم وأخَذوا

= وهذا سند ساقط: محمد بن زياد بن زبار الكلبي ضعيف في أحسن أحواله، وبشر بن حسين هو صاحب الزبير بن عديّ كذّاب وضاع، وقد سكت المنذري وابن كثير يرحمهما الله عن هذا السند، وضعّفه الألباني فحسب لأنه تحرف عليه اسم بشر هذا فلم يتبيّن حقيقة أمره وأن أحاديثه موضوعة.

(1)

رواية عطية العوفي عن أبي سعيد ساقطة، وهذا المتن أشبه بالموضوعات، وإنّما أشرت إلى ذلك على غير منهجي في الموقوفات حتى لا يقال: له حكم الرفع.

(2)

إن صحّ إلى ابن عباس - وما إخاله - فليس له حكم الرفع؛ لأنّه قد يقال جمعًا بين النصوص.

(3)

البخاري (59 - الخلق، 8 - الجتة، 6/ 318/ 3244)، ومسلم (51 - الجنّة، 4/ 2174/ 2824).

(4)

(1 - الإيمان، 84 - أدنى أهل الجنّة منزلة، 1/ 176/ 189).

ص: 69

أخَذاتِهِم؟ فيُقالُ لهُ: أتَرْضى أنْ يَكونَ لكَ مثلُ ملكٍ مِن ملوكِ الدُّنيا؟ فيَقولُ: رَضِيتُ يا ربِّ! فيَقولُ: لكَ ذلكَ ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ ومثلُهُ. فقالَ في الخامسةِ

(1)

: رَضِيتُ يا ربِّ! فيُقالُ: هذا لكَ وعشرةُ أمثالِهِ، ولكَ ما اشْتَهَتْ نفسُكَ ولَذَّتْ عينُكَ. فيَقولُ: رَضِيتُ ربِّ! قالَ: فأعلاهُم منزلةً؟ قالَ: أولئكَ الذينَ أرَدْتُ، غَرَسْتُ كرامتَهُم بيدي وخَتَمْتُ عليها، فلم تَرَ عينٌ ولم تَسْمَعْ أُذنٌ ولم يَخْطُرْ على قلبِ بشرٍ". قالَ: ومصداقُهُ في كتابِ اللهِ: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17].

* الثَّاني: مِلاطُ الجنَّةِ وأنَّهُ المسكُ الأذفرُ، وقد تَقَدَّمَ مثلُ ذلكَ في غيرِ حديثٍ. والمِلاطُ هوَ الطِّينُ، ويُقالُ: الطِّينُ الذي يُبْنى منهُ البنيانُ. والأذفرُ: الخالصُ.

وفي الصَّحيحينِ

(2)

: عن أنَسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"دَخَلْتُ الجنَّةَ، فإذا فيها جَنابِذُ اللؤلؤِ، وإذا ترابُها المسكُ". والجنابذُ: مثلُ القباب. وقد قيلَ: إنَّهُ أرادَ بترابِها ما خالَطَهُ الماءُ، وهوَ طينُها، كما في "صحيح البُخارِيِّ"

(3)

: عن أنسَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ [أنَّهُ] قالَ في الكوثرِ:"طينُهُ المسكُ الأذفرُ".

وقد قيلَ في تأْويلِ قولهِ تَعالى {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26]: إنَّ المرادَ بالختامِ ما يَبْقى في سُفْلِ الشَّرابِ مِن الثُّفْلِ، وهذا يَدُلُّ على أن أنهارَها تَجْري على المسكِ، ولذلكَ يَرْسُبُ منهُ في الإناءِ في آخرِ الشَّرابِ كما يَرْسُبُ الطِّينُ في آنيةِ الماءِ في الدُّنيا.

* الثَّالثُ: حصباءُ الجنَّةِ وأنَّهُ اللؤلؤُ والياقوتُ، والحصباءُ: الحصى الصِّغارُ، وهوَ الرَّضْراضُ.

وفي "المسند": عن أنَسٍ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ في ذكرِ الكوثرِ أن "رضراضُهُ اللؤلؤُ". وفي روايةٍ:"حصباؤُهُ اللؤلؤُ"

(4)

.

(1)

في خ: "يقول في الخامسة"، وأثبتّ ما في ن لوافقته نصّ مسلم.

(2)

البخاري (8 - الصلاة، 1 - كيف فرضت الصلوات، 1/ 458/ 349)، ومسلم (1 - الإيمان، 74 - الإسراء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، 1/ 148/ 163)؛ من حديث أنس عن أبي ذر.

(3)

(81 - الرقاق، 53 - الحوض، 11/ 464/ 6581).

(4)

(صحيح). أصله عند البخاري (81 - الرقاق، 53 - الحوض، 11/ 464/ 6581) دون هذه =

ص: 70

وفي التِّرْمِذِيِّ مِن حديثِ: ابن عُمَرَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أن "مجراهُ على الدُّرِّ والياقوتِ"

(1)

.

وفي الطَّبَرانِيِّ مِن حديثِ: عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"حالُهُ المسكُ الأبيضُ، ورَضْراضُهُ الجوهرُ، وحصباؤُهُ اللؤلؤُ"

(2)

.

وفي "المسند" مِن حديثِ: ابن مَسْعودٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"حالُهُ المسكُ، ورضراضُهُ التُّومُ"

(3)

. والتُّومُ: الجوهرُ، والحالُ: الطِّينُ.

= القطعة، وهذه عند: أحمد (3/ 152 و 231 و 247)، والبزّار (10/ 369 - مجمع)، وأبو يعلى (3290 و 3529)، وابن حبّان (6471)، وابن عديّ (5/ 1797)؛ من طرق ثلاث صحيحة، عن أنس

رفعه.

(1)

(صحيح). رواه: الطيالسي في "المسند"(1933)، وابن أبي شيبة في "المصنّف"(31653 و 34087)، وأحمد (2/ 67 و 112 و 158)، وهنّاد في "الزهد"(132 و 133)، والدارمي (2/ 337)، وابن ماجه (37 - الزهد، 39 - الجنّة، 2/ 1450/ 4334)، والترمذي (48 - التفسير، 90 - سورة الكوثر، 5/ 449 / 3361)، والحسين المروزي في "زوائد الزهد"(1613)، وابن جرير في "التفسير"(38134 و 38135)، وابن المنذر (الكوثر 1 - الدر)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(الكوثر 1 - ابن كثير)، والحاكم في "المستدرك"(3/ 543)، وابن مردويه (الكوثر 1 - الدرّ)، وأبو نعيم في "صفة الجنّة"(326)، والبيهقي في "البعث والنشور"(128)، والبغوي في "شرح السنّة"(3341) وفي "التفسير"(الكوثر 1)؛ من طرق، عن عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر، .. رفعه.

وهذا من صحيح حديث عطاء، ففي الرواة عنه هنا حمّاد بن زيد، وهو ممّن روى عنه قبل الاختلاط.

وقد قال الترمذيّ: "حسن صحيح"، وأقرّه ابن كثير والعسقلاني، وصححه الحاكم وشاكر والألباني.

(2)

(ضعيف جدًّا). قطعة من حديث رواه: ابن مردويه (الكوثر 1 - الدرّ)، والطبراني في "الشاميّين"(95)؛ من طريق الوليد بن الوليد، ثني ابن ثوبان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه

رفعه.

وهذا ساقط: الوليد هذا هو الدمشقي متروك منكر الحديث، وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان لا يعدو أن يكون حسنًا في الشواهد. فمثل هذا السند لا تقوّيه متابعة ولا شاهد، وإنّما يستغنى عنه بما ورد في الباب، وهو كثير طيّب والحمد لله، ولا سيّما أنّ بقيّة الحديث ظاهرة النكارة والصناعة. والله أعلم.

(3)

(ضعيف جدًّا). قطعة من حديث طويل رواه: أحمد (1/ 398)، والبزّار (1534)، والطبراني في "الكبير"(10/ 80/ 10017 و 10018)، والحاكم (2/ 364)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 238)؛ من طريق عليّ بن الحكم، عن عثمان بن عمير، عن إبراهيم (وجاء عند الطبراني في الثانية: عن أبي وائل)، [عن علقمة والأسود]، عن ابن مسعود

رفعه.

قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرّجاه، وعثمان بن عمير هو ابن اليقظان". قلت: كذا! والذي في كتب الرجال أنه أبو اليقظان. وقال الذهبي: "لا والله، فعثمان ضعّفه الدارقطني". وقال الهيثمي في "المجمع"(10/ 365): "في أسانيدهم كلّهم عثمان بن عمير وهو ضعيف". قلت: منكر الحديث في حدّ الترك، والسند واهٍ، وفي الصحيح ما يغني عنه.

ص: 71

قالَ أبو العاليةِ

(1)

: قَرَأْتُ في بعضِ الكتبِ: يا معشرَ الرَّبَّانيِّينَ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ! انْتَدِبوا لدارٍ أرضُها زبرجدٌ أخضرُ، تَجْري عليها أنهارُ الجنَّةِ، فيها الدُّرُّ والياقوتُ واللؤلؤُ، وسورُها زبرجدٌ أخضرُ، متدلِّيًا عليها أشجارُ الجنَّةِ بثمارِها.

* الرَّابعُ: ترابُ الجنَّةِ، وأنَّهُ الزَّعفرانُ. وقد سَبَقَ في روايةٍ أُخرى: الزَّعفرانُ والورسُ

(2)

. وقد قيلَ: إنَّ المرادَ بالتُّرابِ هاهُنا تربةُ الأرضِ التي لا ماءَ عليها. فأمَّا ما كانَ عليهِ ماءٌ؛ فإنَّهُ مسكٌ، كما سَبَقَ. وسَبَقَ أيضًا في بعضِ الرِّواياتِ: حشيشُها الزَّعفرانُ

(3)

، وهوَ نباتُ أرضِها وترابِها. فأمَّا حديثُ "ترابُها المسكُ": فقد قيلَ: إنَّهُ محمولٌ على تراب يُخالِطُهُ الماءُ، كما تَقَدَّمَ. وقيلَ: إن المرادَ أن ريحَ ترابِها ريحُ المسكِ ولونُهُ لونُ الزَّعفرانِ. ويَشْهَدُ لهذا حديثُ الكوثرِ أن حالَهُ المسكُ الأبيضُ، فريحُهُ ريحُ المسكِ، ولونُهُ مشرقٌ لا يُشْبِهُ لونَ مسكِ الدُّنيا، بل هو أبيضُ، وقد يَكونُ منهُ أبيضُ ومنهُ أصفرُ. واللهُ أعلمُ.

وفي "صحيح مسلم"

(4)

مِن حديثِ أبي سَعيدِ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سَألَ ابنَ صَيَّادِ عن تربةِ الجنَّةِ، فقالَ: دَرْمَكَةٌ

(5)

بيضاءُ مسكٌ خالصٌ، فصَدَّقَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. وفي روايةٍ أن ابنَ صَيَّادٍ سَألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وصَدَّقَهُ.

وفي "المسند" والتِّرْمِذِيِّ: عن البَراءِ بن عازِبِ

(6)

؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "تربةُ الجنَّةِ دَرْمَكَةٌ". ثمَّ سَألَ اليهودَ، فقالوا: خبزةٌ. فقالَ: "الخبزُ مِن الدَّرْمَكِ"

(7)

.

(1)

في خ: "قال أبو العتاهية"، وهو تحريف بيّن صوابه ما جاء في م ون وط.

(2)

في بعض طرق حديث أبي هريرة الحسن بشواهده الذي صدر المصنّف يرحمه الله به المجلس.

ولهذا اللفظ شواهد عند: ابن المبارك (1368)، وابن أبي شيبة (33946)، وأحمد في "السنّة"(384)، وهنّاد في "الزهد"(46). فهو أيضًا حسن بشواهده.

(3)

وتقدم بيان أنها موضوعة (ص 68).

(4)

(52 - الفتن، 19 - ذكر ابن صياد، 4/ 2243/ 2928)؛ الروايتين.

(5)

الدرمك: الدقيق الخالص البياض.

(6)

وهم يرحمه الله، وإنّما هو عندهما من حديث جابر بن عبد الله كما سيأتيك.

(7)

(حسن بطرقه). رواه: أحمد (3/ 361)، والترمذي (48 - التفسير، 7 - المدثر، 5/ 429 / 3327)، والبزار (المدثر 30 - ابن كثير)، وأبو نعيم في "الجنّة"(153 و 159)؛ من طريق مجالد، عن =

ص: 72

والذي تَجْتَمعُ بهِ هذهِ الأحاديثُ كلُّها أن تربةَ الجنَّةِ في لونها بيضاءُ، ومنها ما يُشْبِهُ لونَ الزَّعفرانِ في بهجتِهِ وإشراقِهِ، وريحُها ريحُ المسكِ الأذفرِ الخالصِ، وطعمُها طعمُ الخبزِ الحُوَّارَى الخالصِ، وقد يَخْتَصُّ هذا بالأبيضِ منها. فقدِ اجْتَمَعَتْ لها الفضائلُ كلُّها، [لا حَرَمَنا اللهُ تَعالى ذلكَ برحمتِهِ وكرمِهِ].

• وقولُهُ صلى الله عليه وسلم: "مَن يَدْخُلُها يَنْعَمُ لا يَبْأسُ ويَخْلُدُ لا يَموتُ، لا تَبْلى ثيابُهُم ولا يَفْنى شبابُهُم": إشارةٌ إلى بقاءِ الجنَّةِ وبقاءِ جميعِ ما فيها مِن النَّعيمِ، وأنَّ صفاتِ أهلِها الكاملةَ مِن الشَّبابِ لا تتَغَيَّرُ أبدًا، وملابسُهُمُ التي عليهِم مِن الثِّيابِ لا تَبْلى أبدًا.

وقد دَلَّ القرآنُ على مثلِ هذا في مواضعَ كثيرةٍ: كقولِهِ تَعالى: {وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التوبة: 21]. وقولِهِ: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: 35]. وقولِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} في مواضعَ كثيرةٍ.

وفي "صحيح مسلم"

(1)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"مَن يَدْخُلُ الجنَّةَ يَنْعَمُ لا يَبْأسُ؛ لا تَبْلى ثيابُهُ، ولا يَفْنى شبابُهُ".

وفيهِ أيضًا

(2)

: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "إذا دَخَلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ؛ نادى منادٍ: إنَّ

= الشعبي، عن جابر

رفعه. قال الترمذي: "غريب، إنّما نعرفه من هذا الوجه من حديث مجالد".

وقال البزّار: "لا يعرف إلا من حديث مجالد". قلت: بلى؛ سيأتي من حديث غيره. وقال الهيثمي (10/ 415): "إسناده حسن"، وقال (10/ 402):"رجال الصحيح غير مجالد ووثّقه غير واحد". قلت: هو ليّن.

ورواه ابن أبي حاتم (المدّثّر 30 - ابن كثير) من طريق مسلسلة بالثقات، عن الحارث، عن عامر، عن البراء

رفعه. قال ابن كثير: "كذا وقع عند ابن أبي حاتم والمشهور عن جابر بن عبد الله". قلت: الحارث ما عرفته، وأشار محقّق "الجنة" لأبي نعيم إلى أنّه تحريف لحريث، وهو ابن أبي مطر، وهذا محتمل جدًّا، والسند ضعيف على كلّ حال لضعف الحريث.

ورواه: ابن أبي الدنيا في "الجنة"(6)، وأبو الشيخ في "العظمة"(599)، وأبو نعيم في "الجنّة"(152 و 156)؛ من طريق ابن أبي نجيح، [عن أبي موسى، ووقع في العظمة عن الزبير بن موسى عن أبيه وهو خطأ]، عن جابر

رفعه. وهذا سند حسن، ولكنه جاء مختصرًا دون سؤال اليهود.

وأخلص من هذا كله إلى أنّ السياق المذكور حسن بمجموع الطريقين الأوليين، وقطعة تربة الجنّة صحيحة بطرقها والشاهد المتقدم عند مسلم، وقد مال ابن كثير والترمذي إلى تقوية الحديث وضعّفه الألباني.

(1)

(51 - الجنة، 8 - دوام نعيم أهلها، 4/ 2181/ 2836).

(2)

(الموضع السابق، 4/ 2182/ 2837) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد.

ص: 73

لكُم أنْ تَنْعَموا فلا تَبْأسوا أبدًا، وإنَّ لكُم أنْ تَصِحُّوا فلا تَسْقَموا أبدًا، وإنَّ لكُم أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَموا أبدًا، {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] ".

وفي روايةٍ لغيرِهِ

(1)

زيادةُ: "وأنْ تَحْيَوا فلا تَموتوا أبدًا".

وفي التِّرْمِذِيِّ: عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: "أهلُ الجنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ كُحْلٌ، لا يَفْنى شبابُهُم ولا تَبْلى ثيابُهُم"

(2)

.

وعن أبي سَعيدٍ مرفوعًا: "يَدْخُلُ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ أبناءَ ثلاثينَ لا يَزيدونَ عليها أبدًا"

(3)

.

(1)

بل هي عنده في الموضع نفسه.

(2)

(حسن صحيح). رواه: الدارمي (2/ 335)، والترمذي (39 - الجنّة، 8 - ثياب أهل الجنّة، 4/ 679/ 2539)، وأبو نعيم في "الجنّة"(256)؛ من طريق معاذ بن هشام، عن أبيه، عن عامر الأحول، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة

رفعه. قال الترمذي: "حسن غريب". قلت: شهر لين.

وروى القطعة الأولى: ابن أبي شيبة (33995)، وأحمد (2/ 295 و 343)، وابن أبي الدنيا في "الجنّة"(15)، وابن أبي داوود في "البعث"(63)، والطبراني في "الأوسط"(5418) و "الصغير"(809)، وأبو الشيخ في "العظمة"(596)، وأبو نعيم في "الجنة"(255)، والبيهقي في "البعث"(419 و 420)، والبغوي في "التفسير"(الواقعة 37)؛ من طرق، عن حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة

رفعه بلفظ: "يدخل أهل الجنّة جردًا مردًا مكحّلين". قال الهيثمي (10/ 402): "إسناده حسن". قلت: ابن جدعان لا يعدو أن يكون صالحًا في الشواهد.

وللقطعة الثانية طريق أخرى عند مسلم تقدّمت قبله.

وله شاهد عند: البخاري في "التاريخ"(8/ 219)، وابن أبي الدنيا في "الجنّة"(215)، وابن أبي داوود في "البعث"(64)، والطبراني في "الصغير"(1166)، وأبي الشيخ في "العظمة"(584)، وتمّام في "الفوائد"(1779)، وأبي نعيم في "الجنّة"(255) و "الحلية"(3/ 56)، والبيهقي في "البعث"(418)؛ من حديث أنس بسند جوّده الهيثمي وفيه كلام.

وحديث أبي هريرة حسن بطريقيه صحيح بشاهده المذكور وشواهد أخرى عديدة بمعناه، وقد مال إلى تقويته الترمذي والمنذري والهيثمي والألباني.

(3)

(منكر). رواه: الترمذي (39 - الجنّة، 23 - ما لأدنى أهل الجنّة، 4/ 695/ 2562)، وابن أبي الدنيا في "الجنّة"(17 و 259)، وابن أبي داوود في "البعث"(78)، ونعيم في "زوائد الزهد"(422)، والبغوي في "السنة"(4381)، والأصبهاني في "الترغيب"(982)؛ من طريق عمرو بن الحارث، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد

رفعه. قال الترمذي: "لا نعرفه إلّا من حديث رشدين". قلت: تابعه لبن وهب - وهو ثقة - عند ابن أبي الدنيا وابن أبي داوود، إنّما العلّة رواية درّاج عن أبي الهيثم، فإنّها ضعيفة، ثم =

ص: 74

ومِن حديثِ عَلِيٍّ مرفوعًا: "إنَّ في الجنَّةِ مجتمعًا للحورِ العِينِ، يَرْفَعْنَ بأصواتٍ لمْ تَسْمَعِ الخلائقُ مثلَها، يَقُلْنَ: نحنُ الخالداتُ فلا نَبيدُ، ونحنُ النَّاعماتُ فلا نَبْأسُ، ونحنُ الرَّاضياتُ فلا نَسْخَطُ، طوبى لمَن كانَ لنا وكنَّا لهُ"

(1)

.

وخَرَّجَ الطَّبَرانِيُّ مِن حديثِ ابن عُمَرَ مرفوعًا: "إنَّ ممَّا يُغَنِّينَ بهِ (يَعْني: الحورَ العِينَ): نحنُ الخالداتُ فلا نَمُتْنَهْ، نحنُ الآمناتُ فلا نَخَفْنَهْ، نحنُ المقيماتُ فلا نَظْعَنَّهْ"

(2)

.

= هي مخالفة للمعروف من أحاديث معاذ وأنس وأبي هريرة والمقدام وغيرهم من أنّهم أبناء ثلاث وثلاثين، وهذا حدّ النكارة، ولذلك ضعفها الترمذي والألباني.

ورواه: أبو يعلى (1405)، والطبراني (10/ 402 - مجمع)؛ من طريق ابن لهيعة، عن درّاج

به فقال: "ستّين سنة". قال الهيثمي: "ضعيف، فيه ابن لهيعة، وهو مخالف للثقات فيما رووه".

(1)

(ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة (33960)، وهنّاد في "الزهد"(9)، والحسين المروزي في "زوائد الزهد"(1487)، والترمذي (39 - الجنّة، 24 - كلام الحور، 4/ 696/ 2564)، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنّة"(249)، وعبد الله بن أحمد (1/ 156)، والبزار (703 و 704)، وأبو يعلى (268 و 429)، والمحاملي (118)، وابن عدي (4/ 1613)، وأبو نعيم في "الجنّة"(418)، وتمّام في "الفوائد"(1786)، والبيهقي في "البعث"(376)، والثقفي في "الثقفيّات"(1982 - ضعيفة)، والبغوي في "السنّة"(4388)، والضياء في "الجنة"، وابن الجوزي في "الواهيات"(1555) و"الموضوعات"(3/ 256)، والذهبي في "النبلاء"(11/ 397) و"التذكرة"(2/ 498)؛ من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن النعمان بن سعد، عن عليّ

رفعه. قال البزّار: "لا نعلم رواه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم إلّا عليّ بهذا الإسناد". قلت: وهو واهٍ فيه علل ثلاث:

أولاها: ابن إسحاق هذا هو أبو شيبة الواسطي ضعيف وحديثه عن النعمان منكر. والثانية: النعمان مجهول. والثالثة: الوقف؛ قاله الذهبي.

وتعقّب السيوطي ابن الجوزي فأورد له في "اللآلى"(2/ 455) طريقًا أُخرى عند ابن عساكر عن: محمّد بن الفرات الجرمي، سمعت أبا إسحاق، يذكر عن الحارث، عن عليّ

رفعه. وابن الفرات كذبوه، وأبو إسحاق تغيّر بأخرة وكان يدلس، والحارث واهٍ. فهذا يصدق فيه "كالمستجير من الرمضاء بالنار".

وله شاهد عند: أبي الشيخ في "العظمة"(605)، وأبي نعيم في "الجنّة"(378 و 431)؛ من حديث ابن أبي أوفى بسند ضعيف.

فالضعف لازم لهذا المتن ولو اجتمعت طرقه لشدة وهائها، ولكنّه ليس بالموضوع، بل هو ضعيف كما ذكر الترمذي وابن عدي والبغوي وابن الجوزي مرّة والمنذري وابن كثير والعراقي والألباني.

(2)

(حسن بشواهده). رواه: الطبراني في "الأوسط"(4914) و "الصغير"(735)، وأبو نعيم في "الجنّة"(322 و 430)، والضياء في "الجنة"، من طريق عمارة بن وثيمة، ثنا سعيد بن أبي مريم، ثنا محمّد بن جعفر بن أبي كثير، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر

رفعه.

قال الطبراني وأبو نعيم: "تفرد به سعيد بن أبي مريم". قلت: تفرّد أمثاله من المتقنين لا يضرّ. وقال =

ص: 75

ومِن حديثِ أُمِّ سَلَمَةَ مرفوعًا: "إنَّ نساءَ أهلِ الجنَّةِ يَقُلْنَ: نحنُ الخالداتُ فلا نَموتُ [أبدًا]، ونحنُ النَّاعماتُ فلا نَبْأسُ أبدًا، ونحنُ المقيماتُ فلا نَظْعَنُ أبدًا، ونحنُ الرَّاضياتُ فلا نَسْخَطُ أبدًا، طوبى لمَن كنَّا لهُ وكانَ لنا"

(1)

.

• وفيما ذَكَرَهُ صلى الله عليه وسلم في صفةِ مَن يَدْخُلُ الجنَّةَ تعريضٌ بذمِّ الدُّنيا الفانيةِ؛ فإنَّهُ مَن يَدْخُلُها وإنْ نُعِّمَ فيها فإنَّهُ يَبْأسُ، ومَن أقامَ فيها فإنَّهُ يَموتُ ولا يُخَلَّدُ، ويَفْنى شبابُهُمْ وتَبْلى ثيابُهُمْ، بل تَبْلى أجسامُهُمْ.

وفي القرآنِ نظيرُ هذا، وهوَ التَّعريضُ بذمِّ الدُّنيا وفنائِها مع مدحِ الآخرةِ وذكرِ كمالِها وبقائِها:

كما قالَ تَعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 14 - 15].

وقالَ تَعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ

} الَايةَ، ثمَّ قالَ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ

= المنذري والهيثمي (10/ 422): "رجاله رجال الصحيح". قلت: إلا عمارة؛ فهو مؤرخ مشهور، روى عنه جماعة، ونقل عنه أهل العلم، ولم يجرحه أحد، فلا أقلّ من أن يكون صالحًا في الشواهد، ثمَّ هو حسن بحديث ابن أبي أوفى المتقدّم ذكره في الحديث السابق وغيره، ويستأنس له بحديثي عليّ وأم سلمة.

(1)

(ضعيف جدًّا). قطعة من حديث طويل رواه: العقيلي (2/ 138)، والطبراني في "الكبير"(23/ 368/ 870) و"الأوسط"(3165)، وابن عديّ (3/ 1112)، وابن جرير (29370 و 33172 و 33330 و 33402)؛ من طريق بكر بن سهل الدمياطي، ثنا عمرو بن هاشم البيروتي، ثنا سليمان بن أبي كريمة، عن هشام بن حسّان، عن الحسن، عن أمّه، عن أم سلمة

مرفوعًا مطولًا ومختصرًا.

قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن هشام بن حسّان إلا سليمان بن أبي كريمة، تفرد به عمرو بن هاشم". وقال الهيثمي (7/ 122، 10/ 421): "فيه سليمان بن أبي كريمة، ضعّفه أبو حاتم وابن عديّ، وهو ضعيف". قلت: بكر بن سهل ضعيف، وعمرو بن هاشم فيه ضعف، وسليمان منكر الحديث، وهشام ثقة تكلموا في روايته عن الحسن لكثرة إرساله عنه. فالسند واهٍ.

ص: 76

وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس: 25 - 26].

وقالَ تَعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا. الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 45 - 46].

وقالَ: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

وقالَ تَعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ

} إلى قولهِ: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 20 - 21].

وقالَ تَعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16 - 17].

وقالَ تَعالى: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38].

وقالَ تَعالى عن مؤمنِ آلِ فِرْعَوْنَ إنَّهُ قالَ لقومِهِ: {يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39]، والمتاعُ: هو ما يَتَمَتَّعُ بهِ صاحبُهُ برهةً ثمَّ يَنْقَطعُ ويَفْنى.

فما عِيبَتِ الدُّنيا بأبلغَ مِن ذكرِ فنائِها وتقلُّبِ أحوالِها، وهوَ أدلُّ دليلٍ على انقضائِها وزوالِها. فتَتبَدَّلُ: صحَّتُها بالسَّقمِ، ووجودُها بالعدمِ، وشبيبتُها بالهرمِ، ونعيمُها بالبؤسِ، وحياتُها بالموتِ فتُفارِقُ الأجسامَ النُّفوسُ

(1)

، وعمارتُها بالخرابِ،

(1)

في خ ون: "فتفارق الأجسام للنفوس"، والأولى ما أثبتّه من م.

ص: 77

واجتماعُها بفرقةِ الأحبابِ، وكلُّ ما فوقَ التُّرابِ ترابٌ.

قالَ بعضُ السَّلفِ في يومِ عيدٍ وقد نَظَرَ إلى كثرةِ النَّاسِ وزينةِ لباسِهِم: هل تَرَوْنَ إلَّا خرقًا تَبْلى أو لحمًا يَأْكُلُهُ الدُّودُ غدًا؟

كانَ الإمامُ أحْمَدُ يَقولُ: يا دارُ! تَخْرَبينَ وَيَموتُ سكَّانُكِ.

وفي الحديثِ: "عجبًا لمَن رَأى الدُّنيا وسرعةَ تقلُّبِها بأهلِها كيفَ يَطْمَئِنُّ إليها"

(1)

.

(1)

(ضعيف). قطعة من حديث أبي ذر الطويل الذي جاء عنه من طرق:

* روى الأولى منها: عبد بن حميد (الأعلى 19 - الدرّ)، وابن حبّان في "الصحيح"(361) و "المجروحين"(3/ 130)، والطبراني (4/ 216 - مجمع، 2/ 157/ 1651)، والَاجرّي (النساء 165 - كثير)، وأبو الشيخ في "العظمة"(261)، وابن مردويه (النساء 165 - ابن كثير، 2/ 70 - بداية ونهاية)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 18 و 166 - 167)، والقضاعي في "الشهاب"(651 و 740 و 837)، والبيهقي في "الشعب"(8031)، وابن عبد البر في "التمهيد"(9/ 199)، وابن عساكر (23/ 273 - 275)؛ من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى الغسّاني، ثنا أبي، عن جدّي، عن أبي إدريس، عن أبي ذرّ

رفعه مطوّلًا ومختصرًا. قال الهيثمي: "فيه إبراهيم بن هشام وثّقه ابن حبّان وضعفه أبو حاتم وأبو زرعة". قلت: متروك لا ينبغي أن يحدّث عنه.

ولكنّه توبع. قال ابن عساكر (23/ 276): "رواه أبو الحسن بن جوصا: عن أبي حارثة أحمد بن إبراهيم، عن هشام، عن أبيه". قلت: أبو حارثة هذا هو ابن إبراهيم، تابع أباه فرواه عن جده، لكن لم أقف فيه على توثيق فحدّه الستر، ولم يذكروا له رواية عن جده فأخشى أن يكون حمله عن أبيه عن جدّه ثمّ سقط ذكر أبيه عمدًا أو سهوًا!

ورواه أيضًا مولى ليزيد بن معاوية عن أبي إدريس فيما ذكره ابن عساكر، وهذا المولى مجهول، والله أعلم بحال الطريق إليه.

ورواه أيضًا: الطبري في "التاريخ"(1/ 267)، وابن عساكر (23/ 276) معلّقًا؛ من طريق الماضي بن محمّد، عن أبي سليمان، عن القاسم بن محمّد الثقفي، عن أبي إدريس، عن أبي ذر

رفعه. والماضي ضعيف منكر الحديث وأبو سليمان والقاسم مجهولان.

قال أبو نعيم: "ورواه المختار بن غسّان عن إسماعيل بن سلمة عن أبي إدريس". قلت: المختار وإسماعيل مجهولان، والله أعلم بحال الطريق إليهما.

* وروى الثانية: ابن حبّان في "المجروحين"(3/ 129)، وابن عدي (7/ 2699)، وأبو الشيخ في "العظمة"(208) مختصرًا، والحاكم (2/ 597) مختصرًا، وأبو نعيم (1/ 168 - 169)، والبيهقي (9/ 4)، وابن عساكر (23/ 276 - 277)؛ من طريق يحيى بن سعيد القرشي السعدي، ثنا ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبيد بن عمير، عن أبي ذرّ

رفعه. قال ابن عدي: "هذه أنكر الروايات"، وقال ابن حبّان نحوه.

قلت: لأن تفرّد القرشي المتروك عن ابن جريج بهذا دون ثقات أصحابه موضع اتّهام.

* وروى الثالثة: ابن أبي حاتم (2/ 70 - بداية ونهاية)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 167) تعليقًا؛ من =

ص: 78

قالَ الحَسَنُ: إنَّ الموتَ قد فَضَحَ الدُّنيا فلمْ يَدَعْ لذي لبٍّ بها فرحًا.

وقالَ مُطَرِّفٌ: إنَّ هذا الموتَ قد أفْسَدَ على أهلِ النَّعيمِ نعيمَهُم، فالْتَمِسوا نعيمًا لا موتَ فيهِ.

وقالَ بعضُهُم: ذَهَبَ ذكرُ الموتِ بلذَّةِ كلِّ عيشٍ وسرورِ [كلِّ نعيمٍ]. ثمَّ بَكى وقالَ: واهًا لدارٍ لا موتَ فيها!

وقالَ يونُسُ بنُ عُبَيْدٍ: ما تَرَكَ ذكرُ الموتِ لنا قُرَّةَ عينٍ في أهلٍ ولا مالٍ.

وقالَ يَزيدُ الرَّقاشِيُّ: أمِنَ أهلُ الجنَّةِ الموتَ فطابَ لَهُمُ العيشُ، وأمِنوا مِن الأسقام فهنيئًا لهُم في جوارِ اللهِ طولُ المقام.

عيوبُ الدُّنيا بادية، وهيَ بعبرِها ومواعظِها منادية، لكنَّ حبَّها يُعْمي ويُصِمُ، فلا يَسْمَعُ محبُّها نداءَها، ولا يَرى كشفَها للعبرِ وإبداءَها.

قَدْ نادَتِ الدُّنْيا عَلى نَفْسِها

لَوْ كانَ في العالَمِ مَنْ يَسْمَعُ

كَمْ واثِقٍ بِالعُمْرِ أفْنَيْتُهُ

وَجامِعٍ بَدَّدْتُ ما يَجْمَعُ

كم قد تَبَدَّلَ نعيمُها بالبوس، كم أصْبَحَ مَن هوَ واثقٌ بملكِها وأمْسى وهوَ منها قنوطٌ يؤوس.

= طريق معان بن رفاعة، عن عليّ بن يزيد الألهاني، عن القاسم، عن أبي أمامة، عن أبي ذرّ

رفعه مختصرًا جدًّا. قال ابن كثير: "ضعيف، فيه ثلاثة من الضعفاء؛ معان وشيخه وشيخ شيخه". قلت: الألهاني متروك، والسند ساقط، والمتن مختصر قاصر عن هذه القطعة.

* وروى الرابعة: أحمد (1785 و 179)، والنسائي في "الكبرى"(11968 - تحفة)، والبزّار (160)؛ من طريق المسعودي، عن أبي عمر الشامي، عن عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذرّ

رفعه مختصرًا جدًّا. والمسعوديّ اختلط أو تغيّر، والشاميّ ليّن، وابن الخشخاش ضعيف، فالسند واه على قصور المتن واختصاره.

* وروى الخامسة: أبو نعيم (1/ 168) معلقًا، وابن عساكر (23/ 276)؛ من طريق عبد الله بن صالح، ثنا معاوية بن صالح، عن أبي عبد الملك محمّد بن أيّوب وغيره من المشيخة، عن عبد الرحمن بن عائذ، عن أبي ذر

رفعه. وعبد الله بن صالح ومحمّد بن أيّوب لا يعدوان أن يكونا صالحين في الشواهد، لكنّ محمّدًا توبع من غيره كما جاء في السند، فلم يبق لهذا السند علة إلا عبد الله، فهو صالح في الشواهد.

فالطريق الأولى بمتابعاتها ساقطة، والثانية والثالثة ساقطتان بمتروك، والرابعة واهية قاصرة، فلم يبق للطريق الأخيرة الضعيفة ما يشدها. نعم؛ لكثير من مفردات الحديث طرق أخرى تشدّها، ولكنّها قاصرة عن هذه القطعة، فالله أعلم بماذا قوّاها الألباني رحمة الله عليه في "موارد الظمآن"!

ص: 79

قالَتْ بعضُ بناتِ ملوكِ العربِ

(1)

الذينَ نُكِبوا: أصْبَحْنا وما في العربِ أحدٌ إلَّا وهوَ يَحْسُدُنا، وأمْسَيْنا وما في العربِ أحدٌ إلَّا [وهوَ] يَرْحَمُنا، ثمَّ قالَتْ:

وَبَيْنا نَسوسُ النَّاسَ وَالأمْرُ أمْرُنا

إذا نَحْنُ فيهِمْ سُوقَةٌ لَيْسَ نُنْصَفُ

فَأُفٍّ لِدارٍ لا يَدومُ نَعيمُها

تَقَلَّبُ تاراتٍ بِنا وَتَصَرَّفُ

دَخَلَتْ أمُّ جَعْفَرِ بن يَحْيى البَرْمَكِيِّ على قومٍ في عيدِ أضحى تَطْلُبُ جلدَ كبشٍ تَلْبَسُهُ، وقالَتْ: هَجَمَ عليَّ مثلُ هذا العيدِ وعلى رأْسي أربعُ مئةِ وصيفةٍ قائمةٍ وأنا أزْعُمُ أن ابني جعفرًا عاقٌّ لي.

كانَتْ أُختُ أحْمَدَ بن طُولُونَ صاحبِ مِصْرَ كثيرةَ السَّرَفِ في إنفاقِ المالِ، حتَّى إنَّها زَوَّجَتْ بعضَ لُعَبِها فأنْفَقَتْ على وليمةِ عرسِها مئةَ ألفِ دينارٍ، فما مَضى إلَّا قليلٌ حتَّى رُئِيَتْ في سوقٍ مِن أسواقِ بغدادَ وهيَ تَسْألُ النَّاسَ.

خُلِعَ بعضُ خلفاءِ بني العَبَّاسِ وكُحِلَ وحُبسَ ثمَّ أَطْلِقَ، فاحْتاجَ إلى أنْ وَقَفَ يومَ الجمعةِ في الجامعِ وقالَ للنَّاسِ: تَصَدَّقوا عليَّ فأَنا مَن قد عَرَفْتُمْ.

اجْتازَ بعضُ الصَّالحينَ بدارٍ فيها فرحٌ وقائلةٌ تَقولُ في غنائِها:

ألا يا دارُ لا يَدْخُلْكِ حُزْنٌ

وَلا يُودي بِصاحِبِكِ الزَّمانُ

ثمَّ اجْتازَ بها عن قريبٍ، وإذا البابُ مُسْوَدٌّ وفي الدَّارِ بكاءٌ وصراخٌ، فسَألَ عنهُم، فقيلَ: ماتَ ربُّ الدَّارِ، فطَرَقَ البابَ وقالَ: سَمِعْتُ مِن هذهِ الدَّارِ قائلةً تَقولُ كذا وكذا، فبَكَتِ امرأةٌ وقالَتْ: يا عبدَ اللهِ! إنَّ الله يُغَيِّرُ ولا يَتَغَيَّرُ، والموتُ غايةُ كلِّ مخلوقٍ، فانْصَرَفَ مِن عندِهِم باكيًا.

بَعَثَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه في خلافتِهِ وفدًا إلى اليمنِ، فاجْتازوا في طريقِهِم بماءٍ مِن مياهِ العربِ، عندَهُ قصورٌ مَشِيدَةٌ، وهناكَ مواشٍ عظيمةٌ ورقيقٌ كثيرٌ،

(1)

زاد في حاشية خ: "القائلة لذلك هي حرقة بنت النعمان بن المنذر. وقالت أيضًا: ما نحن فيه اليوم خير مما كنا فيه بالأمس، إنّا نجد في الكتب أنه ليس من أهل بيت يعيشون في حبرة إلّا سيعقبون بعدها عبرة وأن الدهر لم يظهر لقوم بيوم يحبّونه إلّا بطن لهم بيوم يكرهونه. وبكت أيضًا حرقة وهي في عزّها فقيل: ما يبكيك؟ لعلّ أحدًا آذاك! قالت: لا؛ ولكن رأيت

في أهلي، وقلما امتلأت دار سرورًا إلا امتلأت حزنًا" اهـ.

ص: 80

ورَأوا نسوةً كثير [ا] تٍ مجتمعاتٍ في عرسٍ لهُنَّ، وجاريةً بيدِها دفٌّ وهيَ تَقولُ:

مَعْشَرَ الحُسَّادِ موتوا كَمَدا

كَذا نَكونُ ما بَقِينا أبَدا

فنَزَلوا بقربِهِم، فأكْرَمَهُم سيِّدُ الماءِ واعْتَذَرَ إليهِم باشتغالِهِ بالعرسِ، فدَعَوْا لهُ وارْتَحَلوا. ثمَّ إنَّ بعضَ أولئكَ الوفدِ أرْسَلَهُم مُعاوِيَةُ إلى اليمنِ، فمَرُّوا بالقربِ مِن ذلكَ الماءِ، فعَدَلوا إليهِ لِيَنْزِلوا فيهِ، فإذا القصورُ المَشِيدَةُ قد خَرِبَتْ كلُّها وليسَ هناكَ ماءٌ ولا أنيسٌ، ولمْ يَبْقَ مِن تلكَ الآثارِ إلَّا تلٌّ خرابٌ، فذَهَبوا إليهِ، فإذا عجوزٌ عمياءُ تَأْوي إلى نقبٍ في ذلكَ التَّلِّ، فسَألوها عن أهلِ ذلكَ الماءِ، فقالَتْ: هَلَكوا كلُّهُم، فسَألوها عن ذلكَ العرسِ المتقدِّمِ، فقالَتْ: كانَتِ العروسُ أُختي، وأنا كُنْتُ صاحبةَ الدُّفِّ، فطَلَبوا أنْ يَحْمِلوها معَهُم، فأبَتْ وقالَتْ: عزيزٌ عليَّ أنْ أُفارِقَ هذهِ العظامَ الباليةَ حتى أصيرَ إلى ما صارَتْ إليهِ. فبينَما هيَ تُحَدِّثُهُمْ إذْ مالَتْ فنَزَعَتْ نزعًا يسيرًا ثمَّ ماتَتْ، فدَفَنوها وانْطَلَقوا.

حُمِلَ إلى سُلَيْمانَ بن عَبْدِ المَلِكِ في خلافتِهِ مِن خُراسانَ ستَّةُ أحمالِ مسكٍ إلى الشَّامِ، فأُدْخِلَتْ على ابنِهِ أيُّوبَ وهوَ وليُّ عهدِهِ، فدَخَلَ عليهِ الرَّسولُ بها في دارِهِ، فدَخَلَ إلى دارٍ بيضاءَ وفيها غلمانٌ عليهِم ثيابٌ بيضٌ وحليتُهُم فضَّة، ثمَّ دَخَلَ إلى دارٍ صفراءَ فيها غلمانٌ عليهِم ثيابٌ صفرٌ وحليتُهُمُ الذَّهبُ، ثمَّ دَخَلَ إلى دارٍ خضراءَ فيها غلمانٌ عليهِم ثيابٌ خضرٌ وحليتُهُمُ الزُّمرُّدُ، ثمَّ دَخَلَ على أيُّوبَ وهوَ وجاريتُهُ على سرير فلمْ يَعْرِفْ أحدَهُما مِن الآخرِ لقربِ شبهِهِما، فوُضِعَ المسكُ بينَ يديهِ فانْتَهَبَهُ كلَّهُ الغلمانُ، ثمَّ خَرَجَ الرَّسولُ فغابَ بضعةَ عشرَ يومًا، ثمَّ رَجَعَ فمرَّ بدارِ أيُّوبَ وهيَ بلاقعُ، فسَألَ عنهُم، فقيلَ لهُ: أصابَهُمُ الطَّاعونُ فماتوا.

كانَ يَزيدُ بنُ عَبْدِ المَلِكِ - وهوَ الذي انْتَهَتْ إليهِ الخلافةُ بعدَ عُمَرَ بن عَبْدِ العَزيزِ - لهُ جاريةٌ تُسَمَّى حُبَابَةَ، وكانَ شديدَ الشَّغفِ بها، ولمْ يَقْدِرْ على تحصيلِها إلَّا بعدَ جهدٍ شديدٍ، فلمَّا وَصَلَتْ إليهِ؛ خَلا بِها يومًا في بستانٍ وقد طارَ عقلُهُ فرحًا بِها، فبينَما هوَ يُلاعِبُها ويُضاحِكُها إذْ رَماها بحبَّةِ رمَّانٍ أو حبَّةِ عنبٍ وهيَ تَضْحَكُ، فدَخَلَتْ في فيها، فشَرِقَتْ بِها، فماتَتْ، فما سَمَحَتْ نفسُهُ بدفنِها حتَّى أراحَتْ

(1)

، فعوتبَ على ذلكَ،

(1)

أراحت: خرجت من جثّتها روائح الإنتان.

ص: 81

فدَفنَها. ويُقالُ: إنَّهُ نَبَشَها بعدَ دفنِها. ويُروى أنَّهُ دَخَلَ بعدَ موتِها إلى خزائنِها ومقاصيرِها ومعَهُ جاريةٌ لها، فتَمَثَّلَتِ الجاريةُ:

كَفى حَزَنًا بالوالِهِ الصَّبِّ أنْ يَرى

مَنازِلَ مَنْ يَهْوى مُعَطَّلَة قَفْرا

فصاحَ وخَرَّ مغشيًّا عليهِ، فلم يُفِقْ إلى أنْ مَضى هَوِيٌّ مِن الليلِ، ثمَّ أفاقَ فبَكَى بقيَّةَ ليلتِهِ ومِن الغدِ، فدَخَلوا عليهِ فوَجَدوهُ ميتًا.

قالَ بعضُ السَّلفِ: ما مِن حَبْرَةٍ إلَّا يَتْبَعُها عبرةٌ، وما كانَ ضحكٌ في الدُنيا إلَّا كانَ بعدَهُ بكاءٌ.

مَن عَرَفَ الدُّنيا حقَّ معرفتِها؛ حَقَرَها وأبْغَضَها، كما قيلَ:

أمَّا لَوْ بِيعَتِ الدُّنْيا بِفَلْسٍ

أنِفْتُ لِعاقِلٍ أنْ يَشْتَرِيها،

ومَن عَرَفَ الآخرةَ وعظمتَها رَغِبَ فيها.

عبادَ اللهِ! هَلُمُّوا إلى دارٍ لا يَموتُ سكَانُها، ولا يَخْرَبُ بنيانُها، ولا يَهْرَمُ شبَّانُها، ولا يَتَغَيَّرُ حسنُها وإحسانُها، هواؤُها النَّسيمُ وماؤُها التَّسنيمُ، يَتَقَلَّبُ أهلُها في رحمةِ أرحمِ الرَّاحمين، ويَتَمَتَعونَ بالنَّظرِ إلى وجهِهِ الكريمِ كلَّ حين، {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس: 10].

قالَ عَوْنُ بنُ عَبْدِ اللهِ بن عُتْبَةَ: بَنى ملكٌ ممَّن كانَ قبلَكُم مدينةً، فتَنَوَّقَ في بنيانِها، ثمَّ صَنَعَ طعامًا ودَعا النَّاسَ إليهِ وأقْعَدَ على أبوابِها ناسًا يَسْألونَ كلَّ مَن خَرَجَ: هلْ رَأيْتُمْ عيبًا؟ فيَقولونَ: لا. حتَّى جاءَ في آخرِ النَّاسِ قومٌ عليهِم أكسيةٌ، فسَألُوهُم: هلْ رَأيْتُمْ عيبًا؟ قالوا: عيبينِ. فأدخَلوهُمْ على الملكِ، فقالَ: هلْ رَأيْتُمْ عيبًا؟ فقالوا: عيبينِ. قالَ: وما هُما؟ قالوا: تَخْرَبُ ويَموتُ صاحبُها. قالَ: فتَعْلَمونَ دارًا لا تَخْرَبُ ولا يَموتُ صاحبُها؟ قالوا: نعم؛ دارُ الجنَّةِ. فدَعَوْهُ فاسْتَجابَ لهُم وانْخَلَعَ مِن ملكِهِ وتَعَبَّدَ معَهُم. فحَدثَ عَوْنٌ بهذا الحديثِ عُمَرَ بنَ عَبْدِ العَزيزِ، فوَقَعَ منهُ موقعًا، حتَّى هَمَ أنْ يَخْلَعَ نفسَهُ مِن الملكِ. فأتاهُ ابنُ عمِّهِ مَسْلَمَةُ، فقالَ: اتَّقِ الله يا أميرَ المؤمنينَ في أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، فواللهِ؛ لئنْ فَعَلْتَ لَيَقْتَتِلُنَّ بأسيافِهِم. قالَ: ويحكَ يا مَسْلَمَةُ! حُمِّلْتُ ما لا

ص: 82

أُطيقُ، وجَعَلَ يُرَدِّدُها، ومَسْلَمَةُ يُناشِدُهُ حتَّى سَكَنَ.

بَنى بعضُ ملوكِ العربِ الخَوَرْنَقَ والسَّديرَ، فنَظَرَ إلى ملكِهِ يومًا فقالَ: هلْ عَلِمْتُمْ أحدًا أُوتِيَ مثلَ ما أُوتيتُ؟ [فـ]ـقالوا: لا. ورجلٌ منهُم ساكتٌ، فقالَ: أيُّها الملكُ! إنْ أذِنْتَ لي تَكَلَّمْتُ. قالَ: تَكَلَّمْ. قالَ: أرَأيْتَ ما جَمَعْتَ، أشيءٌ هوَ لكَ لمْ يَزُلْ ولا يَزولُ، أم هوَ شيءٌ كانَ لمَن قبلَكَ وزالَ عنهُ وصارَ إليكَ وكذلكَ يَزولُ عنكَ؟ قالَ: بل كانَ لمَن قبلي وصارَ إليَّ ويَزولُ عنِّي. قالَ: فسُرِرْتَ بشيءٍ تَزولُ عنكَ لذَّتُهُ وتَبْقى تَبِعَتُهُ عليكَ، تَكونُ فيهِ قليلًا وتُرْهَنُ بهِ طويلًا. فبَكى وقالَ: أينَ المهربُ؟ قالَ: إمَّا أنْ تُقيمَ وتَعْمَلَ بطاعةِ ربِّكَ، وإمَّا أنْ تَنْخَلعَ مِن ملكِكَ وتُقيمَ وحدَكَ وتَعْبُدَ رَبَّكَ حتَّى يَأْتِيَكَ أجلُكَ. قالَ: فإذا فَعَلْتُ ذلكَ فما لي؟ قالَ: حياةٌ لا تَموتُ، وشبابٌ لا يَهْرَمُ، وصحَّةٌ لا تَسْقَمُ، وملكٌ جديدٌ لا يَبْلى. قالَ: فأيُّ خيبر فيما يَفْنى

(1)

؟! واللهِ لأطْلُبَنَّ عيشًا لا يَزولُ أبدًا. فانْخَلَعَ عن ملكِهِ، وسارَ في الأرضِ

(2)

.

وفيهِ يَقولُ عَدِيُّ بنُ زَيْدٍ أبياتَهُ المشهورةَ السَّائرةَ:

أيُّها الشَّامِتُ المُعَيِّرُ

(3)

بِالدَّهـ

ـرِ أأنْتَ المُبَرَّأُ المَوْفورُ

أمْ لَدَيْكَ العَهْدُ الوَثيقُ مِنَ الأيْـ

يامِ بَلْ أنْتَ جاهِلٌ مَغْرورُ

مَنْ رَأيْتَ المَنونَ أخْلَدْنَ أمْ مَنْ

ذا عَلَيْهِ مِنْ أنْ يُضامَ خَفيرُ

أيْنَ كِسْرى كِسْرى المُلوكِ أنوشِرْ

وانُ أمْ أيْنَ قَبْلَهُ سابورُ

وَبنو الأصْفَرِ الكِرامُ مُلوكُ الرْ

رومِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمُ مَذْكورُ

وَأخو الحَضْر

(4)

إذْ بَناهُ وَإذْ دِجْـ

ـلةُ تُجْبى إلَيْهِ والخابورُ

شادَهُ مَرْمَرًا وَجَلَّلَهُ كِلْـ

ـسًا فَلِلطَّيْرِ في ذُراهُ وُكورُ

(1)

في خ: "فيما بقي"! وهذا تحريف صوابه ما أثبتّه من م وط.

(2)

إذا خلع الصالحون أنفسهم وتجرّدوا عن مسؤوليّاتهم وساروا في الأرض! فمن يبقى لسياسة أمور المسلمين ولمّ شعثهم ورأب صدعهم؟! فهذا وأمثاله غيض من فيض من بلاء الصوفية الذي جثم على صدر الأمّة وأردف أعجازًا وناء بكلكل.

(3)

في خ وم: "الشامت المغترّ"، والتصويب من: "حماسة البحتري (ص 122).

(4)

الحضر: مدينة بين دجلة والفرات. وأخو الحضر: الساطرون بن أسطيرون الجرمقي.

ص: 83

لَمْ يَهْنِهِ رَيْبُ المَنونِ فَبادَ الْـ

ـمُلْكُ عَنْهُ فَبابُهُ مَهْجورُ

وَتَذَكَّرْ رَبَّ الخَوَرْنَقِ

(1)

إذْ أشْـ

ـرَفَ يَوْمًا وَلِلْهُدى تَفْكيرُ

سَرَّهُ مالُهُ وَكَثْرَةُ ما يَمْـ

ـلِكُ وَالبَحْرُ مُعْرِضًـ[ـا] وَالسَّديرُ

(2)

فَارْعَوى قَلْبُهُ وَقالَ وَما غِبْـ

ـطَةُ حَيٍّ إلى المَماتِ يَصيرُ

ثُمَّ أضْحَوْا كَأنَّهُمْ وَرَقٌ جَفْـ

ـفَ [فَـ]ـألْوَتْ بِهِ الصَّبا وَالدَّبورُ

(3)

ثُمَّ بَعْدَ الفَلاحِ والإمَّةِ

(4)

والْـ

ـمُلْكِ وارَتْهُمُ هُناكَ القُبورُ

* * * * *

(1)

الخورنق: قصر بالعراق بناه النعمان بن المنذر.

(2)

السدير: نهر بناحية الحيرة، وقيل: قصر آخر قرب الخورنق. والزيادة من "الحماسة"(ص 122). وفي م: "معترض".

(3)

الصبا: الريح الشرقيّة، الدبور: الغربية. والزيادة من "الحماسة"(ص 122). وفي م: "ألمّت به".

(4)

الإمة: طيب العيش والتقلّب في النعم.

ص: 84

‌وظائف شهر الله المحرم

ويشتمل على مجالس:

‌المجلس الأول في فضائل شهر الله المحرم وعشره الأول

خَرَّجَ مُسْلِمٌ

(1)

مِن حديثِ: أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"أفضلُ الصِّيامِ بعد شهرِ رمضانَ شهرُ اللهِ الذي تَدْعونَهُ المُحَرَّمَ، وأفضلُ الصَّلاةِ بعدَ الفريضةِ قيامُ الليلِ".

الكلامُ على هذا الحديثِ في فصلينِ: في أفضلِ التَّطوُّعِ بالصِّيامِ، وأفضلِ التَّطوُّعِ بالقيامِ.

‌الفصل الأوَّل: في فضل التطوُّع بالصِّيام

• وهذا الحديثُ صريحٌ في أن أفضلَ ما تُطُوِّعَ بهِ مِن الصِّيامِ بعدَ رمضانَ صومُ شهرِ اللهِ المحرَّمِ.

وقد يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ أنَّهُ أفضلُ شهرٍ تُطُوِّعَ بصيامِهِ كاملًا بعدَ رمضانَ. فأمَّا بعضُ التَّطوُّعِ ببعضِ شهرٍ؛ فقد يَكونُ أفضلَ مِن بعضِ أيَّامِهِ: كصيامِ يومِ عرفةَ، أو عشرِ ذي الحجَّةِ، أو ستةِ أيَّامٍ مِن شوَّالٍ

ونحوِ ذلكَ.

ويَشْهَدُ لهذا ما خَرَّجَهُ [الإمامُ أحْمَدُ و] التِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ عَلِيٍّ؛ أن رجلًا أتى

(1)

(13 - الصيام، 28 - صوم المحرم، 2/ 821/ 1163).

ص: 85

النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: يا رسولَ اللهِ! أخْبِرْني بشهرٍ أصومُهُ بعدَ شهرِ رمضانَ. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنْ كُنْتَ صائمًا شهرًا بعدَ رمضانَ، فصُمِ المُحَرَّمَ؛ فإنَّهُ شهرُ اللهِ، وفيهِ يومٌ تابَ اللهُ فيهِ على قومٍ ويَتوبُ على آخرينَ"

(1)

. وفي إسنادِهِ مقالٌ.

ولكنْ يُقالُ: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَصومُ شهرَ شَعْبانَ، ولم يُنْقَلْ [عنهُ] أنَّهُ كانَ يَصومُ المُحَرَّمَ، إنَّما كانَ يَصومُ عاشوراءَ، وقولُهُ في آخرِ سنةٍ "لئنْ عِشْتُ إلى قابلٍ لأصومَنَّ التَّاسعَ" يَدُلُّ على أنَّهُ كانَ لا يَصومُ التَّاسعَ قبلَ ذلكَ.

وقد أجابَ النَّاسُ عن هذا السُّؤالِ بأجوبةٍ فيها ضعفٌ. والذي ظَهَرَ لي - واللهُ أعلمُ - أن التَّطوُّعَ بالصِّيامِ نوعانِ:

أحدُهُما: التَّطوُّعُ المطلقُ بالصَّومِ، فهذا أفضلُهُ المُحَرَّمُ، كما أن أفضلَ التَّطوُّعِ المطلقِ بالصَّلاةِ قيامُ الليلِ.

والثَّاني: ما صيامُهُ تبعٌ لصيامِ رمضانَ قبلَهُ وبعدَهُ، فهذا ليسَ مِن التَّطوُّعِ المطلَقِ، بل صيامُهُ تَبَعٌ لصيامِ رمضانَ، وهوَ ملتحقٌ بصيامِ رمضانَ. ولهذا قيلَ: إنَّ صيامَ ستَّةِ أيَّامٍ مِن شهرِ شوَّالٍ يَلْتَحِقُ بصيامِ رمضانَ ويُكْتَبُ بذلكَ لمَن صامَها معَ رمضانَ صيامُ الدَّهرِ فَرَضًا. وقد رُوِيَ أن أُسامَةَ بنَ زَيْدٍ كانَ يَصومُ الأشهرَ الحرمَ، فأمَرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بصيامِ شوَّالٍ، فتَرَكَ الأشهرَ الحرمَ وصامَ شوَّالًا. وسَنَذْكُرُ ذلك في موضعِهِ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى

(2)

. فهذا النَّوعُ مِن الصِّيامِ يَلْتَحِقُ برمضانَ، وصيامُهُ أفضلُ التَّطوُّعِ مطلقًا.

فامَّا التَّطوُّعُ المطلقُ؛ فأفضلُهُ صيامُ الأشهرِ الحرمِ، وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ أمَرَ

(1)

(ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة (9223)، وأحمد (1/ 154)، والدارمي (2/ 21)، والترمذي (6 - الصوم، 40 - صوم المحرم، 3/ 117/ 741)، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند"(1/ 155)، والبزّار (699)، وأبو يعلى (267 و 426 و 427)، وابن عديّ في "الكامل"(4/ 1614)، والبيهقي في "الشعب"(3775) و"الفضائل"(277)، والأصبهاني في "الترغيب"(1852)؛ من طرق، عن عبد الرحمن بن إسحاق أبي شيبة الواسطي، عن النعمان بن سعد، عن علي

رفعه.

قال الترمذي: "حسن غريب". وقال المنذري: "من رواية عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي". وهذا منه تعليل للحديث. وقال ابن رجب: "في إسناده مقال". وضعّفه الألباني. قلت: عبد الرحمن ضعيف منكر الحديث عن النعمان، والنعمان مجهول، فالسند أقرب إلى الضعف الشديد.

(2)

انظر تفصيل القول في صومه صلى الله عليه وسلم في شعبان (ص 293) وفي حديث أسامة (ص 491 - 492).

ص: 86

رجلًا أنْ يَصومَ الأشهرَ الحرمَ، وسنَذْكُرُهُ في موضع آخرَ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى

(1)

.

وأفضلُ صيامِ الأشهرِ الحرمِ صيامُ شهرِ اللهِ المحرَّمِ، ويَشْهَدُ لهذا أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ في هذا الحديثِ:"وأفضلُ الصَّلاةِ بعدَ المكتوبةِ قيامُ الليلِ". ومرادُهُ بعدَ المكتوبةِ ولواحقِها مِن سننِها الرَّواتبِ؛ فإنَّ الرَّواتبَ قبلَ الفرائضِ وبعدَها أفضلُ مِن قيامِ الليلِ عندَ جمهورِ العلماءِ؛ لالتحاقِها بالفرائضِ. وإنَّما خالَفَ في ذلكَ بعضُ الشَّافعيَّةِ

(2)

. فكذلكَ الصِّيامُ قبلَ رمضانَ وبعدَهُ ملتحقٌ برمضانَ، وصيامُهُ أفضلُ مِن صيامِ الأشهرِ الحرمِ

(3)

، وأفضلُ التَّطوُّعِ المطلقِ بالصِّيامِ صيامُ المحرَّمِ.

• وقدِ اخْتَلَفَ العلماءُ في أيِّ الأشهرِ الحرمِ أفضلُ:

فقالَ الحَسَنُ وغيرُهُ: أفضلُها شهرُ اللهِ المحرَّمُ. ورَجَّحَهُ طائفةٌ مِن المتأخِّرينَ.

ورَوى: وَهْبُ بنُ جَريرٍ، عن قُرَّةَ بن خالِدٍ، عن الحَسَنِ؛ قالَ: إنَّ الله افْتَتَحَ السَّنةَ بشهرٍ حرامٍ وخَتَمَها بشهرٍ حرامٍ، فليسَ شهرٌ في السَّنةِ بعدَ شهرِ رمضانَ أعظمَ عندَ اللهِ مِن المحرَّمِ، وكانَ يُسَمَّى شهرَ اللهِ الأصمَّ من شدَّةِ تحريمِهِ.

وقد رُوِيَ عنهُ مرفوعًا مرسلًا: قالَ آدَمُ بنُ أبي إياسٍ: حَدَّثَنا أبو هِلالٍ الرَّاسِبِيُّ، عن الحَسَنِ؛ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الصَّلاةِ بعدَ المكتوبةِ الصَّلاةُ في جوفِ الليلِ الأوسطِ، وأفضلُ الشُّهورِ بعدَ شهرِ رمضانَ المحرَّمُ، وهوَ شهرُ اللهِ الأصمُّ"

(4)

.

وخَرَّجَ النَّسائِيُّ مِن حديثِ أبي ذَرٍّ؛ قالَ: سَألْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الليلِ خيرٌ، وأيُّ

(1)

فانظره (ص 559) مع بيان ضعفه. ثمّ اعلم أنّ فكرة أنّ الصيام قبل رمضان وبعده ملتحق برمضان مستمدة من مجموعة من النصوص سيأتيك (ص 307 و 308) بيان ضعفها. وأولى منها أن يقال: التطوّع بالصوم نوعان: تطوع مطلق، فهذا أفضله صوم المحرّم للنصّ المتقدّم. وتطوع ورد في فضله نصّ مخصوص كصيام عرفة وستّ من شوّال، فهذا أفضل من التطوّع المطلق. فلو صام المرء ستًّا من شوال؛ كانت أفضل من صوم ستّ من المحرم، ولكنّ صيام يوم آخر من شوّال بعد الستّة ليس بأفضل من صيام يوم من المحرّم.

(2)

ومعهم ظاهر النصّ؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم "بعد المكتوبة" يشمل الرواتب وغيرها. والله أعلم.

(3)

انظر ما تقدم قبل حاشية.

(4)

(ضعيف). فيه علل ثلاث: أولاها: أن الراسبيّ ليّن لا يعدو أن يكون صالحًا في المتابعات. والثانية: أنه مرسل. والثالثة: أنّه تفرّد بزيادتين عن المتون الأخرى الصحيحة في الباب: إحداهما لفظة "الأوسط" المخالفة للروايات الصحيحة في فضل جوف الليل الآخر. والثانية: أنّه شهر الله الأصمّ.

ص: 87

الأشهرِ أفضلُ؟ فقالَ: "خيرُ الليلِ جوفُهُ، وأفضلُ الأشهرِ شهرُ اللهِ الذي تَدْعونَهُ المُحَرَّمَ"

(1)

. وإطلاقُهُ في هذا الحديثِ "أفضلَ الأشهرِ" محمولٌ على ما بعدَ رمضانَ، كما في روايةِ الحَسَنِ المرسلةِ.

وقالَ سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ وغيرُهُ: أفضلُ الأشهرِ الحرمِ ذو الحِجَّةِ.

بل قد قيلَ: إنَّهُ أفضلُ الأشهرِ مطلقًا، وسَنَذْكُرُهُ في موضعِهِ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.

وزَعَمَ بعضُ الشَّافِعِيَّةِ أن أفضلَ الأشهرِ الحرمِ رجبٌ، وهوَ قولٌ مردودٌ.

• وأفضلُ شهرِ المحرَّمِ عشرُهُ الأوَّلُ

(2)

.

وقد زَعَمَ يَمانُ بنُ رِئابٍ أنَّهُ العشرُ الذي أقْسَمَ اللهُ بهِ في كتابِهِ، ولكنَّ الصَّحيحَ أن العشرَ المقسَمَ بهِ عشرُ ذي الحِجَّةِ، كما سَيَأْتي في موضعِهِ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.

وقالَ أبو عُثْمانَ النَّهْدِيُ: كانوا يُعَظِّمونَ ثلاثَ عشراتٍ: العشرَ الأخيرَ مِن رمضانَ، والعشرَ الأوَّلَ مِن ذي الحِجَّةِ، والعشرَ الأوَّلَ مِن المُحَرَّمِ.

وقد وَقَعَ هذا في بعضِ نسخِ كتابِ "فضائل العشر" لابنِ أبي الدُّنْيا: عن أبي عُثْمانَ، عن أبي ذَرٍّ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ كانَ يُعَظِّمُ هذهِ العشراتِ الثَّلاثَ

(3)

. وليسَ ذلكَ

(1)

(صحيح بشواهده). يرويه حميد بن عبد الرحمن واختلف عليه فيه على وجوه ثلاثة: روى أولها: البخاري في "التاريخ"(2/ 46) من طريق قوية، عنه

مرسلًا. وروى الثاني: البخاري في "التاريخ"(2/ 45)، والنسائي في "الكبرى"(4216) و "المجتبى"(20 - قيام الليل، 6 - فضل صلاة الليل، 3/ 207 / 1613)، والمزّي في "التحفة"(11902) معلّقًا؛ من طريق قوية، عن داوود بن عبد الله الأودي، عن حميد، عن أهبان ابن امرأة أبي ذرّ، عن أبي ذرّ

رفعه. وأهبان مجهول أو شبهه. وروى الثالث: ابن أبي شيبة (9226)، وإسحاق (1/ 299/ 277)، وأحمد (2/ 303 و 329)، ومسلم (1163)، وابن ماجه (1742)، وأبو داوود (2429)، والترمذي (438 و 740)، والنسائي (3/ 207/ 1612)، وأبو يعلى (6392 و 6395)، وابن حبّان (3636)، وابن خزيمة (1134 و 2076)، والحاكم (1/ 307)، والبيهقي (4/ 290 و 291)، والبغوي (923 و 1788)؛ من طريقين قويّتين، عن حميد، عن أبي هريرة

رفعه.

وحميد تابعي ثقة فقيه لا يعرف بتدليس، فمن المرجح أنّه سمع هذا المتن من أبي هريرة مرة ومن أهبان مرّة وكان يرسله أحيانًا اختصارًا، فهاهنا إذًا حديثان؛ حديث أبي هريرة وحديث أبي ذرّ، فحديث أبي هريرة صحيح رواه مسلم، وحديث أبي ذر ضعيف لجهالة أهبان يتقوّى بحديث أبي هريرة.

(2)

كذا قال يرحمه الله، ثمّ استدلّ له بجملة من الواهيات والموقوفات والإسرائيليات التي لا تقوم بها حجّة. وإذ لا حجة هنا؛ فالأصل أن أيّام المحرّم سواء؛ إلّا التاسع والعاشر والحادي عشر لما صحّ فيها.

(3)

(ليس بمحفوظ). كتاب ابن أبي الدنيا هذا غير مطبوع فيما أعلم، والحديث موجود في "بعض =

ص: 88

بمحفوظٍ.

وقد قيلَ: إنَّهُ العشرُ الذي أتَمَّ اللهُ بهِ ميقاتَ موسى عليه السلام أربعينَ ليلةً، وإنَّ التَّكليمَ وَقَعَ في عاشرِهِ.

ورُوِيَ عن وَهْبِ بن مُنَبِّهٍ؛ قالَ: أوْحى اللهُ إلى موسى عليه السلام: أنْ مُرْ قومَكَ أنْ يَتقَرَّبوا إليَّ في أوَّلِ عشرِ المحرَّمِ، فإذا كانَ يومُ العاشرِ؛ فلْيَخْرُجوا إليَّ أغْفِرْ لهُم.

وعن قَتادَةَ: أن الفجرَ الذي أقْسَمَ اللهُ بهِ في أوَّلِ سورةِ الفجرِ هوَ فجرُ أوَّلِ يوم مِن المحرَّمِ، تَنْفَجِرُ منهُ السَّنةُ

(1)

.

ولمَّا كانَتِ الأشهرُ الحرمُ أفضلَ الأشهرِ بعدَ رمضانَ أو مطلقًا

(2)

، وكانَ صيامُها كلِّها مندوبًا إليهِ كما أمَرَ بهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم

(3)

، وكانَ بعضُها ختامَ السَّنةِ الهلاليَّةِ وبعضُها مفتاحًا لها، فمَن صامَ ذا الحِجَّةِ سوى الأيَّامِ المحرَّم صيامُها منهُ وصامَ المحرَّمَ، فقد خَتَمَ السَّنةَ بالطَّاعةِ وافْتَتَحَها بالطَّاعةِ، فيُرْجى أنْ تُكْتَبَ لهُ سنتُهُ كلُّها طاعةً؛ فإنَّ مَن كانَ أوَّلُ عملِهِ طاعةً وآخرُهُ طاعةً؛ فهوَ في حكمِ مَنِ اسْتَغْرَقَ بالطَّاعةِ ما بينَ العملينِ.

وفي حديثٍ مرفوع: "ما مِن حافظينِ يَرْفَعانِ إلى اللهِ صحيفةً، فيَرى في أوَّلِها وفي آخرِها خيرًا؛ إلَّا قالَ اللهُ للملائكةِ: أُشْهِدُكُمْ أنِّي قد غَفَرْتُ لعبدي ما بينَ طرفيها"

(4)

.

= نسخه" لا فيها جميعًا، وقد رواه موقوفًا ابن نصر في "الصلاة"، فحسبي فيه قول من أورده.

(1)

في خ: "تنفجر فيه السنة"، وأثبتّ ما في م وط.

(2)

لا بدّ في هذا من سند صحيح إلى من يتعين المصير إلى قوله! وهيهات!!

(3)

يشير إلى حديث مجيبة الباهليّة الذي سيأتيك تفصيل القول فيه (ص 559)، وفي كلامه هذا نظر من وجهين: أولهما: أنّ المحفوظ في حديث مجيبة "صم من الحرم واترك" لا صيام الحرم كلّها. والثاني: أنّ الحديث ضعيف لا ينبغي أن يستند إليه.

(4)

(ضعيف جدًّا). رواه: الترمذي (8 - الجنائز، 9 - باب، 3/ 310/ 981)، والبزّار (الانفطار 12 - ابن كثير، 10/ 211 - مجمع)، وأبو يعلى (2775)، وابن حبان في "المجروحين"(1/ 204)، وابن عدي (2/ 513)، والمخلّص في "الفوائد"، والبيهقي في "الشعب"(2821 و 7053)، والأصبهاني في "الترغيب"(1944)، وابن الجوزي في "الواهيات"(28 و 1320)، وابن عساكر (11/ 45 - 46)، والرافعي في "التدوين"(2/ 323، 3/ 115)؛ من طريق تمّام بن نجيح، عن الحسن، عن أنس

رفعه. قال ابن عديّ: "لا أعلم يرويه عن الحسن غير تمّام، وتمّام غير ثقة". وقال الهيثمي: "فيه تمّام بن نجيح، وثقه ابن معين وغيره وضعّفه البخاري وغيره". قلت: خلاصة حاله الضعف ونكارة الحديث. والحسن عنعن علي تدليسه.

ص: 89

خَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ وغيرُهُ

(1)

، وهوَ موجودٌ في بعضِ نسخِ كتابِ التِّرْمِذِيِّ.

وفي حديثٍ آخرَ مرفوعٍ: "ابنَ آدَمَ! اذْكُرْني مِن أوَّلِ النَّهارِ ساعةً ومِن آخرِ النَّهارِ ساعةً؛ أغْفِرْ لكَ ما بينَ ذلكَ؛ إلَّا الكبائرَ أو تَتوبَ منها"

(2)

.

وقالَ ابنُ المُبارَكِ: مَن خَتَمَ نهارَهُ بذكرِ [اللهِ]؛ كُتِبَ نهارُهُ كلُّهُ ذكرًا. يُشيرُ إلى أن الأعمالَ بالخواتيمِ، فإذا كانَ البداءةُ والختامُ ذكرًا؛ فهوَ أولى أنْ يَكونَ حكمُ الذِّكرِ شاملًا للجميعِ.

ويَتَعَيَّن استفتاحُ العامِ بتوبةٍ نصوحٍ تَمْحو ما سَلَفَ مِن الذُّنوبِ السَّالفةِ [في الأيَّامِ] الخاليةِ:

قَطَعْتَ شُهورَ العامِ لَهْوًا وَغَفْلَةً

وَلَمْ تَحْتَرِمْ فيما أتَيْتَ المُحَرَّما

فَلا رَجَبًا وافَيْتَ فيهِ بِحَقِّهِ

وَلا صُمْتَ شَهْرَ الصَّوْمِ صَوْمًا مُتَمَّما

وَلا في ليالي عَشْرِ ذي الحِجَّةِ الذي

مَضى كُنْتَ قَوَّامًا وَلا كُنْتَ مُحْرِما

فَهَلْ لَكَ أنْ تَمْحُو الذُّنوبَ بِعَبْرَةٍ

وَتَبْكي عَلَيْها حَسْرَةً وَتندُّما

وَتَسْتَقْبِلَ العامَ الجَديدَ بتَوْبَةٍ

لَعَلَّكَ أنْ تَمْحُو بِها ما تَقَدَّما

وقد سَمَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المُحَرَّمَ شهرَ اللهِ

(3)

، وإضافتُهُ إلى اللهِ تَدُلُّ على شرفِهِ وفضلِهِ؛ فإنَّه تَعالى لا يُضيفُ إليهِ إلَّا خواصَّ مخلوقاتِهِ، كما نَسَبَ مُحَمَّدًا وإبْراهيمَ وإسْحاقَ ويَعْقوبَ وغيرَهُم مِن الأنبياءِ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِم إلى عبوديَّتِهِ ونَسَبَ إليهِ بيتَهُ وناقتَهُ

(4)

.

= وله شاهد من حديث أبي هريرة عند البيهقي في "الشعب"(7052)، لكن فيه سليمان بن سلمة الخبائري، وهو شرّ من تمام.

ولذلك سكت الترمذي عن الحديث، وقال البيهقي:"فيه نظر"، وقال ابن الجوزي:"لا يصحّ"، ومال المنذري إلى إعلاله، وقال الألباني:"ضعيف جدًّا".

(1)

ولم أقف عليه عند الطبراني ولا عزاه المنذري ولا السيوطي له!

(2)

(لم أقف عليه بهذا اللفظ). وهو عند أبي نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 213) بنحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بسند واهٍ.

(3)

في حديث مسلم الذي تقدّم أوّل الباب.

(4)

في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [ص: 45]، وقوله: {أسرى =

ص: 90

• ولمَّا كانَ هذا الشَّهرُ مختصًّا بإضافتِهِ إلى اللهِ، وكانَ الصِّيامُ مِن بين الأعمالِ مضافًا إلى اللهِ؛ فإنَّهُ لهُ مِن بين الأعمالِ؛ ناسَبَ أنْ يُخْتَصَّ هذا الشَّهرُ المضافُ إلى اللهِ بالعملِ المضافِ إليهِ المختصِّ بهِ وهوَ الصِّيامُ.

وقد قيلَ في معنى إضافةِ هذا الشَّهرِ إلى اللهِ [إنَّهُ]

(1)

إنَّهُ إشارةٌ إلى أن تحريمَهُ إلى اللهِ عز وجل ليسَ لأحدٍ تبديلُهُ كما كانَتِ الجاهليَّةُ يُحِلُّونَهُ ويُحَرِّمونَ مكانَهُ صَفَرَ، فأشارَ إلى أنَّهُ شهرُ اللهِ الذي حَرَّمَهُ فليسَ لأحدٍ مِن خلقِهِ تبديلُ ذلكَ وتغييرُهُ.

شَهْرُ الحَرامِ مُبارَكٌ مَيْمونُ

وَالصَّوْمُ فيهِ مُضاعَفٌ مَسْنونُ

وَثَوابُ صائِمِهِ لِوَجْهِ إلهِهِ

في الخُلْدِ عِنْدَ مَليكِهِ مَخْزونُ

الصِّيامُ سرٌّ بينَ العبدِ وبينَ ربِّهِ، ولهذا يَقولُ اللهُ عز وجل: كلُّ عملِ ابن آدَمَ لهُ؛ إلَّا الصَّومَ؛ فإنَّهُ لي، وأنا أجْزي بهِ، إنَّهُ تَرَكَ شهوتَهُ وطعامَهُ وشرابَهُ مِن أجلي. وفي الجنَّةِ بابٌ يُقالُ لهُ الرَّيَّانُ، لا يَدْخُلُ منهُ إلَّا الصَّائمونَ، فإذا دَخَلوا؛ أُغْلِقَ فلمْ يَدْخُلْ منهُ غيرُهُم. وهوَ جُنَّةٌ للعبدِ مِن النَّارِ كجُنَّةِ أحدِكُم مِن القتالِ

(2)

.

وفي "المسند": عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "مَن صامَ يومًا ابتغاءَ وجهِ اللهِ؛ بَعَّدَهُ اللهُ مِن نارِ جهنَّمَ كبعدِ غرابٍ طارَ وهوَ فرخٌ حتَّى ماتَ هَرِمًا"

(3)

.

= بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1]، وقوله:{أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125]، وقوله:{نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس: 13].

(1)

زيادة من ط.

(2)

وهذه قطع من نصوص مرفوعة سيأتي تخريجها في وظائف شهر رمضان.

(3)

(ضعيف جدًّا). رواه: أحمد (2/ 526)، والبزّار (1037 - كشف)، وأبو يعلى (921)، وابن أبي حاتم في "الجرح"(4/ 300) و "المراسيل"(1/ 66) تعليقًا، وابن قانع في "المعجم"(1/ 280/ 331)، وابن حبان في "الثقات"(7/ 362) تعليقًا، والطبراني في "الكبير"(7/ 56/ 6365) و "الأوسط"(3142)، والبيهقي في "الشعب"(3590)، وابن عبد البرّ في "الاستيعاب"(2/ 131) معلّقًا، وابن الأثير في "الغابة"(2/ 360)، والعلائي في "المراسيل"(273) تعليقًا؛ من طرق، عن ابن لهيعة، ثنا زبّان بن فائد (ووقع عند أحمد: خالد بن يزيد)، عن لهيعة بن عقبة، عن عمرو بن ربيعة (ووقع عند أحمد: عن رجل سماه وعند البزّار: عن أبي الشعثاء)، عن سلمة بن قيصر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم (ووقع عند البزّار: عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم).

قال الهيثمي (3/ 184): "فيه ابن لهيعة وفيه كلام". قلت: هذه أيسر علل الحديث وأقلّها قدحًا به؛ فقد رواه عن ابن لهيعة ابن يزيد وابن المبارك وابن وهب وروايتهم عنه مستقيمة. ولو أعله بزبّان لكان أولى؛ فإنَّه ضعيف كثير المنكرات، ومتابعة خالد بن يزيد له عند أحمد من أوهام ابن لهيعة، وقد جاء من الطريق =

ص: 91

وفيهِ: أن أبا أُمامَةَ قالَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أوْصِني! قالَ: "عليكَ بالصَّومِ؛ فإنَّهُ لا عِدْلَ لهُ"

(1)

. فكانَ أبو أمامَةَ وأهلُهُ يَصومونَ، فإذا رُئِيَ في بيتِهِم دخانٌ بالنَّهارِ؛ عُلِمَ أنَّهُ قد نَزَلَ بهِم ضيفٌ.

• وممَّن سَرَدَ الصَّومَ

(2)

عُمَرُ وأبو طَلْحَةَ وعائِشَةُ وغيرُهُم مِن الصَّحابةِ وخلقٌ كثيرٌ مِن السَّلفِ.

وممَّن صامَ الأشهرَ الحرمَ كلَّها ابنُ عُمَرَ والحَسَنُ البَصْرِي وغيرُهُما

(3)

.

قالَ بعضُهُم: إنَّما هوَ غداءٌ وعشاءٌ، فإنْ أخَّرْتَ غداءَكَ إلى عشائِكَ؛ أمْسَيْتَ وقد

= نفسها عن غيره على الجادّة. وكذلك لو أعلّه بلهيعة بن عقبة لكان أولى؛ ففيه ضعف وجهالة. وعمرو بن ربيعة لا يعرف. وسلمة بن قيصر مثله، وحديثه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسل. فالسند مظلم مسلسل بالعلل، وقد ضعّفه البخاري وأبو حاتم وأبو زرعة والذهبي والمنذري والعلائي والهيثمي والعسقلاني والألباني.

(1)

(صحيح). قطعة من حديث طويل يرويه محمّد بن عبد الله بن أبي يعقوب واختلف عليه فيه على وجهين: روى الأول: عبد الرزّاق (7899)، وابن أبي شيبة (8895)، وأحمد (5/ 248 و 255 و 258)، والحارث (345 و 346 - زوائد الهيثمي)، والنسائي (22 - الصيام، 43 - الاختلاف على محمد بن أبي يعقوب، 4/ 165/ 2219)، وابن حبان (3425)، والروياني (1176)، والطبراني في "الكبير"(8/ 91/ 7463 - 7465) و "الشاميين"(2111 و 2112)، وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 174 و 175، 6/ 277)، والبيهقي في "الكبرى"(4/ 301) و "الشعب"(3893) و "الدلائل"(6/ 234)؛ من طرق أربعة قويّة، عن ابن أبي يعقوب، عن رجاء بن حيوة، عن أبي أمامة

رفعه. وروى الثاني: أحمد (5/ 249 و 264)، والنسائي (الموضع السابق، 2221 و 2222)، وابن خزيمة (1893)، وابن حبّان (3426)، والروياني (1175)، والحاكم (1/ 421)، وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 175، 7/ 165)، والبيهقي في "الشعب"(3587)، والأصبهاني في "الترغيب"(1723)؛ من طرق، عن شعبة، عن ابن أبي يعقوب، سمعت أبا نصر الهلاليّ، عن رجاء بن حيوة، عن أبي أمامة

رفعه.

قال ابن حبان: "أبو نصر هذا هو حميد بن هلال. ولست أنكر أن ابن أبي يعقوب سمع هذا الخبر بطوله عن رجاء وسمع بعضه عن حميد بن هلال، فالطريقان جميعًا محفوظان". قلت: وصحيحان أيضًا. وقد صحّحه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والمنذري والذهبي والهيثمي والعسقلاني والألباني.

(2)

سرد الصوم بمعنى صوم الأيّام المتتابعة مشهور عن أولئك الأجلّة، وأمّا سرده بمعنى صوم الدهر على طريقة جهلة المتعبّدة والصوفيّة فلا.

(3)

والآثار الواردة في هذا الباب عن السلف الصالح كثيرة، وما صحّ منها فألفاظه متفاوتة، والناظر فيها بإنصاف لن يتردد في أنّهم رضي الله عنهم وأرضاهم كانوا يكثرون الصوم في الأشهر الحرم وغيرها ولا يصومونها كلّها، وهو اللائق بحرصهم على اتّباع آثار نبيّهم، خلافًا لمن جاء بعدهم ممّن يصحّ فيه قول القائل: كثير الحركة قليل البركة.

ص: 92

كُتِبْتَ في ديوانِ الصَّائمينَ.

للصَّائمِ فرحتانِ: فرحةٌ عندَ فطرِهِ، وفرحةٌ عندَ لقاءِ ربِّهِ إذا وَجَدَ ثوابَ صيامِهِ مدخورًا.

سَمعَ بعضُهُم مناديًا يُنادي على السُّحورِ في رمضانَ: يا ما خَبَأْنا للصُّوَّامِ! فانْتبَهَ بذلكَ وسَرَدَ الصَّوم.

ورُوِيَ أن الصَّائمينَ توضَعُ لهُم مائدةٌ تحتَ العرشِ يَأكُلونَ والنَّاسُ في الحسابِ، فيَقولُ النَّاسُ: ما بالُ هؤلاءِ يأْكُلون ونحنُ نُحاسَبُ؟ فيُقالُ: كانوا يَصومونَ وأنتُم تُفْطِرونَ. ورُوِيَ أنَّهُم يُحَكَّمونَ في ثمارِ الجنَّةِ والنَاسُ في الحسابِ. رَوَى ذلكَ ابنُ أبي الدُّنْيا في "كتاب الجوع"

(1)

.

قالَ اللهُ عز وجل: {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35].

وقالَ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]: قالَ مُجاهِدٌ وغيرُهُ: نَزَلَتْ في الصُّوَّامِ.

مَن تَرَكَ للهِ طعامَهُ وشرابَهُ وشهوتَهُ؛ عَوَّضَهُ اللهُ خيرًا مِن ذلكَ؛ طعامًا وشرابًا لا يَنْفَدُ، وأزواجًا لا تَموتُ.

وفي التَّوراةِ: طوبى لمَن جَوَّعَ نفسَهُ ليومِ الشبعِ الأكبرِ، طوبى لمَن ظَمَّأ نفسَهُ ليومِ الرِّيَ الأكبرِ، طوبى لمَن تَرَكَ شهوةً حاضرةً لموعدِ غيبٍ لمْ يَرَهُ، طوبى لمَن تَرَكَ طعامًا يَنْفَدُ في دارِ تَنْفَدُ لدارٍ أُكُلُها دائمٌ وظلُّها.

مَنْ يُرِدْ مُلْكَ الجِنانِ

فَلْيَذَرْ عَنْهُ التَّواني

وَليَقُمْ في ظُلْمَةِ اللَيْـ

ـلِ إلى نورِ القُرانِ

وَلْيَصِلْ صَوْمًا بِصَوْمٍ

إنَّ هذا العَيْشَ فاني

إنَّما العَيْشُ جِوارُ الْـ

ـلهِ في دارِ الأمانِ

(1)

(ضعيف جدًّا). سيأتي تفصيل الكلام في تخريجه (ص 371).

ص: 93

كانَ بعضُ الصَّالحينَ يُكْثِرُ الصَّومَ، فرَأى في منامِهِ كانَّهُ دَخَلَ الجنَّةَ، فنُودِيَ مِن ورائِهِ: يا فلانُ! تَذْكُرُ أنَّكَ صُمْتَ للهِ يومًا قطُّ؟ قالَ: إي واللهِ؛ يومٌ ويومٌ ويومٌ. فإذا صَوانِيُّ النِّثارِ

(1)

قد أخَذَتْهُ يمنةً ويسرةً.

كانَ بعضُ الصَّالحينَ قد صامَ حتَّى انْحَنى وانْقَطَعَ صوتُهُ

(2)

، فماتَ، فرُئيَ بعضُ أصحابِهِ في المنامِ، فسُئِلَ عن حالِهِ، فقالَ:

قَدْ كُسِي حُلَّةَ البَهاءِ وَطافَتْ

بِأباريقَ حَوْلَهُ الخُدَّامُ

ثُمَّ حُلِّي وَقيلَ يا قارِيَ ارْقَهْ

(3)

فَلَعَمْري لَقَدْ بَراكَ الصِّيامُ

وصامَ بعضُ التَّابعينَ حتَّى اسْوَدَّ مِن طولِ صيامِهِ!

وصامَ الأسودُ بنُ يَزيدَ

(4)

حتَّى اخْضَرَّ جسمُهُ وأصْفَرَّ، وكانَ إذا عوتِبَ في رفقِهِ بجسدِهِ؛ يَقولُ: كرامةَ هذا الجسدِ أريدُ!

وصامَ بعضُهُم حتَّى وَجَدَ طعمَ دماغِهِ في حلقِهِ!

وكانَ بعضُهُم يَسْرُدُ الصَّومَ، فمَرِضَ وهوَ صائمٌ، فقالوا لهُ: أفْطِرْ، فقالَ: ليسَ هذا وقتَ تركٍ!

وقيلَ لآخرَ منهُم وهوَ مريضٌ: أفْطِرْ، فقالَ: كيفَ [أفطِرُ وَ] أنا أسيرٌ لا أدْري ما يُفْعَلُ بي

(5)

؟

ماتَ عامِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ بن الزُّبَيْرِ وهوَ صائمٌ وما أفْطَرَ.

ودَخَلوا على أبي بَكْرِ بن أبي مَرْيَمَ وهوَ في النَّزعِ وهوَ صائمٌ، فعَرَضوا عليهِ ماءً

(1)

الصوانيّ: جمع صينيّة؛ معروفة. والنثار: ما ينثر في الأفراح من السكاكر والمكسّرات ونحوها.

(2)

على سبيل المبالغة، والبشر جميعًا ينحنون وتضعف أصواتهم عند الكبر. فإن كان الصوم هو الذي أحنى ظهره وقطع صوته فعلًا؛ فتعمّق وتنطّع وغلو ورغبة عن الحنيفيّة السمحة التي جاء بها النبيّ صلى الله عليه وسلم.

(3)

كذا! والرجل مذكور بكثرة الصوم لا بكثرة قراءة القرآن! حتّى أهل البرزخ لا همّ لهم إلّا متابعة القوافي والأوزان على حساب المعاني!

(4)

في خ وم: "الأسود بن زيد"! وهو تحريف صوابه ما أثبتّه.

(5)

كيف؟! كما أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي

فهذا وما قبله إن سلم من الحشو والمبالغة؛ فأحسن الظن بأصحابه أنهم لم يبلغهم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قال الذهبي في "النبلاء"(4/ 52) معقّبًا على قصّة الأسود المتقدّمة: "كأنه لم يبلغه النهي عن ذلك".

ص: 94

لِيُفْطِرَ، فقالَ: أغَرَبَتِ الشَّمسُ؟ قالوا: لا، فأبى أنْ يُفْطِرَ، ثمَّ أتَوْهُ بماءٍ وقدِ اشْتَدَّ نزعُهُ، فأوْمَأ إليهِم: أغَرَبَتِ الشَّمسُ؟ قالوا: نعم، فقَطَّروا في فيهِ قطرةً [مِن ماءٍ]، ثمَّ ماتَ.

واحْتُضِرَ إبْراهيمُ بنُ هانيء صاحبُ الإمام أحْمَدَ وهوَ صائمٌ، وطَلَبَ ماءً، وسَألَ: أغَرَبَتِ الشَّمسُ؟ قالوا: لا، وقالوا لهُ: قد رُخِّصَ لكَ في الفرضِ وأنتَ متطوِّعٌ، قالَ: أمْهِلـ[ـوا]، ثمَّ قالَ

(1)

: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61]، ثمَّ خَرَجَتْ نفسُهُ وما أفْطَرَ.

الدُّنْيا كلُّها شهرُ صيامِ المتَّقينَ، وعيدُ فطرِهِم يومَ لقاءِ ربِّهِم، ومعظمُ نهارِ الصِّيامِ قد ذَهَب، وعيدُ اللقاءِ قدِ اقْتَرَب.

وَقَدْ صُمْتُ عَنْ لَذَّاتِ دَهْرِيَ كُلِّها

وَيَوْمَ لِقاكُمْ ذاكَ فِطْرُ صِيامي

لمَّا كانَ الصِّيامُ سرًّا بينَ العبدِ وربِّهِ؛ اجْتَهَدَ المخلصونَ في إخفائِهِ بكلِّ طريقٍ حتَّى لا يَطَّلعَ عليهِم أحدٌ.

قالَ بعضُ الصَّالحينَ

(2)

: بَلَغَنا عن عيسى بن مَرْيَمَ عليه السلام أنَّهُ قالَ: إذا كانَ يومُ صومِ أحدِكُم؛ فَلْيَدْهُنْ لحيتَهُ ويَمْسَحْ شفتيهِ مِن دُهنِهِ حتَّى يَنْظُرَ إليهِ النَّاظرُ فيَظُنَّ أنَّهُ ليسَ بصائمٍ.

وعنِ ابن مَسْعودٍ؛ قالَ: إذا أصبَحَ أحدُكُم صائمًا؛ فلْيَتَرَجَّلْ (يَعْني: يُسَرِّحْ شعرَهُ ويَدْهُنُهُ)، وإذا تَصَدَّقَ بصدقةٍ عن يمينِهِ؛ فلْيُخْفِها عن شمالِهِ، وإذا صَلَّى تطوُّعًا؛ فلْيُصَليِّ في داخلِ بيتِهِ.

وقالَ أبو التَّيَّاحِ: أدْرَكْتُ أبي ومشيخةَ الحيِّ، إذا صامَ أحدُهُمُ؛ ادَّهَنَ ولَبِسَ صالحَ ثيابِهِ.

صامَ بعضُ السَّلفِ أربعينَ سنةً لا يَعْلَمُ بهِ أحدٌ: كانَ لهُ دكَّانٌ، فكانَ كل يومٍ يَأْخُذُ مِن بيتِهِ رغيفينِ ويَخْرُجُ إلى دكَّانِهِ فيَتَصَدَّقُ بهِما في طريقِهِ، فيَظُنُّ أهلُهُ أنَّهُ يَأْكُلُهُما في السُّوقِ، ويَظُنُّ أهلُ السُّوقِ أنَّهُ قد أكَلَ في بيتِهِ قبلَ أنْ يَجيءَ.

(1)

في م: "فقال أجل ثمّ قال"، وما بين الحاصرتين من ط.

(2)

في خ: "بعض السلف"، والأولى ما أثبتّه من م وط.

ص: 95

اشْتُهِرَ بعضُ الصَّالحينَ بكثرةِ الصِّيامِ، فكانَ تقومُ يومَ الجمعةَ في مسجدِ الجامعِ فيَأْخُذُ إبريقَ الماءِ فيَضَعُ بُلْبُلَتَهُ

(1)

في فيهِ ويَمَصُّها والنَّاسُ يَنْظُرونَ إليهِ ولا يَدْخُلُ حلقَهُ منهُ شيءٌ؛ لِيَنْفِيَ عن نفسِهِ ما اشْتُهِرَ بهِ مِن الصَّومِ.

كم يَسْتُرُ الصَّادقونَ أحوالَهُم وريحُ الصِّدقِ يَنُمُّ عليهِم!

ما أسَرَّ أحدٌ سريرةً إلَّا ألْبَسَهُ اللهُ رداءَها علانيةً.

كَمْ أكْتُمُ حُبَّكُمْ عَنِ الأغْيارِ

وَالدَّمْعُ يُذيعُ في الهَوى أسْراري

كَمْ أسْتُرُكُمْ هَتكْتُم أسْتاري

مَنْ يُخْفي في الهَوى لَهيبَ النَّارِ

ريحُ الصَّائمِ أطيبُ عندَ اللهِ مِن ريحِ المسكِ، فكلَّما اجْتَهَدَ صاحبُهُ على إخفائِهِ؛ فاحَ ريحُهُ للقلوبِ فتَسْتَنْشِقُهُ الأرواحُ، وربَّما ظَهَرَ بعدَ الموتِ ويومَ القيامةِ.

فَكاتِمُ الحُبِّ يَوْمَ البَيْنِ مُنْهتِكٌ

وَصاحِبُ الوَجْدِ لا تَخْفى سَرائِرُهُ

لمَّا دُفِنَ عَبْدُ اللهِ بنُ غالِبٍ؛ كانَ يَفوحُ مِن ترابِ قبرِهِ رائحةُ المسكِ، فرُئِيَ في المنامِ، فسُئِلَ عن تلكَ الرَّائحةِ التي توجَدُ مِن قبرِهِ، فقالَ: تلكَ رائحةُ التَلاوةِ والظَّمإ

(2)

.

(1)

البلبلة: القناة التي يصب منها الماء.

(2)

قصص شاعت وذاعت بعد القرون الثلاثة الأولى ما ترى في السابقين الأولين لها عينًا ولا أثرًا! وكلّما زادت رائحة المسك وعفّت زاد تقديس العامة لصاحبها! وقد اعتاد صوفيّة الشام وغيرهم بين فينة وأخرى أن يشيعوا بين الناس أنّ فلانًا (وليّ الله الحيّ!) قد رأى في نومه فلانًا (وفي الله الميّت!) فطلب منه أن ينقله من مقبرة البلد لأن العصاة كثروا فيها ويجعله في مقام خاص (غالبًا ما يكون مسجدًا)! فيذهب جماعة من القوم خلسة في الليل، فينبشون القبر، ويجمعون ما فيه من التراب ثم يلفّونه في القطن الممسك ويدرجونه في أكفان بيضاء جديدة ممسكة، ثمّ يرشون المسك داخل القبر ويعيدونه كما كان، فإذا طلع الصباح خرجت جماعة منهم كبيرة بالدفوف والأناشيد يتبعهم العوامّ، فيكشفون القبر مرة أخرى ويحملون الوليّ المزعوم إلى المقام الجديد! ثم تأتيك أخبار العوامّ: هذا يقسم أنّه رآه بشحمه ولحمه وشعر صدره! وهذا يقسم أنه شمّ روائح المسك من باب المقبرة! وهذا يقسم أنّه رآه يتحرّك بأمّ عينيه! فيتسارع الجهلة والضلّال إلى الولي الحيّ في قبره وينذرون له النذور ويقربون له القربات. قد رأيت أنا وغيري هذا وعايشناه، وهو غيض من فيض من بلايا هذه القصّة وأمثالها! وإذا كان الصدّيق أبو بكر قد أوصى أن يكفّن بثوب قديم وقال: إنّما هو للمهلة (يعني: القيح والصديد)؛ فماذا أبقى لأولئك الذين يتحلّلون في قبورهم إلى مسك وعنبر؟! وإذا كانت روائح التلاوة والظمأ لم تصدر من قبر عبد الله بن عمرو صوّام الأمّة؛ فماذا بقي لمن بعده؟!

ص: 96

وجاءَ في حديثٍ مرفوعٍ: "يَخْرُجُ الصَّائمونَ مِن قبورِهِم يُعْرَفونَ بريحِ صيامِهِم، أفواهُهُم أطيبُ مِن ريحِ المسكِ"

(1)

.

وَهَبْني كَتَمْتُ السِّرَّ أوْ قُلْتُ غَيْرَهُ

أتَخْفى عَلى أهْلِ القُلوبِ السَّرائِرُ

أبَى ذاكَ أن السِّرَّ في الوَجْهِ ناطِقٌ

وَأنَّ ضَميرَ القَلْبِ في العَيْنِ ظاهِرُ

‌الفصل الثاني: في فضل قيام الليل

• وقد دَلَّ حديثُ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه هذا على أنَّهُ أفضلُ الصَّلاةِ بعدَ المكتوبةِ.

وهل هوَ أفضلُ مِن السُّننِ الرَّاتبةِ؟ فيهِ خلافٌ سَبَقَ ذكرُهُ

(2)

.

وقال ابنُ مَسْعودٍ رضي الله عنه: فضلُ صلاةِ الليلِ على صلاةِ النَّهارِ كفضلِ صدقةِ السِّرِّ على صدقةِ العلانيةِ

(3)

. وخَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ عنهُ مرفوعًا، والمحفوظُ وقفُهُ.

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: أبو الشيخ في "الثواب"، وعنه الرافعي في "التدوين"(2/ 326)؛ من طريق عبد الصمد بن عبد العزيز، عن حماد بن عمر، عن النضير بن حميد، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس

رفعه.

وهذا سند واهٍ بمرّة: حمّاد بن عمر: الغالب أنه محرف عن حماد بن عمرو، وهو النصيبي، متروك متّهم. والنضير بن حميد: الغالب أنّه محرّف عن النضر بن حميد، متروك منكر الحديث.

(2)

فانظره فيما تقدّم (ص 87).

(3)

(صحيح موقوفًا ورفعه شاذّ). رواه: ابن صاعد في "زوائد الزهد"(25)، والطبراني (10/ 179/ 10382)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(3/ 455)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 167، 5/ 36 و 238)، والبيهقي في "الشعب"(3098)؛ من طريق مخلد بن يزيد، ثنا الثوري، عن زبيد اليامي، عن مرّة بن شراحيل، عن ابن مسعود

رفعه.

وهاهنا علل ثلاث: أولاها: أنّ مخلد بن يزيد هذا صدوق له أوهام. والثانية: أنّه خولف فرواه: عبد الرزّاق (4735)، والطبراني (9/ 205/ 8999)؛ من طريق عبد الرزاق، عن الثوري، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود

موقوفًا. وعبد الرزاق ثقة ثبت إمام، فقوله أرجح. والثالثة: أنّ الثوريّ توبع على وقفه فرواه: ابن المبارك في "الزهد"(23) وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 166) من طريق شعبة، وابن أبي شيبة (6609) وأبو نعيم (7/ 238) والبيهقي (2/ 502) من طريق مسعر بن كدام، والطبراني (9/ 205/ 8998) وأبو نعيم (4/ 166، 5/ 36) من طريق منصور بن المعتمر، وابن أبي شيبة (34542) من طريق ليث بن أبي سليم؛ أربعتهم عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود

موقوفًا. وشعبة ومسعر ومنصور أئمّة جبال تتابعوا على الوقف، فالقول قولهم. ومن هنا يظهر أن تحسين المنذري للمرفوع وقول الهيثمي (2/ 254)"رجاله ثقات" لا يخلو من تساهل، وأنّ الصواب هنا قول البيهقي "قال أبو علي: لم يرفعه غير مخلد بن يزيد وأخطأ فيه =

ص: 97

وقالَ عَمْرُو بنُ العاصِ: ركعةٌ بالليلِ خيرٌ مِن عشرٍ بالنَّهارِ. خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنْيا.

• وإنَّما فُضِّلَتْ صلاةُ الليلِ على صلاةِ النَّهارِ:

* لأنَّها أبلغُ في الإسرارِ وأقربُ إلى الإخلاصِ.

كانَ السَّلفُ يَجْتَهِدونَ على إخفاءِ تهجُّدِهِم:

قالَ الحَسَنُ: كانَ الرَّجل يَكونُ عندَهُ زوَّارٌ

(1)

، فيَقومُ مِن الليلِ يُصَلِّي ولا يَعْلَمُ بهِ زوَّارُهُ. وكانوا يَجْتَهِدونَ في الدُّعاءِ ولا يُسْمَعُ لهُم صوتٌ. وكانَ الرَّجلُ يَنامُ معَ زوجتِهِ على وسادةٍ، فيَبْكي طولَ ليلتِهِ وهيَ لا تَشْعُرُ.

وكانَ مُحَمَّدُ بن واسِعٍ يُصَلِّي في طريقِ مكَّةَ طولَ ليلِهِ في محملِهِ، ويَأْمُرُ حاديَهُ أنْ يَرْفَعَ صوتَهُ لِيَشْغَلَ النَّاسَ عنهُ.

وكان بعضُهُم يَقومُ في وسطِ الليلِ ولا يُدْرَى بهِ، فإذا كانَ قربَ طلوعِ الفجرِ؛ رَفَعَ صوتَهُ بالقرآنِ، يُوهِمُ أنَّهُ قامَ تلكَ السَّاعةَ.

* ولأنَّ صلاةَ الليلِ أشقُّ على النُّفوسِ؛ فإنَّ الليلَ محلُّ النَّومِ والرَّاحةِ مِن التَّعبِ بالنَّهارِ، فتركُ النَّومِ معَ ميلِ النَّفسِ إليهِ مجاهدةٌ عظيمةٌ. قالَ بعضُهُم: أفضلُ الأعمالِ ما أُكْرِهَتِ النُّفوسُ عليهِ.

* ولأن القراءة

(2)

في صلاةِ الليلِ أقربُ إلى التَّدبُّرِ؛ فإنَّهُ تَنْقَطعُ الشَّواغلُ بالليلِ، ويَحْضرُ القلبُ، ويَتَواطَأُ هوَ واللسانُ على الفهمِ، كما قالَ تَعالى:{إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6].

ولهذا المعنى أُمِرَ بترتيلِ القرانِ في قيامِ الليلِ ترتيلًا.

ولهذا كانَتْ صلاةُ الليلِ منهاةً عن الإثمِ كما يَأْتي في حديثٍ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(3)

.

وفي "المسند": عن أبي هُرَيْرَةَ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قيلَ لهُ: إنَّ فلانًا يُصَلِّي مِن الليلِ،

= والصحيح موقوف" وقول ابن رجب "والمحفوظ وقفه"؛ يعني أن الرفع شاذّ.

(1)

في خ: "كان بعض السلف يجتهدون

زوّاره"، والأولى ما أثبته من م وط.

(2)

في خ: "ولأنّ القرآن"، والأولى ما أثبته من م وط.

(3)

(حسن بشواهده). سيأتي تفصيل القول فيه (ص 102).

ص: 98

فإذا أصْبَحَ سَرَقَ! فقالَ: "سَيَنْهاهُ ما تَقولُ"

(1)

.

* ولأنَّ وقتَ التَّهجُّدِ مِن الليلِ أفضلُ أوقاتِ التَّطوُّعِ بالصَّلاةِ وأقربُ ما يَكونُ العبدُ مِن ربِّهِ، وهوَ وقتُ فتحِ أبوابِ السَّماءِ واستجابةِ الدُّعاءِ واستعراضِ حوائجِ السَّائلينَ.

وقد مَدَحَ اللهُ المستيقظينَ بالليلِ لذكرِهِ ودعائِهِ واستغفارِهِ ومناجاتِهِ: فقالَ اللهُ تَعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17]. وقالَ: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17]. وقالَ: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ. وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18]. وقالَ: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]. وقالَ: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. وقالَ: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113]. وقالَ لنبيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} . وقالَ: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 26]. وقالَ: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 1 - 4].

• قالَتْ عائِشَةُ رضي الله عنها لرجلٍ: لا تَدَعْ قيامَ الليلِ؛ فإنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ لا يَدَعُهُ، وكانَ إذا مَرِضَ (أو قالَتْ: كَسِلَ) صَلَّى قاعدًا

(2)

.

(1)

(صحيح). رواه: ابن الجعد (2160)، وأحمد (2/ 447)، والبزّار (720 و 721 و 722)، والطحاوي في "المشكل"(2/ 430)، وابن حبّان (2560)، والبيهقي في "الشعب"(3261)، والكلاباذي في "معاني الآثار"(الضعيفة 2)؛ من طرق، عن الأعمش، عن أبي صالح (ووقع عند ابن الجعد: عن أبي سفيان وهو خطأ من الراوي عن الأعمش)، عن أبي هريرة أو عن جابر بن عبد الله (شكّ الأعمش)

رفعه.

قال الهيثمي (2/ 261، 7/ 92): "رجال الصحيح" إلّا أن الأعمش قال: أرى أبا صالح عن أبي هريرة". قلت: التردّد في الصحابيّ لا يضرّ، ورواية الأعمش عن أبي صالح محمولة على السماع، والسند صحيح، وقد قوّاه ابن حبّان وابن كثير والهيثمي والألباني.

(2)

(صحيح). رواه: الطيالسي (1519)، وأحمد (6/ 125 و 249)، والبخاري في "الأدب المفرد" =

ص: 99

وفي روايةٍ أخرى عنها؛ قالَتْ: بَلَغَني عن قومٍ يَقولونَ: إنْ أدَّيْنا الفرائضَ لمْ نُبالِ ألَّا نَزْدادَ! ولَعَمْري؛ لا يَسْألُهُمُ اللهُ إلَّا عمَّا افْتَرَضَ عليهِم، ولكنَّهُم قومٌ يُخْطِئونَ بالليلِ والنَّهارِ، وما أنتُم إلَّا مِن نبيِّكُم، وما نبيُّكُم إلَّا منكُم، واللهِ؛ ما تَرَكَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قيامَ الليلِ. ونَزَعَتْ كلَّ آيةٍ فيها قيامُ الليلِ

(1)

.

فأشارَتْ عائِشَةُ رضي الله عنها إلى أن قيامَ الليلِ فيهِ فائدتانِ عظيمتانِ: الاقتداءُ بسنَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والتَّأسِّي بهِ، وقد قالَ تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وتكفيرُ الذُّنوبِ والخطايا؛ فإنَّ بني آدَمَ يُخْطِئونَ بالليلِ والنَّهارِ، فيَحْتاجونَ إلى الاستكثارِ مِن مكفِّراتِ الخطايا، وقيامُ الليلِ مِن أعظمِ المكفِّراتِ، كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمُعاذِ بن جَبَلٍ:"قيامُ العبدِ في جوفِ الليلِ يُكَفِّرُ الخطيئةَ". ثمَّ تَلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ

} الآية [السجدة: 16]

(2)

.

= (800)، وأبو داوود (2 - الصلاة، 307 - قيام الليل، 1/ 417/ 1307)، وابن أبي الدنيا في "التهجّد"(2)، وابن خزيمة (1137)، وابن أبي حاتم في "العلل"(242)، والحاكم (1/ 452)، والبيهقي (3/ 14)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(2/ 185)؛ من طريق شعبة، سمعت يزيد بن خمير، سمعت عبد الله بن أبي موسى؛ قال: قالت لي عائشة

فذكره.

وهؤلاء ثقات رجال مسلم، ولذلك قال الحاكم:"على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي والألباني.

(1)

(لم أقف عليها). لكن المرفوع منها صحيح بلا ريب.

(2)

(صحيح). قطعة من حديث طويل رواه: معمر في "الجامع"(20303)، وأحمد (5/ 231)، وعبد بن حميد (112 - منتخب)، وابن ماجه (39 - الفتن، 12 - كف اللسان، 2/ 1314/ 3973)، والترمذي (41 - الإيمان، 8 - حرمة الصلاة، 5/ 11/ 2616)، والنسائي في "الكبرى"(11311 - تحفة)، والطبراني (20/ 130/ 266)، والقضاعي (104)، والبغوي في "السنّة"(11)؛ من طريق عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل شقيق أبي سلمة، عن معاذ

رفعه. قال الترمذي: "حسن صحيح"، وتعقّبه المنذري في "الترغيب" وابن رجب في "العلوم والحكم"(ح 29) بأنّ أبا وائل لم يسمع معاذًا وإن أدركه.

ورواه: ابن أبي شيبة (30356)، وهناد (1091)، وأحمد (5/ 233 و 237)، وابن أبي الدنيا في "الصمت"(6)، والطبري (28238 و 28239)، والطبراني (20/ 142/ 291 - 294)، والدارقطني في "العلل"(988)، والحاكم (2/ 76 و 412)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 376)، والبيهقي في "الشعب"(4958 و 4959)، والأصبهاني في "الترغيب"(83)؛ من طريق ميمون بن أبي شبيب، عن معاذ

رفعه مطوّلًا ومختصرًا. وصحّحه الحاكم والذهبي على شرطهما، وأعله المنذري وابن رجب بأنّ ميمونًا لم يدرك معاذًا.

ورواه أيضًا: الطيالسي (560)، وابن أبي شيبة (26489)، وأحمد (5/ 233 و 237)، والطبراني (20/ 147/ 304 و 305)، والبيهقي في "الشعب"(3349)، والأصبهاني في "الترغيب"(1436)؛ من طريق =

ص: 100

خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ وغيرُهُ.

وقد رُوِيَ أن المتهجِّدينَ يَدْخُلونَ الجنَّةَ بغيرِ حساب:

ورُوِيَ عن: شهرِ بن حَوْشَب، عن أسْماءَ بنتِ يَزيدَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إذا جَمَعَ اللهُ الأوَّلينَ والآخِرينَ يومَ القيامةِ؛ جاءَ مناد يُنادي بصوتٍ يُسْمعُ الخلائقَ: سَيَعْلَمُ الخلائقُ اليومَ مَن أولى بالكرمِ. ثمَّ يَرْجِعُ فيُنادي: أينَ الذينَ كانوا لا تُلْهيهِمْ تجارةٌ وَلا بيعٌ عن ذكرِ اللهِ؟ فيقومونَ وهُم قليلٌ. ثمَّ يَرْجِعُ فيُنادي: لِيَقُمِ الذينَ كانوا يَحْمَدونَ الله في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ! فيَقومونَ وهُم قليلٌ. ثمَّ يَرْجِعُ فيُنادي: لِيَقُمِ الذينَ كانَتْ تتجافى جنوبُهُم عن المضَاجعِ! فيَقومونَ وهُم قليلٌ. ثمَّ يُحاسَبُ سائرُ النَّاسِ"

(1)

. خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا وغيرُهُ.

ويُرْوى عن: شَهْرِ بن حَوْشَب، عن ابن عَبَّاسٍ؛ مِن قولهِ

(2)

.

= عروة بن النزّال، عن معاذ

رفعه. وعروة هذا على جهالته لم يسمع معاذًا.

ورواه أيضًا: أحمد (5/ 236 و 245)، والبزّار (1653 و 1654 - كشف)، وابن حبّان (214)، والطبراني (20/ 64/ 116 و 137 و 141)، والبيهقي في "الشعب"(4961)، والأصبهاني في "الترغيب"(1437)؛ من طرق أربع يقوّي بعضها بعضًا، عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ

رفعه. وعبد الرحمن شامي قديم لزم معاذًا واختلفوا في صحبته. فهذه أقوى الطرق وعليها العمدة في تقوية هذا الحديث.

ولهذه القطعة طرق أخرى عن معاذ عند: أحمد (5/ 232 و 242)، وهنّاد في "الزهد"(1092)، وابن جرير (28237 و 28240)، وابن مردويه (السجدة 17 - الدرّ)؛ مرفوعًا.

والحديث صحيح بطريق ابن غنم وحدها، فإن لم يكن كذلك؛ فهو صحيح بمجموع طرقه بلا ريب.

وقد صحّحه الترمذي والدارقطني والنووي والألباني.

(1)

(منكر). رواه: عبد الرزاق (1581) والخطيب في "الجمع والتفريق"(1/ 468) من طريق أبان بن أبي عيّاش، وهناد في "الزهد"(178) وإسحاق (1/ 180/ 23) وابن نصر في "الصلاة"(النور 37 - الدرّ) وابن أبي الدنيا في "التهجّد"(203) وابن أبي حاتم (النور 37 - ابن كثير) وابن مردويه (النور 37 - الدرّ) من طريق أبي شيبة الواسطيّ؛ كلاهما عن شهر، عن أسماء

به مرفوعًا.

وهذا سند فيه علل: أولاها: ضعف شهر فإنّه لا يعدو أن يكون صالحًا في الشواهد. والثانية: أن ابنَ أبي عيّاش متروك ومتابعه أبا شيبة عبد الرحمن بن إسحاق ضعيف منكر الحديث. والثالثة: أنّهما خولفا فرواه: ابن المبارك في "الزهد"(353)، والحارث في "المسند"، وعنه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 62)؛ من طريق [أبي] المنهال سيّار بن سلامة، عن شهر، عن ابن عبّاس

موقوفًا. وأبو المنهال ثقة، فالقول قوله، والمعروف في هذا المتن أنّه من حديث ابن عبّاس موقوفًا وحديث أسماء مرفوعًا منكر.

(2)

(موقوف ضعيف). فيه شهر بن حوشب كما تقدّم في الحاشية السابقة.

ص: 101

ويُرْوى نحوُهُ أيضًا مِن حديثِ: أبي إسْحاقَ، عن عَبْدِ اللهِ بن عَطاءٍ، عن عُقْبَةَ بن عامِرٍ مرفوعًا وموقوفًا

(1)

.

ويُرْوى نحوُهُ أيضا عن عُبادَةِ بن الصَّامتِ ورَبيعَةَ الجُرَشِيِّ والحَسَنِ وكَعْبٍ مِن قولهِم

(2)

.

قالَ بعضُ السَّلفِ: قيامُ الليلِ يُهَوِّنُ طولَ القيامِ يومَ القيامةِ، وإذا كانَ أهلُهُ يَسْبِقونَ إلى الجنَّةِ بغيرِ حساب؛ فقدِ اسْتَراحَ أهلُهُ مِن طولِ الموقفِ والحساب.

وفي حديثِ أبي أُمامةَ وبلالٍ المرفوعِ: "عليكُم بقيام الليلِ؛ فإنَّهُ دأْبُ الصَّالحينَ قبلَكُم، وإن قيامَ الليلِ قربةٌ إلى اللهِ وتكفيرٌ للسَّيِّئاتِ ومنهاةٌ عن الإثمِ ومطردةٌ للدَّاءِ عن الجسدِ"

(3)

. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ.

(1)

(منكر). رواه: الحاكم (2/ 398)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 9)، والبيهقي في "الشعب"(3246)؛ من طريق أبي الأحوص، عن أبي إسحاق

رفعه بنحوه بالسند المذكور.

قال الحاكم: "صحيح، وله طرق عن أبي إسحاق". ووافقه الذهبي مع أنه قال في "الميزان"(2/ 461): "قال شعبة: سألت أبا إسحاق السبيعي عن عبد الله بن عطاء الذي روى عن عقبة (فذكر هذا الحديث)، فقال: شيخ من أهل الطائف. فلقيت ابن عطاء فسألته: أسمعته من عقبة؟ فقال: لا، حدّثنيه سعد بن إبراهيم. فلقيت سعدًا فقال: حدّثنيه زياد بن مخراق. فلقيت زيادًا فقال: حدّثني رجل عن شهر بن حوشب"! فبان أوّلًا: أن هذا السنف ضعيف من أجل شهر والرجل المبهم. وبان ثانيًا: أنّه ليس بالشاهد المستقلّ وإنّما هو فرع من فروع الاختلاف المتقدّم على شهر في هذا المتن، والذي بيّنت قبل حاشية أنّ الثقات رووه عن شهر عن ابن عبّاس موقوفا خلافًا للضعفاء الذين جعلوه من حديث أسماء أو عقبة بن عامر، فالمعروف هاهنا حديث ابن عبّاس الموقوف، وحديثا أسماء وعقبة منكران.

* ملاحظة: ذكر ابن رجب رحمة الله عليه أن هذا المتن جاء عن عقبة بن عامر مرفوعًا وموقوفًا، ولم أقف عليه إلّا مرفوعًا، وما أظنّ الوقف إلّا وهمًا من ابن رجب ساقه إليه سياق البيهقي للحديث. والله أعلم.

(2)

ولا تفيد هذه الموقوفات الحديث قوّة؛ لأنّها - إن صحّت أسانيدها إلى المذكورين - لا يبعد أن تكون ممّا تلقّوه من أهل الكتاب، ولا سيّما أن في رواتها كعب الأحبار. والله أعلم.

(3)

(حسن بشواهده). يرويه ربيعة بن يزيد واختلف عليه فيه على ثلاثة أوجه:

روى أوّلها: ابن منيع، والترمذي (49 - دعوات، 102 - دعاؤه صلى الله عليه وسلم، 5/ 552/ 3549)، وابن نصر في "قيام الليل"(24)، وابن أبي الدنيا في "التهجد"(1)، والروياني في "المسند"(745)، والشاشي (978)، والبيهقي (2/ 502)، والخطيب في "التاريخ"(7/ 187)، وابن عساكر؛ من طريق [بكر بن خنيس]، [عن محمّد القرشي]، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن بلال

رفعه. قال الترمذي: "غريب لا نعرفه من حديث بلال إلّا من هذا الوجه". قلت: بكر ضعيف، والقرشي هو محمد بن سعيد الشامي المصلوب=

ص: 102

ففي هذا الحديثِ أنَّ قيامَ الليلِ يوجِبُ صحَّةَ الجسدِ ويَطْرُدُ عنهُ الدَّاءَ. وكذلكَ صيامُ النَّهارِ: ففي الطَّبَرانِيِّ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مرفوعًا: "صوموا تَصِحوا"

(1)

.

=كذّاب، والسند ساقط.

وروى الثاني: البيهقي في "السنن"(2/ 502) و"الشعب"(3087 و 3088) من طريق أبي عبد الله خالد بن أبي خالد، عن يزيد بن ربيعة، عن أبي إدريس، عن بلال

رفعه. قال الألباني في "الإرواء"(452): "خالد هذا لم أعرفه

ويزيد بن ربيعة هو الرحبي الدمشقي وهو ضعيف، وقد قلبه بعض الضعفاء فقال ربيعة بن يزيد، وهذا ثقة". قلت: بل هو ربيعة بن يزيد، والمنقلب هو يزيد بن ربيعة، فقد رواه كذلك الثقات والضعفاء في جميع طرق الحديث كما تقدّم في الوجه الأوّل وسيأتي في الثالث، ولم يذكروا للرحبيّ رواية عن أبي إدريس بخلاف ربيعة بن يزيد الثقة. لكن يبقى هذا الوجه ضعيفًا لجهالة خالد أبي عبد الله.

وروى الثالث: ابن خزيمة (1135)، والترمذي (الموضع السابق) معلّقًا، والطبراني في "الكبير"(8/ 92/ 7466) و"الأوسط"(3277)، وابن عدي (4/ 1524)، والحاكم (1/ 308)، والبيهقي في "السنن"(2/ 502) و"الشعب"(3088)، والبغوي في "السنن"(922)، والذهبي في "التذكرة"(1/ 389)؛ من طريق أبي صالح عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد (ووقع عند الحاكم: ثور بن يزيد، وهو خطأ بيّن من رواة المستدرك أو نسخه فقد رواه البيهقي عن الحاكم فوقع فيه على الجادّة، وفات هذا الألباني فبنى تخريجه للحديث على أنّه ثور)، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي أُمامة

رفعه دون قوله "ومطردة للداء من الجسد". قال الذهبي: "حسن الإسناد".

فهذا الوجه هو أولى الأوجه بالصواب كما قال الترمذيّ، والأوّل ساقط لا يصلح لصالحة، والثاني ضعيف منكر ولكنّه يزيدنا ثقة بأنّ للحديث أصلًا عن ربيعة بن يزيد.

ثم هاهنا شاهد من حديث سلمان عند: الطبراني (6/ 258/ 6154)، وابن عديّ (4/ 1597)، والبيهقي في "الشعب"(3089)، وابن عساكر؛ بسند ضعّفه المنذري والهيثمي والألباني.

وشاهد آخر من حديث ابن عمرو عند الديلمي في "الفردوس".

فالحديث حسن بهذه الشواهد، وقد قوَّاه ابن خزيمة والحاكم والبغوي والذهبي والعراقي والألباني.

(1)

(ضعيف). وقد جاء عن جماعة من الصحابة:

* فرواه: العقيلي في "الضعفاء"(2/ 92)، والطبراني في "الأوسط"(8308)، وأبو نعيم في "الطبّ"(253 - ضعيفة)؛ من طريق محمّد بن سليمان بن أبي داوود، ثنا زهير بن محمّد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة

رفعه. قال الطبراني "لم يرو هذا الحديث عن سهيل بهذا اللفظ إلّا زهير". وقال العقيلي: "لا يتابع عليه إلّا من وجه فيه لين". وقال المنذري والهيثمي (3/ 182): "رجاله ثقات". قلت: لكن رواية الشاميّين عن زهير ضعيفة، وهذا منها.

* ورواه ابن عدي في "الكامل"(7/ 2521) من طريق نهشل بن سعيد، عن الضحّاك، عن ابن عبّاس

رفعه. ونهشل متّهم متروك، والضحّاك عن ابن عبّاس منقطع، فالسند ساقط.

* ورواه ابن عديّ في "الكامل"(2/ 767) من طريق حسين بن عبد الله بن ضميرة، عن أبيه، عن=

ص: 103

وكما أنَّ قيامَ الليلِ يُكَفِّرُ السَّيِّئاتِ فهوَ يَرْفَعُ الدَّرجاتِ، وقد ذَكَرْنا أن أهلَهُ مِن السَّابقينَ إلى الجنَّةِ بغيرِ حسابٍ.

وفي حديثِ المنامِ المشهورِ الذي خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والترْمِذِيُّ: أن الملأ الأعلى يَخْتَصِمونَ في الدَّرجاتِ والكفَّاراتِ، وفيهِ أن الدَّرجاتِ: إطعامُ الطعام، وإفشاءُ السَّلامِ، والصَّلاةُ بالليلِ والنَّاسُ نيامٌ

(1)

.

= جدّه، عن علي

رفعه. والحسين هذا متّهم متروك، فالسند ساقط.

والحديث ضعّفه العقيلي وابن عديّ والعراقي والألباني، وقال الصغاني:"موضوع".

(1)

(صحيح لشواهده). قطعة من حديث طويل رواه جماعة من الصحابة والتابعين:

* فرواه البزّار (2129 - كشف) من طريق سعيد بن سنان، عن أبي الزاهريّة، عن كثير بن مرّة، عن ابن عمر

رفعه. قال الهيثمي في "المجمع"(7/ 181): فيه سعيد بن سنان، وهو ضعيف، وقد وثّقه بعضهم، ولم يلتفت إليه في ذلك". قلت: سعيد ساقط رموه بالوضع، والسند كذلك.

* ورواه: النجّاد في "ردّ خلق القرآن"(82)، والطبراني في "الدعاء"(1421)؛ من طريقين واهيتين، عن عبيد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن أبي هريرة

رفعه. وهذا ساقط: الطريقان إلى ابن حميد واهيتان، وابن حميد متروك.

* ورواه: أبو بكر النيسابوري في "الزيادات"(2/ 406 - إصابة)، والنجّاد في "خلق القرآن"(79)، وابن حبّان في "المجروحين"(3/ 135)، والدارقطني في "العلل"(973)، وابن الجوزي في "الواهيات"(10)؛ من طريق يوسف الصفّار، عن قتادة، عن أنس

رفعه. ويوسف متروك، وقد خالف رواية الثقات عن قتادة، فروايته منكرة ساقطة.

* ورواه العقيلي في "الضعفاء"(3/ 126) من طريق عبيد الله بن غالب، عن أبي المليح، عن عمران

رفعه. وعبيد الله بن غالب متروك، والسند ساقط.

* ورواه الطبراني في "الكبير"(1/ 317/ 938) من طريق عبد الله بن إبراهيم بن الحسين بن علي بن الحسن، عن أبيه، عن جدّه، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبي رافع

رفعه مختصرًا. قال الهيثمي (1/ 242): "فيه عبد الله بن إبراهيم بن الحسين عن أبيه ولم أر من ترجمهما". فالسند واه.

* ورواه عبد الرحمن بن سابط واختلف عليه فيه على ثلاثة وجوه: روى أوّلها: ابن أبي عاصم في "السنّة"(389 و 466)، والروياني (1241)، والنجّاد في "خلق القرآن"(78)، والرافعي في "التدوين"(1/ 200)، من طريق ليث، عن ابن سابط، عن أبي أمامة

رفعه. قال الهيثمي (7/ 182): "فيه ليث بن أبي سليم وهو حسن الحديث على ضعفه". قلت: ليث اختلط وكان يدلّس فالسند ضعيف. وروى الثاني ابن أبي شيبة (31697) من طريق موسى بن مسلم، عن ابن سابط، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وموسى صدوق. وروى الثالث: الطبراني في "الدعاء"(1416)، والخطيب في "التاريخ"(8/ 151 و 152)، وابن الجوزي في "الواهيات"(10)؛ من طريقين إحداهما قويّة، عن عمرو بن مرّة، عن ابن سابط، عن أبي ثعلبة، عن أبي عبيدة

رفعه. وخلاصة الكلام: أنّ الوجه الأوّل هنا منكر لضعف ليث، والثاني والثالث قويّان، لكن الثاني=

ص: 104

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= مرسل والثالث منقطع بين ابن سابط وأبي ثعلبة، فالحديث ضعيف على الحالين بإرسال أو انقطاع.

* ورواه معاوية بن صالح واختلف عليه فيه على وجهين: روى أوّلهما: البخاري في "الكنى"(ص 81)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(470)، والروياني (656)، وابن خزيمة في "التوحيد"(ص 219 - 220)، والنجّاد في "خلق القرآن"(83)، والطبراني في "الدعاء"(1417)، والبغوي في "السنّة"(925)؛ من طرق يقوّي بعضها بعضًا، عن معاوية، عن أبي يحيى، عن أبي يزيد، عن أبي سلام الأسود، عن ثوبان

رفعه. قال ابن خزيمة والبغوي: "أبو يحيى هو سليم بن عامر الخبائري"، وهو ثقة من رجال مسلم. قال ابن خزيمة:"وأبو يزيد لست أعرفه بعدالة ولا جرح". وقال البغوي: "لا يعرف اسمه". وقال الألباني: "هو غيلان بن أنس الكلبي روى عنه جمع ولم يوثقوه". قلت: هو على هذا مستور أو مجهول، والسند ضعيف به. وروى الثاني البزّار (2128 - كشف) من طريق الليث بن سعد، عن معاوية، عن أبي يحيى، عن أبي أسماء، عن ثوبان

رفعه. قال الهيثمي (7/ 181): "أبو يحيى لم أعرفه، وبقيّة رجاله ثقات". قلت: قد عرفه غيره كما تقدّم وتبين أنه ثقة من رجال مسلم. فالسند حسن. وخلاصة الكلام: أنّنا إن عمدنا إلى الترجيح؛ فالوجه الثاني أرجح لأن الليث ثقة ثبت إمام روايته مقدّمة على رواية الضعفاء في الوجه الأوّل، والحديث حسن عن ثوبان. وإن قلنا: بل سمعه أبو يحيى على الوجهين، وكلاهما محفوظ؛ فالحديث قويّ أيضًا باجتماع الوجهين. وعلى التعنّت وترجيح الوجه الأوّل، فالسند ضعيف لجهالة أبي يزيد حالًا أو عينًا.

• ورواه عبد الرحمن بن عائش واختلفوا عليه فيه على وجهين: روى أوّلهما: الدارمي في "السنن"(2/ 126)، والبخاري في "التاريخ"(7/ 359)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2585 و 2586) و"السنّة"(388 و 467)، وابن نصر في "قيام الليل"(ص 22)، وابن خزيمة في "التوحيد"(ص 215 و 216) تعليقًا، وابن أبي حاتم في "المراسيل"(444) و"العلل"(26) تعليقًا، والنجّاد في "خلق القرآن"(77 و 80 و 81)، وابن قانع في "المعجم"(2/ 175/ 658)، والطبراني في "الكبير"(7/ 180 - مجمع) و"الشاميّين"(597 و 598) و"الدعاء"(1418 و 1419)، والآجري في "الشريعة"(1055)، والدارقطني في "العلل"(973) و"الرؤية"(233 - 240)، والحاكم (1/ 520) مختصرًا، واللالكائي في "أصول الاعتقاد"(901 و 902)، والبيهقي في "الصفات"(644)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 322 - 324)، والبغوي في "السنّة"(924)، وابن الجوزي في "الواهيات"(11)، والذهبي في "التذكرة"(1/ 387)؛ من طرق خمس قويّة، عن خالد بن اللجلاج، عن عبد الرحمن بن عائق

رفعه. وروى الثاني: أحمد في "المسند"(4/ 66، 5/ 378) و"السنّة"(952)، وابن خزيمة في "التوحيد"(ص 217)، والدارقطني في "العلل"(973)، وابن منده في "الردّ على الجهميّة"(74)، وابن الجوزي في "الواهيات"(12)؛ من طريق زهير بن محمّد، عن يزيد بن يزيد بن جابر، عن خالد بن اللجلاج، عن عبد الرحمن بن عائق، عن بعض الصحابة

رفعه. قال الهيثمي (10/ 180): "رجاله ثقات".

ووجه الإشكال هنا أنّهم اختلفوا في صحبة عبد الرحمن بن عائش: فأثبتها ابن سعد والبخاري وأبو زرعة الدمشقي وابن سميع وابن البرقي وأبو القاسم البغوي وأبو زرعة الحرّاني وابن السكن وابن حبّان، وأنكرها أبو حاتم وأبو زرعة الرازي والترمذي وابن خزيمة وابن أبي حاتم، وقال ابن عبد البرّ:"لم يقل في حديثه "سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم إلّا الوليد بن مسلم". وتعقّبهم العسقلاني في "الإصابة" (2/ 405) - ومن قبله=

ص: 105

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الدارقطني في "العلل"(973) - بقوله: "لم ينفرد الوليد بن مسلم بالتصريح المذكور، بل تابعه حمّاد بن مالك الأشجعي والوليد بن مزيد البيروتي وعمارة بن بشير وغيرهم". قلت: ومنهم الأوزاعي، وقد صحّح الحاكم بعض هذه الطرق ووافقه الذهبي. وها هنا أمر آخر، وهو أنّه جاء في بعض الطرق "سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وفي بعضها "صلّى بنا النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات غداة"، وقال الهيثمي (7/ 180):"رجال الحديث الذي فيه "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثقات". فهذا التنوّع في الصيغ يرجّح أنّ صحبة ابن عائشة ثابتة وليست وهمًا من راو تابعه عليه آخرون. وأمر آخر أيضًا، وهو أنّ العسقلاني ذكر لابن عائشة حديثين آخرين يرجّحان سماعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم وجاء في أحدهما التصريح بأنّه صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأمر آخر أيضًا، وهو أنّ الرجل شاميّ، والذين أثبتوا صحبته هم الشاميّون كالوليد بن مزيد والوليد بن مسلم والأوزاعي وأبي زرعة الدمشقي، وهؤلاء أدرى بأهل بلدهم. وأمر آخر، وهو أنّ رواية ابن اللجلاج التابعي الكبير عنه تقوّي احتمال صحته. وبالجملة؛ فإنكار صحبة عبد الرحمن بن عائشة لا يخلو من تسرّع ومجازفة.

والمهمّ هنا أنّنا إن عددنا ابن عائشة في الصحابة؛ فالسند صحيح على الوجهين، والتردّد بين وجهين صحيحين لا يضرّ. وإن عددناه تابعيًّا: فالوجه الأوّل مرسل، والوصل في الوجه الثاني زيادة صدوق معتبرة، والحديث حسن بها. وإن تعنّتنا وقلنا: الوصل غلط من زهير وقد تكلّموا في حفظه؛ فالحديث مرسل قويّ، ولا سيّما أنّ في سياقه ما يدلّ على أنّ مكحولًا الشاميّ سمعه من غير ابن عائش، وهذا أدنى أحوال هذا السند.

* ورواه: عبد الرزّاق في "التفسير"(2612)، وأحمد (1/ 368)، وعبد بن حميد (682)، والترمذي (48 - التفسير، 39 - سورة ص، 5/ 366/ 3233 و 3234)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(469)، وأبو يعلى (2608)، وابن خزيمة في "التوحيد"(ص 217)، وابن أبي حاتم في "العلل"(26)، والنجّاد في "خلق القرآن"(76)، وابن قانع (2/ 102/ 551)، والطبراني في "الدعاء"(1420)، والآجرّي في "الشريعة"(1053 و 1054)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(3/ 464 و 465)، والدارقطني في "العلل"(973)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 321 و 322) معلّقًا، وابن الجوزي في "الواهيات"(14)؛ من طريق أبي قلابة، [عن خالد بن اللجلاج]، (قال مرّة: عن ابن عبّاس، ومرّة: عن ابن عيّاش، ومرّة: عن ابن عائش)

رفعه. قال الإمام أحمد: "هذا ليس بشيء، والقول ما قاله ابن جابر"؛ يعني: الصواب أنّه من حديث ابن عائشة لا ابن عبّاس. ورجّح الدارقطني أيضًا أنّه من حديث ابن عائش؛ قال: "وقتادة لم يسمع من أبي قلابة إلّا أحرفًا؛ فإنّه وقع إليه كتاب، ولم يميّزوا فيه عائشة وعبّاس". وقال العسقلاني: "المحفوظ عن عبد الرحمن بن عائش الحضرمي"؛ يعني أنّ رواية ابن عبّاس شاذّة. وهذا واضح من تردّدهم فيها بين ابن عائش وابن عبّاس، ومثل هذا التحريف كثير الوقوع عند الرواة والنسّاخ.

* ورواه: أحمد (5/ 243)، والبخاري في "التاريخ"(7/ 359)، والترمذي (الموضع السابق، 5/ 368/ 3235)، وابن خزيمة في "التوحيد"(ص 218 - 219)، وابن أبي حاتم في "العلل"(26)، والدارقطني في "العلل"(973)، والطبراني في "الكبير"(20/ 109/ 216)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 323) تعليقًا، والمزّي في "التهذيب" (17/ 203 و 205)؛ من طريق جهضم بن عبد الله. ح: ورواه: البخاري في "التاريخ"(7/ 359)، وابن أبي حاتم في "العلل"(26)، والنجّاد في "خلق القرآن"(74)، والطبراني في "الكبير"(20/ 109/ 216) و"الدعاء"(1414)، وابن عدي (6/ 2344)، والدارقطني في =

ص: 106

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= "العلل"(973)، وابن الجوزي في "الواهيات"(13)، والمزّي في "التهذيب"(17/ 205)؛ من طريق موسى بن خلف العمّي. كلاهما عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلّام، عن جدّه ممطور، (قال جهضم: عن عبد الرحمن بن عائش، وقال موسى: عن أبي عبد الرحمن السكسكي)، عن مالك بن يخامر، عن معاذ

رفعه. فأمّا الدارقطني؛ فصوّب هنا ذكر ابن عائش، وعليه يكون هذا السند من أوجه الاختلاف المتقدّمة على ابن عائش. وأمّا العسقلاني؛ فقال في "الإصابة" (2/ 406):"أخرجه الدارقطني وابن عدي ونقل عن أحمد أنّه قال: هذه الطريق أصحّها". قال العسقلاني: "فإن كان الأمر كذلك؛ فإنّما روى هذا الحديث عن مالك بن يخامر أبو عبد الرحمن السكسكي لا عبد الرحمن بن عائش، ويكون للحديث سندان: ابن جابر عن خالد عن عبد الرحمن بن عائش، ويحيى عن زيد عن أبي سلّام عن أبي عبد الرحمن عن مالك عن معاذ، ويقوّي ذلك اختلاف السياق بين الروايتين". قلت: ويقوّيه أيضًا أنّ جهضمًا تابع موسى على ذكر السكسكي عند الطبراني ولم يذكر ابن عائش. لكن المشكل هنا أنّ السكسكي مجهول، فعاد السند ضعيفًا على هذا الترجيح.

ورواه: البزّار (7/ 101/ 2668)، وابن خزيمة (ص 220)، والنجّاد (75)، والطبراني في "الدعاء"(1415) و"المعجم الكبير"(20/ 141/ 290)، والدارقطني (973)، والحاكم (1/ 521)؛ من طريقين، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ

رفعه. فإن لم يكن "عبد الرحمن بن أبي ليلى" هنا تحريفًا صوابه "أبو عبد الرحمن السكسكي"؛ فابن أبي ليلى لم يسمع معاذًا، فالسند ضعيف أيضًا.

* ورواه: ابن قانع (2/ 46/ 484) والطبراني في "الكبير"(8/ 322/ 8207) و"الأوسط"(5492) من طريق قويّة عن سعيد بن المرزبان أبي سعد، والطبراني في "الدعاء"(1416)، والخطيب في "التاريخ"(8/ 151 و 152) وابن الجوزي في "الواهيات"(10) من طريق قويّة عن الثوري؛ كلاهما عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب

رفعه مطوّلًا ومختصرًا. قال الهيثمي (1/ 243): "فيه أبو سعد البقّال، وهو مدلّس، وقد وثّقه وكيع". قلت: تابعه الثوري. على أنّ لهذا السند علّة، وهي أنّه جاء عن الثوريّ مرّة "عن طارق بن شهاب أو عبد الرحمن بن سابط"، وليست بالقادحة؛ لأنّ الشكّ في إحدى الطرق عن الثوري محمول على اليقين في الطريق الأُخرى، ولأنّهم لم يذكروا لقيس رواية عن ابن سابط، فبان أنّ ذكره وهم. وطارق له رؤية، ومراسيل أمثاله مقبولة عند أهل العلم. فالحديث حسن من هذا الوجه.

* ورواه ابن أبي عاصم في "السنّة"(465) من طريق إبراهيم بن طهمان، عن سماك بن حرب؛ عن جابر بن سمرة

رفعه مختصرًا. وجازف المعلّقون على "مسند الإمام أحمد"(طبعة الرسالة) فأعلّوا هذا السند بإبراهيم! وإبراهيم ثقة لا تعلّ بمثله الأسانيد! ولو كانت الأسانيد تعلّ بأمثال إبراهيم؛ لما سلم سند ولا صحّ حديث! وأعلّوه أيضا بسماك، وإنّما يضعّف سماك فيما رواه عن عكرمة وأمّا سائر حديثه فمقارب وقد احتجَّ به مسلم، وعلى التنزّل؛ فحديثه لا ينحطّ عن أن يكون حسنًا في الشواهد! وجازفوا مرّة أُخرى فزعموا أنّ سماكًا لا يصلح في هذا المطلب (يعني: العقائد والصفات)! وهذا باب ضلالة لو فتح لأتى على الأخضر واليابس وترك نصوص السنّة الصحيحة حصيدًا كأن لم يغن بالأمس وتصنيف مبتدع لم يأت بمثله الأوائل! وأخشى ما أخشاه أن يتطوّر الحال بنا إلى: راو صالح في الأحكام غير صالح في العقائد، وآخر صالح في الحيض والنفاس غير صالح في الحدود وأحكام المرتدّين! وجملة القول أنّ هذا السند لا ينحطّ عن كونه حسنًا في الشواهد بوجه من الوجوه، بل هو حسن لذاته، وقد قوّاه الألباني.

ص: 107

وفي "المسند" و "التِّرْمِذِيِّ" وغيرِهِما عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن وجوهٍ: أن في الجنَّةِ غرفًا يُرى ظاهرُها مِن باطنِها وباطنُها مِن ظاهرِها وأنها لأهلِ هذهِ الخصالِ الثَّلاثةِ

(1)

.

= فهذه اثنا عشر وجهًا لهذا الحديث. إذا استثنينا الأوجه الأربعة الأولى لسقوطها. فالأوجه الثمانية الأخيرة متراوحة بين الضعيف والحسن في الشواهد والحسن، وهي أكثر من كافية لتصحيح هذا الأصل. وإن تعنّتنا وقلنا: الأوجه الخمسة الأولى ساقطة لا تصلح لصالحة، وحديث طارق بن شهاب آيل إلى حديث ابن سابط ولا يعدوان أن يكونا مرسلًا قويًّا، وحديثا ابن عبّاس ومعاذ بطريقه الألى آيلان إلى حديث ابن عائش ولا يعدو الثلاثة أن يكونوا مرسلًا قويًّا؛ فهذان المرسلان مع حديث ثوبان وجابر بن سمرة والطريق الثانية لحديث معاذ هي أكثر من كافية لتقوية الحديث تبعًا لأحمد والبخاري والترمذي والحاكم وابن عبد البرّ مرّة والبغوي والمنذري والذهبي مرّة وابن كثير وابن رجب والهيثمي والعسقلاني والألباني.

وما هو والله موضع إطالة، لكنني لمّا رأيت المعلّقين على "مسند الإمام أحمد" (طبعة الرسالة) قد ركبوا الصعب والذلول في تضعيف هذا الحديث على كثرة مخارجه وحسن بعضها وصلاح بعضها في الشواهد وضعف بعضها يسيرًا آثرت أن أتوسّع في تخريجه وبيان حاله نصحًا وتحذيرًا. وإنما أُتي من أُتي هاهنا: إمّا من موقف مبرم اتّخذه قبل الشروع في دراسة الطرق، وإمّا من رغبة جامحة بمخالفة الألباني جعلته يتنكّب منهج أهل العلم في تقوية الحديث بكثرة مخارجه إذا كان ضعفها يسيرًا، أو تكاثرت عليه الطرق ثم عجز عن تبويبها وترتيبها بصورة علمية منهجة تفضي به إلى نتيجة سليمة فعاجلها بالتضعيف حفظًا للمقام ودرءًا لتهمة العجز عن الدرس والتحليل.

(1)

(صحيح). وقد جاء عن جماعة من الصحابة:

* فرواه: الخرائطي في "المكارم"(143)، وابن عدي (2/ 795)، والبيهقي في "البعث"(254)، والذهبي في "الميزان"(1/ 563) تعليقًا؛ من طريق حفص بن عير بن حكيم، ثنا عمرو بن قيس الملائيّ، عن عطاء، عن ابن عبّاس

رفعه. وحفص متروك متهم وقد استنكر حديثه هذا ابن عديّ والذهبي والعسقلاني.

* ورواه: ابن أبي شيبة (25734 و 33961)، وهنّاد في "الزهد"(123)، والترمذي (39 - الجنّة، 3 - صفة غرف الجنّة، 4/ 673/ 2527)، وعبد الله بن أحمد في "زوائد المسند"(1/ 156) و"زوائد الزهد"(99)، والبزّار (702)، وابن نصر في "مختصر قيام الليل"(22)، وأبو يعلى (428 و 438)، وابن خزيمة (2136)، وابن أبي داوود في "البعث"(74)، والخرائطي في "المكارم"(142)، وابن عدي (4/ 1613)، وابن السنّي (319)، والسهمي في "جرجان"(520)، والبيهقي في "الشعب"(3360) و"البعث"(252)، والخطيب في "الجامع"(236)، والبغوي في "التفسير"(البقرة 25)، والأصبهاني في "الترغيب"(1915)؛ من طريق عبد الرحمن بن إسحاق أبي شيبة، عن النعمان بن سعد، عن عليّ

رفعه. قال الترمذيّ: "غريب، وقد تكلّم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن إسحاق هذا من قبل حفظه". قلت: هو ضعيف منكر الحديث، والنعمان مجهول لا يعرف، ولذلك ضعّف العراقي حديثه هذا.

* ورواه: تمّام في "الفوائد"(1780)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 356)، والبيهقي في "البعث"(253)؛ من طريق عبد الرحمن بن عبد المؤمن الأزدي، سمعت محمّد بن واسع، عن الحسن، عن جابر

رفعه. وعبد الرحمن هذا لا بأس به، وهو غير الحافظ الجرجاني المشهور. والحسن عن جابر مرسل. ولذلك قال البيهقي:"غير قويّ، وروي بإسناد آخر عن جابر".

ص: 108

وفي حديثِ عَبْدِ اللهِ بن سَلامٍ المشهورِ المخرَّجِ في "السُّننِ": أنّهُ أوَّلُ ما سَمعَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تقولُ عندَ قدومِهِ المدينةَ: "يا أيّها النّاس! أطْعِموا الطّعامَ، وأفْشُوا السَّلامَ، وصِلوا الأرحامَ، وصَلُّوا بالليلِ والناسُ نيامٌ؛ تَدْخُلوا الجنةَ بسلامٍ"

(1)

.

= * ورواه الطبراني في "الشاميين"(1247) من طريق بقية، عن علي بن أبي حملة وشراحيل بن عبد الحميد وشعيب بن أبي الأشعث، عن نافع، عن ابن عمر

رفعه. وبقية عنعن على تدليسه، وشراحيل مجهول وشعيب ضعيف، ولا يبعد أنّ في السند خطأ! وقد توبع بقيّة عند ابن عديّ في "الكامل"(2/ 453) من طريق بشير بن زاذان، عن عليّ بن عبد الله القرشي، عن شراحيل بن عبد الحميد، عن نافع، عن ابن عمر

رفعه. وبشير واهٍ، والقرشيّ لم أقف له على ترجمة.

* ورواه: أحمد (2/ 173)، والطبراني (10/ 498 - نهاية)، والحاكم (1/ 80 و 321)، والبيهقي في "الشعب"(3090) و"البعث"(251)؛ من طريق حييّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلّي، عن ابن عمرو

رفعه.

صحّحه الحاكم مرّة على شرط مسلم ومرّة على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي فيهما، وقوّاه المنذري وابن كثير والهيثمي (2/ 257) والعسقلاني، وأولى منه قول الهيثمي (10/ 423):"رجاله وثّقوا على ضعف في بعضهم"؛ لأنّ حييًّا هذا ليّن ولم يخرّج له الشيخان شيئًا.

* ورواه: معمر في "الجامع"(20883)، وأحمد (5/ 343)، وابن خزيمة (2137)، وابن أبي حاتم (العنكبوت 60 - ابن كثير)، والخرائطي في "المكارم"(146)، وابن حبّان (509)، والطبراني (3/ 301/ 3466 و 3467)، والبيهقي في "السنن"(4/ 300) و "الشعب"(3892)، والخطيب في "التاريخ"(8/ 202)، والبغوي في "السنّة"(927)، والأصبهاني في "الترغيب"(2051)، وابن عساكر؛ من طريقين قويّتين، عن عبد الله بن معانق الأشعريّ، عن أبي مالك الأشعريّ

- رفعه. قال الهيثمي (10/ 422): "رجال الصحيح، غير عبد الله بن معانق، ووثقه ابن حبّان". قلت: والعجلي، وروى عنه جماعة، فالسند قويّ.

فهذه ستّة أوجه: الأوّلان ساقطان، والتاليان ضعيفان، والخامس صالح في الشواهد، والسادس قويّ. وهذا المتن صحيح بمجموع الأربعة الأخيرة، وقد صحّحه ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم والمنذري والذهبي وابن كثير والهيثمي والعسقلاني والألباني.

(1)

(صحيح). رواه: ابن أبي شيبة (25380 و 35836)، وابن سعد في "الطبقات"(1/ 235)، وأحمد (5/ 451)، وعبد بن حميد (496)، والدارمي (1/ 340، 2/ 275)، وابن ماجه (5 - الإقامة، 174 - قيام الليل، 1/ 423/ 1334 و 3251)، والفسوي (1/ 264)، والترمذي (38 - القيامة، 42 - باب، 4/ 652 / 2485)، وابن أبي عاصم في "الأوائل"، وابن نصر في "القيام"(20)، وابن قانع في "المعجم"(2/ 132/ 598)، والطبراني في "الأوائل" و"المكارم"، وابن السنّي (215)، والحاكم (3/ 113، 4/ 159)، وتمّام (1174 و 1175)، والقضاعي (719)، والبيهقي في "السنن"(2/ 502) و"الشعب"(3361 و 8749) و"الدلائل"(2/ 531)، والبغوي في "السنّة"(926)، والأصبهاني في "الترغيب"(401 و 2052)، وابن عساكر (29/ 104 - 106)، والضياء في "المختارة"(9/ 399/431 - 404)؛ من طرق، عن عوف بن أبي جميلة، عن زرارة بن أوفى، عن ابن سلام

رفعه.

ص: 109

• ومِن فضائلِ التَّهجُّدِ أن الله عز وجل: يُحِبُّ أهلَهُ، ويُباهي بهمُ الملائكةَ، ويَسْتَجيبُ دعاءَهُم.

رَوى الطَّبَرانِيُّ وغيرُهُ مِن حديثِ: أبي الدَّرْداءِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "ثلاثة يُحِبُّهُمُ اللهُ ويضحَكُ إليهِم ويَسْتَبْشِرُ بهِم

(فذَكَرَ منهُمُ) الذي لهُ امرأةٌ حسناءُ وفراشٌ حسنٌ فيَقومُ مِن الليلِ، فيقولُ اللهُ: يَذَرُ شهوتَهُ فيَذْكُرُني ولو شاءَ رَقَدَ. والذي إذا كانَ في سفرٍ وكانَ معَهُ ركبٌ فسَهِروا ثمَّ هَجَعوا، فقامَ مِن السَّحرِ في ضرَّاءَ وسرَّاءَ"

(1)

.

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ مِن حديثِ: أبي ذَرٍّ، عن النّبي صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "ثلاثةٌ يُحِبُّهُم اللهُ

(فذَكَرَ منهُم) وقومٌ ساروا ليلَهُم، حتَّى إذ كانَ النَّومُ أحبَّ إليهِم ممَّا يُعْدَلُ بهِ فوَضَعوا رؤوسَهُم؛ قامَ يَتَمَلَّقُني ويَتْلو آياتي"

(2)

. وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

= وهؤلاء ثقات رجال الشيخين، ولذلك صحّحه الترمذي والحاكم والبغوي والمنذري والنووي والذهبي والعسقلاني في "الفتح" والألباني- ثمّ رأيت العسقلاني يقول في "أمالي الأذكار" (5/ 277 - فتوحات):"وفي تصحيحه نظر؛ فإنّ زرارة، وإن كان ثقة، لا يعرف له سماع من ابن سلام". قلت: أصله قول أبي حاتم عندما سئل عن سماع زرارة من ابن سلام: "ما أراه، ولكن يدخل في المسند"، وقد صرّح بالتحديث عند ابن أبي شيبة، وقال الضياء:"في هذا الحديث بيان سماع زرارة من عبد الله"، ثمّ الرجل ثقة عابد لا يعرف بإرسال ولا تدليس، فالأصل أن تحمل عنعنته على السماع طالما أنّ التاريخ يدعمها، ولا سيّما أنّه سمع من هم في طبقة ابن سلام من الصحابة، وأبو حاتم ظنّ ولم يحقّق، ثمّ إنّه حمل هذه الرواية على الاتِّصال، فكأنّه يريد أنّها من رواية زرارة عن بعض الصحابة عن ابن سلام، وبالجملة فمثل هذا لا يعلّ الحديث. والله أعلم.

(1)

(حسن بشواهده). رواه: الطبراني (2/ 258 - مجمع)، والحاكم (1/ 25)؛ من طريق فضيل بن سليمان، ثنا موسى بن عقبة، ثنا عبيد الله، عن أبيه، عن أبي الدرداء

رفعه مطوّلًا ومختصرًا.

قال الحاكم: "صحيح، وقد احتجّا بجميع رواته"، ووافقه الذهبي. قلت: يعني: مجتمعَيْن أو منفردَيْن؛ لأنّ عبيد الله بن سلمان الأغرّ من رجال مسلم وحده، وفضيل لا يعدو أن يكون صالحًا في الشواهد، فالسند كذلك، ولكنّه يتقوّى بما بعده، وقد قوّاه المنذري والهيثمي والألباني.

(2)

(صحيح). قطعة من حديث طويل رواه: ابن أبي شيبة (19311)، وأحمد (5/ 153)، والترمذي (39 - الجنّة، 25 - باب، 4/ 698/ 2568)، والبزّار (4027 - 4029)، وابن نصر في "القيام"(251)، والنسائي في "الكبرى"(1314 و 1315 و 2351 و 7138) و"المجتبى"(20 - قيام الليل، 7 - صلاة الليل في السفر، 3/ 207 / 1614 و 5/ 84/ 2569)، وابن خزيمة (2456 و 12564، وابن حبّان (3349 و 3350 و 4771)، والحاكم (1/ 416، 2/ 113)، والمزّي في "التهذيب"(10/ 82)؛ من طريق قويّة، [عن زيد بن ظبيان]، عن أبي ذرّ

رفعه فذكر المنفق سرًّا والقائم في السفر والمقاتل بعد الهزيمة. وفيه ضعف من وجهين: أوّلهما: أنّهم رووه بإسقاط زيد، ورجّح البخاري والدارقطني إثباته. والثاني: جهالة زيد؛ فإنّه لم =

ص: 110

وفي "المسند": عن ابن مَسْعودٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "عَجِبَ ربُّنا مِن رجلٍ ثارَ عن وطائِهِ ولحافِهِ مِن بين أهلِهِ وحبِّهِ إلى صلاتِهِ، فيَقولُ ربُّنا تبارك وتعالى: يا ملائكتي! انْظُروا إلى عبدي، ثارَ مِن فراشِهِ ووطائِهِ مِن بين أهلِهِ وحبِّهِ إلى الصَّلاةِ؛ رغبةً فيما عندي وشفقةً ممَّا عندي

" وذَكَرَ بقيَّةَ الحديثِ

(1)

.

وقولُهُ "ثارَ" فيهِ إشارةٌ إلى قيامِهِ بنشاطٍ وعزمٍ.

= يرو عنه إلّا ربعيّ بن حراش. وأمّا الترمذي والحاكم فصحّحاه ووافقهما المنذري والذهبي والعراقي.

وله طريق أُخرى يرويها أبو العلاء يزيد بن الشخّير واختلف عليه فيها على وجهين: روى الأوّل: معمر في "الجامع"(20282)، وابن المبارك في "الجهاد"(47)، وأحمد (5/ 151)، وابن منيع، وابن أبي عاصم في "الجهاد"(127)؛ من طرق، عن الجريري، عن أبي العلاء يزيد بن الشخّير، عن ابن الأحمس، عن أبي ذرّ

موقوفا ومرفوعًا بذكر التارك لفراشه والقائم في السفر والمقاتل بعد هزيمة سريّته. وابن الأحمس هذا قال العراقي: "لا يعرف حاله". وروى الثاني: الطيالسي (468)، وابن أبي شيبة (19348)، وأحمد (5/ 176)، وابن أبي حاتم (الصفّ 4 - ابن كثير)، والطبراني (2/ 152/ 1637)، والحاكم (2/ 88)، والبيهقي (9/ 160)؛ من طريقين قويّتين، عن يزيد، [عن مطرّف]، عن أبي ذرّ

رفعه بذكر القائم في السفر والصابر على جار السوء والمقاتل بعد هزيمة سريّته. فالأظهر أنّ ليزيد شيخين في هذا الحديث، وإن كان لا بدّ من الترجيح؛ فالوجه الثاني أرجح لاجتماع الثقتين عليه وخشية أن يكون الجريريّ لم يحكم الوجه الأوّل. وقد صحّح الحاكم والذهبي هذا الوجه الأخير على شرط مسلم وصحّحه الألباني.

(1)

(صحيح). رواه: ابن أبي شيبة (19395)، وأحمد (1/ 416)، وأبو داوود (9 - الجهاد، 37 - الرجل يشري نفسه، 2/ 23/ 2536)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(569) و"الجهاد"(125)، وأبو يعلى (5272 و 5361 و 5362)، والشاشي (876)، وابن حبّان (2557 و 2558)، والطبراني (10/ 179 / 10383)، والحاكم (2/ 112)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 167)، والبيهقي (9/ 46 و 164)؛ من طرق، عن حمّاد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن مرّة الهمداني، عن ابن مسعود

رفعه. وهاهنا علّتان: أولاهما: أنّ عطاء أختلط، ورواية حمّاد عنه غير مأمونة. وأشار الدارقطني في "العلل" (869) إلى الثانية بقوله:"اختلف عن مرّة فرفعه حمّاد بن سلمة ووقفه خالد بن عبد الله". قلت: خالد أوثق من حمّاد ولكنّ روايته عن عطاء أيضًا غير مأمونة. قال الدارقطني: "وروى هذا الحديث قيس بن الربيع عن أبي إسحاق عن مرّة عن عبد الله مرفوعًا، تفرّد به يحيى الحمّاني عن قيس". قلت: كلاهما غير مأمون.

وله طريق أخرى: قال الدارقطني: "ورواه إسرائيل واختلف عنه: فقال أحمد بن يونس عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص وأبي الكنود عن عبد الله موقوفًا. وقال يحيى بن آدم عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة وأبي الكنود موقوفًا. والصحيح هو الموقوف". قلت: هؤلاء كلّهم ثقات، والوقف صحيح من هذا الوجه، لكنّ له حكم الرفع لأنّه لا يدرك بالرأي.

وعلى هذا فالحديث صحيح موقوفًا ومرفوعًا؛ وطرقه الموقوفة تزيد المرفوعة قوّة ولا تعارضها، وقد قوّاه ابن حبّان والدارقطني والحاكم والمنذري والذهبي والهيثمي (2/ 258) وشاكر والألباني.

ص: 111

ويُرْوى مِن حديثِ: عَطِيَّةَ، عن أبي سَعيدٍ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إن الله يَضْحَكُ إلى ثلاثةِ نفرٍ: رجلٍ قامَ مِن جوفِ الليلِ فأحْسَنَ الطَّهورَ فصَلَّى، ورجلٍ نامَ وهوَ ساجدٌ، ورجلٍ في كتيبةٍ منهزمةٍ فهوَ على فرسٍ جوادٍ لو شاءَ أنْ يَذْهَبَ لَذَهَبَ"

(1)

.

وخَرَّجَهُ ابنُ ماجَهْ مِن روايةِ: مُجالِدٍ

(2)

، عن أبي الوَدَّاكِ، عن أبي سَعيدٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إنَّ الله لَيَضْحَكُ إلى ثلاثةٍ: الصَّفِّ في الصَّلاةِ، والرَّجلِ يُصَلِّي في جوفِ الليلِ، والرَّجلِ يُقاتِلُ (أُراهُ قالَ:) خلفَ الكتيبةِ"

(3)

.

ورُوِّينا مِن حديثِ: أبَانَ، عن أنَسٍ، عن رَبيعَةَ بن وَقَاصٍ، عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "ثلاثُ مواطنَ لا تُرَدُّ فيها دعوةٌ: رجلٌ يَكونُ في بَرِّيَّةٍ حيثُ لا يَراهُ أحدٌ فيَقومُ فيُصَلِّي، فيَقولُ اللهُ لملائكتِهِ: أرى عبدي هذا يَعْلَمُ أن لهُ ربًّا يَغْفِرُ الذُّنوبَ، فانْظُروا ما يَطْلُبُ. فيَقولُ الملائكةُ: أي ربِّ! رضاكَ ومغفرتَكَ. فيَقولُ: اشْهَدوا أنِّي قد غَفَرْتُ لهُ ورَضِيتُ عنهُ. ورجلٌ يقومُ مِن الليلِ، فيقولُ اللهُ عز وجل: أليسَ قد جَعَلْتُ الليلَ سكنًا والنَّومَ سباتًا، فقامَ عبدي هذا يُصَلِّي، يَعْلَمُ أن لهُ ربًّا [يَغْفِرُ الذُنوبَ]. فيَقولُ اللهُ لملائكتِهِ: انْظُروا ما يَطْلُبُ عبدي هذا. فتَقولُ الملائكةُ: يا ربِّ! رضاكَ ومغفرتَكَ. فتقولُ: اشْهَدوا أنِّي قد غَفَرْتُ لهُ

" وذَكَرَ الثَّالثَ الذي يَكونُ في فئةٍ فيَفِرُّ أصحابُهُ ويَثْبُتُ

(1)

(منكر بهذا التمام). رواه: البزّار (715 - كشف)، وابن شاهين في "الناسخ"(198)؛ من طريق محمد بن أبي ليلى، عن عطيّة العوفي، عن أبي سعيد

رفعه.

وهذا سند ضعيف فيه علل: أولاها: محمّد بن أبي ليلى سيّء الحفظ جدَّا. والثانية: عطيّة العوفي ضعيف ولا سيّما في روايته عن أبي سعيد. والثالثة: أنّه خولف في متن الحديث كما يأتي بعده، وهذا حدّ النكارة، وقد ضعّفه الهيثمي.

(2)

في خ: "مجاهد"! وهو تحريف صوابه ما أثبته من م وط و"سنن ابن ماجه".

(3)

(ضعيف بهذا التمام). رواه: ابن أبي شيبة في "المصنّف"(19310)، وأحمد في "المسند"(3/ 80)، وابن ماجه في "السنن"(المقدّمة، 13 - باب ما أنكرت الجهميّة، 1/ 73/ 200)، وابن أبي الدنيا في "كتاب التهجّد"(216)، وابن نصر في "قيام الليل"(27)، وأبو يعلى في "المسند"(1004)، والآجرّي في "الشريعة"(646 و 647)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"؛ من طريقين، عن مجالد، عن أبي الودّاك، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

رفعه.

قال البوصيري: "في إسناده مقال". قلت: مجالد ليّن، وقد تفرّد بهذا السياق مخالفًا ما تقدّم، فلا يحتمل منه هذا، وقد ضعّفه الألباني.

ص: 112

هوَ

(1)

. وهوَ مذكور أيضًا في كلِّ الأحاديثِ المتقدِّمةِ.

وفي "المسند" و "صحيح ابن حِبَّان": عن عُقْبَةَ بن عامر، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"رجلانِ مِن أُمَّتي: تقومُ أحدُهُما مِن الليلِ فيُعالجُ نفسَهُ إلى الطهورِ وعليهِ عُقَدٌ فَيَتَوَضَّأُ: فإذا وَضَّأ يديهِ انْحَلَّتْ عقدةٌ، وإذا وَضَّأ وجهَهُ انْحَلَّتْ عقدةٌ، وإذا مَسَحَ رأْسَهُ انْحَلَّت عقدةٌ، وإذا وَضَّأ رجليهِ انْحَلَّتْ عقدةٌ. فتقولُ الرَّبُّ عز وجل للذينَ وراءَ الحجابِ: انْظُروا إلى عبدي هذا يُعابُ نفسَهُ، ما سَألَني عبدي هذا فهوَ لهُ"

(2)

.

وفي الصَّحيحينِ

(3)

أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قالَ: "نِعْمَ الرَّجلُ عبدُ اللهِ (يَعْني: ابنَ عُمَرَ)

(4)

لو كانَ يُصَلِّي مِن الليلِ". فكانَ عبدُ اللهِ لا يَنامُ بعدَ ذلكَ مِن الليلِ إلَّا قليلًا.

كانَ أبو ذَرٍّ رضي الله عنه يَقولُ للنَّاسِ: أرَأيْتُمْ لوْ أن أحَدَكُمْ أرادَ سفرًا؛ أليسَ يَتَّخِذُ مِن الزَّادِ ما يُصْلِحُهُ ويُبَلِّغُهُ؟ قالوا: بلى. قالَ: فسفرُ طريقِ القيامةِ أبعدُ، فخُذوا لهُ ما يُصْلِحُكُم؛ حُجُّوا حَجَّةً لعظائمِ الأُمور، صوموا يومًا شديدًا حرُّهُ لحرِّ يومِ النُّشور، صَلُّوا ركعتينِ في ظلمةِ الليلِ لظلمةِ القبور، تَصَدَّقوا صدقة لشرّ يومٍ عسير.

أينَ رجالُ الليل؟! أينَ الحَسَنُ وسُفْيانُ وفُضَيْل؟!

يا رِجالَ اللَيْلِ جِدُّوا

رُبَّ داعٍ لا يُردُّ

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن منده في "الصحابة"(1/ 512 - إصابة)، وأبو نعيم في "الصحابة"(2/ 184 - غابة)؛ من طريق أبان بن أبي عياش، عن أنس، عن ربيعة بن وقاص

رفعه.

قال ابن منده: "لا نعرفه إلّا من هذا الوجه". وقال ابن الأثير: "في حديثه نظر". قلت: من أجل أبان؛ فإنّه متروك. وقال الذهبي: "حديث مضطرب". وقال العسقلاني: "إسناده ضعيف".

(2)

(صحح). رواه أحمد (4/ 159) والطبراني (17/ 305/ 843) وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 9) من طريق ابن لهيعة، ورواه أحمد (4/ 201) والروياني (237) وابن حبّان (1052 و 2555) من طريق عمرو بن الحارث؛ كلاهما عن أبي عشانة المعافريّ، سمعت عقبة بن عامر

رفعه.

قال الهيثمي (2/ 267): "فيه ابن لهيعة وفيه كلام". قلت: تابعه عمرو بن الحارث وهو ثقة ثبت، وأبو عشانة ثقة أيضا. وقد قال الهيثمي في موضع آخر (1/ 229):"له سندان عندهما رجال أحدهما ثقات". فهذا أولى. والحديث قوّاه ابن حبّان والمنذري والهيثمي والألباني.

(3)

البخاري (19 - التهجّد، 2 - فضل قيام الليل، 3/ 6/ 1121 و 1122)، ومسلم (44 - الصحابة، 31 - فضائل ابن عمر، 4/ 1927/ 2479)؛ من حديث ابن عمر.

(4)

في خ: "يعني عبد الله بن عمر"، والصواب ما أثبتّه من م وط.

ص: 113

ما يَقومُ اللَيْلَ إلَّا

مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ

لَيْسَ شَيْءٌ كَصَلاةِ الْـ

ـــــلَيْلِ لِلْقَبْرِ يُعَدُّ

صَلَّى كثيرٌ مِن السَّلفِ صلاةَ الصُّبحِ بوضوءِ العشاءِ عشرينَ سنةً، ومنهُم مَن صَلَّى كذلكَ أربعينَ سنةً.

قالَ بعضُهُم: منذُ أربعينَ سنةً ما أحْزَنَني إلَّا طلوعُ الفجرِ.

قالَ ثابِتٌ: كابَدْتُ

(1)

قيامَ الليلِ عشرينَ سنةً، وتَنَعَّمْتُ بهِ عشرينَ سنة أُخرى.

• أفضلُ قيامِ الليلِ وسطُهُ

(2)

. قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ القيامِ قيامُ داوودَ، كانَ يَنامُ نصفَ الليلِ ويقومُ ثلثَهُ ويَنامُ سدسَهُ"

(3)

.

وكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سَمعَ الصَّارخَ يَقومُ للصَّلاةِ

(4)

. والصَّارخُ: الدِّيكُ، وهوَ يَصيحُ وسطَ الليلِ.

وخَرَّجَ النَّسائيُّ عن أبي ذَرٍّ؛ قالَ: سَألْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الليلِ

(5)

خيرٌ؟ قالَ: "جوفُهُ"

(6)

.

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ عن أبي ذَرٍّ؛ قالَ: سَألْتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ قيامِ الليلِ أفضلُ؟ قالَ: "جوفُ الليلِ الغابرِ (أو: نصفُ الليلِ)، وقليل فاعلُهُ"

(7)

.

(1)

كابدت: عانيت ووجدت المشقّة.

(2)

كذا! ومقتضى النصوص التي سيذكرها أنّ أفضل القيام هو النصف الأخير أو الثلث الأخير.

(3)

رواه: البخاري (19 - التهجّد، 7 - من نام عند السحر، 3/ 16/ 1131)، ومسلم (13 - الصيام، 35 - النهي عن صوم الدهر، 2/ 816/ 1159)؛ من حديث ابن عمرو.

(4)

البخاري (الموضع السابق، 1132)، ومسلم (6 - المسافرين، 17 - صلاة الليل، 1/ 511/ 741).

(5)

في خ: "أيّ قيام الليل خير"! والصواب ما أثبتّه من م ون وط.

(6)

(صحيح). قطعة من حديث تقدّم متنه وتفصيل القول في تخريجه (ص 88).

(7)

(ضعيف). رواه: ابن المبارك (1217)، وأحمد (5/ 179)، وابن نصر في "القيام"(77)، والنسائي في "الكبرى"(1308)، وابن حبّان (2564)، والطبراني في "الأوسط"(2645)، وابن عديّ (6/ 2452)، والبيهقي في "السنن"(3/ 4) و"الشعب"(3093)، والمزّي في "التهذيب"(28/ 581)؛ من طريق المهاجر بن مخلد أبي مخلد، عن أبي العالية (ووقع في الأوسط: أبي العلاء يزيد بن الشخير)، ثني أبو مسلم الجذمي، سمعت أبا ذرّ

رفعه.

ص: 114

وخَرَّجَ ابنُ أبي الدُّنْيا مِن حديثِ أبي أُمامَةَ؛ أن رجلًا قالَ: يا رَسولَ اللهِ! أيُّ الصَّلاةِ أفضلُ؟ قالَ: "جوفُ الليلِ الأوسطُ". قالَ: أيُّ الدُّعاءِ أسمعُ؟ قالَ: "دبرَ الصَّلواتِ المكتوباتِ"

(1)

.

وخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ، ولفظُهُما؛ أنّهُ سَألَهُ: أيُّ الدُّعاءِ أسمعُ؟ قالَ: "جوفُ الليلِ الآخرِ ودبرَ الصَّلواتِ المكتوباتِ"

(2)

.

وخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ عَمْرِو بن عَبَسَةَ؛ [أنَّهُ] سَمعَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: "أقربُ ما يَكونُ الرَّبُّ مِن العبدِ في جوفِ الليلِ، فإنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَكونَ ممَّن يَذْكُرُ الله في تلكَ السَّاعةِ؛ فكُنْ"

(3)

.

= قال الطبراني: "تفرّد به المهاجر". قلت: لينه أبو حاتم وغيره، واضطرابه بين أبي العالية وأبي العلاء وتردّده بين جوف الليل الغابر ونصفه يدلّ على أنّه ليس بالضابط على قلّة حديثه، فلا يستحقّ ما انفرد به التحسين. وفي الباب ما يشهد لبعض هذا وأمّا السياق بطوله فلا.

(1)

(شاذّ أو منكر). انظر ما بعده.

(2)

(شاذّ بهذا التمام). رواه: عبد الرزّاق (3948)، والترمذي (49 - الدعوات، 79 - باب، 5/ 526 / 3499)، والنسائي في "الكبرى"(9936) و"اليوم والليلة"(108)، والطبراني (8/ 289/ 8108) مختصرًا؛ من طريق ابن جريج، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أُمامة

رفعه. قال الترمذي: "حديث حسن"! وأقرّه المنذري والنووي والألباني. وقال الهيثمي (2/ 228): "مرسل". وقال العسقلاني في "أمالي الأذكار"(3/ 30 - فتوحات): "فيما قاله [يعني: الترمذي] نظر؛ لأنّ له عللًا: منها: الانقطاع بين ابن سابط وأبي أُمامة. قال ابن معين: لم يسمع عبد الرحمن بن سابط من أبي أُمامة. ومنها: عنعنة ابن جريج عن ابن سابط. ومنها: الشذوذ؛ فإنّه جاء عن خمسة من أصحاب أبي أُمامة أصل هذا الحديث من رواية أبي أُمامة صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم عن عمرو بن عبسة واقتصروا كلّهم على الشقّ الأوّل" اهـ. قلت: أمّا الانقطاع والشذوذ؛ فنعم، وأمّا عنعنة ابن جريج؛ فقد صرّح بالإخبار عند عبد الرزّاق. لكن يضاف إلى العلل المتقدّمة: أنّه اختلف فيه فقيل لأجوف الليل الآخر" وقيل "الأوسط" على ما تقدّم عند ابن أبي الدنيا. وقد فتّشت "التهجّد وقيام الليل" حديثًا حديثًا فما وجدته في الطبعة المصريّة، وليست بحوزتي رسالة الحارثي للماجستير في الجامعة الإسلاميّة لأطّلع على سنده عنده. وعلى أيّ حال؛ فهاهنا شذوذ في المتن بزيادة "ودبر الصلوات المكتوبات" والاختلاف بين "الأوسط" و"الآخر"، وشذوذ في السند بجعل هذا الحديث من مسند أبي أُمامة والمحفوظ أنّه من مسند عمرو بن عبسة كما سيأتي بعده. وقد أعلّ حديث أبي أُمامة بن القطّان والهيثمي والزيلعي والعسقلاني.

(3)

(صحيح). قطعة من حديث طويل جليل رواه: عبد الرزّاق (154)، والطيالسي (1153)، وابن أبي شيبة (7343)، وابن سعد (4/ 215 - 217)، وأحمد (4/ 111 - 113 و 385 و 387)، وعبد بن حميد (300 و 302)، وأبو داوود (2 - الصلاة، 299 - من رخّص فيهما، 1/ 409/ 1277)، والفسوي (2/ 339)، =

ص: 115

ويُرْوى

(1)

أن داوودَ عليه السلام قالَ: يا ربِّ! أيَّ وقتٍ أقومُ لكَ؟ قالَ: لا تَقُمْ أوَّلَ الليلِ ولا آخرَهُ، ولكنْ قُمْ وَسَطَ الليلِ حتَّى تَخْلُوَ بي وأخْلُوَ بكَ، وارْفَعْ إليَّ حوائجَكَ.

وفي الأثرِ المشهورِ

(2)

: كَذَبَ مَنِ ادَّعى محبَّتي فإذا جَنَّهُ الليلُ نامَ عنِّي، أليسَ كل محبٍّ

(3)

يُحِبُّ خلوةَ حبيبِهِ؟ فهاأنا ذا مطَّلعٌ على أحبابي، إذا جَنَّهُمُ الليلُ؛ جَعَلْتُ أبصارَهُم في قلوبهِم، فخاطَبوني على المشاهدةِ، وكَلَّموني على حضوري، غدًا أُقِرُّ أعينَ أحبابي في جناني.

اللَيْلُ لي وَلِأحْبابي أُحادِثُهُمْ

قَدِ اصْطَفَيْتُهُمُ كَيْ يَسْمَعوا وَيَعُوا

لَهُمْ قُلوبٌ بِإسْراري لَها مُلِئَتْ

عَلى وِدادي وَإرشادي لَهُمْ طُبِعوا

سَرَوْا فَما وَهَنوا عَجْزًا وَلا ضَعُفوا

وَواصَلوا حَبْلَ تَقْريبي فَما انْقَطَعوا

= والترمذي (49 - الدعوات، 119 - باب، 5/ 569/ 3579)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(1326 - 1330)، وابن نصر في "الصلاة"(644)، والنسائي (6 - المواقيت، 35 - النهي عن الصلاة بعد العصر، 1/ 279/ 571 و 583) و"الكبرى"(1544 و 1560 و 9936)، وابن قانع (2/ 195 - 196)، والطبراني في "الدعاء"(128 - 134) و"الأوسط"(6960) و"الشاميّين"(605 و 803 و 806 و 863 و 1320 و 1410 و 1590 و 1847)، والدارقطني (1/ 107 و 108)، والحاكم (1/ 131 و 309، 3/ 65 و 66 و 617، 4/ 148)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 15، 5/ 154) و "الدلائل"(198)، والبيهقي في "السنن"(1/ 81، 2/ 454 - 455، 6/ 369) و "الدلائل"(2/ 168)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(4/ 23 - 25 و 51 - 55)، والبغوي في "السنّة"(777)، والأصبهاني في "الترغيب"(1923)، وابن عساكر (46/ 257 - 267)، والمزّي في "التهذيب"(17/ 11، 22/ 122)؛ من طرق كثيرة عن أبي أمامة وطرق أخرى كثيرة غير طريق أبي أُمامة، عن عمرو بن عبسة

رفعه مطوّلًا ومختصرًا بذكر هذه القطعة وبدونها لكنّ الحديث واحد بلا ريب.

وللحديث أكثر من طريق صحيحة، وأقوى طرقه وأصحّها طريق أبي أُمامة، وقد صحّحه الترمذي وأقرّه المنذري والنووي والهيثمي والعسقلاني، وصحّح الحاكم أكثر من طريق له فيها هذه القطعة على شرط الشيخين أو أحدهما ووافقه الذهبي، وصحّحه الألباني. وحسبك أنّ مسلمًا (6 - المسافرين، 52 - إسلام عمرو بن عبسة، 1/ 569/ 832) روى قطعة كبيرة منه ليس فيها المذكور هنا، والحديث هو هو.

* تنبيه: اتّفقت طرق حديث عمرو بن عبسة المختلفة على ذكر جوف الليل الآخر إلّا طريق ابن أبي شيبة فوقع فيها "جوف الليل الأوسط"، ولكنّها معلولة، فالمعروف في هذا الحديث جوف الليل الآخر، وذكر "الأوسط" فيه منكر.

(1)

يعني في الإسرائيليّات، ولا أصل له في المرفوع.

(2)

يعني الإسرائيليّ. رواه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 99) موقوفًا على الفضيل بن عياض.

(3)

في خ: "أليس كل حبيب"، والأولى ما أثبته من م ون وط.

ص: 116

ما عندَ المحبِّينَ ألذَّ مِن أوقاتِ الخلوةِ بمناجاةِ محبوبِهِم، هوَ شفاءُ قلوبِهِم ونهايةُ مطلوبِهِم.

كَتَمْتُ اسْمَ الحَبيبِ عن العِبادِ

وَرَدَّدْتُ الصَّبابَةَ في فُؤادي

فَوا شَوْقًا إلى بَلَدٍ خَلِيٍّ

لَعَلِّي بِاسْمِ مَنْ أهْوى أُنادي

كانَ داوودُ الطَّائيُّ يَقولُ في الليلِ: همُّكَ عَطَّلَ عليَّ الهمومَ وحالَفَ بيني وبينَ السُّهاد، وشوقي إلى النَّظرِ إليكَ أوْثَقَ منِّيَ اللذَّات

(1)

وحالَ بيني وبينَ الشَّهوات.

وكانَ عُتْبَةُ الغلامُ تقولُ في مناجاتِهِ بالليلِ: إنْ تُعَذِّبْني؟ فإنِّي لكَ محبٌّ، وإنْ تَرْحَمْني؛ فإنِّي لكَ محبٌّ

(2)

.

لَوَ أنّكَ أبْصَرْتَ أهلَ الهَوى

إذا غارَتِ الأنْجُمُ الطُّلَّعُ

فهذا يَنوحُ على ذَنْبِهِ

وَهذا يُصَلِّي وَذا يَرْكَعُ

مَن لمْ يُشارِكْهُمْ في هواهُم وذوقِ حلاوةِ نجواهُم؛ لمْ يَدْرِ ما الذي أبْكاهُم.

مَن لمْ يُشاهِدْ جمالَ يوسُف؛ لم يَدْرِ ما الذي آلَمَ قلبَ يَعْقوبَ.

مَنْ لَمْ يَبِتْ وَالحُبُّ حَشْوُ فُؤادِهِ

لَمْ يَدْرِ كَيْفَ تَفَتَّتُ الأكْبادُ

كانَ أبو سُلَيْمانَ يقولُ: أهلُ الليلِ في ليلِهِم ألذُّ مِن أهلِ اللهوِ في لهوِهِم، ولولا الليلُ؛ ما أحْبَبْتُ البقاءَ في الدُّنيا.

وسطُ الليلِ للمحبِّينَ للخلوةِ بمناجاةِ حبيبِهِم، والسَّحَرُ للمذنبينَ للاستغفارِ مِن ذنوبِهِم، فوسطُ الليلِ خاصٌّ لخلوةِ الخواصِّ، والسَّحَرُ عامٌّ لرفعِ قَصصِ

(3)

الجميعِ وبروزِ التَّواقيعِ لأهلِها بقضاءِ الحوائجِ، فمَن عَجَزَ عن مسابقةِ المحبِّينَ في ميدانِ مضمارِهِم؛ فلا يَعْجِزْ عن مشاركةِ المذنبينَ في استغفارِهِم واعتذارِهِم.

صحائفُ التَّائبينَ خدودُهُم، ومدادُهُم دموعُهُم.

(1)

في خ وم: "أوبق منّي اللذات"، والأولى ما أثبتّه من ن وط.

(2)

وما هو والله بالكلام الطيّب إن صحّت نسبته إلى عتبة! وما أمرنا الله أن نناجيه هكذا! والذي علّمنا إيّاه النبي صلى الله عليه وسلم أن نسأل الله العافية.

(3)

القصص: القصاصات التي تكتب عليها الحوائج ثمّ ترفع إلى الولاة وأشباههم.

ص: 117

قالَ بعضُهُم: إذا بَكى الخائفونَ؛ فقد كاتَبوا الله بدموعِهِم.

رسائلُ الأسحارِ تُحْمَلُ ولا يَدْري بها الفلك، وأجوبتُها تَرِدُ إلى الأسرارِ ولا يَعْلَمُ بها المَلَك.

صَحائِفُنا إشارَتُنا

وَأكْثَرُ رُسْلِنا الحُرَقُ

(1)

لِأنَّ الكُتْبَ قَدْ تُقْرا

بِغَيْرِ الدَّمْعِ لا نَثِقُ

لا تَزالُ القَصصُ تُسْتَعْرَضُ ويُوَقَّعُ عليها بقضاءِ حوائجِ أهلِها إلى أنْ يَطْلُعَ الفجرُ.

يَنْزِلُ ربُّنا كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا فيَقولُ: هل مِن تائبٍ فأتوبَ عليهِ؟ هل مِن مستغفرٍ فأغْفِرَ لهُ؟ هل مِن داعٍ فأُجيبَ دعوتَهُ؟ إلى أنْ يَنْفَجِرَ الفجرُ.

فلذلكَ كانوا يُفَضِّلونَ صلاةَ آخرِ الليلِ

(2)

على أوَّلِهِ.

نَحْنُ الَّذينَ إذا أتانا سائِلٌ

نُولِيهِ إحْسانًا وَحُسْنَ تكرُّمِ

وَنَقولُ في الأسْحارِ هَلْ مِنْ تائِبٍ

مُسْتَغْفِرٍ لِيَنالَ خَيْرَ المَغْنَمِ

الغنيمةُ تُقْسَمُ على كلِّ مَن حَضَرَ الوقعةَ، فيُعْطى الرَّجَّالةُ والأُجراءُ والغلمان معَ الأُمراءِ والأبطالِ والشُّجعانِ والفرسان، فما يَطْلُعُ فجرُ الأجر إلَّا وقد حازَ القومُ الغنيمةَ وفازوا بالفخر، وحَمِدوا عندَ الصَّباحِ السُّرى

(3)

وما عندَ أهلِ الغفلةِ والنَّومِ خبرٌ ممَّا جَرى.

كانَ بعضُ الصَّالحينَ يَقومُ الليلَ، فإذا كانَ السَّحَرُ؛ نادى بأعلى صوتِهِ: يا أيُّها الرَّكبُ المعرِّسون! أكُلَّ هذا الليلِ تَرْقُدون؟ ألا تَقومونَ فتَرْحَلون؟ فإذا سَمعَ النَّاسُ صوتَهُ؛ وَثَبوا مِن فرشِهِم، فيُسْمَعُ مِن هنا باكٍ ومِن هنا داعٍ ومِن هنا تالٍ ومِن هنا متوضِّئ، فإذا طَلَعَ الفجرُ؛ نادى بأعلى صوتِهِ: عندَ الصَّباحِ يَحْمَدُ القوم السُّرى.

يا نَفْسُ قومي فَلَقَدْ نامَ الوَرى

إنْ تَصْنَعى الخَيْرَ

(4)

فَذو العَرْشِ يَرى

وَأنْتِ يا عَيْنُ دَعي عَنْكِ الكَرى

عِنْدَ الصَّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرى

(1)

الحرق: جمع حرقة، وهو الشعور بالألم بعد المعصية.

(2)

في خ: "يفضّلون صلاة الليل آخر الليل"! والصواب ما أثبته من م ون وط.

(3)

في خ: "وحمدوا عند الصباح يحمد القوم السرى"! والصواب ما أثبتّه من م ون وط.

(4)

في خ ون: "واصنعي الخير"، والصواب وزنًا ما أثبتّه من م وط.

ص: 118

يا قُوَّامَ الليلِ! اشْفَعوا في النُّوَّام، يا أحياءَ القلوبِ! تَرَحَّموا على الأمواتِ.

• قيلَ لابنِ مَسْعودٍ: ما نَسْتَطيعُ قيامَ الليلِ. قالَ: أبْعَدَتْكُمْ ذنوبُكُمْ.

وقيلَ للحَسَنِ: قد أعْجَزَنا قيامُ الليلِ. قالَ: قَيَّدَتْكُمْ خطاياكُم.

وقالَ الفُضَيْلُ: إذا لمْ تَقْدِرْ على قيامِ الليلِ وصيامِ النَّهارِ؛ فاعْلَمْ أنَّكَ محرومٌ مكبَّلٌ كَبَّلَتْكَ خطيئتُكَ.

قالَ الحَسَنُ: إنَّ العبدَ لَيُذْنِبُ الذَّنبَ فيُحْرَمُ بهِ قيامَ الليلِ.

قالَ بعضُ السَّلفِ: أذْنَبْتُ ذنبًا فحُرِمْتُ بهِ قيامَ الليلِ ستَّةَ أشهرٍ.

ما يُؤهِّلُ الملوكُ للخلوةِ بهِم إلَّا مَن أخْلَصَ في ودِّهِم ومعاملتِهِم، فأمَّا مَن كانَ مِن أهلِ المخالفةِ؛ فلا يُؤَهِّلونَهُ.

في بعضِ الآثارِ: أن جبريلَ يُنادى كلَّ ليلةٍ: أقِمْ فلانًا وأنِمْ فلانًا!

قامَ بعضُ الصَّالحينَ في ليلةٍ باردة وعليهِ ثيابٌ رثَّة، فضربَهُ البردُ، فبَكى، فهَتَفَ بهِ هاتفٌ: أقَمْناكَ وأنَمْناهُمْ ثمَّ تَبْكي علينا!

يا حُسْنَهُمْ وَاللَيْلُ قَدْ جَنَّهُمُ

وَنورُهُمْ يَفوقُ نورَ الأنْجُمِ

تَرَنَّموا بِالذِّكْرِ في لَيْلِهِمُ

فَعَيْشُهُمْ قَدْ طابَ بِالتَّرَنُّمِ

قُلوبُهُمْ لِلذكْرِ قَدْ تَفَرَّغَتْ

دُموعُهُمْ كَلُؤْلُؤٍ مُنْتَظَمِ

أسْحارُهُمْ بِهِمْ لَهُمْ قَدْ أشْرَقَتْ

وَخِلَعُ الغُفْرانِ خَيْرُ القِسَمِ

الليلُ منهلٌ يَرِدُهُ أهلُ الإرادةِ كلُّهُم، ويَخْتَلِفونَ فيما يَرِدونَ ويُريدونَ، قد عَلِمَ كلُّ أُناسٍ مشربَهُم: فالمحبُّ يَتَنَعَّمُ بمناجاةِ محبوبِه، والخائفُ يَتَضَرَّعُ لطلبِ العفوِ ويَبْكي على ذنوبِه، والرَّاجي يُلحُّ في سؤالِ مطلوبِه، والغافلُ المسكينُ أحْسَنَ اللهُ عزاءَهُ في حرمانِهِ وفواتِ نصيبِه.

قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو رضي الله عنهما: "لا تكُنْ مثلَ فلانٍ! كانَ يَقومُ الليلَ فتَرَكَ قيامَ الليلِ"

(1)

.

(1)

رواه: البخاري (19 - التهجّد، 19 - ما يكره من ترك القيام، 3/ 37/ 1152)، ومسلم (13 - الصيام، 35 - النهي عن صوم الدهر، 2/ 814/ 1159).

ص: 119

مَرِضَتْ رابِعَةُ مرَّةً، فصارَتْ تُصَلِّي وِرْدَها بالنَّهارِ، فعوفِيَتْ وقد ألِفَتْ ذلكَ وانْقَطَعَ عنها قيامُ الليلِ، فرَأتْ ذاتَ ليلةٍ في نومِها كأنّها أُدْخِلَتْ إلى روضةٍ خضراءَ عظيمةٍ، وفُتحَ لها فيها بابُ دارٍ، فسَطَعَ منها نورٌ حتَّى كادَ يَخْطَفُ بصرَها، فخَرَجَ منها وُصَفاءُ كأنَّ وجوهَهُمُ اللؤلؤُ بأيديهِم مجامرُ، فقالَتْ لهُمُ امرأةٌ كانَتْ معَ رابِعَةَ: أينَ تُريدونَ؟ قالوا: نُريدُ فلانًا قُتِلَ شهيدًا في البحرِ فنُجَمِّرُهُ. فقالَتْ لهُم: أفلا تُجَمِّرونَ هذهِ المرأةَ (تَعْني: رابِعَةَ)؟ فنَظَروا إليها وقالوا: قد كانَ لها حظٌّ من ذلكَ فتَرَكَتْهُ. فالْتَفَتَتْ تلكَ المرأةُ إلى رابِعَةَ وأنْشَدَتْ:

صَلاتُكِ نورٌ وَالعِبادُ رُقودُ

وَنَوْمُكِ ضِدٌّ للِصَّلاةِ عَنيدُ

كانَ بعضُ العلماءِ يقومُ السَّحَرَ، فنامَ عن ذلكَ لياليَ، فرَأى في منامِهِ رجلينِ وَقفا عليهِ وقالَ أحدُهُما للآخرِ: هذا كانَ مِن المستغفرينَ بالأسحارِ فتَرَكَ ذلكَ.

يا مَن كانَ لهُ قلبٌ فانْقَلَب! يا مَن كانَ لهُ وقتٌ معَ اللهِ فذَهَب! قيامُ السَّحَرِ يَسْتَوْحِشُ لك، صيامُ النَّهارِ يُسائِلُ عنك، ليالي الوصالِ تُعاتِبُكَ على الهَجْر.

تَغَيَّرْتُمُ عَنَّا بِصُحْبَةِ غَيْرِنا

وَأظْهَرْتُمُ الهِجْرانَ ما هكَذا كُنَّا

وَأقْسَمْتُمُ ألَّا تَحُولُوا عَنِ الهوى

فَحُلْتُمْ عَنِ العَهْدِ القَديمِ وَما حُلْنا

لَيالِيَ كُنَّا نَسْتَقي مِنْ وِصالِكُمْ

وَقَلْبي إلى تِلْكَ اللَيالِيَ قَدْ حَنَّا

قيلَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ فلانًا نامَ حتَّى أصْبَحَ. فقالَ: "بالَ الشَّيطانُ في أُذنِهِ"

(1)

.

كانَ سَرِيٌّ تقولُ: رَأيْتُ الفوائدَ تَرِدُ في ظلمةِ الليل، ماذا فاتَ

(2)

مَن فاتَهُ خيرُ الليل؟ لقد حَصَلَ أهلُ الغفلةِ والنّومِ [على] الحرمان والويل.

كانَ بعضُ السَّلفِ تقومُ بالليلِ، فنامَ ليلةً، فأتاهُ آتٍ في منامِهِ، فقالَ لهُ: قُمْ فصَلِّ، ثمَّ قالَ لهُ: أما عَلِمْتَ أن مفاتيحَ الجنَّةِ معَ أصحابِ الليلِ هُم خزَّانُها؟

وكانَ آخَرُ تقومُ الليلَ، فنامَ ليلةً، فأتاهُ في منامِهِ آتٍ، فقالَ: ما لكَ قَصَّرْتَ في

(1)

رواه: البخاري (19 - التهجّد، 13 - إذا نام ولم يصلّ، 3/ 28/ 1144)، ومسلم (6 - المسافرين، 28 - ما روي فيمن نام الليل، 1/ 537/ 774)؛ من حديث ابن مسعود.

(2)

في خ: "يا ما فات"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 120

الخطبةِ؟! أما عَلِمْتَ أن المتهجِّدَ إذا قامَ إلى تهجُّدِهِ؛ قالَتِ الملائكةُ: قامَ الخاطبُ إلى خطبتِهِ؟!

ورَأى بعضُهُم حَوْراءَ في نومِهِ، فقالَ لَها: زَوِّجيني نفسَكِ! قالَتْ: اخْطُبْني إلى ربِّي وأمْهِرْني. قالَ: وما مهرُكِ؟ قالَتْ: طولُ التَّهجُّدِ.

نامَ أبو سُلَيْمانَ [الدَّارانِيُّ] ليلةً، فأيْقَظَتْهُ حَوْراءُ وقالَتْ: يا أبا سُلَيْمانَ! تَنام؛ وأنا أُرَبَّى لكَ في الخدورِ مِن خمسِ مئةِ عام؟!

واشْتَرى بعضُهُم مِن اللهِ حوراءَ بصَداقِ ثلاثينَ ختمةً، فنامَ ليلة قبلَ أنْ يُكْمِلَ الثَّلاثينَ ختمة، فرَآها في منامِهِ تَقولُ لهُ:

أتَخْطُبُ مِثْلي وَعَنِّي تَنامُ

وَنَوْمُ المُحِبِّينَ عَنِّي حَرامُ

لِأنَّا خُلِقْنا لِكُلِّ امْرِئ

كَثيرِ الصَّلاةِ بَراهُ الصِّيامُ

كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَطْرُقُ بابَ فاطِمَةَ وعَلِيٍّ وتقولُ: "ألا تُصَلِّيانِ؟ "

(1)

.

وفي الحديثِ: "إذا اسْتَيْقَظَ الرَّجلُ وأيْقَظَ أهلَهُ فصَلَّيا ركعتينِ؛ كُتِبا مِن الذَّاكرينَ الله كثيرًا والذَّاكراتِ"

(2)

.

(1)

رواه: البخاري (19 - التهجّد، 5 - تحريضه صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل، 3/ 10/ 1127)، ومسلم (الموضع السابق، 775)؛ من حديث عليّ.

(2)

(صحيح). رواه: عبد الرزّاق (4738)، وابن ماجه (5 - الإقامة، 175 - من أيقظ أهله، 1/ 423/ 1335)، وأبو داوود (2 - الصلاة، 307 - قيام الليل، 1/ 418/ 1309 و 1451)، والحارث (240 - هيثمي)، والنسائي في "الكبرى"(1310 و 11406)، وأبو يعلى (1112)، وابن حبّان (2569)، والدارقطني في "العلل"(1649)، والطبراني في "الأوسط"(2989) و"الصغير"(248)، والحاكم (1/ 316، 2/ 416)، والبيهقي في "السنن"(2/ 501) و"الشعب"(3083)، وابن عساكر (6/ 369)؛ من طرق، عن علي بن الأقمر، عن الأغرّ أبي مسلم، عن أبي سعيد أو أبي هريرة أو هما معًا

موقوفًا ومرفوعًا.

قال أبو داوود: "لم يرفعه ابن كثير [أحد رواته] ولا ذكر أبا هريرة جعله كلام أبي سعيد". قال أبو داوود: "رواه ابن مهدي عن سفيان قال: وأراه ذكر أبا هريرة". قال أبو داوود: "وحديث سفيان موقوف". قلت: فهاهنا علّتان: الأولى: أنّهم اختلفوا في الصحابيّ، وما هو بالقادح، والراجح أنه من حديثهما معًا. والثانية: الوقف، وليس بالقادح أيضا، وقد صحَّ مرفوعًا وموقوفًا عن الأعمش والثوريّ ومسعر ومرفوعًا حسب عن محمّد بن جابر، والطرق المرفوعة صحيحة وكثيرة لها حكم زيادة الثقة، ولذلك صحّح الحديث ابن حبّان والدارقطني والحاكم والمنذري والذهبي والألباني.

ص: 121

كانَتِ امرأةُ حَبيبٍ [العَجَمِيِّ]

(1)

توقِظُهُ بالليلِ وتَقولُ: ذَهَبَ الليلُ، وبينَ أيدينا طريق بعيدٌ، وزادُنا قليل، وقوافلُ الصَّالحينَ قد سارَتْ قدَّامَنا ونحنُ قد بَقِينا.

يا راقِدَ اللَيْلِ فَكَمْ تَرْقُدُ

قُم يا حَبيبي قَدْ دَنا المَوْعِدُ

وَخُذْ مِنَ اللَيْلِ وَأوْقاتِهِ

وِرْدًا إذا ما هَجَعَ الرُّقَّدُ

مَنْ نامَ حَتَّى يَنْقَضي لَيْلُهُ

لَمْ يَبْلُغِ المَنْزِلَ أوْ يَجْهَدُ

قُلْ لأُولي الألْبابِ أهْلِ التُّقى

قَنْطَرَةُ العَرْضِ لَكُمْ مَوْعِدُ

‌المجلس الثاني في يوم عاشوراء

في الصَّحيحينِ

(2)

: عن ابن عَبَّاسٍ، أنَّهُ سُئِلَ عن صومِ يومِ عاشوراءَ، فقالَ: ما رَأيْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صامَ يومًا يَتَحَرَّى فضلَهُ على الأيامِ إلَّا هذا اليومَ (يَعْني: يومَ عاشوراءَ) وهذا الشَّهرَ (يَعْني: رمضانَ).

• يومُ عاشوراءَ لهُ فضيلةٌ عظيمةٌ وحرمةٌ قديمةٌ، وصومُهُ لفضلِهِ كانَ معروفًا بينَ الأنبياءِ عليهم السلام، وقد صامَهُ نوح وموسى عليهما السلام، كما سَنَذْكُرُهُ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى

(3)

.

ورَوى: إبْراهيمُ الهَجَرِيُّ، عن أبي عِياضٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"يومُ عاشوراءَ، كانَتْ تَصومُهُ الأنبياءُ، فصوموهُ أنتُم"

(4)

. خَرَّجَهُ بقِيُّ بنُ مَخْلَدٍ في

(1)

ليست في خ وم ون، استفدتها من ط.

(2)

البخاري (30 - الصوم، 69 - صيام عاشوراء، 4/ 245/ 2006)، ومسلم (13 - الصيام، 19 - صوم عاشوراء، 2/ 797/ 1132).

(3)

أمّا موسى صلى الله عليه وسلم، فنعم، وأمّا نوح صلى الله عليه وسلم؛ فلم يصحّ. وسيأتيك تفصيله قريبًا.

(4)

(حسن بشواهده). رواه: بقيّ بن مخلد (ص 122 - لطائف المعارف)، والبزّار (1046 - كشف)؛ من طريق إبراهيم الهجريّ، عن أبي عياض، عن أبي هريرة

رفعه.

قال الهيثمي (3/ 188): "فيه إبراهيم الهجريّ، وثّقه ابن عديّ وضعّفه الأئمّة". وقال العسقلاني: "إبراهيم الهجريّ ضعيف". قلت: خلاصة أمره أنّه ليّن الحديث، وقد اضطرب فيه فقال مرّة "عيد نبيّ كان قبلكم" ومرّة" كانت تصومه الأنبياء"، لكن حريّ بمثل هذا السند أن يتقوّى بالشواهد الآتية.

ص: 122

"مسندِهِ".

وَقد كانَ أهلُ الكتابِ يَصومونَهُ.

وكذلكَ قريشٌ في الجاهليةِ كانَتْ تَصومُهُ. قالَ دَلْهَمُ بنُ صالحٍ: قُلْتُ لعِكْرِمَةَ: عاشوراءُ؛ ما أمرُهُ؟ قالَ: أذْنَبَتْ قريشٌ في الجاهليَّةِ ذنبًا، فتَعاظَمَ في صدورِهِم، فسَألُوا: ما توبتُهُم؟ قيلَ: صومُ يومِ عاشوراءَ؛ يومِ العاشرِ مِن المُحَرَّمِ.

• وكانَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في صيامِهِ أربعةُ أحوالٍ:

* الحالةُ الأُولى: أنَّهُ كانَ يَصومُهُ بمَكَّةَ ولا يَأْمُرُ النَّاسَ بالصَّومِ.

ففي الصَّحيحينِ

(1)

: عن عائِشَةَ؛ قالَتْ: كانَ عاشوراءُ يومًا تَصومُهُ قريش في الجاهليَّةِ، وكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَصومُهُ، فلمَّا قَدِمَ المدينةَ؛ صامَهُ وأمَرَ بصيامِهِ، فلمَّا نَزَلَـ[ــــتْ] فريضةُ شهرِ رَمَضانَ؛ كانَ رَمَضانُ هوَ الذي يَصومُهُ، فتَرَكَ يومَ عاشوراءَ؛ فمَن شاء صامَهُ، ومَن شاءَ أفْطَرَهُ.

وفي روايةٍ للبُخارِيِّ

(2)

: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن شاءَ فلْيَصُمـ[ــــهُ]، ومَن شاءَ أفْطَرَ [هـ] ".

* الحالةُ الثَّانيةُ: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لمَّا قَدِمَ المدينةَ ورَأى صيامَ أهلِ الكتابِ لهُ وتعظيمَهُم لهُ - وكانَ يُحِبُّ موافقتَهُم فيما لم يُؤْمَرْ بهِ -؛ صامَهُ، وأمَرَ النَّاسَ بصيامِهِ، وأكَّدَ الأمرَ بصيامِهِ والحثَّ عليهِ حتَّى كانوا يُصَوِّمونَهُ أطفالَهُم.

ففي الصَّحيحينِ

(3)

: عن ابن عَبَّاسٍ؛ قالَ: قَدِمَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، فوَجَدَ اليهودَ صيَّامًا يومَ عاشوراءَ، فقالَ لهُم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ما هذا اليومُ الذي تَصومونَهُ؟ ". قالوا: هذا يومٌ عظيمٌ، [أ] نْجى اللهُ فيهِ موسى وقومَهُ، وأغْرَقَ فِرْعَوْنَ وقومَهُ، فصامَهُ موسى شكرًا، فنحنُ نَصومُهُ. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فنحنُ أحقُّ وأولى بموسى منكُم".

(1)

البخاري (30 - الصوم، 69 - صيام عاشوراء، 4/ 244/ 2002)، ومسلم (13 - الصيام، 19 - صوم عاشوراء، 2/ 792/ 1125).

(2)

(30 - الصوم، 1 - صوم رمضان، 4/ 102/ 1893)، ومسلم أيضًا (الموضع السابق).

(3)

البخاري (30 - الصوم، 69 - صيام عاشوراء، 4/ 244/ 2004)، ومسلم (13 - الصيام، 19 - صوم عاشوراء، 2/ 797/ 1132).

ص: 123

فصامَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأمَرَ بصيامِهِ.

وفي "مسند الإمام أحْمَدَ": عن أبي هُرَيْرَةَ؛ قالَ: مَرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بأُناسٍ مِن اليهودِ وقد صاموا [يومَ] عاشوراءَ، فقالَ:"ما هذا مِن الصَّومِ؟ ". قالوا: هذا اليومُ الذي نَجَّى اللهُ عز وجل فيهِ موسى عليه السلام وبني إسرائيلَ مِن الغرقِ و [أ] غْرَقَ فيهِ فِرْعَوْنَ، وهذا يومَ اسْتَوَت فيهِ السَّفينةُ على الجُودِيِّ، فصامَ نوحٌ وموسى عليهما السلام شكرًا للهِ عز وجل. فقالَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أنا أحقُّ بموسى منكُم وأحق بصومِ هذا اليومِ". فأمَرَ أصحابَهُ بالصَّومِ

(1)

.

وفي الصَّحيحينِ

(2)

: عن سَلَمَةَ بن الأكْوَعِ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَرَ رجلًا مِن أسْلَمَ أنْ أذِّن في النَّاسِ: "مَن أكَلَ فَلْيَصُمْ بقيَّةَ يومِهِ، ومَن لمْ يكُنْ أكَلَ فَلْيَصُمْ؛ فإنَّ اليومَ يومُ عاشوراءَ".

وفيهِما أيضًا

(3)

: عن الرُّبيِّع بنتِ مُعَوِّذٍ؛ قالَتْ: أرْسَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم غداةَ عاشوراءَ إلى قرى الأنصارِ التي حولَ المدينةِ: "مَن كانَ أصْبَحَ صائمًا؛ فَلْيُتِمَّ صومَهُ، ومَن كانَ أصْبَحَ مفطرًا؛ فَلْيُتِمَّ بقيَّةَ يومِهِ". فكُنَّا بعدَ ذلكَ نَصومُهُ، ونُصَوّمُ صبيانَنا الصّغارَ منهُم، ونَذْهَبُ إلى المسجدِ فنَجْعَلُ لهُمُ اللعبةَ مِن العهنِ، فإذا بكى أحدُهُم على الطَّعامِ؛ أعْطَيْناهُ إيَّاها حتَّى يَكونَ عندَ الإفطارِ. وفي روايةٍ: فإذا سَألوا الطَّعامَ؛ أعْطَيْناهُمُ اللعبةَ تُلْهيهِم حتَّى يُتِمُّوا صومَهُم.

(1)

(ضعيف بهذا التمام). رواه: أحمد (2/ 359)، وأبو الشيخ، وابن مردويه (هود 44 - درّ)؛ من طريق أبي جعفر، ثنا عبد الصمد بن حبيب الأزدي، عن أبيه، عن شبيل، عن أبي هريرة

رفعه.

قال ابن كثير: "غريب من هذا الوجه، ولبعضه شاهد في الصحيح". وقال الهيثمي (3/ 187): "فيه حبيب بن عبد الله الأزدي لم يرو عنه غير ابنه". قلت: فهو مجهول. وابنه ليّن. وأبو جعفر هو محمّد بن جعفر المدائني فيه لين أيضًا.

نعم؛ يشهد لبعضه ما تقدّم. ولذكر السفينة شواهد لكنّها ساقطة كما بيّنته في "قصص الأنبياء"(ص 165 - ط. ابن خزيمة).

(2)

البخاري (30 - الصوم، - 21 - إذا نوى بالنهار صومًا، 4/ 140/ 1924)، ومسلم (13 - الصيام، 21 - من أكل في عاشوراء، 798/ 2/ 1135).

(3)

البخاري (30 - الصوم، 47 - صوم الصبيان، 4/ 200/ 1960)، ومسلم (قبله، 1136).

ص: 124

وفي البابِ أحاديثُ كثيرةٌ جدًّا.

وخَرَّجَ الطَّبَرانِيُّ بإسنادٍ فيهِ جهالةٌ: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَدْعو يومَ عاشوراءَ برُضَعائِهِ ورُضَعاءِ ابنتِهِ فاطِمَةَ، فيَتْفُلُ في أفواهِهِم، وتقولُ لأُمَّهاتِهِم:"لا تُرْضِعوهُم إلى الليلِ"، وكانَ ريقُهُ صلى الله عليه وسلم يُجْزِئُهُمْ

(1)

.

وقدِ اخْتَلَفَ العلماءُ: هل كانَ صومُ يومِ عاشوراءَ قبلَ فرضِ شهرِ رمضانَ واجبًا أم كانَ سنَّةً مؤكَّدةً؟ على قولينِ مشهورينِ. ومذهبُ أبي حَنيفَةَ أنهُ كانَ واجبًا حينئذٍ، وهوَ ظاهرُ كلامِ الإمامِ أحْمَدَ وأبي بَكْرٍ الأثْرَمِ. وقالَ الشَّافِعِيُّ: بل كانَ متأكِّدَ الاستحبابِ فقطْ، وهوَ قولُ كثيرٍ مِن أصحابِنا وغيرِهِم

(2)

.

* الحالةُ الثالثةُ: أنَّهُ لمَّا فُرِضَ صيامُ شهرِ رَمَضانَ؛ تَرَكَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أمْرَ أصحابِهِ بصيامِ يومِ عاشوراءَ وتأْكيدَهُ فيهِ.

وقد سَبَقَ حديثُ عائِشَةَ في ذلكَ.

وفي الصَّحيحينِ

(3)

: عن ابن عُمَرَ؟ قالَ: صامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عاشوراءَ وأمَرَ بصيامِهِ، فلمَّا كانَ فرضُ رَمَضانَ؛ تَرَكَ ذلكَ. وكانَ عَبْدُ اللهِ لا يَصومُهُ إلَّا أنْ يُوافِقَ صومَهُ.

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن سعد (8/ 311)، والحارث (337 - هيثمي)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(3437)، وأبو مسلم الكجّيّ (4/ 302 - إصابة)، وأبو يعلى (7162)، والطبراني في "الكبير"(24/ 277/ 704) و"الأوسط"(2589)، وابن منده (4/ 302 - إصابة)، وأبو نعيم (4/ 302 - إصابة)، والبيهقي في "الدلائل"(6/ 226)، والأصبهاني في "الترغيب"(1843)؛ من طرق، عن عليلة بنت الكميت العتكيَّة، عن أمّها أمينة، عن أمة الله بنت رزينة، عن رزينة خادمة النبي صلى الله عليه وسلم

رفعته مطوّلًا ومختصرًا.

قال الهيثمي (3/ 189): "عليلة ومن فوقها لم أجد من ترجمهنّ". وقال ابن رجب: "فيه جهالة".

(2)

قال العسقلاني في "الفتح"(4/ 247): "ويؤخذ من مجموع الأحاديث أنّه كان واجبًا لثبوت الأمر بصومه، ثمّ تأكد الأمر بذلك، ثم زيادة التأكيد بالنداء العامّ، ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك، ثمّ زيادته بأمر الأُمّهات أن لا يرضعن فيه الأطفال [قلت: لا يصحّ]، وبقول ابن مسعود الثابت في مسلم "لمّا فرض رمضان ترك عاشوراء"، مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باق، فدلّ على أنّ المتروك وجوبه. وأمّا قول بعضهم "المتروك تأكّد استحبابه والباقي مطلق استحبابه؛ فلا يخفى ضعفه، بل تأكّد استحبابه باقٍ، ولا سيّما مع استمرار الاهتمام به حتّى عام وفاته صلى الله عليه وسلم

وأنه يكفر سنة، وأيّ تأكيد أبلغ من هذا؟! " اهـ.

(3)

البخاري (30 - الصوم، 1 - وجوب صوم رمضان، 4/ 102/ 1892)، ومسلم (13 - الصيام، 19 - صوم عاشوراء، 2/ 792/ 1126).

ص: 125

وفي روايةٍ لمُسْلِمٍ: أن أهلَ الجاهليَّةِ كانوا يَصومونَ يومَ عاشوراءَ، وأنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صامَهُ والمسلمونَ قبلَ أنْ يُفْرَضَ رَمَضانُ، فلمَّا افْتُرِضَ رَمَضانُ؛ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ عاشوراء

(1)

يومٌ مِن أيَّامِ اللهِ؛ فمَن شاءَ صامَهُ، ومَن شاءَ تَرَكَهُ".

وفي رواية لهُ أيضًا: "فمَن أحَبَّ منكُم أنْ يَصومَهُ؛ فلْيَصُمْهُ، ومَن كَرِهَ؛ فلْيَدَعْهُ".

وفي الصَّحيحينِ أيضًا

(2)

: عن مُعاوِيةَ؛ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: "هذا يومُ عاشوراءَ، ولمْ يَكْتُبِ اللهُ عليكُم صيامَهُ، وأنا صائمٌ؛ فمَن شاءَ فلْيَصُمْ، ومَن شاءَ فلْيُفْطِرْ". وفي روايةٍ لمُسْلِمٍ التَّصريحُ برفعِ آخرِهِ. وفي روايةٍ للنَّسائِيِّ أن آخرَهُ مُدْرَجٌ مِن قولِ مُعاوِيَةَ وليسَ بمرفوعٍ

(3)

.

وفي "صحيح مسلم"

(4)

: عن ابن مَسْعودٍ؛ أنَّهُ قالَ في يومٍ عاشوراءَ: هوَ يومٌ كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصومُهُ قبلَ أنْ يَنْزِلَ رمضانُ، فلمَّا نَزلَ شهرُ رمضانَ؛ تُرِكَ. وفي روايةٍ لهُ: تَرَكَهُ

(5)

.

وفيهِ أيضًا

(6)

: عن جابِرِ بن سَمُرَةَ؛ قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنا بصيامِ يومِ عاشوراءَ ويَحُثُّنا عليهِ ويَتَعاهَدُنا عندَهُ، فلمَّا فُرِضَ رمضانُ؛ لمْ يَأْمُرْنا ولمْ يَنْهَنا عنهُ ولمْ

(1)

في خ: "إنّ يوم عاشوراء"، وما أثبتّه من م ون وط أولى بنصّ مسلم.

(2)

البخاري (30 - الصوم، 69 - صيام عاشوراء، 4/ 244/ 2003)، ومسلم (13 - الصيام، 19 - صوم عاشوراء، 2/ 795/ 1129).

(3)

جاء عند النسائي في "الكبرى"(2857) أنّ معاوية خطب الناس بالمدينة فقال: يا أهل المدينة! أين علماؤكم؟ إنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنّ هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه وإنّي صائم - معاوية يقول ذلك - فمن أحبّ أن يصوم فليصم ومن أحبّ أن يفطر فليفطر". قال النسائيّ: هذا هو الصواب. قلت: هذه واحدة من روايات الحديث عند النسائيّ، ورواه مرّة (2854) عن معاوية يقول: أين علماؤكم يا أهل المدينة؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هذا اليوم: "إنّي صائم، فمن شاء منكم أن يصوم فليصم". قال النسائي أيضًا: هذا أولى بالصواب. قلت: هذه الرواية الأخيرة لا تحتمل الإدراج، وسندها صحيح غاية، بل هو أصحّ من سند الأولى. وكذلك رواية "الكبرى" (2853) لا تحتمل الإدراج. ولذلك جزم العسقلاني في "الفتح" (4/ 247) بعدم الإدراج وقال:"هو كلّه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم كما بيّنه النسائيّ في روايته".

(4)

(الموضع السابق، 2/ 794/ 1127).

(5)

يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم.

(6)

(الموضع السابق، 1128).

ص: 126

يَتَعاهَدْنا عندَهُ.

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَهْ مِن حديثِ قَيْسِ بن سَعْدٍ؛ قالَ: أمَرَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بصيامِ عاشوراءَ قبلَ أنْ يَنْزِلَ رمضانُ، فلمَّا نَزَلَ رمضانُ؛ لمْ يَأْمُرْنا ولمْ يَنْهَنا

(1)

. وفي روايةٍ: ونحنُ نَفْعَلُهُ.

فهذهِ الأحاديثُ كلُّها تَدُلُّ على أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لمْ يُجَدِّدْ أمرَ النَّاسِ بصيامِهِ بعدَ فرضِ صيامِ شهرِ رمضانَ، بل تَرَكَهُم على ما كانوا عليهِ مِن غيرِ نهيٍ عن صيامِهِ: فإن كانَ أمرُهُ صلى الله عليه وسلم بصيامِهِ قبلَ فرضِ صيامِ شهرِ رمضانَ للوجوبِ؛ فإنَّهُ يَنْبَني على أن الوجوبَ إذا نُسِخَ فهلْ يَبْقى الاستحبابُ أم لا، وفيهِ اختلافٌ مشهورٌ بينَ العلماءِ

(2)

. وإنْ كانَ أمرُهُ للاستحبابِ المؤكَّدِ؛ فقد قيلَ: إنَّهُ زالَ التَّأْكيدُ وبقيَ أصلُ الاستحبابِ

(3)

، ولهذا قالَ قَيْسُ بنُ سَعْدٍ: ونحنُ نَفْعَلُهُ.

وقد رُوِيَ عن ابن مَسْعودٍ وابنِ عُمَرَ ما يَدُلُّ على أن أصلَ استحباب صيامِهِ زالَ

(4)

.

وقالَ سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ: لمْ يَصُمْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عاشوراء

(5)

. ورُوِيَ عنهُ عن

(1)

(صحيح). يرويه القاسم بن مخيمرة واختلف عليه فيه على وجهين: روى أوّلهما: الطيالسي (1211)، والنسائيّ في "المجتبى"(23 - الزكاة، 35 - فرض صدقة الفطر، 5/ 49/ 2505) و"الكبرى"(2842)، والطبراني (18/ 349/ 888)؛ من طريق الحكم بن عتيبة، عنه، عن عمرو بن شرحبيل، عن قيس بن سعد

رفعه. وهذا سند صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين؛ إلّا القاسم فمن رجال مسلم وحده. وروى الثاني: ابن أبي شيبة (9366)، وأحمد (3/ 421)، والنسائي في "الكبرى"(2841)، والطحاوي في "المعاني"(2/ 74) و"المشكل"(3/ 85)، والطبراني (18/ 349/ 887)؛ من طريق سلمة بن كهيل، عنه، عن أبي عمّار الدهني، عن قيس بن سعد

رفعه. وهذا أيضًا سند صحيح رجاله ثقات عن آخرهم.

وليس من المستبعد أن يكون للقاسم في هذا الحديث شيخان، بل هو الأصل، والتردّد بين الوجهين لا يضرّ الحديث شيئا لأنّهما صحيحان كليهما، وقد صحّحه الألباني.

(2)

وخلافهم هذا لا يضرّ مسألتنا هنا شيئًا؛ لأنّ استحباب صيام عاشوراء ثابت بأدلّة أُخرى غير الوجوب المنسوخ كما تقدّم آنفًا من كلام العسقلاني.

(3)

انظر ما تقدم آنفًا (ص 125) من كلام العسقلاني.

(4)

أمّا ابن مسعود؛ فكلاهه يحتمل ذلك كما تقدّم آنفًا، وإن كان غير صريح فيه. وأمّا ابن عمر؛ فصحّ عنه عن عبد الرزّاق (7847) أنّه كان يصومه في الحضر، وهذا فرع استحبابه له.

(5)

(ضعيف). لم أقف عليه. والعهدة فيه على الطريق إلى ابن المسيّب. فإن صحّت الطريق إليه؛ =

ص: 127

سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ. والمرسلُ أصحُّ، قالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

وأكثرُ العلماءِ على استحبابِ صيامِهِ مِن غيرِ تأْكيدٍ.

وممَّن رُوِيَ عنهُ صيامُهُ مِن الصَّحابةِ عُمَرُ وعَلِيٌّ وعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عَوْفٍ وأبو موسى وقَيْسُ بنُ سَعْدِ وابنُ عَبَّاسٍ وغيرُهم.

ويَدُلُّ على بقاءِ استحبابِهِ قول ابن عَبَّاسٍ

(1)

: لمْ أرَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصومُ يومًا يَتَحَرَّى فضلَهُ على الأيَّامِ إلَّا يومَ عاشوراءَ وشهرَ رمضانَ

(2)

. وابنُ عَبَّاسٍ إنَّما صَحِبَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بأخَرَةٍ، وإنَّما عَقَلَ منهُ صلى الله عليه وسلم ما كانَ مِن آخرِ أمرِهِ.

وفي "صحيح مسلم"

(3)

: عن أبي قَتادَةَ؛ أن رجلًا سَأل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن صيامِ عاشوراءَ. فقال: "أحْتَسِب على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السَّنةَ التي قبلَهُ". وإنَّما سَألَهُ عن التَّطوُّعِ بصيامِهِ؛ فإنَّهُ سَألَهُ أيضًا عن صيامِ يومِ عَرَفَةَ وصيامِ الدَّهرِ وصيامِ يومٍ وفطرِ يومٍ وصيامِ يومٍ وفطرِ يومينِ، فعُلِمَ أنَّهُ [إنَّما] سَألَهُ عن صيامِ التَّطوُّعِ.

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائِيُّ مِن حديثِ حَفْصَةَ بنتِ عُمَرَ أمِّ المؤمنينَ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَكُنْ يَدَعُ صيامَ يومِ عاشوراءَ والعشرِ وثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهر

(4)

. وخرَّجَهُ أبو

= فالعهدة على السياق والسباق ومراد القائل، فإن صحّ مطلقًا بهذا اللفظ عن ابن المسيّب؛ فوهم منه يرحمه الله، وأحاديث الصحيحين الموصولة أولى من مرسل ابن المسيّب. والله أعلم.

(1)

في خ: "ابن عبّاس وغيره"! والصواب ما أثبتّه من م.

(2)

متّفق عليه كما تقدّم أوّل المجلس.

(3)

(13 - الصيام، 36 - صيام ثلاثة أيّام، 2/ 818/ 1162).

(4)

(ضعيف). وقد جاء عن حفصة وغيرها من أُمّهات المؤمنين من وجهين:

* فرواه هنيدة بن خالد الخزاعي واختلف عليه فيه سندًا ومتنًا على وجوه:

روى الأوَّل منها: النسائي في "الكبرى"(2722) و"المجتبى"(22 - الصيام، 82 - صيام ثلاثة أيّام، 4/ 219/ 2412 و 2413)، والبيهقي في "الشعب"(3849 و 3851) و "السنن"(4/ 284)؛ من طريق شريك، عن الحرّ بن صيّاح، عن ابن عمر: كان يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر الاثنين والخميس الذي يليه ثمّ الخميس الذي يليه. فأسقط هنيدة. وهذا مرجوح لأنّ شريكًا كثير الخطأ، قاله أبو حاتم في "العلل"(671).

وروى الثاني: النسائي في "الكبرى"(2723) و"المجتبى"(الموضع السابق، 2414) من طريق زهير، عن الحرّ، عن هنيدة، سمعت أُمّ المؤمنين تقول: كان صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر أوّل اثنين من الشهر ثمّ الخميس ثمّ الخميس الذي يليه. وهذا مرجوح لضعف رواية الشاميّين عن زهير بن محمّد، وهذا منها.

وروى الثالث: أحمد (6/ 287)، والنسائي في "الكبرى"(2724) و"المجتبى" (الموضع السابق،=

ص: 128

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= 2415)، وأبو يعلى (7041 و 7048 و 7049)، وابن حبّان (6422)، والطبراني في "الكبير"(23/ 205/ 1354 و 396) و"الأوسط"(7827)، والبيهقي في "الشعب"(3754)، والخطيب في "التاريخ"(9/ 105 و 246، 12/ 364)، والمزّي (28/ 33)؛ من طريق أبي إسحاق الأشجعيّ، عن عمرو بن قيس الملائيّ، عن الحرّ، عن هنيدة، عن حفصة؛ قالت:"أربع لم يكن صلى الله عليه وسلم يدعهنّ: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيّام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة". وهذا مرجوح لجهالة الأشجعيّ على ما ذكر الخطيب.

وروى الرابع: أحمد (5/ 271، 6/ 288 و 423)، وأبو داوود (8 - الصيام، 61 - صوم العشر، 1/ 741/ 2437)، والنسائي في "الكبرى"(2681 و 2725 و 2726) و"المجتبى"(الموضع السابق، 2416 و 2417 و 2371)، وأبو يعلى (6898)، والطبراني (23/ 216/ 397 و 1017)، والبيهقي (4/ 284)؛ من طرق أربع قويّة، عن الحرّ بن صيّاح، عن هنيدة، عن امرأته، عن بعض أزواجه صلى الله عليه وسلم (وقالت مرّة: أُمّ سلمة): كان يصوم تسع ذي الحجّة (ومرّة: العشر) وعاشوراء وثلاثة أيّام من كل شهر؛ أوّل اثنين من الشهر وخميسين (ومرّة: والخميس). ومرّة جاء: قال لنا صلى الله عليه وسلم: "صمن من كل شهر ثلاثة أيام من أوّله الاثنين والخميس والخميس الذي يليه". وهذا أرجح الأوجه لتتابع الثقات عليه، ولكنّه ضعيف سندًا من أجل امرأة هنيدة؛ فإنّها مجهولة، وقد ذكر أنّها صحابيّة، وهو رجم بالغيب لا يثبت.

وروى الخامس: أحمد (6/ 289 و 310)، وأبو داوود (8 - الصيام، 69 - من قال الاثنين والخميس، 1/ 744/ 2452)، والنسائي في "الكبرى"(2727) و"المجتبى"(الموضع السابق، 2418)، وأبو يعلى (6982 و 6889)، والبيهقي في "السنن"(4/ 295) و"الشعب"(3854)؛ من طريق الحسن بن عبيد الله، عن هنيدة، عن أُمّه، عن أمّ سلمة: كان صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر؛ أوّلها الاثنين والخميس. وجاء مرّة: أوّل خميس والاثنين والاثنين. ومرّة: الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأُخرى. ومرّة: أوّلها الاثنين والجمعة والخميس! والحسن صدوق، ولكنّه لا يقاس بالثقات الذين رووا الوجه الرابع، بل قال فيه البخاري:"عامّة حديثه مضطرب". فهذا مرجوح بالوجه السابق. ثمّ هو ضعيف أيضًا من أجل أمّ هنيدة؛ فإنّها مجهولة، ولا يقال: كانت تحت عمر بن الخطاب؛ لأنّ البحث ليس في العدالة فحسب، بل فيها وفي الضبط معًا. ولا يقال: هي من الصحابة؛ لأنّ الصحبة لا تثبت بالظنون والاحتمالات، ولذلك قال الهيثمي (3/ 196):"وأُمّ هنيدة لم أعرفها".

* ورواه أيضًا: أحمد (6/ 287 و 288)، وعبد بن حميد (1544)، والبخاري في "التاريخ"(4/ 202)، وأبو داوود (الموضع السابق، 2451)، والنسائي في "الكبرى"(2674 و 2375) و"المجتبى"(22 - الصيام، 70 - صومه صلى الله عليه وسلم، 4/ 204/ 2364 - 2365)، وأبو يعلى (7047 و 7059)، والطبراني (23/ 204 / 352)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(2786 و 3850) و"السنن"(4/ 294)، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب"(1856)؛ من طرق قوية، عن حمّاد بن سلمة، عن عاصم، عن سواء، عن حفصة (وجاء مرّة أُمّ سلمة): كان صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيّام الاثنين والخميس من هذه الجمعة والاثنين من المقبلة. وهذا سند فيه ضعف من وجهين: أحدهما: أنّهم اختلفوا فيه على سواء: فزاد الطبراني (23/ 204/ 353) المسيّب بن رافع بين عاصم وسواء، لكن من وجه ساقط. وزاده النسائي في "المجتبى" (2363) أيضًا وقال: عن عائشة، لكن من وجه ضعيف. فالوجهان مرجوحان. وزاد الطبراني مرّة (23/ 217/ 398) من وجه قويّ معبد =

ص: 129

داوودَ إلَّا أن عندَهُ: عن بعضِ أزواجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم غيرِ مسمَّاةٍ

(1)

.

* الحالةُ الرَّابعةُ: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَزَمَ في آخرِ عمرِهِ على ألَّا يَصومَهُ مفردًا، بل يَضُمُّ إليهِ يومًا آخرَ مخالفةً لأهلِ الكتابِ في صيامِهِ.

ففي "صحيح مسلم"

(2)

: عن ابنِ عَبَّاسٍ، أنَّهُ قالَ: حينَ صامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عاشوراءَ وأمَرَ بصيامِهِ؛ قالوا: يا رسولَ اللهِ! إنَّهُ يومٌ تُعَظِّمُهُ اليهودُ والنَّصارى. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فإذا كانَ العامُ المقبلُ إنْ شاءَ اللهُ صُمْنا اليومَ التَّاسعَ". قالَ: فلمْ يَأْتِ العامُ المقبلُ حتَّى تُوُفِّيَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.

وفي روايةٍ لهُ

(3)

[أيضًا] عن ابنِ عَبَّاسٍ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لئن بقِيتُ إلى قابلٍ؛ لأصومَنَّ التَّاسعَ (يَعني: عاشوراءَ) ".

وخَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ، ولفظُهُ:"إنْ عِشْتُ إنْ شاءَ اللهُ إلى قابلٍ؛ صُمْتُ التَّاسعَ، مخافةَ أنْ يَفوتَني عاشوراءُ"

(4)

.

= بن خالد بين عاصم وسواء. فإن كان محفوظًا فلا يضرّ فمعبد صدوق والعلّة غير قادحة. والثاني: أنّ سواء هذا ذكره ابن حبّان في "الثقات" ولم يوثقه غيره ولم يرو عنه إلّا واحد على وجه اليقين ورواية الآخرين من أوجه الاختلاف المرجوحة، ثمّ هو تردّد في الحديث بين عائشة وحفصة وأُمّ سلمة، فلا يطمأنّ إلى تحسين حديثه، بل العدل فيه قول العسقلاني:"مقبول"؛ يعني: عند المتابعة، وإلّا فليّن.

وجملة القول أنّه لا يخلو شيء من ألفاظ هذا المتن من ضعف، والاختلاف في أسانيده يزيده ضعفًا، والاختلاف في متنه يحول دون تقوية إحدى الطرق بالأُخرى، ولذلك ضعّفه الهيثمي والزيلعي والعسقلاني والمناوي، وأعلّه قوم بالاضطراب فما أبعدوا. والله أعلم.

(1)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه في الحاشية السابقة.

(2)

(13 - الصيام، 20 - أيّ يوم يصوم، 2/ 797/ 1134).

(3)

(الموضع السابق، 2/ 798/ 1134).

(4)

(منكر بهذا التمام). رواه الطبراني في "الكبير"(10/ 70/ 108133): ثنا الحسين بن جعفر القتات ومحمّد بن العبّاس المؤدّب، ثنا أحمد بن يونس، ثنا ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عبّاس، عن عبد الله بن عمير، عن ابن عبّاس

رفعه.

وهاهنا علل: أولاها: جهالة القتّات مع خشية أن تكون هذه الزيادة من مفاريده عن المؤدّب فإنّهم يتساهلون بمثل هذا أحيانًا. والثانية المخالفة: فهاهنا زيادة تخالف أصل المتن؛ لأنّ حديث ابن عبّاس عند مسلم وغيره ظاهر في أنّ المقصود من صيام التاسع مخالفة اليهود لا مخافة فوات عاشوراء. والثالثة الإدراج: قال البيهقي (4/ 287): "رواه أحمد بن يونس عن ابن أبي ذئب وقال في متنه: إن عشت إن شاء الله صمت اليوم التاسع مخافة أن يفوته عاشوراء". ولم أقف على هذه الرواية، لكن إن صحّت فهي دليل على أنّ هذه=

ص: 130

وفي "مسند الإمام أحمد": عن ابن عَبَّاسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"صوموا يومَ عاشوراءَ، وخالِفوا اليهودَ، صوموا قبلَهُ يومًا وبعدَهُ يومًا"

(1)

. وجاءَ في روايةٍ: " [أو] بعدَهُ". فإمَّا أنْ يَكونَ للتَّخييرِ، أو يَكونَ شكًّا مِن الرَّاوي، هل قالَ قبلَهُ أو بعدَهُ.

ورُوِيَ هذا الحديثُ بلفظٍ آخرَ وهوَ: "لئن بقِيتُ؛ [لآمُرَنَّ بصيامِ يومٍ قبلَهُ ويومٍ بعدَهُ (يَعْني: عاشوراءَ) "

(2)

. وفي روايةٍ أُخرى: "لئن بقِيتُ] إلى قابل، لأصومَنَّ (أو: لآمُرَنَّ بصيامِ) يومٍ قبلَهُ ويومٍ بعدَهُ (يَعْني. عاشوراءَ) "

(3)

. أخْرَجَهُما الحافظُ أبو موسى المَدِينيُّ.

وقد صَحَّ هذا عن ابن عَبَّاسٍ مِن قولِهِ مِن روايةِ ابن جُرَيْجٍ؛ قالَ: أخْبَرَني عَطاءٌ؛

= الزيادة مدرجة من اجتهاد بعض الرواة. والرابعة الوقف: روى ابن أبي شيبة (9388) عن يزيد بن هارون، وابن عبد البرّ (7/ 213) عن يحيى القطّان؛ كلاهما عن ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عبّاس؛ قال: كان ابن عبّاس يصوم عاشوراء في السفر ويوالي بين اليومين مخافة أن يفوته". فلا يبعد أن يكون المرفوع قد اختلط بالموقوف على أحمد بن يونس فمن دونه. والله أعلم.

(1)

(منكر). رواه: أحمد في "المسند"(1/ 241) و"فضائل الصحابة"(1951)، والبزّار (1052 - كشف)، وابن خزيمة (2095)، والطحاوي (2/ 78)، وابن عدي (3/ 956)، والبيهقي في "السنن"(4/ 287) و"الشعب"(3790) و"فضائل الأوقات"(290)؛ من طرق قويّة، عن ابن أبي ليلى، عن داوود بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه

رفعه.

وهاهنا علل: أشار إلى الأولى الهيثمي (3/ 191) بقوله: "فيه محمّد بن أبي ليلى وفيه كلام". والثانية: أنّ داوود بن عليّ لا يعدو أن يكون صالحًا في المتابعات. والثالثة: أنّه رواه: عبد الرزّاق (7839)، وابن الجعد (2502)، والطحاوي (2/ 78)، والبيهقي (4/ 287)؛ من طريق ابن أبي ليلى وابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبّاس

موقوفًا. وسنده صحيح. فقد جمع رفع هذا الحديث الضعف والمخالفة، وهذا حدّ النكارة، وقد استنكره الذهبي والهيثمي والشوكاني والألباني.

(2)

(منكر أو شاذّ). رواه: الحميدي (485)، وابن عديّ (3/ 956)، والبيهقي في "السنن"(4/ 287) و"الشعب"(3789)، وأبو موسى المديني؛ من طريق قويّة، عن ابن أبي ليلى، عن داوود بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه

رفعه. وهذا منكر له علل السند السابق نفسها.

وقد جاء من طريق أُخرى قويّة في "تالي تلخيص المتشابه"(296) عن ابن أبي ذئب، عن القاسم بن عبّاس، عن عبد الله بن عمير، عن عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما

رفعه. وهذه طريق قويّة السند، ولكنّها شاذّة المتن لمخالفتها رواية الجماعة عن ابن أبي ذئب بلفظ:"لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التاسع"، كما تقدّم آنفا عند مسلم وغيره.

(3)

(منكر). لم أقف على إسنادها، لكنّ فعل ابن رجب يدلّ على أنّها من الطريق المتقدّمة نفسها، وقد علمت ما فيها. والله أعلم.

ص: 131

أنَّهُ سَمعَ ابنَ عَبَّاسٍ يَقولُ في يومِ عاشوراءَ: خالِفوا اليهودَ، وصوموا التّاسعَ والعاشرَ.

قالَ الإمامُ أحْمَدُ: أنا أذْهَبُ إليهِ.

ورُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ أنَّهُ صامَ التَّاسعَ والعاشرَ وعُلِّلَ بخشيةِ فواتِ عاشوراءَ.

ورَوَى: ابنُ أبي ذِئْبٍ، عن شُعْبَةَ مولى ابن عَبَّاسٍ، عن ابن عَبَّاسٍ؛ أنَّهُ كانَ يَصومُ عاشوراءَ في السَّفرِ، ويُوالي بينَ اليومينِ؛ خشيةَ فواتِهِ.

وكذلكَ رُوِيَ عن أبي إسْحاقَ أنَّهُ صامَ يومَ عاشوراءَ ويومًا قبلَهُ ويومًا بعدَهُ، وقالَ: إنَّما فَعَلْتُ ذلكَ خشيةَ أنْ يَفوتَني.

ورُوِيَ عن ابن سِيرينَ؛ أنَّهُ كانَ يَصومُ ثلاثةَ أيَّامٍ عندَ الاختلافِ في هلالِ الشَّهرِ احتياطًا.

ورُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ والضَّحَّاكِ؛ أن يومَ عاشوراءَ هوَ تاسعُ المُحَرَّمِ.

قالَ ابنُ سِيرينَ: كانوا لا يَخْتَلِفونَ أنّهُ [اليومُ] العاشرُ؛ إلَّا ابنَ عَبَّاسٍ؛ فإنَّهُ قالَ: إنَّهُ التَّاسعُ. وقالَ الإمامُ أحْمَدُ في روايةِ المَيْمونِيِّ: لا أدري هوَ التَّاسعُ أوِ العاشرُ، ولكنْ نَصومُهُما، فإنِ اخْتُلِفَ في الهلالِ صامَ ثلاثةَ أيَّامٍ احتياطًا. وابنُ سِيرينَ يَقولُ ذلكَ.

وممَّن رَأى صيامَ التَّاسعِ والعاشرِ الشَافِعِيُّ وأحْمَدُ وإسْحاقُ.

وكَرِهَ أبو حَنِيفَةَ إفرادَ العاشرِ وحدَهُ بالصَّومِ.

ورَوى الطَّبَرانيُّ مِن حديثِ: ابن أبي الزِّنادِ، عن أبيهِ، عن خارِجَةَ بن زَيْدٍ، عن أبيهِ؛ قالَ: ليسَ يومُ عاشوراءَ باليومِ الذي يقولُ النَّاسُ، إنَّما كانَ يومًا تُسْتَرُ فيهِ الكعبةُ وتَقْلِسُ

(1)

فيهِ الحبشةُ عندَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانَ يَدورُ في السَّنةِ، فكانَ النَّاسُ يَأْتونَ فلانًا اليهوديَّ يَسْألونَهُ، فلمَّا ماتَ اليهوديُّ؛ أتَوْا زَيْدَ بنَ ثابِتٍ فسَألوه

(2)

.

(1)

تقلس: ترقص وتغنّي وتضرب بالدفّ.

(2)

(ضعيف). رواه الطبراني في "الكبير"(5/ 138/ 4876): ثنا أحمد بن محمّد الجواربي الواسطي، ثنا زيد بن أخزم، ثنا أبو عامر العقدي، عن ابن أبي الزناد

به فذكره.

قال ابن رجب: "ابن أبي الزناد لا يعتمد على ما ينفرد به، وقد جعل الحديث كلّه عن زيد بن ثابت، وآخره لا يصلح أن يكون من قول زيد". وقال الهيثمي (3/ 190): "لا أدري ما معناه، وفيه عبد الرحمن بن أبي=

ص: 132

وهذا فيهِ إشارةٌ إلى أن

(1)

عاشوراءَ ليسَ هوَ في المحرَّمِ، بل يُحْسَبُ بحسابِ السَّنةِ الشّمسيّةِ كحسابِ أهلِ الكتاب، وهذا خلافُ ما عليهِ عملُ المسلمينَ قديمًا وحديثًا! وفي "صحيح مسلم"

(2)

عن ابن عَبَّاسٍ؛ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كانَ يَعُدُّ مِن هلالِ المحرَّمِ ثمَّ يُصْبِحُ يومَ التَّاسعِ صائمًا

(3)

. وابنُ أبي الزِّنادِ لا يُعْتَمَدُ على ما يَنْفَرِدُ بهِ، وقد جَعَلَ الحديثَ كلَّهُ عن زَيْدِ بن ثابِتٍ، وآخرُهُ لا يَصْلُحُ أنْ يَكونَ مِن قولِ زَيْدٍ، فلعلَّهُ مِن قولِ مَن دونَهُ. واللهُ أعلم.

وكانَ طائفةٌ مِن السَّلفِ يَصومونَ عاشوراءَ في السَّفرِ؛ منهُمُ: ابنُ عَبَّاس، وأبو إسْحاقَ السَّبِيعِيُّ، والزُّهْرِيُّ وقالَ: رمضانُ لهُ عدَّةٌ مِن أيَّامٍ أُخرَ وعاشوراءُ يَفوتُ. ونَصَّ أحْمَدُ على أنّهُ يُصامُ عاشوراءُ في السَّفرِ.

ورَوَى عَبْدُ الرَّزّاقِ في كتابِهِ: عن إسْرائيلَ، عن سماكِ بن حَرْبٍ، عن مَعْبَدٍ القُرَشِيِّ؛ قالَ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقُدَيْدٍ، فأتاهُ رجلٌ، فقالَ لهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أطَعِمْتَ اليومَ شيئًا (ليومِ عاشوراءَ)؟ ". قالَ: لا؛ إلَّا أنِّي شَرِبْتُ ماءً. فقالَ: "فلا تَطْعَمْ شيئًا حتَّى تَغْرُبَ الشَمسُ، واؤْمُرْ مَن وَراءَكَ أنْ يَصوموا هذا اليومَ"

(4)

. ولَعَلَّ المأْمورَ كانَ مِن أهلِ قُدَيْدٍ.

= الزناد، وفيه كلام كثير، وقد وثّق". قلت: خلاصة أمره أنّ حديث أهل المدينة عنه حسن وحديث أهل العراق ليّن، وهذا من حديث العراقيّين، وفيه غرابة وإشكال، فلا يحتمل منه. على أنّ في السند علّة إخرى، وهي الجواربيّ هذا؛ فإني لم أقف فيه على جرح ولا تعديل، وقد روى عنه جماعة، فحدّه الستر. ومن هنا تعلم أنّ تحسين العسقلاني لهذا السند مرّة وتجويده أُخرى في "الفتح" لا يخلو من تساهل. والله أعلم.

(1)

في خ: "إشارة على أنّ"، والصواب ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

(13 - الصيام، 20 - أيّ يوم يصام، 2/ 797/ 133).

(3)

كذا ذكره يرحمه الله بالمعنى، ولا يخلو من نظر. والذي في "الصحيح" أنّ الحكم بن الأعرج قال لابن عبَّاس: أخبرني عن صوم عاشوراء. فقال: إذا رأيت هلال المحرّم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائمًا. قال الحكم: هكذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال ابن عبّاس: نعم. وإنّما قال ابن عبّاس نعم باعتبار ما سيكون لو عاش النبي صلى الله عليه وسلم إلى قابل، وإلّا؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم يصبح يوم العاشر صائمًا.

(4)

(حسن). رواه: عبد الرزّاق (7835)، والطبراني (20/ 342/ 803)، وأبو نعيم في "الصحابة"(4/ 163 - غابة)، وأبو موسى في "الصحابة"(4/ 163 - غابة)؛ من هذه الطريق.

قال الهيثمي (3/ 190): "رجاله ثقات". قلت: في سماك كلام لا ينزل بحديثه هذا عن رتبة الحسن ولا سيّما أنّ الشواهد لا تعوزه.

ص: 133

ورَوى بإسنادِهِ عن طاووسٍ؛ أنَّهُ كانَ يَصومُ عاشوراءَ في الحضرِ ولا يَصومُهُ في السَّفرِ.

• ومِن أعجبِ ما وَرَدَ في عاشوراءَ أنهُ كانَ يَصومُهُ الوحشُ والهوامُّ:

وقد رُوِيَ مرفوعًا أن الصُّرَدَ أوَّلُ طيرٍ صامَ عاشوراء

(1)

. خَرَّجَهُ الخطيبُ في "تاريخه"، وإسنادُهُ غريبٌ. وقد رُوِيَ ذلكَ عن أبي هُرَيْرَة

(2)

.

ورُوِيَ عن فَتْح بن شَخْرَفَ؛ قالَ: كُنْتُ أفُتُّ للنَّملِ الخبزَ كلَّ يومٍ، فلمَّا كانَ يومُ عاشوراءَ؛ لمْ يَأْكُلوه

(3)

!

ورُوِيَ عن القادِرِ باللهِ الخليفةِ العَبَّاسِي أنّهُ جَرى لهُ مثلُ ذلكَ وأنَّهُ عَجِبَ منهُ، فسَألَ أبا الحَسَنِ القَزْوينِيَّ الزَّاهدَ، فذَكَرَ لهُ أن يومَ عاشوراءَ تَصومُهُ النَّملُ.

ورَوى أبو موسى المَدِينِيُّ بإسنادِهِ عن قَيْسِ بن عُبادٍ؛ قالَ: بَلَغَني أن الوحشَ كانَتْ تَصومُ عاشوراءَ.

(1)

(موضوع). رواه: ابن نجيح في "الفوائد"(4/ 153 - إصابة)، وابن قانع (1/ 276/ 323)، وأبو نعيم في "الصحابة"(6/ 296 - بغداد)، والخطيب في "التاريخ"(6/ 295 و 296)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 204)، وابن الأثير في "الغابة"(5/ 61)، والذهبي في "الميزان"(4/ 137)، والعسقلاني في "اللسان"(6/ 69)؛ من طريق إسماعيل بن إسحاق بن الحصين الرقي، ثنا عبد الله بن معاوية بن موسى الجمحي، سمعت أبي، عن أبيه، عن جدّه أبي غليظ بن أُميّة بن خلف الجمحي

رفعه.

وهذا سند ساقط على متن منكر: إسماعيل؛ ذكره الخطيب وغيره برواية جماعة ولم يذكروا فيه جرحًا ولا تعديلًا، فحدّه الستر. ومعاوية بن موسى الجمحي أبو عبد الله مجهول. وموسى بن أبي غليظ مجهول كولده، وقد اضطرب في الحديث على ما سيأتيك في الحاشية التالية. وأبو غليظ: لا تعرف له صحبة إلّا بهذا السند الساقط والمتن العجيب. ولذلك عدّه ابن الجوزي والقاري والعجلوني في الموضوعات، وقال ابن الأثير:"والحديث مثل اسمه غليظ"، واستغربه ابن رجب، واستنكره الذهبي والعسقلاني.

(2)

(موضوع). رواه الحكيم الترمذي في "المناهي"(2/ 110 - اللآلى): ثنا سفيان بن وكيع، ثنا ابن مهدي، عن قرّة بن خالد، عن موسى بن أبي غليظ، عن أبي هريرة

رفعه.

وهذا سند ساقط أيضًا: سفيان كان صدوقًا؛ إلّا أنه ابتلي بورّاقه الذي أدخل عليه ما ليس من حديثه فنصح فلم يقبل فسقط حديثه. وموسى مجهول كما تقدّم. وليس هذا بالحديث المستقلّ كما يوحيه كلام ابن رجب يرحمه الله، وإنّما هو طرف من الاضطراب في السند السابق نفسه وله حكمه.

(3)

لا يأكل النمل الفتات عادة وإنّما يحمله إلى قريته لتخزينه! هبه صائمًا يا سيّدي! فهل يحرم عليه يوم عاشوراء أن يحمل الطعام إلى قريته ليأكله عند الغروب! أم أنّك راقبت النملات داخل قريتهن فرأيتهنّ ممسكات طوال النهار فلمّا غابت الشمس اجتمعن علي موائد الطعام والشراب!

ص: 134

وبإسنادٍ لهُ عن رجلٍ أتى الباديةَ يومَ عاشوراءَ، فرَأى قومًا يَذْبَحونَ ذبائحَ، فسَألَهُم عن ذلكَ، فأخْبَروهُ أن الوحوشَ

(1)

صائمةٌ، وقالوا: اذْهَبْ بنا نُرِكَ. فذَهَبوا بهِ إلى روضةٍ فأوْقَفوهُ. قالَ: فلمَّا كانَ بعدَ العصرِ؛ جاءَتِ الوحوشُ مِن كلِّ وجهٍ، فأحاطَت بالرَّوضةِ رافعةً رؤوسَها إلى السَّماءِ ليسَ شيءٌ منها يَأْكُلُ، حتَّى إذا غابَت الشَّمسُ؛ أسْرَعَتْ جميعًا فأكَلَتْ.

وبإسنادِهِ عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو؛ قالَ: بينَ الهندِ والصِّينِ

(2)

أرضٌ كانَ بها بطَّةٌ مِن نحاسٍ على عمودٍ مِن نحاسٍ، فإذا كانَ يومُ عاشوراءَ؛ مَدَّتْ منقارَها، فيَفِيضُ مِن منقارِها ماءٌ يَكْفيهِم لزروعِهِم ومواشيهِم إلى العامِ المقبلِ

(3)

.

ورُئِيَ بعضُ العلماءِ المتقدِّمينَ في المنامِ، فسُئِلَ عن حالِهِ، فقالَ: غُفِرَ لي بصيامِ عاشوراءَ ستِّينَ سنةً. وفي روايةٍ: ويومٍ قبلَهُ ويومٍ بعدَهُ.

وذَكَرَ عَبْدُ الوَهَّابِ الخَفَّافُ في كتابِ الصِّيامِ: قالَ سَعيدٌ: قالَ قَتادَةُ: كانَ يُقالُ: صومُ عاشوراءَ كفارةٌ لِما ضَيَّعَ الرَّجلُ مِن زكاةِ مالِهِ!

وقد رُوِيَ أن يومَ عاشوراءَ كانَ يومَ الزِّينةِ الذي كانَ فيهِ ميعادُ موسى لفِرْعَوْنَ، وأنَّهُ كانَ عيدًا لهُم. ويُرْوى أن موسى عليه السلام كانَ يَلْبَسُ فيهِ الكَتَّانَ ويَكْتَحِلُ فيهِ بالإثمدِ

(4)

. وكانَتِ اليهودُ مِن أهلِ المَدينَةِ وخَيْبَرَ في عهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَتَّخِذونَهُ عيدًا، وكانَ أهلُ الجاهليَّةِ يقْتَدونَ بهِم في ذلكَ، وكانوا يَسْتُرونَ فيهِ الكعبةَ.

ولكنَّ شرعَنا وَرَدَ بخلافِ ذلكَ. ففي الصَّحيحينِ

(5)

: عن أبي موسى؛ قالَ: كانَ

(1)

في خ: "قيس بن عبادة

أنّ الوحش"، والصواب ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

فتأمّل يرحمك الله هذه الدقّة العظيمة! بين الهند والصين! عشرات آلاف الأميال شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا! ثمّ متى ذهب ابن عمرو إلى الهند والصين ورأى هذه البطّة العجيبة؛ والهند ما فتحت إلّا بعده بعشرات السنين؟! قاتل الله من وضع هذه القصّة على لسان ابن عمرو رضي الله عنهما.

(3)

غرائب وعجائب الله أعلم بأسانيدها وصحّة نسبتها إلى المذكورين، لكنّها لا تأتي غالبًا إلّا ممّن قلّ حظّه من ميراث النبوّة، وأمّا الأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد وأمثالهم؛ فقد أكرمهم الله وأجلّهم عن أن يأتوا بمثل هذه الترّهات وشغلهم بالعلم النافع والعمل الصالح.

(4)

مثل هذا لا بدّ فيه من أسانيد ثابتة إلى من يتعيّن المصير إلى قوله! وهيهات!

(5)

البخاري (30 - الصوم، 69 - صيام عاشوراء، 4/ 244/ 2005)، ومسلم (13 - الصيام، 19 - =

ص: 135

يومُ عاشوراءَ يومًا تُعَظِّمُهُ اليهودُ وتتَّخِذُهُ عيدًا، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"صوموهُ أنتُم".

وفي روايةٍ لمسلمٍ: كانَ أهلُ خَيْبَرَ يَصومونَ يومَ عاشوراءَ يَتَّخِذونَهُ عيدًا ويُلْبِسونَ نساءَهُم فيهِ حُلِيَّهُم وشارتَهُم، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فصوموهُ أنتُم". وخَرَّجَهُ النَّسائيُّ وابنُ حِبَّانَ، وعندَهُما: فقالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: "خالِفوهُمْ فصوموهُ". وهذا يَدُلُّ على النَّهيِ عن اتِّخاذِهِ عيدًا وعلى استحبابِ صيامِ أعيادِ الكفَّارِ

(1)

؛ فإنَّ الصَّومَ يُنافي اتِّخاذَهُ عيدًا، فيُوافَقونَ في صيامِهِ معَ صيامِ يومٍ آخرَ معَهُ كما تَقَدَّمَ؛ فإن في ذلكَ مخالفةً لهُم في كيفيَّةِ صيامِهِ أيضًا، فلا يَبْقى فيهِ موافقةٌ لهُم في شيءٍ بالكلِّيَّةِ.

وعلى مثلِ هذا يُحْمَلُ ما خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائِي وابنُ حِبَّانَ مِن حديثِ أمِّ سَلَمَةَ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَصومُ يومَ السَّبتِ ويومَ الأحدِ أكثرَ ما يَصومُ مِن الأيامِ، ويقولُ:"إنَّهُما يوما عيدٍ للمشركينَ، فأنا أُحِبُّ أنْ أُخالِفَهُمْ"

(2)

. فإنَّهُ إذا صامَ اليومينِ معًا؛ خَرَجَ بذلكَ عن مشابهةِ اليهودِ والنَّصارى في تعظيمِ كلِّ طائفةٍ ليومِها منفردًا، وصيامُهُ فيهِ مخالفةٌ لهُم في اتِّخاذِهِ عيدًا، ويُجْمَعُ بذلكَ بينَ هذا الحديثِ وبينَ حديثِ النَّهيِ عن صيامِ يومِ السَّبتِ

(3)

.

• وكلُّ ما رُوِيَ في فضلِ الاكتحالِ في يومِ عاشوراءَ والاختضابِ والاغتسالِ فيهِ فموضوعٌ لا يَصِحُّ.

= صوم عاشوراء، 2/ 796/ 1131). وانظر:"الكبرى للنسائي"(2849)،"صحيح ابن حبّان"(3627).

(1)

أمّا النهي عن اتخاذه عيدًا؛ فنعم. وأمّا تعميم استحباب صيام أعياد الكفرة والمشركين؛ ففيه نظر، وإنّما يستند في الاستحباب وعدمه إلى ما ثبت في السنّة، ولو كان صوم يوم ميلاد المسيح المزعوم والفصح والعنصرة والشعانين مستحبًّا؛ لسبقنا إليه الأوّلون السابقون إلى كلّ خير.

(2)

(حسن). رواه: أحمد (6/ 324)، والنسائي في "الكبرى"(2775 و 2776)، وابن خزيمة (2167)، وابن حبّان (3616 و 3646)، والطبراني في "الأوسط"(3869) و "الكبير"(23/ 283/ 616 و 964)، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ"(389)، والحاكم (1/ 436)، والبيهقي (4/ 303)؛ من طريق، ابن المبارك، أنا عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ، ثني أبي، عن كريب عن أمّ سلمة

رفعته.

وهذا سند حسن، رجاله بين ثقة وصدوق، وكريب هو مولى ابن عبّاس، وقد قوّاه ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم والمنذري والذهبي والهيثمي والعسقلاني والألباني.

(3)

وهو جمع حسن، وليس هذا أولى المواضع للتفصيل فيه؛ فقد ذكره المصنف هنا عرضًا.

ص: 136

* وأمَّا الصَّدقةُ فيهِ؛ فقد رُوِيَ عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرِو بن العاصِ؛ قالَ: مَن صامَ عاشوراءَ؛ فكأنَّما صامَ السَّنةَ، ومَن تَصَدَّقَ فيهِ؛ كانَ كصدقةِ السَّنةِ

(1)

. خَرَّجَهُ أبو موسى المَدِينِيُّ.

* وأمَّا التَّوسعةُ فيهِ على العيالِ:

فقالَ حَرْبٌ: سَألْتُ أحْمَدَ عن الحديثِ الذي جاءَ: "مَن وَسَّعَ على أهلِهِ يومَ عاشوراءَ"، فلمْ يَرَهُ شيئًا.

وقالَ ابنُ مَنْصورٍ: قُلْتُ لأحْمَدَ: هل سَمِعْتَ في الحديثِ "مَن وَسَّعَ على أهلِهِ يومَ عاشوراءَ وَسَّعَ اللهُ عليهِ سائرَ السَّنةِ"

(2)

؟ فقالَ: نعم. رواهُ سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ، عن

(1)

لم أقف عليه، وما إخاله يصحّ من كلام ابن عمرو، ولو صحّ فما له حكم الرفع لكثرة ما أخذ ابن عمرو عن أهل الكتاب.

(2)

(ضعيف جدًّا). وقد جاء عن جماعة من الصحابة:

* فرواه: العقيلي (3/ 252)، وابن حبّان في "المجروحين"(3/ 97)، والطبراني (10/ 77 / 10007)، وابن عدي (5/ 1854)، والبيهقي في "الشعب"(3792) و"فضائل الأوقات"(291)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(2/ 277)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 203)؛ من طريق عليّ بن أبي طالب، ثنا هيصم بن شدّاخ، ثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود

رفعه. وعليّ منكر الحديث، والهيصم متّهم. والحديث عدّه العقيلي وابن عديّ والبيهقي وابن الجوزي في المنكرات.

* ورواه البيهقي في "الشعب"(3791) من طريق محمّد بن يونس الكديمي، ثنا عبد الله بن إبراهيم الغفاري، ثنا عبد الله بن أبي بكر ابن أخي محمّد بن المنكدر، عن جابر

رفعه. وهذا سند ساقط: الكديمي والغفاري متّهمان، وقد ضعّفه البيهقي.

* ورواه البيهقي في "الشعب"(3793 و 3794) و"الفضائل"(292) من طريق عبد الله بن نافع الصائغ، ثنا أيّوب بن سليمان بن مينا، عن رجل، عن أبي سعيد

رفعه. وهذا سند واهٍ: الصائغ ليّن في غير مالك وهذا منه، وابن مينا مجهول بيّض له ابن أبي حاتم، وهناك الرجل المبهم. وقد ضعّفه البيهقي.

ورواه: الطبراني في "الأوسط"(9298): ثنا هاشم بن مرثد، ثنا محمّد بن إسماعيل الجعفري، ثنا عبد الله بن سلمة الربعي، عن محمّد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد

رفعه. قال الهيثمي (3/ 192): "فيه محمّد بن إسماعيل الجعفري، قال أبو حاتم: منكر الحديث". قلت: وابن مرثد ليس بشيء، والربعي منكر الحديث.

* ورواه: الدارقطني في "الأفراد"(6/ 375 - لسان)، وابن الجوزي في "الواهيات"(909)؛ من طريق يعقوب بن خرّة الدبّاغ، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر

رفعه. قال الذهبي والعسقلاني: "خبر باطل". قلت: الدبّاغ شيخ ضعيف تفرّد بخبر منكر عن الزهريّ دون ثقات أصحابه.

وعلّقه الذهبي في "الميزان"(4/ 312) والعسقلاني في "اللسان"(6/ 242) من طريق هلال بن خالد،=

ص: 137

جَعْفَرٍ الأحْمَرِ، عن إبْراهيمَ بن مُحَمَّدِ بن المُنْتَشِرِ، وكانَ مِن أفضلِ أهلِ زمانِهِ؛ أنَّهُ بَلَغَهُ؛ أنّهُ مَن وَسَّعَ على عيالِهِ يومَ عاشوراءَ؛ وَسَّعَ اللهُ عليهِ سائرَ سنتِهِ. فقالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: جَرَّبْناهُ منذُ خمسمينَ سنةً أو ستِّينَ سنةً فما رَأيْنا إلّا خيرًا.

وقولُ حَرْبٍ "إنَّ أحْمَدَ لمْ يَرَهُ شيئًا" إنَّما أرادَ بهِ الحديثَ الذي يُرْوى مرفوعًا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم!؟ فإنَّهُ لا يَصِحُّ إسنادُهُ، وقد رُوِيَ مِن وجوهٍ متعدِّدةٍ لا يَصِحُّ مِنها شيء. وممَّن قالَ ذلكَ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بن عَبْدِ الحَكَمِ. وقال العُقَيْلِيُّ: هوَ غيرُ محفوظٍ. وقد رُوِيَ عن عُمَرَ مِن قولِهِ، وفي إسنادِهِ مجهولٌ لا يُعْرَفُ.

* وأمّا اتِّخاذُهُ مأْتمًا كما تَفْعَلُهُ الرّافضةُ لأجلِ قتلِ الحُسَيْنِ بن عَلِيٍّ رضي الله عنهما فيهِ؛ فهوَ مِن عملِ مَن ضَلَّ سعيُهُ في الحياةِ الدُّنيا وهوَ يَحْسَبُ أنَّهُ يُحْسِنُ صنعًا، ولمْ يَأْمُرِ اللهُ ولا رسولُهُ باتِّخاذِ أيَّامِ مصائبِ الأنبياءِ وموتِهِم مأْتمًا، فكيفَ بمَن دونَهُم

(1)

؟!

• ومِن فضائلِ يومِ عاشوراءَ أنَّهُ يومٌ تابَ اللهُ فيهِ على قومٍ.

وقد سَبَقَ حديثُ عَلِيٍّ الذي خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ؟ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لرجلٍ: "إنْ كُنْتَ

= عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر

رفعه. قال الخطيب: "لا يثبت عن مالك، في رواته غير واحد من المجهولين". وقال الذهبي والعسقلاني: "هذا باطل".

* ورواه: العقيلي (4/ 65)، والبيهقي في "الشعب"(3795)، وابن الجوزي في "الواهيات"(910) و"الموضوعات"(2/ 203)؛ من طريق حجّاج بن نصير، ثنا محمّد بن ذكوان مولى الجهاضم، عن يعلى بن حكيم، عن سليمان بن أبي عبد الله، عن أبي هريرة

رفعه. وهذا واهٍ: حجّاج ضعيف يقبل التلقين، وابن ذكوان ضعيف منكر الحديث، وسليمان فيه جهالة.

ورواه ابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 200) من طريق أحمد بن سلمان النجّاد، عن إبراهيم الحربي، عن سريج بن النعمان، عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن الأعرج، عن أبي هريرة

رفعه في سياق طويل. ثمّ قال: "هذا حديث لا يشكّ عاقل في وضعه". قلت: علّته النجاد هذا، فقيه عابد صدوق، لكنّه حدّث من كتاب غيره بما لم يكن في أُصوله ثمّ عمي في آخره فربّما قرأ عليه بعض الطلبة ما ليس في أُصوله.

* قال البيهقي: "هذه الأسانيد وإن كانت ضعيفة فإنّها إذا ضمّ بعضها إلى بعض أخذت قوّة". قلت: هي دون حدّ الاعتبار، وكثرتها لا تزيد الحديث إلّا نكارة، ولذلك لم يعبأ بها المحقّقون المدقّقون - ومنهم الإمام أحمد والعقيلي وابن عدي وابن عبد الحكم وابن الجوزي والذهبي وابن القيّم وابن رجب والعسقلاني - وجزموا بضعف الحديث. ولعلّ أصوله من كلام إبراهيم بن المنتشر بلاغًا كما سيأتي.

(1)

فلله درّ ابن رجب على هذه الفائدة العظيمة والحجّة القويمة.

ص: 138

صائمًا شهرًا بعدَ رمضانَ؛ فصُمِ المُحَرَّمَ؛ فإنَّ فيهِ يومًا تابَ الله فيهِ على قومٍ ويَتوبُ فيهِ على آخرينَ"

(1)

.

وقد صَحَّ مِن حديثِ: أبي إسْحاقَ، عن الأسْوَدِ بن يَزيدَ

(2)

؛ قالَ: سَأْلْتُ عُبَيْدَ بنَ عُمَيْرٍ عن صيامِ يومِ عاشوراءَ، فقالَ: المحرَّمُ شهرُ اللهِ الأصمُّ، فيهِ يومٌ تِيبَ فيهِ على آدَمَ، فإنِ اسْتَطَعْتَ ألَّا يَمُرَّ بكَ إلَّا صُمْتَهُ؛ فافْعَلْ. كذا رُوِيَ عن شُعْبَةَ عن أبي إسْحاقَ. ورَواهُ إسْرائيلُ عن أبي إسْحاقَ، ولفظُهُ: قالَ: إنَّ قومًا أذْنَبوا فتابوا فيه فتِيبَ عليهِم، فإنِ اسْتَطَعْت ألَّا يَمُرَّ بكَ إلَّا وأنتَ صائمٌ؛ فافْعَلْ. ورَواهُ يونُسُ عن أبى إسْحاقَ ولفظُهُ: إنَّ

(3)

المحرَّمَ شهرُ اللهِ، وهوَ رأْسُ السَّنةِ، تُكْتَبُ فيهِ الكتبُ، ويُؤَرَّخُ فيهِ التَّاريخُ، وفيهِ تُضْرَبُ الوَرِقُ، وفيهِ يومٌ تابَ فيهِ قومٌ فتابَ اللهُ عليهِم، فلا يَمُرَّ بكَ إلَّا صُمْتَهُ (يَعْني: يومَ عاشوراءَ)

(4)

.

ورَوى أبو موسى المَدِينِيُّ مِن حديثِ أبي موسى [مرفوعًا]: "هذا يومٌ تابَ اللهُ فيهِ على قومٍ فاجْعَلوهُ صلاةً وصومًا (يَعْني: يومَ عاشوراءَ) "

(5)

. وقال: حسنٌ غريبٌ. وليسَ كما قالَ.

ورَوى بإسنادِهِ عن عَلِيٍّ؛ قالَ: يومُ عاشوراءَ هوَ اليومُ الذي تِيبَ فيهِ على قومِ يونُسَ.

وعنِ ابنِ عَبَّاسٍ؛ قالَ: هوَ اليومُ الذي تِيبَ فيهِ على آدَمَ.

وعن وَهْبٍ: أن الله تَعالى أوْحى إلى موسى عليه السلام أنْ مُرْ قومَكَ يَتَقَرّبوا إليَّ في أوَّلِ عشرِ المحرَّمِ، فإذا كانَ يومُ العاشر؛ فلْيَخْرُجوا إليَّ حتَّى أغْفِرَ لهُم.

ورَوى عَبْدُ الرَّزَّاقِ: عن ابن جُرَيْجٍ، عن رجلٍ، عن عِكرِمَةَ؛ قالَ: هوَ يومٌ تابَ

(1)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 86).

(2)

في خ: "الأسود بن زيد"! والصواب ما أثبتّه من م ون وط.

(3)

في خ: "فإنّ"! والصواب ما أثبتّه من م وط.

(4)

وتبقى هذه كلّها أخبار مجردة تفتقر إلى المصداقيّة طالما أن المرفوع في الباب ضعيف.

(5)

(ضعيف). لم أقف عليه، فحسبي فيه شهادة من وقف عليه وردّ قول من حسّنه، ولا سيّما زيادة "الصلاة" فيه؛ فإنّها منكرة، لم ترد في شيء من أحاديث الباب على كثرتها.

ص: 139

اللهُ فيهِ على آدَمَ؛ يومُ عاشوراءَ.

ورَوى عَبْدُ الوَهَّابِ الخَفَّافُ: عن سَعيدٍ، عن قَتادَةَ؛ قالَ: كنَّا نتحَدَّثُ أن اليومَ الذي تِيبَ فيهِ على آدَمَ يومُ عاشوراءَ، وهَبَطَ فيهِ آدَمُ إلى الأرضِ يومُ عاشوراء

(1)

.

• وقولُهُ صلى الله عليه وسلم في حديثِ عَلِيٍّ "ويَتوبُ فيهِ على آخرينَ": حثٌّ للنَّاسِ على تجديدِ التَّوبةِ النَّصوحِ في يومِ عاشوراءَ، وترجيةٌ لقبولِ التَّوبةِ ممَّن تابَ فيهِ إلى اللهِ عز وجل مِن ذنوبِهِ كما تابَ فيهِ على مَن قبلَهُم.

وقد قالَ تَعالى عن آدَمَ: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37]

(2)

. وأخْبَرَ عنهُ وعن زوجِهِ أنَّهُما قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

وكَتَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ لعَزيزِ إلى الأمصارِ كتابًا وقالَ فيهِ: قولوا كما قالَ أبوكُم آدَمَ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]. وقولوا كما قالَ نوحٌ: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]. وقولوا كما قالَ موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]. وقولوا كما قالَ ذو النُّونِ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].

اعترافُ المذنبِ بذنبهِ معَ النَّدمِ عليهِ توبةٌ مقبولةٌ.

قالَ اللهُ عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102].

وقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ العبدَ إذا اعْتَرَفَ بذنبِهِ ثمَّ تابَ؛ تابَ اللهُ عليهِ"

(3)

.

وفي دعاءِ الاستفتاحِ الذي كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتحُ بهِ: "اللهمَّ! أنتَ ربِّي، لا إلهَ إلَّا أنتَ، ظَلَمْتُ نفسي وأعْتَرَفْتُ بذنبي فاغْفِرْ لي؛ إنَّهُ لا يَغْفِرُ الدُّنوبَ إلَّا

(1)

وهذه أيضًا أخبار مجرّدة لا بدِّ لها من سند ثابت إلى من يتعيّن المصير إلى قوله! وهيهات!

(2)

زاد في حاشية في هنا: "الكلمات: سبحانك اللهمّ وبحمدك، لا إله إلّا أنت، عملت سوءًا وظلمت نفسي، فتب علي، إنك أنت التوّاب الرحيم.

(3)

قطعة من حديث عائشة الطويل في قصّة الإفك الذي رواه: البخاري (65 - التفسير، 24 - النور، 6 - باب، 8/ 452/ 4750)، ومسلم (49 - التوبة، 10 - حديث الإفك، 4/ 2129/ 2770).

ص: 140

أنتَ"

(1)

.

وفي الدُّعاءِ الذي عَلَّمَهُ صلى الله عليه وسلم[لـ]ــــلصِّدِّيقِ أنْ يَقولَهُ في صلاتِهِ: "اللهمَّ! إنِّي ظَلَمْتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يَغْفِرُ الذُنوبَ إلَّا أنتَ، فاغْفِرْ لي مغفرة مِن عندِكَ وارْحَمْني؛ إنَّكَ أنتَ الغفورُ الرحيمُ"

(2)

.

وفي حديثِ شَدَّادِ بن أوس عن النّبي صلى الله عليه وسلم: "سيِّدُ الاستغفارِ أنْ تقولَ العبدُ اللهمَّ! أنتَ ربي، لا إلهَ إلَّا أنتَ، خَلَقْتَني، وأنا عبدُكَ، وأنا على عهدِكَ ووعدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أعوذُ بكَ مِن شرِّ ما صَنَعْتُ، أبوءُ بنعمتِكَ عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغْفِرْ لي؛ إنهُ لا يَغْفِرُ الذُنوبَ إلَّا أنتَ"

(3)

.

الاعترافُ يَمْحو الاقترافَ، كما قيلَ:

وإنَّ اعْتِرافَ المَرْءِ يَمْحو اقْتِرافَهُ

كَما أنَّ إنْكارَ الذُنوبِ ذُنوبُ

لمَّا أُهْبِطَ آدَمُ عليه السلام مِن الجنّةِ بكى على تلكَ المعاهدِ - فيما يُرْوَى - ثلاثَ مئةِ عامٍ، وحُقَّ لهُ ذلكَ؛ كانَ في دارٍ لا يَجوعُ فيها ولا يَعْرى ولا يَظْمَأُ فيها ولا يَضْحى، فلمَّا نَزلَ إلى الأرضِ؛ أصابَهُ ذلكَ كلُّهُ، فكانَ إذا رَأى جبريلَ يَتَذَكَّرُ برؤيتِهِ تلكَ المعاهدَ، فيَشْتَدُّ بكاؤُهُ حتَّى يَبْكيَ جبريلُ لبكائِهِ وتقولَ لهُ: ما هذا البكاءُ يا آدَمُ؟ فيَقولُ: وكيفَ لا أبْكي وقد أُخْرِجْتُ مِن دارِ النعمةِ إلى دارِ البؤسِ؟! فقالَ لهُ بعضُ ولدِهِ: لقد آذَيْتَ أهلَ الأرضِ ببكائِكَ. فقالَ: إنّما أبكي على أصواتِ الملائكةِ حولَ العرشِ. وفي روايةٍ: قالَ: إنَّما أبكي على جوارِ ربِّي في دارٍ تربتُها طيِّبةٌ أسْمَعُ فيها أصواتَ الملائكةِ. وفي روايةٍ: قالَ: إنَّما أبْكي على دارٍ لو رَأيْتَها لَزَهَقَتْ نفسُكَ شوقًا إليها.

ورُوِيَ أنَّهُ قالَ لولدِهِ: كنَّا نسلًا مِن نسلِ السَّماءِ، خُلِقْنا كخلقِهِم، وغُذِّينا بغذائِهِم، فسَبانا عدوُّنا إبْليسُ، فليسَ لنا فرحٌ ولا راحةٌ إلَّا الهمَّ والعناءَ حتَّى نُرَدَّ إلى

(1)

رواه مسلم (6 - المسافرين، 26 - الدعاء في صلاة الليل، 1/ 534/ 771) من حديث عليّ.

(2)

رواه: البخاري (10 - الأذان، 149 - الدعاء قبل السلام، 2/ 317/ 834)، ومسلم (48 - الذكر، 13 - خفض الصوت بالذكر، 4/ 2078/ 2705)؛ من حديث أبي بكر رضي الله عنه.

(3)

رواه البخاري (80 - الدعوات، 2 - أفضل الاستغفار، 11/ 97/ 6306).

ص: 141

الدَّارِ التي أُخْرِجْنا منها.

فَحَيَّ عَلى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإنَّها

مَنازِلُكَ الأُولى وَفيها المُخَيَّمُ

وَلكِنَّنا سَبْيُ العَدُوِّ فَهَلْ تُرى

نَعودُ إلى أوْطانِنا وَنُسَلَّمُ

لمَا الْتَقى آدَمُ وموسى عليهما السلام؛ عاتَبَهُ موسى على إخراجِهِ نفسَهُ وذرِّيَّتَهُ مِن الجنَّةِ، فاحْتَجَّ آدَمُ بالقدرِ السَّابقِ، والاحتجاجُ بالقدرِ على المصائبِ حسن، كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنْ أصابَكَ شيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أنِّي فَعَلْتُ [كانَ كذا و] كذا، ولكنْ قُلْ: قَدَّرَ اللهُ وما شاءَ فَعَلَ"

(1)

، كما قيلَ:

واللهِ لَوْلا سابِقُ الأقْدارِ

لَمْ تَبْعُدْ قَطُّ دارُكُمْ عَنْ داري

مِنْ قَبْلِ النّأْيِ جِرْيَةُ المِقْدارِ

هَلْ يَمْحو [الـ]ـــــعبْدُ ما قَضاهُ الباري

(2)

لمَّا ظَهَرَتْ فضائلُ آدَمَ على الخلائقِ بسجودِ الملائكةِ لهُ وبتعليمِهِ أسماءَ كلِّ شيءٍ وإخبارِهِ الملائكةَ بها وهُم يَسْتَمِعونَ لهُ كاستماعِ المتعلِّمِ مِن معلِّمِهِ حتَّى أقَرُّوا بالعجزِ عن علمِهِ وأقَرُّوا لهُ بالفضلِ وأُسْكِنَ هوَ وزوجتُهُ الجنّةَ؛ ظَهَرَ الحسدُ مِن إبْليسَ وسَعى في الأذى، وما زالتِ الفضائلُ إذا ظَهَرَتْ تُحْسَدُ، كما قيلَ:

لا ماتَ حُسَّادُكَ بَلْ خُلِّدوا

حَتَّى يَرَوْا مِنْكَ الذي يُكْمِدُ

لا زِلْتَ مَحْسودًا عَلى نِعْمَةٍ

فَإنَّما الكامِلُ مَنْ يُحْسَدُ

فما زالَ يَحْتالُ على آدَمَ عليه السلام حتَّى تَسَبَّبَ في إخراجِهِ مِن الجنّةِ، وما فَهِمَ الأبلَهُ أن آدَمَ إذا خَرَجَ مِنها كَملَتْ فضائلُهُ ثمَّ عادَ إلى الجنَّةِ على أكملَ مِن حالتِهِ الأولى.

إنّما أهْلَكَ إبْليسَ العُجْبُ بنفسِهِ، ولذلكَ قالَ:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]. وإنَّما كَمَلَتْ فضائلُ آدَمَ باعترافِهِ على نفسِهِ: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف: 23].

كانَ إبْليسُ كلَّما أوْقَدَ نارَ الحسدِ لآدَمَ؛ فاحَ بها ريحُ طيبِ آدَمَ واحْتَرَقَ إبْليسُ.

وَإذا أرادَ اللهُ نَشْرَ فَضيلَةٍ

طُوِيَتْ أتاحَ لَها لِسانَ حَسودِ

(1)

رواه مسلم (46 - القدر، 8 - الأمر بالقوّة وترك العجز، 4/ 2052/ 2664) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومن نصّ مسلم استفدت الزيادة.

(2)

في وزن البيتين العروضيّ اضطراب شديد، وهما أولى بالكلام المسجوع منهما بالشعر.

ص: 142

لَوْلا اشْتِعالُ النَّارِ فيما جاوَرَتْ

(1)

ما كانَ يُعْرَفُ طيبُ عَرْفِ العودِ

قالَ بعضُ السَّلفِ: آدَمُ أُخْرِجَ مِن الجنّةِ بذنبٍ واحدٍ، وأنتُم تَعْمَلونَ الذنوبَ وتكْثِرونَ مِنها وتُريدونَ أنْ تَدْخُلوا بها الجنّةَ!

تَصِلُ الذُّنوبَ إلى الذُّنوبِ وَتَرْتَجي

دَرَجَ الجِنانِ بِها وَفَوْزَ العابِدِ

وَنَسِيتَ أن الله أخْرَجَ آدَمًا

مِنْها إلى الدُّنْيا بِذَنْبٍ واحِدِ

(2)

احْذَروا هذا العدوَّ الذي أخْرَجَ أباكُمْ مِن الجنَّةِ؛ فإنّهُ ساعٍ في منعِكُم مِن العودِ إليها بكلِّ سبيلٍ، والعداوةُ بينكُمْ وبينَهُ قديمةٌ؛ فإنَّهُ ما أخرِجَ مِن الجنَّةِ وطُرِدَ عن الخدمةِ إلَّا بسببِ تكبُّرِهِ على أبيكُم وامتناعِهِ مِن السُّجودِ لهُ لمَّا أمِرَ بهِ. وقد أبْلَسَ مِن الرَّحمةِ وأيِسَ مِن العودِ إلى الجنَّةِ وتَحَقَّقَ خلودَهُ في النَّارِ، فهوَ يَجْتهِدُ على أنْ يُخَلِّدَ معَهُ في النَّارِ بني آدَمَ؛ بتحسينِ الشِّركِ، فإنْ عَجَزَ؛ قَنعَ بما دونَهُ مِن الفسوقِ والعصيانِ. وقد حَذَّرَكُمْ مولاكُم منهُ، وقد أعْذَرَ مَن أنْذَرَ، فخُذوا حذرَكُم، {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27].

العَجَبُ ممَّن عَرَفَ ربَّهُ ثمَّ عَصاهُ، وعَرَفَ الشَّيطانَ ثمَّ أطاعَهُ! {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا]} [الأعراف: 27].

رَعى اللهُ مَنْ نَهْوى وَإنْ كانَ ما رَعى

حَفِظْنا لَهُ العَهْدَ القَديمَ فَضيَّعا

وَصاحَبْتَ قَوْمًا كُنْتُ أنْهاكَ عَنْهُمُ

وَحَقِّكَ ما أبْقَيْتَ للصُّلْحِ مَوْضِعا

لمَّا أُهبِطَ [آدَمُ] إلى الأرضِ؛ وُعِدَ العودَ إلى الجنَّةِ هوَ ومَن آمَنَ مِن ذرِّيَّتِهِ واتَّبَعَ الرُّسلَ: {يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35]. فَلْيُبَشَّرِ المؤمنونَ بالجنَّةِ، هيَ إقطاعُهُم، وقد وَصَلَ منشورُ الإقطاعِ

(3)

معَ جبريلَ إلى مُحَمَّدٍ عليهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ

(1)

في خ: "فيما حاولت"، والصواب ما أثبتّه من م وط.

(2)

زاد في ط هنا نقلًا عن إحدى أصوله الخطّيّة: "وقال: بفرد خطيئة وبفرد ذنب، من الجنّات أخرجت البرايا، فقل لي كيف ترجو في دخول، إليها بالألوف من الخطايا". وهذه إضافة ناسخ وجدت طريقها إلى المتن، وليست من شرطي هنا، وإنّما ذكرتها للطفها.

(3)

منشور الإقطاع: يقابل في أيّامنا هذه الإرادة الملكيّة السامية بإعطاء فلان من الناس قطعة من =

ص: 143

: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [البقرة: 25]. إنّما خَرَجَ الإقطاعُ عمَّن خَرَجَ عن الطَّاعةِ، فأمَّا مَن تابَ وآمَنَ؛ فالإقطاعُ مردودٌ عليهِ.

المؤمنونَ في دارِ الدُّنيا في سفرِ جهادٍ؛ يُجاهِدونَ فيهِ النُّفوسَ والهوى، فإذا انْقَضى سفرُ الجهادِ؛ عادوا إلى وطنِهِمُ الأوَّلِ الذي كانوا فيهِ في صلبِ أبيهِم. تكَفَّلَ اللهُ للمجاهدِ في سبيلِهِ أنْ يَرُدَّهُ إلى وطنِهِ بما نالَ مِن أجرٍ أو غنيمةٍ.

وَصَلَتْ إليكُم معشرَ الأُمَّةِ رسالةٌ مِن أبيكُم إبْراهيمَ معَ نبيِّكُم مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهما وسَلَّمَ، قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"رَأيْتُ ليلةَ أُسْرِيَ بي إبْراهيمَ، فقالَ: يا مُحَمَّدُ! أقْرِئْ أُمَّتَكَ منِّيَ السّلامَ، وأخْبِرْهُم أن الجنّة عذبةُ الماءِ طيِّبةُ التُّربةِ، وأنَّها قيعانٌ، وأنَّ غراسَها: سُبْحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلَّا اللهُ، واللهُ أكبرُ"

(1)

.

وخَرَّجَ النَّسائِيُّ والتِّرْمِذِيُّ: عن جابرٍ، عن النّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَن قالَ: سبحانَ اللهِ العظيمِ وبحمدِهِ؛ غُرِسَتْ لهُ نخلة في الجنّةِ"

(2)

.

= أرض أو مسكنًا أو نحوه.

(1)

(حسن بشواهده). رواه: الترمذي (49 - الدعوات، 59 - باب، 5/ 510/ 3462)، والطبراني في "الكبير"(10/ 173/ 10363) و"الأوسط"(4182) و"الصغير"(540)، والخطيب في "التاريخ"(2/ 292)، وابن عساكر (6/ 250 و 251)؛ من طريق سيّار بن حاتم، عن عبد الواحد بن زياد، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه، عن ابن مسعود

رفعه. وهذا سند ضعيف فيه علل: أولاها: أن في سيّار لينا ما. والثانية: أشار إليها الهيثمي (10/ 94) بقوله:، فيه عبد الرحمن بن إسحاق أبو شيبة الكوفي وهو ضعيف". قلت: كثير المنكرات ولا يبلغ حدّ الترك. والثالثة: كلامهم في سماع عبد الرحمن من أبيه، والراجح أنّه سمع منه، فليست هذه بالقادحة.

لكن له شاهد عند: أحمد (5/ 418)، والبخاري في "التاريخ"(5/ 136)، وابن أبي الدنيا (6/ 250 - ابن عساكر)، والحارث (1047 - زوائد الهيثمي)، وابن حبّان (821)، والمحاملي (263)، والطبراني في "الكبير"(4/ 132/ 3898) و "الدعاء"(1657)، وأبي نعيم في "الحلية"(2/ 197)، والبيهقي في "الشعب"(657)، وابن عساكر في "التاريخ"(6/ 248 - 250)؛ من حديث أبي أيّوب بسند فيه مجهول.

وله شاهد آخر من حديث أبي هريرة يأتي قريبًا.

فالحديث حسن بهذه الشواهد، ولعلّه لذلك حسّنه الترمذي والنووي والألباني.

(2)

(صحيح بشواهده). رواه: ابن أبي شيبة (29407)، والترمذي (49 - الدعوات، 60 - باب، 5/ 511/ 3464 و 3465)، والنسائي في "الكبرى"(10663) و"اليوم والليلة"(833)، وأبو يعلى (2233)،=

ص: 144

وخَرَّجَ ابنُ ماجَهْ عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: " [قُلْ]

(1)

سبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلَّا اللهُ واللهُ أكبرُ؛ يُغْرَسْ لكَ بكلِّ واحدةٍ شجرةٌ في الجنَّةِ"

(2)

.

وخَرَّجَهُ الطبَرانِيُّ مِن حديثِ ابن عَبَّاسٍ مرفوعًا

(3)

.

وخَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: "مَن قال سُبْحانَ اللهِ

= وابن حبّان (826 و 827)، والطبراني في "الصغير"(288) و"الدعاء"(1675)، والحاكم (1/ 501 و 512)، والبغوي (1265)؛ من طريق حجّاج بن أبي عثمان الصوّاف، عن أبي الزبير، عن جابر

رفعه.

قال الترمذي: "حسن صحيح لا نعرفه إلّا من حديث أبي الزبير عن جابر"، ووافقه المنذري. وقال الحاكم:"على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي. قلت: لكن فيه عنعنة أبي الزبير على كثرة تدليسه عن جابر.

لكنْ له شاهدًا عند: ابن أبي شيبة (29429)، والبزّار (2468)؛ من حديث ابن عمرو بسند فيه ضعف وإن جوّده المنذري.

وآخر من حديث معاذ بن أنس عند أحمد (3/ 440) بسند ضعيف.

وثالث من حديث ابن عبّاس سيأتي قريبًا.

فالحديث صحيح بشواهده، وقد صحّحه الترمذي والحاكم والنووي والذهبي والمنذري والألباني.

(1)

زيادة مستفادة من ابن ماجه للإيضاح.

(2)

(حسن صحيح). رواه: ابن ماجه (33 - الأدب، 56 - فضل التسبيح، 2/ 1251/ 3807)، والحاكم (1/ 512)؛ من طريق أبي سنان عيسى بن سنان، عن عثمان بن أبي سودة، عن أبي هريرة

رفعه.

صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال البوصيري: "إسناده حسن، وأبو سنان مختلف فيه". قلت: خلاصة حاله أنّه ليّن الحديث فالسند كذلك.

وله طريق أخرى عند الطبراني في "الأوسط"(3195): ثنا بكر بن سهل، ثنا عمرو بن هاشم البيروتي، ثنا سليمان بن أبي كريمة، عن ابن جريج، عن أبي صالح، عن أبي هريرة

موقوفًا بنحوه. قال الهيثمي (10/ 92): "فيه سليمان بن أبي كريمة، وهو ضعيف". قلت: وكذلك بكر بن سهل والبيروتي.

ورواه بنحوه البزّار (3078 - كشف) من طريق حميد مولى علقمة، ثنا عطاء، عن أبي هريرة

رفعه". قال الهيثمي (10/ 94): "فيه حميد المكّيّ، وليس هو حميد بن قيس، هذا مولى ابن علقمة، لم يرو عنه غير زيد بن الحباب، وبقيّة رجاله رجال الصحيح!. قلت: فعلى هذا هو مجهول، والسند ضعيف.

فالحديث حسن على الأقلّ بهذه الطرق صحيح بشواهده المتقدّمة والتالية، وقد قوّاه الحاكم والذهبي والبوصيري والألباني.

(3)

(صحيح بشواهده). رواه: البخاري في "التاريخ"(6/ 427) تعليقًا، والطبراني في "الأوسط"(8471) و"الدعاء"(1676)؛ من طريق عمران بن عبيد الله البصري، سمعت الحكم بن أبان، يحدّث عن عكرمة، عن ابن عبّاس

رفعه.

قال المنذري: "إسناده حسن لا بأس به في المتابعات". وقال الهيثمي (10/ 94): "رجاله موثّقون". قلت: عمران هذا لم أر من وثقه، بل غمزه البخاري شديدًا بقوله:"فيه نظر"، وهو رجل مجهول لا يعرف إلّا بهذا الحديث. ومع ذلك فالشواهد المتقدّمة كفيلة بتقوية هذا الأصل وتأييد المنذري والهيثمي فيما مالا إليه.

ص: 145

العظيمِ؛ بُنِيَ لهُ برجٌ في الجنَّةِ"

(1)

. ورُوِيَ موقوفًا.

وعنِ الحَسَنِ؛ قالَ: الملائكةُ يَعْمَلونَ لبني آدَمَ في الجنانِ يَغْرِسونَ ويَبْنونَ، فربَّما أمْسَكوا، فيُقالُ لهُم: قد أمْسَكْتُمْ؟ فيَقولونَ: حتَّى تَأْتِيَنا النَّفقاتُ. قالَ الحَسَنُ: فابْعَثوهُم بأبي أنتُم وأُمِّي على العملِ

(2)

.

وقال بعضُ السَّلفِ: بَلَغَني أن دورَ الجنَّةِ تُبْنى بالذِّكرِ، فإذا أُمْسِكَ عن الذكرِ؛ أمْسَكوا عن البناءِ، فيُقالُ لهُم، فيقولونَ: حتَّى تَأْتِيَنا نفقةٌ.

أرضُ الجنَّةِ اليومَ قيعان، والأعمالُ الصَّالحةُ لها عمران، بها تُبْنى القصورُ وتُغْرَسُ أرضُ الجنان، فإذا تكامَلَ الغراسُ والبنيان، انْتَقَلَ إليهِ السُّكَّان.

رَأى بعضُ الصَّالحينَ في منامِهِ قائلًا تقولُ لهُ: قد أُمِرْنا بالفراغِ مِن بناءِ دارِكَ، واسمُها دارُ السُّرورِ، فأبْشِرْ، وقد أُمِرْنا بتنجيدِها وتزيينِها والفراغِ منها إلى سبعةِ أيَّامٍ. فلمَّا كانَ بعدَ سبعةِ أيَّامٍ؛ ماتَ، فرُئيَ في المنامِ، فقالَ: أدخِلْتُ دارَ السُّرورِ، وأنا في سرورٍ، فلا تَسْألْ عمَّا فيها، لمْ يُرَ مثلُ الكريمِ إذا حَلَّ بهِ مطيعٌ.

رَأى بعضُهُم كأنَّهُ أُدْخِلَ الجنَّةَ وعُرِضَ عليهِ منازلُهُ وأزواجُهُ، فلمَّا أرادَ أنْ يَخْرُجَ؛ تَعَلَّقَ بهِ أزواجُهُ وقالوا لهُ: باللهِ؛ حَسِّنْ عملَكَ، فكلَّما حَسَّنْتَ عملَكَ؛ ازْدَدْنا نحنُ حُسْنًا.

العاملونَ اليومَ يُسْلِفونَ رؤوسَ أموالِ الأعمالِ فيما تَشْتَهي الأنفسُ وتَلَذُّ الأعينُ إلى أجلِ يومِ المزيدِ في سوقِ الجنَّةِ، فإذا حَلَّ الأجلُ؛ دَخَلوا السُّوقَ فحَمَلوا منهُ ما شاؤوا بغيرِ نقدِ ثمنٍ على قدرِ ما سَلَفَ مِن تعجيلِ رأْس مالِ السَّلفِ، لكنْ بغيرِ مكيالٍ ولا ميزانٍ. فيا مَن عَزَمَ أنْ يُسْلِفَ اليومَ إلى ذَلكَ الموسمِ! عَجِّلْ بتقبيضِ رأْس المال؛ فإنَّ تأْخيرَ التَّقبيضِ يُفْسِدُ العقدَ.

(1)

(ضعيف). رواه: البخاري في "التاريخ"(3/ 522)، وابن أبي الدنيا؛ من طريق سعيد بن سليمان، ثنا عقبة بن أبي الصهباء، سمعت سعيدًا شيخ له، سمعت أبا هريرة

رفعه.

وهذا سند ضعيف من أجل سعيد هذا الشيخ المجهول. ولا يبعد أنّ روايته عن أبي هريرة منقطعة، فقد أشار أبو حاتم إلى أنه يروي عن الأعمش عن أبي هريرة. وله علّة ثالثة وهي الوقف كما ذكر ابن رجب.

(2)

في خ: "فأتعبوهم بالعمل"، والأولى ما أثبتّه من م وط.

ص: 146

فَللهِ واديها الذي

(1)

هُوَ مَوْعِدُ الْـ

زيدِ لِوَفْدِ الحُبِّ لَوْ كُنْتَ مِنْهُمُ

فَما شِئْتَ خُذْ مِنْهُ بِلا ثَمَنٍ لَهُ

فَقَدْ أسْلَفَ التُّجَّارُ فيهِ وَأسْلَموا

(2)

وفي الحديثِ: "إنَّ الجنَّةَ تَقولُ: يا ربِّ! ائْتِني بأهلي وبِما وَعَدْتَني؛ فقد كَثُرَ حريري وإستبرقي وسندسي ولؤلئي ومرجاني وزبرجدي وفضَّتي وذهبي وأباريقي وخمري وعسلي ولبني؛ فائْتِني بأهلي وبما وَعَدْتَني"

(3)

.

وفي الحديثِ أيضًا: "مَن سَألَ الله الجنَّةَ؛ شَفَعَتْ لهُ الجنَّةُ إلى ربِّها وقالَتِ: اللهمَّ! أدْخِلْهُ الجنَّةَ"

(4)

.

وفي الحديثِ أيضًا: "إنَّ الجنَّةَ تُفْتَحُ في كلِّ سحرٍ، ويُقالُ لها: ازْدادي طيبًا لأهلِكِ، فتَزْدادُ طيبًا، فذلكَ البردُ الذي يَجِدُهُ النَّاسُ في

(1)

في خ وم: "فلله ذاك السوق الذي"، ولا يستوي الوزن إلّا بما أثبتّه من ط.

(2)

أسلموا: من السَّلَم، وهو كالسَّلَف وزنًا ومعنى.

(3)

(منكر). رواه: البزّار (55 - كشف)، وابن جرير (22021 و 22022)، وابن أبي حاتم (الإسراء 1 - ابن كثير)، وأبو نعيم في "الجنة"(22)، والبيهقي في "البعث"؛ من طرق، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية أو غيره، عن أبي هريرة

رفعه في سياق مطوّل جدَّا في قصّة الإسراء.

قال ابن كثير: "في بعض ألفاظه غرابة ونكارة، وفيه شيء من حديث المنام في رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاريّ، ويشبه أن يكون مجموعًا من أحاديث شتّى أو منام أو قصّة أُخرى غير الإسراء". وقال أيضًا: فيه أبو جعفر الرازيّ، و"فيما تفرّد به نظر". وقال الهيثمي (1/ 77):"رواه البزّار ورجاله موثقون، إلّا أنّ الربيع بن أنس قال عن أبي العالية أو غيره، فتابعيّه مجهول". قلت: فهاهنا علل ثلاث: سوء حفظ أبي جعفر، وتفرّده بغرائب لم ترد في شيء من أحاديث الإسراء، وجهالة التابعيّ، وعلى فرض أنّه أبو العالية فهو كثير الإرسال لم يصرّح بالسماع.

(4)

(صحيح). رواه: ابن أبي شيبة (29799)، وأحمد (3/ 117 و 141 و 155 و 208 و 262)، وهنّاد في "الزهد"(175)، وابن ماجه (37 - الزهد، 39 - صفة الجنة، 2/ 1453/ 4340)، والترمذي (39 - الجنّة، 27 - صفة أنهار الجنة، 4/ 699/ 2572)، والنسائي (55 - الاستعاذة، 56 - الاستعاذة من حرّ النار، 8/ 279/ 5536) وفي "اليوم والليلة"(110)، وأبو يعلى (3682 و 3683)، وابن حبّان (1014 و 1034)، والطبراني في "الدعاء"(1310 و 1311 و 1312)، والآجري في "الشريعة"(940)، وأبو نعيم في "الجنّة"(67)، والحاكم (1/ 534)، والخطيب في "التاريخ"(11/ 378)، والبغوي في "السنّة"(1365)، والضياء في "المختارة"(4/ 388/ 1557 - 1560)؛ من طريقين قويّتين، عن بريد بن أبي مريم، عن أنس

رفعه.

صحّحه الحاكم ووافقه المنذري والذهبي. وقال الترمذي: "وقد روي عن أبي إسحاق عن بريد بن أبي مريم عن أنس موقوفًا أيضًا". قلت: الرفع زيادة ثقة يتعيّن قبولها، وللموقوف هنا حكم الرفع.

ص: 147

السَّحَرِ"

(1)

.

قلوبُ العارفينَ تَسْتَنْشِقُ أحيانًا نسيمَ الجنَّةِ.

قالَ أنَسُ بنُ النَّضْرِ يومَ أُحُدٍ: واهًا لريحِ الجنَّةِ، واللهِ؛ إنِّي لأجِدُ ريحَ الجنَّةِ مِن قِبَلِ أُحُدٍ، ثمَّ تَقَدَّمَ فقاتَلَ حتَّى قُتِلَ.

تَمُرُّ الصَّبا صَفْحًا

(2)

بِساكِنِ ذي الغَضا

وَيَصْدَعُ قَلْبي أنْ يَهُبَّ هُبوبُها

قَريبَةُ عَهْدٍ بالحَبيبِ وَإنَّما

هَوى كُلِّ نَفْسٍ حَيْثُ حَلَّ

(3)

حَبيبُها

كم للهِ مِن لطفٍ وحكمةٍ في إهباطِ آدَمَ إلى الأرضِ، لولا نزولُهُ؛ لما ظَهَرَ جهادُ المجاهدينَ واجتهادُ المجتهدين، ولا صَعِدَتْ زفراتُ

(4)

أنفاسِ التَّائبين، ولا نَزَلَتْ فطراتُ دموعِ المذنبين

(5)

.

يا آدَمُ! إنْ كُنْتَ أُهْبِطْتَ مِن دارِ القربِ؛ فإنِّي قريبٌ أُجيبُ دعوةَ الدَّاعِ إذا دَعانِ، إنْ كانَ حَصَلَ لكَ بالإخراجِ مِن الجنَّةِ كسرٌ؛ فأنا عندَ المنكسرةِ قلوبُهُم مِن أجلي، إنْ كانَ فاتَكَ في السَّماءِ سماعُ زجلِ المسبِّحينَ؛ فقد تَعوَّضْتَ في الأرضِ بسماعِ أنينِ المذنبينَ، أنينُ المذنبينَ أحبُّ إلينا مِن زجلِ المسبِّحينَ، زجلُ المسبِّحينَ ربَّما يَشوبُهُ الافتخارُ وأنينُ المذنبينَ يَزينُهُ الانكسارُ.

لو لمْ تُذْنِبوا؛ لَذَهَبَ اللهُ بكُم، وجاءَ بقومٍ يُذْنِبونَ، ثمَّ يَسْتَغْفِرونَ، فيَغْفِرَ لهُم.

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه الطبراني في "الأوسط"(10/ 415 - مجمع) و"الصغير"(75) من طريق عمرو بن عبد الغفّار الفقيمي، ثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر

رفعه. قال الهيثمي: "فيه عمرو بن عبد الغفّار وهو متروك".

ورواه: الخطيب في "التَّاريخ"(11/ 213)، والذهبي في "الميزان"(4/ 382) تعليقًا؛ من طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن مجالد، عن عطيّة، عن أبي سعيد

رفعه. ويحيى متروك، ومجالد ضعيف، وعطيّة ضعيف سيّء التدليس عن أبي سعيد.

ورواه أبو نعيم في "الحلية"(5/ 379) موقوفًا على كعب الأحبار، فلعلّ هذا أصله.

(2)

تمرّ الصبا صفحًا: تمرّ دون أن يشعر بها.

(3)

في خ: "أين حلّ"، والأولى ما أثبته من م وط.

(4)

في خ: "ولا صدعت زفرات"، وهو تحريف صوابه ما أثبته من م وط.

(5)

راجع تفاصيل هذه الحكم واللطائف في "مفتاح دار السعادة"(1/ 77 - 94)، فقد أتى ابن القيّم يرحمه الله في هذا الباب بفتوح لا تراها عند غيره.

ص: 148

سُبحانَ مَن إذا لَطَفَ بعبد في المحنِ قَلَبَها منحًا، وإذا خَذَلَ عبدًا لمْ يَنْفَعْهُ كثرةُ اجتهادِهِ وعادَ عليهِ وبالًا.

لُقِّنَ آدَمُ حجَّتَهُ وأُلقِيَ إليهِ ما تُتَقَبَّلُ بهِ توبتُهُ، {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37]. وطُرِدَ إبْليسُ بعدَ طولِ خدمتِهِ فصارَ عملُهُ هباءً منثورًا، {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 34 - 35]

(1)

.

إذا وَضَعَ عدلَهُ على عبدٍ؛ لمْ تَبْقَ لهُ حسنةٌ، وإذا بَسَطَ فضلَهُ على عبدٍ؛ لمْ تَبْقَ لهُ سيِّئةٌ.

يُعْطِي وَيَمْنَعُ مَنْ يَشاءُ كَما يَشا

وَهِباتُهُ لَيْسَتْ تُقارِنُها الرُّشا

لمَّا ظَهَرَ فضلُ آدَمَ على الخلائقِ بالعلمِ، وكانَ العلمُ لا يَكْمُلُ بدونِ العملِ بمقتضاهُ، والجنَّةُ ليست دارَ عمل ومجاهدةٍ وإنّما هيَ دارُ نعيمٍ ومشاهدةٍ؛ قيلَ لهُ: يا آدَمُ! اهْبِطْ إلى رباطِ الجهاد، وصابِرْ جنودَ الهوى بالجدِّ والاجتهاد، واذْرِ دموعَ الأسفِ على البعاد، فكأنَّكَ بالعيشِ الماضي وقد عادَ على أكملِ مِن ذلكَ الوجهِ المعتاد.

عُودوا إلى الوَصْلِ عُودوا

فَالهَجْرُ صَعْبٌ شَديدُ

لَوْ ذاقَ طَعْمَ الفِراقِ رَضْوى

لَكادَ مِنْ وَجْدِهِ يَميدُ

قَدْ حَمَّلوني عَذابَ شَوْقٍ

يَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِ الحَديدُ

قُلْتُ وَقَلْبي أسيرُ وَجْدٍ

مُتيَّمٌ في الجَفا عَميدُ

أنْتُمْ لَنا في الهوى مَوالٍ

وَنَحْنُ في أسْرِكُمْ عَبيدُ

(1)

زاد في حاشية خ هنا: "أورد أحد المحقّقين سؤالًا وجوابًا؛ قال: إنّما طرد إبليس واستحقّ اللعنة وأخرج من الجنّة بكفره المجمع عليه. لكن هل كان كفره بامتناعه من السجود وعصيانه كما دلّ عليه سياق كلام ربّ العالمين، ويلزم منه كفر من عصى، ولا قائل. أو كفر بشيء زائد على ذلك، وهو الذي ذكره بعض المحقّقين. ثمّ اختلفوا؛ ما الذي كفر به؟ فقالوا: كفر بقوله لم أكن لأسجد لبشر خلقه من صلصال من حمأ مسنون، فأشار إلى أنّ أمر الحقّ تعالى بسجود الأعلى للأدنى من الجور؛ لأن عنصر النار أشرف من عنصر التراب على زعمه، ولا شك أن نسبة الحق تعالى إلى الجور كفر يستوجب فاعله اللعنة والطرد الأبديّ والعذاب السرمديّ" اهـ. وهذا على طريقة المتكلّمة الذين يخطر لهم من التأويلات ما لا يخطر لإبليس، وليس هذا أولى المحالّ بتفصيل ما فيه من نظر.

ص: 149

‌المجلس الثالث في قدوم الحاج

في الصَّحيحين

(1)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:"مَن حَجَّ هذا البيتَ فلمْ يَرْفُثْ ولمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ مِن ذنوبِهِ كيومَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ".

• مباني الإسلامِ الخمسُ؛ كلُّ واحدٍ منها يُكَفِّرُ الدُّنوبَ والخطايا ويَهْدِمُها: فلا إلهَ إلَّا اللهُ لا تُبْقي ذنبًا ولا يَسْبِقُها عملٌ. والصَّلواتُ الخمسُ والجمعةُ إلى الجمعةِ ورمضانُ إلى رمضانَ مكفِّراتٌ لِما بينَهُنَّ ما اجْتُنِبَتِ الكبائرُ. والصَّدقةُ تُطْفِئ الخطيئةَ كما يُطْفِى الماءُ النَّارَ. والحجُّ الذي لا رفثَ فيهِ ولا فسوقَ يَرْجِعُ صاحبُهُ مِن ذنوبِهِ كيومَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.

• وقدِ اسْتَنْبَطَ معنى هذا الحديثِ مِن القرآنِ طائفةٌ مِن العلماءِ، وتأوَّلوا قولَ اللهِ عز وجل {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203] بأن مَن قَضى نسكَهُ ورَجَعَ منهُ فإنَّ آثامَهُ تَسْقُطُ عنهُ إذا اتَّقى الله في أداءِ نسكِهِ، وسواءٌ نَفَرَ في اليومِ الأوَّلِ من يوميِ النَّفرِ متعجِّلًا أو تَأخَّرَ إلى اليومِ الثَّاني.

وفي "مسند أبي يَعْلى المَوْصِلِي": عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "مَن قَضى نسكَهُ، وسَلِمَ المسلمونَ مِن لسانِهِ ويدهِ، غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِهِ وما تَأخَّرَ"

(2)

.

(1)

البخاري (25 - الحجّ 4 - الحجّ المبرور، 3/ 382/ 1521)، ومسلم (15 - الحجّ، 79 - فضل الحجّ والعمرة، 2/ 983/ 1350).

(2)

(ضعيف). رواه: عبد بن حميد (1150)، والفاكهي في "مكّة"(930)، وأبو يعلى (29/ 362 - ابن عساكر، ولم أجده في المطبوع، فلعلّ المصنّف أراد المسند الكبير)، والعقيلي (2/ 274)، وابن عدي (2/ 476، 4/ 1450، 6/ 2334)، وابن عساكر (29/ 362)، والذهبي في "الميزان"(2/ 459) تعليقًا؛ من طريق موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة، عن جابر

رفعه بطوله دون قوله "وما تأخّر" عند جميعهم إلّا أبا يعلى ومن طريقه ابن عساكر. قال الألباني: "هذا سند ضعيف، موسى بن عبيدة ضعيف، وأمّا أخوه عبد الله بن عبيدة فمختلف فيه". قلت: ترجمة عبد الله في "التهذيب" ترجح أنّ من ضعّفه إنّما ضعّفه بالنظر إلى رواية أخيه عنه وأمّا هو في نفسه فالظاهر أنّه صدوق. لكن قال ابن معين: "موسى عن عبد الله عن جابر مرسل". فهذه علّة أُخرى.

وله شاهد آخر عند عبد الرزّاق (8817): ثني الأسلميّ، ثني صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار

مرسلًا. والأسلميّ هذا هو إبراهيم بن محمّد بن أبي يحيى، متروك، لا تسوى متابعته فلسًا.

ص: 150

وفي الصَّحيحينِ

(1)

: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "الحجُّ المبرورُ ليسَ لهُ جزاءً إلَّا الجنَّةُ".

وفي "صحيح مسلم"

(2)

: عنهُ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "الحجُّ يَهْدِمُ ما قبلَهُ".

فالحجُّ المبرورُ يُكَفِّرُ السِّيِّئاتِ ويوجِبُ دخولَ الجنَّاتِ. وقد رُوِيَ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن برِّ الحجِّ، فقالَ:"إطعامُ الطَّعامِ وطيبُ الكلامِ"

(3)

. فالحجُّ المبرورُ ما اجْتَمَعَ فيهِ فعلُ أعمالِ البرِّ معَ اجتنابِ أعمالِ الإثمِ.

فما دَعا الحاجُّ لنفسِهِ ولا دَعا لهُ غيرُهُ بأحسنَ مِن الدُّعاءِ بأنْ يَكونَ حجُّهُ مبرورًا.

ولهذا يُشْرَعُ للحاجِّ إذا فَرَغَ مِن أعمالِ حجِّهِ وشَرَعَ في التَّحلُّلِ مِن إحرامِهِ برميِ جمرةِ العقبةِ يومَ النَّحرِ أنْ يَقولَ: اللهمَّ! اجْعَلْهُ حجًّا مبرورًا، وسعيًا مشكورًا، وذنبًا مغفورًا. رُوِيَ ذلكَ عن ابن مَسْعودٍ وابنِ عُمَرَ مِن قولِهِما، ورُوِيَ عنهُما مرفوعًا

(4)

.

(1)

البخاري (26 - العمرة، 1 - العمرة، 3/ 597/ 1773)، ومسلم (15 - الحجّ، 79 - فضل الحجّ، 2/ 983/ 1349)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

(1 - الإيمان، 54 - الإسلام يهدم ما قبله، 1/ 112/ 121) من حديث عمرو بن العاص.

(3)

(صحيح). رواه: الطيالسي (1718)، وأحمد (3/ 325 و 334)، وعبد بن حميد (1091 - منتخب)، والفاكهي في "مكّة"(879)، وابن خزيمة، والعقيلي (4/ 40)، والطبراني في "الأوسط"(6614)، وابن عدي (1/ 356، 6/ 2146)، والحاكم (1/ 483)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 156، 6/ 146)، والبيهقي في "الشعب"(4119 و 4120) و"السنن"(5/ 262)، والأصبهاني في "الترغيب"(1047)، والرافعي في "التدوين"(2/ 288)؛ من طرق، عن محمّد بن المنكدر، عن جابر

رفعه. قال العقيلي: "إسناد ليّن". وقال العسقلاني: "في إسناده ضعف". قلت: له طريقان ساقطتان عن ابن المنكدر وطريقان ضعيفتان وطريقان صالحتان في الشواهد، ومجموعها لا ينزل بهذا الوجه عن رتبة الحسن أبدًا.

ورواه: العقيلي (1/ 141)، والطبراني في "الأوسط"(8400)؛ من طريق بشر بن المنذر، ثنا محمّد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن جابر

رفعه. قال المنذري والهيثمي (3/ 210): "إسناده حسن". قلت: بشر سيّئ الحفظ، ومحمّد بن مسلم يخطئ، وقال العقيلي:"لا يتابع عليه من حديث عمرو بن دينار، وهذا يروى عن جابر من حديث محمّد بن المنكدر بإسناد ليّن". قلت: سواء أأخطأ بذكر عمرو بن دينار أم أصاب، فطريقه هذه تزيد الحديث قوّة على قوّته. وقد قوّاه الحاكم والمنذري والذهبي والهيثمي والألباني.

(4)

(ضعيف موقوفًا ولا أصل له في المرفوع). قال العسقلاني في "التلخيص"(2/ 268): "لم أجده. وذكره البيهقي من كلام الشافعيّ. وروى سعيد بن منصور في "السنن" عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم قال: كانوا يحبّون للرجل إذا رمى الجمار أن يقول: اللهمّ اجعله حجًّا مبرورًا وذنبًا مغفورًا، وأسنده من وجهين =

ص: 151

وكذلكَ يُدْعى للقادِمِ مِن الحجِّ بأنْ يَجْعَلَ اللهُ حجَّهُ مبرورًا.

وفي الأثرِ أن آدَمَ عليه السلام لمَّا حَجَّ البيتَ وقَضى نسكَهُ؛ أتَتْهُ الملائكةُ فقالوا لهُ: يا آدَمُ! بَرَّ حجُّكَ! لقد حَجَجْنا هذا البيتَ قبلَكَ بألفي عامٍ

(1)

.

وكذلكَ [كانَ] السَّلفُ يَدْعونَ لمَن رَجَعَ مِن حجِّهِ. لمَّا حَجَّ خالِدٌ الحَذَّاءُ ورَجَعَ؛ قالَ لهُ أبو قِلابَةَ: بَرَّ العملُ! معناهُ: جَعَلَ اللهُ عملَكَ مبرورًا.

• وللحجِّ المبرورِ علاماتٌ لا تَخْفى:

قيلَ للحَسَنِ: الحجُّ المبرورُ جزاؤُهُ الجنَّةُ. قالَ: آيةُ ذلكَ أنْ يَرْجِعَ زاهدًا في الدُّنيا راغبًا في الآخرةِ.

وقيلَ لهُ: جزاءُ الحجِّ المبرورِ المغفرةُ. قالَ: آيةُ ذلكَ أنْ يَدَعَ سيِّئَ ما كانَ عليهِ مِن العملِ.

الحجُّ المبرورُ مثلُ حجِّ إبراهيمَ بن أدْهَمَ معَ رفيقِهِ الرَّجلِ الصَّالحِ الذي صَحِبَهُ مِن بَلْخَ: فرَجَعَ مِن حجِّهِ زاهدًا في الدُّنيا راغبًا في الآخرةِ، وخَرَجَ عن ملكِهِ ومالِهِ وآلِهِ وعشيرتِهِ وبلادِهِ واختارَ بلادَ الغربةِ، وقَنَعَ بالأكلِ مِن عملِ يدِهِ إمَّا مِن الحصادِ أو مِن نظارةِ البساتينِ

(2)

.

= ضعيفين عن ابن مسعود وابن عمر من قولهما عند رمي الجمرة".

(1)

(منكر مرفوعًا). رواه: البيهقي (5/ 176) من طريق سعيد بن ميسرة البكري، والأصبهاني في "الترغيب"(1021) من طريق أبي هرمز نافع بن هرمز؛ كلاهما عن أنس

رفعه. والبكري وأبو هرمز متروكان متّهمان، والسند ساقط.

ورواه: الشافعي في "المسند"(ص 116)، وأبو الشيخ في "العظمة"(1048)، والبيهقي (5/ 177)، والأصبهاني (1048)؛ عن محمّد بن كعب موقوفًا. ورواه: الأزرقيّ في "مكّة"(1/ 39، 2/ 13)، وأبو الشيخ (1051)، وابن الجوزي في "الواهيات"(937)؛ عن ابن عبّاس موقوفًا. وابن أبي شيبة (35947) عن أنس موقوفًا. والطبري في "التاريخ"(1/ 81) عن ابن عمر موقوفًا. والمروزي في "الصلاة"(853)، والأزرقي (1/ 45)؛ عن ابن المنكدر موقوفًا. والفاكهي (575) عن أبي يزيد بن العجلان موقوفًا. والبيهقي في "الشعب"(3989) عن وهب موقوفًا. وأبو الشيخ (1066) عن أبي سلمة موقوفًا. والأزرقي (1/ 45) عن سعيد موقوفًا.

فأصل هذا خبر إسرائيليّ تناقله الصحابة فمن بعدهم موقوفًا والرفع فيه منكر من فعل المتروكين.

(2)

أيّ برّ في أن يخرج المرء عن ماله وملكه وأهله وعشيرته وبلده؟! قد حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمّ عادوا إلى أموالهم وأهليهم وأعمالهم، وهم والله أحقّ بالبرّ وأهله، ومن جاء بعدهم فقصاراه أن ينال وشلًا من =

ص: 152

حجَّ مرَّةً مع جماعةٍ مِن أصحابِهِ، فشَرَطَ عليهِم في ابتداءِ السَّفرِ ألَّا يَتَكَلَّمَ أحدُهُم إلَّا للهِ ولا يَنْظُرَ إلَّا لهُ، فلمَّا وَصَلوا وطافوا بالبيتِ؛ رَأوا جماعةً مِن أهلِ خُراسانَ في الطَّوافِ معَهُم غلامٌ جميلٌ قد فُتِنَ النَّاسُ بالنَّظرِ إليهِ، فجَعَلَ إبْراهيمُ يُسارِقُهُ النَّظرَ ويَبْكي، فقالَ لهُ بعضُ أصحابِهِ: يا أبا إسْحاقَ! ألمْ تَقُلْ لنا لا تَنْظُروا إلَّا للهِ؟ فقالَ: ويحكَ! هذا ولدي، وهؤلاءِ خدمي وحشمي، [ثمَّ أنْشَدَ]:

هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرًّا في هَواكا

وأيْتَمْتُ العِيالَ لِكَيْ أراكا

فَلَوْ قَطَّعْتَني في الحُبِّ إرْبًا

لَما حَنَّ الفُؤادُ إلى سِواكا

(1)

قالَ بعضُ السَّلفِ: استلامُ الحجرِ الأسودِ هوَ ألَّا تَعودَ إلى معصيةٍ. يُشيرُ إلى ما قالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ: إنَّ الحجرَ الأسودَ يَمينُ اللهِ في الأرضِ، فمَنِ اسْتَلَمَهُ وصافَحَهُ؛ فكأنَّما صافَحَ الله وقَبَّلَ يمينَهُ. وقالَ عِكْرِمَةُ: الحجرُ الأسودُ يَمينُ اللهِ في الأرضِ، فمَن لمْ يُدْرِكْ بيعةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فمَسَحَ الرُّكنَ؛ فقد بايَعَ الله ورسولَهُ

(2)

.

= بحرهم وغيضًا من فيضهم! فإن صحّت نسبة هذه الحكاية إلى إبراهيم؛ فأحسن ما يقال فيها: رجل أراد الخير فلم يصبه! وكم من مريد للخير لن يصيبه!

(1)

وهذه كالتي قبلها جملة وتفصيلًا: فأمّا شرط عدم النظر والنطق إلّا لله؟ فتحريم لما أحلّه الله بقوله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]! وأمّا الغلام الجميل الذي فتن الناس بالنظر إليه؛ فلا يحلّ لأبيه والله أن يخلّيه يتيمًا دون رعاية ولا تعهّد لأنّ أبواب الضلالة مشرعة لأمثاله في كلّ عصر ومصر! وإذا كان النظر إلى ولدك من النظر لله تعالى؛ أفليس الأولى أن تكون رعايته وتنشئته نشأة صالحة من عبادة الله تعالى؟! وإذا كان فؤادك لا يحنّ إلّا لله تعالى؛ فما هذا البكاء؟! والله المستعان على هذه الأوابد التي ما أنزل بها من سلطان!

(2)

(ضعيف مرفوعًا، حسن موقوفًا، وليس له حكم الرفع). رواه: ابن عديّ (1/ 336)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(2/ 365)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(6/ 328)، وابن الجوزي في "الواهيات"(944)، وابن عساكر (42/ 217)؛ من طريقين، عن أبي معشر المدائني، عن ابن المنكدر، عن جابر

رفعه. وفي الطريق الأولى إسحاق بن بشر الكاهلي كذّاب، وفي الثانية أبو عليّ الأهوازي متّهم.

ورواه: الفاكهي (14)، وابن خزيمة (2737)، والطبراني في "الأوسط"(567)، والحاكم (1/ 457)، والبيهقي في "الصفات"(729)، وابن الجوزي في "الواهيات"(945)؛ من طريق عبد الله بن المؤمّل، سمعت عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمرو

رفعه. صحّحه الحاكم، وردّه الذهبي بقوله:"عبد الله بن المؤمّل واه". وقال ابن الجوزي: "لا يصحّ". وقال الهيثمي (3/ 245): "فيه عبد الله بن المؤمّل، وثّقه ابن حبّان وقال يخطئ، وفيه كلام، وبقيّة رجاله رجال الصحيح".

ورواه الفاكهي (15) من طريق إسماعيل بن عيّاش، ثني حميد بن أبي سويد، سمعت عطاء، عن أبي =

ص: 153

ووَرَدَ في حديثٍ أن الله لمَّا اسْتَخْرَجَ مِن ظهرِ آدَمَ ذرِّيَّتَهُ وأخَذَ عليهِمُ الميثاقَ؛ كَتَبَ ذلكَ العهدَ في رَقٍّ، ثمَّ اسْتَوْدَعَهُ هذا الحجرَ

(1)

. فمِن ثَمَّ يَقولُ مَنِ اسْتَلَمَهُ: وفاءً بعهدِكَ

(2)

.

فمستلِمُ الحجرِ يُبايِعُ الله على اجتنابِ معاصيهِ والقيامِ بحقوقِهِ، {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].

يا معاهدينا على التَّوبةِ! بينَنا وبينَكُم عهودٌ أكيدةٌ:

أوَّلُها: يومُ {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، والمقصودُ الأعظمُ مِن هذا العهدِ ألَّا تَعْبُدوا إلَّا إيَّاهُ، وتمامُ العملِ بمقتضاهُ أنِ اتَّقوا الله حقَّ تقواهُ.

وثانيها: يومَ أرْسَلَ إليكُم رسولَهُ وأنْزَلَ عليهِ في كتابِهِ {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40].

قالَ سَهْلٌ التُّسْتَرِيُّ: مَن قالَ لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ فقد بايَعَ الله، فحرامٌ عليهِ إذا بايَعَهُ أنْ

= هريرة

رفعه. وإسماعيل مخلّط عن غير الشاميّين وهذا منه، وحميد مجهول منكر الحديث.

ورواه: عبد الرزّاق (8919 و 8920)، وابن قتيبة في "الغريب"، والفاكهي في "مكّة"(16 - 20 و 28 و 29)، والأزرقي في "مكّة"(1/ 324 - 326)؛ من طرق كثيرة، عن ابن عبّاس موقوفًا. ولا يخلو شيء من طرقه ضعف، لكن اجتماعها يفيد أنّ لهذا المتن أصلًا صالحًا عن ابن عبّاس.

ورواه عبد الرزّاق (8920) موقوفًا على وهب بن منبّه بسند لا بأس به.

ورواه الفاكهي (33) موقوفًا على عليّ بن الحسين بسند ضعيف.

وليس لهذه الموقوفات حكم الرفع، لأنّها قد تقال اجتهادًا على سبيل الكناية أو المجاز.

(1)

(موضوع). رواه: الجندي في "فضائل مكّة"(الأعراف 172 - درّ)، وأبو الحسن القطّان في "الطوالات"(الأعراف 172 - درّ)، والحاكم (1/ 458)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(4040)، والرافعي في "التدوين"(3/ 151)؛ من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد، عن عليّ

فذكره موقوفًا عليه لكنّ السياق يقتضي أنّه من المرفوع.

قال الحاكم: "ليس من شرط الشيخين؛ فإنّهما لم يحتجّا بأبي هارون عمارة بن جوين العبدي". وقال الذهبي: "أبو هارون ساقط". وقال العسقلاني في "الفتح"(3/ 462): "في إسناده أبو هارون العبدي وهو ضعيف جدًّا". قلت: متّهم كذّاب مفتر، تفرّد بهذه الزيادة على أصل هذا الحديث المخرّج في الصحيحين وغيرهما فبان أنّه ممّا صنعته يداه. وقد ضعّف حديثه هذا البيهقي والزيلعي والسيوطي والشوكاني.

(2)

لا يعرف هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا يصحّ عن أصحابه رضي الله عنهم كما بيّنه العسقلاني في "أمالي الأذكار"(2/ 374 - فتوحات ابن علّان)!

ص: 154

يَعْصِيَهُ في شيءٍ مِن أمرِهِ في السِّرِّ والعلانيةِ أو يُوالِيَ عدوَّهُ أو يُعادِيَ وليَّهُ.

يا بَني الإسْلامِ مَنْ عَلَّمَكُمْ

بَعْدَ إذْ عاهَدْتُمُ نَقْضَ العُهودِ

كُلُّ شَيْءٍ في الهَوى مُسْتَحْسَنٌ

ما خَلا الغَدْرَ وَإخْلافَ الوُعودِ

وثالثها: لمَن حَجَّ إذا اسْتَلَمَ الحجرَ؛ فإنَّهُ يُجَدِّدُ البيعةَ ويَلْتَزِمُ الوفاءَ بالعهدِ المتقدِّمِ. {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23].

الحرُّ الكريم لا يَنْقُضُ العَهْدَ القديم.

أحَسِبْتُمُ أن اللَيالِيَ غَيَّرَتْ

عَقْدَ الهَوى لا كانَ مَنْ يَتَغَيَّرُ

يَفْنى الزَّمانُ وَلَيْسَ يُنْسى عَهْدُكُمْ

وعَلى مَحَبَّتِكُمْ أموتُ وأُحْشَرُ

إذا دَعَتْكَ نفسُكَ إلى نقضِ عهدِ مولاكَ؛ فقُلْ لها: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف: 23].

اجْتازَ بعضُهُم على منظورٍ مُشْتهى، فهَمَّتْ عينُهُ أنْ تَمْتَدَّ، فصاحَ:

حَلَفْتُ بِدينِ الحُبِّ

(1)

لا خُنْتُ عَهْدَكُمْ

وَذلِكَ عَهْدٌ لو عَرَفْتَ وَثيقُ

تابَ بعضُ مَن تَقَدَّمَ ثمَّ نَقَضَ، فهَتَفَ بهِ هاتفٌ بالليلِ يَقولُ:

سَأتْرُكُ ما بَيْني وَبَيْنَكَ عامرًا

(2)

فَإنْ عُدْتَ عُدْنا وَالوِدادُ مُقيمُ

تُواصِلُ قَوْمًا لا وَفاءَ لِعَهْدِهِمْ

وَتَتْرُكُ مِثْلي والحِفاظُ قَديمُ

مَن تَكَرَّرَ منهُ نقضُ العهدِ لمْ يُوثَقْ بمعاهدتِهِ.

دَخَلَ بعضُ السَّلفِ على مريضٍ مكروبٍ فقالَ لهُ: عاهِدِ الله على التَّوبةِ لَعَلَّهُ أنْ يَقِيلَكَ صرعتَكَ. فقالَ: كُنْتُ كلَّما مَرِضْتُ عاهَدْتُ الله على التَّوبةِ فيَقِيلُني، فلمَّا كانَ هذهِ المرَّةُ؛ ذَهَبْتُ أُعاهِدُ كما كُنْتُ أُعاهِدُ، فهَتَفَ بي هاتفٌ مِن ناحيةِ البيتِ: قد أقَلْناكَ مرارًا فوَجَدْناكَ كذَّابًا

(3)

. ثمَّ ماتَ عن قريبٍ.

(1)

دين الحبّ ليس اسمًا من أسماء الله ولا صفة من صفاته فلا يجوز الحلف به.

(2)

في خ: "واقفًا"، لكن أشار في حاشيتها أنّها "عامرًا" في نسخة، وهو أجود، وفي م:"واقعًا"!

(3)

فكان ماذا؟! هذا هاتف الشيطان لا هاتف الرحمن، يدعوه لليأس من روح الله والقنوط من رحمته. والله المستعان على هذه الأوابد التي ما أنزل الله بها من سلطان.

ص: 155

لا كانَ مَنْ يَنْقُضُ العَهْدَ لا كانْ

لا يَنْقُضُ العَهْدَ إلَّا كُلُّ خَوَّانْ

تَرى الحَيَّ الأُلى بانوا

عَلى العَهْدِ كَما كانوا

أمِ الدَّهْرُ بِهِمْ خانا

وَدَهْرُ المَرْءِ خَوَّانُ

إذا اغْتَرَّ بِغَيْرِ اللـ

ـهِ يَوْمًا مَعْشَرٌ هانوا

مَن رَجَعَ مِن الحجِّ؛ فلْيُحافِظْ على ما عاهَدَ عليهِ الله عندَ استلامِ الحجرِ.

حَجَّ بعضُ مَن تَقَدَّمَ فباتَ بمكَّةَ معَ قومٍ، فدَعَتْهُ نفسُهُ إلى معصيةٍ، فسَمعَ هاتفًا يَقولُ: ويلكَ! ألمْ تَحُجَّ؟ فعَصَمَهُ اللهُ مِن ذلكَ.

قبيحٌ بمَن كَمَّلَ القيامَ بمباني الإسلامِ الخمسِ أنْ يَشْرَعَ في نقضِ ما بَنى بالمعاصي.

في حديثٍ مرسلٍ خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لرجلٍ: "يا فلانُ! إنَّكَ تَبْني وتَهْدِمُ"؛ يَعْني: تَعْمَلُ الحسناتِ والسَّيِّئاتِ. فقالَ: يا رسولَ اللهِ! سوفَ أبْني ولا أهْدِمُ

(1)

.

خُذْ في جِدٍّ فَقَدْ تَوَلَّى العُمْرُ

كَمْ ذا التَّفْريطُ قَدْ تَدانى الأمْرُ

أقْبِلْ فَعَسى يُقْبَلُ مِنْكَ العُذْرُ

كَمْ تَبْني كَمْ تَنْقُضُ ما ذا الغَدْرُ

علامةُ قبولِ الطَّاعةِ أنْ توصَلَ بطاعةٍ بعدَها، وعلامةُ ردِّها أنْ توصَلَ بمعصيةٍ.

ما أحسنَ الحسنةَ بعدَ الحسنةِ وأقبحَ السَّيِّئةَ بعدَ الحسنةِ

(2)

!

ذنبٌ بعدَ التَّوبةِ أقبحُ مِن سبعينَ قبلَها

(3)

.

النَّكسةُ أصعبُ مِن المرضِ الأوَّلِ.

ما أوْحَشَ ذلَّ المعصيةِ بعدَ عزِّ الطَّاعةِ!

(1)

(ضعيف). رواه الديلمي (8494) وأسنده صاحب "الزهر"(4/ 358) من طريق ضعيفة عن حمّاد الحميري، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة

رفعه. وحمّاد ما عرفته. وطريق ابن أبي الدنيا التي ذكرها المصنّف مرسلة إن سلمت عن العلل الأخرى ولم تكن آيلة لهذه الطريق نفسها. والله أعلم.

(2)

في خ: "السيّئة بعد السيّئة"، ولها وجه حسن، والأولى ما أثبتّه من م وط وحاشية خ.

(3)

وأقبح منه إتباع الذنب بالذنب وتأجيل التوبة خشية نقضها بالذنوب.

ص: 156

ارْحَموا عزيزَ قومٍ بالمعاصي ذَلَّ

(1)

وغنيَّ قومٍ بالذُّنوبِ افْتَقَرَ.

سَلوا الله الثَّباتَ إلى المماتِ، وتَعَوَّذوا مِن الحَوْرِ بعدَ الكَوْرِ.

كانَ الإمامُ أحْمَدُ يَدْعو ويَقولُ: اللهمَّ! أعِزَّني بطاعتِكَ ولا تُذِلَّني بمعصيتِكَ.

وكانَ عامَّةُ دعاءِ إبْراهيمَ بن أدْهَمَ: اللهمَّ! انْقُلْني مِن ذلِّ المعصيةِ إلى عزِّ الطَّاعةِ.

وفي بعضِ الآثارِ الإلهيَّةِ

(2)

: يَقولُ اللهُ تَعالى: أنا العزيزُ، فمَن أرادَ العزَّ؛ فلْيُطعِ العزيزَ.

ألا إنَّما التَّقوى هِيَ العِزُّ وَالكَرَمْ

وَحُبُّكَ لِلدُّنْيا هُوَ الذُلُّ وَالسَّقَمْ

وَلَيْسَ عَلى عَبْدٍ تَقِيٍّ نَقيصَةٌ

إذا حَقَّقَ التَّقْوى وَإنْ حاكَ أوْ حَجَمْ

• الحاجُّ إذا كانَ حجُّهُ مبرورًا؛ غُفِرَ لهُ ولمَنِ اسْتَغْفَرَ لهُ وشُفِّعَ فيمَن شُفِّعَ فيهِ.

وقد رُوِىَ أن الله تَعالى يَقولُ لهُم يومَ عرفةَ: "أفيضوا مغفورًا لكُم ولمَن شَفَعْتُمْ فيهِ"

(3)

.

(1)

في خ: "ذلّ بالمعاصي"، وما أثبتّه من م وط أولى بالسياف.

(2)

الإسرائيليّة، التي لا أصل لها في المرفوع الصحيح، وإن صحّ معناها.

(3)

(ضعيف). قطعة من حديث طويل في فضائل الركوع والسجود والحجّ جاء من وجوه:

فرواه: البزّار (1083 - كشف) والسهمي في "جرجان"(ص 484) والبيهقي في "الدلائل"(6/ 294) وابن عبد البرّ في "التمهيد"(1/ 127) من طريق إسماعيل بن رافع، وأبو يعلى (4106) من طريق صالح المرّيّ عن يزيد الرقاشي، والأصبهاني في "الترغيب"(1009) من طريق سلام بن سليمان المدائني ثني سلام بن مسلم الطويل عن زياد؛ ثلاثتهم عن أنى

رفعه. وأعلّ الهيثمي (3/ 278) الطريق الأولى بإسماعيل؛ فإنّه ضعيف منكر الحديث وروايته عن أنس منقطعة. وأعلّ الثانية بالمرّيّ، وهو ضعيف في حدّ الترك، والرقاشيّ أيضًا ضعيف. وأمّا الثالثة؛ ففيها المدائني ضعيف، والطويل متروك، وزياد جماعة منهم الكذّاب والمتروك والضعيف. فالطرق الثلاثة لهذا الحديث عن أنس ساقطة منفردة ومجتمعة.

ورواه: عبد الرزّاق (8830)، والطبراني (12/ 325/ 13566)، والبيهقي في "الدلائل"(6/ 293)؛ من طريق عبد الوهّاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عمر

رفعه. وعبد الوهّاب متّهم متروك.

ورواه: البزّار (1082 - كشف)، وابن حبّان (1887)، والبيهقي في "الدلائل"(6/ 294)؛ من طريق يحيى بن عبد الرحمن الأرحبي، ثنا عبيدة بن الأسود، [عن القاسم بن الوليد الجندعي]، عن سنان بن الحارث، عن طلحة بن مصرّف، عن مجاهد، عن ابن عمر

رفعه. قال البزّار: "لا نعلم له أحسن من هذا الطريق". وقال البيهقي: "إسناده حسن". وقال الهيثمي (3/ 278): "رجال البزّار موثّقون". قلت: في رواية الأرحبي عن عبيدة غرائب، وعبيدة يعتبر من حديثه ما بيّن فيه السماع وكان من فوقه ودونه ثقات خلافًا للحال هنا، والقاسم يخطئ ويخالف، وسنان مجهول، فأين الحسن في هذا السند!

ص: 157

ورَوى الإمامُ أحْمَدُ بإسنادِهِ عن أبي موسى الأشْعَرِيِّ؛ قالَ: إنَّ الحاجَّ لَيَشْفَعُ في أربعِ مئةِ بيتٍ مِن قومِهِ، ويُبارَكُ في أربعينَ مِن أُمَّهاتِ البعيرِ الذي يَحْمِلُهُ، ويَخْرُجُ مِن خطاياهُ كيومَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ

(1)

.

فإذا رَجَعَ مِن الحجِّ المبرورِ؛ رَجَعَ وذنبُهُ مغفورٌ ودعاؤُهُ مستجابٌ. فلذلكَ يُسْتَحَبُّ تلقِّيهِ والسَّلامُ عليهِ وطلبُ الاستغفارِ منهُ.

وتلقِّي الحاجِّ مسنونٌ.

وفي "صحيح مسلم"

(2)

: عن عَبْدِ اللهِ بن جَعْفَرٍ؛ قالَ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، تُلُقِّيَ بصبيانِ أهلِ بيتِهِ، وإنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ مِن سفرٍ، فسُبِقَ بي إليهِ، فحَمَلَني بينَ يديهِ ثمَّ جيءَ بأحدِ ابْنَي فاطِمَةَ، فأرْدَفَهُ خلفَهُ، فأُدْخِلْنا المدينةَ ثلاثةً على دابَّةٍ.

وقد وَرَدَ النَّهيُ عن ركوبِ ثلاثةٍ على دابّةٍ في حديثٍ مرسلٍ

(3)

، فإنْ صَحَّ؛ حُمِلَ

= ورواه الطبراني في "الأوسط"(2341) من طريق محمّد بن عبد الرحيم بن شروس، ثنا يحيى بن أبي الحجّاج، ثنا أبو سنان عيسى بن سنان، ثنا يعلى بن شدّاد بن أوس، عن عبادة بن الصامت

رفعه بسياق مختلف دون ذكر هذه القطعة. قال الهيثمي (3/ 280): "فيه محمّد بن عبد الرحيم، ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، ومن فوقه موثّقون". قلت: ويحيي وأبو سنان ليّنان.

(1)

(ضعيف موقوفًا ومرفوعًا). رواه: عبد الرزّاق (8807)، والفاكهي في "مكة"(921 و 922)، والبزّار (3196)؛ من طريق رجل من الأشعريّين، عن أبي موسى

موقوفًا ومرفوعًا.

قال المنذري والهيثمي (3/ 214): "فيه من لم يسمّ". قلت: واختلفوا عليه رفعًا ووقفًا!

(2)

(44 - الصحابة، 11 - فضائل عبد الله بن جعفر، 4/ 2428/1885).

(3)

(ضعيف). وقد جاء عن جماعة من الصحابة موصولًا ومرسلًا:

* فرواه الطبراني في "الأوسط"(7508) من طريق سليمان بن داوود الشاذكوني، ثنا أبو أُميّة بن يعلى، ثنا محمّد بن المنكدر، عن جابر

رفعه. قال الطبراني: "تفرّد به الشاذكوني". وقال الهيثمي (8/ 112): "وهو متروك". قلت: ومتّهم، وقصّر العسقلاني فقال:"سنده ضعيف".

* ورواه: الطبري (10/ 396 - فتح)، والطبراني في "الأوسط"(4849)؛ من طريق محمّد بن جامع العطّار، ثنا محمّد بن عثمان القرشي، ثنا سليمان بن أبي داوود، عن عطاء، عن أبي سعيد

رفعه. قال الطبراني: "تفرّد به محمّد بن جامع". قال الهيثمي (8/ 108): "وهو ضعيف". قلت: والقرشيّ وابن داوود أيضًا ضعيفان، وقصّر العسقلاني فقال:"في سنده لين".

* ورواه: ابن أبي شيبة (26370)، والطبراني (20/ 330/ 782)، وابن قانع (3/ 60/ 1008)؛ من طريق إسماعيل بن مسلم المكّي، عن الحسن (ووقع في المصنّف: عن الحصين)، عن مهاجر بن قنفذ

رفعه. قال الهيثمي (1/ 118): "رجاله ثقات"! قلت: إسماعيل واه منكر الحديث، والحسن عنعن علي =

ص: 158

على ركوبِ ثلاثةِ رجالٍ؛ فإنَّ الدَّابَّةَ يَشُقُّ عليها حملُهُم بخلافِ رجلٍ وصغيرينِ

(1)

.

وفي "المسند" و"صحيح الحاكم"

(2)

: عن عائِشَةَ؛ قالَتْ: أقْبَلْنا مِن مَكَّةَ في حجٍّ أو عمرةٍ، فتَلَقَّانا غلمانٌ مِن الأنصارِ كانوا يَتَلَقَّوْنَ أهاليَهُم إذا قَدِموا

(3)

.

= تدليسه، ولذلك قال العسقلاني:"سنده ضعيف".

• ورواه ابن أبي شيبة (26371): ثنا زاذان، عن أبي العنبس، عن زاذان

أنّه صلى الله عليه وسلم لعن الثالث وقال: "لينزل أحدكم". وزاذان أبو يحيى القتّات وأبو العنبس ليّنان. فهذا ضعيف على إرساله.

* ورواه البزّار (90 - كشف): ثنا السكن بن سعيد، ثنا عبد الصمد، ثنا أبي، ثنا حمّاد بن سلمة، عن سعيد بن جمهان، عن سفينة؛ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان جالسًا، فمرّ رجل على بعير وبين يديه قائد وخلفه سائق، فقال:"لعن الله القائد والسائق والراكب". قال الهيثمي (1/ 118): "رجاله ثقات". قلت: السكن ما وقفت له على ترجمة وحدّه الستر في أحسن الأحوال.

فالأوجه الأربعة الأولى واهية لا تكاد تبلغ حدّ الاعتبار، وحديث سفينة قاصر عن الشهادة لهذا المعنى؛ لأنّ ظاهره أنّ الراكب واحد لا ثلاثة، وعلى التسليم بأنّ الثلاثة كانوا راكبين؛ فهي واقعة عين قاصرة عن الشهادة لعموم النهي.

(1)

فيه نظر! وقد روى ابن أبي شيبة (26361) بسند قويّ عن ابن عمر موقوفًا: "ما كنت أُبالي لو كنت عاشر عشرة على دابّة بعد أن تطيقنا". فقيّد الحكم بطاقة الدابّة، وهو الأولى، فمن الدوابّ ما يعجز عن حمل رجل جسيم أو رجلين فيحرم تحميلها فوق طاقتها، ومنها ما يطيق الثلاثة بغير بأس فيجوز، وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم، والله أعلى وأعلم.

(2)

يعني: "المستدرك"! وفي وصف "المستدرك" بالصحيح تساهل وتجوّز عظيمان!

وقد قال ابن القيّم في "الفروسيّة"(ص 245): "ولا يعبأ الحفّاظ أطبّاء علل الحديث بتصحيح الحاكم شيئًا ولا يرفعون به رأسًا البتّة، بل لا يدلّ تصحيحه على حسن الحديث، بل يصحّح أشياء موضوعة بلا شكّ عند أهل الحديث".

وأبعد من هذا تدقيقًا وتحريرًا قول الذهبيّ في "النبلاء"(17/ 175): "في"المستدرك" شيء كثير على شرطهما، وشيء كثير على شرط أحدهما، ولعلّ مجموع ذلك ثلث الكتاب بل أقلّ؛ فإنّ في كثير من ذلك أحاديث في الظاهر على شرط أحدهما أو كليهما وفي الباطن لها علل خفيّة مؤثّرة. وقطعة من الكتاب إسنادها صالح وحسن وجيّد، وذلك نحو ربعه. وباقي الكتاب مناكير وعجائب، وفي غضون ذلك أحاديث نحو المئة يشهد القلب ببطلانها كنت قد أفردت منها جزءًا، وحديث الطير بالنسبة إليها سماء". قلت: يعني حديث الطير الذي اتّفق أهل العلم على أنّه موضوع مكذوب واستدركه الحاكم على الصحيحين هو أقلّها نكارة وهجنة.

(3)

(حسن). قطعة من حديث اهتزاز العرش لموت سعد بن معاذ الذي رواه: ابن أبي شيبة (36792)، وابن سعد (3/ 434)، وإسحاق (3/ 995/ 1723)، وأحمد (4/ 352)، وسمّويه في "الفوائد"(2/ 125 - إصابة)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(1926 و 1927)، والشاشي (2/ 125 - إصابة)، وابن الأعرابي في "المعجم"(2/ 125 - إصابة)، وابن حبّان (7030) مختصرًا، والطبراني (1/ 204/ 553، 6/ 10/ 5332)، والحاكم (1/ 488، 3/ 207 و 289)، وأبو نعيم في "المعرفة"(878 و 879)، والبيهقي =

ص: 159

وكذلكَ السَّلامُ على الحاجِّ إذا قَدِمَ ومصافحتُهُ وطلبُ الدُّعاءِ منهُ.

وفي "المسند" بإسنادٍ فيهِ ضعفٌ: عن ابن عُمَرَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إذا لَقِيتَ الحاجَّ؛ فسَلِّمْ عليهِ وصافِحْهُ ومُرْهُ أنْ يَسْتَغْفِرَ لكَ قبلَ أنْ يَدْخُلَ بيتَهُ؛ فإنَّهُ مغفورٌ لهُ"

(1)

.

وفيهِ أيضًا: عن حَبيبِ بن أبي ثابِتٍ، قالَ: خَرَجْتُ معَ أبي نَتَلَقَّى الحاجَّ ونُسَلِّمُ عليهِم قبلَ أنْ يَتَدَنَّسوا.

ورَوى مُعاذُ بنُ الحَكَمِ؛ قالَ: حَدَّثَنا موسى بنُ أعْيَنَ، عن الحَسَنِ؛ قالَ: إذا خَرَجَ الحاجُّ، فشَيِّعوهُمْ وزَوِّدوهُمُ الدُّعاءَ، وإذا قَفَلوا؛ فالْتَقوهُمْ وصافِحوهُمْ قبلَ أنْ يُخالِطوا الذُّنوبَ؛ فإنَّ البركةَ في أيديهِم.

ورَوى أبو الشَّيخِ الأصْبَهانِيُّ وغيرُهُ مِن روايةِ: ليثٍ، عن مُجاهِدٍ؛ قالَ: قالَ عُمَرُ: يُغْفَرُ للحاجِّ ولمَنِ اسْتَغْفَرَ لهُ الحاجُّ بقيَّةَ ذي الحِجَّةِ ومحرَّمٍ وصَفَرَ وعشرٍ مِن ربيعٍ الأوَّلِ

(2)

.

وفي "مسند البزَّار" و"صحيح الحاكم" مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: "اللهمَّ! اغْفِرْ للحاجِّ، ولمَنِ اسْتَغْفَرَ لهُ الحاجُّ"

(3)

.

= (5/ 260)؛ من طرق، عن محمّد بن عمرو بن علقمة بن وقّاص، عن أبيه، عن جدّه

رفعه.

صحّحه الحاكم على شرط مسلم مرتين ووافقه الذهبي، ولم يخرّج مسلم لعمرو بن علقمة وهو صالح لا بأس بحديثه، ولا لابنه إلّا متابعة وهو صدوق، فالسند حسن فحسب. نعم؛ للمتن شواهد يصحّ بها عند الشيخين وغيرهما، لكنْ ليس فيها ذكر للحجّ والعمرة التي هي موضع البحث هنا.

(1)

(موضوع). رواه: أحمد (2/ 69 و 128)، والفاكهي (925)، وابن حبّان في "المجروحين"(2/ 265)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(3/ 177)؛ من طريق محمّد بن الحارث الحارثي، ثنا محمّد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر (وقال أبو الشيخ: عن جابر)

رفعه.

قال الهيثمي (4/ 19): "فيه محمّد بن البيلماني وهو ضعيف". قلت: قصّر يرحمه الله: محمّد متروك متّهم وليس ضعيفًا فحسب، وأبوه والحارثي ضعيفان، فالسند ساقط، وقال الألباني:"موضوع".

(2)

(ضعيف). رواه: مسدّد في "المسند"(3225 - كشف الخفاء)، وابن أبي شيبة (12655)، وأبو الشيخ في "الثواب"(3225 - كشف الخفاء)؛ من طريق ليث، عن مجاهد، عن عمر

به موقوفًا.

وهذا ضعيف: ليث مخلّط مضطرب الحديث، ومجاهد عن عمر منقطع. ولو صحّ لكان له حكم الرفع.

(3)

(ضعيف). رواه: البزّار (1115 - كشف)، وابن خزيمة (2516)، والطبراني في "الأوسط"(8589) و"الصغير"(1091)، والحاكم (1/ 441)، والبيهقي (5/ 261) وفي "الشعب"(4112)، والخطيب في "التاريخ"(13/ 269)؛ من طريق شريك، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريرة

رفعه.

ص: 160

ورَوى: أبو مُعاوِيَةَ الضَّريرُ، عن حَجَّاجٍ، عن الحَكَمِ؛ قالَ: قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لوْ يَعْلَمُ المقيمونَ ما للحاجِّ عليهِم مِن الحقِّ؛ لأتَوْهُمْ حينَ يَقْدَمونَ حتَّى يُقَبِّلوا رواحلَهُم؛ لأنَّهُم وفدُ اللهِ في جميعِ النَّاسِ.

ما للمنقطعِ حيلةٌ سوى التَّعلُّقِ بأذيالِ الواصلينَ.

هَلِ الدَّهْرُ يَوْمًا بِوَصْلٍ يَجودُ

وَأيَّامُنا بِاللِوى هَلْ تَعودُ

زَمانٌ تَقَضَّى وَعَيْشٌ مَضى

بِنَفْسِيَ وَاللهِ تِلْكَ العُهودُ

ألا قُلْ لِزُوَّارِ دارِ الحَبيبِ

هَنيئًا لَكُمْ في الجِنانِ الخُلودُ

أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الماءِ فَيْضًا

فَنَحْنُ عِطاشٌ وَأنْتُمْ وُرودُ

أحبُّ ما إلى المحبِّ سؤالُ مَن قَدِمَ مِن ديارِ الحبيبِ.

عارِضا بي رَكْبَ الحِجازِ أُسائِلْـ

ـهُ مَتى عَهْدُهُ بِأيَّامِ سَلْعِ

وَاسْتَمِلَّا حَديثَ مَنْ سَكَنَ الخَيْـ

ـفَ وَلا تَكْتُباهُ إلَّا بِدَمْعي

فاتَني أنْ أرى الدِّيارَ بِطَرْفي

فَلَعَلِّي أرى الدِّيارَ بِسَمْعي

(1)

مَنْ يُعيدُ أيَّامَ جَمْعٍ عَلى ما

كانَ مِنْها وَأيْنَ أيَّامُ جَمْعي

لقاءُ الأحبابِ لقاحُ الألبابِ، وأخيارُ تلكَ الدِّيارِ أحلى عندَ المحبِّينَ مِن الأسمارِ

إذا قَدِمَ الرَّكْبُ يَمَّمْتُهُمْ

أُحَيِّي الوُجوهَ قُدومًا ووِرْدًا

وأسْألُهُمْ عَنْ عَقيقِ الحِمى

وَعَنْ أرْضِ نَجْدٍ وَمَنْ حَلَّ نَجْدا

حَدِّثوني عَنِ العَقيقِ حَديثًا

أنْتُمُ بِالعَقيقِ أقْرَبُ عَهْدا

(2)

= وهذا سند ضعيف فيه علّتان: أولاهما: أنّ شريكًا سيّئ الحفظ جدًّا. والثانية: أنّه اضطرب فيه: فرواه: الثعلبي في "التفسير"(3/ 84 - نصب الراية)، وابن أبي شيبة (12656)؛ عنه، عن جابر، عن مجاهد

مرسلًا. وتابعه شيبان بن فرّوخ عند الأصبهاني في "الترغيب"(1038) عن جابر .. به مرسلًا.

فبان أنّ الراجح هنا الإرسال، وأنّ الوصل من سوء حفظ شريك، وقد أعلّ المنذري والهيثمي والألباني الموصول، وقوّاه الحاكم والذهبي والعسقلاني.

(1)

في خ: "فلعلّي أعي الحديث بسمعي"، والأولى ما أثبتّه من م وط.

(2)

كذا! والبيت من البحر الخفيف، وسائر الأبيات من المتقارب! فكأنّها اختلطت مقطوعة بأُخرى على المصنّف يرحمه الله. ووقع في خ:"أنتم بالحديث"، والأولى ما أثبتّه من م وط.

ص: 161

ألا هَلْ سَمِعْتُمْ ضَجيجِ الحجيجِ

عَلى ساحَةِ الخَيْفِ وَالعِيسُ تُحْدى

فَذِكْرُ المَشْاعِرِ وَالمَرْوَتَيْنِ

وَذِكْرُ الصَّفا يَطْرُدُ الهَمَّ طَرْدا

أرواحُ القبولِ تَفوحُ مِن المقبولينَ، وأنوارُ الوصولِ تَلوحُ على الواصلينَ.

تَفوحُ أرواحُ نَجْدٍ مِنْ ثِيابِهِمُ

عِنْدَ القُدومِ لِقُرْبِ العَهْدِ بِالدَّارِ

أهْفو إلى الرَّكْبِ تَعْلو لي ركائِبُهُمْ

مِنَ الحِمى في أُسَيْحاقٍ وَأطْمارِ

(1)

يا راكِبْانِ قِفا لي وَاقْضِيا وَطَري

وَحَدِّثانيَ عَنْ نَجْدٍ بِأخْبارِ

ما يُؤَهَّلُ للإكثارِ مِن التَّردُّدِ إلى تلكَ الآثار إلَّا محبوبٌ مختار.

• حَجَّ [عَلِيُّ] بنُ المُوَفَّقِ ستِّينَ حَجَّةً. قالَ: فلمَّا كانَ بعدَ ذلكَ؛ جَلَسْتُ في الحجرِ أُفَكِّرُ في حالي وكثرةِ تَردادي إلى ذلكَ المكانِ ولا أدْري هلْ قُبِلَ منِّي حجِّي أم رُدَّ، ثمَّ نِمْتُ فرَأيْتُ في منامي قائلًا يَقولُ لي: هلْ تَدْعو إلى بيتِكَ إلَّا مَن تُحِبُّ؟ قالَ: فاسْتَيْقَظْتُ وقدْ سُرِّيَ عنِّي.

ما كلُّ مَن حَجَّ قُبِل، ولا كلُ مَن صَلَّى وُصِل.

قيلَ لابنِ عُمَرَ: ما أكثرَ الحاجَّ! قالَ: ما أقلَّهُم!

وقالَ: الرَّكبُ كثيرٌ، والحاجُّ قليلٌ.

حجَّ بعضُ المتقدِّمينَ، فتُوُفِّيَ في الطَّريقِ في رجوعِهِ، فدَفَنَهُ أصحابُهُ ونَسُوا الفأْسَ في قبرِهِ، فُنَبشوهُ لِيَأْخُذوا الفأْسَ، فإذا عنقُهُ ويداهُ قد جُمِعَتْ في حَلْقَةِ الفأْسِ، فرَدُّوا عليهِ التُّرابَ، ثمَّ رَجَعوا إلى أهلِهِ، فسَألوهُم عن حالِهِ، فقالوا: صَحِبَ رجلًا، فأخَذَ مالَهُ، فكانَ يَحُجُّ منهُ.

إذا حَجَجْتَ بِمالٍ أصْلُهُ سُحْتٌ

فَما حَجَجْتَ وَلكِنْ حَجَّتِ العيرُ

لا يَقْبَلُ اللهُ إلَّا كُلَّ صالِحَةٍ

ما كُلُّ مَنْ حَجَّ بَيْتَ اللهِ مَبْرورُ

مَن حجُّهُ مبرورٌ قليلٌ، ولكنْ قدْ يوهَبُ المسيءُ للمحسنِ.

وقد رُوِيَ أن الله تَعالى يَقولُ عشيَّةَ عَرَفَةَ: قد وَهَبْتُ مسيئَكُمْ لمحسنِكُمْ

(2)

.

(1)

الأسيحاق والأطمار: الثياب البالية. وفي خ: "أسيجاف وأطمار"! وفي م: "أخلاق وأطمار".

(2)

(موضوع). قطعة من حديث طويل جاء عن جماعة من الصحابة: =

ص: 162

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= * فرواه: ابن حبّان في "المجروحين"(3/ 124)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 214)؛ من طريق يحيى بن عنبسة، ثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر. . رفعه. ويحيى بن عنيسة كذّاب يضع.

* ورواه: ابن منيع في "المسند"(1179 - مطالب)، وأبو يعلى (4106)؛ من طريق صالح المرّي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس

رفعه. قال الهيثمي (3/ 260): "فيه صالح المرّي وهو ضعيف". قلت: المرّي واهٍ في حدّ الترك، والرقاشي ضعيف، والسند ساقط.

* ورواه: البغوي، وابن منده (1/ 573 - إصابة)؛ والخطيب في "تلخيص المتشابه"(2/ 142 - لآلئ)؛ من طريق صالح بن عبد الله بن صالح، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد، عن أبيه، عن جدّه

رفعه. قال الخطيب: "صالح وعبد الرحمن مجهولان". وقال العسقلاني في "القول المسدّد"(ح 7): "قال البخاري: صالح بن عبد الله منكر الحديث". وقال في "الإصابة": "لا أعرف عبد الله بن زيد هذا ولا ولده". قلت: فهؤلاء ثلاثة لا يعرفون إلّا بهذا، فالسند مظلم.

* وروى المعنى دون العبارة: البخاري في "التاريخ"(7/ 2 - 3)، وابن ماجه (25 المناسك، 56 - الدعاء بعرفة، 2/ 1002/ 3013)، وأبو داوود (35 - الأدب، 168 - أضحك الله سنّك، 2/ 781/ 5234)، والفسوي (1/ 295)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(1390 و 1391)، وابن أحمد في "المسند"(4/ 14 - 15)، وأبو يعلى (1578)، والطبري (3846)، والعقيلي (4/ 10)، وابن عدي (6/ 2094)، والبيهقي (5/ 118) وفي "الشعب"(346)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 214)، والضياء في "المختارة"(8/ 398/ 491 و 492)، والمزّي في "التهذيب"(14/ 251)، من طريق عبد القاهر بن السريّ، عن ابن لكنانة بن العبّاس بن مرداس، عن كنانة، عن العبّاس. . . رفعه. . قال البوصيري:"في إسناده عبد الله بن كنانة، قال البخاري: لم يصحّ حديثه، ولم أر من تكلّم فيه بجرح ولا توثيق". قلت: لم يرو عنه سوى عبد القاهر فهو مجهول، وأبوه كنانة مجهول مثله، وعبد القاهر لا يعدو أن يكون صالحًا في المتابعات.

* ورواه: عبد الرزّاق (8831)، والطبراني (3/ 259 - 260 - مجمع، ح 7 قول مسدّد)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(4/ 215)؛ عمّن سمع قتادة يحدّث، عن خلاس بن عمرو، عن عبادة بن الصامت. . . رفعه. قال الهيثمي:"فيه راو لم يسمّ". قلت: وخلاس يرسل، وفي روايته عن عبادة نظر.

* ورواه عبد العزيز بن أبي روّاد واختلف عليه فيه على وجهين: روى الأوّل: الطبري (3847) وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 199) وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 213) من طريق بشّار بن بكر الحنفي، ورواه الحسن بن سفيان في "المسند"(ح 7 - قول مسدّد)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 199) من طريق أبي هشام عبد الرحيم بن هارون الغسّاني؛ كلاهما عن عبد العزيز، عن نافع، عن ابن عمر

رفعه في سياق خطبته صلى الله عليه وسلم عشيّة عرفة. وروى الثاني: ابن ماجه (25 - المناسك، 61 الوقوف بجمع، 2/ 1006/ 3024) من طريق وكيع، والفاكهي في "مكّة"(2694) من طريق ابن أبي عديّ؛ كلاهما عن عبد العزيز، عن أبي سلمة الحمصيّ، عن بلال

رفعه في سياق خطبته صلى الله عليه وسلم غداة جمع.

وعليه؛ فقد خالف ابن بكير المجهول والغسّانيّ المتّهم الثقتين وكيعًا وابن أبي عدي فروياه على الوجه الأوّل من حديث ابن عمر، فروايتهما منكرة والمعروف حديث بلال وحديث بلال قال البوصيري:"إسناد ضعيف، أبو سلمة هذا لا يعرف اسمه وهو مجهول". قلت: وفي القلب أنّ روايته عن بلال منقطعة.

ص: 163

حَجَّ بعضُ المتقدِّمينَ، فنامَ ليلةً، فرَأى ملَكينِ نَزَلا مِن السَّماءِ، فقالَ أحدُهُما للآخرِ: كم حَجَّ العامَ؟ قالَ: ستُّ مئةِ ألفٍ. قالَ لهُ: كم قُبِلَ منهُم؟ قالَ: ستَّةٌ. قالَ: فاسْتَيْقَظَ الرَّجلُ وهوَ قلقٌ ممَّا رَأى. فرَأى في الليلةِ الثَّانيةِ كأنَّهُما نَزَلا وأعادا القولَ، وقالَ أحدُهُما: إنَّ الله وَهَبَ لكلِّ واحدٍ مِن السِّتَّةِ مئةَ ألفٍ.

كانَ يعضُ السَّلفِ يَقولُ في دعائِهِ: اللهمَّ! إنْ لمْ تَقْبَلْني؛ فهَبْني لمَن شِئْتَ مِن خلقِكَ.

مَن رُدَّ عليهِ عملُهُ ولمْ يُقْبَلْ منهُ؛ فقد يُعَوَّضُ ما يُعَوَّضُ المصابُ فيُرْحَمُ بذلكَ.

قالَ بعضُ السَّلفِ في دعائِهِ بعَرَفَةَ: اللهمَّ! إنْ كُنْتَ لمْ تَقْبَلْ حجِّي وتعبي ونصبي؛

= * وقال المنذري في "الترغيب"(1737): "وروى ابن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن أنس

(فذكره من خطبته صلى الله عليه وسلم عشيّة عرفة)". قال الألباني في "الصحيحة" (1624): "إسناد صحيح لا علّة فيه". قلت: رحم الله المنذري؛ اختصر ما لا ينبغي اختصاره فأوهم صحّة السند، ورحم الله الألباني؛ لو وقف على من وصل هذا التعليق؛ لما صحّحه.

وقد وصله: العقيلي (2/ 196)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(1/ 128)، والسمعاني في "الإملاء والاستملاء"(1/ 97)؛ من طريق محمّد بن خالد البردعي، ثنا عليّ بن موفّق البغدادي، ثنا شبّويه (ووقع في التمهيد: أحمد بن شبّويه) المروزيّ، ثنا ابن المبارك

به. والبردعي - على أنّه ثقة - ذكره العسقلاني في "اللسان" بحديث منكر تفرّد به هو هذا الحديث. وعليّ بن الموفّق صوفيّ عابد زاهد وما هو من أهل الحديث كما تدلّ عليه ترجمته في "تاريخ بغداد"(12/ 112) و"صفوة الصفوة"(2/ 386). وشبّويه مجهول تفرّد عن ابن المبارك بهذا الحديث دون ثقات أصحابه؛ فأنّى يقال "لا علّة فيه"؟!

هذا؛ وقد ساق العسقلاني هذا الحديث في "القول المسدّد"(ح 7)، واعترض على ابن الجوزي في حكمه عليه بالوضع وقوله "قال البخاري: لم يصحّ"، قال: "ولا يلزم من كونه لم يصحّ أن يكون موضوعًا". ثمّ ساق بعض الطرق المتقدّمة وقال: "كثرة الطرق إذا اختلفت المخارج تزيد المتن قوّة". وفي كلامه نظر من وجوه: أوّلها: أنّ الطرق المتقدّمة شديدة الوهاء، فالثلاث الأولى ساقطة، والأربع التالية شديدة الضعف، واجتماع هذه الواهيات لا يكسب الحديث قوّة. والآخر: أنّه لا يخلو شيء من المتون المتقدّمة من التصريح بمغفرة الله لأهل عرفة وجمع جميع الذنوب وحقوق العباد ومظالمهم وضمانة التبعات، وهذه نكارة ما بعدها نكارة ومخالفة للأصول الشرعيّة الراسخة والنصوص الصحيحة الصريحة لا تقوم بها أسانيد كالشمس صحّة؛ فكيف بهذه الأسانيد المتداعية؟! والثالث: أنّ أكثر هذه النصوص صرّحت بأنّ هذا جاء عنه صلى الله عليه وسلم في خطبة عرفة أو جمع! ومن العجيب حقًّا أن يسمع آلاف الصحابة هذه الخطبة ثمّ يتفرد بنقلها إلينا الضعفاء والمتروكون دون الثقات الذين نقلوا خطبه صلى الله عليه وسلم دون هذه الزيادة المنكرة.

فحريّ أن يعدّ هذا في الموضوعات تبعًا لابن الجوزي، أو في الواهيات تبعًا للبخاري والعقيلي وابن حبّان وابن عديّ وأبو نعيم والذهبي والبوصيري والهيثمي والزيلعي والعسقلاني مرّة. والله أعلم.

ص: 164

فلا تَحْرِمْني أجرَ المصيبةِ على تركِكَ القبولَ منِّي.

وقالَ آخرُ منهُم: اللهمَّ! ارْحَمْني؛ فإنَّ رحمتَكَ قريبٌ مِن المحسنينَ، فإنْ لمْ أكُنْ محسنًا؛ فقدْ قُلْتَ:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، فإنْ لمْ أكُنْ كذلكَ؛ فأنا شيءٌ، وقد قُلْتَ:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، فإنْ لمْ أكُنْ شيئًا؛ فأنا مصابٌ بردِّ عملي وتعبي ونصبي؛ فلا تَحْرِمْني ما وَعَدْتَ المصابَ مِن الرَّحمةِ

(1)

.

قالَ هِلالُ بنُ يِسافٍ: بَلَغَني أن المسلمَ إذا دَعا الله فلمْ يُسْتَجِبْ لهُ؛ كُتِبَ لهُ حسنةٌ. خَرَّجَهُ ابنُ أبي شَيْبَةَ؛ يَعْني: جزاءً لمصيبةِ ردِّهِ

(2)

.

وَمَنْ كانَ في سُخْطِهِ مُحْسِنًا

فَكَيْفَ يَكونُ إذا ما رَضِي

• قدومُ الحاجِّ يُذَكِّرُ بالقدومِ على اللهِ عز وجل:

قَدِمَ مسافرٌ فيما مَضى على أهلِهِ، فسُرُّوا بهِ، وهناكَ امرأةٌ مِن الصَّالحاتِ، فبَكَتْ وقالَتْ: أذْكَرَني هذا بقدومِهِ القدومَ على اللهِ عز وجل، فمِن مسرورٍ ومبثورٍ.

قالَ بعضُ الملوكِ لأبي حازِمٍ: كيفَ القدومُ على اللهِ؟ فقالَ أبو حازِمٍ: أمَّا قدومُ الطَّائعِ على اللهِ تَعالى؛ فكقدومِ الغائبِ على أهلِهِ المشتاقينَ إليهِ، وأمَّا قدومُ العاصي؛ فكقدومِ الآبقِ على سيِّدِهِ الغضبانِ.

لَعَلَّكَ غَضْبانٌ وَقَلْبِيَ غافِلٌ

سَلامٌ عَلى الدَّارَيْنِ إنْ كنْتَ راضِيا

في بعضِ الآثارِ الإسرائيليَّةِ: يَقولُ اللهُ عز وجل: ألا طالَ شوقُ الأبرارِ إليَّ، وأنا إلى لقائِهِم أشدُّ شوقًا.

كم بينَ الذينَ {لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103] وبينَ الذينَ {يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13].

(1)

هذه دعوات المتفيهقين، الذين يشقّقون القول ويتقعّرون فيه، ولا يأمن أصحاب هذا وأمثاله أن يدخلوا في زمرة المعتدين في الدعاء، والذي علّمنا إيّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة المتّفق عليه "لا يقولنّ أحدكم: اللهمّ! اغفر لي إن شئت، اللهمّ! ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة؛ فإنّه لا مكره له".

(2)

بل جزاء لدعائه؛ فإنّ الدعاء أحبّ أعمال العبد إلى الله وأكرمها عليه، والله سبحانه لا يردّ عبده إذا رفع إليه يديه صفرًا، إمّا أن يعطيه سؤله، وإمّا أن يدّخر له ثواب ذلك عنده.

ص: 165

قالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: تَتَلَقَّاهُمُ الملائكةُ على أبوابِ الجنَّةِ {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، ويَلْقى كلُّ غلمانٍ صاحبَهُم يُطيفونَ بهِ فعلَ الولدانِ بالِحميمِ جاءَ مِن الغَيْبَةِ: أبْشِرْ؛ قدْ أعَدَّ اللهُ لكَ مِن الكرامةِ كذا وكذا، ويَنْطَلِقُ غلامٌ مِن غلمانِهِ إلى أزواجِهِ مِن الحورِ العينِ، فيَقولُ: هذا فلانٌ (باسمِهِ في الدُّنيا)، فيَقُلْنَ: أنتَ رَأيْتَهُ؟ فيَقولُ: نعم. فيَسْتَخِفُّهُنَّ الفرحُ حتَّى يَخْرُجْنَ إلى أُسكفَّةِ البابِ

(1)

.

قالَ أبو سُلَيْمانَ الدَّارانِيُّ: تَبْعَثُ الحَوْراءُ مِن الحورِ الوصيفَ مِن وصائفِها، فتَقولُ: وَيْحَكَ! انْظُرْ ما فُعِلَ بوليِّ اللهِ، فتَسْتَبْطِئُهُ، فتَبْعَثُ وصيفًا آخرَ، فيَأْتي الأوَّلُ فيَقولُ: تَرَكْتُهُ عندَ الميزانِ، فيَأْتي الثَّاني فيَقولُ: تَرَكْتُهُ عندَ الصِّراطِ، ويَأْتي الثَّالثُ فيَقولُ: قدْ دَخَلَ بابَ الجنَّةِ، فيَسْتَخِفُّها الفرحُ، فتَقِفُ على بابِ الجنَّةِ، فإذا أتاها اعْتَنَقَتْهُ، فيَدْخُلُ خياشيمَهُ مِن ريحِها ما لا يَخْرُجُ أبدًا.

قَدْ أُزْلِفَتْ جَنَّةُ النَّعيمِ فَيا

طوبى لِقَوْمٍ بِرَبْعِها نَزَلوا

أكْوابُهُمْ عَسْجَدٌ يُطافُ بِها

وَالخَمْرُ والسَّلْسَبيلُ وَالعَسَلُ

وَالحُورُ تَلْقاهُمْ وَقَدْ كُشِفَتْ

عَنِ الوُجوهِ بِها الأسْتارُ وَالكِلَلُ

* * *

(1)

أسكفّة الباب: عتبة الباب عند المدخل.

ص: 166

‌وظائف شهر صفر

في الصَّحيحينِ

(1)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"لا عدوى ولا هامةَ ولا صَفَرَ". فقالَ أعرابيٌّ: يا رسولَ اللهِ! فما بالُ الإبلِ تَكونُ في الرَّملِ كأنَّها الظِّباءُ فيُخالِطُها البعيرُ الأجربُ فيُجْرِبُها؟ فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فمَن أعْدى الأوَّلَ؟ ".

• أمَّا العدوى؛ فمعناها أن المرضَ يَتَعَدَّى مِن صاحبِهِ إلى مَن يُقارِبُهُ مِن الأصحَّاءِ فيَمْرَضُ بذلكَ. وكانَتِ العربُ تَعْتَقِدُ ذلكَ في أمراضٍ كثيرةٍ منها الجربُ، ولذلكَ سَألَ الأعرابيُّ عن الإبلِ الصَّحيحةِ يُخالِطُها البعيرُ الأجربُ فتَجْرَبُ، فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"فمَن أعْدى الأوَّلَ؟ "، ومرادُهُ أن الأوَّلَ لمْ يَجْرَبْ بالعدوى بل بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ فكذلكَ الثَّاني وما بعدَهُ

(2)

.

* وقد وَرَدَتْ أحاديثُ أشْكَلَ على كثيرٍ مِن النَّاسِ فهمُها حتَّى ظَنَّ بعضُهُم أنَّها ناسخةٌ لقولِهِ: "لا عدوى":

مثلُ ما في الصَّحيحينِ

(3)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"لا يُورِدُ ممرِضٌ على مصحٍّ". والممرِضُ: صاحبُ الإبلِ المريضةِ، والمُصِحُّ: صاحبُ الإبلِ الصَّحيحةِ. والمرادُ النَّهيُ عن إيرادِ الإبلِ المريضةِ على الصَّحيحةِ.

ومثلُ قولِهِ صلى الله عليه وسلم: "فِرَّ مِن المجذومِ فرارَكَ مِن الأسدِ"

(4)

.

(1)

البخاري (76 - الطب، 25 - لا صفر، 10/ 171/ 5717)، ومسلم (39 - السلام، 33 - لا عدوى ولا طيرة، 4/ 1742/ 2220).

(2)

فيه نظر؛ لأنّ إثبات العدوى لا يقتضي بالضرورة إنكار القدر، بل أغلب المثبتين للعدوى اليوم يقرّون بأنّ الله خلق السبب والمسبّب وساق العدوى وقدّر المرض من جرّائها. وسيأتي تفصيل هذا قريبًا.

(3)

البخاري (76 - الطبّ، 53 - لا هامة، 10/ 241/ 5771)، ومسلم (قبله، 4/ 1743/ 2221).

(4)

(صحيح). علّقه البخاري (16 - الطبّ، 19 - الجذام، 10/ 158/ 5707): قال عفّان، ثنا سليم =

ص: 167

وقولِهِ صلى الله عليه وسلم في الطَّاعونِ: "إذا سَمِعْتُمْ بهِ بأرضٍ؛ فَلا تَدْخُلوها"

(1)

.

ودخولُ النَّسخِ في هذا كما تَخَيَّلَهُ بعضُهُم لا معنى لهُ؛ فإنَّ قولَهُ "لا عدوى" خبرٌ محضٌ لا يُمْكِنُ نسخُهُ؛ إلَّا أنْ يُقالَ: هوَ نهيٌ عن اعتقادِ العدوى لا نفيٌ لها. ولكنْ يُمْكِنُ أنْ يَكونَ ناسخًا للنَّهيِ في هذهِ الأحاديثِ الثَّلاثةِ وما في معناها

(2)

.

والصَّحيحُ الذي عليه جمهورُ العلماءِ أنَّهُ لا نسخَ في ذلكَ، ولكنِ اخْتَلَفوا في معنى قولِهِ "لا عدوى"، وأظْهَرُ ما قيلَ في ذلكَ أنَّهُ نفيٌ لِما كانَ يَعْتَقِدُهُ أهلُ الجاهليَّةِ مِن أن هذهِ الأمراضَ تُعْدي بطبعِها مِن غيرِ اعتقادِ تقديرِ اللهِ عز وجل لذلكَ، ويَدُلُّ على هذا قولُهُ "فمَن أعْدى والأوَّلَ"؛ يُشيرُ إلى أن الأوَّلَ إنَّما جَرِبَ بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ فكذلكَ الثَّاني وما بعدَهُ

(3)

.

= بن حيّان، ثني سعيد بن ميناء، سمعت أبا هريرة

رفعه. قال العسقلاني: "عفّان هو ابن مسلم الصفّار، وهو من شيوخ البخاري

وعلى طريقة ابن الصلاح يكون موصولًا". قال العسقلاني: "وقد وصله أبو نعيم من طريق أبي داوود الطيالسي وأبي قتيبة مسلم بن قتيبة كلاهما عن سليم بن حيّان شيخ عفّان فيه، وأخرجه أيضًا من طريق عمرو بن مرزوق لكن موقوفًا

وقد وصله ابن خزيمة أيضًا". قلت: أبو داوود وسليم ثقتان، والسند صحيح موصولًا، ولا يضرّه الوقف؛ لأنّ الرفع زيادة ثقة.

(1)

رواه: البخاري (76 - الطبّ، 30 - ما يذكر في الطاعون، 10/ 178/ 5728)، ومسلم (39 - السلام، 32 - الطاعون، 4/ 1737/ 2218)؛ من حديث سعد وغيره.

(2)

يعني: يمكن أن يكون ناسخًا لمفهوم هذه الأحاديث المتقدّمة ودلالتها على ثبوت العدوى.

(3)

مسألة العدوى بين السنّة النبويّة والطبّ الحديث باب واسع جدًّا لا تصلح حواشي هذا الكتاب للتفصيل فيه، ولكنّي لن أخليها من فكرة مختصرة عنها:

* أوّلًا: يرى الأطبّاء المعاصرون: [1] أنّ العدوى أمر صحيح ثابت في بعض الأمراض لا فيها جميعًا. [2] أنّ انتقال العامل الممرض من زيد إلى عمرو لا يعني أنّ عمرًا سيصاب بالمرض يقينًا، بل ها هنا عوامل عدّة داخليّة وخارجيّة تساعد على ظهور المرض أو تقاومه، وحصول المرض يعتمد على محصّلة هذه العوامل. [3] أنّ إصابة زيد بالمرض ثمّ إصابة عمرو به بعد ملابسة زيد لا يعني بالضرورة أنّ زيدًا أعدى عمرًا، بل من الممكن جدًّا أن يكون العكس صحيحًا. فهذه قضايا صحيحة وثابتة لا يختلف فيها طبيبان.

* ثانيًا: أرسى النبيّ صلى الله عليه وسلم مسألة العدوى الطبّيّة والحجر الصحّيّ في قوله: "لا يورد ممرض على مصحّ"، وقوله:"فرّ من المجذوم فرارك من الأسد"، وقوله: "إذا وقع الطاعون بأرض فلا تفرّوا

". فهذه نصوص ثلاثة غاية في الوضوح لا ينبغي أن نتغافل عن مدلولاتها إطلاقًا.

* ثالثًا: وكذلك فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم من أوجه قوله: "لا عدوى"، جاء هذا بأصحّ الأسانيد عن جماعة من الصحابة يحيل العقل تخطئتهم فيما نقلوه.

ص: 168

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ: ابن مَسْعودٍ؛ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا يُعْدي شيءٌ شيئًا (قالَها ثلاثًا) ". فقالَ أعرابيٌّ: يا رسولُ اللهِ! النُّقْيَةُ مِن الجربِ تَكونُ بمشفرِ البعيرِ أو بذنبِهِ في الإبلِ العظيمةِ، فتَجْرَبُ كلُّها. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فما أجْرَبَ الأوَّلَ؟ لا عدوى ولا هامَةَ ولا صَفَرَ، خَلَقَ اللهُ كلَّ نفسٍ وكَتَبَ حياتَها ومصابَها ورزقَها"

(1)

. فأخْبَرَ أن ذلكَ كلَّهُ بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ كما دَلَّ عليهِ قولُهُ تَعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا}

= * رابعًا: لأهل العلم أقوال كثيرة في التوفيق بين هذه النصوص التي ظاهرها التناقض، ولا يخلو أغلبها من نظر يحول دون الأخذ به، وأولاها بالصواب فيما أرى:[1] ما اختاره ابن القيّم في "مفتاح دار السعادة" من حمل إثباته صلى الله عليه وسلم للعدوى على أنّها جزء سبب وحمل نفيه لها على أنّها سبب تام، فهذا أكثر الأقوال تطابقًا مع معطيات الطبّ المعاصر. [2] أن يكون محلّ نفي العدوى القلب ومحلّ إثباتها البدن، ففي ذلك نهي للمريض عن اعتقاد أنّ فلانًا هو الذي نقل إليه العدوى، وهذا أيضًا يتطابق مع معطيات الطبّ المعاصر؛ لأنّ جزم المريض بأنّ فلانًا بالذات هو الذي أعداه غير مقبول علميًّا في كثير من الأحوال. [3] أن يكون محلّ نفي العدوى في العلاقات بين المسلمين، فلا ينبغي لأحد أن يتّهم فلانًا من الناس بأنّه سبب مرضه وأصل عدواه؛ لأنّه اتّهام لا يستند إلى أصل علميّ. [4] أن يكون محلّ نفي العدوى أن يطالب فلانًا من الناس بتعويض ما أصابه أو أصاب دوابّه من المرض للسبب السابق نفسه. [5] ولا يبعد أن تكون هذه الأمور جميعًا صحيحة ومقصودة بنفي العدوى. والله أعلى وأعلم.

(1)

(صحيح). رواه أبو زرعة عمرو بن جرير واختلف عليه فيه على وجهين: روى أوّلهما: أحمد (1/ 440)، والترمذي (23 - القدر، 9 - لا عدوى ولا هامة، 4/ 450/ 2143)، وأبو يعلى (5182)، وابن أبي حاتم (2313) معلّقًا، والطحاوي في "المعاني"(4/ 308)؛ من طريق عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، ثنا صاحب لنا، عن ابن مسعود

رفعه. وهذا سند ضعيف من أجل الرجل المبهم. وقد جاء عند الطحاوي أنّه رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم لكن تفرّد بذلك حسّان بن إبراهيم الكرماني، وقد تكلّموا في حفظه. وروى الثاني: أحمد (2/ 327)، وأبو يعلى (6112)، وابن أبي حاتم (2313) معلّقًا، والطحاوي (4/ 308)، وابن حبّان (6119)، والطبراني في "الأوسط"(6762)، والخطيب في "التاريخ"(11/ 168)، والبغوي في "السنّة"(3249)؛ من طريق ابن شبرمة، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة

رفعه. وهذا سند قويّ رجاله ثقات.

والطريقان إلى أبي زرعة قويّتان، ويبدو أنّ أبا زرعة سمعه على الوجهين، فإن كان لا بدّ من الترجيح؛ فالوجه الثاني أرجح؛ لأنّ ابن شبرمة أوثق ولأنّ عمارة تابعه عليه مرّة عند ابن حبّان (6118). وأمّا أبو حاتم فرجّح الوجه الأوّل وقال:"وهو أشبه بالصواب". ولا يخلو قوله هذا من نظر. والله أعلم.

وللحديث طريق أُخرى عن أبي هريرة عند أبي الشيخ في "الطبقات"(4/ 48)، ولكن لا يفرح بها؛ ففيها عبيد الله بن أبي حميد متروك. فالمعوّل في تقوية هذا الحديث على طريق ابن شبرمة وهو صحيح به. وقد صحّحه ابن حبّان والألباني.

ص: 169

[الحديد: 22].

فأمَّا نهيُهُ صلى الله عليه وسلم عن إيرادِ الممرِضِ على المصِحِّ، وأمرُهُ بالفرارِ مِن المجذومِ، ونهيُهُ عن الدُّخولِ إلى موضعِ الطَّاعونِ؛ فإنَّهُ مِن بابِ اجتنابِ الأسبابِ التي خَلَقَها اللهُ وجَعَلَها أسبابًا للهلاكِ أوِ الأذى. والعبدُ مأْمورٌ باتِّقاءِ أسبابِ البلاءِ إذا كانَ في عافيةٍ منها، فكما أنَّهُ يُؤْمَرُ أنْ لا يُلْقِيَ نفسَهُ في الماءِ أو في النَّارِ أو يَدْخُلَ تحتَ الهدمِ ونحوِهِ ممَّا جَرَتِ العادةُ

(1)

بأنَّهُ يُهْلِكُ أو يُؤْذي؛ فكذلكَ اجتنابُ مقاربةِ المريضِ كالمجذومِ أوِ القدومِ على بلدِ الطَّاعونِ؛ فإنَّ هذهِ كلَّها أسبابٌ للمرضِ والتَّلفِ

(2)

؛ واللهُ تَعالى هوَ خالقُ الأسبابِ ومسبَّباتِها، لا خالقَ غيرُهُ ولا مقدِّرَ غيرُهُ.

* وقد رُوِيَ في حديثٍ مرسَلٍ خَرَّجَهُ أبو داوودَ في "مراسيلِهِ"

(3)

: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بحائطٍ مائلٍ فأسْرَعَ وقالَ: "أخافُ موتَ الفَواتِ"

(4)

. ورُوِيَ متَّصلًا، والمرسلُ أصحُّ.

(1)

في خ و ن: "ممّا جرت به العادة".

(2)

هذا إقرار بالعدوى بعد نفيها؛ هو يسمّي مقاربة المجذوم ودخول بلد الطاعون أسبابًا للمرض والتلف وغيره يسمّي هذه الأسباب عدوى! هذا يثبت المعنى وينفي الاسم، وذاك يثبت الاسم والمعنى!

(3)

هذا وهم منه يرحمه الله، فما هو عند أبي داوود في "المراسيل" بهذا اللفظ، وانظر ما بعده.

(4)

(ضعيف). وقد جاء معناه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من أوجه:

* فرواه: أحمد (2/ 356)، وأبو يعلى (6612)، والعقيلي (1/ 61)، وابن عدي (1/ 231 و 232)، والبيهقي في "الشعب" (1359)؛ من طريق إبراهيم بن الفضل (أو: ابن إسحاق)، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة

رفعه بهذا اللفظ. قال الهيثمي (2/ 321): "إسناده ضعيف". قلت: إبراهيم متروك والسند ساقط.

* وروى: ابن أبي شيبة (26632)، والبيهقي في "الشعب"(1361)؛ من طريق قويّة، عن يحيى بن أبي كثير: بلغني أنّه صلى الله عليه وسلم كان إذا مرّ بهدف مائل أسرع المشي. وهذا مرسل أو معضل قويّ.

* وروى أبو داوود في "المراسيل"(477) من طريق قويّة، عن ابن شهاب؛ أنّه صلى الله عليه وسلم مرّ بجدار مائل، فشمّر وأسرع وقال لأصحابه "أسرعوا". وهذا مرسل صحيح.

* وروى: أحمد (4/ 204)، والبزّار (782)؛ عن ابن لهيعة، ثنا أبو قبيل، عن مالك (أو: خالد) بن عبد الله، عن ابن عمرو؛ أنّه صلى الله عليه وسلم استعاذ من موت الفجأة. وابن لهيعة ضعيف، وابن عبد الله مجهول.

ورواه البيهقي في "الشعب"(1360) من طريق إسحاق بن أبي فروة، عن موسى بن وردان، عن عبد الرحمن بن جبير، عن ابن عمرو

به. قال البيهقي: "إسناده ضعيف". قلت: ابن أبي فروة متروك.

* وروى: الطبراني (8/ 132/ 7602) من طريق عثمان بن عبد الرحمن، والطبراني (8/ 132 / 7603) من طريق عمر بن موسى؛ كلاهما عن مكحول، عن أبي أُمامة: كان صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من موت الفجأة. قال الهيثمي (2/ 321): "فيه عثمان بن عبد الرحمن القرشي متروك". قلت: وعمر بن موسى كذّاب.

ص: 170

وهذهِ الأسبابُ التي جَعَلَها اللهُ أسبابًا يَخْلُقُ المسبَّباتِ بها، كما دَلَّ عليهِ قولُهُ تَعالى:{حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]. وقالَتْ طائفةٌ: إنَّهُ يَخْلُقُ المسبَّباتِ عندَها لا بِها

(1)

!

وأمَّا إذا قَوِيَ التَّوكُّلُ على اللهِ والإيمانُ بقضائِهِ وقدرِهِ [فـ]ـقَوِيَتِ النَّفسُ على مباشرةِ بعضِ هذهِ الأسبابِ اعتمادًا على اللهِ ورجاءً منهُ ألَّا يَحْصُلَ بهِ ضررٌ؛ ففي هذهِ الحالِ تَجوزُ مباشرةُ ذلكَ، لا سيَّما إذا كانَ فيهِ مصلحةٌ عامَّةٌ أو خاصَّةٌ

(2)

.

وعلى مثلِ هذا يُحْمَلُ الحديثُ الذي خَرَّجَهُ أبو داوودَ والتِّرْمِذِيُّ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخَذَ بيدِ مجذومٍ، فأدْخَلَها معَهُ في القصعةِ، ثمَّ قالَ:"كُلْ باسمِ اللهِ؛ ثقةً باللهِ وتوكُّلًا عليهِ"

(3)

. وقد أخَذَ بهِ الإمامُ أحْمَدُ.

= ونخلص من هذا إلى أنّ: مروره صلى الله عليه وسلم بالجدار المائل مسرعًا جاء من طريقين مرسلين لا يرتقيان به إلى الحسن، وقوله صلى الله عليه وسلم "أكره موت الفجأة" جاء من طريق ساقطة، واستعاذته صلى الله عليه وسلم من موت الفجأة جاءت من طرق واهية لا يفيدها اجتماعها قوّة، فالمعنى كلّه بمختلف ألفاظه ضعيف لا يصحّ منه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيء، ولذلك قال أبو داوود:"وقد روي مسندًا وليس بشيء"، وضعّفه العقيلي وابن عدي والبيهقي والهيثمي.

(1)

هذه طريقة الأشاعرة والكلّابيّة ومن وافقهم، وقد استفرغ ابن القيّم وسعه في "مدارج السالكين" و"مفتاح دار السعادة" و"شفاء العليل" في تسفيه هذا القول وبيان تناقض أصحابه ومخالفتهم للعقل والنقل.

(2)

فيه نظر! لأنّه يخالف سنّة سيد المتوكّلين فعلًا وقولًا وسنّة أصحابه الكرام ومن تبعهم بإحسان، وما جاء عن الصحابة والتابعين بخلاف ذلك فأكثره لا يثبت، وما ثبت منه فإنّما جاء استجابة لظرف قاهر لا بدّ فيه من اختيار أيسر الضررين ودفع أشدّهما. والله أعلم.

(3)

(ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة (24526)، وعبد بن حميد (1092)، وابن ماجه (31 - الطبّ، 44 - الجذام، 2/ 1172/ 3542)، وأبو داوود (22 - الطبّ، 24 - الطيرة، 2/ 413/ 3925)، والترمذي (26 - الأطعمة، 19 - الأكل مع المجذوم، 4/ 266/ 1817)، وأبو يعلى (1832)، والطحاوي في "المعاني"(4/ 309)، والعقيلي (4/ 242)، وابن حبّان (6120)، وابن عديّ (6/ 2404) معلّقًا، وابن السنّي في "اليوم والليلة"(463)، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ"(542)، والحاكم (4/ 136)، والبيهقي في "السنن"(7/ 219) و"الشعب"(1356)، وابن الجوزي في "العلل"(1456)، والرافعي في "التدوين"(2/ 404)؛ من طريق يونس بن محمّد، عن المفضّل بن فضالة، عن حبيب بن الشهيد، عن محمّد بن المنكدر، عن جابر

رفعه. وهذا سند ضعيف له علّتان: أولاهما: ضعف المفضّل هذا. والأُخرى: أنّه خولف، قال الترمذي:"وقد روى شعبة هذا الحديث عن حبيب بن الشهيد عن ابن بريدة أنّ ابن عمر أخذ بيد المجذوم، وحديث شعبة أثبت عندي وأصحّ". قلت: ورواه ابن أبي شيبة (24523) عن يحيى، عن حبيب، عن ابن بريدة، موقوفًا على سلمان. فقد جمع المرفوع الضعف والمخالفة، وهذا حدّ النكارة.

ص: 171

وقد رُوِيَ نحوُ ذلكَ عن عُمَرَ وابنِهِ عَبْدِ اللهِ وسَلْمانَ رضي الله عنهم

(1)

.

ونظيرُ ذلكَ ما رُوِيَ عن خالِدِ بن الوَليدِ رضي الله عنه مِن أكلِ السُّمِّ.

ومنهُ مشيُ سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ وأبي مُسْلِمٍ الخَوْلانِيِّ بالجيوشِ على متنِ البحرِ.

ومنهُ أمرُ عُمَرَ رضي الله عنه لتَميمَ حيثُ خَرَجَتِ النَّارُ مِن الحَرَّةِ أنْ يَرُدَّها فدَخَلَ إليها في الغارِ التي خَرَجَتْ منهُ

(2)

.

فهذا كلُّهُ لا يَصْلُحُ إلَّا لخواصَّ مِن النَّاسِ قَوِيَ إيمانُهُم باللهِ وقضائِهِ وقدرِهِ وتوكُّلُهُم عليهِ وثقتُهُم بهِ.

ونظيرُ ذلكَ دخولُ المفاوزِ بغيرِ زادٍ؛ فإنَّهُ يَجوزُ لمَن قَوِيَ يقينُهُ وتوكُّلُهُ خاصَّةً

(3)

.

وقد نَصَّ عليهِ الإمامُ أحْمَدُ وإسْحاقُ وغيرُهُما مِن الأئمَّةِ.

وكذلكَ تركُ التَّكسُّبِ

(4)

والتَّطبُّبِ.

كلُّ ذلكَ يَجوزُ عندَ الإمامِ أحْمَدَ لمَن قَوِيَ توكُّلُهُ

(5)

؛ فإنَّ التَّوكُّلَ أعظمُ

= على أنّ المفضّل توبع فرواه: الطحاوي (4/ 310)، وابن عديّ (1/ 281، 4/ 1637)، وابن الجوزي في "العلل"(1457)؛ من طريق عن إسماعيل بن مسلم المكّي، عن محمّد بن المنكدر (وعند الطحاوي: عن أبي الزبير)، عن جابر

رفعه. وهذا واهٍ من أجل إسماعيل؛ فإنّه واهٍ الحديث، وقد اضطرب فيه أيضًا.

فالطريق الأولى منكرة الصواب فيها الوقف والثانية واهية فاجتماعهما لا يزحزح الحديث عن ضعفه، ولذلك ضعّفه الترمذي والعقيلي وابن عدي وابن الجوزي والمنذري والذهبي والعسقلاني والألباني.

(1)

تقدّم لك آنفًا بعض هذه المرويّات، وانظر في "مصنّف ابن أبي شيبة"(24523 - 24535) مزيدًا من هذا ومن خلافه أيضًا. ومن المعتمد في الطبّ المعاصر أنّ الجذام مرض معدٍ، ولكنّ عدواه لا تكون إلّا بالصلة المباشرة والمساكنة الطويلة للمجذوم. فإن أكل بعض الصحابة أو غيرهم مع مجذوم مرّة أو مرارًا فليس ها هنا بأس إطلاقًا. وأمّا النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فلم يفعل؛ رحمة بالأُمّة وتنبيهًا بالأدنى إلى الأعلى.

(2)

أخبار يرويها أهل التاريخ غالبًا، ولا يسلم لها إسناد! والصحابة؛ فهم خواصّ الخواصّ وسادة المتوكّلين، ولكنّهم كانوا لا يقصّرون في الأسباب ما وجدوا إليها سبيلًا، ثمّ لا يبالون بعد ذلك بالمخاطر لقوّة توكّلهم، حتّى فتحوا بهذا الدين أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا.

(3)

هذا توكّل المخرّفين! ترك الصحابة الأخذ ببعض الأسباب عجزًا عنها لا تهاونًا بها ثمّ توكّلوا على الله في تحصيل العظائم وفتح البلدان، وهؤلاء يستفرغون توكّلهم في تحصيل رغيف ثمنه درهم وجرعة ماء! شتّان شتّان بين من توكّل على الله في نشر الإسلام ومن توكّل على جيوب الخلق وأموالهم.

(4)

وهذه والله أشدّ من التي قبلها وأنكى! والله المستعان.

(5)

كذا! والمشهود من حال الإمام غير هذا! كيف وقد قال للذي أراد الخروج للحجّ بغير زاد: قد توكّلت على أزواد الناس إذًا؟!.

ص: 172

الأسبابِ التي تُسْتَجْلَبُ بها المنافعُ ويُسْتَدْفَعُ بها المضارُّ، كما قالَ الفُضَيْلُ: لو عَلِمَ اللهُ منكَ إخراجَ المخلوقينَ مِن قلبِكَ؛ لأعْطاكَ كلَّ ما تُريدُ.

وبذلكَ فَسَّرَ الإمامُ أحْمَدُ التَّوكُّلَ، فقالَ: هوَ قطعُ الاستشرافِ باليأْسِ مِن المخلوقينَ. قيلَ لهُ: فما الحجَّةُ فيهِ؟ قالَ: قولُ إبْراهيمَ لمَّا أُلْقِيَ في النَّارِ، فعَرَضَ لهُ جبريلُ عليه السلام، فقالَ: ألكَ حاجةٌ؟ قالَ: أمَّا إليكَ؛ فلا

(1)

.

فلا يُشْرَعُ تركُ الأسبابِ الظَّاهرةِ إلَّا لمَن تَعَرَّضَ عنها بالسَّببِ الباطنِ، وهوَ تحقيقُ التَّوكُّلِ عليهِ

(2)

؛ فإنَّهُ أقوى مِن الأسبابِ الظَّاهرةِ لأهلِهِ وأنفعُ منها. فالتَّوكُّلُ علمٌ وعملٌ؛ فالعلمُ معرفةُ القلبِ بتوحيدِ اللهِ بالنَّفعِ والضُّرِّ، وعامَّةُ المؤمنينَ تَعْلَمُ ذلكَ

(3)

. والعملُ هوَ ثقةُ القلبِ باللهِ وفراغُهُ مِن كلِّ ما سواهُ، وهذا عزيزٌ، ويَخْتَصُّ بهِ خواصُّ المؤمنينَ.

* والأسبابُ نوعانِ:

أحدُهُما: أسبابُ الخيرِ. فالمشروعُ أنَّهُ يَفْرَحُ بها ويَسْتَبْشِرُ ولا يَسْكُنُ إليها بل إلى خالقِها ومسبِّبِها، وذلكَ هوَ تحقيقُ التَّوكُّلِ على اللهِ والإيمانِ بهِ، كما قالَ تَعالى في الإمدادِ بالملائكةِ:{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال: 10]. ومِن هذا البابِ الاستبشارُ بالفأْلِ، وهوَ الكلمةُ الصَّالحةُ يَسْمَعُها طالبُ الحاجةِ.

وأكثرُ النَّاسِ يَرْكَنُ بقلبِهِ إلى الأسبابِ ويَنْسى المسبِّبَ لها، وقَلَّ مَن فَعَلَ ذلكَ إلَّا

(1)

هذا خبر إسرائيليّ تناقله بعض التابعين فمن بعدهم، قصاراه ألّا يصدّق ولا يكذّب.

(2)

قد أخذ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالأسباب الظاهرة وهو أعظم الخلق تحقيقًا للتوكّل والأسباب الباطنة: فظاهر في أحد بين درعين، وكان يدّخر لأهله قوت سنة

ثمّ اتّبع أصحابه وتابعوهم بإحسان سنّته فأخذوا بالأسباب الظاهرة

ثمّ نبتت قرون البدع، فقالا مخرّفو الصوفيّة: هذا شأن العامّة، وأمّا الخاصّة؛ فلهم أن يتركوا الأسباب الظاهرة - من التكسّب وحمل الزاد - والتعوّض عنها بالتوكّل! ثمّ أوغل ضلّالهم أكثر وأكثر فقالوا: لخاصّة الخاصّة أن يتركوا الأسباب الشرعيّة - كالصلاة والصوم والحجّ - والتعوّض عنها بالاتّصال مع الله - تعالى الله عن إفكهم - والوصول والمشاهدة والفناء في الذات الإلهيّة

والله المستعان على هذه الضلالات التي ما أنزل الله بها من سلطان.

(3)

في خ: "وعامّة المؤمنين يعلموا ذلك"! والصواب ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 173

وُكِلَ إليها وخُذِلَ؛ فإنَّ جميعَ النِّعمِ مِن اللهِ وفضلِهِ: كما قالَ تَعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النساء: 79]، وقالَ تَعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]

لا نِلْتُ خَيْرًا ما بَقِيْـ

ـتُ وَلا عَداني الدَّهْرَ شَرُّ

إنْ كُنْتُ أعْلَمُ أن غَيْـ

ـرَ اللهِ يَنْفَعُ أوْ يَضُرُّ

ولا تُضافُ النِّعمُ إلى الأسبابِ، بل إلى مسبِّبِها ومقدِّرِها:

كما في الحديث الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ صَلَّى بهِمُ الصُّبحَ في إثرِ سماءٍ، ثمَّ قالَ "أتَدْرونَ ما قالَ ربُّكُمُ الليلةَ؟ ". قالوا: اللهُ ورسولُهُ أعلمُ. قالَ: "أصْبَحَ مِن عبادي مؤمنٌ [بي] وكافرٌ؛ فأمَّا المؤمنُ؛ فقالَ: مُطِرْنا بفضلِ اللهِ ورحمتِهِ، فذلكَ مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكبِ، وأمَّا الكافرُ؛ فقالَ: مُطِرْنا بنوءِ كذا وكذا، فذلكَ كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكبِ"

(1)

.

وفي "صحيح مسلم" عن أبي هُرَيْرَةَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "لا عدوى، ولا هامةَ، ولا نَوْءَ، ولا صَفَرَ"

(2)

.

وهذا ممَّا يَدُلُّ على أن المرادَ نفيُ تأْثيرِ هذهِ الأسبابِ بنفسِها مِن غيرِ اعتقادِ أنَّها بتقديرِ اللهِ وقضائِهِ، فمَن أضافَ شيئًا مِن النِّعمِ إلى غيرِ اللهِ معَ اعتقادِهِ أنَّهُ ليسَ مِن اللهِ؛ فهوَ مشركٌ حقيقةً، ومعَ اعتقادِ أنَّهُ مِن اللهِ؛ فهوَ نوعُ شركٍ خفيٍّ.

والنَّوع الثَّاني: أسبابُ الشَّرِّ. فلا تُضافُ إلَّا إلى الذُّنوبِ؛ لأنَّ جميعَ المصائبِ إنَّما هيَ بسببِ الذُّنوبِ، كما قالَ تَعالى:{وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]، وقالَ تَعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]. فلا تُضافُ إلى شيءٍ من الأسبابِ سوى الذُّنوبِ كالعدوى أو غيرِها

(3)

.

(1)

رواه: البخاري (10 - الأذان، 156 - يستقبل الإمام الناس، 2/ 333/ 846)، ومسلم (1 - الإيمان، 32 - كفر من قال مطرنا بالنوء، 1/ 83/ 71)؛ من حديث زيد بن خالد الجهنيّ. و"النوء": علامة فلكيّة خاصّة كظهور نجم معيّن في موضع معيّن أو اقتران نجمين أو نحو دلك.

(2)

هذا أحد ألفاظ مسلم لحديث الصحيحين الذي تقدّم تخريجه أوّل الباب.

(3)

فيه نظر! أفلا يجوز أن يقال: وقع الحادث الفلانيّ بسبب السرعة الزائدة، مات فلان بسبب =

ص: 174

والمشروعُ اجتنابُ ما ظَهَرَ منها واتِّقاؤُهُ بقدرِ ما وَرَدَتْ بهِ الشَّريعةُ

(1)

، مثلُ اتِّقاءِ المجذومِ والمريضِ والقدومِ على مكانِ الطَّاعونِ.

وأمَّا ما خَفِيَ مِنها

(2)

؛ فلا يُشْرَعُ اتِّقاؤُهُ واجتنابُهُ؛ فإنَّ ذلكَ من الطِّيَرَةِ المنهيِّ عنها، والطِّيَرَةُ مِن أعمالِ أهلِ الشِّركِ والكفرِ، وقد حَكاها اللهُ في كتابِهِ عن قومِ فِرْعَوْنَ وقومِ صالِح وأصحابِ القريةِ التي جاءَها المرسلونَ. وقد ثَبَتَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ:"لا طِيَرَةَ"

(3)

. وفي حديثٍ: "مَن رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ فقد قارَفَ الشِّركَ"

(4)

. وفي حديثِ ابن مَسْعودٍ المرفوعِ: "الطِّيَرَةُ مِن الشِّركِ، وما منَّا إلَّا

(5)

؛ ولكنَّ الله يُذْهِبُهُ بالتَّوكُّلِ"

(6)

.

= الحريق، أصيب فلان بالإيدز بسبب نقل دم ملوّث؟! والآيتان؛ فالمراد منهما عدم نسبة المصائب والشرور التي تحلّ بالعبد إلى الله عز وجل؛ فإنّها، وإن كانت بقضاء الله وقدره، فالإنسان هو المتسبّب بها أصلًا بذنوبه ومعاصيه، والله سبحانه وتعالى لم يبتدئه بها. وقد استفرغ ابن القيّم يرحمه الله جهده وبذل وسعه في الردّ على نفاة الأسباب في "مدارج السالكين" و"مفتاح دار السعادة" و"شفاء العليل" وغيرها، وما إخال المصنّف يرحمه الله إلّا على مذهب شيخه ابن القيّم في المسألة، وإنّما اعترى عبارته اضطراب أو تحريف أو سقط أورثها هذا المعنى. والله أعلم.

(1)

فلا نبالغ في ذلك إلى حدّ إيذاء أصحاب هذه الآفات مثلًا أو سجنهم أو تهجيرهم أو حرمانهم من حقوقهم الشرعيّة، ولا نقصّر ونفرّط في الأخذ بأسباب الحيطة والحذر.

(2)

يريد الأمور التي يظنّها بعض الناس أسبابًا للشرّ بغير دليل شرعيّ أو علميّ أو عقليّ.

(3)

متّفق عليه. تقدّم تخريجه أوّل هذا الباب.

(4)

(حسن بشواهده). رواه: ابن وهب في "الجامع"، والبزّار (3046 - كشف)، وابن أبي حاتم في "العلل"(2347)؛ من طريق عبد الله بن عيّاش القتباني، عن أبيه، عن شييم بن بيتان، عن شيبان بن أميّة، عن رويفع بن ثابت

رفعه. قال البزّار: "لا يروى إلّا بهذا الإسناد". وقال أبو حاتم: "منكر". وقال الهيثمي (5/ 108): "فيه سعيد بن أسد بن موسى روى عنه أبو زرعة الرازي ولم يضعّفه أحد، وشيخ البزّار إبراهيم غير منسوب، وبقيّة رجاله ثقات". قلت: سعيد وإبراهيم ثقتان توبعا؛ والعلّة القادحة هي جهالة شيبان.

لكن له شاهد عند: ابن وهب في "الجامع"(656 و 657)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 195)، والذهبي في "النبلاء"(16/ 517)؛ من طريقين إحداهما قويّة، عن فضالة بن عبيد .... موقوفًا بلفظه واحتمال أن يكون لهذا حكم الرفع قويّ.

وله شاهد آخر من حديث ابن عمرو، يأتي قريبًا.

(5)

في خ: "وما منّا إلّا يتطيّر"، لكن أشار فوقها إلى أنّها مستفادة من إحدى النسخ، وهي إضافة ناسخ لا أصل لها في متن الحديث.

(6)

(صحيح). رواه الطيالسي في "المسند"(356)، وابن أبي شيبة (26382)، وأحمد (1/ 389 و 438 و 440)، والبخاري في "الأدب المفرد"(909)، وابن ماجه (31 - الطب، 43 - من كان يعجبه الفأل، =

ص: 175

• والبحثُ عن أسبابِ الشَّرِّ مِن النَّظرِ في النُّجومِ ونحوِها هوَ مِن الطِّيَرَةِ المنهيِّ عنها

(1)

، والباحثونَ عن ذلكَ غالبًا لا يَشْتَغِلونَ بما يَدْفَعُ البلاءَ مِن الطَّاعاتِ، بل يَأْمُرونَ يلزومِ المنزلِ وتركِ الحركةِ، وهذا لا يَمْنَعُ نفوذَ القضاءِ والقدرِ. ومنهُم مَن يَشْتَغِلُ بالمعاصي، وهذا ممَّا يُقَوِّي وقوعَ البلاءِ ونفوذَهُ.

والذي جاءَتْ بهِ الشَّريعةُ هوَ تركُ البحثِ عن ذلكَ والإعراضُ عنهُ والاشتغالُ بما يَدْفَعُ البلاءَ مِن الدُّعاءِ والذِّكرِ والصَّدقةِ وتحقيقِ التَّوكُّلِ على اللهِ عز وجل والإيمانِ بقضائِهِ وقدرِهِ.

وفي "مسند ابن وهب"؛ أن عَبْدَ اللهِ بنَ عَمْرِو بن العاصِ الْتَقى هوَ وكَعْبٌ، فقالَ عَبْدُ اللهِ لكَعْبٍ: علمُ النُّجومِ؟ فقالَ كَعْبٌ: لا خيرَ فيهِ. قالَ عَبْدُ اللهِ: لِمَ؟ قالَ: تَرى فيها ما تَكْرَهُ (يُريدُ الطِّيَرَةَ)

(2)

. فقالَ كَعْبٌ: فإنْ مَضى، وقالَ: اللهمَّ! لا طيرَ إلَّا طيرُكَ، ولا خيرَ إلَّا خيرُكَ، ولا ربَّ غيرُكَ. فقالَ عَبْدُ اللهِ: ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بكَ. فقالَ كَعْبٌ: جاء بها عَبْدُ اللهِ، والذي نفسي بيدِهِ؛ إنَّها لرأْسُ التَّوكُّلِ وكنزُ العبدِ في الجنَّةِ، ولا يَقولُهُنَّ عبدٌ عندَ ذلكَ ثمَّ يَمْضي إلَّا لمْ يَضُرَّهُ شيءٌ. قالَ عَبْدُ اللهِ: أرَأيْتَ إنْ لمْ يَمْضِ وقَعَدَ؟ قالَ: طَعِمَ قلبُهُ طعمَ الإشراكِ.

= 20/ 1170/ 3538)، وأبو داوود (22 - الطب، 24 - الطيرة، 2/ 409/ 3910)، والترمذي (22 - السير، 47 - الطيرة، 4/ 160/ 1614)، وأبو يعلى (5092 و 5219)، والبزّار (1840)، وابن أبي الدنيا في "التوكّل"(41 و 42)، والطحاوي في "المعاني"(4/ 312)، وابن حبّان (6122)، والحاكم (1/ 17 و 18)، والسهمي في "التاريخ"(1/ 187)، والبيهقي في "السنن"(8/ 139) و"الشعب"(1167)، والبغوي في "شرح السنّة"(3257)؛ من طرق، عن سلمة بن كهيل

به مرفوعًا.

قال الترمذي: "حسن صحيح"، وأقرّه البغوي والمنذري والهيثمي والعسقلاني والألباني، وقال الحاكم:"صحيح سنده، ثقات رواته"، ووافقه الذهبي والعراقي والمناوي والألباني.

(1)

فيه نظر من وجهين: أوّلهما: أنّ تحريم النظر في النجوم لا يقتصر على البحث عن أسباب الشرّ بل يعمّ أسباب الخير والشرّ معًا. والثاني: أنّ علّة تحريم النظر في النجوم لا ترجع إلى كونه من الطيرة بل إلى كونه من الشرك؛ لأنّه تعليق للحوادث الكونيّة بأسباب مفتراة لا أصل لها شرعًا ولا علمًا ولا تجربة.

(2)

كذا! وفيه نظر وإقرار بأنّ أوضاع النجوم تدلّ على وقوع حوادث كونيّة مكروهة! وأنت تعلم أنّ هذا لا يصحّ شرعًا ولا عقلًا ولا علمًا ولا تجربةً وليس لأصحابه أثارة من دليل. والأصل ألّا يصدّق أهل الكتاب فيما يروونه ولا يكذّبوا؛ فكيف فيما يأتون به اجتهادًا من عقولهم؟!

ص: 176

وفي "مراسيل أبي داوودَ": أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "ليسَ عبدٌ إلَّا سَيَدْخُلُ قلبَهُ طِيَرَةٌ، فإذا أحَسَّ بذلكَ؛ فلْيَقُلْ: أنا عَبْدُ اللهِ، ما شاءَ اللهُ، لا قوَّةَ إلَّا باللهِ، لا يَأْتي بالحسناتِ إلَّا اللهُ، ولا يَذْهَبُ بالسَّيِّئاتِ إلَّا اللهُ، أشْهَدُ أن الله على كلِّ شيءٍ قديرٌ. ثمَّ يَمْضي لوجهِهِ"

(1)

.

وفي "مسند الإمام أحْمَدَ": عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو مرفوعًا: "مَن رَجَعَتْهُ الطِّيَرَةُ مِن حاجتِهِ؛ فقدْ أشْرَكَ. وكفَّارةُ ذلكَ أنْ يَقولَ أحدُهُم: اللهمَّ! لا طيرَ إلَّا طيرُكَ، ولا خيرَ إلَّا خيرُكَ، ولا إلهَ غيرُكَ"

(2)

.

وخَرَّجَ أحْمَدُ وأبو داوودَ مِن حديثِ: عُرْوَةَ بن عامِرٍ القُرَشِيِّ؛ قالَ: ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ:"أحسنُها الفأْلُ، ولا تَرُدُّ مسلمًا، فإذا رَأى أحدُكُم ما يَكْرَهُ؛ فلْيَقُلِ: اللهمَّ! لا يَأْتي بالحسناتِ إلَّا أنتَ، ولا يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ إلَّا أنتَ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بكَ"

(3)

. وخَرَّجَهُ أبو القاسِمِ البَغَوِيُّ، وعندَهُ:"ولا تَضُرُّ مسلمًا".

(1)

(ضعيف). رواه أبو داوود في "المراسيل"(539) من طريق قويّة عن عبد الرحمن بن سابط عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا. ولم أقف له على ما يقوّيه، فهو باق على ضعفه بالإرسال.

(2)

(صحيح). رواه: ابن وهب في "الجامع"(658)، وأحمد (2/ 220)، والطبراني في "الكبير"(5/ 108 - مجمع)، وابن السنّي في "اليوم والليلة"(292)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 201)؛ من طرق، عن ابن لهيعة، أنا ابن هبيرة، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن ابن عمرو

رفعه. قال الهيثمي: "فيه ابن لهيعة، وحديثه حسن وفيه ضعف، وبقيّة رجاله ثقات". قلت: رواه عنه عبد الله بن وهب وعبد الله بن يزيد وروايتهما عنه مستقيمة، فالسند جيّد.

ويشهد للقطعة الأولى حديث رويفع بن ثابت المتقدّم قريبًا وشواهده.

ويشهد للقطعة الثانية: حديث بريدة عند البزّار (3048 - كشف) بسند واه، وحديث أبي هريرة عنده (3049 - كشف) بسند لا بأس به.

وجاءت القطعة الثانية أيضًا عند: ابن أبي شيبة (26402 و 29534 و 39863)، وأبي الشيخ في "العظمة"(707)، والبيهقي في "الشعب"(1180)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 201)؛ من أوجه موقوفة على عليّ وابن عمرو وابن عبّاس. وهذه وإن لم تكن شواهد عمليًّا، لكنّها تزيد اليقين بصحّة هذا الأصل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ اجتماع هؤلاء الصحابة عليه يرجّح أنّهم تلقّوه عنه صلى الله عليه وسلم.

(3)

(ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة (26383 و 29532 و 29533)، وأبو حاتم في "الوحدان"(2/ 476 - إصابة)، وأحمد (ولم أجده في المسند)، ومن طريقه أبو داوود (22 - الطب، 24 - الطيرة، 2/ 412 / 3919)، والطبري، والبغوي في "المعجم"(لطائف المعارف - ص 177)، وابن قانع في "المعجم"(2/ 262/ 781)، وابن السنّي (293)، وابن شاهين (2/ 476 - إصابة)، والبيهقي في "السنن"(8/ 139) =

ص: 177

وفي "صحيح ابن حِبَّان": عن أنَسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"لا طِيَرَةَ، والطِّيَرَةُ على مَن تَطَيَّرَ"

(1)

.

وقالَ النَّخَعِيُّ: قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعودٍ: لا تَضُرُّ الطِّيَرَةُ إلَّا مَن تَطَيَّرَ. ومعنى هذا أنَّ مَن تَطَيَّرَ تطيُّرًا منهيًّا عنهُ - وهوَ أنْ يَعْتَمِدَ على ما يَسْمَعُهُ أو يَراهُ ممَّا يُتَطَيَّرُ بهِ حتَّى يَمْنَعَهُ ممَّا يُريدُ مِن حاجتِهِ - فإنَّهُ [قد] يُصيبُهُ ما يَكْرَهُهُ. وأمَّا مَن تَوَكَّلَ على اللهِ ووَثِقَ بهِ بحيثُ عَلَّقَ قلبَهُ باللهِ خوفًا ورجاءً وقَطَعَهُ عن الالتفاتِ إلى هذهِ الأسبابِ المَخُوفَةِ وقالَ ما أُمِرَ بهِ مِن هذهِ الكلماتِ ومَضى؛ فإنَّهُ لا يَضُرُّهُ [ذلكَ].

وقد رُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ؛ أنَّهُ كانَ إذا سَمِعَ نَعْقَ الغرابِ قالَ: اللهمَّ! لا طيرَ إلَّا طيرُكَ ولا خيرَ إلَّا خيرُكَ.

وكذلكَ أمَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عندَ انعقادِ أسبابِ العذابِ السَّماويَّةِ المَخُوفةِ كالكسوفِ بأعمالِ البرِّ؛ مِن الصَّلاةِ والدُّعاءِ والصَّدقةِ والعتقِ حتَّى يُكْشَفَ ذلكَ عن النَّاسِ

(2)

.

= و"الشعب"(1171)، والخطيب في "تالي التلخيص"(76)؛ من طريق سفيان الثوري تارة والأعمش تارة أُخرى، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن عامر

رفعه.

وهذا سند ضعيف فيه علّتان: أولاهما: عنعنة حبيب على كثرة إرساله وتدليسه وقول العسقلاني فيه: "الظاهر أن روايته عن عروة منقطعة". والثانية: أنّ عروة بن عامر لا تثبت صحبته. ولذلك جزم يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي وابن قانع وابن حبّان والبيهقي والعسكري والمنذري والمزّي والذهبي والعراقي والعسقلاني والألباني أنّ حديثه هذا مرسل.

ورواه معمر في "الجامع"(19512) عن الأعمش عن النبيّ صلى الله عليه وسلم معضلًا. ولا يفيد الطريق السابقة شيئًا؛ لأنّ الأعمش تلقّاه من حبيب فأسنده تارة وأرسله أُخرى.

(1)

(ضعيف). قطعة من حديث رواه: ابن حبّان (6123)، والطحاوي في "المعاني"(4/ 314)، وابن عبد البرّ (9/ 284) تعليقًا، والضياء في "المختارة"(6/ 251/ 2269)؛ من طريق زهير بن معاوية، عن عتبة بن حميد، ثني عبيد الله بن أبي بكر، سمع أنسًا

رفعه.

قال الضياء والألباني: "حسن". وقال العسقلاني في "الفتح"(6/ 63): "في صحّته نظر؛ لأنّه من رواية عتبة بن حميد عن عبيد الله بن أبي بكر عن أنس". قلت: عتبة فيه ضعف، وقد تفرّد بهذا المعنى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يتابعه عليه أحد، فلا يطمئنّ القلب لتقويته. والله أعلم.

(2)

انظر لهذا: "صحيح البخاري"(16 - الكسوف، 2/ 526/ 1040 وما بعدها)، و"صحيح مسلم"(10 - الكسوف، 2/ 618/ 901 وما بعدها)؛ فقد جاء في معظم أحاديث الكسوف.

ص: 178

وهذا كلُّهُ ممَّا يَدُلُّ على أن الأسبابَ المكروهةَ إذا وُجِدَتْ فإنَّ المشروعَ الاشتغالُ بما يُرْجى بهِ دفعُ العذابِ المخوفِ منها؛ مِن أعمالِ الطَّاعاتِ والدُّعاءِ وتحقيقِ التَّوكُّلِ على اللهِ والثِّقةِ بهِ؛ فإنَّ هذهِ الأسبابَ كلَّها مقتضِياتٌ لا موجباتٌ، ولها موانعُ تَمْنَعُها. فأعمالُ البرِّ والتَّقوى والدُّعاءُ والتَّوكُّلُ مِن أعظمِ ما يُسْتَدْفَعُ بهِ.

ومِن كلامِ بعضِ الحكماءِ المتقدِّمينَ: ضجيجُ الأصوات في هياكلِ العبادات بأفنانِ اللغات تُحَلِّلُ ما عَقَدَتْهُ الأفلاكُ الدَّائرات

(1)

.

وهذا على زعمِهِم واعتقادِهِم في الأفلاكِ، وأمَّا اعتقادُ المسلمينَ؛ فأنَّ الله وحدَهُ هوَ الفاعلُ لِما يَشاءُ، ولكنَّهُ يَعْقِدُ أسبابًا للعذابِ وأسبابًا للرَّحمةِ، فأسبابُ العذابِ يُخَوِّفُ بها عبادَهُ لِيَتوبوا إليهِ ويَتَضَرَّعوا إليهِ، مثلُ كسوفِ الشَّمسِ والقمرِ؛ فإنَّهُما آيتانِ مِن آياتِ اللهِ يُخَوِّفُ بهِما عبادَهُ؛ لِيَنْظُرَ مَن يُحْدِثُ لهُ توبةً، فدَلَّ على أن كسوفَهُما سببٌ يُخْشى منهُ وقوعُ عذابٍ.

وقدْ أمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عائِشَةَ رضي الله عنها أنْ تَسْتَعيذَ مِن شرِّ القمرِ، وقالَ:"هوَ الغاسقُ إذا وَقَبَ"

(2)

. وقد أمَرَ اللهُ تَعالى بالاستعاذةِ مِن شرِّ غاسقٍ إذا وَقَبَ، وهوَ الليلُ إذا أظْلَمَ؛ فإنَّهُ تَنْتَشِرُ فيهِ شياطينُ الجِنِّ والإنسِ. والاستعاذةُ مِن القمرِ لأنَّهُ آيةُ الليلِ، وفيهِ إشارةٌ إلى أنَّ شرَّ الليلِ المَخُوفَ لا يَنْدَفعُ بإشراقِ القمرِ فيهِ ولا يَصيرُ بذلكَ

(1)

الأفلاك الدائرات جمادات مخلوقات مربوبات مسيّرات؛ لا تدلّ على شيء ممّا يجري على العباد من الأقدار فضلًا عن أن تعقد هذه الأقدار وتبرمها، ولا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا فضلًا عن أن تملكه لغيرها!

(2)

(صحيح). رواه: الطيالسي (1486)، وإسحاق (1072)، وأحمد (6/ 61 و 206 و 215 و 237 و 252)، وعبد بن حميد (1517)، والترمذي (48 - التفسير، 94 - ومن المعوّذتين، 5/ 452/ 3366)، والنسائي في "الكبرى"(10137 و 10138) و"اليوم والليلة"(307 و 308)، وأبو يعلى (4440)، وابن جرير (38377 و 38378)، والطحاوي في "المشكل"(2/ 310)، وابن السنّي (648)، وأبو الشيخ في "العظمة"(380)، والحاكم (2/ 540)، والبيهقي في "الدعوات"(314)، والبغوي في "التفسير"(5/ 655) و"السنّة"(1367)، والمزّي في "التهذيب"(28/ 513)؛ من طريق محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن والمنذر بن أبي المنذر، عن أبي سلمة، عن عائشة

رفعته.

وهذا سند قويّ، رجاله كلّهم ثقات إلّا الحارث فصدوق ولكنّه توبع كما ترى، والمنذر صالح الحديث، فالسند صحيح بهذه المتابعة. وقد قوّاه الترمذيّ والحاكم والبغوي وعبد الحقّ والذهبي والألباني، وقال العسقلاني:"أقلّ درجاته أن يكون حديثًا حسنًا".

ص: 179

كالنَّهارِ، بل يُسْتَعاذُ منهُ وإنْ كانَ مقمرًا.

وخَرَّجَ الطَّبَرانِيُّ مِن حديثِ جابِرٍ مرفوعًا: "لا تَسُبُّوا الليلَ ولا النَّهارَ ولا الشَّمسَ ولا القمرَ ولا الرِّيحَ؛ فإنَّها رحمةٌ لقومٍ وعذابٌ لآخرينَ"

(1)

.

ومثلُ اشتدادِ الرَّياحِ؛ فإنَّ الرِّيحَ كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن رَوْحِ اللهِ؛ تَأْتي بالرَّحمةِ وتَأْتي بالعذابِ

(2)

. وأمَرَ إذا اشْتَدَّتِ الرِّيحُ أنْ يُسْألَ اللهُ خيرَها وخيرَ ما أُرْسِلَتْ بهِ ويُسْتَعاذَ بهِ مِن شرِّها وشرِّ ما أُرْسِلَتْ بهِ

(3)

.

وقد كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا رَأى ريحًا أو غيمًا؛ تَغَيَّرَ وجهُهُ وأقْبَلَ وأدْبَرَ، فإذا مَطَرَتْ؛ سُرِّيَ عنهُ، ويَقولُ:"قدْ عُذِّبَ قومٌ بالرِّيحِ، ورَأى قومٌ السَّحابَ فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] "

(4)

.

(1)

(ضعيف). رواه: الطبراني في "الأوسط"(4695 و 6791) من طريق [الوليد بن الوليد]، ثنا سعيد بن بشير، عن أبي الزبير، عن جابر

رفعه. قال الهيثمي (8/ 74): "فيه سعيد بن بشير وثّقه جماعة وضعّفه جماعة وبقيّة رجاله ثقات". قلت: لم يتنبّه رحمه الله للوليد بن الوليد لأنّه سقط من أحد إسنادي "الأوسط" فأوهم سلامته، والوليد متروك متّهم.

ورواه أبو يعلى (2194): ثنا سفيان، ثنا أبي، عن محمّد بن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر

رفعه. قال الهيثمي: "إسناد ضعيف". قلت: أولى علله: أنّ ابن أبي ليلى سيّئ الحفظ جدًّا. والثانية: أنّ سفيان بن وكيع ساقط الحديث. والثالثة: أنّه خولف فرواه ابن أبي شيبة (26301): ثنا علي بن هاشم، عن محمّد بن أبي ليلى، عن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى

به مرسلًا. وعلي صدوق فالقول قوله.

فالطريق الأولى فيها متروك، والثانية مرسلة ضعيفة، والحديث ضعيف.

(2)

(صحيح). رواه: معمر في "الجامع"(20004)، والشافعي في "الأمّ"(1/ 253)، وابن أبي شيبة (29209)، وأحمد (2/ 250 و 268 و 409 و 437 و 518)، والبخاري في "الأدب المفرد"(720 و 906)، وابن ماجه (33 - الأدب، 29 - النهي عن سب الريح، 2/ 1228/ 3727)، وأبو داوود (35 - الأدب، 104 - ما يقول إذا هاجت الريح، 2/ 747/ 5097)، والنسائي في "اليوم والليلة"(936 - 938)، وأبو يعلى (6142)، وابن حبان (1007 و 5732)، والطبراني في "الدعاء"(971 - 976)، وأبو الشيخ في "العظمة"(816)، والحاكم (4/ 285)، والبيهقي (3/ 361)، والبغوي (1153)؛ من طرق، عن الزهري، عن ثابت الزرقي (وجاء مرة: عمرو بن سليم الزرقي)، عن أبي هريرة

به.

وهذا سند صحيح، رجاله ثقات، والتردد بين ثابت وعمرو تردد بين ثقتين، فلا يضر، والظاهر أنّ الزهري رواه عنهما. وقد صحّحه الحاكم والمنذري والنووي والذهبي والعسقلاني والألباني.

(3)

رواه: البخاري (59 - الخلق، 5 - وهو الذي يرسل الرياح، 6/ 300/ 3206)، ومسلم (9 - الاستسقاء، 3 - التعوّذ عند رؤية الريح، 2/ 616/ 899)؛ من حديث عائشة. واللفظ لمسلم.

(4)

أحد ألفاظ الصحيحين للحديث المتقدّم قبله.

ص: 180

وأسبابُ الرَّحمةِ يُرَجِّي بها عبادَهُ، مثلُ الغيمِ الرَّطبِ والرِّيحِ الطَّيِّبةِ، ومثلُ المطرِ المعتادِ عندَ الحاجةِ إليهِ، ولهذا يُقالُ عندَ نزولِ الغيثِ: اللهمَّ! سُقْيا رحمةٍ ولا سُقْيا عذابٍ.

وأمَّا مَنِ اتَّقى أسبابَ الضَّررِ بعدَ انعقادِها بالأسبابِ المنهيِّ عنها؛ فإنَّهُ لا يَنْفَعُهُ ذلكَ غالبًا: كمَن رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عن حاجتِهِ خشيةَ أنْ يُصيبَهُ ما تَطَيَّرَ بهِ؛ فإنَّهُ كثيرًا ما يُصابُ بما يَخْشى منهُ، كما قالَ ابنُ مَسْعودٍ، ودَلَّ عليهِ حديثُ أنَسٍ المتقدِّمُ. وكمَنِ اتَّقى الطَّاعونَ الواقعَ في بلدِهِ بالفرارِ منهُ؛ فإنَّهُ قَلَّ أنْ يُنْجِيَهُ ذلكَ. وقد فَرَّ كثيرٌ مِن المتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ مِن الطَّاعونِ فأصابَهُم ولمْ يَنْفَعْهُمُ الفرارُ. وقد قالَ اللهُ تَعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 243]. وقد ذُكِرَ كثيرٌ مِن السَّلفِ أنَّهُم كانوا قد فَرُّوا مِن الطَّاعونِ فأصابَهُم. وفَرَّ بعضُ المتقدِّمينَ مِن طاعونٍ وَقَعَ، فبينا هوَ يَسيرُ بالليلِ على حمارٍ لهُ؛ إذْ سَمِعَ قائلًا يَقولُ:

لَنْ يُسْبَقَ اللهُ عَلى حِمارِ

وَلا عَلى ذي مَيْعَةٍ طَيَّارِ

(1)

أوْ يَأْتِيَ الحَتْفُ عَلى مِقْدارِ

قَدْ يُصْبِحُ اللهُ أمامَ السَّاري

فأصابَهُ الطَّاعونُ فماتَ.

• وأمَّا قولُهُ صلى الله عليه وسلم: "لا هامةَ"؛ فهوَ نفيٌ لِما كانَتِ الجاهليَّهُ تَعْتَقِدُهُ أن الميِّتَ إذا ماتَ صارَتْ روحُهُ أو عظامُهُ هامةً، وهوَ طائرٌ يَطيرُ. وهو شبيهٌ باعتقادِ أهلِ التَّناسخِ أن أرواحَ الموتى تَنْتَقِلُ إلى أجسادِ حيواناتٍ مِن غيرِ بعثٍ ولا نشورٍ، وكلُّ هذهِ اعتقاداتٌ باطلةٌ جاءَ الإسلامُ لإبطالِها وتكذيبِها.

ولكنِ الذي جاءَتْ بهِ الشَّريعةُ "أنَّ أرواحَ الشُّهداءِ في حواصلِ طيرٍ خضرٍ تَأْكُلُ مِن ثمارِ الجنَّةِ وتَرِدُ مِن أنهارِ الجنَّةِ إلى أنْ يَرُدَّها اللهُ تَعالى إلى أجسادِها يومَ القيامةِ"

(2)

.

ورُوِيَ أيضًا "أن نسمةَ المؤمنِ طائرٌ يَعْلُقُ في شجرِ الجنَّةِ حتَّى يَرْجِعَها اللهُ إلى

(1)

ذو الميعة: الفرس، والميعة: الجري. والطيّار: الذي جرى به صاحبه بأقصى سرعة.

(2)

رواه مسلم (33 - الإمارة، 33 - أرواح الشهداء في الجنّة، 3/ 1502/ 1882) عن ابن مسعود.

ص: 181

أجسادِها يومَ القيامةِ"

(1)

.

• وأمَّا قولُهُ صلى الله عليه وسلم: "ولا صَفَرَ"؛ فاخْتُلِفَ في تفسيرِهِ:

* فقالَ كثيرٌ مِن المتقدِّمينَ: الصَّفرُ داءٌ في البطنِ، يُقالُ: إنَّهُ دودٌ كبارٌ كالحيَّاتِ، وكانوا يَعْتَقِدونَ أنَّهُ يُعْدِي، فنَفى ذلكَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم. وممَّن قالَ هذا مِن العلماءِ ابنُ عُيَيْنَةَ والإمامُ أحْمَدُ وغيرُهُما. ولكنْ لو كانَ كذلكَ؛ لكانَ هذا داخلًا في قولِهِ "لا عدوى"، وقد يُقالُ: هوَ مِن بابِ عطفِ الخاصِّ على العامِّ، وخَصَّهُ بالذِّكرِ لاشتهارِهِ عندَهُم

(1)

(صحيح). رواه: مالك في "الموطأ"(1/ 240)، وابن المبارك في "الجهاد"(202)، وعبد الرزّاق في "المصنّف"(9556) و"التفسير"(484)، والحميدي (873)، وسعيد بن منصور (2560)، وأحمد (3/ 455 و 456 و 460)، وعبد بن حميد (376)، والبخاري في "التاريخ"(5/ 305 و 306)، وابن ماجه (6 - الجنائز، 4 - ما يقال عند المريض، 1/ 466/ 1449، 2/ 1428/ 4271)، والترمذي (23 - فضل الجهاد، 13 - ثواب الشهداء، 4/ 176/ 1641)، والنسائي (21 - الجنائز، 117 - أرواح المؤمنين، 4/ 108/ 2072)، وابن حبّان (4657)، والطبراني (19/ 63/ 119 - 125)، والآجري في "الشريعة"(938)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 156)، والبيهقي في "البعث"(202 و 203 و 205)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(11/ 60)؛ من طرق كثيرة، عن الزهريّ، عن ابن كعب بن مالك، عن أبيه

رفعه.

ويمكن أن يشار هنا إلى علل أربع: أولاها: أنّ الثقات الأثبات اختلفوا على الزهريّ في ابن كعب بن مالك: فأبهمه بعضهم، وصرّح آخرون بأنّه عبد الرحمن بن كعب، وآخرون بأنّه عبد الله بن كعب، وجماعة بأنّه عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، والثلاثة ثقات أثبات، ولا يبعد أنّ الزهريّ سمعه منهم جميعًا، لكن عبد الله أرسله، وعبد الرحمن بن عبد الله عن كعب منقطع. فإن كان لا بدّ من الترجيح؛ فالراجح عبد الرحمن بن كعب، لأنّه قول عشرة من الثقات. وخلاصة الكلام أنّ هذه العلّة غير قادحة. والثانية: أنّهم اختلفوا في الحديث وصلًا وإرسالًا، ولا يضرّ؛ لأنّ الواصلين أوثق وأكثر فالقول قولهم. والثالثة: أنّ الثقات الأثبات رووا هذا الحديث فجعلوه من مسند كعب، وخالفهم محمّد بن إسحاق فجعله من مسند أمّ مبشّر الأنصاريّة، فروايته شاذّة والمحفوظ الأوّل. والرابعة: أنّ معمرًا وابن عيينة وافقا الجماعة فرويا الحديث بلفظ الترجمة مرّة، وروياه مرّة بلفظ "أرواح الشهداء في طير

" إلخ، فروايتهما شاذّة والمحفوظ رواية الجماعة.

ثمّ للحديث بلفظ الترجمة شواهد منها: حديث أمّ هانئ عند: أحمد (6/ 424)، والطبراني (24/ 438 / 1072، 25/ 136/ 330)؛ بسند ضعيف. وحديث ابن عمرو عند الطبراني في "الكبير"(2/ 332 - مجمع) بسند فيه مجهول. وحديث أبي هريرة عند: عبد الرزّاق (6703)، وابن أبي شيبة (12061)، وهنّاد في "الزهد"(345)، والطبري (20761)، والطبراني في "الأوسط"(2651)، والحاكم (1/ 379 و 380)، والبيهقي في "الاعتقاد"(ص 220)؛ بسند قوّاه الحاكم والذهبي والهيثمي.

فإن لم يكن حديث كعب بن مالك صحيحًا لذاته؛ فإنّه صحيح بشواهده المذكورة. وقد صحّحه ابن حبّان، وقال الترمذي:"حسن صحيح"، وأقرّه المنذري وابن كثير والهيثمي والألباني.

ص: 182

بالعدوى.

وقالَتْ طائفةٌ: بلِ المرادُ بِـ"صَفَرَ" شهرُ صفرَ، ثمَّ اخْتَلَفوا في تفسيرِهِ على قولينِ:

أحدُهُما: أنَّ المرادَ نفيُ ما كانَ أهلُ الجاهليَّةِ يَفْعَلونَهُ في النَّسيءِ، فكانوا يُحِلُّونَ المُحَرَّمَ ويُحَرِّمونَ صَفَرَ مكانَهُ، وهذا قولُ مالكٍ.

والثَّاني: أن المرادَ أنَّ أهلَ الجاهليَّةِ كانوا يَسْتَشْئِمونَ بصفرَ ويَقولونَ: إنَّهُ شهرٌ مشؤومٌ، فأبْطَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلكَ. وهذا حَكاهُ أبو داوودَ عن مُحَمَّدِ بن راشِدٍ المَكْحولِيِّ عمَّن سَمِعَهُ يَقولُ ذلكَ.

* ولعلَّ هذا القولَ أشبهُ الأقوالِ، وكثيرٌ مِن الجهَّالِ يَتَشاءَمُ بصَفَرَ، وربَّما يَنْهى عن السَّفرِ فيهِ. والتَّشاؤمُ بصَفَرَ هوَ مِن جنسِ الطِّيَرَةِ المنهيِّ عنها. وكذلكَ التَّشاؤمُ بيومٍ مِن الأيَّامِ كيومِ الأربعاءِ. وقد رُوِيَ أنَّهُ يومُ نحسٍ مستمرٍّ

(1)

في حديثٍ لا يَصِحُّ. بل في "المسند": عن جابرٍ؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم دَعا على الأحزابِ يومَ الاثنينِ والثُّلاثاءِ والأربعاءِ، فاسْتُجيبَ لهُ يومَ الأربعاءِ بينَ الظُّهرِ والعصرِ. قالَ جابِرٌ: فما نَزَلَ بي أمرٌ مهمٌّ غائظٌ إلَّا تَوَخَّيْتُ ذلكَ الوقتَ فدَعَوْتُ الله فيهِ فرَأيْتُ الإجابةَ

(2)

. أو كما قالَ.

(1)

(موضوع). وقد جاء عن جماعة من الصحابة من أوجه:

* فرواه: أبو عوانة (6022)، والطبراني في "الأوسط"(801 و 6418)، والبيهقي (10/ 170)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(1/ 377)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 74) معلّقًا؛ من طريق إبراهيم بن أبي حيّة، ثني جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن جابر

رفعه. وإبراهيم هذا متروك متّهم.

* ورواه ابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 71) من طريق عبد الرحمن بن خالد الزاهد، عن يحيى بن عبد الله، عن أبي معاوية الموصلي، عن أبي هريرة

رفعه. قال الذهبي في "الميزان" في ترجمة يحيى: "كذب". قلت: عبد الرحمن ويحيى وأبو معاوية مجاهيل.

* ورواه: وكيع في "الغرر"، وابن مردويه في "التفسير"، والخطيب في "التاريخ"(14/ 405)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 73)؛ من طريقين، عن المهدي، عن المنصور، عن أبيه، عن ابن عبّاس

رفعه. وفي الطريق الأولى مسلمة بن الصلت منكر الحديث متروك عن أبي الوزير صاحب ديوان المهدي مجهول، وفي الثانية الحسن بن عبيد الله الأبزاري كذّاب قليل الحياء.

فالحديث بهذه الطرق ساقط، عدّه ابن الجوزي في الموضوعات، وأقرّه الألباني.

(2)

(حسن). رواه: ابن سعد في "الطبقات"(2/ 73)، وأحمد (3/ 332)، والبخاري في "الأدب =

ص: 183

وكذلكَ تشاؤمُ أهلِ الجاهليَّةِ بشوَّالٍ في النِّكاحِ فيهِ خاصَّةً. وقد قيلَ: إنَّ أصلَهُ [أن] طاعونًا وَقَعَ في شوَّالٍ في سنةٍ مِن السِّنينَ، فماتَ فيهِ كثيرٌ مِن العرائسِ، فتَشاءَمَ بذلكَ أهلُ الجاهليَّةِ. وقد وَرَدَ الشَّرعُ بإبطالِهِ.

قالَتْ عائِشَةُ رضي الله عنها: تَزَوَّجَني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في شوَّالٍ، وبَنى بي في شوَّالٍ، فأيُّ نسائِهِ كانَ أحظى عندَهُ منِّي؟! وكانَتْ عائِشَةُ تَسْتَحِبُّ أنْ تُدْخِلَ نساءَها في شوَّالٍ

(1)

.

وتَزَوَّجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّ سَلَمَةَ في شوَّالٍ أيضًا

(2)

.

* وأمَّا قولُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طِيَرَةَ، والشُّؤمُ في ثلاثٍ؛ في المرأةِ والدَّارِ والدَّابَّةِ". خَرَّجاهُ في الصَّحيحينِ

(3)

مِن حديثِ ابن عُمَرَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. فقدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ في معناهُ أيضًا:

= المفرد" (704)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (3874)، وابن عبد البرّ في "التمهيد" (19/ 200 و 201)؛ من طرق، عن كثير بن زيد، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك (وجاء مرّة: عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك)، عن جابر بن عبد الله

به.

قال الهيثمي (4/ 15): "رجال أحمد ثقات". قلت: عبد الله بن عبد الرحمن بن كعب لم أقف له على ذكر؛ فإمّا أنّه خطأ من الراوي، أو أنّه محرّف عن "عبد الله أو عبد الرحمن بن كعب" وكلاهما ثقة، أو منقلب عن "عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب" وهو ثقة أيضًا. وقد قوّى إسناد الحديث المنذري والهيثمي والألباني.

(1)

رواه مسلم (16 - النكاح، 11 - التزويج في شوّال، 2/ 1039/ 1423).

(2)

(ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة في "المسند"(712 - مصباح الزجاجة)، وابن سعد (8/ 94)، وابن ماجه (9 - النكاح، 53 - متى يستحبّ البناء بالنساء، 1/ 641/ 1991)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(724)، والطبراني في "الكبير"(3/ 260/ 3347) و"الأوسط"(6198)، والدارقطني (3/ 283)؛ من طريق محمّد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن عبد الملك [بن أبي بكر بن عبد الرحمن] بن الحارث بن هشام، عن أبيه

رفعه.

قال البوصيري: "في إسناده محمّد بن إسحاق، وهو مدلّس، وقد عنعنه". قلت: صرّح بالتحديث عند ابن سعد. لكنّ في السند علّتين أُخريين: أولاهما: أنّهم اختلفوا على ابن إسحاق في هذا السند: فقالوا مرّة عبد الملك بن الحارث بن هشام عن أبيه، ومرّة عبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أمّ سلمة، ومرّة محمّد بن إسحاق حدّثني عبد الملك بن أبي بكر بن الحارث بن هشّام كما أشار إليه المزّي في "الأطراف"(18230)، وهذا يشير إلى أنّ الحديث غير محفوظ. والثانية: أنّه مرسل. وقد ضعّفه البوصيري والألباني.

(3)

البخاري (67 - كتاب النكاح، 17 - ما يتّقى من شؤم المرأة، 9/ 137/ 5093 و 5094 و 5753 و 5772)، ومسلم (39 - السلام، 34 - الطيرة والفأل، 4/ 1746/ 2225).

ص: 184

فرُوِيَ عن عائِشَةَ؛ أنَّها أنْكَرَتْ هذا الحديثَ أنْ يَكونَ مِن كلامِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقالَتْ: إنَّما قالَ: "كانَ أهلُ الجاهليَّةِ يَقولونَ ذلكَ"

(1)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ.

وقالَ مَعْمَرٌ: سَمِعْتُ مَن يُفَسِّرُ هذا الحديثَ؛ يَقولونَ: شؤمُ المرأةِ إذا كانَتْ غيرَ وَلودٍ، وشؤمُ الفرسِ إذا لمْ يُغْزَ عليهِ في سبيلِ اللهِ، وشؤمُ الدَّارِ جارُ السُّوءِ. ويُرْوى هذا المعنى مرفوعًا مِن وجوهٍ لا تَصِحُّ

(2)

.

ومنهُم مَن قالَ: قد رُوِيَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: "لا شؤمَ، وإنْ يَكُنِ اليُمْنُ في شيءٍ؟ ففي ثلاثةٍ (فذَكَرَ هذهِ الثَّلاثةَ) "

(3)

. وقالَ: هذهِ الرِّوايةُ أشبهُ بأُصولِ الشَّرعِ. كذا

(1)

(لا بأس به). رواه: إسحاق (1365)، وأحمد (6/ 150 و 240 و 246)، وابن قتيبة في "مختلف الحديث"(ص 105)، وابن خزيمة (6/ 61 - فتح)، والطحاوي في "المعاني"(4/ 314) و"المشكل"(3/ 341)، والحاكم (2/ 479)، والبيهقي (8/ 140)، وابن عبد البرّ (9/ 288)؛ من طريقين قويّتين، عن قتادة، عن أبي حسّان؛ أنّ رجلين دخلا على عائشة

فذكره في قصّة. وصحّحه ابن خزيمة والحاكم والذهبي وإلى ذلك مال العسقلاني فيما يبدو، مع أنّ ظاهره الإرسال، وعلم التاريخ لا يدعم سماع أبي حسّان من عائشة بما يكفي للجزم باتّصاله.

لكن رواه الطيالسي (1537): ثنا محمّد بن راشد، عن مكحول، عن عائشة

بنحوه. قال العسقلاني: "ومكحول لم يسمع من عائشة، فهو منقطع".

قلت: فالأوّل راجح الانقطاع، والثاني منقطع، لكنّ أحدهما بصري والآخر شاميّ، فأرجو أنّ أحدهما صالح لتقوية الآخر وتحسينه. والله أعلى وأعلم.

(2)

(منكر). رواه حفص بن سالم السمرقندي أبو مقاتل، عن أبي حنيفة - كما في "مسنده"(ص 153) -، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه

رفعه. ورواه عبد الله بن الزبير عن أبي حنيفة فأرسله. ورواه أبو يوسف عن أبي حنيفة فلم يجاوز به علقمة. فإذا علمت أنّ أبا مقاتل هذا متّهم متروك؛ بان لك أنّ هذا التأويل من كلام أبي حنيفة أو علقمة بن مرثد ثمّ ركّب له هذا المخذول إسنادًا ورفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وروى الطبراني (24/ 153/ 395) عن أسماء بنت عميس؛ قالت: قال صلى الله عليه وسلم: "إنّ من شقاء المرء في الدنيا ثلاثة سوء الدار وسوء المرأة وسوء الدابّة". قالت: يا رسول الله! ما سوء الدار؟ قال: "ضيق ساحتها وخبث جيرانها". قيل: فما سوء الدابّة؟ قال: "منعها ظهرها وسوء ضلعها". قيل: فما سوء المرأة؟ قال: "عقم رحمها وسوء خلقها". قال الهيثمي (5/ 108): "فيه من لم أعرفهم". قلت: وليس فيه ذكر للشؤم.

(3)

(منكر). رواه: سعيد بن منصور في "السنن"(2996)، وابن ماجه (9 - النكاح، 55 - اليمن والشؤم، 1/ 642/ 1993)، والترمذي (44 - الأدب، 58 - ما جاء في الشؤم، 5/ 127/ 2824)، والطحاوي في "المشكل"(3/ 341)، والطبراني (20/ 336/ 796)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(9/ 279)، والعسقلاني في "التهذيب"(2/ 388) تعليقًا؛ من طريق سليمان بن سليم الكلبي، عن يحيى بن جابر، عن معاوية بن حكيم (وجاء مرّة: حكيم بن معاوية)، عن عمّه (ومرّة: عن أبيه) حكيم بن معاوية (ومرّة: مخمر بن معاوية، ومرّة: =

ص: 185

قالَهُ ابنُ عَبْدِ البَرِّ، ولكنَّ إسنادَ هذهِ الرِّوايةِ لا يُقاوِمُ ذلكَ الإسنادَ.

والتَّحقيقُ أنْ يُقالَ في إثباتِ الشُّؤمِ في هذهِ الثَّلاثةِ ما ذَكَرْناهُ في النَّهيِ عن إيرادِ المريضِ على الصَّحيحِ والفرارِ مِن المجذومِ ومِن أرضِ الطَّاعونِ؛ إنَّ هذهِ الثَّلاثةَ أسبابٌ يُقَدِّرُ اللهُ بها الشُّؤمَ واليُمنَ ويَقْرِنُهُ بها

(1)

.

= مخمر بن حيدة)

رفعه.

قال البوصيري: "إسناده صحيح رجاله ثقات". وقال العسقلاني في "الفتح"(6/ 62): "في إسناده ضعف مع مخالفته للأحاديث الصحيحة". قلت: أمّا ضعف الإسناد؛ فلجهالة تابعيّه معاوية بن حكيم؛ فإنّه لم يرو عنه إلّا يحيى بن جابر ولم يوثّقه أحد. وأمّا مخالفة المتن لأحاديث الصحيحين؛ فبيّنة. وهذا حدّ النكارة. وصحّحه الألباني ليتخلّص به من إشكال "الشؤم في ثلاثة"، فلا أصاب يرحمه الله من جهة السند ولا تخلّص من إشكالات "الشؤم في ثلاثة"!

(1)

لا بدّ لي من أجل توضيح هذه القضيّة من شيء من التفصيل والتحليل أسوقه فيما يلي:

* أوّلًا: أنت تعلم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الطيرة أصلًا لأنّها باب من أبواب الشرك كما جاء صحيحًا صريحًا في غير ما حديث.

* ثانيًا: ما هو وجه الشرك في الطيرة؟ من الواضح جدًّا أنّ الأصل الاشتقاقيّ للطيرة هو "الطير"، كانوا يزجرون الطير ويتفاءلون بما طار منها إلى اليمين ويتشاءمون بما طار منها إلى الشمال. وأنت تعلم أنّه لم يأت في كتاب ولا سنّة ولا دليل علميّ أنّ الله تعالى نصب طيران الطيور إلى جهة ما سببًا لوقوع قدر من الأقدار أو دليلًا عليه، ومن زعم ذلك؛ فقد قال على الله بلا علم وقارف الشرك، تمامًا كما نصب الوثنيّون أوثانهم أسبابًا لقدر المغفرة والقربى من الله وكما نصب أهل النُّجوم نجومهم أسبابًا للسعود والنحوس. فهذا أصل الطيرة الشركيّة وفقه نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عنها، وهو رأس الباب، فمن أحكمه؛ فلن يخفى عليه أنّ الاستدلال على الأقدار بحركات الحيوان أو نعيب البوم والغربان أو نباح الكلاب أو مواضع الأيدي أو أوّل ما يُنطق به من الحروف أو الكلمات أو أوّل ما يرى منها عند فتح المصحف أو رؤية العوران والعرجان أو غير ذلك ممّا يبتدعه الناس كلّ يوم؛ كلّ ذلك لاحق بالباب نفسه؛ لأنّه تعليق لأقدار الله بأسباب أو أدلّة ما أنزل الله بها من سلطان.

* ثالثًا: بين الشؤم والطيرة: لا ريب أنّ الشؤم الذي أثبته النبيّ صلى الله عليه وسلم في الثلاث لون والطيرة الشركيّة التي نفاها لون آخر، وذلك لأمرين: أوّلهما: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقل "لا طيرة، وإن كانت الطيرة في شيء" بل غاير فقال "وإن كان الشؤم في شيء"، واختلاف المباني دليل على اختلاف المعاني. والآخر: أنّه من غير الممكن أن يرضى النبيّ صلى الله عليه وسلم لأمّته بشيء من الشرك مهما كان صغيرًا، بل لا بدّ أن يخلو الشؤم الذي أثبته صلى الله عليه وسلم من أدنى درجات الشرك.

* رابعًا: فما هو الشؤم المأذون به إذًا؟ إذا كانت معادلة الطيرة المنهيّ عنها هي: الطيرة هي تعليق الأقدار بأسباب (أو الاستدلال عليها بأدلّة) ما أنزل الله بها من سلطان، ففيها مقارفة للشرك، ولذلك نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عنها. فيجب أن تكون معادلة الشؤم المأذون فيه إذًا: الشؤم هو تعليق الأقدار بأسباب (أو الاستدلال عليها بأدلّة) يقرّها الشرع أو العلم أو العقل، فليس فيه مقارفة للشرك، ولذلك أذن النبيّ صلى الله عليه وسلم به.

فلو أنّ رجلًا تزوّج امرأة، فرآها قليلة العقل والدين والخلق والحرص على نفسها كثيرة الدخول =

ص: 186

ولهذا يُشْرَعُ لمَنِ اسْتَفادَ زوجةً أو أمةً أو دابَّةً أنْ يَسْألَ الله مِن خيرِها وخيرِ ما جُبِلَتْ عليهِ ويَسْتَعيذَ بهِ مِن شرِّها وشرِّ ما جُبِلَتْ عليهِ كما في حديثِ عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أبيهِ عن جدِّهِ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي خَرَّجَهُ أبو داوودَ وغيرُهُ

(1)

.

وكذا يَنْبَغي لمَن سَكَنَ دارًا أنْ يَفْعَلَ ذلكَ. وقدْ أمَرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قومًا سَكَنوا

= والخروج والاختلاط بالرجال وزيارة الجارات ليلًا ونهارًا، فأوجس خيفة ممّا ستجلبه عليه وعلى أولاده من المصائب في مستقبل الأيّام، فطلّقها، فهذا شؤم مشروع لا ضير فيه. ولو أنّه سكن دارًا فرأى في جيرانها فسادًا وأذًى أو رآها مكشوفة للجيران أو رأى سطوحها أو الشوارع حولها خطرة على أولاده فأوجس خيفة ممّا ستجلبه عليه وعلى أولاده من المصائب في المستقبل، فتركها، فهذا شؤم مشروع لا بأس فيه.

* خامسًا: لماذا اختصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم الدار والمرأة والفرس بالشؤم دون غيرها؟ لم يختصّ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة بالذكر لأنّها وحدها موضع الشؤم المأذون به، بل لأنّها أكثر ما يتشاءم به الناس قديمًا وحديثًا. فإن كانت هناك أسباب معقولة للتشاؤم بغيرها؛ فلا ضير في ذلك. كان يرى الرجل ولده في صحبة شابّ أكبر منه وأضخم سيّئ الخلق بذيء اللسان عصبيّ المزاج عنيفًا، فلا ضير عليه إن أوجس خيفة ممّا قد ينزل بولده من جهة صاحبه هذا فمنعه من صحبته. وكذلك إن عرف مخاطر طريق من الطرق

إلخ.

* سادسًا: وليس كلّ تشاؤم بالمرأة أو الفرس أو الدار مشروعًا، فمن تشاءم بالدار لأنّ الغراب نعب عند شرائها أو تشاءم بالمرأة لأنّه فتح المصحف عند العقد فوقعت عينه على {عبس وتولّى} أو تشاءم منها لأنّ قريبًا له مات يوم العقد ونحو ذلك؛ فهذا لاحق بالطيرة الشركيّة التي نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عنها.

* واعلم أخيرًا أنّ الإسلام دين فطرة وعلم؛ لا يرضى أن ينحدر المسلم إلى الأخذ بالأسباب والأدلّة الخرافيّة التي ما أنزل الله بها من سلطان، ولا يحول بينه وبين الأخذ بالأسباب التي يقرّها الشرع أو العلم أو العقل أو التجربة. هذه خلاصة الباب فيما أرى، ولله الحمد والمنّة على الإسلام والسنّة.

(1)

(حسن صحيح). رواه: البخاري في "خلق أفعال العباد"(153)، وابن ماجه (9 - النكاح، 27 - ما يقول إذا دخلت عليه أهله، 1/ 1918/617)، وأبو داوود (9 - النكاح، 44 - جامع في النكاح، 1/ 655 / 2160)، والنسائي في "السنن الكبرى"(10093) و"اليوم والليلة"(241 و 264)، والطبراني في "الدعاء"(940)، وابن السنّي (600)، والحاكم (2/ 185)، والبيهقي (7/ 148)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(5/ 300 - 302)، والبغوي في "السنّة"(1325) تعليقًا؛ من طرق، عن محمّد بن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه

رفعه. ابن عجلان صدوق، ورواية عمرو عن أبيه عن جدّه كذلك، فالسند حسن، وقد قوّاه الحاكم والذهبي والعراقي والألباني.

ورواه أبو يعلى (6610) من طريق حبّان بن عليّ العنزي، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة

رفعه. قال الهيثمي (10/ 144): "فيه حبّان بن عليّ وقد وثّق على ضعفه". قلت: وخالف - على ضعفه - الجماعة الذين رووه من حديث عمرو بن شعيب كما تقدّم، وهذا حدّ النكارة.

* ورواه: مالك (2/ 547)، والبغوي (1329)؛ عن زيد بن أسلم

مرسلًا. وسنده قويّ.

* ورواه ابن عبد البرّ في "التمهيد"(5/ 302) من حديث أبي لاس الخزاعي مرفوعًا بسند رجاله ثقات لكن فيه عنعنة ابن إسحاق. والحديث صحيح بمجموع هذه الأوجه، وقد قوّاه جماعة تقدّم ذكرهم.

ص: 187

دارًا فقَلَّ عددُهُم وقَلَّ مالُهُم أنْ يَتْرُكوها ذميمةً

(1)

. فتركُ ما لا يَجِدُ الإنسانُ فيهِ بركةً مِن دارٍ أو زوجةٍ أو دابَّةٍ غيرُ منهيٍّ عنهُ.

(1)

(صحيح). وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من أوجه:

* فرواه ابن وهب في "الجامع"(648) من طريق ابن سمعان

به. وابن سمعان هذا متروك متّهم.

* ورواه: مالك (2/ 972)، وابن وهب في "الجامع"(647)؛ عن يحيى بن سعيد

به. وهذا مرسل أو معضل قويّ.

* ورواه: البخاري في "التاريخ"(4/ 100)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2160)، والطبراني في "الكبير"(6/ 104/ 5639)، وأبو نعيم (2/ 86 - إصابة)؛ من طريق سعد بن إسحاق بن كعب، عن سهل بن حارثة

به. قال الهيثمي (5/ 108): فيه يعقوب بن حميد بن كاسب". قلت: صدوق ربّما وهم وقد توبع، فالسند قويّ، لكن قال البخاريّ: "مرسل"؛ يعني أنّه ليست لسهل صحبة، وإلى ذلك مال الجماعة.

* ورواه الزهري واختلف عليه فيه: فرواه أوّلًا البيهقي في "الشعب"(1362) من طريق قويّة، عن يونس، عنه، عن السائب بن يزيد ابن أخت نمر، عن عبد الرحمن بن عبد القاري، عن عمر

رفعه. قال البيهقي: "كذا وجدته موصولًا بالحديث الأوّل، وهو بهذا الإسناد غلط". ورواه ثانيًا البزّار (3051 - كشف) من طريق سعيد بن سفيان، ثنا صالح بن أبي الأخضر، عنه، عن سالم، عن أبيه

رفعه. قال البزّار: "أخطأ فيه عندي صالح". وقال الهيثمي في "المجمع"(5/ 108): "صالح ضعيف يكتب حديثه، وفيه أيضًا سعيد بن سفيان"، قلت: صدوق يخطئ. وروى الثالث: ابن عديّ في "الكامل"(3/ 1086) من طريق زمعة بن صالح، عنه، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة

رفعه. وزمعة ضعيف. وروى الرابع: معمر في "الجامع"(19526)، وابن وهب في "الجامع"(649)، والبيهقي في "السنن"(8/ 140)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 68)؛ من طريق سفيان ومعمر، عنه، عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، عن عبد الله بن شدّاد بن الهاد

به. وسفيان ومعمر جبلان، فالقول قولهما، والأوجه الأُخرى متراوحة بين الشذوذ والنكارة، وإلى ذلك مال البزّار وأبو حاتم، ولكنّه مرسل كما قال البيهقي.

* ورواه: ابن عديّ في "الكامل"(3/ 1302)، والبيهقي في "الشعب"(1363)؛ من طريق سكين بن عبد العزيز، عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود .. رفعه. وهذا سند فيه ضعف من أجل الهجري؛ فإنّه ليّن.

* ورواه: البخاري في "الأدب المفرد"(918)، وأبو داوود (22 - الطبّ، 24 - الطيرة، 2/ 413 / 3924)، وابن قتيبة في "مختلف الحديث"(ص 105)، والبيهقي في "السنن"(8/ 140) و"الشعب"(1364)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 69)، والضياء في "المختارة"(1529)؛ من طريق عكرمة بن عمّار، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس

رفعه. قال البخاري: "في إسناده نظر"؛ يعني: لكلامهم في عكرمة؛ فإنّ فيه لينًا لا ينحطّ به عن رتبة الحسن أو الحسن في الشواهد في أسوإ الاحتمالات، ولذلك سكت عنه المنذري وحسّنه الألباني.

فها هنا وجه ساقط، وثلاثة أوجه مرسلة صالحة للاعتبار، ووجه فيه ضعف يسير وخاص حسن أو حسن في الشواهد، فاجتماعها يكسب الحديث قوّة لا ريب. والله أعلم.

ص: 188

وكذلكَ مَنِ اتَّجَرَ في شيءٍ فلمْ يَرْبَحْ فيهِ ثلاثَ مرَّاتٍ؛ فإنَّهُ يَتَحَوَّلُ عنهُ. رُوِيَ ذلكَ عن عُمَرَ بن الخَطَّابِ. فإنْ بورِكَ لهُ في شيءٍ؛ فلا يَتَغَيَّرُ عنهُ. ففي "المسند" و"سنن ابن ماجه" عن عائِشَةَ مرفوعًا: "إذا كانَ لأحدِكُم رزقٌ في شيءٍ؛ فلا يَدَعْهُ حتَّى يَتَغَيَّرَ لهُ أو يَتَنَكَّرَ لهُ"

(1)

.

* وأمَّا تخصيصُ الشُّؤمِ بزمانٍ دونَ زمانٍ - كشهرِ صَفَرَ أو غيرِهِ -؛ فغيرُ صحيحٍ، وإنَّما الزَّمانُ كلُّهُ خلقُ اللهِ تَعالى، وفيهِ تَقَعُ أفعالُ بني آدَمَ. فكلُّ زمانٍ شَغَلَهُ المؤمنُ بطاعةِ اللهِ فهوَ زمانٌ مبارَكٌ عليهِ، وكلُّ زمانٍ شَغَلَهُ العبدُ بمعصيةِ اللهِ فهوَ مشؤومٌ عليهِ.

فالشُّؤمُ في الحقيقةِ هوَ معصيةُ اللهِ تَعالى: كما قالَ ابنُ مَسْعودٍ: إنْ كانَ الشُّؤمُ في شيءٍ؛ ففيما بينَ اللحيينِ؛ يَعْني: اللسانَ. وقالَ: ما مِن شيءٍ أحوجَ إلى طولِ سجنٍ مِن لسانٍ. وقالَ عَدِيُّ بنُ حاتِمٍ: أيمنُ امْرئ وأشأمُهُ بينَ لحييهِ؛ يَعْني: لسانَهُ.

وفي "سننِ أبي داوودَ"

(2)

: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "حسنُ المَلَكَةِ نَماءٌ، وسوءُ المَلَكَةِ شؤمٌ، والبرُّ زيادةٌ في العمرِ، والصَّدقةُ تَمْنَعُ ميتةَ السُّوءِ"

(3)

. فجَعَلَ سوءَ المَلَكَةِ

(1)

(ضعيف). رواه: أحمد (6/ 246)، والبخاري في "التاريخ"(8/ 85)، وابن ماجه (12 - تجارات، 4 - إذا قسم للرجل رزق، 2/ 727/ 2148)، والبيهقي في "الشعب"(1243 و 1244)، والمزّي في "التهذيب"(9/ 313)؛ عن طريق مخلد بن الضحّاك، ثني الزبير بن عبيد، عن نافع، عن عائشة

رفعته. قال البوصيري: "فيه مقال

مخلد بن الضحّاك مختلف فيه

والزبير بن عبيد قال الذهبي مجهول وذكره ابن حبّان في الثقات". وقال البخاري: "نافع ليس مولى ابن عمر"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا. قلت: فهذه علل ثلاث: مخلد قصاراه أن يكون صالحًا في المتابعات، والزبير ونافع مجهولان، فالسند واه.

وله شاهد عند: ابن ماجه (الموضع السابق، 2/ 726/ 2147)، والبيهقي في "الشعب"(1241 و 1242)، والمزّي في "التهذيب"(9/ 314)؛ عن طريق فروة بن يونس الكلابي، عن هلال بن جبير، عن أنس

رفعه بنحوه. وفروة قصاراه أن يكون مقبولًا في المتابعات، وهلال بن جبير مجهول شكّك ابن حبّان في سماعه من أنس. وبهذا أعلّه البوصيري. والسند واه.

ولا يرتقي الحديث بمجموع وجهيه إلى الحسن، وقد ضعفه البوصيري والألباني.

(2)

هذا لفظ أحمد في "المسند"، وليس هو عند أبي داوود بهذا التمام.

(3)

(ضعيف جدًّا). رواه: معمر في "الجامع"(20118)، وابن معين في "التاريخ"(1204 - دوري)، وأحمد (3/ 502)، وابن زنجويه في "الأموال"(1312)، والبخاري في "التاريخ"(3/ 302)، وأبو داوود (35 - الأدب، 133 - حقّ المملوك، 2/ 763/ 5162)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2562)، وأبو يعلى (1544)، والطبراني (5/ 17/ 4451)، والقضاعي (97 و 244 و 245)، والبيهقي في "الشعب" (8019 =

ص: 189

شؤمًا.

وفي حديثٍ آخرَ: "لا يَدْخُلُ الجنَّةَ سيِّئُ المَلَكَةِ"

(1)

. وهوَ مَن يُسيءُ إلى مماليكِهِ ويَظْلِمُهُم.

وفي الحديثِ: "إنَّ الصَّدقةَ تَدْفَعُ ميتةَ السُّوءِ"

(2)

.

= و 8020 و 8576)، وابن عساكر (38/ 357)؛ من طريق معمر، عن عثمان بن زفر، عن بعض بني رافع بن مكيث، عن رافع

رفعه مطوّلًا ومختصرًا.

وهذا سند واه فيه علل: أولاها: أنّ عثمان هذا صاحب حديثين ما له غيرهما ثمّ اضطرب في أحدهما فدلّ على أنّه ليس من أهل الشأن فلا ينبغي أن يحسّن له وإن ذكر في "ثقات ابن حبّان" وروى عنه ثقتان. وأشار إلى الثانية المنذري والهيثمي (3/ 113، 8/ 25) بقولهما: "فيه رجل لم يسمّ". قلت: سمّاه: أبو داوود (الموضع السابق، 5163)، وأبو موسى المديني في "الصحابة"(1/ 373 - غابة)؛ من طريق بقيّة، ثنا عثمان بن زفر، ثني محمّد بن خالد بن رافع، عن عمّه الحارث بن رافع

به مرسلًا. لكن ليس وراء هذه التسمية كبير شيء، فمحمّد وعمّه مجهولان. على أنّ هذه الطريق فتحت الباب لعلّة ثالثة، وهي الإرسال؛ فإنّه أرجح لدقّته وتجويده بخلاف الوصل الذي لا يعدّ هنا زيادة ثقة ولا له حكمها. وعلّة رابعة: وهي أن يكون المبهم في طريق معمر رجلين لا رجلًا واحدًا. وقد ضعّفه الألباني.

(1)

(ضعيف). قطعة من حديث رواه: معمر (20993)، والطيالسي (7 و 8)، وأحمد (1/ 4 و 7 و 12)، وابن ماجه (33 - الأدب، 10 - الإحسان إلى المماليك، 2/ 1712/ 3691)، والترمذي (28 - البرّ، 29 - الإحسان إلى الخدم، 4/ 234/ 1946)، والبزّار (43)، وأبو يعلى (93 - 95)، والطبراني في "الأوسط"(9308)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 164)، والبيهقي في "الشعب"(8577 - 8581 و 10862)، والخطيب في "التاريخ"(1/ 403) و"الجمع والتفريق"(2/ 412)، والأصبهاني في "الترغيب"(161 و 2391)، والبغوي في "السنّة"(2414)؛ من طرق ثلاث، عن مرّة الطيّب، عن أبي بكر

رفعه مطوّلًا ومختصرًا.

وهذا سند ضعيف فيه علّتان: أولاهما: ضعف الطرق الثلاث ولو اجتمعت؛ ففي إحداها فرقد السبخيّ ضعيف، وفي الثانية جابر الجعفي رافضيّ واه شبه المتروك، وفي الثالثة عبد الواحد بن زيد متروك عن أسلم الكوفي ضعيف مجهول. والثانية: أنّهم تكلّموا في سماع مرّة من أبي بكر، وجاء في سند البزّار بينهما زيد بن أرقم لكنّ طريقه واهية جدًّا، وأنكر أبو حاتم وأبو زرعة والبزّار أن يكون سمعه، وليس سماعه منه بالمستبعد.

وقد ضعّف الحديث الترمذي والبغوي والمنذري والبوصيري والألباني.

(2)

(ضعيف). وقد جاء عن جماعة من الصحابة:

* فرواه: البزّار (933 - كشف)، وأبو يعلى في "المسند"(85) و"المعجم"(9)؛ من طريق محمّد بن إسماعيل بن علي الوساوسي، ثنا زيد بن الحباب، ثنا عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل، عن شرحبيل بن سعد، عن جابر، عن أبي بكر

رفعه. قال الهيثمي (3/ 108): "فيه الوساوسي وهو ضعيف جدًّا"، وأقرّه العسقلاني. قلت: الوساوسي متّهم، وابن الغسيل يخطئ، وابن سعد ضعيف، والسند ساقط.

* ورواه: الترمذي (5 - الزكاة، 28 - فضل الصدقة، 3/ 52/ 664)، وابن حبّان (3309)، والبيهقي في "الشعب"(3351)، والبغوي في "السنّة"(1634)، والضياء في "المختارة"(5/ 218/ 1847 و 1848)؛ =

ص: 190

ويُرْوى مِن حديثِ عَلِيٍّ مرفوعًا: "باكِروا بالصَّدقةِ؛ فإنَّ البلاءَ لا يَتَخَطَّاها"

(1)

. خَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ.

وفي حديثٍ آخرَ: " [إنَّ] لكلِّ يومٍ نحسًا؛ فادْفَعوا نحسَ ذلكَ اليومِ

= من طريق عبد الله بن عيسى الخزّاز، ثنا يونس بن عبيد، ثنا الحسن، عن أنس

رفعه. قال الترمذي والبغوي: "حسن غريب". قلت: الخزّاز ضعيف منكر الحديث، والحسن عنعنه.

ورواه: أبو يعلى (4104) من طريق صالح المرّي، والقضاعي (1094) من طريق المقدام بن داوود عن عبد الله بن محمّد بن المغيرة المخزومي عن سفيان عن محرز؛ كلاهما عن يزيد الرقاشي، عن أنس

رفعه. وهذا ساقط: المرّي واه يكاد يترك وبه أعلّ الهيثمي (8/ 154) سند أبي يعلى، والمقدام ضعيف، والمخزومي متّهم، ومحرز مدلّس عنعن، فاجتماع الطريقين لا يفيدهما شيئًا، ولا سيّما أنّ الرقاشي ضعيف.

وله طريق ثالثة عند العقيلي (1/ 117)، عن عبد الرحيم بن سليمان الأنصاري، ثني عبيد الله بن أنس، ثني أبي

رفعه بنحوه. قال العقيلي: "عبيد الله وعبد الرحيم كلاهما مجهول بالنقل والحديث غير محفوظ".

وطريق رابعة عند الخطيب (8/ 208) عن إسحاق بن إبراهيم بن أبي إسرائيل المروزي، ثنا الحارث بن النعمان بن سالم، عن أنس

رفعه بمعناه. وإسحاق واه، والحارث مجهول، وفي السند انقطاع.

* ورواه الطبراني (17/ 22/ 31) من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، عن أبيه، عن جدّه

رفعه. قال الهيثمي (3/ 113): "كثير

ضعيف". قلت: متّهم متروك.

* ورواه: السهمي (ص 495/ رقم 1005)، والقضاعي (98)، والرافعي في "التدوين"(3/ 191)؛ من طريق يحيى بن عبيد الله التيمي، عن أبيه، عن أبي هريرة

رفعه. ويحيى متروك، وأبوه مجهول.

* ورواه: ابن سعد (3/ 488)، والبخاري في "التاريخ"(1/ 180) تعليقًا، والحسن بن سفيان (1/ 298 - إصابة)، والطبراني (3/ 228/ 3228 و 3233)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 356)، والبيهقي في "الشعب"(3463)؛ من طريق محمّد بن عثمان، عن أبيه، عن حارثة بن النعمان

رفعه. قال الذهبي في "النبلاء"(2/ 379): "إسناد منقطع". وقال الهيثمي (3/ 115): "فيه من لم أعرفه". قلت: محمّد وأبوه.

* وجاءت هذه القطعة أيضًا في بعض ألفاظ حديث رافع بن مكيث المتقدّم آنفًا أنّه ضعيف جدًّا.

ومعلوم أنّ اجتماع هذه الواهيات لا يزيد الباحث الناقد إلّا يقينًا بضعف الحديث. وقد ضعّفه العقيلي والذهبي والبوصيري والهيثمي والألباني.

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه الطبراني في "الأوسط"(5639) من طريق عيسى بن عبد الله بن محمّد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جدّه، عن علي

رفعه. قال الطبراني: "لا يروى إلّا بهذا الإسناد". وقال الهيثمي: "فيه عيسى بن عبد الله بن محمّد، وهو متروك". قلت: ومتّهم.

وله شاهد عند: ابن عديّ (2/ 448، 3/ 1099)، والبيهقي في "الشعب"(3353)، والخطيب في "التاريخ"(9/ 339)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 153)؛ من طرق أربعة، عن المختار بن فلفل، عن أنس

رفعه. ولا تخلو واحدة من الطرق الأربعة من متروك أو متّهم أو كذّاب فلا يفرح باجتماعها. ولا سيّما أنّ البيهقي رواه في "السنن"(4/ 189) من طريق أقلّ ضعفًا عن المختار عن أنس موقوفًا.

وقد ضعّف هذا الحديث جدًّا ابن أبي شيبة وصالح جزرة وابن عدي وابن الجوزي والهيثمي والألباني.

ص: 191

بالصَّدقةِ"

(1)

.

فالصَّدقةُ تَمْنَعُ وقوعَ البلاءِ بعدَ انعقادِ أسبابِهِ، وكذلكَ الدُّعاءُ.

وفي الحديثِ: "إنَّ البلاءَ والدُّعاءَ يَلْتَقِيانِ بينَ السَّماءِ والأرضِ فيَعْتَلِجانِ إلى يومِ القيامةِ"

(2)

. خَرَّجَهُ البَزَّارُ والحاكِمُ.

وخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ سَلْمانَ مرفوعًا: "لا يَرُدُّ القضاءَ إلَّا الدُّعاءُ"

(3)

.

(1)

(ضعيف). رواه ابن مردويه في "التفسير"(سبأ 39 - الدرّ المنثور)، ولم أقف على سنده، لكن الغالب الذي عهدته تجربة واستقراء فيما يتفرّد به ابن مردويه الضعف إن لم يكن دون ذلك، ولا سيّما أنّ السيوطيّ استبعده من "الجامع الصغير". والله أعلم.

(2)

(ضعيف). رواه: ابن أبي الدنيا، والبزّار (2165 - كشف)، والطبراني في "الأوسط"(2519) و"الدعاء"(33)، والحاكم (1/ 492)، وابن جميع في "المعجم"(ص 105)، والقضاعي (859 و 861)، والخطيب في "التاريخ"(8/ 453)، والأصبهاني في "الترغيب"(1237)؛ من طريق زكريّا بن منظور، [عن عطّاف بن خالد]، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة

رفعه في سياق. قال الحاكم: "صحيح"، ووافقه المنذري، وردّه الذهبي بقوله:"زكريّا مجمع على ضعفه". وقال الهيثمي (7/ 212، 10/ 149)"وثّقه أحمد بن صالح المصري وضعّفه الجمهور".

وله شاهد رواه البزّار (2164 و 3136 - كشف) من طريق إبراهيم بن خثيم بن عراك بن مالك، عن أبيه، عن جدّه، عن أبي هريرة

رفعه. قال الهيثمي: "فيه إبراهيم بن خثيم وهو متروك". قلت: وفيه نكارة في لفظه ومخالفة لما هو أصحّ منه.

فحديت عائشة ضعيف، وحديث أبي هريرة شديد الضعف، فلا يقوم به.

نعم؛ هناك شواهد على أنّ الدعاء ينفع ممّا نزل وممّا لم ينزل، لكنّها قاصرة عن تقوية القطعة المذكورة من الحديث، وقد مال إلى ضعفها الذهبي والمنذري والعسقلاني، ومال إلى تقويتها الحاكم والمنذري والألباني، وكنت تابعتهم على هذا في تعليقي على "الداء والدواء"، ثمّ ترجّح لي - والله يغفر لي - ضعفه هنا بعد مزيد من البحث، فليتنبّه إخواني من طلبة العلم لذلك.

(3)

(صحيح بشواهده). رواه: الترمذي (23 - القدر، 6 - لا يردّ القدر إلّا الدعاء، 4/ 448/ 2139)، والبزّار (2540)، والطحاوي في "المشكل"(4/ 169)، والطبراني في "الكبير"(6/ 251/ 6128) و"الدعاء"(30)، والقضاعي (832 و 833)؛ من طرق، عن يحيى بن ضريس، عن أبي مودود، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان

رفعه. قال الترمذي: "حسن غريب، وأبو مودود اثنان أحدهما يقال له فضّة، وهو الذي روى هذا الحديث". قلت: فيه لين، والسند كذلك.

وله شاهد عند: ابن المبارك في "الزهد"(86)، ووكيع في "الزهد"(407)، وابن أبي شيبة (29858)، وأحمد (5/ 277 و 280 و 282)، وهنّاد في "الزهد"(1024)، وابن ماجه (المقدّمة، 10 - القدر، 1/ 35/ 90 و 4022)، والنسائي في "الكبرى"(12093 - تحفة)، والروياني، والطحاوي في "المشكل"(4/ 169)، وابن حبّان (872)، والطبراني في "المعجم الكبير"(2/ 100/ 1442) و"الدعاء"(31)، وابن عدي =

ص: 192

وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لا يَنْفَعُ الحذرُ مِن القدرِ، ولكنَّ الله يَمْحو بالدُّعاءِ ما يَشاءُ مِن القدرِ.

وعنهُ قالَ: الدُّعاءُ يَدْفَعُ القدرَ

(1)

، وهوَ إذا دَفَعَ القدرَ؛ فهوَ مِن القدرِ.

وهذا كقولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لمَّا سُئِلَ عن الأدويةِ والرُّقى: هلْ تَرُدُّ مِن قدرِ اللهِ شيئًا؟ فقالَ: "هيَ مِن قدرِ اللهِ تَعالى"

(2)

.

= (2/ 448)، وأبو نعيم في "أصبهان"(2/ 60)، والحاكم (1/ 493)، والقضاعي (831 و 1001)، والبغوي (3418)، والأصبهاني (1235)؛ من طرق، عن ثوبان

رفعه. وقد صحّحه الحاكم والمنذري والذهبي، وحسّنه العراقي والبوصيري، وإحدى طرقه حسنة أو تكاد.

وشاهد آخر من حديث أنس عند الطبراني في "الدعاء"(29) بسند جيّد.

وشاهد ثالث من حديث ابن عبّاس عند الحاكم (3/ 481) بسند ساقط.

وشاهد رابع من حديث أبي أسيد أشار إليه الترمذي.

وشاهد خامس من حديث أبي هريرة عند: الشجري (1/ 52)، والأصبهاني (420)؛ بسند ساقط.

ولمعناه شواهد عدّة ضعيفة: منها حديث عائشة المتقدّم قبله، وحديث ابن عمر عند الترمذي (3548)، وحديث عبادة بن الصامت عند الطبراني في "الدعاء"(34).

والحديث صحيح بهذه الشواهد لفظًا ومعنى، وقد قوّاه الترمذي والألباني.

(1)

في خ: "ينفع القدر"! وهذا تحريف بيّن صوابه ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

(حسن). رواه ابن شهاب الزهري واختلف عليه فيه على ثلاثة أوجه:

روى الأوّل: ابن حبّان (6100) من طريق إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن زبريق، ثنا عمرو بن الحارث، أنا عبد الله بن سالم، عن الزبيدي محمّد بن الوليد، ثني ابن شهاب، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه

رفعه. وإسحاق ضعيف في روايته عن عمرو.

وروى الثاني: الطبراني (3/ 192/ 3090) والحاكم (4/ 402) من طريق صالح بن أبي الأخضر، والحاكم (1/ 32) من طريق معمر؛ كلاهما عن ابن شهاب، عن عروة، عن حكيم بن حزام

رفعه. قال الحاكم: "على شرط الشيخين، وقال مسلم في تصنيفه فيما أخطأ معمر في البصرة: إنّ معمرًا حدّث به مرّتين، فقال مرّة: عن الزهري عن ابن أبي خزامة عن أبيه". قال الحاكم: "وعندي أنّ هذا لا يعلّله؛ فقد تابع ابن أبي الأخضر معمرًا

وصالح

فقد يستشهد بمثله". وأقرّه الذهبي. وهو كما قالا.

وروى الثالث: ابن وهب في "الجامع"(699)، وأحمد (3/ 421)، وابن ماجه (31 - الطبّ، 1 - ما أنزل الله داء، 2/ 1137/ 3437)، والترمذي (29 - الطبّ، 21 - الرقى، 4/ 399/ 2065 و 2148)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2610)، والدولابي في "الكنى"(165 و 166)، والخرائطي في "المكارم"(94/ 537 و 540)، والطبراني (6/ 47/ 5468)، وابن منده في "الصحابة"(4/ 428 - غابة)، والحاكم (4/ 199)، وأبو نعيم في "المعرفة"(4/ 428 - غابة)، والبيهقي في "السنن"(9/ 349) و"الشعب"(1208) و"الاعتقاد"(ص 141)، وابن عبد البرّ في "الاستيعاب"(4/ 51) معلّقًا؛ من طرق خمسة، عن ابن شهاب، [عن أبي خزامة =

ص: 193

وكذلكَ قالَ عُمَرُ لمَّا رَجَعَ مِن الطَّاعونِ، فقالَ لهُ أبو عُبَيْدَةَ: أفرارًا مِن قدرِ اللهِ؟ فقالَ عُمَرُ: نَفِرُّ مِن قدرِ اللهِ إلى قدرِ اللهِ. فإنَّ الله تَعالى يُقَدِّرُ المقاديرَ ويُقَدِّرُ ما يَدْفَعُ بعضَها قبلَ وقوعِهِ.

وكذلكَ الأذكارُ المشروعةُ تَدْفَعُ البلاءَ.

وفي حديثِ عُثْمانَ رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَن قالَ حينَ يُصْبِحُ ويُمْسي بسمِ اللهِ الذي لا يَضُرُّ معَ اسمِهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السَّماءِ وهوَ السَّميعُ العليمُ؛ لمْ يُصِبْهُ بلاءٌ"

(1)

.

وفي "المسند": عن عائِشَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"الشُّؤمُ سوءُ الخلقِ"

(2)

.

= أحد بني الحارث بن سعد، عن أبيه]

رفعه. على خلاف لهم في هذه الطريق لا يهمّنا هنا بسطه وإنّما يهمّنا أنّ أبا خزامة هذا مجهول. ومع ذلك فقد قال الترمذي: "حسن صحيح".

فالوجه الأوّل يسقط عند الترجيح لضعف راويه، والثاني والثالث قويّان، لكنّ تتابع الخمسة - ومنهم ثقات أثبات - على الثالث يرجّحه على الثاني. فإمّا أن يقال: المحفوظ الثالث والثاني شاذّ، وإليه مال مسلم والحاكم مرّة. أو يقال: هو عند الزهري على الوجهين. وهذا الثاني هو الراجح فيما أرى لأمور: أوّلها: أنّ الأصل بعد صحّة الطرق أن يجمع بينها ما أمكن ولا يضرب بعضها ببعض. والثاني: أنّه لا يبعد عن الزهري على جلالته وسعة روايته أن يروي هذا المتن من أكثر من طريق. والثالث: أنّ معمرًا الثقة الثبت رواه عن الزهري على الوجهين فيما ذكر مسلم، وتابعه ابن أبي الأخضر. فالجمع بين الوجهين أولى من توهيم الثلاثة.

وله شاهد عند الطبراني (12/ 131/ 12784) من طريق صالح المرّيّ، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن ابن عبّاس

رفعه. قال الهيثمي (5/ 88): "فيه صالح المرّيّ، وهو ضعيف". قلت: واه يكاد يترك.

فالحديث حسن بوجهه الثاني، ويزداد حسنًا بالثالث وشاهده، وقد قوّاه الترمذي والحاكم والذهبي.

(1)

(صحيح). رواه: الطيالسي (79)، وابن أبي شيبة (29266)، وأحمد (1/ 62 و 66)، وعبد بن حميد (540 - منتخب)، والبخاري في "الأدب المفرد"(660)، وابن ماجه (34 - الدعاء، 14 - ما يدعو إذا أصبح وأمسى، 2/ 1273/ 3869)، وأبو داوود (الموضع السابق، 2/ 744/ 5088 و 5089)، والترمذي (49 - الدعوات، 13 - الدعاء إذا أصبح وأمسى، 5/ 465/ 3388)، وعبد الله بن أحمد (1/ 72)، والبزّار (357)، والنسائي في "السنن الكبرى"(9843 و 9845 و 9846 و 10178) و"اليوم والليلة"(15 و 348)، والطحاوي في "المشكل"(4/ 171 و 172)، وابن حبّان (852 و 862)، والطبراني في "الدعاء"(317)، وابن السنّي (44)، والحاكم (1/ 514)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 42)، والبغوي (1326)، والضياء في "المختارة"(1/ 433/ 309 و 310)؛ من طريقين، عن أبان بن عثمان، عن أبيه

به.

وكلتا الطريقين قويّتان، والحديث صحيح بهما، وقد قوّاه الترمذي والدارقطني والحاكم والبغوي والضياء والمنذري والنووي والذهبي والعسقلاني وشاكر والألباني.

(2)

(حسن بشواهده). وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا وموصولًا من أوجه: =

ص: 194

وخَرَّجَهُ الخَرائِطِيُّ، ولفظُهُ:"اليُمْنُ حسنُ الخُلُقِ"

(1)

.

* وفي الجملةِ؛ فلا شؤمَ إلَّا المعاصي والذُّنوبُ؛ فإنَّها تُسْخِطُ الله، فإذا سَخِطَ اللهُ على عبدِهِ؛ شَقِيَ في الدُّنيا والآخرةِ، كما أنَّهُ إذا رَضِيَ عن عبدِهِ سَعِدَ في الدُّنيا والآخرةِ.

قالَ بعضُ الصَّالحينَ، وقد شُكِيَ إليهِ بلاءٌ وَقَعَ في النَّاسِ، فقالَ: ما أرَى ما أنتُم فيهِ إلَّا بشؤمِ الذُّنوبِ.

وقالَ أبو حازمٍ: كلُّ ما شَغَلَكَ عن اللهِ مِن أهلٍ أو ولدٍ أو مالٍ فهوَ عليكَ شؤمٌ.

= * فرواه: أحمد (6/ 85)، والخرائطي في "المساوئ"(2 و 3)، والطبراني في "الأوسط"(4357) و"الشاميّين"(1462)، وابن عديّ (2/ 472)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 103)، والقضاعي في "الشهاب"(254)؛ من طرق، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن حبيب بن عبيد (وقال ابن عديّ: ضمرة بن حبيب)، عن عائشة

رفعته. وهذا سند ضعيف فيه علّتان: أشار إلى الأولى أبو نعيم بقوله: "تفرّد به أبو بكر". قال الهيثمي (8/ 28): "وهو ضعيف". قلت: بل توبع عند البخاري في "التاريخ"(2/ 321): قال عبد الله، عن معاوية، عن حبيب بن عبيد، عن عائشة

رفعته بهذا اللفظ. وعبد الله هو كاتب الليث فيه ضعف. لكنّ متابعته أفادتنا: أنّ الصواب ها هنا ذكر حبيب، وأنّ ذكر ضمرة من تخليطات ابن أبي مريم، وأنّ الصواب في المتن ذكر الشؤم و"اليمن "رواية بالمعنى من تخليطات ابن أبي مريم، وأنّ ابن أبي مريم بريء من عهدة الحديث وإعلاله به لا يستقيم. والعلّة الثانية: أنّ رواية حبيب عن عائشة مرسلة.

ورواه: أبو نعيم (10/ 249)، والخطيب في "التاريخ"(4/ 276)؛ من طريق عبد الله بن إبراهيم الغفاري، ثنا جابر بن سليم، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمّد بن إبراهيم، عن عائشة

رفعته. والغفاريّ متّهم متروك لا تسوى متابعته فلسًا.

* ورواه ابن وهب في "الجامع"(488) من طريق قويّة، عن زيد بن الأخنس الكعبي، عن سعيد بن المسيّب، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

بنحوه. وزيد وثّقه ابن حبّان وروى عنه ثقتان، فالسند مرسل صالح.

* ورواه: السهمي في "جرجان"(ص 139/ رقم 153)، والطبراني في "الأوسط"(5722 و 8399)، والدارقطني في "الأفراد"، والأصبهاني في "الترغيب"(1195)، والرافعي في "التدوين"(1/ 302)؛ من حديث جابر بن عبد الله بسند واه.

* ورواه ابن شاهين في "ثلاثة مجالس من الأماني"(792 - الضعيفة) من حديث ابن عمر بسند واه.

* وله شاهد واه من حديث رافع بن مكيث تقدّم آنفًا (ص 189).

وأخلص من هذا إلى أنّ اجتماع حديث عائشة مع مرسل ابن المسيّب يشدّ هذا المتن ويفيد أنّ له أصلًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأمّا الموصولات الأخيرة؛ فواهية دون حدّ الاعتبار. وقد ضعّف الألباني يرحمه الله هذا المتن، ولعلّه لو وقف على طريق البخاري في "التاريخ" لكان له موقف آخر. والله أعلى وأعلم.

(1)

(منكر بهذا اللفظ). تقدّم لك آنفًا أنّه من تخليطات ابن أبي مريم التي لم يتابع عليها.

ص: 195

وقد قيلَ:

فَلا كانَ ما يُلْهي عَنِ اللهِ إنَّهُ

يَضُرُّ وَيُؤْذي إنَّهُ لَمَشُومُ

فالشُّؤمُ في الحقيقةِ هوَ المعصيةُ، واليمنُ [هوَ] طاعةُ اللهِ وتقواهُ، كما قيلَ:

إنَّ رَأْيًا دَعا إلى طاعةِ اللـ

ـهِ لَرَأْيٌ مبارَكٌ مَيْمونُ

والعدوى التي تُهْلِكُ مَن قارَبَها هيَ المعاصي، فمَن قارَبَها وخالَطَها وأصَرَّ عليها؛ هَلَكَ، وكذلكَ مخالطةُ أهلِ المعاصي ومَن يُحَسِّنُ المعاصيَ ويُزَيِّنُها ويَدْعو إليها مِن شياطينِ الإنسِ، وهُم أضرُّ مِن شياطينِ الجنِّ.

قالَ بعضُ السَّلفِ: شيطانُ الجنِّ تَسْتَعيذُ بِاللهِ منهُ فيَنْصَرِفُ، وشيطانُ الإنسِ لا يَبْرَحُ حتَّى يوقِعَكَ في المعصيةِ.

وفي الحديثِ: "يُحْشَرُ المرءُ على دينِ خليلِهِ، فلْيَنْظُرْ أحدُكُمْ مَن يُخالِلُ"

(1)

.

وفي حديثٍ آخرَ: "لا تَصْحَبْ إلَّا مؤمنًا ولا يَأْكُلْ طَعامَكَ إلَّا تقيٌّ"

(2)

.

(1)

(حسن). وقد جاء من حديث أبي هريرة وسهل:

فرواه: الطيالسي (2573)، وإسحاق (1/ 352/ 351)، وأحمد (2/ 303 و 334)، وعبد بن حميد (1431)، وأبو داوود (35 - الأدب، 19 - من يؤمر أن يجالس، 2/ 675/ 4833)، والترمذي (37 - الزهد، 45 - باب، 4/ 589/ 2378)، وابن عديّ (3/ 1074)، وابن بطّة في "الإبانة"(354 و 356)، والحاكم (4/ 171)، والقضاعي في "الشهاب"(187 و 188)، والبيهقي في "الشعب"(9436 و 9437)، والخطيب في "التاريخ"(4/ 115)، والذهبي في "النبلاء"(8/ 189 و 453)؛ من طريق زهير بن محمّد، ثني موسى بن وردان، عن أبي هريرة

رفعه. وهذا سند قويّ، رواية العقديّ وابن مهدي عن زهير مستقيمة وهذا منها، وقد تابعه ابن لهيعة عند ابن بطّة (355). وموسى بن وردان لا بأس بحديثه.

ورواه: ابن بطّة (357)، والحاكم (4/ 171)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 165)، والبيهقي في "الشعب"(9438)؛ من طريقين واهيتين، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة

رفعه. صحّحه الحاكم والذهبي وأعلّه العسقلاني بضعيف ومجهول. قلت: وفي الطريق الأخرى مجهول أيضًا.

ورواه: القضاعي (907)، والخطيب في "الأوهام"(2/ 128)؛ من طريق سليمان بن عمرو النخعي، عن أبي حازم، عن سهل

رفعه. والنخعي هذا هو أبو داوود، كذّاب.

فحديث سهل لا يصلح لصالحة، وطريق أبي هريرة الثانية واهية، فالمعوّل في تحسين هذا الحديث على الطريق الأولى، وإلى تقويته انفصل الترمذي والحاكم والنووي والذهبي والألباني.

(2)

(حسن). رواه: ابن المبارك في "الزهد"(364)، والطيالسي (2213)، وأحمد (3/ 38)، والدارمي (2/ 103)، وأبو داوود (35 - الأدب، 19 - من يؤمر أن يجالس، 2/ 675/ 4832)، والترمذي (37 - الزهد، 55 - صحبة المؤمن، 4/ 600/ 2395)، وأبو يعلى (1315)، وابن حبان (554 و 555 =

ص: 196

وممَّا يُرْوى لعَلِيِّ بن أبي طالِبٍ رضي الله عنه:

[فَـ]ـلَا تَصْحَبْ أخا الجَهْلِ

وَإيَّاكَ وَإيَّاهُ

فَكَمْ مِنْ جاهِلٍ أرْدى

حَكيمًا حينَ آخاهُ

يُقاسُ المَرْءُ بِالْمَرْءِ

إذا ما المَرْءُ ماشاهُ

وَلِلشَّيْءِ على الشَّيْءِ

مَقاييسٌ وأشْباهُ

ولِلْقَلْبِ عَلى القَلْبِ

دَليلٌ حينَ يَلْقاهُ

فالعاصي مشؤومٌ على نفسِهِ وعلى غيرِهِ؛ فإنَّهُ لا يُؤْمَنُ أنْ يَنْزِلَ عليهِ عذابٌ فيَعُمَّ النَّاسَ، خصوصًا مَن لمْ يُنْكِرْ عليهِ عملَهُ، فالبعدُ عنهُ متعيِّنٌ، فإذا كَثُرَ الخَبَثُ هَلَكَ النَّاسُ عمومًا.

وكذلكَ أماكنُ المعاصي وعقوباتُها يَتَعَيَّنُ البعدُ عنها

(1)

والهربُ منها خشيةَ نزولِ العذابِ، كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأصحابِهِ لمَّا مَرَّ على ديارِ ثمودَ بالحِجْرِ:"لا تَدْخُلوا على هؤلاءِ المعذَّبينَ؛ إلَّا أنْ تَكونوا باكينَ؛ خشيةَ أنْ يُصيبَكُمْ ما أصابَهُم"

(2)

.

ولمَّا تابَ الذي قَتَلَ مئةَ نفسٍ مِن بني إسرائيلَ وسَألَ العالِمَ هلْ لهُ [مِن] توبةٍ؛ قالَ لهُ: نعم، فأمَرَهُ أنْ يَنْتَقِلَ مِن قريةِ السُّوءِ إلى القريةِ الصَّالحةِ، فأدْرَكَهُ الموتُ بينَهُما، فاخْتَصَمَ فيهِ ملائكةُ الرَّحمةِ وملائكةُ العذابِ، فأوْحى اللهُ إليهِم: أنْ قيسوا بينَهُما، فإلى أيِّهِما كانَ أقربَ فألْحِقوهُ بها، فوَجَدوهُ إلى القريةِ الصَّالحةِ أقربَ برميةِ حجرٍ، فغُفِرَ لهُ.

هجرانُ أماكنِ المعصيةِ وإخوانِها مِن جملةِ الهجرةِ المأْمورِ بها؛ فإنَّ المهاجرَ مَن

= و 560)، والطبراني في "الأوسط"(3160)، والحاكم (4/ 128)، والبيهقي في "الشعب"(9382 و 9383)، والبغوي (3484)؛ كلهم عن حيوة بن شريح إلّا الطبراني فعن ابن لهيعة، عن سالم بن غيلان، عن الوليد بن قيس، أنّه سمع أبا سعيد أو عن أبي الهيثم عن أبي سعيد

رفعه.

وهذا سند حسن من أجل سالم والوليد؛ فلا بأس بهما، والشك في إثبات أبي الهيثم أو عدمه لا يضرّ، فكلا الوجهين حسن. وقد حسّنه الترمذي والبغوي والمنذري والنووي والألباني وصحّحه الحاكم والذهبي.

(1)

في خ: "يتعيّن البعد منها"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

رواه: البخاري (8 - الصلاة، 53 - الصلاة في مواضع الخسف، 1/ 530/ 433)، ومسلم (53 - الزهد، 1 - لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا، 4/ 2285/ 2980 و 2981)؛ من حديث ابن عمر.

ص: 197

هَجَرَ ما نَهى اللهُ عنهُ.

قالَ إبْراهيمُ بنُ أدْهَمَ: مَن أرادَ التَّوبةَ؛ فلْيَخْرُجْ مِن المظالمِ، ولْيَدَعْ مخالطةَ مَن كانَ يُخالِطُهُ، وإلَّا؛ لمْ يَنَلْ ما يُريدُ.

احْذَروا الذُّنوبَ؛ فإنَّها مشؤومة، عواقبُها ذميمة، وعقوباتُها أليمة، والقلوبُ المحبَّةُ لها سقيمة، والنُّفوسُ المائلةُ إليها غيرُ مستقيمة، والسَّلامةُ منها غنيمة، والعافيةُ منها ليس لها قيمة، والبليَّةُ بها - لا سيَّما بعدَ نزولِ الشَّيبِ - داهيةٌ عظيمة.

طاعَةُ اللهِ خَيْرُ ما اكْتَسَبَ العَبْـ

ـدُ كُنْ طائِعًا لِلهِ لا تَعْصِيَنْهُ

ما هَلاكُ النُّفوسِ إلَّا المعاصي

فَاجْتَنِبْ ما نَهاكَ لا تَقْرَبَنْهُ

إنَّ شَيْئًا هَلاكُ نَفْسِكَ فيهِ

يَنْبَغي أنْ تَصونَ نَفْسَكَ عَنْهُ

يا مَن ضاعَ قلبُهُ! انْشُدْهُ في مجلسِ الذِّكرِ، عَسى أنْ تَجِدَهُ. يا مَن مَرِضَ قلبُهُ! احْمِلْهُ إلى مجلسِ الذِّكرِ، لَعَلَّهُ أنْ يُعافى.

مجالسُ الذِّكرِ مارَسْتاناتُ

(1)

الذُّنوبِ، تُداوى فيها أمراضُ القلوبِ كما تُداوى أمراضُ الأبدانِ في مارستاناتِ الدُّنيا، ونزهٌ لقلوبِ المؤمنينَ تَتَنَزَّهُ فيهـ[ـا]

(2)

بسماعِ كلامِ الحكمةِ كما تَتَنَزَّهُ أبصارُ أهلِ الدُّنيا في رياضِها وبساتينِها.

مجلسُنا هذا حضرةٌ في روضةِ الخشوع، طعامُنا فيهِ الجوع، وشرابُنا فيهِ الدُّموع، ونُقْلُنا

(3)

هذا الكلامُ المسموع، نُداوي فيهِ أمراضًا أعْيَتْ جالينوسَ وبَخْتيشوع، نَسْقي فيهِ دِرْياقَ الذُّنوبِ وفاروقَ المعاصي

(4)

فمَن شَرِبَ لمْ يَكُنْ لهُ إلى المعصيةِ رجوع، كم أفاقَ فيهِ مِن المعصيةِ مصروع، وبَرِئَ فيهِ مِن الهوى ملسوع، ووَصَلَ فيهِ إلى اللهِ مقطوع، ما عيبُهُ إلَّا أن الطَّبيبَ الذي لهُ لو كانَ يَسْتَعْمِلُ ما يَصِفُ للنَّاسِ لكانَ إلى قولِهِ المرجوع. يا ضيعةَ العمرِ إنْ نَجا السَّامعُ وهَلَكَ المسموع! يا خيبةَ المسعى إنْ وَصَلَ

(1)

المارستان: المستشفى بلغتنا اليوم.

(2)

زيادة يقتضيها السياق ليست في خ وم ون.

(3)

النقل: ما يؤكل بعد الطعام على سبيل التسلية كالفواكه والحلويات والمكسّرات.

(4)

درياق الذنوب: دواؤها، كالترياق. فاروق المعاصي: ما يفرّق بين المرء وبين المعصية.

ص: 198

التَّابعُ وانْقَطَعَ المتبوع!

وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقى

طَبيبٌ يُداوي النَّاسَ وَهْوَ سَقيمُ

(1)

يا أيُّها الرَّجُلُ المُقَوِّمُ غَيْرَهُ

هَلَّا لِنَفْسِكَ كانَ ذا التَّقْويمُ

فابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَها عَنْ غَيِّها

فَإنِ انْتَهَتْ عَنْهُ فَأنْتَ حَكيمُ

فَهُناكَ يُقْبَلُ ما تَقولُ وَيُقْتَدى

بِالقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْليمُ

لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ

عارٌ عَلَيْكَ إذا فَعَلْتَ عَظيمُ

(2)

غيرُهُ:

كَمْ ذا التَّمادي فها قَدْ جاءَنا صَفَرُ

شَهْرٌ بِهِ الفَوْزُ وَالتَّوْفيقُ وَالظَّفَرُ

فَابْدَأْ بِما شِئْتَ مِنْ فِعْلٍ تُسَرُّ بهِ

يَوْمَ المَعادِ ففيهِ الخَيْرُ يُنْتَظَرُ

توبوا إلى اللهِ فيهِ مِن ذُنوبِكُمُ

مِنْ قَبْلِ يَبْلُغُ فيكُمْ حَدَّهُ العُمُرُ

* * *

(1)

هذا البيت لا علاقة له بما يليه؛ لأنّه من البحر الطويل وما يليه من الكامل.

(2)

زاد في حاشية خ هنا: "تصف الدواء لذي السقام ليشتفي، داء ألمّ به وأنت سقيم"، وهو لاحق بهذه الأبيات حقيقة، لكن الظاهر أنّه هنا من إضافة النسّاخ، ولذلك لم يشر إليه بعلامة إلحاق، ولا ساقته سائر الأصول الخطّيّة.

ص: 199

‌وظائف شهر ربيع الأول

ويَشْتَمِلُ على مجالسَ:

‌المجلس الأول في ذكر مولد النبي صلى الله عليه وسلم

-

خَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ مِن حديثِ: العِرْباضِ بن سارِيَةَ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إنِّي عندَ اللهِ في أُمِّ الكتابِ لخاتمُ النَّبيِّينَ وإنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ في طينتِهِ، وسوفَ أُنَبِّئُكُمْ بتأْويلِ ذلكَ: دعوةُ أبي إبْراهيمَ، وبشارةُ عيسى قومَهُ، ورؤيا أُمِّي التي رَأتْ أنَّهُ خَرَجَ منها نورٌ أضاءَتْ لهُ قصورُ الشَّامِ، وكذلكَ أُمَّهاتُ النَّبيينَ يَرَيْنَ"

(1)

.

(1)

(صحيح بشواهده إلّا ذكر أُمّهات النبيّين فضعيف). رواه: ابن سعد (1/ 149)، وأحمد (4/ 127 و 128)، والبخاري في "التاريخ"(6/ 68) و"الصغير"(33)، والفسوي (2/ 345)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(409)، والبزّار (2365 - كشف)، وابن جرير (2076 و 2077 و 2078 و 34054)، وابن حبّان (6404)، والطبراني (18/ 252/ 629 - 631) وفي "الشاميّين"(1455)، والآجرّي (961)، والحاكم (2/ 418 و 600)، وأبو نعيم في "الدلائل"(9 و 10) و"الحلية"(6/ 90)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 80 و 83، 2/ 130) و"الشعب"(1385)، وابن عساكر (33/ 447)؛ بعضهم من طريق أبي بكر بن أبي مريم وبعضهم من طريق معاوية بن صالح؛ كلاهما عن سعيد بن سويد، [عن عبد الأعلى بن هلال]، عن العرباض

رفعه. وها هنا علل: أولاها: أبو بكر هذا ضعيف، لكن تابعه معاوية، ثمّ اختلفا فأسقط أبو بكر عبد الأعلى وأثبته معاوية. قال البيهقي:"قصّر أبو بكر بإسناده". قلت: هذا ممكن، وغيره أيضًا ممكن، وهو العلّة الثانية، فإنّ سعيد بن سويد مدلّس على ضعف فيه، فلعلّه دلّسه لأبي بكر، وبسعيد أعلّ الهيثمي الحديث. والعلّة الثالثة: أنّ في عبد الأعلى جهالة ما. وعليه، فالقلب لا يطمئنّ لتقوية هذا السند.

لكن يشهد للقطعة الأولى حديثا أبي هريرة وميسرة الفجر، وسيأتي تفصيل الكلام فيهما قريبًا.

ويشهد للقطعة الثانية حديث أبي أمامة الآتي قريبًا مع شواهده.

ويشهد لرؤية أُمّه صلى الله عليه وسلم النور شواهد كثيرة أُخرى موصولة ومرسلة سيأتي تفصيل القول في بعضها قريبًا.

وقد قوّى حديث العرباض بن حبّان والحاكم والذهبي والهيثمي والألباني.

ص: 200

وخَرَّجَهُ الحاكِمُ وقالَ: صحيحُ الإسنادِ. وقد رُوِيَ معناهُ مِن حديثِ أبي أُمامَةَ الباهِلِيِّ

(1)

ومِن وجوهٍ أخُرَ مرسَلَةٍ.

• المقصودُ مِن هذا الحديثِ أن نبوَّةَ النبي صلى الله عليه وسلم كانَتْ مذكورةً معروفةً مِن قبلِ أنْ يَخْلُقَهُ اللهُ ويُخْرِجَهُ إلى دارِ الدُّنيا حيًّا، وأنَّ ذلكَ كانَ مكتوبًا في أُمِّ الكتابِ مِن قبلِ نفخِ الرُّوحِ في آدَمَ عليه السلام.

وفُسِّرَ أمُّ الكتابِ باللوحِ المحفوظِ وبالذِّكرِ في قولهِ تَعالى: {يَمْحو اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ} [الرعد: 39].

وعنِ ابن عَبَّاسٍ أنَّهُ سَألَ كَعْبًا عن أُمِّ الكتابِ، فقالَ: عَلِمَ اللهُ ما هوَ خالقٌ وما خلقُهُ عاملونَ، فقالَ لعلمِهِ: كُنْ كتابًا، فكانَ كتابًا.

ولا ريبَ أن علمَ اللهِ قديمٌ أزليٌّ لم يَزَلْ عالمًا بما يُحْدِثُهُ مِن مخلوقاتِهِ، ثمَّ إنَّهُ تَعالى كَتَبَ ذلكَ في كتابٍ عندَهُ قبلَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ، كما قالَ تَعالى:{مَا أَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ في الأرْضِ وَلا في أنْفُسِكُمْ إلَّا في كتابٍ مِن قَبْلِ أنْ نَبْرَأَها إنَّ ذلِكَ عَلى اللهِ يَسيرٌ} [الحديد: 22].

وفي "صحيح البُخارِيِّ"

(2)

عن: عِمْرانَ بن حُصَيْنٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "كانَ اللهُ ولا شيءَ قبلَهُ، وكانَ عرشُهُ على الماءِ، وكَتَبَ في الذِّكرِ كل شيءٍ، ثمَّ خَلَقَ

(1)

(صحيح بشاهده). رواه: الطيالسي (1140)، وابن سعد (1/ 102 و 149)، وابن الجعد (3553)، وأحمد (5/ 262)، والحارث (927 - الهيثمي)، والروياني (1267)، والطبراني (8/ 175/ 7729) وفي "الشاميّين"(1582)، وابن عدي (6/ 2055)، واللالكائي في "الاعتقاد"(1404)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 84)؛ من طريق فرج بن فضالة، عن لقمان بن عامر، عن أبي أُمامة؛ أنّه صلى الله عليه وسلم قال: أنا "دعوة أبي إبراهيم

قصور الشام". قال الهيثمي (8/ 225): إسناده حسن، وأقره الألباني. قلت: فرج لا يستحقّ أن يحسّن له، لكنّ روايته عن الشاميّين أمثل، وهذا منها، فهو صالح في الشواهد.

وله شاهد عند: ابن إسحاق (ص 28/ نصّ 33، 1/ 293 و 302 - ابن هشام)، والطبري في "التفسير"(2075) و"التاريخ"(1/ 458)، والحاكم (2/ 600)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 83)؛ من طريق قويّة، عن خالد بن معدان، عن جماعة من الصحابة

رفعوه. وقوّاه الحاكم والذهبي وابن كثير والألباني.

وله شاهد آخر من حديث عبادة بن الصامت عند ابن عساكر بسند ضعيف.

(2)

(59 - الخلق، 1 - وهو الذي يبدأ الخلق، 6/ 286/ 3191).

ص: 201

السَّماواتِ والأرضَ".

وفي "صحيح مُسْلِم"

(1)

عن: عَبْدِ اللهِ بن عَمْرِو بن العاصِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إنَّ الله كَتَبَ مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ وَالأرضَ بخمسينَ ألفَ سنة، وكانَ عرشُهُ على الماءِ".

ومِن جملةِ ما كَتبَهُ في هذا الذكرِ - وهوَ أُمُّ الكتابِ - أن مُحَمَّدًا خاتمُ النَّبيِّينَ، ومِن حينئذ انْتَقَلَتِ المخلوقاتُ مِن مرتبةِ العلمِ إلى مرتبةِ الكتابةِ، وهوَ نوع مِن أنواعِ الوجودِ الخارجيِّ.

ولهذا قالَ سَعيدُ بنُ راشِدٍ: سَألْتُ عَطاءً: هل كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم نبيًّا قبلَ أنْ يُخْلَقَ

(2)

؟ قالَ: إي واللهِ، وقبلَ أنْ تُخْلَقَ الدُّنيا بألفي عامٍ. خَرَّجَهُ أبو بَكْرٍ الآجُرِّيُّ في كتاب "الشَّريعة". وعطاءٌ الظَّاهرُ أنَّهُ الخُراسانِيُّ. وهذا إشارة

(3)

إلى ما ذَكَرْناهُ مِن كتابةِ نبوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم في أُمِّ الكتابِ عندَ تقديرِ المقاديرِ.

• وقولُهُ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ "إنِّي عندَ اللهِ في أُمِّ الكتابِ لَخاتمُ النَّبيِّينَ وإنَّ آدَمَ لَمُنْجَدِلٌ في طينتِهِ" ليسَ المرادُ بهِ - واللهُ أعلمُ - أنَّهُ حينئذ كُتِبَ في أُمِّ الكتابِ ختمُهُ للنَّبيينَ، وإنَّما المرادُ الإخبارُ عن كونِ ذلكَ مكتوبًا في أُمِّ الكتابِ في تلكَ الحالِ قبلَ نفخِ الرُّوحِ في آدَمَ، وهوَ أوَّلُ ما خُلِقَ مِن النَّوعِ الإنسانيِّ.

وجاءَ في أحاديثَ أُخرَ أنَّهُ في تلكَ الحالِ وَجَبَتْ لهُ النُّبوَّة

(4)

. وهذهِ مرتبة ثالثة، وهيَ انتقالُهُ مِن مرتبةِ العلمِ والكتابةِ إلى مرتبةِ الوجودِ العينيِّ الخارجي؛ فإنَّهُ صلى الله عليه وسلم اسْتُخْرِجَ حينئذ مِن ظهرِ آدَمَ ونُبِّئَ، فصارَتْ نبوَّتُهُ موجودةً في الخارجِ بعدَ كونِها كانَتْ مكتوبة مقدَّرةً في أُمِّ الكتابِ.

ففي حديثِ مَيْسَرَةَ الفَجْرِ قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ! متى كُنْتَ نبيًّا؟ قالَ: "وآدَمُ بينَ

(1)

(46 - القدر، 2 - حجاج آدم وموسى، 4/ 2044/ 2653).

(2)

في خ: "قبل أن يخلق الخلق"! والصواب ما أثبته من م ون وط.

(3)

في خ: "وهو إشارة"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(4)

سيأتي شيء من هذه الأحاديث قريبا.

ص: 202

الرُّوحِ والجسدِ"

(1)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والحاكِمُ. قالَ الإمامُ أحْمَدُ في روايةِ مُهَنَّى: وبعضُهُم يَرْويهِ: متى كُتِبْتَ نبيًّا؟ مِن الكتابةِ. فإنْ صَحَّتْ هذهِ الروايةُ؟ حُمِلَتْ معَ حديثِ العِرْباضِ على وجوبِ نبوَّتِهِ وثبوتها وظهورِها في الخارجِ؛ فإنَّ الكتابةَ إنَّما تُسْتَعْمَلُ فيما هوَ واجبٌ: إمَّا شرعًا كقولهِ تَعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} [البقرة: 183] أو قدرًا كقولِهِ تَعالى: {كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلي} [المجادلة: 21].

وفي حديثِ: أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُم قالوا: يا رسولَ اللهِ! متى وَجَبَتْ لكَ النُّبوَّةُ؟ قالَ: "وآدَمُ بينَ الرُّوحِ والجسدِ"

(2)

. خَرَّجَهُ التَرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ (وفي نسخةٍ

(1)

(صحيح). يرويه عبد الله بن شقيق واختلف عليه فيه:

فرواه: ابن سعد (7/ 59)، وأحمد (5/ 59)، والبخاري في "التاريخ"(7/ 374)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(410)، والبغوي (3/ 470 - إصابة)، وابن قانع (3/ 129/ 1103)، وابن السكن (3/ 470 - إصابة)، والطبراني (20/ 353/ 833 و 834)، والآجرّي، وابن عدي (4/ 1486)، والسهمي (ص 392)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 53، 7/ 122)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 84، 2/ 129)، والرافعي في "التدوين"(2/ 244)، وابن الأثير في "الغابة"(4/ 206)، والذهبي في "النبلاء"(7/ 384، 13/ 451)؛ من طرق قويّة، عن بديل بن ميسرة، عن عبد الله بن شقيق، عن ميسرة الفجر

رفعه. وهذا سند صحيح. لكن رواه ابن قانع (2/ 127/ 591) من طريق ضعيفة، عن بديل، عن عبد الله، عن ابن أبي الجدعاء

رفعه. فهذه الطريق لا تقوم للطرق الصحيحة السابقة، والمحفوظ عن بديل حديث ميسرة الفجر.

ورواه: ابن أبي شيبة (36542)، وابن سعد (1/ 148)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(411)، والروياني (1527)، والضياء في "المختارة"(9/ 142/ 123 و 124)، والمزّي في "التهذيب"(14/ 360)؛ من طرق، عن خالد الحذّاء، عن عبد الله بن شقيق، (قال مرّة: قام أبي فقال: يا رسول الله

فذكره مرسلًا، وقال مرّة: عن ابن أبي الجدعاء مرفوعًا، وقال مرّة: قال رجل فذكره مرسلًا). فالوجه الأوّل منكر ضعيف، والثاني قويّ بمجموع طرقه، والثالث جاء من أكثر من وجه صحيح، لكنّ صحابيّه مبهم، وأولى ما يفسّر به هذا المبهم أنّه ابن أبي الجدعاء كما في الوجه الثاني.

فالمحفوظ عن بديل أنّ هذا الحديث لميسرة الفجر، والمحفوظ عن الحذّاء أنّه لابن أبي جدعاء، وكلاهما ثقة لا يمكن ردّ روايته بغير حجّة. فإمّا أن يقال: ميسرة الفجر لقب لابن أبي جدعاء والرجلان واحد، وهذا وجيه له ما يؤيّده، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إليه. وامّا أن يقال: لابن شقيق في هذا الحديث شيخان سمعه منهما. أو يقال: تردّد ابن شقيق هنا بين صحابيّين. والحديث صحيح على كلّ حال، والتردّد بين صحابيّين لا يضرّ، وقد قوّاه الحاكم والذهبي والهيثمي والعسقلاني والألباني.

(2)

(صحيح). رواه: الترمذي (50 - المناقب، 1 - فضله - صلى الله عليه وسلم، 5/ 585/ 3609)، وابن حبّان في "الثقات"(1/ 47)، والآجرّي في "الشريعة"(959 و 960)، والحاكم (1/ 609)، واللالكائي في "أصول الاعتقاد"(1403)، وأبو نعيم في "الدلائل"(8) و"أخبار أصبهان"(2/ 226)، والبيهقي في "الدلائل"=

ص: 203

صَحَّحَهُ)، وخَرَّجَهُ الحاكِمُ.

ورَوى ابنُ سَعْدٍ مِن روايةِ: جابِرٍ الجُعْفِيُّ، عن الشَّعْبِيِّ؛ قال: قال رجلٌ للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: متى اسْتُنْبِئْتَ؟ قال: "وآدَمُ بينَ الرُّوحِ والجسدِ، حينَ أُخِذَ منِّي الميثاقُ"

(1)

. وهذهِ الرِّوايةُ تَدُلُّ على أنَّهُ [صلى الله عليه وسلم] حينئذٍ اسْتُخْرِجَ مِن ظهرِ آدَمَ ونُبِّئَ وأُخِذَ ميثاقُهُ: فيُحْتَمَلُ أنْ يَكونَ ذلكَ دليلًا على أن استخراجَ ذرِّيَّةِ آدَمَ مِن ظهرِهِ وأخذَ الميثاقِ منهُم كانَ قبلَ نفخِ الرُّوحِ في آدَمَ

(2)

.

وقد رُوِيَ هذا عن سَلْمانَ الفارِسِيِّ وغيرِهِ من السَّلفِ.

ويُسْتَدَلُّ لهُ أيضًا بظاهرِ قولِهِ تَعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلمَلائِكَةِ اسْجُدوا لآدَمَ} [الأعراف: 11]؛ على ما فَسَّرَهُ بهِ مُجاهِدٌ وغيرُهُ؛ أن المرادَ إخراجُ ذرِّيَّةِ آدَمَ مِن ظهرِهِ قبلَ أمرِ الملائكةِ بالسُّجودِ لهُ.

ولكنَّ أكثرَ السَّلفِ على أن استخراجَ ذرّيَّةِ آدَمَ منهُ كانَ بعدَ نفخِ الرُّوحِ فيهِ، وعلى هذا تَدُلُّ أكثرُ الأحاديثِ، فيُحْتَمَلُ على هذا أنْ يَكونَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم خُصَّ باستخراجِهِ مِن ظهرِ آدَمَ قبلَ نفخِ الرُّوحِ فيهِ؛ فإنَّ مُحمَّدًا صلى الله عليه وسلم هوَ المقصودُ مِن خلقِ النَّوعِ

= (2/ 130)، والخطيب في "التاريخ"(3/ 70، 5/ 82، 10/ 146)؛ من طرق، عن الوليد بن مسلم، ثنا الأوزاعي، ثني يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

رفعه.

قال الترمذي: "حسن صحيح غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلّا من هذا الوجه". قلت: صرّح الوليد بالسماع، وبقية السند ثقات معروفون برواية أحدهم عن الآخر، وقد صحّحه الألباني.

(1)

(ضعيف جدًّ). يرويه جابر الجعفيّ واختلف عليه فيه على وجهين: روى الأوَّل: ابن سعد (1/ 148) من طريق الفضل بن دكين، أنا إسرائيل بن يونس، عن جابر، عن الشعبي

مرسلًا. وروى الثاني: البزّار (2364 - كشف)، والطبرانى في "الكبير"(12/ 73/ 12571) و"الأوسط"(4187)؛ من طريق نصر بن مزاحم، ثنا قيس بن الربيع، عن جابر، عن الشعبيّ، عن ابن عبّاس

رفعه.

ومن البيّن أنّ الوجه الأوّل المرسل هو الراجح هنا لأنّه من رواية الثقات عن جابر، بخلاف الوجه الثاني الذي رواه نصر المتروك عن قيس الذي كان يلقّن. فالجادّة هاهنا الإرسال، والحديث ساقط على إرساله لأنّ جابرًا الجعفي نفسه ساقط في حدّ الترك.

(2)

سبحان الله! لو كان هذا الحديث صحيحًا لما دلّ على ذلك! فكيف وهو واهٍ ساقط؟! فكيف وقد صحّ ما يدل على خلافه من أنّه تعالى استخرج من آدم ذرِّيّته ثم عرضهم عليه فاختار يمين ربّه - وكلتا يديه تعالى يمين مبارك - ثمّ أعطى ابنه داوود من عمره أربعين

إلخ الحديث الصحيح المشهور. وانظر للاستزادة: "قصص الأنبياء"(ص 96 - ط. ابن خزيمة).

ص: 204

الإنسانيِّ

(1)

، وهوَ عينُهُ وخلاصتُهُ

(2)

وواسطةُ عقدِهِ، فلا يَبْعُدُ أنْ يَكونَ أُخْرِجَ مِن ظهرِ آدَمَ عندَ خلقِهِ قبلَ نفخ الرُّوحِ فيهِ

(3)

.

وقد رُوِيَ أن آدَمَ عليه السلام رَأى اسمَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم مكتوبًا على العرشِ، وأنَّ الله عز وجل قالَ لآدَمَ: لولا مُحَمَّدٌ ما خَلَقْتُكَ

(4)

. وقد خَرَّجَهُ الحاكِمُ في "صحيحه"

(5)

. فيَكونُ حينئذٍ مِن حينَ صُوِّرَ آدَمُ طينًا اسْتُخْرِجَ منهُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ونُبِّئَ وأُخِذَ منهُ الميثاقُ ثمَّ أُعيدَ إلى ظهرِ آدَمَ حتَّى خَرَجَ في وقتِ خروجِهِ الذي قَدَّرَ اللهُ خروجَهُ فيهِ. ويَشْهَدُ لذلكَ ما رُوِيَ عن قَتادَةَ؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "كُنْتُ أوَّلَ النَّبيينَ في الخلقِ وآخرَهُم في البعثِ"

(6)

. وفي روايةٍ: "أوَّلَ النَّاسِ في الخلقِ". خَرَّجَهُ ابنُ سَعْدٍ وغيرُهُ.

(1)

فيه والله نظر، وقد قال تعالى:{لا تغلو في دينكم غير الحقّ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم"، ولا يأمن من قال بهذا القول أن يناله قسط من تلك الآية وهذا الحديث! وما خلق الله الخلق إلَّا ليعبدوه ويوحّدوه ويسجدوا له ويسبّحوه! ومحمّد صلى الله عليه وسلم؛ فوالله إنّه لصفوة الخلق وسيّد ولد آدم وخليل الرحمن وصاحب الشفاعة العظمى المشهود له بعلوّ الشأن، ومقامه في الدنيا والآخرة أعلى وأرفع من أن يحتاج إلى تشقيقات الصوفيّة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

(2)

في خ: "عينه وخاصّته"، والصواب ما أثبتّه من م ون وط.

(3)

لو صحّ الحديث؛ لكان هذا التأويل لا يخلو من نظر! فكيف والحديث ساقط؟!

(4)

(موضوع). رواه: الطبراني في "الأوسط"(6498) و"الصغير"(994)، والحاكم (2/ 615)، والبيهقي في "الدلائل"(5/ 488)، وابن عساكر (7/ 436)؛ من طريقين واهمتين، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، [عن عمر]

رفعه.

قال الهيثمي (8/ 256) عن سند الطبراني: "وفيه من لم أعرفهم". وقال الذهبي عن سند الحاكم: "رواه عبد الله بن مسلم الفهري ولا أدري من ذا". وعبد الرحمن بن زيد واهٍ. فهؤلاء جماعة مجاهيل، تفرّدوا بخبر منكر أسندوه لأحد الضعفاء، ولذلك أعلّ شيخ الإسلام هذا الحديث، وضعّفه البيهقي وابن كثير، وأبطله الذهبي والعسقلاني، وقال الذهبي مرة والألباني:"موضوع".

(5)

فتأمّل ما في وصف "المستدرك" بـ "الصحيح"من البعد عن الصواب.

(6)

(منكر). يرويه قتادة، واختلف عليه فيه متنًا وسندًا:

* فرواه: ابن سعد (1/ 149)، وابن جرير (28352)؛ من طريقين قويّتين، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة؛ قال: وذكر لنا أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقول

فذكره. وهذا مرسل قويّ.

* ورواه: ابن أبي شيبة (31753 و 34331) من طريق قويّة، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة؛ قال: كان صلى الله عليه وسلم إذا قرأ {وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} يقول: "بدئ بي في الخير، وكنت آخرهم في البعث". وهذا قويّ أيضًا، وهو أدقّ من الأوّل ومفسّر له.

* ورواه: ابن سعد في "الطبقات"(1/ 149)، وابن جرير في "التفسير"(28353)؛ من طريق أبي =

ص: 205

وخَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ

(1)

مِن روايةِ قتادَةَ عن الحَسَنِ عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا. والمرسلُ أشبهُ.

وفي روايةٍ عن قَتادَةَ مرسلةٍ: ثمَّ تَلا: {وإذْ أخَذْنا مِن النَّبيِّينَ ميثاقَهُم وَمِنْكَ وَمِنْ نوحٍ وَإبْراهيمَ وَموسى وَعيسى ابن مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7]، فبَدَأ بهِ قبلَ نوحٍ الذي هوَ أوَّلُ الرُّسلِ.

فمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أول الرُّسلِ خَلْقًا وآخرُهُم بعثًا؛ فإنَّهُ اسْتُخْرِجَ مِن ظهرِ آدَمَ لمَّا صُوِّرَ ونُبِّئَ صلى الله عليه وسلم وأُخِذَ ميثاقُهُ ثمَّ أُعيدَ إلى ظهرِهِ

(2)

.

ولا يُقالُ: فقد خُلِقَ آدَمُ قبلَهُ؛ لأنَّ آدَمَ كانَ حينئذٍ مواتًا لا روحَ فيهِ ومُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم كانَ حيًّا حينَ اسْتُخْرِجَ ونُبِّئَ وأُخِذَ ميثاقُهُ، فهوَ أوَّلُ النَّبيِّينَ خَلقًا وآخرُهُم بعثًا، فهوَ خاتَمُ النَّبيِّينَ باعتبارِ أنَّ زمانَهُ تَأخَّرَ عنهُم، فهوَ المُقَفِّي والعاقِبُ الذي جاءَ عقبَ الأنبياءِ ويقْفوهُم. قالَ تَعالى:{ما كانَ مُحَمَّدٌ أبا أحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].

وفي الصَّحيحينِ

(3)

: عن جابِرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "مَثَلي ومَثَلُ الأنبياءِ كمَثَلِ

= هلال، عن قتادة

أرسله مرّة ووقفه مرّة.

* ورواه: الحسن بن سفيان (الأحزاب 7 - الدرّ)، وابن أبي حاتم (الأحزاب 7 - ابن كثير)، وابن مردويه (الأحزاب 7 - الدرّ)، والثعلبي في "تفسيره"(661 - ضعيفة)، وابن لال، وتمّام في "الفوائد"(1399)، وأبو نعيم في "الدلائل"(3)، والبغوي في "التفسير"(4/ 435)؛ من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة

رفعه. وابن بشير ضعيف، وحديثه عن قتادة أضعف من غيره، وقد خالف ابن أبي عروبة الراوي المعياري لقتادة، وهذا حدّ النكارة. وقد عنعن الحسن على تدليسه.

فالمعروف هنا الإرسال والوصل منكر، والصواب في هذا أنّه جاء تفسيرًا للآية، ومقصود قتادة أنّ الله سبحانه بدأ في هذه الآية بذكر محمّد صلى الله عليه وسلم تقديمًا له في الخيريّة. وأمّا في أخذ الميثاق، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أنّ "أوّلهم نوح ثمّ الأوّل فالأوّل". رواه ابن أبي عاصم في "السنّة"(407) بسند حسن. فهذا أولى سندًا ومتنًا وشرعًا وعقلًا من اللفظ الذي ذكره المصنّف، ولذلك عدّه الذهبي وابن كثير والألباني في الغرائب الواهيات.

(1)

لم أقف عليه عند الطبراني، ولا نسبه إليه الهيثمي ولا السيوطي في "الدرّ".

(2)

فيه نظر! وإيراد الواهيات ثمّ الاستناد في الأحكام إليها بنيان على شفا جرف هار. وهذه قضيّة يعاني أهل العلم في تقريرها في أذهان العوامّ، وطالب الحقّ لا يهوله أن يقال هذا؛ لأنّه يعلم أنّ قدر محمّد صلى الله عليه وسلم أعظم من أن يحتاج لهذه الترّهات، وأنّ رفعة المقام عند الله لا تحسب بأوّليّة ولا آخرية، وكما أنّ تأخّر إبراهيم عن آدم خلقًا وبعثًا لم يحطّ من مقامه ولم ينقص من خلّته فكذلك تأخّر محمّد صلّى الله عليهم أجمعين.

(3)

البخاري (61 - المناقب، 18 - خاتم النبيّين، 6/ 558/ 3534)، ومسلم (43 - الفضائل، 7 - كونه =

ص: 206

رجلٍ بنى دارًا فأكْمَلَها وأحْسَنَها إلَّا موضعَ لَبِنَةٍ، فجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلونَها ويَعْجَبونَ منها ويَقولونَ: لولا موضعُ اللَّبِنَةِ". زادَ مسلمٌ: قالَ: "فجِئْتُ فخَتَمْتُ الأنبياءَ".

وفيهِما أيضًا

(1)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، معناهُ. وفيهِ:"فجَعَلَ النَّاسُ يَطوفونَ بهِ ويَقولونَ: هلَّا وُضِعَتِ اللَبِنَةُ! فأنا اللَبِنَةُ، وأنا خاتَمُ النَّبيِّينَ".

وقدِ اسْتَدَلَّ الإمامُ أحْمَدُ بحديثِ العِرْباضِ هذا على أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لمْ يَزَلْ على التَّوحيدِ منذُ نَشَأ ورَدَّ بذلكَ على مَن زَعَمَ غيرَ ذلكَ.

بل قد يُسْتَدَلُّ بهذا الحديثِ على أنَّهُ صلى الله عليه وسلم ولِدَ نبيًّا، فإنَّ نبوَّتَهُ وَجَبَتْ لهُ مِن حينَ أُخذَ الميثاقُ منهُ، حيثُ اسْتُخْرِجَ مِن صلبِ آدَمَ، فكانَ نبيًّا مِن حينئذٍ، لكنْ كانَتْ مدَّةُ خروجِهِ إلى الدُّنيا متأخِّرةً عن ذلكَ، وذلكَ لا يَمْنَعُ كونَهُ نبيًّا قبلَ خروجِهِ، كمَن يُوَلَّى ولايةً ويُؤْمَرُ بالتَّصَرُّفِ فيها في زمنٍ مستقبلٍ، فحكمُ الولايةِ ثابتٌ لهُ مِن حينِ ولايتِهِ وإنْ كانَ تصرُّفُهُ يَتَأخَّرُ إلى حينِ مجيءِ الوقتِ.

قالَ حَنْبَلٌ: قُلْتُ لأبي عَبْدِ اللهِ (يَعْني: أحْمَدَ): مَن زَعَمَ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ على دينِ قومِهِ قبلَ أنْ يُبْعَثَ. قالَ: هذا قولُ سوءٍ، يَنْبَغي لصاحبِ هذهِ المقالةِ أن يُحْذَرَ كلامُهُ ولا يُجالَسَ. قُلْتُ لهُ: إنَّ جارَنا النَّاقدَ أبا العَبَّاسِ يَقولُ هذهِ المقالةَ. قالَ: قاتَلَهُ اللهُ! وأيُّ شيءٍ أبْقى إذا زَعَمَ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ على دينِ قومِهِ وهُم يَعْبُدونَ الأصنامَ؟! قالَ اللهُ تَعالى حاكيًا عن عيسى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسولٍ يَأْتي مِنْ بَعْدي اسْمُهُ أحْمَدُ} [الصف: 6]. قُلْتُ لهُ: وَزَعَمَ أن خَديجَةَ كانَتْ على ذلكَ حينَ تَزَوَّجَها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الجاهليَّةِ. قالَ: أمَّا خديجةُ؛ فلا أقولُ شيئًا، قد كانَتْ أوَّلَ مَن آمَنَ بهِ مِن النِّساءِ. ثمَّ قالَ: ما [ذا] يُحْدِثُ النَّاسُ مِن الكلامِ! هؤلاءِ أصحابُ الكلامِ! مَن أحَبَّ الكلامَ لمْ يُفْلحْ! سبحانَ اللهِ لهذا القولِ! واحْتَجَّ في ذلكَ بكلامٍ لمْ أحْفَظْهُ. وذَكَرَ أن أمَّهُ حينَ وَلَدَتْ رَأتْ نورًا أضاءَ لهُ قصورُ الشَّامِ، أوليسَ هذا عندَما وَلَدَتْ رَأتْ هذا؟! وقبلَ أنْ يُبْعَثَ كانَ طاهرًا مطهَّرًا مِن الأوثانِ، أوليسَ كانَ لا يَأْكُلُ ما ذُبِحَ على

= صلى الله عليه وسلم خاتم النبيّين، 4/ 1791/ 2287).

(1)

البخاري (الموضع السابق، 3535)، ومسلم (الموضع السابق، 4/ 1790/ 2286).

ص: 207

النُّصبِ؟! ثمَّ قالَ: أحْذَروا الكلامَ؛ فإنَّ أصحابَ الكلامِ لا يَؤولُ أمرُهُم إلى خيرٍ.

خَرَّجَهُ أبو بَكْرٍ عَبْدُ العَزيزِ بنُ جَعْفَرٍ في كتابِ "السُّنَّة".

ومرادُ أحْمَدَ الاستدلالُ بتقدُّمِ البشارةِ بنبوَّتهِ مِن الأنبياءِ الذينَ قبلَهُ وبِما شوهِدَ عندَ ولادتِهِ مِن الآياتِ على أنَّهُ كانَ نبيًّا مِن قبلِ خروجِهِ إلى الدُّنيا وولادتِهِ، وهذا هوَ الذي يَدُلُّ عليهِ حديثُ العِرْباضِ هذا؛ فإنَّهُ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ فيهِ أن نبوَّتَهُ كانَتْ حاصلةً منذُ كانَ آدَمُ مُنْجَدِلًا في طينتِهِ، والمرادُ بالمُنْجَدِلِ الطَّريحُ الملقى على الأرضِ قبلَ نفخِ الرُّوحِ فيهِ، ويُقالُ للقتيلِ إنَّهُ مُنْجَدِل لذلكَ.

• ثمَّ اسْتَدَلَّ صلى الله عليه وسلم على سبقِ ذكرِهِ والتَّنويهِ باسمِهِ ونبوَّتِهِ وشرفِ قدرِهِ لخروجِهِ إلى الدُّنيا بثلاثِ دلائلَ، وهوَ مرادُهُ بقولِهِ:"وسَأنبِّئُكُم بتأْويلِ ذلكَ".

• الدَّليلُ الأوَّلُ: دعوةُ [أبيهِ] إبْراهيمَ عليه السلام. وأشارَ بذلكَ إلى ما قَصَّ اللهُ في كتابِهِ العزيزِ عن إبْراهيمَ وإسْماعيلَ أنَّهُما قالا عندَ بناءِ البيتِ الذي بمَكَّةَ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127 - 129]. فاسْتَجابَ اللهُ دعاءَهُما وبَعَثَ في أهلِ مَكَّةَ منهُم رسولًا بهذهِ الصِّفةِ مِن ولدِ إسْماعيلَ الذي دَعا معَ أبيهِ إبْراهيمَ عليهما السلام بهذا الدُّعاءِ.

وقدِ امْتَنَّ اللهُ تَعالى على المؤمنينَ ببعثِ هذا النَّبيِّ منهُم على هذهِ الصِّفةِ التي دَعا بها إبْراهيمُ وَإسْماعيلُ:

قالَ اللهُ عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].

وقالَ تَعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ

ص: 208

الْعَظِيمِ (4)} [الجمعة: 2 - 4]

ومعلومٌ أنَّهُ لمْ يُبْعَثْ في مَكَّةَ رسولٌ منهُم بهذهِ الصِّفةِ غيرُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وهوَ مِن ولدِ إسْماعيلَ، كما أن أنبياءَ بني إسرائيلَ مِن ولدِ إسْحاقَ.

وذَكَرَ تَعالى أنَّهُ مَنَّ على المؤمنينَ بهذهِ الرِّسالةِ، فليسَ للهِ نعمةٌ أعظمُ مِن إرسالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم يَهْدي إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيمٍ.

وقولُهُ {في الأُمَيِّينَ} - والمرادُ بهِمُ العربُ - تنبيهٌ لهُم على قدرِ هذهِ النِّعمةِ وعظمِها، حيثُ كانوا أُمِّيِّينَ لا كتابَ لهُم، وليسَ عندَهُم شيءٌ مِن آثارِ النُّبوَّاتِ، كما كانَ عندَ أهلِ الكتابِ، فمَنَّ اللهُ عليهِم بهذا الرَّسولِ وبهذا الكتابِ، حتَّى صاروا أفضلَ الأُممِ وأعلمَهُم، وعَرَفوا ضلالةَ مَن ضَلَّ مِن الأُممِ مِن قبلِهِم.

وفي كونهِ منهُم فائدتانِ:

إحداهُما: أن هذا الرَّسولَ كانَ أيضًا أُمِّيًّا كأُمَّتِهِ المبعوثِ إليهِم: لمْ تقْرَأْ كتابًا قطُّ ولمْ يَخُطَّهُ بيمينِهِ، كما قالَ تَعالى: {وَما كُنْتَ تَتْلو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتاب وَلا تَخُطُّهُ بِيَمينِكَ

} الآياتِ [العنكبوت: 48]. ولا خَرَجَ عن ديارِ قومِهِ فأقامَ عندَ غيرِهِم حتَّى تَعَلَّمَ منهُم شيئًا، بلْ لمْ يَزَلْ أُمِّيًّا بينَ أُمَّةٍ أُمَيَّةَ لا يَكْتُبُ ولا يقرَأُ حتَّى كَمَّلَ الأربعينَ مِن عُمُرِهِ، ثمَّ جاءَ بعدَ ذلكَ بهذا الكتاب المبينِ وهذهِ الشَّريعةِ الباهرةِ وهذا الدِّينِ القيِّمِ الذي اعْتَرَفَ حذَّاقُ أهلِ الأرضِ ونظَّارُهُم أنَّهُ لمْ يَقْرَعِ العالَمَ ناموس أعظمُ منهُ. وفي هذا برهانٌ ظاهرٌ على صدقِهِ.

والفائدةُ الثَّانيةُ: التَّنبيهُ على أن المبعوثَ منهُم - وهُمُ الأمِّيُّونَ خصوصًا أهلَ مَكَّةَ - يَعْرِفونَ نسبَهُ وشرفَهُ وصدقَهُ وأمانتَهُ وعفَّتَهُ، وأنَّهُ نَشَأ بينَهُم معروفًا بذلكَ كلِّهِ، وأنَّهُ لمْ يَكْذِبْ قطُّ، فكيفَ كانَ يَدَعُ الكذبَ على النَّاسِ ثمَّ يَفْتَري الكذبَ على اللهِ، هذا هوَ الباطلُ، ولذلكَ سَألَ هِرَقْلُ عن هذهِ الأوصافِ، واسْتَدَلَّ بها على صدقِهِ فيما ادَّعاهُ مِن النُّبوَّةِ والرسالةِ.

وقولُهُ تَعالى: {يَتْلو عَلَيْهِمْ آياتِهِ} ؛ يَعْني: يَتْلو عليهِم ما أَنْزَلَ اللهُ عليهِ مِن آياتِهِ المتلوَّةِ، وهوَ القرآنُ، وهوَ أعظمُ الكتبِ السَّماويَّةِ، وقد تَضَمَّنَ مِن العلومِ والحكمِ

ص: 209

والمواعظِ والقصصِ والتَّرغيبِ والتَّرهيبِ وذكرِ أخبارِ مَن سَبَقَ وأخبارِ ما يَأْتي مِن البعثِ والنُّشورِ والجنَّةِ والنَّارِ ما لمْ يَشْتَمِلْ عليهِ كتابٌ غيرُهُ، حتَّى قالَ بعضُ العلماءِ: لوْ أنَّ هذا الكتابَ وُجِدَ مكتوبًا في مصحفٍ في فلاةٍ مِن الأرضِ ولمْ يُعْلَمْ مَن وَضَعَهُ هناكَ؛ لشَهِدَتِ العقولُ السَّليمةُ أنَّهُ منزَّل مِن عندِ اللهِ وأنَّ البشرَ لا قدرةَ لهُم على تأْليفِ ذلكَ، فكيفَ إذا جاءَ على يدي أصدقِ الخلقِ وأبرِّهِم وأتقاهُم، وقالَ: إنَّهُ كلامُ اللهِ، وتَحَدَّى الخلقَ كلَّهُم أنْ يَأْتوا بسورةٍ مِن مثلِهِ فعَجَزوا؟! فكيفَ يَبْقى معَ هذا شكٌّ فيهِ؟!

ولهذا قالَ تَعالى: {ذلكَ الكتابُ لا رَيْبَ فيهِ} [البقرة: 2]. وقالَ: {أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنَّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51].

فلو لمْ يَكُنْ لمُحَمَّدٍ مِن المعجزاتِ الدَّالَّةِ على صدقِهِ غيرُ هذا الكتابِ؛ لَكَفاهُ؛ فكيفَ ولهُ مِن المعجزاتِ الأرضيَّةِ والسَّماويَّةِ ما لا يُحْصى؟!

وقولُهُ تَعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ} ؛ يَعْني: أنَّهُ يُزَكِّي قلوبَهُم ويُطَهِّرُها مِن أدناسِ الشِّركِ والفجورِ والضَّلالِ؛ فإنَّ النُّفوسَ تَزْكو إذا طَهُرَتْ مِن ذلكَ كلِّهِ، ومَن زَكَتْ نفسُهُ؛ فقد أفْلَحَ، كما قالَ تَعالى:{قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَاها} [الشمس: 9]، وقالَ:{قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14].

وقولُهُ تَعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ} ؛ يَعْني بالكتابِ: القرآنَ، والمرادُ تعليمُهُم تلاوةَ ألفاظِهِ. ويَعْني بالحكمةِ: فهمَ معاني القرآنِ والعملَ بما فيهِ. فالحكمةُ هيَ فهمُ القرآنِ والعملُ بهِ، فلا يُكْتَفى بتلاوةِ ألفاظِ الكتابِ حتَّى يُعْلَمَ معناهُ ويُعْمَلَ بمقتضاهُ، فمَن جُمِعَ لهُ ذلكَ كلُّهُ؛ فقد أُوتِيَ الحكمةَ. قالَ تَعالى:{يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثيرًا} [البقرة: 269].

قالَ الفُضَيْلُ: العلماءُ كثيرٌ، والحكماءُ قليلٌ.

وقالَ: الحكماءُ ورثةُ الأنبياءِ.

فالحكمةُ هيَ العلمُ النَّافعُ الذي يَتْبَعُهُ العملُ الصَّالحُ، وهيَ نورٌ يُقْذَفُ في القلبِ يُفْهَمُ بهِ معنى العلمِ المنزَّلِ مِن الماءِ ويَحُضُّ على اتِّباعِهِ والعملِ بهِ. ومَن قالَ: الحكمةُ السُّنَّةُ؛ فقولُهُ حقٌّ؛ لأنَّ السُّنَّةَ تُفَسِّرُ القرآنَ وتُبَيِّنُ معانيَهُ وتَحُضُّ على اتِّباعِهِ

ص: 210

والعملِ بهِ، فالحكيمُ هوَ العالمُ المستنبطُ لدقائقِ العلمِ المنتفعُ بعلمِهِ بالعملِ بهِ.

ولأبي العَتاهِيَةِ:

وَكَيْفَ تُحِبُّ أنْ تُدْعى حَكيمًا

وَأنْتَ لِكُلِّ ما تَهْوى رَكوبُ

وَتَضْحَكُ دائِبًا ظَهْرًا لِبَطْنٍ

وَتَذْكُرُ ما عَمِلْتَ فَلا تَتوبُ

وقولُهُ تَعالى: {وَإنْ كانوا مِنْ قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبينٍ} [الجمعة: 2]؛ إشارةً إلى ما كانَ النَّاسُ عليهِ قبلَ إنزالِ هذا الكتابِ مِن الضَّلالِ؛ فإنَّ الله نَظَرَ حينئذ إلى أهلِ الأرضِ فمَقَتَهُم؛ عربَهُم وعجمَهُم؛ إلَّا بقايا مِن أهلِ الكتابِ تَمَسَّكوا بدينِهِمُ الذي لمْ يُبَدَّلْ ولمْ يُغَيَّرْ وكانوا قليلًا جدًّا. فأمَّا عامَّةُ أهلِ الكتابِ؛ فكانوا قد بَدَّلوا كتبَهُم وغَيَّروها وحَرَّفوها وأدْخَلوا في دينِهِم ما ليسَ منهُ فَضَلُّوا وأضَلُّوا. وأمَّا غيرُ أهلِ الكتابِ؛ فكانوا على ضلال بيِّنٍ: فالأُمِّيُّونَ أهلُ شركٍ يَعْبُدونَ الأوثانَ، والمجوسُ يَعْبُدونَ النِّيرانَ ويَقولونَ بإلهينِ اثنينِ، وكذلكَ غيرُهُم مِن أهلِ الأرضِ؛ منهُم مَن كانَ يَعْبُدُ النُّجومَ، ومنهُم مَن كانَ يَعْبُدُ الشَّمسَ أوِ القمرَ.

فهَدى اللهُ المؤمنينَ بإرسالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلى ما جاءَ بهِ مِن الهدى ودينِ الحقِّ، وأظْهَرَ اللهُ دينَهُ حتَّى بَلَغَ مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، فظَهَرَتْ فيها كلمةُ التَّوحيدِ والعملِ بالعدلِ بعدَ أنْ كانَتِ الأرضُ كلُّها ممتلئةً مِن ظلمةِ الشِّركِ والظُّلمِ.

فالأُمِّيُّونَ همُ العربُ، والآخرونَ الذينَ لمْ يَلْحَقوا بهِم هُم أهلُ فارسَ والرُّومُ. فكانَتْ أهلُ فارسَ مجوسًا والرُّومُ نصارى، فهَدى اللهُ جميعَ هؤلاءِ برسالةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم إلى التَّوحيدِ.

وقد رُئِيَ الإمامُ أحْمَدُ بعدَ موتِهِ في المنامِ، فسُئِلَ عن حالِهِ، فقالَ: لولا هذا النَّبيُّ؛ لَكُنَّا مجوسًا. وهوَ كما قالَ؛ فإنَّ أهلَ العراقِ لولا رسالةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم[لَـ]ـكانوا مجوسًا، وأهلَ الشَّامِ ومِصْرَ والرُّومَ لولا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم لَكانوا نصارى، وأهلَ جزيرةِ العربِ لولا رسالةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَكانوا مشركينَ عُبَّادَ أوثانٍ. ولكنْ رَحِمَ اللهُ عبادَهُ بإرسالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فأنْقَذَهُم مِن الضَّلالِ، كما قالَ اللهُ تَعالى:{وَما أَرْسَلْناكَ إلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمينَ} [الأنبياء: 107]. ولهذا قالَ تَعالى: {ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ

ص: 211

ذو الفَضْلِ العَظيمِ} [الجمعة: 4]. فمَن حَصَلَ لهُ نصيبٌ مِن دينِ الإسلامِ؛ فقد حَصَلَ لهُ الفضلُ العظيمُ، وقد عَظُمَتْ عليهِ نعمةُ اللهِ، فما أحْوَجَهُ إلى القيامِ بشكرِ هذهِ النِّعمةِ وسؤالِهِ دوامَها والثَّباتَ عليها إلى المماتِ والموتَ عليها، فبذلكَ تَتِمُّ النِّعمةُ.

فإبْراهيمُ عليه السلام هوَ إمامُ الحنفاءِ المأْمورُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم ومَن قبلَهُ مِن الأنبياءِ بالاقتداء بهِ، وهوَ الذي جَعَلَهُ اللهُ للنَّاسِ إمامًا. وقد دَعا هوَ وابنُهُ إسْماعيلُ بأنْ يَبْعَثَ اللهُ في أهلِ مَكَّةَ رسولًا منهُم موصوفًا بهذهِ الأوصافِ، فاسْتَجابَ اللهُ لهُما وجَعَلَ هذا النَّبيَّ المبعوثَ فيهِم مِن ولدِ إسْماعيلَ بن إبْراهيمَ كما دَعَيا بذلكَ، وهوَ النَّبيُّ الذي أظْهَرَ دينَ إبْراهيمَ الحنيفَ بعدَ اضمحلالِهِ وخفائِهِ على أهلِ الأرضِ. فلهذا كانَ أولى النَّاسِ بإبْراهيمَ: كما قال تَعالى: {إنَّ أوْلى النَّاسِ بِإبْراهيمَ لَلَّذينَ اتَّبَعُوهُ وَهذا النَّبيُّ وَالَّذينَ آمَنوا} [آل عمران: 68]. وقال صلى الله عليه وسلم: "إنَّ لكلِّ نبي وليًّا مِن النَّبيِّينَ وإن وليي إبْراهيمُ (ثمَّ تَلا هذهِ الآيةَ) "

(1)

. وكانَ صلى الله عليه وسلم أشبهَ ولدِ إبْراهيمَ بهِ صورةً ومعنًى، حتَّى إنَّهُ أشْبَهَهُ في خُلَّةِ اللهِ تَعالى، فقال:"إنَّ الله اتَّخَذني خليلًا كما اتَّخَذَ إبْراهيمَ خليلًا"

(2)

.

• الثَّاني: بشارةُ عيسى عليه السلام بهِ، وعيسى آخرُ أنبياءِ بني إسرائيلَ، وقد قال

(1)

(صحيح). رواه: وكيع في "تفسيره"(آل عمران 68 - ابن كثير)، وأحمد (1/ 400 و 429)، وعبد بن حميد، والترمذي (48 - التفسير، 4 - آل عمران، 5/ 223/ 5995)، والبزّار (1973 و 1981)، والطبري (7212 و 7213)، وابن أبي حاتم (ص 60 - أسباب النزول)، والحاكم (2/ 292 و 553)، والواحدي في "أسباب النزول"(ص 60)؛ من طرق، عن الثوري، عن أبيه سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى، [عن مسروق]، عن ابن مسعود

رفعه. وهؤلاء ثقات رجال الشيخين. لكن قال البزار: "لا نعلم أحدًا وصله إلّا أبو أحمد الزبيري عن الثوري، ورواه غيره عن الثوري عن أبيه عن أبي الضحى عن ابن مسعود". قلت: بلى وصله أيضًا محمّد بن عمر الواقدي ومحمّد بن عبيد الطنافسيّ عند الحاكم، والواقديّ متّهم، والزبيريّ يخطئ في حديث الثوري، والطنافسيّ ثقة حافظ من رجال الشيخين، فالأصل فيما زاده القبول، لكنّه خالف الفضل بن دكين ويحيى القطّان وعبد الرحمن بن مهدي ووكيعًا، وهؤلاء جبال أسقطوا مسروقًا، فلا يطمئنّ القلب إلى رواية من خالفهم، ولذلك قال الترمذي في روايتهم:"هذا أصحّ من حديث أبي الضحى عن مسروق".

ثمّ وجدت سعيد بن منصور رواه في "السنن"(501) عن أبي الأحوص، عن سعيد، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود، .. رفعه. وأبو الأحوص ثقة متقن، ومتابعته تزيدنا ثقة بأنّ لرواية من أثبت مسروقًا في هذا السند أصلًا أصيلًا.

وقد صحّح الحاكم هذا الحديث على شرطهما ووافقه الذهبي والألباني.

(2)

رواه مسلم (5 - المساجد، 3 - بناء المساجد على القبور، 1/ 377/ 532) عن جندب البجليّ.

ص: 212

تَعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].

وقد كانَ المسيح عليه السلام يَحُضُّ على اتِّباعِهِ وتقولُ: إنَّهُ يُبْعَثُ بالسَّيفِ، فلا يَمْنَعَنَّكُمْ ذلكَ منهُ.

ورُوِيَ عنهُ عليه السلام أنَّهُ قالَ: سوفَ أذْهَبُ أنا ويَأْتي الذي بعدي، لا يَتَحَمَّدُكُمْ بدعواهُ

(1)

، ولكنْ يَسُل السَّيفَ فتَدْخُلونَهُ طوعًا وكرهًا.

وفي "المسند": عن أبي الدَّرْداءِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أن الله عز وجل أوْحى إلى عيسى عليه السلام:"إنِّي باعثٌ بعدَكَ أمَّةً: إنْ أصابَهُمْ ما يُحِبُّونَ؛ حَمِدوا وشَكَروا، وإنْ أصابَهُم ما يَكْرَهونَ؛ احْتَسَبوا وصَبَروا، ولا حِلْمَ ولا عِلْمَ. قالَ: يا ربِّ! كيفَ هذا ولا حِلْمَ ولا عِلْمَ؟! قالَ: أُعْطيهِم مِن حِلْمي وعِلْمي"

(2)

.

قالَ ابنُ إسْحاقَ: حَدَّثَني بعضُ أهلِ العلم؛ أن عيسى عليه السلام قالَ: إنّ أحَبَّ الأُممِ إلى اللهِ لأُمَّةُ أحْمَدَ صلى الله عليه وسلم. قيلَ لهُ: وما فضلُهُمُ الذي تَذْكُرُ؟ قالَ: لمْ تُذَلَّلْ لا إلهَ إلَّا اللهُ على ألسنِ أُمَّةٍ مِن الأُممِ تذليلَها على ألسنتِهِم.

• الثَّالثُ ممَّا دَلَّ على نبوَّتِهِ صلى الله عليه وسلم قبلَ ظهورِهِ: رؤيا أمِّهِ التي رَأتْ أنَّهُ خَرَجَ منها نورٌ أضاءَتْ لهُ قصورُ الشَّامِ، وذَكَرَ أن أُمَّهاتِ النَّبيِّينَ كذلكَ يَرَيْنَ.

(1)

لا يداريكم وينتظر رضاكم كما يفعل المسلمون اليوم.

(2)

(ضعيف). رواه: أحمد (6/ 450)، والبخاري في "التاريخ"(8/ 355)، والبزّار (2845 - كشف)، والطبراني في "الأوسط"(3276) و "الشاميين"(2050)، والحاكم (1/ 348 و 499)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 227، 5/ 243)، والبيهقي في "الشعب"(4482 و 9953)؛ من طريق أبي حلبس يزيد بن ميسرة، سمعت أمّ الدرداء، سمعت أبا الدرداء

رفعه.

قال الحاكم: "على شرط البخاري"، ووافقه المنذري والذهبي. وقال الهيثمي (10/ 71):"رجال الصحيح غير الحسن بن سوار وأبي حلبس يزيد بن ميسرة، وهما ثقتان". قلت: الحسن صدوق توبع. وأبو حلبس تابعيّ شاميّ مشهور، روى عنه جماعة من الثقات الأجلّة، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وترجم له صاحب "الحلية" بما يفيد صلاحه في نفسه، فحقّه أن يحسّن له، لولا أنّه أكثر من قراءة كتب أهل الكتاب ورواية أخبارهم ومواعظهم ولم يعن بالحديث المرفوع فلا يعرف له إلّا حديثان، وعلى هذا فلا يطمئنّ القلب إلى تقوية ما تفرّد بإسناده من جنس الإسرائيليّات إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنّ الفصل بين المرفوع والخبر الإسرائيليّ يحتاج إلى الثقات الأثبات. والله أعلم.

ص: 213

والرُّؤيا هنا إنْ أُريدَ بها رؤيا المنامِ:

فقدْ رُوِيَ أنَّ آمِنَةَ بنتَ وَهْبٍ رَأتْ في أوَّلِ حملِها بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّها بُشِّرَتْ بأنَّهُ يَخْرُجُ منها عندَ ولادتِها نورٌ تُضيءُ لهُ قصورُ الشَّامِ

(1)

.

ورَوى الطَّبَرانِي بإسنادِهِ: عن أبي مَرْيَمَ

(2)

الكِنْدِيِّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ سُئِلَ: أيُّ شيءٍ كانَ أوَّل مِن أمرِ نبوَّتكَ؟ قالَ: "أخَذَ اللهُ منِّي الميثاقَ كما أخَذَ مِن النَّبيِّينَ ميثاقَهُم (وتَلا: {[وَإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ ميثاقَهُمْ]

(3)

وَمِنْكَ وَمِنْ نوحٍ} الآيةَ [الأحزاب: 7])، وبُشرى المسيحِ بن مَرْيَمَ، ورَأتْ أُمُّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في منامِها أنَّهُ خَرَجَ مِن بين يديها سراجٌ أضاءَتْ لها منهُ قصورُ الشَّامِ". ثمَّ قالَ:"ووراءَ ذلكَ"؛ مرَّتينِ أو ثلاثًا

(4)

.

* وإنْ أُريدَ بها رؤيةُ عينٍ: كما قالَ ابنُ عَبَّاسٍ في قولِ اللهِ تَعالى {وَما جَعَلْنا الرُّؤيا التي أرَيْناكَ إلَّا فِتْنةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]: إنَّها رؤيةُ عينٍ أُرِيَها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ أُسْرِيَ بهِ؛ فقدْ رُوِيَ أن آمِنَةَ رَأتْ ذلكَ عندَ ولادةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.

قالَ ابنُ إسْحاقَ: كانَتْ آمِنَةُ بنتُ وَهْبٍ تُحَدِّثُ أنَّها أُتِيَتْ حينَ حَمَلَتْ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقيلَ لها: إنَّكِ حَمَلْتِ بسيِّدِ هذهِ الأُمَّةِ، فإذا وَقَعَ إلى الأرضِ؛ فقولي: أُعيذُهُ

(1)

ذكره ابن إسحاق في "السيرة"(ص 22/ نصّ 28) بغير سند، وسيأتي لفظه في الصفحة التالية.

وفي استشهاد المصنّف يرحمه الله به هنا نظر؛ لأنّ البشارة بخروج النور - إن صحّت - دليل على أنّ النور سيخرج حقيقة عند الولادة. نعم؛ يمكن أن يستشهد للرؤيا المناميّة بحديث خالد بن معدان الصحيح عن نفر من الصحابة، وقد تقدّم تفصيل القول فيه (ص 201). ويستأنس لها أيضًا بحديث شدّاد بن أوس عند: ابن جرير (1/ 456)، وابن عساكر (4/ 466 - 470)؛ على ضعف فيه.

(2)

في خ وم: "عن أبي مرّة"، والصواب ما أثبتّه من ن وط، وهو صحابيّ اسمه عمرو بن مرّة، ولعلّه من هنا جاء التحريف. والله أعلم.

(3)

ليست في خ وم ون، استفدتها من ط و"المعجم الكبير".

(4)

(حسن بشواهده). رواه: ابن أبي عاصم في "المولد"(2/ 292 - بداية) و"الآحاد"(2446)، والطبراني في "الكبير"(22/ 333/ 835) و "الشاميّين"(984)، وابن مردويه (الأحزاب 7 - الدرّ)، وأبو نعيم في "الدلائل"؛ من طريق بقيّة، ثنا صفوان بن عمرو، عن حجر بن مالك (وقال الطبراني: حجر بن حجر) الكندي، عن أبي مريم الكندي

رفعه. قال الهيثمي (8/ 227): "رجاله وثّقوا". قلت: حجر بن حجر مجهول أن وثّقه ابن حبّان.

لكن يشهد لأوّله حديث أُبيّ بن كعب عند ابن أبي عاصم في "السنّة"(407)، ولآخره حديث العرباض المتقدّم أوَّل هذا المجلس وشواهده المذكورة فيه، فهو حسن بهذه الشواهد.

ص: 214

بالواحدِ مِن شرِّ كلِّ حاسدٍ، وآيةُ ذلكَ أنْ يَخْرُجَ معَهُ نورٌ يَمْلأُ قصورَ بُصْرى مِن أرضِ الشَّامِ، فإذا وَقَعَ؛ [فـ]ـسَمِّيهِ مُحَمَّدًا؛ فإنَّ اسمَهُ في التَّوراةِ أحْمَدُ يَحْمَدُهُ أهلُ السَّماءِ وأهلُ الأرضِ، واسمُهُ في الإنجيلِ أحْمَدُ يَحْمَدُهُ أهلُ السَّماءِ وأهلُ الأرضِ، واسمُهُ في القرآنِ مُحَمَّد

(1)

.

وذَكَرَ ابنُ سَعْدٍ عن الواقِدِيِّ بأسانيدَ [لهُ] متعدِّدةٍ؛ أن آمِنَةَ بنتَ وَهْب قالَتْ: لقدْ عَلِقْتُ بهِ (تَعْني: النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم)، فما وَجَدْتُ لهُ مشقَّةً حتَّى وَضَعْتُهُ، فلمَّا فُصِلَ منِّي؛ خَرَجَ معَهُ نورٌ أضاءَ لهُ ما بينَ المشرقِ إلى المغرب، ثمَّ وَقَعَ إلى الأرضِ

(2)

معتمدًا على يديهِ، ثمَّ أخَذَ قبضةً مِن التُّرابِ فقَبَضها ورَفَعَ رأسَهُ إلى السَّماءِ. وفي حديثِ بعضِهِم: وَقَعَ جاثيًا على ركبتيهِ، وخَرَجَ معَهُ نور أضاءَتْ لهُ قصورُ الشَّامِ وأسواقُها، حتَّى رُئِيَتْ أعناق الإبلِ ببُصْرى، رافعًا رأْسَهُ إلى السَّماءِ

(3)

.

ورَوى البَيْهَقِيُّ بإسنادهِ: عن عُثْمانَ بن أبي العاصِ، حَدَّثَتْني أُمِّي؛ أنَّها شَهِدَتْ ولادةَ آمِنَةَ بنتِ وَهْبٍ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ وَلَدَتْهُ؛ قالَتْ: فما شيءٌ أنْظُرُ إليهِ مِن البيتِ إلَّا نورٌ، وإنِّي أنْظُرُ إلى النُّجومِ تَدْنو حتَّى إنِّي لأقولُ: لَيَقَعُنَّ عليَّ

(4)

.

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ مِن حديثِ: عُتْبَةَ بن عَبْدٍ السُّلَمِيِّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أن أُمَّهُ

(1)

(ضعيف). ذكره ابن إسحاق في "السيرة"(ص 22/ نصّ 28) بغير سند. وعنه: ابن هشام (1/ 293)، وابن جرير في "التاريخ"(1/ 453)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 82 و 111)، وابن عساكر في "التاريخ"(3/ 82). ورواه ابن سعد (1/ 98) مسندًا من طريق الواقدي، والواقديّ متّهم لا يفرح بمسنداته.

(2)

في خ ون: "على الأرض"، والأولى ما أثبتّه من م وط.

(3)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن سعد في "الطبقات"(1/ 101 و 150 و 151)، وابن عساكر (3/ 79 و 86)؛ من طريق الواقدي بأسانيد له خمسة، وأسانيد الواقدي ممّا لا يفرح به لتهمته، وتفرّده بالأسانيد الكثيرة لمتن ما لا يزيد المرء إلَّا ارتيابًا به وترجيحًا لعدم صحَّته.

(4)

(موضوع). رواه: الطبري في "التاريخ"(1/ 454)، والطبراني في "الكبير"(25/ 147/ 355)، وأبو نعيم في "الدلائل"(76)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 110)، وابن عساكر (3/ 78)؛ من طريق يعقوب بن محمّد الزهري، ثنا عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن ابن أبي سويد الثقفي، عن عثمان

به.

قال الهيثمي (8/ 223): "فيه عبد العزيز بن عمران وهو متروك". قلت: والزهريّ ليّن، وعبد الله بن عثمان مجهول، وابن أبي سويد - وهو محمّد - مجهول أيضًا. فالسند ساقط، والمتن شبه الموضوع.

ص: 215

قالَتْ: إنِّي رَأيْتُ خَرَجَ منِّي نورٌ أضاءَتْ منهُ قصورُ الشَّامِ

(1)

.

ورَوى: ابنُ إسْحاقَ، عن جَهْمِ بن أبي جَهْمٍ، عن عَبْدِ اللهِ بن جَعْفَرٍ، عمَّن حَدَّثَ، عن حَليمَةَ أُمِّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم التي أرْضَعَتْهُ، أن آمِنَةَ بنتَ وَهْبٍ حَدَّثَتْها؛ قالَتْ: إنِّي حَمَلْتُ بهِ فلمْ أرَ حملًا قطُّ كانَ أخفَّ عليَّ منهُ ولا أعظمَ بركةً منهُ، لقد رَأيْتُ نورًا كأنَّهُ شهابٌ خَرَجَ منِّي حينَ وَضَعْتُهُ، أضاءَتْ لهُ أعناقُ الإبلِ ببُصْرى

(2)

.

وخروجُ هذا النُّورِ عندَ وضعِهِ إشارةٌ إلى ما يَجيءُ بهِ مِن النُّورِ الذي اهْتَدى بهِ أهلُ الأرضِ وزالَ بهِ ظلمةُ الشِّركِ منها: كما قالَ تَعالى: {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نورٌ وَكِتابٌ مُبينٌ. يَهْدي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ

(1)

(حسن صحيح). قطعة من حديث طويل رواه: يحيى بن معين في "التاريخ"(220)، وأحمد (4/ 184)، والدارمي (1/ 8)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(1369 و 1370)، والطبراني في "الكبير"(17/ 131/ 323) و"الشاميّين"(1181)، والحاكم (2/ 616)، والبيهقي في "الدلائل"(2/ 7)، وابن عساكر (3/ 464)؛ من طريق بقيّة بن الوليد، ثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو بن عبسة، عن عتبة بن عبد السلمي

رفعه في سياق.

قال الهيثمي: "إسناد أحمد حسن". قلت: صرّح بقيّة بالتحديث، وسائر السند بين ثقة وصدوق معروفون برواية أحدهم عن الآخر، فالسند حسن، وقد تقدّمت في هذا المجلس شواهد عدّة تصحّحه.

(2)

(ضعيف). قطعة من حديث رضاع النبي صلى الله عليه وسلم. وقد رواه: ابن إسحاق في "السيرة"(ص 26/ نصّ 32). وعنه: ابن هشام (1/ 298)، وأبو يعلى (7163)، والطبري في "التاريخ"(1/ 455)، وابن حبّان (6335)، والطبراني (24/ 212/ 545)، والآجرّي في "الشريعة"(977)، وأبو نعيم في "الدلائل"(94)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 133)، وابن عساكر (3/ 88 - 92)، والرافعي في (2/ 448)، وابن الأثير (5/ 252)؛ عن ابن إسحاق، ثني جهم بن أبي جهم، عن عبد الله بن جعفر، عن حليمة السعديّة

به.

قال الهيثمي (8/ 224): "رواه أبو يعلى والطبراني بنحوه؛ إلّا أنّه قال: حدّثتني حليمة بنت أبي ذؤيب، ورجالهما ثقات". قلت: صرّح ابن إسحاق بالتحديث. وجهم لا بأس بحديثه، لكن جاء في كثير من مصادر الحديث:"حدّثني من سمع عبد الله بن جعفر"، فالظاهر أنّه لم يسمع منه. وأمّا تصريح عبد الله بن جعفر بسماعه من حليمة ففيه نظر، وقد وقع في كثير من مصادر الحديث:"حُدّثت عن حليمة"، وليس بالقادح، فمراسيل الصحابة مقبولة، وإنّما القادح هنا الانقطاع بين جهم وابن جعفر، فالسند ضعيف.

قال ابن كثير: "قد روي من طرق أُخر، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي". قلت: أمّا عن حليمة؛ فلم أقف له على طريق أُخرى. وأمّا عن غيرها؛ فبأسانيد الواقدي الساقطة. نعم؛ خروج النور قد صحّ من غير ما وجه، وأمّا غالب تفاصيل الحديث وكلام آمنة بنت وهب؛ فلم أقف له على شاهد يصلح للتقوية، وإنما هي مراسيل مختصرة لعلّ مرجعها إلى هذه الطريق.

ص: 216

بِإذْنِهِ وَيَهْديهِمْ إلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ} [المائدة: 15 - 16]. وقالَ تَعالى: {فَالَّذينَ آمَنوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذي أُنزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ المُفْلِحونَ} [الأعراف: 157].

وفي هذا المعنى يَقولُ العَبَّاسُ في أبياتِهِ المشهورةِ السَّائرةِ:

وَأنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أشْرَقَتِ الْـ

أرْضُ وَضَاءَتْ بِنُورِكَ الأُفُقُ

فنَحْنُ في ذلِكَ الضِّياءِ وَفي الْـ

ـنُّورِ وَسُبْلِ الرَّشادِ نَخْتَرِقُ

• وأمَّا إضاءَةُ قُصورِ بُصْرى بالنُّورِ الذي خَرَجَ معَهُ؛ فهوَ إشار إلى ما خَصَّ الشَّامَ مِن نورِ نبوَّتهِ؛ فإنَّها دارُ ملكِهِ - كما ذَكَرَ كَعْبٌ أن في الكتبِ السَّابقةِ: مُحَمَّدٌ رسولُ اللهِ، مولدُهُ بمكَّةَ، ومهاجَرُهُ يَثْرِبُ، وملكُهُ بالشَّامِ -، فمِن مكَّةَ بُدِئَتَ نبوَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وإلى الشَّامِ يَنْتَهي ملكُهُ. ولهذا أُسْرِيَ بهِ صلى الله عليه وسلم إلى الشَّامِ إلى بيتِ المقدسِ كما هاجَرَ إبْراهيمُ مِن قبلِهِ إلى الشَّامِ.

قالَ بعضُ السَّلفِ: ما بَعَثَ اللهُ نبيًّا إلَّا مِن الشَّامِ، فإنْ لمْ يُبْعَثْ منها؛ هاجَرَ إليها

(1)

.

وفي آخرِ الزَّمانِ يَسْتَقِرُّ العلمُ والإيمانُ بالشَّامِ، فيَكونُ نورُ النُّبوَّةِ فيها أظهرَ منهُ في سائرِ بلادِ الإسلامِ.

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ مِن حديثِ عَمْرِو بن العاصِ وأبي الدَّرْداءِ والحاكِمُ مِن حديثِ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرِو بن العاصِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"رَأيْتُ عمودَ الكتابِ انْتُزِعَ مِن تحتِ وسادتي، فأتْبَعْتُهُ بصري، فإذا هوَ عمودٌ ساطع عُمِدَ بهِ إلى الشَّامِ. ألا وإنَّ الإيمانَ إذا وَقَعَتِ الفتنُ بالشَّامِ"

(2)

.

(1)

هذا يحتاج إلى دليل يتعيّن المصير إليه، وهيهات!

(2)

(صحيح). وقد جاء عن جماعة من الصحابة:

* فرواه: أحمد (4/ 198)، والطبراني في "الشاميّين"(1357)، وابن عساكر (1/ 108)؛ من طريق إسماعيل بن عيّاش، عن عبد العزيز بن عبيد الله، عن عبد الله بن الحارث، سمعت عمرو بن العاص

رفعه. قال الهيثمي في "المجمع"(10/ 60): "فيه عبد العزيز بن عبيد الله وهو ضعيف". قلت: منكر الحديث شبه المتروك، وقد تفرّد بهذا عن عمرو بن العاص، فحديثه واهٍ يغني عنه ما بعده.

ص: 217

وفي "المسند" والتِّرْمِذِيِّ

(1)

وغيرِهِما: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:"سَتكونُ هجرةٌ بعدَ هجرةٍ، فخيارُ أهلِ الأرضِ ألزمُهُم مهاجَرَ إبْراهيمَ (يَعْني: الشَّامَ) "

(2)

.

وبالشَّامِ يَنْزِلُ عيسى بنُ مَرْيَمَ عليه السلام في آخرِ الزَّمانِ، وهوَ المبشِّرُ بمُحَمَّدٍ

=* ورواه: أحمد في "المسند"(5/ 198) و"فضائل الصحابة"(1717)، ويعقوب بن سفيان (2/ 290)، والبزّار (3332 - كسْف)، والطبراني في "الشاميّين"(449 و 1198)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 98)، والبيهقي (1/ 107 - عساكر)، وابن عساكر (1/ 106 - 108)؛ من طريق يحيى بن حمزة، ثنا زيد بن واقد، ثنا بسر بن عبيد الله، ثني أبو إدريس الخولاني، عن أبي الدرداء

رفعه. قال أبو نعيم: "لم نكتبه إلّا من حديث يحيى بن حمزة". قلت: هو ثقة من رجال الشيخين لا يضرّه التفرّد. وقال الهيثمي (7/ 292، 10/ 60): "رجال الصحيح". قلت: ثقات رجال البخاري.

* ورواه: يعقوب بن سفيان (2/ 290 و 291 و 300 و 523)، والحارث (1041 - زوائد)، والطبراني في "الأوسط"(2710) و"الشاميّين"(308 - 310)، والحاكم (4/ 509)، وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 252)، والبيهقي في "الدلائل"(6/ 447 و 448)، وابن عساكر (1/ 102 - 105)، والذهبي في "النبلاء"(8/ 37)؛ من طرق، عن ابن عمرو

رفعه. صحّحه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه المنذري والذهبي. وقال الهيثمي (10/ 61): له "أسانيد، في أحدها ابن لهيعة وهو حسن الحديث، وقد توبع على هذا، وبقيّة رجاله رجال الصحيح". قلت: له أكثر من سند صحيح.

* وفي الباب عن عمر بن الخطّاب وأبي أُمامة الباهلي وعبد الله بن حوالة الأزدي وغيرهم.

(1)

كذا قال! ولم أقف عليه عند الترمذيّ!

(2)

(حسن بشواهده). رواه: معمر في "الجامع"(20790)، والطيالسي (2293)، ونعيم في "الفتن"(1308 و 1348 و 1758 و 1765)، وأحمد (2/ 84 و 198 و 209)، وأبو داوود (9 - الجهاد، 3 - سكنى الشام، 2/ 6/ 2482)، وابن جرير (27730)، والطبراني في "الأوسط"(6787)، والحاكم (4/ 486)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 53 و 66)، والبغوي في "السنّة"(4008)، وابن عساكر (1/ 160 - 162)؛ من طرق، عن شهر بن حوشب، عن ابن عمرو

رفعه. هذا هو المعتمد المعروف في سند هذا الحديث، وخالف بعض الضعفاء فيه بما لا يضرّ. وقد سكت عنه الحاكم والذهبي، وقال الهيثمي (6/ 231):"شهر ثقة، وفيه كلام لا يضرّ". قلت: بلى؛ قد ضرّه الكلام وحطّه عن رتبة الحسن، فرواياته لا تعدو أن تكون صالحة في الشواهد. قال الهيثمي:"وبقيّة رجاله رجال الصحيح".

ورواه: ابن عبد الحكم في "فتوح مصر"(ص 232) مختصرًا، ومن طريقه الحاكم (4/ 510)؛ عن عبد الله بن صالح، ثنا موسى بن عليّ بن رباح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن عمرو بن العاص

رفعه. قال الحاكم: "على شرط الشيخين "، ووافقه الذهبي. قلت: حديث ابن صالح صالح في الشواهد.

ورواه: ابن صاعد (1/ 163 - ابن عساكر)، ويعقوب بن سفيان (1/ 163 - ابن عساكر)؛ من طريق قويّة، عن الأوزاعي، [عمّن حدّثه]، عن نافع، عن ابن عمر

رفعه بنحوه. وفيه رجل مبهم.

ويشهد لمعناه حديث عبد الله بن حوالة الآتي بعده.

والحديث حسن بمجموع طرقه، وقد قوّاه الحاكم والذهبي والهيثمي والعسقلاني، وضعّفه الألباني.

ص: 218

- صلى الله عليه وسلم، فيُقَرِّرُ عندَ نزولِهِ دينَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، ويَحْكُمُ بهِ، ولا تقْبَلُ مِن أحدٍ غيرَ دينِهِ، فيَكْسِرُ الصَّليبَ، ويقْتُلُ الخنزيرَ، ويَضَعُ الجزيةَ، ويُصَلِّي خلفَ إمامِ المسلمينَ، ويَقولُ: إن هذهِ الأُمَّةَ أئمَّة بعضُهُم لبعض؛ إشارةً إلى أنَّهُ متَبعٌ لدينِهِم غيرُ ناسخٍ لهُ.

والشَّامُ هيَ في آخرِ الزَّمانِ أرضُ المحشرِ والمنشرِ، فيُحْشَرُ النَّاسُ إليها قبلَ القيامةِ مِن أقطارِ الأرضِ، فيُهاجِرُ خيارُ أهلِ الأرضِ إلى مهاجَرِ إبراهيمَ - وهيَ أرضُ الشَّامِ - طوعًا، كما تَقَدَّمَ أن خيارَ أهلِ الأرضِ ألزمُهُم مهاجَرَ إبْراهيمَ.

وقالَ صلى الله عليه وسلم: "عليكُم بالشَّامِ، فإنَّها خيرةُ اللهِ مِن أرضِهِ يَجْتَبي إليها خيرتَهُ مِن عبادهِ"

(1)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ وأبو داوودَ وابنُ حِبَّانَ والحاكِمُ في "صحيحيهِما".

وقالَ أبو أُمامَةَ: لا تَقومُ السَّاعةُ حتَّى يَنْتَقِلَ خيارُ أهلِ العراقِ إلى الشَّامِ وشرارُ أهلِ الشَّامِ إلى العراقِ

(2)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ.

وقد ثَبَتَ في الصَّحيحينِ

(3)

عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ قالَ: "لا تَقومُ السَّاعةُ حتَّى تَخْرُجَ

(1)

(صحيح). قطعة من حديث ابن حوالة في الأجناد الذي رواه: أحمد في "المسند"(4/ 110، 5/ 288) و"الصحابة"(1704 و 1707)، والبخاري في "التاريخ"(1/ 292، 5/ 33)، وأبو داوود (9 - الجهاد، 3 - سكنى الشام، 2/ 6/ 2483)، والفسوي (2/ 288)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2295)، والطحاوي في "المشكل"(2/ 35)، وابن قانع (2/ 89/ 532)، وابن حبّان (7306)، والطبراني في "الشاميّين"(292 و 337 و 570 و 601 و 1054 و 1172)، والحاكم (4/ 510)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 3) و"الدلائل"(478)، والداني في "الفتن"(499 و 500)، والبيهقي (9/ 179) وفي "الدلائل"(6/ 327)، وابن عساكر (1/ 69 - 77)، والضياء في "المختارة"(9/ 271/ 231 - 237 و 240 و 241 و 246)، والمزّي (27/ 360)؛ من طرق كثيرة، عن عبد الله بن حوالة الأزدي

رفعه مطوّلًا ومختصرًا.

وللحديث أكثر من طريق صحيحة لذاتها، وهو بمجموع طرقه صحيح غاية، وقد صحّحه أبو حاتم الرازي وابن حبّان والحاكم والضياء المقدسي والمنذري والذهبي والهيثمي والألباني.

(2)

(ضعيف). رواه: نعيم بن حمّاد في "الفتن"(1762)، وابن أبي شيبة (37739)، وأحمد (5/ 249)، والبخاري في "التاريخ"(8/ 446)، وابن عساكر؛ من طريق حمّاد بن سلمة، عن الجريري، عن لقيط بن مشّاء أبي المشّاء، عن أبي أمامة

فذكره موقوفًا ومرفوعًا.

وهذا سند ضعيف: الجريريّ تغيّر وخلّط ورواية حمّاد بن سلمة عنه قبل الاختلاط وبعده، ولقيط فيه ضعف وجهالة، وقد اضطرب فيه وقفًا ورفعًا.

(3)

البخاري (92 - الفتن، 24 - خروج النار، 13/ 78/ 7118)، ومسلم (52 - الفتن، 14 - لا تقوم الساعة حتّى تخرج نار، 4/ 2227/ 2902).

ص: 219

نارٌ مِن أرضِ الحجازِ فتُضيءَ لها أعناقُ الإبلِ ببُصْرى". وقد خَرَجَتْ هذهِ النَّارُ بالحجازِ بقربِ المدينةِ، ورُئِيَتْ أعناقُ الإبلِ مِن ضوئِها ببُصْرى في سنةِ أربعٍ وخمسينَ وستِّ مئةٍ، وعَقِيبَهُما جَرَتْ واقعةٌ ببَغْدادَ وقُتِلَ بها الخليفةُ وعامَّةُ مَن كانَ ببغدادَ، وتكاملَ خرابُ أرضِ العراقِ على أيدي التَّتارِ، وهاجَرَ خيارُ أهلِها إلى الشَّامِ مِن حينئذٍ

(1)

.

فأمَّا شرارُ النَّاسِ؛ فتَخْرُجُ نارٌ في آخرِ الرمانِ تَسوقُهُمْ إلى الشَّامِ قهرًا حتَّى يَجْتَمعَ النَّاسُ كلُّهُم بالشَّامِ قبلَ قيامِ السَّاعةِ.

وفي "سنن أبي داوودَ": عن أبي الدَّرْداءِ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، قالَ:"إنَّ فُسْطاطَ المسلمينَ يومَ الملحمةِ بالغوطةِ إلى جانبِ مدينةٍ يقالُ لها: دِمَشْقُ، مِن خيرِ مدائنِ الشَّامِ". وخَرَّجَهُ الحاكِمُ ولفظُهُ: "خيرُ منازلِ المسلمينَ يومئذٍ"

(2)

.

• إخواني! مَن كانَ مِن هذهِ الأُمَّةِ؛ فهوَ مِن خيرِ الأُممِ عندَ اللهِ. قالَ تَعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} . وقالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتُم تُوفُونَ سبعينَ أُمَّةً، أنتُم خيرُها وأكرمُها على اللهِ تَعالى"

(3)

.

(1)

تنزيل الغيبيّات وأشراط الساعة على حوادث بعينها لا يخلو من نظر، وقد دلّت الحقائق الواقعيّة في أغلب الأحيان على عدم صحّة ذلك، وهذا منها، والله أعلى وأعلم.

(2)

(صحيح). رواه: أحمد (5/ 197)، وأبو داوود (31 - الملاحم، 16 - المعقل من الملاحم، 2/ 514/ 4298)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ"(2/ 290)، والطبراني في "الأوسط"(3229) و"الشاميّين"(589 و 1313)، والحاكم (4/ 486)، وابن عساكر في "التاريخ"(1/ 230 - 233)؛ من طرق، عن زيد بن أرطاة، سمعت جبير بن نفير، سمعت أبا الدرداء

رفعه.

وهذا سند صحيح، رجاله ثقات، والطرق إلى زيد بعضها صحيح لذاته، فكيف بها مجتمعة؟! فكيف وله شواهد عن جماعة من الصحابة؟! ولذلك صحّحه الحاكم ووافقه المنذري والذهبي والألباني.

(3)

(صحيح بشواهده). وقد جاء عن جماعة من الصحابة وغيرهم:

* فرواه الطرسوسي في "مسند ابن عمر (24): ثنا محمد بن سعيد بن زياد، ثنا سعيد بن راشد، ثنا عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر

رفعه. ومحمّد وسعيد متروكان، والسند ساقط.

* ورواه ابن جرير (7621) من طريق قويّة عن قتادة

مرسلًا.

* ورواه: ابن معمر في "الجامع"(20720)، وأحمد (3/ 61)، والبغوي في "السنّة"(4039)؛ من طريق ابن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد

رفعه. وابن جدعان مضعّف، فالسند كذلك.

* ورواه: نعيم في "زوائد الزهد"(382)، وأحمد في "المسند"(4/ 446 و 447، 5/ 3 و 5) و"الفضائل"(1710)، وعبد بن حميد (409 و 411)، والدارمي (2/ 313)، وابن ماجه (37 - الزهد، 34 - =

ص: 220

لمَّا كانَ هذا الرَّسولُ النَّبيُّ الأُمِّيُّ خيرَ الخلقِ وأفضلَم عندَ اللهِ سبحانَهُ؛ كانَتْ أُمَّتُهُ خيرَ أُمَّةِ وأفضلَها، فما يَحْسُنُ بمَن كانَ مِن خيرِ الأممِ وانْتَسَبَ إلى متابعةِ خيرِ الخلقِ وأفضلِهِم -[و] خصوصًا مَن كانَ يَسْكُنُ خيرَ منازلِ المسلمينَ في آخرِ الزَّمانِ - إلَّا أنْ يَكونَ متَّصفًا بصفاتِ الخيرِ مجتنبًا لصفاتِ الشَّرِّ، وقبيحٌ بهِ أنْ يَرْضى لنفسِهِ أنْ يَكونَ مِن شرارِ النَّاسِ معَ انتسابِهِ إلى خيرِ الأُممِ ومتابعةِ خيرِ الرُّسلِ.

قالَ اللهُ تَعالى: {إنَّ الَّذينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} [البيّنة: 7]. فخيرُ النَّاسِ مَن آمَنَ وعَمِلَ صالحًا.

وقالَ تَعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أخرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرونَ بِالمَعْروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110].

وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: "خيرُ النَّاسِ مَن فَقُهَ في دينِ اللهِ ووَصَلَ رَحِمَهُ وأمَرَ بالمعروفِ ونَهى عن المنكرِ"

(1)

. وفي روايةٍ: "خيرُ النَّاسِ أتقاهُم للرَّبِّ وأوصلُهُم للرَّحمِ وآمَرُهُم بالمعروفِ وأنهاهُمْ عن المنكرِ"

(2)

.

= صفة أُمّة محمّد، 2/ 1433/ 4287 - 4288)، والترمذي (48 - التفسير، 4 - آل عمران، 5/ 226 / 3001)، والنسائي في "الكبرى"(11431)، والروياني (921 و 924 و 937)، وابن جرير (7619 و 7620 و 30489)، والطبراني في "الكبير"(19/ 419/ 1012 و 1023 - 1025 و 1030 و 1036 - 1038) و"الأوسط"(1437 و 6398)، والحاكم (4/ 84)، والبيهقي (9/ 5)، والرافعي في "التدوين"(2/ 262)؛ من طرق خمس قويّة، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه

رفعه. وحكيم صدوق، فالسند حسن.

فهاهنا أربعة أوجه: الأوّل منها ساقط، والثاني والثالث ضعيفان، والرابع حسن لذاته، والحديث صحيح بمجموع هذه الأوجه لا ريب، وقد قوّاه الترمذي والحاكم والذهبي وابن القيّم وابن كثير والهيثمي والألباني، وقال العسقلاني:"حسن صحيح".

(1)

(ضعيف). لم أقف عليه بهذا اللفظ، لكنّ صنيع المصنّف يدلّ على أنّه أحد ألفاظ الحديث الآتي بعده، فله حكمه على الأغلب.

(2)

(ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة (25388 و 37569)، وأحمد في "المسند"(6/ 431 و 432) و"الزهد"(1175)، وابن أبي الدنيا في "الأمر بالمعروف"(2093 - ضعيفة)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(3166 و 3167)، والطبراني (24/ 257/ 657)، وابن منده في "الصحابة"(4/ 298 - إصابة)، والبيهقي في الشعب (7950) و"الزهد"(877)، وابن عبد البرّ في "الاستيعاب"(4/ 298)؛ من طرق، عن شريك، عن سماك، عن عبد الله بن عميرة، عن زوج درّة، عن درّة بنت أبي لهب

رفعته.

قال الهيثمي (7/ 266، 9/ 261): "رجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يضرّ". قلت: بل يضرّ والله:=

ص: 221

وقالَ عليه السلام: "النَّاسُ معادنُ، فخيارُهُم في الجاهليَّةِ خيارُهُم في الإسلامِ إذا فَقُهوا"

(1)

.

وقالَ عليه السلام: "خيرُ النَّاسِ مَن طالَ عمرُهُ وحَسُنَ عملُهُ، وشرُّ النَّاسِ مَن طالَ عمرُهُ وساءَ عملُهُ"

(2)

.

وقالَ: "خيرُكُمْ مَن يُرْجى خيرُهُ ويُؤْمَنُ شرّهُ، وشرُّكُمْ مَن لا يُرْجى خيرُهُ ولا يُؤْمَنُ شرُّهُ"

(3)

.

= شريك سيئ الحفظ، وسماك تغيّر وصار يتلقّن، وابن عميرة مجهول لم يرو عنه إلّا سماك ولم يوثّقه إلّا ابن حبّان، وزوج درّة لا يعرف. وقد ضعّفه الألباني.

(1)

البخاري (60 - الأنبياء، 19 - لقد كان في يوسف، 6/ 417/ 3382)، ومسلم (44 - الصحابة، 48 - خيار الناس، 4/ 1958/ 2526)؛ من حديث أبي هريرة.

(2)

(صحيح بشاهده). رواه: الطيالسي (864)، وابن أبي شيبة (34413)، وأحمد (5/ 47 - 50)، والدارمي (2/ 308)، والترمذي (37 - الزهد، 22 - باب منه، 4/ 566/ 2330 و 3375)، والبزّار (3623)، والبيهقي في "الزهد"(620)، والبغوي (4095)، من طرق، عن علي بن زيد بن جدعان، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه

رفعه بنحوه. قال الترمذي: "حسن صحيح"، ووافقه البغوي والمنذري. قلت: ابن جدعان يضعِّف وحديثه من باب الحسن في الشواهد.

ورواه: أحمد (5/ 44 و 47)، والطبراني في "الأوسط"(5445) و"الصغير"(819)، والحاكم (1/ 339)، والبيهقي في "السنن"(3/ 371) و"الزهد"(620 و 621)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(20/ 252)؛ من طرق، عن الحسن، عن أبي بكرة

رفعه. قال الحاكم: "على شرط مسلم"، ووافقه المنذري والذهبي. قلت: قد عنعن الحسن على تدليسه.

وله شاهد صحيح عند: ابن أبي شيبة (34409)، وابن الجعد (3556)، وأحمد (4/ 188 و 190) وفي "الزهد"(188)، والطبراني في "الأوسط"(1464 وفي "الشاميّين" (1883 و 2008 و 2544 - 2547) و"الدعاء"(1854 و 1855)، والبيهقي (3/ 371) وفي "الشعب"(515)؛ من حديث عبد الله بن بسر.

وآخر ضعيف عند: ابن أبي شيبة (34411)، والبزّار (1971 - كشف)، وابن حبّان (484 و 2981)، والبيهقي (3/ 371) وفي "الزهد"(622)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 226)؛ من حديث أبي هريرة.

وثالث عند: عبد بن حميد (1086)، والحاكم (1/ 339)، والبيهقي (3/ 371)؛ من حديث جابر صحّحه الحاكم والذهبي على شرط مسلم.

والحديث صحيح بطريقيه وشواهده، وقد صحّحه الترمذي والبزّار والحاكم والبغوي والمنذري والذهبي والهيثمي والألباني.

(3)

(صحيح). رواه: أحمد (2/ 368 و 378)، والترمذي (34 - الفتن، 76 - باب 4/ 528/ 2263)، وابن حبّان (527 و 528)، والبيهقي في "الشعب"(11268)، والقضاعي (1246 و 1247)؛ من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة

رفعه. والعلاء وأبوه صدوقان فالسند حسن كما قال الترمذي.

ص: 222

وقال: "ألا أُخْبِرُكُم بخيارِكُم؟ ". قالوا: بلى. قال: "الذينَ إذا رُؤوا ذُكِرَ اللهُ، ألا أُنبِئُكُم بشرارِكُم؟ ". قالوا: بلى. قال: "المشَّاؤونَ بالنَّميمةِ، المفرِّقونَ بينَ الأحبَّةِ، الباغونَ للبُرَآءِ العَنَتَ

(1)

"

(2)

.

= ورواه: ابن أبي شيبة (34419)، وهنّاد في "الزهد"(1295)، والبيهقي في "الشعب"(11266 و 11267)؛ من طريق عبيد بن نسطاس، عن سعيد المقبري، [عن أبي هريرة]

رفعه. وهذا ضعيف من أجل عبيد هذا فإنّه مجهول.

وله شاهد من حديث أنس عند: أبي يعلى 3910)، وابن عدي (6/ 2323)، وأبي نعيم في "أصبهان"(2/ 216)؛ بسند ضعيف. وآخر من حديث جابر عند القضاعي (1248) بسند ضعيف أيضًا.

والحديث صحيح بطريقيه بله شواهده؛ وقد قوّاه الترمذي وابن حبّان والألباني.

(1)

في خ وم ون: "العيب"، والصواب ما أثبتّه من ط ومصادر التخريج.

(2)

(ضعيف). وقد جاء من أوجه:

* فأمّا الوجه؛ فاختلف فيه: فرواه أوَّلًا أحمد (4/ 227): ثنا سفيان، عن ابن أبي حسين، عن شهر، عن عبد الرحمن بن غنم

رفعه. ورواه ثانيًا: البيهقي في "الشعب"(6708) من طريق ابن لهيعة، ثني ابن عجلان، أنا ابن أبي حسين، عن ابن عمر

رفعه. ورواه ثالثًا: مسدّد (1465 - زجاجة)، وإسحاق (1/ 180/ 24)، وأحمد (6/ 459)، وعبد بن حميد (1580)، والبخاري في "الأدب"(323)، وابن ماجه (37 - الزهد، 5 - من لا يؤبه له، 2/ 1379/ 4119)، وابن أبي الدنيا في "الأولياء"(16) و"الصمت"(255)، والخرائطي في "المساوئ"(232)، والطبراني (24/ 167/ 423 - 425)، وأبو الشيخ في "التوبيخ "، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 6، 10/ 389)، والبيهقي (11107 و 11108)؛ من طريق عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن شهر، عن أسماء بنت يزيد بن السكن

رفعته. ورواه رابعًا الخرائطي في "المساوئ"(233) من طريق مسلسلة بالمجاهيل، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري

رفعه.

فرواية سفيان عن ابن أبي حسين أوثق من رواية ابن عجلان فضلًا عن ابن لهيعة، فالمعروف إذا عن ابن أبي حسين هو حديث ابن غنم وحديث ابن عمر منكر. وأيضا؛ رواية ابن أبي حسين عن شهر أصحّ من رواية ابن خثيم عن شهر، ولو كان شهر ثقة؛ لقلت: حفظه على الوجهين، ولكنّه مضطرب الحديث، فلزم الترجيح، فالمحفوظ عنه رواية ابن أبي حسين ورواية ابن خثيم شاذّة. وأيضًا؛ فرواية شهر عن ابن غنم أولى من رواية المجاهيل عنه في الطريق الرابعة، فالمعروف إذا حديث ابن غنم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وحديث الأشعريّ منكر. وعليه؛ فالعمدة هنا هي الطريق الأولى والطرق الأخرى بين شاذّ ومنكر، ثمّ هذه الطريق الأولى ضعيفة لحال شهر بن حوشب ولإرسال فيها على الأغلب.

* ورواه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 6) من طريق الهيّاج بن بسطام، عن مسعر بن كدام، عن بكير بن الأخنس، عن سعيد رضي الله عنه

رفعه بالقطعة الأولى فحسب. والهيّاج ضعيف.

* ورواه: ابن أبي الدنيا في "الصمت"(253)، والطبراني في "الأوسط"(7693) و"الصغير"(836)، والخطيب في "التاريخ"(5/ 263)؛ من طريق صالح المرّي، عن الجريري، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي هريرة

رفعه. قال الهيثمي: "فيه صالح بن بشير المرّي وهو ضعيف". قلت: شبه المتروك.=

ص: 223

وقالَ: "شرُّ النَّاسِ منزلةً عندَ اللهِ مَن تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقاءَ فحشِهِ"

(1)

.

وقالَ: "إنَّ مِن شرِّ النَّاسِ [يومَ القيامةِ] منزلةً عندَ اللهِ ذا الوجهينِ، الذي يَأْتي هؤلاءِ بوجهٍ وهؤلاءِ بوجهٍ"

(2)

.

وقالَ: "مِن شرِّ النَّاسِ منزلةً عندَ اللهِ يومَ القيامةِ عبدٌ أذْهَبَ آخرتَهُ بدنيا غيرِهِ"

(3)

.

وقالَ: "إنَّ مِن شرِّ النَّاسِ عندَ اللهِ منزلةً مَن يَقْرَأُ كتابَ اللهِ ثمَّ لا يَرْعَوي إلى ما فيهِ"

(4)

.

أعمالُ الأُمَّةِ تُعْرَضُ على نبيِّها في البَرْزَخِ

(5)

، فلْيَسْتَحِ عبدٌ أنْ يُعْرَضَ على نبيِّهِ مِن

= والجريريّ خلّط أخيرًا أو تغيّر.

* ورواه: البزار (2719)، والطبراني في "الكبير"(8/ 96 - مجمع)؛ من طريق يزيد بن ربيعة، عن يزيد بن أبي مالك، عن أبي الأزهر، عن عبادة

رفعه. قال الهيثمي: "فيه يزيد بن ربيعة وهو متروك".

فالأوّل ضعيف راجح الإرسال، والثاني مختصر ضعيف، والثالث والرابع ساقطان، فالضعف لازم لمجموع هذه الأسانيد الواهية، وقد ضعّفه العراقي والألباني.

(1)

رواه: البخاري (78 - الأدب، 38 - لم يكن صلى الله عليه وسلم فاحشًا، 10/ 452/ 6032)، ومسلم (45 - البرّ، 22 - مداراة من يتقى فحشه، 4/ 2002/ 2591)؛ من حديث عائشة.

(2)

رواه: البخاري (78 - الأدب، 52 - ما قيل في ذي الوجهين، 10/ 474/ 6058)، ومسلم (44 - الصحابة، 48 - خيار الناس، 4/ 1958/ 2526)؛ من حديث أبي هريرة.

(3)

(ضعيف). رواه: الطيالسي (2398)، وابن أبي شيبة في "المسند"(5931 - مصباح)، ومحمّد بن أبي عمر في "المسند"(5931 - مصباح)، والبخاري في "التاريخ"(6/ 128)، وابن ماجه (36 - الفتن، 11 - إذا التقى المسلمان، 2/ 1313/ 3966)، والطبراني (8/ 122/ 7559)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 65)، والقضاعي (1125)، والبيهقي في "الشعب"(6938)، من طريق عبد الحكم بن ذكوان السدوسي، [عن شهر بن حوشب]، عن أبي هريرة (وقال مرّة: عن أبي أُمامة)

رفعه.

قال البوصيري: "إسناد حسن". قلت: ابن ذكوان لا يعدو أن يكون مقبولًا في المتابعات، وشهر كذلك، والسند ضعيف، وقد ضعّفه الألباني.

(4)

(ضعيف). قطعة من حديث رواه: ابن المبارك في "الجهاد"(167)، وابن أبي شيبة (19502)، وأحمد (3/ 37 و 41 و 57)، وعبد بن حميد (989)، والنسائي في "الكبرى"(4314) و"المجتبى"(25 - الجهاد، 8 - فضل من عمل في سبيل الله، 6/ 11/ 3106)، والحاكم (2/ 67)، والبيهقي في "السنن"(9/ 160) و"الشعب"(2047 و 4290)، والمزّي في "التهذيب"(33/ 282)؛ من طريق يزيد بن أبي حبيب، [عن أبي الخير]، عن أبي الخطّاب، عن أبي سعيد

رفعه.

وهذا سند ضعيف من أجل أبي الخطّاب المصري؛ فإنّه مجهول، وقد ضعّفه الألباني.

(5)

هذه دعوى تفتقر إلى الأسانيد الصحيحة إلى من يتعيّن الأخذ بقوله! وقد طار بها أهل البدع=

ص: 224

عملِهِ ما نَهاهُ عنهُ.

لمَّا وَقَفَ صلى الله عليه وسلم عامَ حجَّةِ الوداع؛ قالَ: "إنِّي فَرَطُكُم على الحوضِ، وإنِّي مكاثرٌ بكُمُ الأُممَ، فلا تُسَوِّدوا وجهي"

(1)

. يُشيرُ إلى أنَّهُ صلى الله عليه وسلم يَسْتَحْي مِن سيِّئاتِ أُمَّتِهِ إذا عُرِضتْ عليهِ.

وقالَ: "لَيُؤْخَذَنَّ برجالٍ مِن أُمَّتي ذاتَ الشِّمالِ، فأقولُ: يا ربِّ أصحابي! فيُقالُ: إنَّكَ لا تَدْري ما أحْدَثوا بعدَكَ، فأقولُ: سحقًا سحقًا لمَن بَدَّلَ بعدي"

(2)

.

خيرُ هذهِ الأُمَّةِ أوَّلُها قرنًا: كما قالَ صلى الله عليه وسلم: "خيرُ القرونِ قرني، ثمَّ الذينَ يَلونَهُم، ثمَّ الذينَ يَلونَهُم"

(3)

. وقالَ: "بُعِثْتُ مِن خيرِ قرونِ بني آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا، حتَّى كُنْتُ مِن القرنِ الذي كُنْتُ منهُ"

(4)

.

كم قد جاءَ مدحُ أصحابِهِ في كتابِهِ: {مُحَمَّدٌ رَسولُ اللهِ وَالَّذينَ مَعَهُ أشِدَّاءُ عَلى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنينَ إذْ يُبايِعونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]. وخَصَّ الصِّدِّيقَ مِن بينِهِم بالصُّحبةِ بقولِهِ: {إذْ يَقولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنا} [التوبة: 45].

لمَّا جَلى الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم عروسَ الإسلامِ وأبرزَها للبصائرِ مِن خدرِها؛ أخْرَجَ أبو بكْرٍ

= ومخرّفو الصوفيّة كلّ مطار. وانظر لمزيد من التفصيل "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(975).

(1)

(صحيح). رواه: مسدّد في "مسنده"(1601 - مصباح)، وابن أبي شيبة (37169)، وأحمد (5/ 412)، وابن ماجه (25 - المناسك، 76 - الخطبة يوم النحر، 2/ 1016/ 3057)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2932)، والنسائي في "الكبرى"(4099)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(3/ 233)؛ من طريق عمرو بن مرّة، [سمعت مرّة] ثني رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم

رفعه.

قال البوصيري: "إسناده صحيح". قلت: ثقات رجال الستّة، وإثبات مرّة زيادة ثقات يتعيّن قبولها، وجهالة الصحابي لا تضرّ، وقد صرّح ابن ماجه بأنَّه ابن مسعود، وقد صحّحه الألباني.

(2)

رواه البخاري (81 - الرقاق، 53 - الحوض، 11/ 464/ 6583 و 6584)، ومسلم (43 - الفضائل، 9 - إثبات الحوض، 4/ 1793/ 2290 و 2291)؛ من حديث سهل وأبي سعيد.

(3)

رواه: البخاري (52 - الشهادات، 9 - لا يشهد على جور، 5/ 258/ 2651 و 2652) من حديث عمران وابن مسعود، ومسلم (44 - الصحابة، 52 - فضل الصحابة، 4/ 1962/ 2533 - 2536) من حديث ابن مسعود وأبي هريرة وعمران وعائشة.

(4)

رواه البخاري (61 - المناقب، 23 - صفته صلى الله عليه وسلم، 6/ 566/ 3557) من حديث أبي هريرة.

ص: 225

مالَهُ كلَّهُ نثارًا لهذهِ العروسِ، فأخْرَجَ عُمَرُ النِّصفَ موافقةً لهُ، فقامَ عُثْمانُ بوليمةِ العرسِ فجَهَّزَ جيشَ العسرةِ، فعَلِمَ عَلِيٌّ رضي الله عنه أن الدُّنيا ضرَّةُ هذهِ العروس وأنَّهُما لا يَجْتَمِعانِ فبَتَّ طلاقَها ثلاثًا.

فالحمدُ للهِ الذي خَصَّنا بهذهِ الرَّحمة، وأسْبَغَ علينا هذهِ النِّعمة، وأعْطانا ببركةِ نبيِّنا هذهِ الفضائلَ الجمَّة، فقالَ لنا:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [أُخْرِجَتْ لِلنَّاس]} [آل عمران: 110].

مِن أينَ في الأُممِ مثلُ أبي بَكْرٍ الصِّدِّيق، أو عُمَرَ الذي ما سَلَكَ طريقًا إلَّا هَرَبَ الشَّيطانُ مِن ذلكَ الطَّريق، أو عُثْمانَ الصَّابرِ على مُرِّ الضِّيق، أو عَلِيٍّ بحرِ العلمِ العميق، أو حَمْزَةَ والعَبَّاس؟! {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاس} .

أفيهِم مثلُ طلحةَ والزُّبَيْرِ القرينين، أو مثلُ سَعْدٍ وسَعيدٍ؟! هيهاتَ! مِن أين؟ أو مثلُ ابن عَوْفٍ وأبي عُبَيْدَةَ؟ ومَن مثلُ الاثنين؟ إن سَبَّهْتُم بهِم؛ فقد أبْعَدْتُمُ القياس! {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاس} .

مِن أينَ في زهَّادِ الأُممِ مثلُ أُوَيْس، أو في عبَّادِهِم مثلُ عامِرِ بن عَبْدِ قَيْس، أو في خائفيهِمْ مثلُ عُمَرَ بنُ عَبْدِ العَزيز؟! هيهاتَ! ليسَ ضوءُ الشَّمس كالمقباس! {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاس} .

أفي علمائِهِم مثلُ أبي حَنِيفَةَ ومالِك، والشَّافِعِيِّ الشَّديد المسالِك، كيفَ تَمْدَحُهُ وهوَ أجلُّ مِن ذلك؟ ما أحْسَنَ بنيانَهُ والأساس! {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاس} .

أفيهِم أعلى مِن الحَسَنِ البَصْرِيِّ وأنبل، أو ابن سِيرِينَ الذي بالورعِ تَقَبَّل، أو سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ الذي بالخوفِ والعلمِ تَسَرْبَل، أو مثلُ أحْمَدَ الذي بَذَلَ نفسَهُ للهِ وسَبَّل، تاللهِ ما في الأُممِ مثلُ ابن حَنْبَل، ارْفَعْ صوتَكَ بهذا ولا باس، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس} [آل عمران: 110].

لاحَ شَيْبُ الرَّأْسِ مِنِّي وَنَصَحْ

(1)

بَعْدَ لَهْوٍ وَشَبابٍ وَمَرَحْ

(1)

نصح الشيب: تكاثر حتّى غدا الرأس شيئا خالصًا.

ص: 226

إخْوَتي توبوا إلى اللهِ بِنا .. قَدْ لَهَوْنا وَجَهِلْنا ما صَلَحْ

نَحْنُ في دارٍ نَرى المَوْتَ بِها

لَمْ يَدَعْ فيها لِذي اللُبِّ فَرَحْ

يا بَني آدَمَ صونوا دينكُمْ

يَنْبَغي لِلدِّينِ ألَّا يُطَّرَحْ

وَاحْمَدوا الله الَّذي أكْرَمَكُمْ

بِنَبِيٍّ قامَ فيكُمْ وَنَصَحْ

بِنَبِيٍّ فتَحَ اللهُ بِه

كُلَّ خَيْرٍ نِلْتُموهُ وَمَنَحْ

مُرْسَلٍ لَوْ يوزَنُ النَّاسُ بِهِ

في التُّقى وَالبِرِّ خَفُّوا وَرَجَحْ

فَرَسولُ اللهِ أوْلى بِالعُلى

وَرَسولُ اللهِ أوْلى بِالمِدَحْ

‌المجلس الثاني في ذكر المولد أيضا

خَرَّجَ مُسْلِمٌ

(1)

مِن حديثِ أبي قَتادَةَ الأنصارِيِّ، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن صيامِ يومِ الاثنينِ، فقال:"ذلكَ يومٌ وُلِدْتُ فيهِ، وأنزِلَتْ عليَّ فيهِ النُّبوَّةُ".

• أمَّا ولادةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ الاثنينِ، فكالمُجمعِ عليهِ بينَ العلماءِ، وقد قالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ وغيرُهُ. وقد حُكِيَ عن بعضِهِم أنَّهُ وُلِدَ يومَ الجمعةِ، وهوَ قول ساقطٌ مردودٌ. ورُوِيَ عن أبي جَعْفَرٍ الباقِرِ أنَّهُ تَوَقَّفَ في ذلكَ وقال: لا يَعْلَمُ ذلكَ إلَّا اللهُ. وإنَّما قالَ هذا لأنَّهُ لمْ يَبْلُغْهُ في ذلكَ ما يُعْتَمَدُ عليهِ فتَوَقَّفَ في ذلكَ تورُّعًا، وأمَّا الجمهورُ؛ فبَلَغَهُم في ذلكَ ما قالوا بحسبِهِ. وقد رُوِيَ عن أبي جَعْفَرٍ أيضًا موافقتُهُم، وأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم وُلِدَ يومَ الاثنينِ، موافقةً لِما قالَهُ سائرُ العلماءِ.

وحديثُ أبي قَتادَةَ يَدُلُّ على أنَّهُ صلى الله عليه وسلم وُلِدَ نهارًا في يومِ الاثنينِ.

وقد رُوِيَ أنَّهُ وُلِدَ عندَ طلوعِ الفجرِ منهُ.

ورَوى أبو جَعْفَرِ بنُ أبي شَيْبَةَ في "تاريخِهِ" وخَرَّجَهُ مِن طريقِهِ أبو نُعَيْمٍ في "الدَّلائل" بإسنادٍ فيهِ ضعفٌ: عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرِو بن العاصِ، قال: كانَ بمَرِّ الظَّهرانِ راهبٌ يُسَمَّى عِيصًا مِن أهلِ الشَّامِ، وكانَ يَقول: يُوشِكُ أنْ يُولَدَ فيكُم

(2)

يا أهلَ مَكَّةَ

(1)

(13 - الصيام، 36 - استحباب صيام ثلاثة أيّام، 2/ 819/ 1162).

(2)

في خ: "أن يولد منكم"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 227

مولودٌ تَدينُ لهُ العربُ ويَمْلِكُ العجمَ، هذا زمانُهُ. فكانَ لا يُولَدُ بمكَّةَ مولودٌ إلَّا سَألَ عنهُ. فلمَّا كانَ صبيحةُ اليومِ الذي وُلِدَ فيهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ خَرَجَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ حتَّى أتى عِيصًا، فناداهُ، فأشْرَفَ عليهِ، فقالَ لهُ عِيصٌ: كُنْ أباه، فقدْ وُلِدَ ذلكَ المولودُ الذي كُنْتُ أُحَدِّثُكُم عنهُ يومَ الاثنينِ، ويُبْعَثُ يومَ الاثنينِ، ويَموتُ يومَ الاثنينِ. قالَ: إنَّهُ وُلِدَ لي معَ الصُّبحِ مولودٌ. قالَ: فما سَمَّيْتَهُ؟ قالَ: مُحَمَّدًا. قالَ: واللهِ؛ لقدْ كُنْتُ أشْتَهي أنْ يَكونَ هذا المولودُ فيكُم أهلَ البيتِ لثلاثِ خصالٍ بها نَعْرِفُهُ، فقدْ أتى عليهِنَّ: منها؛ أنَّهُ طَلَعَ نجمُهُ البارحةَ، وأنَّهُ وُلِدَ اليومَ، وأن اسمَهُ مُحَمَّدٌ. انْطَلِقْ إليه؛ فإنَّهُ الذي كُنْتُ أُحَدِّثُكُم عنهُ

(1)

.

وقد رُوِيَ ما يَدُلُّ على أنَّهُ وُلِدَ ليلًا، وقدْ سَبَقَ في المجلس الذي قبلَهُ مِن الآثارِ ما يُسْتَدَلُّ بهِ لذلكَ

(2)

.

وفي "صحيح الحاكم": عن عائِشَةَ؛ قالَتْ: كانَ بمكَّةَ يهوديٌّ يَتَّجِرُ فيها، فلمَّا كانَتِ الليلةُ التي وُلِدَ فيها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: يا معشرَ قريشٍ! هل وُلِدَ فيكُمُ الليلةَ مولودٌ؟ قالوا: لا نَعْلَمُهُ. قالَ: وُلِدَ الليلةَ نبيُّ هذهِ الأُمَّةِ الأخيرةِ، بينَ كتفيهِ علامةٌ فيها شعراتٌ متواتراتٌ كأنَّهُنَّ عرفُ فرسٍ. فخَرَجوا باليهوديِّ حتَّى أدْخَلوهُ على أُمِّهِ، فقالوا: أخْرِجي إلينا ابنَكِ. فأخْرَجَتْهُ، وكَشَفوا عن ظهرِهِ، فرَأى تلكَ الشَّامةَ، فوَقَعَ اليهوديُّ مغشيًّا عليهِ، فلمَّا أفاقَ؛ قالوا لهُ: ويلَكَ! ما لكَ؟ قالَ: ذَهَبَتْ واللهِ النُّبوَّةُ مِن بني إسرائيلَ

(3)

.

(1)

(ضعيف جدًّا). لم أقف عليه في المطبوع من "دلائل أبي نعيم"، فلعلّه في الأصل الكبير لـ "الدلائل" فإنّ المطبوع مختصر! وعلى كلّ؛ فقد وقفت على طريق ابن أبي شيبة عند ابن كثير في "البداية والنهاية"(2/ 258)؛ فقد أورده من طريق المسيّب بن شريك، ثنا محمّد بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه

فذكره مطوّلًا.

وهذا سند ساقط: المسيّب متروك، وشعيب وأبوه وجدّه لا يعرفون؛ إلّا أن يكون ما في مطبوع "البداية والنهاية" تحريفًا صوابه شعيب بن محمّد؛ يعني: ابن عبد الله بن عمرو بن العاص، كما جاء في "الفتح"(6/ 583)، وعندئذ فالمسيّب وحده علّة السند، مع ما في متنه من النكارة والمخالفة للمتون الصحيحة.

(2)

كأنّه يريد حديث أمّ عثمان بن أبي العاص الذي تقدّم آنفًا، وقد تبيّن لك أنّه موضوع.

(3)

(ضعيف). رواه: الفسوي، والحاكم (2/ 601)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 108)؛ من طريق =

ص: 228

* وهذا الحديثُ يَدُلُّ على أنَّهُ وُلِدَ بخاتَمِ النُّبوَّةِ بينَ كتفيهِ. وخاتَمُ النُّبوَّةِ مِن علاماتِ نبوَّتِهِ التي كانَ يَعْرِفُهُ بها أهلُ الكتابِ ويَسْألونَ عنها ويَطْلُبونَ الوقوفَ عليها. وقد رُوِيَ أن هِرَقْلَ بَعَثَ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مَن يَنْظُرُ لهُ خاتَمَ النُّبوَّةِ ثمَّ يُخْبِرُهُ عنهُ

(1)

.

وقد رُوِيَ مِن حديثِ أبي ذَرٍّ وعُتْبَةَ بن عبدٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أن الملَكينِ اللذينِ شَقَّا صدرَهُ ومَلآهُ حكمةً هُما اللذانِ خَتَماهُ بخاتمِ النُّبوَّةِ

(2)

. وهذا يُخالِفُ حديثَ عائِشَةَ هذا.

= يحيى بن علي بن عبد الحميد الكناني، عن ابن إسحاق، كان هشام بن عروة، يحدّث عن أبيه، عن عائشة

فذكرته. قال الحاكم: "صحيح". وردّه الذهبي بقوله: "لا". قلت: يحيى ما وقفت له على ترجمة، وابن إسحاق عنعن علي تدليسه وسياقه للسند بصورة ظاهرة الانقطاع.

ورواه ابن سعد (1/ 162) عن أبي عبيدة بن عبد الله بن أبي عبيدة بن محمّد بن عمّار بن ياسر وغيره، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة

فذكره. وهذا سند ضعيف، أبو عبيدة لم أقف له على ذكر إلا هنا.

ومثل هذين السندين لا يقوّي أحدهما الآخر لاتّحادهما في العلّة - وهي جهالة الذي حمل هذا الخبر عن هشام -، والغالب أنّ ابن إسحاق قد تلقّى هذا عن أبي عبيدة أو عمّن تلقّى منه.

(1)

(منكر). رواه: أبو عبيد في "الأموال"(625)، وأحمد (3/ 441)، وابن زنجويه في "الأموال"(104 و 961)، وعبد الله بن أحمد (4/ 74 و 75)، وأبو يعلى (1597)، وابن جرير (7830)، وابن أبي حاتم (القصص 57 - ابن كثير)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 266)؛ من طريق قويّة، عن سعيد بن أبي راشد، عن التنوخيّ رسول قيصر

فذكره.

قال ابن كثير مرّة: "غريب وإسناده لا بأس به". ومرّة: "غريب وإسناده حسن". وقال الهيثمي (8/ 239): "رجال أبي يعلى ثقات ورجال عبد الله بن أحمد كذلك". قلت: سعيد بن أبي راشد مجهول. والتنوخي شيخ عجوز فنّده الهرم والمرض وهو نصرانيّ، فلو سلّمنا أنّ روايته هذه مقبولة على مبدأ "الفضل ما شهدت به الأعداء"، وأنّ هذا ينوب مناب العدالة؛ فإنّ شرط الضبط منه غير متحقّق وروايته لا يؤمن فيها التخليط، وهذا ما وقع هنا، فقد جاء الرجل بمتن فيه نكارة في غير ما موضع ومخالفة لرواية الصحيحين في كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هرقل. فالسند واه والمتن منكر.

(2)

(صحيح). أمّا حديث أبي ذرّ في هذا؛ فرواه: الدارمي (1/ 9)، والبزّار (9/ 437/ 4048)، والطبري في "التاريخ"(1/ 534)، والعقيلي (1/ 183)، واللالكائي في "أصول الاعتقاد"(1405)، وأبو نعيم في "الدلائل"(167)، وابن عساكر (3/ 460)؛ من طريق جعفر بن عبد الله بن عثمان القرشي، ثني عمر بن عروة بن الزبير، سمعت عروة يحدّث، عن أبي ذرّ

رفعه.

قال العقيلي: "لا يتابع عليه". ووافقه الذهبي والعسقلاني. وقال الهيمي (8/ 259): "فيه جعفر بن عبد الله بن عثمان وثّقه أبو حاتم الرازي وابن حبّان وتكلّم فيه العقيلي". قلت: جعفر صدوق حسن الحديث، وإنّما العلّة في رواية عروة عن أبي ذرّ؛ فإنّ ظاهرها الإرسال. لكن يشهد له حديث عتبة بن عبد السلمي الآتي بعده وحديث شدّاد بن أوس عند ابن عساكر (3/ 466) بسند ضعيف.

وأمّا حديث عتبة بن عبد السلميّ؛ فتقدّم آنفًا أنّه حسن.

ص: 229

وقد رُوِيَ أن هذا الخاتَمَ رُفِعَ بعدَ موتِهِ مِن بين كتفيهِ

(1)

، ولكنَّ إسنادَ هذا الحديثِ ضعيفٌ.

• وقد رُوِيَ في صفةِ ولادتِهِ آياتٌ تُسْتَغْرَبُ:

فمِنها ما رُوِيَ عن آمِنَةَ بنتِ وَهْبٍ أنَّها قالَتْ: وَضَعْتُهُ فما وَقَعَ كما يَقَعُ الصِّبيانُ، وَقَعَ واضعًا يدَهُ على الأرضِ، رافعًا رأْسَهُ إلى السَّماءِ

(2)

.

ورُوِيَ أيضًا أنَّهُ قَبَضَ قبضةً مِن التُّرابِ بيدِهِ لمَّا وَقَعَ بالأرضِ. فقالَ بعضُ القافةِ: إنْ صَدَقَ الفأْلُ لَيَغْلِبَن أهلَ الأرضِ

(3)

.

ورُوِيَ أنَّهُ وُضِعَ تحتَ جَفْنَةٍ، فانْفَلَقَتْ عنهُ، ووَجَدوهُ يَنْظُرُ إلى السَّماءِ

(4)

.

واخْتَلَفَتِ الرِّواياتُ؛ هلْ وُلِدَ مختونًا؟ فرُوِيَ أنَّهُ وُلِدَ مختونًا مسرورًا (يَعْني: مقطوعَ السُّرَّةِ)

(5)

، حتَّى قالَ الحاكِمُ: تواتَرَتِ الرِّواياتُ

(1)

(موضوع). رواه ابن سعد (2/ 271): أنا محمّد بن عمر، ثني القاسم بن إسحاق، عن أُمّه، عن أبيها القاسم بن محمّد بن أبي بكر أو عن أُمّ معاوية

فذكرت رفع الخاتم في قصّة. ومحمّد بن عمر متهم، والقاسم وأُمّه وأُمّ معاوية مجاهيل. والقصّة موضوعة.

(2)

(ضعيف). وقد جاء من أوجه:

* منها حديث حليمة الذي تقدّم آنفا بيان ضعفه.

* ومنها ما رواه: ابن سعد في "الطبقات"(1/ 101 و 150 و 151)، وأبو نعيم في "الدلائل"(96)، وابن عساكر (3/ 79 و 86)؛ من طريق الواقدي بأسانيد له خمسة مرسلة. وأسانيد الواقدي لا يفرح بكثرتها.

* ومنها: مرسل الزهري عند: عبد الرزّاق (9718)، وأبي نجم في "الدلائل"(96). ومرسل عكرمة عند ابن سعد (1/ 102). ومرسل حسّان بن عطيّة عند ابن سعد (1/ 103). ومرسل داوود بن أبي هند عند أبي نجم (8). ومرسل إسحاق بن أبي فروة عند ابن سعد (1/ 21).

وحديث حليمة ضعيف، وأسانيد الواقدي لا تفيده قوّة، والمراسيل الأخيرة - وربّما كانت معاضيل - الغالب أنّها مستمدّة من حديث حليمة أو من مراسيل الواقدي ولذلك لا أراها تنتشله من ضعفه. والله أعلم.

(3)

(موضوع). رواه: ابن سعد (1/ 101 و 150) بأسانيد له خمسة عن الواقدي، وأسانيد الواقديّ لا يفرح بها ولو تكاثرت.

(4)

(ضعيف). رواه ابن سعد (1/ 102) بسند قويّ عن عكرمة مرسلا. ورواه أبو نعيم في "الدلائل"(80) بسند قويّ عن داوود بن أبي هند مرسلًا، ورواه: البيهقي في "الدلائل"(1/ 113)، وابن عساكر (3/ 8)؛ بسند صالح عن أبي الحكم التنوخي مرسلا. وهذه في الحقيقة معاضيل لا يطمئنّ القلب لتقوية الخبر بها وإن اجتمعت.

(5)

(موضوع). وقد جاء من أوجه: =

ص: 230

بذلكَ

(1)

! ورُوِيَ أن جدَّهُ خَتَنَهُ

(2)

. وتَوَقَّفَ الإمامُ أحْمَدُ في ذلكَ. قالَ المَرُّوذِيُّ: سُئِلَ أبو عَبْدِ اللهِ: هلْ وُلِدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مختونًا؟ قالَ: اللهُ أعلمُ، ثمَّ قالَ: لا أدْري. قالَ أبو بَكْرٍ عَبْدُ العَزيزِ بنُ جَعْفَرٍ مِن أصحابِنا: قد رُوِيَ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم وُلِدَ مختونًا مسرورًا، ولمْ يَجْتَرِئْ أبو عَبْدِ اللهِ على تصحيحِ هذا الحديثِ.

• وأمَّا شهرُ ولادتِهِ؛ فقدِ اخْتُلِفَ فيهِ:

فقيلَ: في شهرِ رمضانَ. رُوِيَ عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو بإسنادٍ لا يَصِحُّ

(3)

.

وقيلَ: في رجبٍ. ولا يَصِحُّ.

=* فرواه: ابن جميع (ص 336/ ت 314)، وابن عدي (2/ 577)، والذهبي في "الميزان"(1/ 412)؛ من طريق جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، قال لنا صفوان بن هبيرة ومحمّد بن بكر البرسالي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبّاس

فذكره. وجعفر هذا كذّاب يضع.

* ورواه: ابن سعد (1/ 103)، وأبو نعيم في "الدلائل"(92)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 114)، وابن عساكر (3/ 80)؛ من طريق يونس بن عطاء، عن الحكم بن أبان، ثنا عكرمة، عن ابن عبّاس، عن العبّاس

فذكره. ويونس بن عطاء الصدائي متّهم.

* ورواه: الطبراني في "الصغير"(936) و"الأوسط"(6144) من طريق سفيان بن محمّد الفزاري، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 24) و"الدلائل"(91) والضياء في "المختارة"(5/ 232/ 1864) من طريق نوح بن محمّد الأيلي عن الحسن بن عرفة؛ كلاهما عن هشيم بن بشير، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"من كرامتي على ربّي أن ولدت مختونًا ولم ير أحد سوأتي". قال الهيثمي (8/ 227): "فيه سفيان بن محمّد الفزاري وهو متّهم به". قلت: ونوح الأيلي هو المتّهم بالطريق الأُخرى. وهشيم كثير التدليس والحسن يدلّ وقد عنعنا.

والحديث عدّه ابن عدي وابن العديم والذهبي وابن القيّم وابن كثير والعراقي والعسقلاني في الأباطيل، وحريّ به أن يكون كذلك.

(1)

وردّه الذهبي بقوله: "ما أعلم صحّة ذلك فكيف متواترًا؟! ". انظر "المستدرك"(2/ 602).

(2)

(ضعيف). رواه ابن عبد البرّ في "التمهيد"(23/ 140) و"الاستيعاب"(1/ 38) من طريق محمّد بن أبي السريّ العسقلاني، عن الوليد بن مسلم، عن شعيب، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّ عبد المطّلب ختن النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم سابعه. والعسقلاني كثير الوهم، والوليد يدلّ ويسوّي وقد عنعن، والخراساني كثير التدلي وقد عنعن، والخبر على ضعفه أصحّ من خبر ولادته صلى الله عليه وسلم مختونًا مسرورًا.

(3)

(ضعيف جدًّا). رواه ابن عساكر (3/ 66) من طريق المسيّب بن شريك، عن شعيب بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه

فذكره. وهذا سند ساقط: المسيّب متروك، وشعيب وأبوه وجدّه لا يعرفون، إلّا أن يكون تحريفًا صوابه شعيب بن محمّد؛ يعني: ابن عبد الله بن عمرو بن العاص، كما يدلّ عليه كلام ابن رجب يرحمه الله، وعندئذ فالمسيّب هو علّة هذا السند.

ص: 231

وقيلَ: في ربيعٍ الأوَّلِ. وهوَ المشهورُ بينَ الناسِ، حتَّى نَقَلَ ابنُ الجَوْزِيِّ وغيرُهُ عليهِ الاتِّفاقَ، ولكنهُ قولُ جمهورِ العلماءِ.

ثمَّ اخْتَلَفوا في أيِّ يومٍ كانَ مِن الشَّهرِ: فمنهُم مَن قالَ: هوَ غيرُ معيَّنٍ، وإنَّما وُلِدَ في يومِ الاثنينِ مِن ربيعٍ [الأوَّلِ] مِن غيرِ تعيينٍ لعددِ ذلكَ اليومِ مِن الشَّهرِ. والجمهورُ على أنَّهُ يومٌ معيَّنٌ منهُ. ثمَّ اخْتَلَفوا: فقيلَ: لليلتينِ خَلَتا منهُ، وقيلَ: لثمانٍ خَلَتْ منهُ، وقيلَ: لعشرٍ، وقيلَ: لاثنتي عشرةَ، وقيلَ: لسبعَ عشرةَ، وقيلَ: لثماني عشرةَ، وقيلَ: لثمانٍ بقينَ منهُ، وقيلَ: إنَّ هذينِ القولينِ غيرُ صحيحينِ عمَّن حُكِيا عنهُ بالكلِّيَّةِ. والمشهورُ الذي عليهِ الجمهورُ أنَّهُ وُلِدَ يومَ الاثنينِ ثاني عشرَ ربيع الأوَّلِ، وهوَ قولُ ابن إسْحاقَ وغيرِهِ.

• وأمَّا عامُ ولادتِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فالأكثرونَ على أنَّهُ عامُ الفيلِ

(1)

. وممَّن قالَ ذلكَ: قَيْسُ

(1)

(صحيح). وقد جاء عن جماعة من الصحابة والتابعين:

* فأمّا حديث قيس بن مخرمة؛ فرواه: ابن إسحاق في "السيرة"(ص 25/ نص 29)، وأحمد (4/ 215)، والبخاري في "التاريخ"(7/ 145)، والفسوي (1/ 296)، والترمذي (50 - المناقب، 2 - ميلاده صلى الله عليه وسلم، 5/ 589/ 3619)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(478)، والطبري في "التاريخ"(1/ 453)، وابن قانع في "المعجم"(2/ 349/ 887)، والطبراني في "الكبير"(18/ 342/ 872 و 873)، والحاكم (2/ 603)، وأبو نعيم في "الدلائل"(85)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 76)، وابن عساكر (3/ 71 - 73)؛ من طريق ابن إسحاق، ثني المطّلب بن عبد الله بن قيس بن مخرمة، عن أبيه، عن جدّه؛ قال:"ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل". قال الترمذي: "حسن غريب لا نعرفه إلّا من حديث ابن إسحاق". وقال الحاكم: "على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي. قلت: المطّلب مجهول وما هو من رجال مسلم، والسند ليس حسنًا ولا على شرط مسلم.

* وأمّا حديث قباث بن أشيم؛ فرواه: ابن أبي عاصم في "الآحاد"(927)، والبغوي في "الصحابة"(2/ 221 - إصابة)، والطبراني (19/ 37/ 75)، والحاكم (3/ 625)، وأبو نعيم في "الدلائل"(84)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 77)؛ من طريق الزبير بن موسى، عن أبي الحويرث، سمع قباث بن أشيم يقول: ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل. سكت عنه الحاكم والذهبي، وأبو الحويرث فيه ضعف وحديثه حسن في الشواهد.

وروى: الترمذي (الموضع السابق)، والطبري (1/ 453)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 77)؛ أنّ عثمان بن عفّان سأل قباث بن أشيم

فذكره. فقيل: صاحب هذا الكلام هو قيس بن مخرمة، ولذلك ألحقه الترمذي بحديثه. فإن صحّ هذا فهذه طريق أُخرى لحديث قباث.

* وأمَّا حديث ابن عبّاس؛ فرواه: ابن سعد (1/ 101)، وابن معين في "التاريخ"(3/ 41/ 168 و 2963)، والطبري في "التاريخ"(1/ 453)، وابن حبّان في "الثقات"(1/ 14)، والطبراني (12/ 37 / 12432)، والحاكم (2/ 603)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 75)، وابن عساكر (1/ 70 - 71)، والضياء في =

ص: 232

بنُ مَخْرَمَةَ، وقُبَاثُ بنُ أشْيَمَ، وابنُ عَبَّاسٍ، ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ وُلِدَ يومَ الفيلِ

(1)

، وقيلَ: إنَّ هذهِ الروايةَ وهمٌ، إنَّما الصَّحيحُ عنهُ أنَّهُ قالَ

(2)

: عامَ الفيل. ومِن العلماءِ مَن حَكى الاتِّفاقَ على ذلكَ وقالَ: كل قولٍ يُخالِفُهُ فهوَ وهمٌ.

والمشهورُ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم وُلِدَ بعدَ الفيلِ بخمسينَ يومًا. وقيلَ: بعدَهُ بخمسٍ وخمسينَ يومًا. وقيلَ: بشهرٍ. وقيلَ: بأربعينَ يومًا.

و [قد] قيلَ: إنَّهُ وُلِدَ بعدَ الفيلِ بعشرِ سنينَ. وقيلَ: بثلاثٍ وعشرينَ سنةً. وقيلَ: بأربعينَ سنة. وقيلَ: قبلَ الفيلِ بخمسَ عشرةَ سنة. وهذهِ الأقوالُ وهم عندَ جمهورِ العلماءِ، ومنها ما لا يَصِحُّ عمَّن حُكِيَ عنهُ.

قالَ إبْراهيمُ بنُ المُنْذِرِ الحِزامِيُّ

(3)

: الذي لا يَشُكُّ فيهِ أحدٌ مِن علمائِنا أنَّهُ عليه السلام وُلِدَ عامَ الفيلِ.

وقالَ خَليفَةُ بنُ خَياطٍ: هذا هوَ المجمَعُ عليهِ.

وكانَتْ قصَّةُ الفيلِ توطئةً لنبوَّتِهِ وتقدمةً لظهورِهِ وبعثتِهِ صلى الله عليه وسلم. وقد قَصَّ اللهُ تَعالى [ذلكَ] في كتابِهِ [فقالَ]: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ

= "المختارة"(10/ 324/ 348 - 351)؛ من طريق يونس بن أبي إسحاق، [عن أبي إسحاق السبيعي]، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس؛ أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ولد عام (وجاء أحيانًا: يوم) الفيل. قال الحاكم: "على شرط الشيخين"، وقال الذهبي:"على شرط مسلم". وقوّاه الهيثمي. قلت: لكنّ ذكر اليوم فيه غريب؛ إلّا أن يراد به الوقت؛ يعني: وقت الفيل.

* ورواه: الفسوي، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 79)؛ من حديث سويد بن غفلة بسند فيه رجل مبهم.

* ورواه: ابن سعد (1/ 101، 3/ 7)، والفسوي، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 78)؛ من أوجه عدّة مرسلة، لكن بأسانيد ساقطة لا يفرح بها فلا نطيل بتفصيلها.

والحديث صحيح غاية باجتماع الأوجه الأربعة الموصولة، ولا سيّما حديث ابن عبّاس؛ فإنّه حسن لذاته، وقد صحّحه جماعة من أهل العلم منهم الترمذي وابن حبّان والحاكم والضياء والذهبي وابن كثير، واعتمده جمهور أهل العلم.

(1)

تقدّم أن بعض ألفاظ حديثه "يوم الفيل" وبعضها "عام الفيل" ووجه الجمع بينها.

(2)

في خ: "وهم وأنَّه ولد"، وفي ن:"وهم والصحيح عنه أنّه قال"، والأولى ما أثبتّه من م وط.

(3)

في خ: "الخزاعيّ"! وهذا تحريف صوابه ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 233

مَأْكولٍ} [القيل: 1 - 5]: فقولُهُ {ألَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأصْحابِ الفيلِ} استفهامُ تقريرٍ لمَن سَمعَ هذا الخطابَ، وهذا يَدُلُّ على اشتهارِ ذلكَ بينَهُم ومعرفتِهِم بهِ وأنَّهُ ممَّا لا يَخْفى علمُهُ عن العربِ خصوصًا قُرَيْش وأهلُ مَكَّةَ. وهذا أمرٌ اشْتَهَرَ بينَهُم وتَعارَفوهُ وقالوا فيهِ الأشعارَ السَّائرةَ. وقدْ قالَتْ عائِشَةُ: رَأيْتُ قائدَ اللَّيلِ وسائسَهُ بمَكَّةَ أعْمَيَيْنِ يَسْتَطْعِمانِ.

وفي هذهِ القصَّةِ ما يَدُلُّ على تعظيمِ مَكَّةَ واحترامِها واحترامِ بيتِ اللهِ الذي فيها.

وولادةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عَقيبَ ذلكَ تَدُلُّ على نبوَّتِهِ ورسالتِهِ؛ فإنَّهُ صلى الله عليه وسلم بُعِثَ بتعظيمِ هذا البيتِ وحجِّهِ والصلاةِ إليهِ، وكانَ هذا البلدُ هوَ موطنَهُ ومولدَهُ فاضْطَرَّهُ قومُهُ عندَ دعوتِهِم إلى اللهِ إلى الخروجِ منهُ كرهًا بما نالوهُ منهُ مِن الأذى، ثمَّ إنَّ الله تَعالى ظَفَّرَهُ بهِم وأدْخَلَهُ عليهِم قهرًا، فمَلَكَ البلدَ عنوةً ومَلَكَ رقابَ أهلِهِ، ثمَّ مَنَّ عليهِم وأطْلَقَهُم وعَفا عنهُم، فكانَ في تسليطِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم على هذا البلدِ وتمليكِهِ إيَّاهُ ولأُمَّتِهِ مِن بعدهِ ما دَلَّ على صحَّةِ نبوَّتِهِ؛ فإنَّ الله حَبَسَ عنهُ مَن يُريدُهُ بالأذى وأهْلَكَهُ، ثمَّ سَلَّطَ عليهِ رسولَهُ وأُمَّتَهُ، كما قالَ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله حَبَسَ عن مَكَّةَ الفيلَ وسَلَّطَ عليها رسولَهُ والمؤمنينَ"

(1)

. فإنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأُمَّتَهُ إنَّما قصدُهُم تعظيمُ البيتِ وتكريمُهُ واحترامُهُ. ولهذا أنْكَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ الفَتْحِ على مَن قالَ: اليومَ تُسْتَحَلُّ الكعبةُ، وقالَ:"اليومَ تُعَظَّمُ الكعبةُ"

(2)

.

وقدْ كانَ أهلُ الجاهليَّةِ غَيَّروا دينَ إبْراهيمَ وإسْماعيلَ بما ابْتَدَعوهُ مِن الشِّركِ وتغييرِ بعضِ مناسكِ الحجِّ، فسَلَّطَ اللهُ رسولَهُ وأُمَّتَهُ على مَكَّةَ فطَهَّروها مِن ذلكَ كلِّهِ ورَدُّوا الأمرَ إلى دينِ إبْراهيمَ الحنيفِ، وهوَ الذي دَعا لهُم معَ ابنِهِ إسْماعيلَ عندَ بناءِ البيتِ أنْ يَبْعَثَ [اللهُ] فيهِم رسولًا منهُم يَتْلو عليهِم آياتِهِ ويُزَكِّيهِم ويُعَلِّمُهُمُ الكتابَ

(1)

رواه: البخاري (2 - العلم، 39 - كتابة العلم، 1/ 205/ 112)، ومسلم (15 - الحجّ، 82 - تحريم مكة، 2/ 988/ 1355)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه البخاري (64 - المغازي، 48 - أين ركز صلى الله عليه وسلم الراية، 8/ 5/ 4280)؛ من حديث عروة بن الزبير مرسلًا. قال العسقلاني: "وهو ظاهر الإرسال في الجميع إلّا في القدر الذي صرّح عروة بسماعه له من نافع بن جبير، وأمّا باقيه؛ فيحتمل أن يكون عروة تلقّاه من أبيه أو عن العبّاس فإنه أدركه وهو صغير، أو جمعه من نقل جماعة له بأسانيد مختلفة، وهو الراجح".

ص: 234

والحكمةَ، فبَعَثَ اللهُ فيهِم مُحَمَّدا صلى الله عليه وسلم مِن ولدِ إسْماعيلَ بهذهِ الصِّفةِ، فطَهَّرَ البيتَ وما حولَهُ مِن الشِّركِ، ورَدَّ الأمرَ إلى دينِ إبْراهيمَ الحنيفِ والتَّوحيدِ الذي لأجلِهِ بُنِيَ البيتُ، كما قالَ تَعالى:{وَإذْ بَوَّأْنا لإبْراهيمَ مَكانَ البَيْتِ أنْ لا تُشْرِكَ بي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفينَ وَالقائِمينَ وَالرُّكَعِ السُّجودِ} [الحجّ: 26].

وأمَّا تسليطُ القَرامِطَةِ على البيتِ بعدَ ذلكَ، فإنَّما كانَ عقوبةً بسببِ ذنوبِ النَّاسِ، ولمْ يَصِلوا إلى هدمِهِ ونقضِهِ ومنعِ النَّاسِ مِن حجِّهِ وزيارتِهِ كما كانَ يَفْعَلُ أصحابُ الفيلِ لوْ قَدَروا على هدمِهِ وصرفِ النَّاسِ عن حجِّهِ. والقَرامِطَةُ أخَذوا الحجرَ والبابَ وقَتَلوا الحاجَّ وسَلَبوهُم أموالَهُم، ولمْ يَتَمَكَّنوا مِن منعِ النَّاس مِن حجِّهِ بالكلِّيَّةِ ولا قَدَروا على هدمِهِ بالكلِّيَّةِ كما كانَ أصحابُ الفيلِ يَقْصِدونَهُ، ثمَّ أذَلَّهُمُ اللهُ بعدَ ذلكَ وخَذَلَهُم وهَتَكَ أستارَهُم وكَشَفَ أسرارَهُم، والبيتُ المعظَّمُ باقٍ على حالِهِ مِن التَّعظيمِ والزِّيارةِ والحجِّ والاعتمارِ والصَّلاةِ إليهِ، لمْ يَبْطُلْ شيءٌ مِن ذلكَ عنهُ بحمدِ اللهِ ومنِّهِ، وغايةُ أمرِهِم أنَّهُم أخافوا حاجَّ العراقِ حتَّى انْقَطَعوا بعضَ السِّنينَ ثمَّ عادوا.

ولمْ يَزَلِ اللهُ تَعالى يَمْتَحِنُ عبادَهُ المؤمنينَ بما يَشاءُ مِن المحنِ، ولكنَّ دينَهُ قائمٌ محفوظٌ لا يَزالُ تَقومُ بهِ أُمَّةٌ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لا يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم حتَّى يَأْتِيَ أمرُ اللهِ وهُم على ذلكَ، كما قالَ تَعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 32، 33].

وقدْ أخْبَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن هذا البيتَ يُحَجُّ ويُعْتَمَرُ بعدَ خروجِ يَأْجوجَ ومأْجوجَ ولا يَزالُ كذلكَ حتَّى تُخَرِّبَهُ الحبشةُ ويُلْقوا حجارتَهُ في البحرِ، وذلكَ بعدَ أنْ يَبْعَثَ اللهُ ريحًا طيّبةً تَقْبِضُ أرواحَ المؤمنينَ كلِّهِم فلا يَبْقى في الأرضِ مؤمنٌ، ويُسْرى بالقرآنِ مِن الصُّدورِ والمصاحفِ فلا يَبْقى في الأرضِ قرآنٌ ولا إيمانٌ ولا شيءٌ مِن الخيرِ، فبعدَ ذلكَ تَقومُ السَّاعةُ، ولا تَقومُ إلَّا على شرارِ النَّاسِ

(1)

.

(1)

وهذه فقرات مجموعة من أحاديث جماعة من الصحابة أكثرها من مخرّجات الصحيحين.

ص: 235

• وقولُهُ صلى الله عليه وسلم: "ويومٌ أُنزِلَتْ عليَّ فيهِ النُّبوَّةُ"؛ يَعْني: أنَّهُ صلى الله عليه وسلم نُبِّئَ يومَ الاثنينِ.

وفي "المسند": عن ابن عَبَّاسٍ؛ قالَ: وُلِدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يومَ الاثنينِ، واسْتُنْبِئَ يومَ الاثنينِ، وخَرَجَ مهاجرًا مِن مَكَّةَ إلى المدينةِ يومَ الاثنينِ، ودَخَلَ المدينةَ يومَ الاثنينِ، وتُوُفِّيَ يومَ الاثنينِ، ورَفَعَ الحجرَ الأسودَ يومَ الاثنينِ

(1)

.

وذَكَرَ ابنُ إسْحاقَ أن النُّبوَّةَ نَزَلَتْ يومَ الجمعةِ. وحديثُ أبي قَتادَةَ يَرُدُّ هذا.

واخْتَلَفوا في أيِّ شهرٍ كانَ ابتداءُ النبوَّةِ: فقيلَ: في رمضانَ. وقيلَ: في رجبٍ.

ولا يَصِحُّ. وقيلَ: في ربيعٍ الأوَّلِ. وقيلَ: إنَّهُ نُبِّئَ يومَ الاثنينِ لثمان مِن ربيعٍ الأوَّلِ.

وأمَّا الإسراءُ؛ فقيلَ: كانَ في رجبٍ. وضَعَّفَهُ غيرُ واحدٍ

(2)

. وقيلَ: كانَ في ربيعٍ الأوَّلِ. وهوَ قولُ إبْراهيمَ الحَرْبِيِّ وغيرِهِ.

وأمَّا دخولُهُ المدينةَ ووفاتُهُ صلى الله عليه وسلم؛ فكانا في ربيعٍ الأوَّلِ بغيرِ خلافٍ، معَ الاختلافِ في تعيينِ ذلكَ اليومِ مِن أيَّامِ الشَّهرِ.

• وفي قولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لمَّا سُئِلَ عن صيامِ يومِ الاثنينِ "ذاكَ يومٌ وُلِدْتُ فيهِ وأنزِلَتْ عليَّ فيهِ النُّبوَّةُ" إشارةٌ إلى استحبابِ صيامِ الأيَّامِ التي [تَـ]ـتَجَدَّدُ فيها نعمُ اللهِ [تَعالى] على عبادهِ. فإنَّ أعظمَ نعمِ اللهِ على هذهِ الأُمَّةِ إظهارُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لهُم وبعثتُهُ وإرسالُهُ إليهِم، كما قالَ تَعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}

(1)

(ضعيف). رواه: أحمد (1/ 277)، والطبري في "التاريخ"(1/ 528، 2/ 5 و 241)، وابن أبي حاتم في "العلل"(2077 و 5286)، والطبراني (12/ 183/ 12984)، وابن مردويه (المائدة 3 - ابن كثير)، والبيهقي في "الدلائل"(7/ 233 و 234)؛ من طريق ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش الصنعاني، عن ابن عبّاس

فذكره. قال ابن كثير: "أثر غريب، وإسناده ضعيف". وقال الهيثمي (1/ 201): "فيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح".

ورواه الفاكهي في "تاريخ مكَّة"(2298 و 2299) من طريق معلّى بن عبد الرحمن، عن عبد الحميد بن جعفر، [عن ابن شهاب الزهريّ]، عن عبد الله بن أبي جعفر (وقال مرّة: عبيد الله بن عبد الله)، عن عبد الله بن عبّاس

به مطوّلًا. ومعلّى متّهم.

ورواه الطبراني (11/ 70/ 11124) من طريق مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن عبّاس؛ قال: ولد صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين وأنزل عليه يوم الاثنين ومات يوم الاثنين. والأعور متروك أو يكاد.

فالطريق الأولى ضعيفة، والطريقين الأُخريين ساقطتين، والحديث ضعيف.

(2)

فليت أصحاب الاحتفالات والإحياءات والحضرات والإنشادات والموالد يعتبرون!

ص: 236

[آل عمران: 164]؛ فإن النِّعمةَ على الأُمَّةِ بإرسالِهِ أعظمُ مِن النِّعمةِ عليهِم بإيجادِ السَّماءِ والأرضِ والشَّمسِ والقمرِ والليلِ والنهارِ والرِّياحِ وإنزالِ المطرِ وإخراجِ النَّباتِ وغيرِ ذلكَ؛ فإنَّ هذهِ النِّعمةَ كلَّها قد عَمَّتْ خلقًا مِن بني آدَمَ كَفَروا باللهِ وبرسلِهِ وبلقائِهِ فبَدَّلوا نعمةَ اللهِ كفرًا، وأمَّا النِّعمةُ بإرسالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّـ[ـهُ]

(1)

بها تَمَّتْ مصالحُ الدُّنيا والآخرةِ، وكَمَلَ بسببِها دينُ اللهِ الذي رَضِيَهُ لعبادِهِ، وكانَ قبولُهُ سببَ سعادتِهِم في دنياهُم وآخرتهِم. فصيامُ يومٍ تَجَدَّدَتْ فيهِ هذهِ النِّعمُ مِن اللهِ على عباده المؤمنينَ حسنٌ جميلٌ، وهوَ مِن بابِ مقابلةِ النِّعمِ في أوقاتِ تجدُّدِها بالشُّكر

(2)

.

ونظيرُ هذا صيامُ يومِ عاشوراءَ حيثُ أنْجى اللهُ فيهِ نوحًا مِن الغرقِ ونَجَّى فيهِ مواسى وقومَهُ مِن فِرْعَوْنَ وجنودِهِ وأغْرَقَهُم في اليمِّ، فصامَهُ نوحٌ وموسى عليهما السلام شكرًا، وصامَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم متابعةً لأنبياءِ اللهِ، وقالَ لليهودِ:"نحنُ أحقُّ بموسى منكُم"، فصامَهُ وأمَرَ بصيامِهِ

(3)

.

وقد رُوِيَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ يَتَحَرَّى صيامَ يومِ الاثنينِ ويومِ الخميسِ؛ رُوِيَ ذلكَ عنه مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ وعائِشَة

(4)

وأُسامةَ بن زَيْدٍ:

(1)

لا بدّ من إضافة الهاء هنا؛ لأنّ اسم إنّ لا يكون جملة ولا شبه جملة.

(2)

لا يشرع للمسلم أن يختصّ يومًا بعينه - مهما كان هذا اليوم - بعبادة بعينها بمجرّد الرأي والاستحسان! هذا باب لا بدّ فيه من سنة صحيحة! ومن تنكّب هذا القيد وأعرض عنه؛ فقد فتح واحدًا من أخطر أبواب الضلالة وأحبّها إلى الصوفية وأهل البدع. وأهل الاتباع هم أسعد الناس بسنّة نبيّهم صلى الله عليه وسلم فعلا وتركًا، فما شرعه صلى الله عليه وسلم من العبادات في أيّام تجدّد النعم - كصيام الاثنين وعاشوراء - استحبّوه وفعلوه، وما تركه وأعرض عنه - كصيام يوم الهجرة وقيام ليلة الإسراء - لم يستحسنوه ولم يفعلوه.

(3)

متّفق عليه. تقدّم تفصيل القول في لفظه وتخريجه (ص 123).

(4)

(صحيح). رواه: إسحاق (3/ 955/ 1664 و 1665)، وأحمد (6/ 80 و 89 و 106)، وابن ماجه (7 - الصيام، 41 - عاشوراء، 1/ 553/ 1739)، والترمذي (6 - الصوم، 44 - الاثنين والخميس، 3/ 121/ 745)، والنسائي في "المجتبى"(22 - الصيام، 36 - الاختلاف على ابن معدان، 4/ 153/ 2185 و 2186 و 2359 - 2363) و"الكبرى"(2496 و 2497 و 2667 و 2670 - 2673 و 2786)، وأبو يعلى في "المسند"(4751) و"المعجم"(31)، وابن خزيمة (2116)، والمحاملي (112)، وابن حبّان (3643)، والطبراني في "الأوسط"(3178) و"الشاميّين"(439 و 1156)، وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 123)، والذهبي في "النبلاء"(13/ 563) و"التذكرة"(2/ 656)؛ من طرق ثلاث، عن عائشة

رفعته.

وإحدى هذه الطرق صحيحة لذاتها، والثانية حسنة لذاتها، والثالثة فيها خلاف وصلًا وإرسالًا وتردّد =

ص: 237

وفي حديثِ أُسامَةَ؛ أنَّهُ سَألَهُ عن ذلكَ، فقالَ صلى الله عليه وسلم:"إنَّهُما يومانِ تُعْرَضُ فيهِما الأعمالُ على ربِّ العالمينَ، فأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عملي وأنا صائم"

(1)

.

وفي حديثِ أبي هُرَيْرَةَ؛ أنَّهُ سُئِلَ عن ذلكَ، فقالَ:"إنَّهُ يُغْفَرُ فيهِما لكل مسلمٍ؛ إلَّا مهتجرَيْنِ، يَقولُ: دَعْهُما حتَّى يَصْطَلِحا"

(2)

.

وفي "صحيح مسلم"

(3)

عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: "تُفْتَحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ والخميسِ، فيُغْفَرُ لكل عبدٍ لا يُشْرِكُ باللهِ شيئًا؛ إلَّا رجلًا كانَتْ بينَهُ وبينَ أخيهِ شحناءُ، فيُقالُ: أنْظِروا هذينِ حتَّى يَصْطَلِحا".

ويُرْوى مِن حديثِ أبي أُمامَةَ مرفوعًا: "تُرْفَعُ الأعمالُ يومَ الاثنينِ والخميسِ، فيُغْفَرُ للمستغفرينَ، ويُتْرَكُ أهلُ الحقدِ بحقدِهِم"

(4)

.

وفي "المسند": عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أعمالَ بني آدَمَ تُعْرَضُ [على اللهِ تبارك وتعالى عشيَّةَ]

(5)

كلِّ خميسٍ ليلةَ الجمعةِ، فلا يُقْبَلُ عملُ قاطعِ

= بين ثقتين، وقد فصّل النَّسَائِي في هذا الخلاف فأطال، ولا يضرّ صحّة هذه الطريق شيئًا فضلًا عن الطريقين الأُخريين، والحديث صحيح غاية بمجموع طرقه، وقد قوّاه الترمذي وابن خزيمة وابن حبّان والمنذري والذهبي والعسقلاني والألباني.

(1)

(صحيح). سيأتي تفصيل القول فيه في المجلس الأوَّل من وظائف شعبان.

(2)

(صحيح بشواهده). رواه: أحمد (2/ 329)، والدارمي (2/ 20)، وابن ماجه (7 - الصيام، 42 - الاثنين والخميس، 1/ 553/ 1740)، والترمذي (الموضع السابق، 3/ 122/ 747)، والمزّي في "التهذيب"(25/ 201)؛ من طريق محمّد بن رفاعة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة

رفعه.

قال الترمذي: "حسن غريب". وقال البوصيري: "إسناده صحيح غريب، ومحمّد بن رفاعة ذكره ابن حبّان في "الثقات" تفرّد بالرواية عنه الضحّاك بن مخلد، وباقي رجال إسناده على شرط الشيخين". وقال المنذري: "رواته ثقات". قلت: ابن رفاعة مجهول. وقد أعلّه ابن رجب فيما يأتي بالوقف أيضًا. فالسند ضعيف. لكن يشهد له حديثا عائشة وأُسامة المتقدّمان ورواية مسلم الآتية بعده، فهو صحيح بهذه الشواهد.

(3)

(45 - البرّ والصلة، 11 - النهي عن الشحناء والتهاجر، 4/ 1987/ 2565).

(4)

(ضعيف جدًّا). رواه: البزّار (4/ 288/ 1460)، والطبراني (10/ 10/ 9776)؛ من طريق عبيد الله بن زحر، عن عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة، عن ابن مسعود

رفعه.

قال البزّار: "لا نعلمه عن عبد الله مرفوعا إلّا بهذا الإسناد". وقال الهيثمي: "فيه علي بن يزيد الألهاني، وهو متروك". قلت: وعبيد الله بن زحر صالح في المتابعات، والقاسم صاحب مناكير، والسند واه.

(5)

ليست في خ وم ون، وأثبتّها من مصادر التخريج حتّى لا يظنّ ظانّ أنّ أعمال المسلمين في الدنيا تعرض على النبيّ صلى الله عليه وسلم كما يدعي بعض أهل الأهواء الذين تسلّطوا على عقائد العامة بمثل هذا.

ص: 238

رحمٍ"

(1)

.

كانَ بعضُ السَّلفِ

(2)

يَبْكي إلى امرأتِهِ يومَ الخميسِ وتَبْكي إليهِ ويَقولُ: اليومَ تُعْرَضُ أعمالُنا على اللهِ عز وجل.

يا مَن يُبَهْرِجُ بعملِه! على مَن تُبَهْرِجُ والنَّاقدُ بَصير؟! يا مَن يُسَوِّفُ بطولِ أملِه! إلى كم تُسَوِّفُ والعمرُ قصير؟!

صُروفُ الحَتْفِ مُتْرَعَةُ الكؤوسِ

تُدارُ عَلى الرَّعايا وَالرُّؤوسِ

فَلا تَتْبَعْ هَواكَ فَكُلُّ شَخْصٍ

يَصيرُ إلى بِلًى وَإلى دُروسِ

وَخَفْ مِنْ هَوْلِ يَوْمٍ قَمْطَريرٍ

مَخوفٍ شَرُّهُ ضَنْكٍ عَبوسِ

فَما لَكَ غَيْرُ تَقْوى اللهِ زادًا

وَفِعْلِكَ حينَ تُقْبَرُ مِن أنيسِ

فَحَسِّنْهُ لِيُعْرَضَ مُسْتَقيمًا

فَفي الاثْنَيْنِ يُعْرَضُ وَالخَميسِ

‌المجلس الثالث في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

-

خَرَّجا في الصَّحيحينِ

(3)

مِن حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ على المنبرِ، فقالَ:"إن عبدًا خَيَّرَهُ اللهُ بينَ أنْ يُؤْتِيَهُ [مِن] زهرةِ الدُّنيا ما شاءَ وبينَ ما عندَهُ فاخْتارَ ما عندَهُ". فبَكى أبو بَكْرٍ وقالَ: يا رسولَ اللهِ! فَدَيْناكَ بآبائِنا وأُمَّهاتِنا. قال: فعَجِبْنا، وقالَ النَّاسُ: انْظُروا إلى هذا الشَّيخِ! يُخْبِرُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن عبدٍ خَيَّرَهُ اللهُ بينَ أنْ يُؤْتِيَهُ [مِن] زهرةِ الدُّنيا ما شاءَ وبينَ ما عندَ اللهِ، وهوَ يَقولُ: فَدَيْناكَ بآبائِنا وأُمَّهاتِنا! قالَ: فكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هوَ المخيَّرَ، وكانَ أبو بَكْرٍ هوَ أعْلَمَنا

(1)

(حسن). رواه: أحمد (2/ 483)، والبخاري في "الأدب"(61)، والخرائطي في "المساوئ"(279)، والبيهقي في "الشعب"(7965 و 7966)، والمزّي في "التهذيب"(8/ 242)؛ من طريق الخزرج بن عثمان أبي الخطّاب، أني أبو أيّوب سليمان مولى عثمان، سمعت أبا هريرة

رفعه.

قال المنذري والهيثمي (8/ 154): "رواته ثقات". وقال الألباني: "إسناده ضعيف". قلت: أبو الخطّاب وأبو أيّوب كلاهما صالح لا يستحق حديثه التضعيف، فالسند كذلك، والله أعلم.

(2)

في م ون وط: "كان بعض التابعين"، والأولى ما أثبتّه من خ.

(3)

البخاري (62 - الصحابة، 3 - سدّوا الأبواب إلَّا باب أبي بكر، 7/ 12/ 3654)، ومسلم (44 - الصحابة، 1 - فضائل أبي بكر، 4/ 1854/ 2382).

ص: 239

بهِ. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أمنَّ

(1)

النَّاسِ عليَّ في صحبتِه ومالهِ أبو بكرٍ، ولوْ كُنْتُ متَّخذًا مِن أهلِ الأرضِ خليلًا لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خليلًا، ولكَنْ أخوَّةُ الإسلامِ، لا تَبْقى في المسجدِ خوخةٌ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خوخةُ أبي بكرٍ"؛ رضي الله عنه.

[اعْلَمْ أن] الموتَ مكتوبٌ على كلِّ حيٍّ مِن الأنبياءِ والرُّسلِ وغيرِهِم. قالَ تَعالى لنبيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُمْ مَيِّتونَ} [الزمر: 30]. وقال تَعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 34، 35]. وقال: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ

} الآيتين [آل عمران: 144].

خَلَقَ اللهُ آدَمَ مِن تُرابِ الأرضِ، ونَفَخَ فيهِ مِن روحِهِ

(2)

، فكانَتْ روحُهُ في جسدِهِ وأرواحُ ذرِّيَّتِهِ في أجسادِهِم في هذهِ الدَّارِ عاريَّةً، وقَضى عليهِ وعلى ذرِّيَّتِهِ أنَّهُ لا بدَّ أنْ يَسْتَرِدَّ أرواحَهُم مِن هذهِ الأجسادِ ويُعيدَ أجسادَهُم

(3)

إلى ما خُلِقَتْ منهُ - وهوَ التُّرابُ -، ووَعَدَ أنْ يُعيدَ الأجسادَ مِن الأرضِ مرَّةً ثانيةً ثمَّ يَرُدَّ إليها الأرواحَ مرَّةً ثانيةً تمليكًا دائمًا لا رجعةَ فيهِ في دارِ البقاءِ. قال تَعالى:{فيها تَحْيَوْنَ وَفيها تَموتونَ وَمِنْها تُخْرَجونَ} [الأعراف: 25]. وقال: {مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفيها نُعيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أخرى} [طه: 55]. وقال: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: 17، 18]. وأرانا دليلًا في هذهِ الدَّارِ على إعادةِ الأجسادِ مِن التُّرابِ بإنباتِ الزَّرعِ مِن الأرضِ وإحياءِ الأرضِ بعدَ موتِها بالمطرِ، ودليلًا على إعادةِ الأرواحِ إلى أجسادِها بعدَ المفارقةِ بقبضِ أرواحِ العبادِ في منامِهِم

(4)

ورَدِّها إليهِم في يقظتِهِم، كما قال تَعالى: {اللهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حينَ مَوْتِها وَالَّتي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها

(1)

في خ: "وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ من أمنّ"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

يعني: الروح التي خلقها سبحانه وتعالى واختصّ بمعرفة سرها، فنسبتها إليه تعالى من باب نسبة الناقة والبيت إليه في قولنا: ناقة الله وبيت الله.

(3)

في خ: "ويعيد أجسامهم، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(4)

في خ: "في منامها"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 240

فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)} [الزمر: 42]. وفي "مسند البزَّار" عن أنَسٍ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُم لمَّا ناموا عن الصَّلاةِ: "إن هذهِ الأرواحَ عاريَّةٌ في أجسادِ العبادِ، فيَقْبِضُها إذا شاءَ ويُرْسِلُها إذا شاءَ"

(1)

.

اسْتَعِدِّي لِلمَوْتِ يا نَفْسُ وَاسْعَيْ

لِنَجاةٍ فَالحازِمُ المُسْتَعِدُّ

قَدْ تَيَقَّنْتِ أنَّهُ لَيْسَ لِلْحَـ

ـي خُلودٌ وَلا مِنَ المَوْتِ بُدُّ

إنَّما أنْتِ مُسْتَعيرَةٌ ما سَوْ

فَ تَرُدِّينَ وَالعَواري تُرَدُّ

غيرُهُ:

فَما أهْلُ الحَياةِ لَنا بِأهْلٍ

وَلا دارُ الحَياةِ لَنا بِدارِ

وَما أمْوالُنا وَالأهْلُ فيها

وَلا أوْلادُنا إلَّا عَواري

وَأنْفُسُنا إلى أجَلٍ قَريبٍ

سَيَأْخُذُها المُعيرُ مِنَ المُعارِ

مفارقةُ الجسدِ للرُّوحِ لا تَقَعُ إلَّا بعدَ ألمٍ عظيمٍ تَذوقُهُ الرُّوحُ والجسدُ جميعًا.

فإن الرُّوحَ قدْ تَعَلَّقَتْ بهذا الجسدِ وألِفَتْهُ واشْتَدَّتْ أُلفَتُها لهُ وامتزاجُها [بهِ] ودخولُها فيهِ حتَّى صارا كالشَّيءِ الواحدِ فلا يَتَفارَقانِ إلَّا بجهدٍ شديدٍ وألم عظيمٍ لمْ يَذُقِ ابنُ آدَمَ في حياتِهِ ألمًا مثلَهُ. وإلى ذلكَ الإشارةُ بقولِهِ: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَة المَوْتِ} [آل عمران: 185، الأنبياء: 35، العنكبوت: 57]. قالَ الرَّبيعُ بنُ خُثَيْمٍ: أكْثِروا [مِن]

(2)

ذكرِ [هذا] الموتِ؛ فإنَّكُم لمْ تَذوقوا قبلَهُ مثلَهُ.

ويَتَزايَدُ الألمُ بمعرفةِ المحتضرِ

(3)

بأنَّ جسدَهُ إذا فارَقَتْهُ الرُّوحُ صارَ جيفةً مستقذرةً

(1)

(ضعيف). رواه: البزّار (396 - كشف الأستار)، والإسماعيلي في "معجم شيوخه"(1/ 444 / 101)، والخطيب في "التاريخ"(2/ 192)؛ من طريق عمر بن محمّد بن الحسن، ثنا أبي، ثنا عتبة أبو عمرو، عن الشعبيّ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه

رفعه.

قال البزّار: "لا يعلم رواه عن الشعبيّ عن أنس إلّا عتبة، تفرّد به محمّد بن الحسن الأسدي". وقال الهيثمي (1/ 327): "فيه عتبة أبو عمرو

ولم أجد من ذكره وبقيّة رجاله رجال الصحيح". قلت: عتبة هو ابن اليقظان، ضعيف، من رجال التهذيب. وعمر بن محمّد يهم. وأبوه فيه لين. والسند ضعيف.

(2)

ليست في خ وم ون، استفدتها من ط.

(3)

في خ: "المستحضر"! والصواب ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 241

يَأْكُلُهُ الهوامُّ ويُبْليهِ التُّرابُ حتَّى يَعودَ ترابًا، وأنَّ الرُّوحَ المفارقةَ [لهُ] لا تَدْري أينَ مستقرُّها؛ هلْ هوَ الجنَّةُ أوِ النَّارُ؟ فإنْ كانَ عاصيًا مصرًّا على المعصيةِ إلى الموتِ؛ فربَّما غَلَبَ على ظنِّهِ أن روحَهُ تَصيرُ إلى النَّارِ، فتَتَضاعَفُ بذلكَ حسرتُهُ وألمُهُ، وربَّما كُشِفَ لهُ معَ ذلكَ عن مقعدِهِ مِن النَّارِ فيَراهُ أوْ يُبَشَّرُ بذلكَ، فيَجْتَمعُ لهُ معَ كربِ الموتِ وألمِهِ العظيمِ معرفتُهُ بسوءِ مصيرِهِ، وهذا هوَ المرادُ بقولِهِ عز وجل {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)} [القيامة: 29] على ما فَسَّرَهُ بهِ كثيرٌ مِن السَّلفِ، فيَجْتَمعُ عليهِ سكرةُ الموتِ معَ حسرةِ الفوتِ، فلا تَسْألْ عن سوءِ حالِهِ.

وقدْ سَمَّى اللهُ تَعالى ذلكَ سكرةً؛ لأنَّ ألمَ الموتِ معَ ما يَنْضَمُّ إليهِ يُسْكِرُ صاحبَهُ فيَغيبُ عقلُهُ غالبًا؛ قالَ تَعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19].

ألا لِلْمَوْتِ كَأْسٌ أيُّ كَاسِ

وَأنْتَ لِكَأْسِهِ لا بُدَّ حاسي

إلى كَمْ وَالمَماتُ إلى قَريبٍ

تُذَكَّرُ بِالمَماتِ وَأنْتَ ناسي

• وقدْ أمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بكثرةِ ذكرِ الموتِ:

فقالَ: "أكْثِروا ذكرَ هاذِمِ اللذاتِ؛ الموتِ"

(1)

.

(1)

(صحيح). وقد جاء عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم:

• فرواه: أبو نعيم في "الحلية"(6/ 355) من طريق عبد الملك بن يزيد، ثنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيّب، عن عمر

رفعه. وعبد الملك هذا متّهم بغير ما حديث باطل على جهالته، وقد تفرّد عن مالك بهذا دون ثقات أصحابه، فبان أنّه ممّا صنعت يداه.

• ورواه: الترمذي (38 - القيامة، 26 - باب، 4/ 639/ 2460)، والبيهقي في "الشعب"(828)؛ من طريق القاسم بن الحكم العرني، ثني عبيد الله بن الوليد الوصافي، عن عطيّة، عن أبي سعيد

رفعه. قال الترمذي: "حسن غريب". قلت: بل ضعيف ساقط: العرني فيه لين، والوصافي واه في حدّ الترك، وعطية واه سيّئ التدليس جدًّا وقد عنعن.

• ورواه: ابن المبارك في "الزهد"(145)، والبغوي في "السنّة"(1447)؛ من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعبد الرحمن ضعيف، فالسند ضعيف على إرساله.

• ورواه: الطبراني في "الأوسط"(5776)، والعسكري في "الأمثال "، وابن جميع في "شيوخه"(ص 245/ رقم 201)، والقضاعي (671)، والبيهقي في "الشعب"(10558)؛ من طريق القاسم بن محمّد أبي عامر الأسدي، ثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر

رفعه. قال الطبراني: "لم يروه عن ابن عمر إلَّا أبو عامر الأسدي". وقال الهيثمي (10/ 312): "إسناده حسن". قلت: الأسدي مجهول أو مستور.

• ورواه: ابن المبارك في "الزهد"(146)، وابن أبي شيبة (34315 و 34316)، وأحمد (2/ 292)،=

ص: 242

وفي حديثٍ مرسلٍ: أنَّهُ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بمجلسٍ قدِ اسْتَعْلاهُ الضَّحكُ، فقالَ:"شوبوا مجلسَكُم بذكرِ مكدِّرِ اللذَّاتِ؛ الموتِ"

(1)

.

وفي الإكثارِ مِن ذكرِ الموتِ فوائدُ منها: أنَّهُ يَحُثُّ على الاستعدادِ لهُ قبلَ نزولِهِ، ويُقَصِّرُ الأملَ، ويُرْضي بالقليلِ مِن الرِّزقِ، ويُزَهِّدُ في الدُّنيا، ويُرَغِّبُ في الآخرةِ، ويُهَوِّنُ مصائبَ الدُّنيا، ويَمْنَعُ مِن الأشرِ والبطرِ والتَّوسُّعِ في لذَّاتِ الدُّنيا.

وفي حديثِ أبي ذرٍّ المرفوعِ الذي خَرَّجَهُ ابنُ حِبَّانَ في "صحيحه" وغيرُهُ أن صحفَ موسى عليه السلام "كانَتْ عبرًا: عَجِبْتُ لمَن أيْقَنَ بالموتِ كيفَ يَفْرَحُ! عَجِبْتُ لمَن أيْقَنَ بالنَّارِ كيفَ يَضْحَكُ! عَجِبْتُ لمَن أيْقَنَ بالقَدَرِ كيفَ يَنْصَبُ! عَجِبْتُ لمَن رأى الدُّنيا وسرعةَ تقلُّبِها بأهلِها كيفَ يَطْمَئِن إليها! "

(2)

.

وقدْ رُوِيَ أن الكنزَ الذي كانَ للغلامينِ كانَ لوحًا مِن ذهبٍ مكتوبٌ فيهِ هذا أيضًا

(3)

.

=وابن ماجه (37 - الزهد، 31 - ذكر الموت، 2/ 1422/ 4258)، والترمذي (37 - الزهد، 4 - ذكر الموت، 4/ 553/ 2307)، والنسائي (21 - الجنائز، 3 - كثرة ذكر الموت، 4/ 4/ 1823) وفي "الكبرى"(1950)، وابن حبّان (2992 - 2995)، والطبراني في "الأوسط"(8555)، والحاكم (4/ 321)، والقضاعي (668 - 670)، والبيهقي في "الشعب"(10559 و 10560) و"الزهد"(684 و 685)، والخطيب في "التاريخ"(1/ 384، 9/ 469)، والرافعي في "التدوين"(2/ 282)، والمزّي في "التهذيب"(24/ 320)؛ من طريق محمّد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

رفعه. قال الترمذي: "حسن غريب". وقال الحاكم والذهبي: "على شرط مسلم". قلت: محمّد حسن الحديث من رجال مسلم في المتابعات.

• ورواه: البزّار (3623 - كشف)، والطبراني في "الأوسط"(695)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 252)، والبيهقي في "الشعب"(826 و 827 و 4833)، والخطيب في "التاريخ"(12/ 72)، والضياء في "المختارة"(5/ 76/ 1701 و 1702)؛ من طريقين إحداهما قويّة، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس

رفعه. قال الهيثمي (10/ 311): "إسناده حسن".

فالأوجه الثلاثة الأولى ساقطة، والثلاثة التالية قويّة يفيد اجتماعها صحّة الحديث، وقد مال إلى تقويته الترمذي وابن حبّان والحاكم والضياء والمنذري والذهبي والعراقي والهيثمي والعسقلاني والألباني.

(1)

(ضعيف). قال العراقي: "رواه ابن أبي الدنيا في "كتاب الموت" هكذا مرسلا [يعني: عن عطاء الخراساني عن النبيّ صلى الله عليه وسلم]، ورويناه في "أمالي الخلّال" من حديث أنس، ولا يصحّ". وأقرّه الزبيدي والمناوي. قلت: رواية عطاء الخراساني عن النبيّ صلى الله عليه وسلم معضلة على الأغلب، ويغني عنه ما قبله.

(2)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 78).

(3)

(ضعيف). رواه: البزّار (2229 - كشف)، وابن أبي حاتم (الكهف 82 - درّ)، وابن مردويه=

ص: 243

قالَ الحَسَنُ: إنَّ هذا الموتَ قد أفْسَدَ على أهلِ النَّعيمِ نعيمَهُم، فالْتَمِسوا عيشًا لا موتَ فيهِ.

وقالَ: فَضَحَ الموتُ الدُّنيا فلمْ يَدعْ لذي لبٍّ بها فرحًا

(1)

.

وقالَ غيرُهُ: ذَهَبَ ذكرُ الموتِ بلذاذةِ كلِّ عيشٍ وسرورِ كلِّ نعيمٍ. ثمَّ بَكى وقالَ: واهًا لدارٍ لا موتَ فيها!

اذْكُرِ المَوْتَ هاذِمَ اللَّذَّاتِ

وَتَهَيَّأ لِمَصْرَعٍ سَوْفَ ياتي

(2)

يا غافِلَ القَلْبِ عَنْ ذِكْرِ المَنِيَّاتِ

عَمَّا قَليلٍ سَتُلْقى بَيْنَ أمْواتِ

فَاذْكُرْ مَحَلَّكَ مِنْ قَبْلِ الحُلولِ بهِ

وَتُبْ إلى اللهِ مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ

إنَّ الحِمامَ لَهُ وَقْتٌ إلى أجَلٍ

فَاذْكُرْ مَصائِبَ أيَّامٍ وساعاتِ

لا تَطْمَئِنَّ إلى الدُّنْيا وَزينَتِها

قَدْ آنَ لِلمَوْتِ يا ذا اللُّبِّ أنْ ياتي

قالَ بعضُ السَّلفِ: شيئانِ قَطَعا عنِّي لذاذةَ الدُّنيا: ذكرُ الموتِ، والوقوفُ بينَ يديِ اللهِ عز وجل.

وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ كانَ موقِنًا

بِأنَّ المَنايا بَغْتَةً سَتُعاجِلُهْ

وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ كانَ موقِنًا

بِأنَّ إلهَ العَرْشِ لا بُدَّ سائِلُهْ

قالَ أبو الدَّرْداءِ: كَفى بالموتِ واعظًا، وكَفى بالدَّهرِ مفرِّقًا اليومَ في الدُّورِ وغدًا في القبورِ.

أُذْكُرِ المَوْتَ وَلازِمْ ذِكْرَهُ

إنَّ في المَوْتِ لِذي اللُّبِّ عِبَرْ

وَكَفى بِالمَوْتِ فَاعْلَمْ واعِظًا

لِمَنِ المَوْتُ عَلَيْهِ قَدْ قُدِرْ

= (الكهف 82 - درّ)؛ من طريق بشر بن المنذر، ثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي، عن عيّاش بن عبّاس القتباني، عن ابن حجيرة، عن أبي ذر

رفعه. قال البزّار: "لا نعلمه يروى عن أبي ذرّ إلّا بهذا الإسناد".

وقال الهيثمي (7/ 57): "بشر بن المنذر عن الحارث بن عبد الله اليحصبي ولم أعرفهما". ووافقه العسقلاني.

ورواه ابن مردويه (الكهف 82 - درّ) من حديث علي مرفوعًا بنحوه.

وقد جاء من أوجه عدّة من ابن عبّاس والحسن وغيرهما موقوفًا، فالظاهر أن هذا أصله، وأنّه ممّا تسرّب إلينا من مرويّات أهل الكتاب، والله أعلم.

(1)

في خ: "لذي لبّ فيها فرحًا"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

هذا بيت مفرد لا علاقة له بالمقطوعة التالية لأنّه يخالفها وزنًا.

ص: 244

غفلةُ الإنسانِ عن الموتِ معَ أنَّهُ لا بدَّ لهُ منهُ مِن العجبِ، والموجبُ لها طولُ الأملِ:

كلُّنا في غَفْلَةٍ وَالمَوْتُ يَغْدو وَيَروحُ

لبَني الدُّنْيا مِنَ المَوْتِ غَبوقٌ وَصَبوحُ

سيَصيرُ المَرْءُ يومًا جَسَدًا ما فيهِ رُوحُ

بيْنَ عَيْنَيْ كُلِّ حَيٍّ عَلَمُ المَوْتِ يَلوحُ

نحْ عَلى نَفْسِكَ يا مِسْكينُ إنْ كُنْتَ تَنوحُ

لتَموتَنَّ وَلَوْ عُمِّرْتَ ما عُمِّرَ نوحُ

لمَّا كانَ الموتُ مكروهًا بالطَّبعِ لِما فيهِ مِن الشِّدَّةِ والمشقَّةِ العظيمةِ؛ لمْ يَمُتْ نبيٌّ مِن الأنبياءِ حتَّى يُخَيَّرَ، ولذلكَ وَقَعَ التَّردُّدُ فيهِ في حقِّ المؤمنِ، كما في حديثِ أبي هُرَيْرَةَ عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم:"يَقولُ اللهُ عز وجل: وما تَرَدَّدْتُ عن شيءٍ أنا فاعلُهُ تردُّدي في قبضِ نفسِ عبدي المؤمنِ؛ يَكْرَهُ الموتَ وأكْرَهُ مساءتَهُ، ولا بدَّ لهُ منهُ"

(1)

.

قالَ ابنُ أبي مُلَيْكَةَ: لمَّا قُبِضَ إبْراهيمُ عليه السلام؛ قالَ اللهُ تَعالى [لهُ]: كيفَ وَجَدْتَ الموتَ؟ قالَ: يا ربِّ! كأنَّ نفسي تُنْزَعُ بالسَّلى. فقالَ: هذا وقدْ هَوَّنَّا عليكَ الموتَ!

وقال أبو إسْحاقَ: قيلَ لموسى عليه السلام: كيفَ وَجَدْتَ طعمَ الموتِ؟ قالَ: وَجَدْتُهُ كسُفُّودٍ أُدْخِلَ في صوفٍ فاجْتُذِبَ. قالَ: هذا وقد هَوَّنَّا عليكَ الموتَ.

ويُرْوى أن عيسى عليه السلام كانَ إذا ذَكَرَ الموتَ يَقْطُرُ جلدُهُ دمًا، وكانَ يَقولُ للحواريِّينَ: ادْعوا الله أنْ يُخَفِّفَ عنِّي الموتَ؛ فلقدْ خِفْتُ الموتَ خوفًا أوْقَفَني مخافةُ الموتِ على الموتِ

(2)

.

(1)

رواه البخاري (81 - الرقاق، 38 - التواضع، 11/ 340/ 6502). وقوله "ولا بدّ له منه" ليس عند البخاري، لكن أشار العسقلاني إلى أنّه جاء من طريقين عند غير البخاري إحداهما طريق البخاري نفسها.

(2)

والأخبار الثلاثة من الإسرائيليّات، ومع ذلك فلا تصحّ نسبتها إلى ناقليها كابن أبي مليكة وأبي إسحاق، وقد ركّب لها بعض الوضّاعين أسانيد وجعلوها من المرفوع، وفيها ما يستنكر على كلّ حال.

ص: 245

كيفَ يُطْمَعُ في البقاءِ وما مِن الأنبياءِ إلّا مَن ماتَ

(1)

؟! أم كيفَ يُؤْمَنُ هجومُ المنايا ولَم يَسْلَمِ الأصفياءُ والأحبَّاءُ؟! هيهاتَ هيهات!

قَدْ ماتَ كُلُّ نَبِيٍّ

وَماتَ كُلُّ نَبيهِ

وَماتَ كُلُّ شَريفٍ

وَعاقِلٍ وَسَفيه

لا يُوحِشَنْكَ طَريقٌ

كُلُّ الخَلائِقِ فيهِ

• أوَّلُ ما أُعْلِمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنِ انقضاءِ عُمُرِهِ باقترابِ أجلِهِ بنزولِ سورةِ {إذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ} [النصر: 1]؛ فإنَّ المرادَ مِن هذهِ السُّورةِ أنَّكَ يا مُحَمَّدُ إذا فَتَحَ اللهُ عليكَ البلادَ ودَخَلَ النَّاسُ في دينِكَ الذي دَعَوْتَهُم إليهِ أفواجًا؛ فقدِ اقْتَرَبَ أجلُكَ، فتَهَيَّأ للقائِنا بالتَّحميدِ والاستغفارِ؛ فإنَّهُ قد حَصَلَ منكَ مقصودُ ما أُمِرْتَ بهِ مِن أداءِ الرِّسالةِ والتَّبليغِ، وما عندَنا خير لكَ مِن الدُّنيا، فاسْتَعِدَّ للنُّقلةِ إلينا.

قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لمَّا نَزَلَتْ هذهِ السُّورةُ، نُعِيَتْ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نفسُهُ، فأخَذَ في أشدِّ ما كانَ اجتهادًا في أمرِ الآخرةِ

(2)

.

ورُوِيَ في حديثٍ أنَّهُ تَعَبَّدَ حتَّى صارَ كالشَّنِّ البالي

(3)

.

(1)

في خ ون: "وما من نبيّ من الأنبياء إلّا مات"، والأولى ما أثبتّه من م.

(2)

(حسن صحيح). رواه: عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد"، والنسائي في "الكبرى"(11712)، وابن أبي حاتم في "التفسير"، والطبراني في "الكبير"(11/ 328/ 1903) و"الأوسط"(2017)، وابن مردويه في "التفسير"؛ من طريق هلال بن خبّاب، عن عكرمة، عن ابن عبّاس

رفعه.

وهذا سند صالح، رجاله ثقات؛ إلّا هلال بن خبّاب؛ فقد تغيّر تغيّر السنّ ورقّ حفظه وليس بالمخلّط. لكن يشهد لهذا المتن ما سيأتي بعده فهو صحيح به.

(3)

(ضعيف جدًّا). رواه البيهقي في "الشعب"(1496) من طريق نصر بن حريش الصامت، ثنا المشمعلّ بن ملحان، عن محمّد بن عمرو، عن أبي سلمة

فذكره بلفظ: "كالشرك البالي"! والصامت ضعيف، والمشمعلّ يخطئ، وأبو سلمة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسل.

ورواه: ابن أبي شيبة (34337)، والبيهقي في "الشعب"(1498)؛ من طريقين، عن هشام، عن الحسن، [عن بعض أصحابه]

به. وهذا واه فيه علل: أولاها: أنّ في رواية هشام عن الحسن مقالًا.

والثانية: إبهام صاحب الحسن. والثالثة: الإرسال.

ورواه الخطيب في "التاريخ" من حديث سفينة بسند مسلسل بالمجاهيل بنحوه.

فالطريقان ضعيفتان على إرسالهما، والموصول ساقط، وذكر الشرك - وهو النعل - في وصف النبيّ صلى الله عليه وسلم منكر تقشعرّ له الأبدان ولا يصدر عن التابعين بإحسان.

ص: 246

وكانَ يَعْرِضُ القرآنَ [كلَّ عامٍ] على جبريلَ مرَّةً، فعَرَضَهُ ذلكَ العامَ مرَّتينِ

(1)

.

وكانَ يَعْتكِفُ العشرَ الأواخرَ مِن رمضانَ كلَّ عامٍ، فاعْتكَفَ في ذلكَ العامِ عشرينَ، وأكْثَرَ مِن الذِّكرِ والاستغفارِ

(2)

.

قالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في آخرِ أمرِهِ لا يقومُ ولا يَقْعُدُ ولا يَذْهَبُ ولا يَجيءُ إلَّا قالَ: "سبحانَ اللهِ وبحمدِهِ". فذَكَرْتُ ذلكَ لهُ. فقالَ: "إنِّي أُمِرْتُ بذلكَ"، وتَلا هذهِ السُّورة

(3)

.

(4)

.

وقالَتْ عائِشَةُ رضي الله عنها: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ أنْ يَقولَ قبلَ موتِهِ: "سبحانَ اللهِ وبحمدهِ، أسْتَغْفِرُ الله وأتوبُ إليهِ". فقُلْتُ لهُ: إنَّكَ تَدْعو بدعاءٍ لمْ تَكُنْ تَدْعو بهِ قبلَ اليومِ. قالَ: "إنَّ ربِّي أخْبَرَني أنِّي سَأرى عَلَمًا في أُمَّتي، وأنِّي إذا رَأيْتُهُ أنْ أُسَبِّحَ بحمدِهِ وأسْتَغْفِرَهُ، وقد رَأيْتُهُ". ثمَّ تَلا هذهِ السُّورَة

(5)

.

إذا كانَ سيدُ المحسنينَ يُؤْمَرُ بأنْ يَخْتِمَ أعمالَهُ بالحسنى؛ فكيفَ يَكونُ حالُ المذنبِ المسيءِ المتلوِّثِ بالذُّنوبِ المحتاجِ إلى التَّطهيرِ؟!

مَن لمْ يُنْذِرْهُ باقترابِ أجلِهِ وحيٌ؛ أنْذَرَهُ الشَّيبُ وسلبُ أقرانِهِ بالموتِ.

كَفى مُؤْذِنًا بِاقْتِرابِ الأجَلْ

شَبابٌ تَوَلَّى وَشَيْبٌ نَزَلْ

وَمَوْتُ الِلداتِ وهَلْ بَعْدَه

(6)

بَقاءٌ يُؤَمِّلُهُ مَنْ عَقَلْ

(1)

رواه: البخاري (79 - الاستئذان، 43 - من ناجى بين يدي الناس، 11/ 79/ 6285 و 6286)، ومسلم (44 - الصحابة، 15 - فضائل فاطمة، 4/ 1904/ 2450)؛ من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

رواه البخاري (33 - الاعتكاف، 17 - اعتكاف العشر الأوسط، 4/ 284/ 2044) عن أبي هريرة.

(3)

في خ: "آخر عمره

وتلا هذه الآية"! وما أثبتّه من م ون وط أولى بمصادر التخريج.

(4)

(صحيح). رواه: الطبري (38248)، وابن مردويه (الدرّ - النصر)؛ من طريق مسلسلة بالثقات، عن الشعبيّ، عن أُمّ سلمة

به. قال ابن كثير: "غريب". قلت: رجاله ثقات، وسماع الشعبيّ من أُمّ سلمة قويّ راجح، والمتن لا تعوزه الشواهد، ولذلك قوّاه القاري وغيره.

(5)

رواه: البخاري (10 - الأذان، 123 - الدعاء في الركوع، 2/ 281/ 794)، ومسلم (4 - الصلاة، 42 - ما يقال عند الركوع، 1/ 351/ 484). وهذا اللفظ لمسلم.

(6)

في خ: "وموت الأخلّاء هل بعده"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط. ولدات الرجل: أترابه الذين يقاربونه في العمر.

ص: 247

إذا ارْتَحَلَتْ قُرَناءُ الفَتى

عَلى حُكْمِ رَيْبِ المَنونِ ارْتَحَلْ

قالَ وُهَيْبُ بنُ الوَرْدِ: إنَّ للهِ مَلَكًا يُنادي في الماءِ كلَّ يومٍ وليلةٍ

(1)

: أبناءَ الخمسينَ! زرعٌ دَنا حصادُهُ. أبناءَ السِّتِّينَ! هَلُمُّوا إلى الحسابِ. أبناءَ السَّبعينَ! ماذا قَدَّمْتُمْ وماذا أخَّرْتُم؟ أبناء الثَّمانينَ! لا عذرَ لكُم.

وعن وَهْبٍ؛ قالَ: يُنادي منادٍ: أبناءَ السِّتَينَ! عُدُّوا أنفسَكُم في الموتى

(2)

.

وفي "صحيح البخاري"

(3)

: عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"أعْذَرَ اللهُ إلى مَن بَلَّغَهُ ستِّينَ مِن عمرِهِ".

وفي حديث آخرَ: "إذا كانَ يومُ القيامةِ؛ نودِيَ: أينَ أبناءُ السِّتِّينَ؟ وهوَ العمُرُ الذي قالَ اللهُ فيهِ: {أوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فيهِ مَن تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] "

(4)

.

وفي التِّرْمِذِيِّ عنهُ؛ قالَ: "أعمارُ أُمَّتي ما بينَ السِّتِّينَ إلى السَّبعينَ، وأقلُّهُم مَن يَجوزُ ذلكَ"

(5)

.

(1)

في خ: "كلّ ليلة ويوم"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

مثل هذا يحتاج إلى سند ثابت إلى من لا ينطق عن الهوى، وهيهات! والراجح فيما أرى أنّه من أخبار أهل الكتاب التي أكثر منها وهيب ووهب. والله أعلم.

(3)

(81 - الرقاق، 5 - من بلغ ستّين سنة، 11/ 238/ 6419).

(4)

(ضعيف جدًّا). رواه: الطبري (29031)، وابن المنذر (فاطر 37 - الدرّ)، وابن أبي حاتم (فاطر 37 - ابن كثير)، والطبراني في "الكبير"(11/ 142/ 11415) و"الأوسط"(7921 و 9134)، والرامهرمزي في "الأمثال"(27)، وابن مردويه (فاطر 37 - درّ)، والبيهقي (3/ 370) وفي "الشعب"(10254) و"الزهد"(618)؛ من طريق إبراهيم بن الفضل، عن ابن أبي حسين المكّيّ، عن عطاء، عن ابن عبّاس

رفعه.

قال ابن كثير: "فيه نظر لحال إبراهيم بن الفضل المخزومي". وقال الهيثمي (7/ 100): "فيه إبراهيم بن الفضل المخزومي وهو ضعيف". قلت: بل متروك. وقال الألباني: "ضعيف جدًّا".

(5)

(صحيح). رواه: ابن ماجه (37 - الزهد، 27 - الأمل والأجل، 2/ 1415/ 4236)، والترمذي (49 - الدعوات، 102 - دعاؤه صلى الله عليه وسلم، 5/ 553/ 3550)، وأبو يعلى (5990)، وابن حبّان (2980)، وأبو الشيخ في "الطبقات (4/ 304)، والإسماعيلي في "معجم الشيوخ" (1/ 503/ 151)، وابن منده في "التوحيد"، والحاكم (2/ 427)، والثعلبي في "التفسير"، والقضاعي (252)، والبيهقي (3/ 370)، والخطيب في "التاريخ" (6/ 397، 12/ 42)، والبغوي في "التفسير" (4/ 529)، والمزّي في "التهذيب" (6/ 207 - 210)، والذهبي في "النبلاء" (15/ 74)؛ من طريق عبد الرحمن بن محمّد المحاربي، عن محمّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

رفعه. قال الترمذي: "حسن غريب". قلت: من أجل عبد الرحمن بن محمّد المحاربي؛ ففيه كلام لا ينحطّ بحديثه عن رتبة الحسن.

ص: 248

وفي حديثٍ آخرَ: "معتركُ المنايا ما بينَ السِّتِّينَ إلى السَّبعينَ"

(1)

.

وفي حديثٍ آخرَ: "إنَّ لكلِّ شيءٍ حصادًا، وحصادُ أُمَّتي ما بينَ السِّتِّينَ إلى السَّبعينَ"

(2)

.

وفي هذا المعتركِ قُبِضَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم.

قالَ سُفْيانُ الثَّورِيُّ: مَن بَلَغَ سنَّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فلْيَتَّخِذْ لنفسِهِ كفنًا.

وإنَّ امْرَأً قدْ سارَ

(3)

سِتِّينَ حِجَّةً

إلى مَنْهَلٍ مِن وُرْدِهِ لَقَريبُ

قالَ الفُضَيْلُ لرجلٍ: كم أتى عليكَ؟ قالَ: ستُّونَ سنةً. قالَ لهُ: أنتَ منذُ ستِّينَ سنة تَسيرُ إلى ربِّكَ، يوشِكُ أَنْ تَبْلُغَ. فقالَ الرَّجلُ: إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ. فقالَ الفُضيْلُ: مَن عَلِمَ أنَّهُ للهِ عبدٌ وأنَّهُ إليهِ راجعٌ؛ فلْيَعْلَمْ أنَّهُ موقوفٌ وأنَّهُ مسؤولٌ، فلْيُعِدَّ للمسألةِ جوابا. فقالَ لهُ الرَّجلُ: فما الحيلةُ؟ قالَ: يسيرةٌ. قالَ: [فـ]ـما هيَ؟ قالَ: تُحْسِنُ فيما بَقِيَ فيُغْفَرُ لكَ ما مَضى؛ فإنَّكَ إنْ أسَأْتَ فيما بَقِيَ؛ أُخِذْتَ بِما مَضى وبما بقِيَ.

خُذْ في جِدٍّ فَقَدْ تَوَلَّى العُمُرُ

كَمْ ذا التَّفْريطُ قَدْ تَدانى الأمْرُ

أقْبِلْ فَعَسى يُقْبَلُ مِنْكَ العُذْرُ

كَمْ تَبْني كَمْ تَنْقُضُ كَمْ ذا الغَدْرُ

=ورواه: الترمذي (37 - الزهد، 23 - فناء أعمار هذه الأُمّة، 4/ 566/ 2331)، وابن أبي الدنيا (فاطر 37 - ابن كثير)، وأبو يعلى (6656)، والطبراني في "الأوسط"(5868)، وابن عدي (6/ 2101)؛ من طريق كامل أبي العلاء، عن أبي صالح السمّان، عن أبي هريرة

رفعه. قال الترمذي: "حسن غريب". قلت: حديث كامل لا يبلغ أن يحسن، نعم؛ هو صالح في الشواهد.

وله شاهد ضعيف عن أنس بن مالك عند: أحمد في "العلل"(2231)، وأبي يعلى (2902)، والروياني في "المسند"(1372).

والحديث صحيح بطريقيه، فضلًا عن شاهده، وقد قوّاه جماعة منهم الترمذي وابن حبّان والحاكم والذهبي وابن كثير والعسقلاني والألباني.

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: أبو يعلى (6543)، والحكيم في "النوادر"(42696 - كنز)، والرامهرمزي في "الأمثال"(26)، والعسكري، والقضاعي (251)، والبيهقي في "الشعب"(10253)، والخطيب (5/ 476)، ورزين (3941 - جامع الأصول)؛ عن إبراهيم بن الفضل، عن المقبري، عن أبي هريرة

رفعه.

قال ابن كثير: "إسناده ضعيف". وقال العسقلاني في "الفتح"(11/ 239): "إبراهيم ضعيف". قلت: جدًّا متروك الحديث، فالسند شديد الضعف، وإلى ذلك مال الألباني.

(2)

(ضعيف). رواه ابن عساكر (4721 - ضعيف الجامع)، ولم أقف عليه، وقد ضعّفه الألباني.

(3)

في خ: "قد عاش"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 249

• وما زالَ صلى الله عليه وسلم يُعَرِّضُ باقترابِ أجلِهِ في آخرِ عمرِهِ:

فإنَّهُ لمَّا خَطَبَ في حجَّةِ الوداعِ؛ قالَ للنَّاسِ: "خُذوا عنِّي مناسكَكُم، فلعلِّي لا أَلْقاكُم بعدَ عامي هذا"

(1)

. وطَفِقَ يُوَدِّعُ النَّاسَ، فقالوا: هذهِ حجَّةُ الوداعِ.

فلمَّا رَجَعَ مِن حجَّتِهِ إلى المدينةِ؛ جَمَعَ النَّاسَ بماءٍ يُدْعى خُمًّا في طريقِهِ بينَ مَكَّةَ والمدينةِ، فخَطَبَهُم وقالَ: "أيُّها النَّاسُ! إنَّما أنا بشرٌ

(2)

، يُوشِكُ أنْ يَأْتِيَني رسولُ ربِّي فأُجيبَ". ثمَّ حَضَّ على التَّمسُّكِ بكتابِ اللهِ، ووَصى بأهلِ بيتِهِ

(3)

.

• ثمَّ إنَّهُ صلى الله عليه وسلم لمَّا بَدَأ بهِ مرضُ الموتِ؛ خُيِّرَ بينَ لقاءِ اللهِ وبينَ زهرةِ الدُّنيا والبقاءِ فيها [ما شاءَ اللهُ] فاخْتارَ لقاءَ اللهِ وخَطَبَ النَّاسَ وأشارَ إليهِم بذلكَ إشارةً مِن غيرِ تصريحٍ.

وكانَ ابتداءُ مرضِهِ في أواخرِ شهرِ صَفَرَ.

وكانَتْ مدَّةُ مرضِهِ ثلاثةَ عشرَ يومًا في المشهورِ. وقيلَ: أربعةَ عشرَ يومًا. وقيلَ: اثنا عشرَ يومًا. وقيلَ: عشرةُ أيام. وهو غريبٌ.

وكانَتْ خطبتُهُ التي خَطَبَ بها في حديثِ أبي سَعيدٍ هذا الذي نتكَلَّمُ عليهِ هاهُنا في ابتداءِ مرضِهِ.

ففي "المسند" و"صحيح ابن حِبَّان": عن أبي سَعيدٍ؛ قالَ: خَرَجَ إلينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في مرضِهِ الذي ماتَ فيهِ وهوَ معصوبُ الرَّأْسِ، فقامَ على المنبرِ، فقالَ:"إنَّ عبدًا عُرِضَتْ عليهِ الدُّنيا وزينتُها، فاخْتارَ الآخرةَ". قالَ: فلمْ يَفْطَنْ لها أحدٌ مِن القومِ إلَّا أبو بَكْرٍ، فقالَ: بأبي وأُمِّي، بل نَفْديكَ بأموالِنا وأولادِنا وأنفسِنا. قالَ: ثمَّ هَبَطَ عن المنبرِ فَما رُئِيَ عليهِ حتَّى السَّاعةِ

(4)

.

(1)

رواه مسلم (15 - الحجّ، 51 - استحباب رمي جمرة العقبة، 2/ 943/ 1297).

(2)

في خ: "بشر مثلكم "، وهذا وهم من الناسخ ليس في متن الحديث ولا في م ون وط.

(3)

رواه مسلم (44 - الصحابة، 4 - فضائل علي، 4/ 1873/ 2408) من حديث زيد بن أرقم.

(4)

(صحيح). رواه: ابن أبي شيبة (37026)، وابن سعد (2/ 230)، وأحمد في "المسند"(3/ 91) و"فضائل الصحابة"(154)، وعبد بن حميد (964)، والدارمي (1/ 36)، وأبو يعلى (1155)، وابن حبّان (6593)، والحاكم (4/ 282)؛ من طريق أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد

رفعه.

ص: 250

وفي "المسند": عن أبي مُوَيْهِبَةَ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ ليلةً إلى البقيعِ، فاسْتَغْفَرَ لأهلِ البقيعِ، وقالَ:"لِيَهْنِكُم ما أصبَحْتُمْ فيهِ ممَّا أصْبَحَ فيهِ النَّاسُ. أقْبَلَتِ الفتنُ كقطعِ الليلِ المظلمِ، يَتْبَعُ بعضُها بعضًا، يَتْبَعُ آخرُها أوَّلَها، الآخرةُ شرٌّ مِن الأُولى". ثمَّ قالَ: "يا أبا مُوَيْهِبَةَ! إنِّي قد أُعْطيتُ خزائنَ الدُّنيا والخلدَ ثمَّ الجنة، فخُيِّرْتُ بينَ ذلكَ وبينَ لقاءِ ربِّي والجنَّةِ، فاخْتَرْتُ لقاءَ ربِّي والجنَّةَ". ثمَّ انْصَرَفَ. فابْتَدَأهُ وجعُهُ الذي قَبَضَهُ اللهُ فيهِ

(1)

.

لمَّا قَوِيَتْ معرفةُ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم بربِّهِ؛ ازْدادَ حبُّهُ وشوقُهُ إلى لقائِهِ، فلمَّا خُيِّرَ بينَ البقاءِ في الدُّنيا وبينَ لقاءِ ربِّهِ؛ اخْتارَ لقاءَهُ على خزائنِ الدُّنيا والبقاءِ فيها.

سُئِلَ الشِّبْلِيُّ: هلْ يَقْنَعُ المحبُّ بشيءٍ مِن حبيبِهِ دونَ مشاهدتِهِ؟ فأنْشَدَ:

= قال الحاكم: "على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، قلت: أبو يحيى - واسمه سمعان - لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن، بل هو فوق ذلك. وأصل الحديث عند الشيخين كما سيأتي قريبًا، لكن ليس عندهما ذكر خروجه صلى الله عليه وسلم عاصب الرأس، وإنّما جاء خروجه عاصب الرأس عندهما من حديث ابن عبّاس.

(1)

(حسن صحيح). رواه: ابن إسحاق في "السيرة"(4/ 320 - ابن هشام)، وخليفة بن خيّاط (4/ 188 - إصابة)، وابن أبي شيبة (11789)، وأحمد (3/ 488 و 489)، والدارمي (1/ 36)، والبخاري في "التاريخ"(5/ 445) و"الكنى"(73)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(467)، والبزّار (863 - كشف)، والروياني (1508)، والدولابي في "الكنى"(333 و 334)، والطبري في "التاريخ"(2/ 226)، والطبراني (22/ 346 و 871 و 872)، والدارقطني في "العلل"(1184)، والحاكم (3/ 55 و 56)، والبيهقي في "الدلائل"(7/ 162 و 163)، والخطيب (8/ 222)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(20/ 111)، وابن عساكر (4/ 298 - 300)، وابن الأثير في "الغابة"(5/ 112)؛ من طريقين، عن عبيد بن حنين (وتحرّف مرّة إلى عبيد بن جبير)، [عن ابن عمرو]، عن أبي مويهبة

رفعه. وفيه علّتان: أولاهما: أنّ الطريقين إلى عبيد فيهما ضعف، في الأولى الحكم بن فضيل مقبول، وفي الثانية عبد الله بن عمر العبلي مجهول، والثانية: أنّهم اختلفوا في إثبات عبد الله بن عمرو وإسقاطه، ورجّح الدارقطني إثباته، والطريق التالية تدلّ على صحّة هذا الترجيح.

ورواه: الدولابي في "الكنى"(335)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 27)، وابن عساكر في "التاريخ"(4/ 300)؛ من طريق ابن إسحاق، عن أبي مالك بن ثعلبة، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن ابن عمرو، عن أبي مويهبة

رفعه. وأبو مالك مستور.

ورواه ابن سعد (2/ 204) عن محمّد بن عمر، عن إسحاق بن يحيى بن طلحة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن أبي مويهبة

رفعه، والواقديّ متّهم وإسحاق متروك.

فالحديث حسن بطريقيه الأوليين، والثالثة إن لم تفده فلن تضرّه، ولمفرداته شواهد عدّة من مخرّجات الصحيحين وغيرهما، فهو صحيح بها، وقد قوّاه الحاكم وابن عبد البر والذهبي والهيثمي والعسقلاني.

ص: 251

واللهِ لَوْ أنَّكَ تَوَّجْتَني

بِتاجِ كِسْرى مَلِكِ المَشْرِقِ

وَلَوْ بِأمْوالِ الوَرى جُدْتَ لي

أمْوالِ مَنْ بادَ وَمَنْ قَدْ بَقِي

وَقُلْتَ [لي] لا نَلْتَقي ساعَةً

إِخْتَرْتُ يا مَوْلايَ أنْ نَلْتَقي

• لمَّا عَرَّضَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم على المنبرِ باختيارِهِ اللقاءَ على البقاءِ ولمْ يُصَرِّحْ؛ خَفِيَ المعنى على كثيرٍ ممَّن سَمعَ، ولمْ يَفْهَمِ المقصودَ غيرُ صاحبِهِ الخصيصِ بهِ ثانِي اثْنَيْنِ إذْ هُما في الغارِ، وكانَ رضي الله عنه أعلمَ الأُمَّةِ بمقاصدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا فَهِمَ المقصودَ مِن هذهِ الإشارةِ؛ بَكَى وقال: بل نَفْديكَ بأموالِنا وأنفسِنا وأولادِنا، فسَكَّنَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم جزعَهُ، وأخَذَ في مدحِهِ والثَّناءِ عليهِ على المنبرِ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ كلهُم فضلَهُ، فلا يَقَعُ عليهِ اختلافٌ في خلافتِهِ:

فقال: "إنَّ مِن أمنِّ النَّاسِ عليَّ في صحبتِهِ ومالِهِ أبو بَكْرٍ"

(1)

.

وفي روايةٍ أخرى أنَّهُ قال: "ما لأحدٍ عندَنا يدٌ إلَّا وقدْ كافَيْناهُ، ما خَلا أبا بَكْرٍ؛ فإنَّ لهُ عندَنا يدًا يُكافِئُهُ اللهُ يومَ القيامةِ بها، وما نَفَعَني مالُ أحدٍ قطُّ ما نَفَعَني مالُ أبي بَكْرٍ"

(2)

. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ.

ثمَّ قال صلى الله عليه وسلم: "لو كُنْتُ متَّخذًا مِن أهلِ الأرضِ خليلًا؛ لاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ خليلًا، ولكنْ أُخوَّةُ الإسلامِ"

(3)

.

لمَّا كانَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم خليلَ اللهِ؛ لمْ يَصْلُحْ لهُ أنْ يُخالِلَ مخلوقًا؛ فإنَّ الخليلَ مَن جَرَتْ محبّةُ خليلِهِ منهُ مجرى الرُّوحِ، ولا يَصْلُحُ هذا

(1)

رواه: البخاري (8 - الصلاة، 80 - الخوخة والممرّ، 1/ 558/ 466)، ومسلم (44 - الصحابة، 1 - فضل أبي بكر، 4/ 1854/ 2382)؛ من حديث أبي سعيد الخدريّ.

(2)

(ضعيف بهذا التمام). رواه الترمذي (50 - المناقب، 15 - باب، 5/ 609/ 3661) من طريق محبوب بن محرز، عن داوود الأودي، عن أبيه، عن أبي هريرة

رفعه.

قال الترمذي: "حسن غريب". قلت: محبوب ليّن، وداوود ضعيف، وقد تفرّدا بهذا السياق على ما فيه من الزيادات التي لم تأت في شيء من طرق حديث أبي هريرة ولا الأحاديث الأُخرى التي ساقها أهل العلم في الباب. ومع هذا فقد صحّحه الألباني في "صحيح سنن الترمذي"، فكأنّه نظر للمعنى العامّ ولم يتفرّغ للتحقيق فيما فيه من الزيادة. والله أعلم.

(3)

قطعة من حديث أبي سعيد المتّفق عليه الذي تقدّم تخريجه آنفا.

ص: 252

لبشرٍ

(1)

، كما قيلَ:

قَدْ تَخَلَّلْتِ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي

وَبِذا سُمِّيَ الخَليلُ خَليلا

ولهذا المعنى قيلَ: إنَّ إبْراهيمَ الخليلَ عليه السلام أُمِرَ بذبحِ ولدهِ، ولمْ يَكُنِ المقصودُ إراقةَ دمِ الولدِ، بل تفريغُ محلِّ الخلَّةِ لمَن لا يَصْلُحُ أنْ يُزاحِمَهُ فيها أحدٌ.

أرُوحُ وَقَدْ خَتَمْتُ عَلى فُؤادي

بِحُبِّكَ أنْ يَحِلَّ بهِ سواكا

فَلَوْ أنِّي اسْتَطَعْتُ غَضَضْتُ طَرْفي

فَلَمْ أنْظُرْ بِهِ حتَّى أراكا

ثمَّ قالَ صلى الله عليه وسلم: "لا يَبْقَيَنَّ خوخةٌ في المسجدِ إلَّا سُدَّتْ إلَّا خوخةَ أبي بَكْرٍ"

(2)

. وفي روايةٍ: "سُدُّوا هذهِ الأبوابَ

(3)

الشَّارعَةَ في المسجدِ؛ إلَّا بابَ أبي بَكْرٍ"

(4)

. وفي هذا

(1)

يعني: لا يصلح أن يكون هذا من النبيّ صلى الله عليه وسلم لبشر.

(2)

قطعة من حديث أبي سعيد المتّفق عليه الذي تقدَّم تخريجه آنفًا.

(3)

في خ: "سدّوا جميع الأبواب"، وما أثبتّه من م ون وط أولى بألفاظ مصادر التخريج.

(4)

(صحيح). وقد جاء بهذا اللفظ عن جماعة من الصحابة:

• قال ابن أبي حاتم (2672): "سألت أبي عن حديث رواه علي بن الحسن عن محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه

رفعه؟ فقال أبي: منكر بهذا الإسناد".

• ورواه: ابن سعد (2/ 227)، وابن عدي (4/ 1523)؛ من طرق ثلاث، عن الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، [عن أنس]

رفعه. قال ابن عديّ: "لا أعلم وصل هذا الحديث عن الليث غير عبد الله بن صالح". قلت: ورواه ابن بكير وقتيبة بن سعيد عن الليث عن يحيى مرسلًا، وعبد الله صالح في الشواهد، فلا تقوم روايته لرواية الثقتين اللذين روياه مرسلًا، فالصواب في هذا أنّه مرسل قويّ.

• ورواه: ابن سعد (2/ 228)، والطبري في "التاريخ"(2/ 227)، والطبراني في "الكبير"(19/ 342/ 791) و"الأوسط"(7013)، والبيهقي في "الدلائل"(7/ 177)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(21/ 230)؛ من طرق، عن الزهريّ، عن أيّوب بن بشير الأنصاري، [عن بعض الصحابة، وقال مرّة: عن معاوية]

رفعه. رجّح أبو حاتم في "العلل، (2595) إرساله، وقال الهيثمي (9/ 461) عن الموصول من حديث معاوية: "إسناده حسن". قلت: للموصول بذكر بعض الصحابة أكثر من طريق صحيحة.

• ورواه: الدارمي (1/ 38)، وابن أبي عاصم في، السنّة" (1242)، وعبد الله بن أحمد في "فضائل الصحابة" (33 و 512 و 629)، والطبري في "التاريخ" (2/ 229)، وابن أبي حاتم في "العلل" (2595)، وابن حبّان (6857)، والدولابي في "الكنى" (858)، وابن عدي (1/ 226)، والحاكم في "المعرفة" (ص 99)، والخطيب في "الجمع والتفريق" (2/ 364)، وابن عساكر في "التاريخ" (30/ 253 - 256)؛ من طرق، عن الزهري وغيره، عن عروة، عن عائشة

رفعته. وهذا سند صحيح.

وحديث عائشة وحده كفيل بتصحيح المتن بهذا اللفظ، فكيف إذا انضمّت إليه الشواهد المتقدّمة، وليس فيها شاهد دون حدّ الاعتبار؟! فكيف ولمعناه شواهد في الصحيحين؟!

ص: 253

إشارةٌ إلى أن أبا بَكْرٍ رضي الله عنه هوَ الإمامُ بعدَهُ؛ فإنَّ الإمامَ يَحْتاجُ إلى سكنى المسجدِ والاستطراقِ فيهِ بخلافِ غيرِهِ، وذلكَ مِن مصالحِ المسلمينَ المصلِّينَ في المسجدِ.

ثمَّ أكَّدَ هذا المعنى بأمرِهِ صريحًا أنْ يُصَلِّيَ بالنَّاسِ أبو بَكْرٍ، فرُوجِعَ في ذلكَ، فغَضِبَ وقالَ: "مُروا أبا بَكْرٍ يُصَلِّي

(1)

بالنَّاس"

(2)

. فوَلَّاه إمامةَ الصَّلاةِ دونَ غيرِهِ، وأبْقى استطراقَهُ مِن دارِه إلى مكانِ الصَّلاةِ، وسَدَّ استطراقَ غيرِهِ. وفي هذا إشارةٌ واضحةٌ إلى استخلافِهِ على الأمَّةِ دونَ غيرِهِ.

ولهذا قالَتِ الصَّحابةُ رضي الله عنهم عندَ بيعةِ أبي بَكْر: رَضِيَهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لدينِنا، أفلا نَرْضاهُ لدنيانا؟ ولمَّا قالَ أبو بكْرٍ: قد أقَلْتكُمْ بيعتي. قالَ عَلِيٌّ: لا نَقيلُكَ ولا نَسْتَقيلُكَ، قَدَّمَكَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فمَن ذا يُؤَخِّرُكَ

(3)

؟!

لمَّا انْطَوى بساطُ النُّبوَّةِ مِن الأرضِ بوفاةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم؛ لمْ يَبْقَ على وجهِ الأرضِ أكملُ مِن درجةِ الصِّدِّيقيَّةِ، وأبو بَكْرٍ رأْسُ الصِّدَيقينَ، فلهذا اسْتَحَقَّ خلافةَ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم والقيامَ مقامَهُ.

وكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد عَزَمَ على أنْ يَكْتُبَ لِأبي بَكْرٍ كتابًا لئلَّا يُخْتَلَفَ عليهِ، ثمَّ أعْرَضَ عن ذلكَ؛ لعلمِهِ أنَّهُ لا يَقَعُ غيرُهُ، وقالَ:"يَأْبى اللهُ والمؤمنونَ إلَّا أبا بَكْرٍ"

(4)

. وربَّما كانَ تَرَكَ ذلكَ لئلَّا يَتَوَهَّمَ متوهِّم أن نصَّهُ على خلافتِهِ كانَتْ مكافأةً ليدِهِ التي كانَتْ لهُ. والولاياتُ كلُّها لا يُقْصَدُ بها مصلحةُ المُوَلَّى، بل مصلحةُ المسلمينَ عامَّةً.

(1)

في خ: "أن يصلي"، وما أثبتّه من م ون وط أولى بمصادر التخريج.

(2)

رواه: البخاري (60 - الأنبياء، 19 - {لقد كان في يوسف وإخوته}، 6/ 417/ 3384 و 3385)، ومسلم (4 - الصلاة، 21 - استخلاف الإمام، 1/ 311/ 418 و 420)؛ عن عائشة وأبي موسى على الترتيب.

(3)

جاء هذا عند: أحمد في "فضائل الصحابة"(101 و 102 و 133)، والخلّال في "السنّة"(372)، وأبي الشيخ في "الطبقات"(3/ 575)؛ من أوجه ضعيفة، عن أبي الجحّاف داوود بن أبي عوف. فأحسن ما يقال فيه أنّه معضل، وفيه نكارة من جهة أنّه من المستبعد أن يتراجع أبو بكر عن حمل أمانة الأُمّة والاضطلاع بمهمّاتها الثقيلة، ولذلك قال ابن تيميّة:"كذب، ليس في شيء من كتب الحديث ولا له إسناد معلوم".

(4)

رواه: البخاري (75 - المرضى، 16 - ما رخّص للمريض، 10/ 123/ 5666)، ومسلم (44 - الصحابة، 1 - فضائل أبي بكر، 4/ 1857/ 2387)؛ من حديث عائشة.

ص: 254

• كانَ أوَّلَ ما ابْتُدِئَ بهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن مرضِهِ وجعُ رأْسِهِ. ولهذا خَطَبَ وقدْ عَصَبَ رأْسَهُ بعصابة دسماء

(1)

. وكانَ صداعُ الرَّأْسِ والشَّقيقةُ يَعْتَريهِ كثيرًا في حياتِهِ ويَتَألَّمُ منهُ أيَّامًا.

وصداعُ الرَّأْسِ مِن علاماتِ أهلِ الإيمانِ وأهلِ الجنَّةِ.

وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ وَصَفَ أهلَ النَّارِ فقالَ: "هُمُ الذينَ لا يَأْلَمونَ رؤوسَهُم"

(2)

.

ودَخَلَ عليهِ أعرابيٌّ، فقالَ لهُ:"يا أعرابيُّ! هل أخَذَكَ هذا الصُّداعُ؟ ". فقالَ: وما الصُّداعُ؟ قالَ: "عروقٌ تَضْرِبُ على الإنسانِ في رأْسِهِ". فقالَ: ما وَجَدْتُ هذا. فلمَّا وَلَّى الأعرابيُّ؛ قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن أحَبَّ أنْ يَنظُرَ إلى رجلٍ مِن أهلِ النَّارِ؛ فلْيَنْظُرْ إلى هذا"

(3)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائِيُّ.

(1)

رواه البخاري (11 - الجمعة، 29 - من قال في الخطبة أمّا بعد، 2/ 404/ 927) عن ابن عبّاس.

(2)

(ضعيف). رواه: الطيالسي (2551)، وأحمد (2/ 508)، والعقيلي (1/ 161)، والبيهقي في "الشعب"(9912)؛ من طريق البراء بن يزيد، عن عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة

رفعه.

قال العقيلي: "لا يتابع عليه". وقال الهيثمي (2/ 297): "فيه البراء بن يزيد الغنوي، قال ابن عدي: هو عندي أقرب إلى الصدق. قلت: وضعّفه أحمد وغيره". قلت: تفرّد بزيادة القطعة المذكورة في متن الحديث ولم يتابعه عليها أحد، فلو كان صالحًا في المتابعات لما قبلت منه، فكيف وخلاصة أمره الضعف؟!

(3)

(حسن صحيح). رواه: أحمد (2/ 332)، وهنّاد (433)، والبخاري في "الأدب"(495)، والحارث، والبزّار (778 - كشف)، والنسائي في "الكبرى"(7491)، وابن حبّان (2916)، والحاكم (1/ 347)، والبيهقي في "الشعب"(9907)؛ من طرق، عن محمّد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

رفعه. قال الحاكم: "على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي. قلت: لم يخرّج مسلم لمحمّد بن عمرو في الأصول بل في المتابعات. وقال الهيثمي (2/ 297): "إسناده حسن"، وهو كما قال.

ورواه: أحمد (2/ 366)، وأبو يعلى (6556)؛ من طريق أبي معشر، عن سعيد، عن أبي هريرة

رفعه. وهذا سند فيه ضعف من أجل أبي معشر نجيح السندي.

وقال البيهقي في "الشعب": "ولهذا شاهد من حديث ابن المسيّب عن أبي هريرة". ولم أقف عليه؛ إلّا أن يكون البيهقي ظنّ سعيدًا المقبريّ في السند المتقدّم هو سعيد بن المسيّب.

وله شاهد من حديث أُبيّ بن كعب عند أحمد (5/ 142) بسند فيه مجهولان.

وآخر من حديث أنس عند الطبراني في "الأوسط"(5901) بسند ضعيف.

وثالث من حديث زيد بن أسلم مرسلًا عند عبد الرزّاق (20314) بسند قويّ.

فإن لم يكن حديث أبي هريرة صحيحًا بطريقيه المذكورتين فهو صحيح بشواهده، والنصوص التي =

ص: 255

وقالَ كَعْبٌ: أجِدُ في التَّوراةِ: لولا أنْ يَحْزَنَ عبدي المؤمنُ؛ لَعَصَبْت الكافرَ بعصابة مِن حديدٍ لا يَصَّدَّعُ أبدًا.

وفي "المسند" عن عائشةَ؛ قالَتْ: دَخَلَ عليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في اليومِ الذي بُدِي فيهِ. فقُلْتُ: وارأْساهُ! فقالَ: "وَدِدْتُ أن ذلكَ كانَ وأنا حي، فهَيَّأْتُكِ ودَفَنْتُكِ". فقُلتُ غَيْرى: كأنِّي بكَ في ذلكَ اليومِ عروسًا ببعضِ نسائكَ! فقالَ: "أنا وارأْساهُ! ادْعوا لي أباكِ وأخاكِ حتَّى أكْتُبَ لأبي بَكْرٍ كتابًا؛ فإنِّي أخافُ أنْ يَقولَ قائلٌ ويَتَمَنَّى متمنٍّ، ويَأْبى اللهُ والمؤمنونَ إلَّا أبا بَكْرٍ"

(1)

.

وخَرَّجَهُ البُخاريُّ بمعناهُ، ولفظُهُ: إن عائِشَةَ قالَتْ: وارأْساهُ! فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ذاكِ لو كانَ وأنا حيٌّ، فأسْتَغْفِرَ لكِ وأدْعُوَ لكِ". قالَتْ عائِشَةُ: واثُكْلاهُ! واللهِ؛ إنِّي لأظُنُّكَ تُحِبُّ موتي، ولو كانَ ذلكَ؛ لظَلَلْتَ آخرَ يومِكَ معرِّسًا ببعضِ أزواجِكَ. فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"بل أنا وارأْساهُ! ". وذَكَرَ بقيَّةَ الحديثِ

(2)

.

وفي "المسند" أيضًا عنها؛ قالَتْ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا مَرَّ ببابي؛ ممَّا يُلْقي

(3)

الكلمةَ يَنْفَعُ اللهُ بها. فمَرَّ ذاتَ يومٍ فلمْ يَقُلْ شيئًا مرَّتينِ أو ثلاثًا. فقُلْتُ: يا جاريةُ! ضَعي لي وسادةً على البابِ، وعَصَبْتُ رأْسي. فمَرَّ بي، فقالَ:"يا عائِشَةُ! ما شأْنُكِ؟ ". فقُلْتُ: أشْتكي رأْسي. فقالَ: "أنا وارأْساه! ". فذَهَبَ فلمْ يَلْبَثْ إلَّا يسيرًا حتَّى جيءَ بهِ محمولًا في كساءٍ، فدَخَلَ عليَّ، فبَعَثَ إلى النِّساءِ، فقالَ:"إنِّي اشْتكَيْتُ"، [وقالَ]:"إنِّي لا أسْتَطيعُ أنْ أدورَ بينكُن، فائْذَنَّ لي فَلأْكُنْ عندَ عائِشَةَ"

(4)

.

= تشهد لمعناه كثيرة، وبعضها من مخرّجات في البخاري ومسلم، ولذلك مال إلى تقوية حديث الترجمة ابن حبّان والحاكم والبيهقي والذهبي والألباني.

(1)

(صحيح). رواه: ابن سعد (2/ 206)، وأحمد (6/ 144)، والنسائى في "الكبرى"(7081) و"الوفاة"(5)؛ من طريق صالح بن كيسان، عن الزهري، [عن عروة]، عن عائشة

رفعته. وهؤلاء ثقات رجال الشيخين، وقد رواه الشخان من طريق أخرى عن عائشة بنحوه جدًّا كما تقدّم آنفًا ويأتي بعده.

(2)

متّفق عليه. تقدّم تخريجه آنفًا عند الكلام عن قوله صلى الله عليه وسلم: "يأبى الله والمؤمنون إلَّا أبا بكر".

(3)

في خ: "والله إنّي أظنّك

ربّما يلقي"، وما أثبتّه من م ون وط أولى بمصادر التخريج.

(4)

(حسن بهذا التمام). رواه: ابن سعد (2/ 232)، وإسحاق (3/ 728/ 1333 و 1718)، وأحمد (6/ 219)، وأبو داوود (6 - النكاح، 39 - القسم بين النساء، 1/ 649/ 2137) مختصرًا، وأبو يعلى =

ص: 256

وفيهِ أيضًا عنها؛ قالَتْ: رَجَعَ إليَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ مِن جنازةٍ بالبقيعِ، وأنا أجِدُ صداعًا في رأْسي، وأنا أقولُ: وارأْساه! قالَ: "بل أنا وارأْساه! ". ثمَّ قالَ: "ما ضَرَّكِ لوْ مُتَ قبلي فغَسَّلْتُكِ وكَفَّنْتُكِ ثمَّ صَلَّيْتُ عليكِ ودَفَنْتُكِ؟ ". فقُلْتُ: لكأنِّي بكَ واللهِ لو فَعَلْتَ [ذلكَ]؛ لقدْ رَجَعْتَ إلى بيتي فأعْرَسْتَ فيهِ ببعضِ نسائِكَ. فتبَسَّمَ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ بُدِئَ في وجعِهِ الذي ماتَ فيهِ

(1)

.

فقد تَبَيَّنَ أن أوَّلَ مرضِهِ [كانَ] صداعَ الرَّأْسِ.

والظَّاهرُ أنّهُ كانَ معَ حمَّى؛ فإنَّ الحمَّى اشْتَدَّتْ بهِ في مرضِهِ الذي ماتَ فيهِ، فكانَ يَجْلِسُ في مِخْضَبٍ، ويُصَبُّ عليهِ الماءُ مِن سبعِ قِرَب لمْ تُحْلَلْ أوْكِيَتُهُنَّ؛ يَتبَرَّدُ بذلكَ

(2)

. وكانَ عليهِ قطيفةٌ، وكانَتْ حرارةُ الحمَّى تُصيبُ مَن وَضَعَ يدَهُ عليهِ مِن فوقِها،

= (4962)، والبيهقي في "السنن"(7/ 298) مختصرًا و"الدلائل"(7/ 213 - 214)؛ من طرق، عن أبي عمران الجوني، ثنا يزيد بن بابنوس، سمعت عائشة

فذكرته.

قال الهيثمي (9/ 36): "رجال أحمد ثقات". قلت: يزيد بن بابنوس لم يرو عنه إلّا أبو عمران، لكنّهم وثقوه، فأرجو أنّ حديثه هذا حسن، وقد صحّ كثير من مفرداته من أوجه مختلفة.

(1)

(صحيح). رواه: ابن إسحاق (6/ 55 - ابن هشام)، وأحمد (6/ 228)، والدارمي (1/ 37)، وابن ماجه (6 - جنائز، 9 - غسل الرجل امرأته، 1/ 470/ 1465)، والطبري في "التاريخ"(2/ 226)، والنسائي في "السنن الكبرى"(7079 و 7080) و "الوفاة"(3 و 4)، وأبو يعلى (4579)، وابن حبّان (6586)، والدارقطني (2/ 74)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 396) و"الدلائل"(7/ 168 - 169)، وابن الجوزي في "أحاديث الخلاف"(859)؛ من طريق محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عائشة

رفعته.

وهذا سند يمكن إعلاله من أوجه ثلاثة: أوّلها: عنعنة ابن إسحاق، ولكنّه صرّح بالتحديث في "السيرة" فأمنّا تدليسه. ثمّ إنّه لم يتفرّد به، بل تابعه عليه صالح بن كيسان كما تقدّم آنفًا. والثاني: قول ابن الجوزيّ: "لم يقل "غسلتك" إلّا محمّد بن إسحاق وقد كذبه مالك". قلت: محمّد بن إسحاق صدوق، ولم يلتفت الأئمّة إلى تكذيب مالك له فإنّه لم يعرفه، فزيادته مقبولة بعد تصريحه بالتحديث، ولا سيّما أنّ لفظة "غسّلتك" بمعنى لفظة "هيّأتك" المتقدّمة عن ابن كيسان. والثالث: أنّ رواية النسائي الثانية جاءت بزيادة عروة بين عبيد الله وعائشة، والغالب أنّها خطأ، فإن كانت محفوظة فهي من المزيد في متصل الأسانيد، وليس هذا بالقادح.

فهذا اللفظ حسن من هذا الوجه، صحيح بطريق صالح بن كيسان المتقدّمة، وقد قوّاه ابن حبّان والبوصيري والعسقلاني والألباني.

(2)

رواه: البخاري (4 - الوضوء، 45 - الغسل والوضوء في المخضب، 1/ 302/ 198)، ومسلم (4 - الصلاة، 21 - استخلاف الإمام إذا عرض عذر، 1/ 311/ 418)؛ من حديث عائشة. واللفظ للبخاري.

ص: 257

فقيلَ لهُ في ذلكَ، فقالَ:"إنَّا كذلكَ يُشَدَّدُ علينا البلاءُ ويُضاعَفُ لنا الأجرُ"

(1)

. وقالَ: "إنِّي أُوعَكُ كما يُوعَكُ رجلانِ منكُم"

(2)

.

ومِن شدَّةِ وجعِهِ كانَ يُغْمى عليهِ في مرضِهِ ثمَّ يُفيقُ، وحَصَلَ لهُ ذلكَ غيرَ مرَّةٍ

(3)

.

فأُغْمِيَ عليهِ مرَّةً، فظنُّوا أن وجعَهُ ذاتُ الجنبِ، فلَدُّوه

(4)

، فلمَّا أفاقَ؛ أنْكَرَ ذلكَ، وأمَرَ أنْ يُلَدَّ مَن لَدَّهُ، وقالَ:"إنَّ [للهَ] لمْ يَكُنْ لِيُسَلِّطَها عليَّ (يَعْني: ذاتَ الجنبِ)، ولكنَّهُ مِن الأكلةِ التي أكَلْتُها يومَ خيبرَ"

(5)

؛ يَعْني: أنَّهُ نَقَضَ عليهِ سمُّ الشَّاةِ التي أهْدَتْها لهُ اليهوديَّةُ فأكَلَ منها يومئذٍ، وكانَ ذلكَ يَثورُ عليهِ أحيانا، فقالَ في مرضِ موتِهِ:"ما زالَتْ أكلةُ خيبرَ تُعاوِدُني، فهذا أوانُ انقطاعِ أبهري"

(6)

. فكانَ ابنُ

(1)

(صحيح). رواه: معمر في "الجامع"(20626)، وابن سعد (2/ 208 و 236)، وأحمد (3/ 94) وفي "الزهد"(335)، وعبد بن حميد (690)، والبخاري في "الأدب"(510)، وابن ماجه (36 - الفتن، 23 - الصبر على البلاء، 2/ 1334/ 4024)، وابن أبي الدنيا في "المرض"، وأبو يعلى (1045)، والطحاوي في "المشكل"(3/ 64)، والحاكم (1/ 40، 4/ 307)، والبيهقي (3/ 372) وفي "الشعب"(9774)؛ من طرق، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار (وجاء مرّة: عن رجل)، عن أبي سعيد

رفعه.

قال الحاكم: "على شرط مسلم"، وأقرّه المنذري والذهبي. وقال البوصيري في "المصباح":"إسناده صحيح رجاله ثقات". وصحّحه الألباني.

(2)

رواه: البخاري (75 - المرضى، 2 - شدّة المرض، 10/ 110/ 5647)، ومسلم (45 - البرّ، 14 - ثواب المؤمن، 4/ 1991/ 2571)، من حديث ابن مسعود.

(3)

قطعة من حديث عائشة المتّفق عليه الذي تقدّم انفًا.

(4)

اللَدّ: طريقة علاجيّة قديمة يصبّ فيها الدواء في أحد جانبي الفم وذلك حتّى لا يُبتلع مباشرة بل يبقى في الفم طويلًا ويمتصّ بالتدريج.

(5)

(ضعيف جدًّا بهذا السياق). رواه ابن سعد في "الطبقات الكبرى"(2/ 236): أنا محمد بن عمر، ثني عبد الله بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأخنسي، دخلت أُم بشر

فذكره. ومحمد بن عمر الواقدي لا يفرح بمروياته وعثمان عن أُم بشر مرسل.

ورواه ابن سعد (8/ 314) أيضًا من حديث محمد بن عمر من وجه آخر عن عائشة. وفيه العلّة نفسها.

وفقرات الحديث مخرجة في الصحيحين لكنّه ضعيف جدًّا بهذا السياق بتمامه.

(6)

(صحيح). رواه البخاري (64 - المغازي، 83 - مرضه صلى الله عليه وسلم ووفاته، 8/ 131/ 4428): قال يونس، عن الزهريّ، قال عروة، قالت عائشة

فذكرته.

قال العسقلاني: "وصله البزّار والحاكم والإسماعيلي من طريق عنبسة بن خالد عن يونس بهذا الإسناد، وقال البزّار: تفرّد به عنبسة عن يونس". قال العسقلاني: "أي بوصله، وإلّا فقد رواه موسى بن عقبة في "المغازي" عن الزهريّ لكنّه أرسله". قلت: عنبسة صدوق، ووصله زيادة ثقة يتعيّن الأخذ بها. قال =

ص: 258

مَسْعودٍ وغيرُهُ يقولونَ: إنَّهُ صلى الله عليه وسلم ماتَ شهيدًا مِن السُّمِّ.

وقالَتْ عائشةُ: ما رَأيْتُ أحدًا كانَ أشدَّ عليهِ الوجعُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وكانَ عندَهُ في مرضِهِ سبعة دنانيرَ، فكانَ يَأْمُرُهُم بالصَّدقةِ بها ثمَّ يُغْمى عليهِ فيَشْتَغِلونَ بوجعِهِ، فدَعا بها فوَضَعَها في كفِّهِ وقالَ:"ما ظنُّ مُحَمَّدٍ بربِّهِ لو لَقِيَ الله وعندَهُ هذهِ؟ ". ثمَّ تَصَدَّقَ بها كلِّها

(2)

. فكيفَ يَكونُ حالُ مَن لَقِيَ الله وعندَهُ دماءُ المسلمينَ وأموالُهُمُ المحرَّمةُ وما ظنّهُ بربِّهِ؟!

ولم يَكُنْ عندَهُم في مرضِهِ دهنٌ للمصباحِ يوقَدُ فيهِ. فلمَّا اشْتَدَّ وجعُهُ ليلةَ الاثنينِ؛ أرْسَلَتْ عائِشَةُ بالمصباحِ إلى امرأةٍ مِن النِّساءِ، فقالَتْ: قَطِّري لنا في مصباحِنا مِن عُكَّةِ السَّمنِ؛ فإنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمسى في جديدِ الموتِ

(3)

.

وكانَ عندَ عائِشَةَ إزارٌ غليظ ممَّا يُصْنَعُ باليمنِ، وكساءٌ مِن المُلَبَّدَةِ، فكانَتْ تُقْسِمُ

= العسقلاني: "وله شاهدان مرسلان أيضًا أخرجهما إبراهيم الحربيّ في "غرائب الحديث" له، أحدهما من طريق يزيد بن رومان والآخر من رواية أبي جعفر الباقر. وللحاكم موصول من حديث أُم مبشّر قالت: قلت: يا رسول الله! ما تتّهم بنفسك؛ فإنّي لا أتّهم بابني إلّا الطعام الذي أكل بخيبر؟ فقال: "وأنا لا أتّهم غيرها، وهذا أوان انقطاعِ أبهري". وروى ابن سعد عن شيخه الواقدي بأسانيد معدّدة في قصّة الشاة التي سمّت له بخيبر، فقال في آخر ذلك:

ما زلت أجد ألم الأكلة التي أكلتها بخيبر عدادًا حتّى كان هذا أوان انقطاع أبهري". وبالجملة؛ فحديث عائشة حسن لذاته صحيح بالشواهد التي ذكرها العسقلاني.

(1)

رواه: البخاري (75 - المرضى، 2 - شدّة المرض، 10/ 110/ 5646)، ومسلم (45 - البرّ، 14 - ثواب المؤمن فيما يصيبه، 4/ 1990/ 2570).

(2)

(صحيح). رواه: الحميدي (283)، وابن سعد (2/ 237 و 238)، وابن أبي شيبة (34360)، وأحمد (6/ 49 و 82 و 86 و 104)، وهنّاد (634)، والطبري في "التهذيب"(432 و 433 و 438)، وابن حبّان (715 و 3212)، وأبو الشيخ في "الأخلاق"(872)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 257)، والبيهقي (6/ 356) وفي "الدلائل"(1/ 346)، والبغوي في "السنّة"(1658)؛ من طرق ثلاث، عن عائشة

رفعته.

قال الهيثمي (10/ 243): "رواه أحمد بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح". قلت: إحدى طرقه صحيحة والأُخرى حسنة وفي الثالثة ضعف، والحديث صحيح غاية باجتماع طرقه. وله شاهد قويّ عند ابن سعد (2/ 237) من حديث المطّلب بن حنطب مرسلًا، يزيده قوّة. وقد قوّاه ابن حبّان والهيثمي والألباني.

(3)

(صحيح). رواه: ابن سعد (2/ 239)، والطبراني (6/ 198/ 5990)؛ من طريق قويّة، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، [عن عائشة]

به.

قال المنذري والهيثمي (3/ 127): "رجاله ثقات محتجّ بهم في الصحيح". قلت: ولا يضرّه الاختلاف في إثبات عائشة وإسقاطها، فقصاراه أن يكون من مراسيل الصحابة. وهي حجّة على المعتمد.

ص: 259

باللهِ إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُبِضَ فيهِما

(1)

.

ودَخَلَتْ عليهِ فاطِمَةُ عليها السلام في مرضِهِ، فسارَّها بشيء فبَكَتْ ثمَّ سارَّها فضَحِكَتْ، فسُئِلَتْ عن ذلكَ، فقالَتْ: لا أُفْشي سرَّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فلمَّا تُوُفِّيَ؛ سُئِلَتْ، فقالَتْ: أخْبَرَني أنَّهُ يَموتُ في مرضِهِ الذي ماتَ فيهِ فبَكَيْتُ، ثمَّ أخْبَرَني أنِّي أوَّلُ أهلِهِ لحوقًا بهِ وأنِّي سيِّدةُ نساءِ العالمينَ فضَحِكْتُ

(2)

.

• فلمَّا احْتُضِرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ اشْتَدَّ بهِ الأمرُ.

فقالَتْ عائِشَةُ: ما أغْبِطُ أحدًا يُهَوَّنُ عليهِ الموتُ بعدَ الذي رَأيْتُ مِن شدَّةِ موتِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

قالَت: وكانَ عندَهُ قدحٌ مِن ماءٍ، فيُدْخِلُ يدَهُ في القدحِ، ثم يَمْسَحُ وجهَهُ بالماءِ ويَقولُ:"اللهمَّ! أعِنِّي على سكراتِ الموتِ"

(4)

.

(1)

رواه: البخاري (57 - الخمس، 5 - ما ذكر من درعه صلى الله عليه وسلم، 6/ 212/ 3108)، ومسلم (37 - اللباس، 6 - التواضع في اللباس، 3/ 1649/ 2080).

(2)

رواه: البخاري (79 - الاستئذان، 43 - من ناجى بين يدي الناس، 11/ 79/ 6285 و 6286)، ومسلم (44 - الصحابة، 15 - فضائل فاطمة، 4/ 1904/ 2450).

(3)

(صحيح). رواه: الترمذي (6 - الجنائز، 8 - التشديد عند الموت، 3/ 309/ 979)، والمزّي في "التهذيب"(22/ 538)؛ من طريقين، عن العلاء بن اللجلاج، عن ابن عمر، عن عائشة

به.

وإحدى الطريقين إلى العلاء قويّة، والعلاء ثقة، والسند صحيح بمجموع الطريقين، وأصل الحديث في الصحيحين بغير هذا اللفظ.

(4)

(ضعيف). رواه: ابن سعد (2/ 258)، وابن أبي شيبة (29324)، وأحمد (6/ 64 و 70 و 77 و 151)، وابن ماجه (6 - الجنائز، 64 - مرضه صلى الله عليه وسلم، 1/ 519/ 1623)، والترمذي (6 - الجنائز، 8 - التشديد عند الموت، 3/ 308/ 978)، والنسائي في "الكبرى"(1701 و 10932) و"اليوم والليلة"(1101) و"الوفاة"(25)، وأبو يعلى (4510 و 4688)، والطبري في "التاريخ"(2/ 231)، والطبراني (83/ 34/ 23)، والحاكم (2/ 465، 3/ 56)، والبيهقي في "الدلائل"(7/ 207)، والخطيب في "التاريخ"(7/ 208)، والمزّي في "التهذيب"(29/ 67)؛ من طريق مسلسلة بثقات رجال الشيخين، عن موسى بن سرجس، عن القاسم بن محمّد، عن عائشة

رفعته. قال الترمذي: "حسن غريب". وصحّحه الحاكم والذهبي. وابن سرجس لا يستحق أن يحسّن حديثه لأنّه مستور قصاراه أن يكون صالحًا في المتابعات، وقد تفرّد بهذا اللفظ مخالفًا لرواية جماعة من الثقات له على الوجه الآتي بعده، فبان أنه وهم منه أو رواية بالمعنى، فحقه التضعيف.

ورواه: ابن سعد (2/ 257 و 258)، والبيهقي في "الدلائل"(7/ 210)؛ من ثلاثة أوجه مرسلة، لكنّ فيها جميعًا الواقدي المتّهم، فلا تسمن ولا تغني من جوع.

ص: 260

قالَتْ: وجَعَلَ تقولُ: "لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ إنَّ للموتِ لسكراتٍ"

(1)

.

وفي حديثٍ مرسلٍ أنَّهُ قالَ: "اللهمَّ! إنَّكَ تَأخُذُ الرُّوحَ مِن بين العصبِ والقصبِ والأناملِ، اللهمَّ! فأعِنِّي على الموتِ وهَوِّنْهُ عليَّ"

(2)

.

ولمَّا ثَقُلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ جَعَلَ يَتَغَشَّاة الكربُ، [فـ]ـقالَتْ فاطِمَةُ عليها السلام: واكربَ أبتاهُ! فقالَ لها: "لا كربَ على أبيكِ بعدَ اليومِ"

(3)

.

وفي حديثٍ خَرَّجَهُ ابنُ ماجَهْ أنه صلى الله عليه وسلم قالَ لفاطِمَةَ: " [إنَّهُ] قد حَضَرَ مِن أبيكِ ما ليسَ اللهُ بتاركٍ منهُ أحدًا؟ الموافاةُ يومَ القيامةِ"

(4)

.

• ولمْ يُقبَضْ صلى الله عليه وسلم حتَّى خُيِّرَ مرَّةً أُخرى بينَ الدّنيا والآخرةِ.

قالَتْ عائِشَةُ: كانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: "إنَّه لمْ يُقْبَضْ نبيٌّ حتَّى يَرى مقعدَهُ مِن الجنَّةِ، ثمَّ يُخَيَّرُ". فلمَّا نَزَلَ بهِ ورأْسُهُ على فخذي؛ غُشِيَ عليهِ ساعةً، ثم أفاقَ فأشْخَصَ بصرَهُ إلى سقفِ البيتِ، ثمَّ قالَ:"اللهمَّ! الرَّفيقَ الأعلى". فقُلْتُ: الآنَ لا يَخْتارُنا، [و] عَلِمْتُ

= فالحديث ضعيف في أصله وشواهده دونه بكثير فلا تقوم به، وقد ضعّفه الألباني.

(1)

رواه البخاري (81 - الرقاق، 42 - سكرات الموت، 11/ 361/ 6510)، وأصله عند مسلم (44 - الصحابة، 13 - فضل عائشة، 4/ 1893/ 2443 و 2444) دون هذا اللفظ.

(2)

(ضعيف جدًّا). قال العراقي في "تخريج الإحياء"(4/ 462): "أخرجه ابن أبي الدنيا في "كتاب الموت" من حديث طعمة بن غيلان الجعفي، وهو معضل سقط منه الصحابي والتابعي". قلت: أو أكثر، والإعضال علّة شديدة قادحة.

(3)

رواه البخاري (64 - المغازي، 83 - مرضه صلى الله عليه وسلم، 8/ 149/ 4462) من حديث أنس.

(4)

(صحيح). رواه المبارك بن فضالة واختلف عليه فيه على وجهين: روى أوّلهما: أحمد (3/ 141)، والبيهقي في "الدلائل"(7/ 212)؛ من طرق، عن المبارك، ثني ثابت، عن أنس

رفعه.

وروى الثاني: البيهقي في "الدلائل"(7/ 212) من طريق أحمد بن عبد الجبّار، عن يونس بن بكير، عنه، عن الحسن

مرسلًا. ومن البيّن أنّ الوجه الأوّل هو الراجح هنا لاتّفاق الثقات عليه بخلاف الثاني الذي تفرّد به أحمد بن عبد الجبّار الضعيف. ثمّ هذا الوجه الأوّل لا بأس به لتصريح المبارك فيه بالتحديث.

ورواه: ابن ماجه (6 - الجنائز، 65 - وفاته صلى الله عليه وسلم، 1/ 521/ 1629)، والترمذي في "الشمائل"(3801)، وأبو يعلى (3441)، والمزّي في "التهذيب"(14/ 516)؛ من طريق عبد الله بن الزبير الباهلي، ثني ثابت، عن أنس

رفعه. قال البوصيري: "في إسناده عبد الله بن الزبير الباهلي

ذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: مجهول، وقال الدارقطني: صالح، وباقي رجاله على شرط الشيخين". قلت: الباهلي لا بأس بحديثه صدوق والسند حسن. والحديث صحيح بطريقيه، وقد صحّحه الألباني.

ص: 261

أنَّهُ الحديثُ الذي كانَ يُحَدِّثُناهُ. وهوَ صحيحٌ. وكانَتْ تلكَ آخرَ كلمةٍ تكلَّمَ بها

(1)

.

وفي روايةٍ أنَّهُ قالَ: "اللهمَّ! اغْفِرْ لي وارْحَمْني وألْحِقْني بالرَّفيقِ الأعلى"

(2)

.

وفي روايةٍ أنَّهُ أصابَهُ بُحَّةٌ شديدةٌ، فسَمِعَتْهُ تقولُ:" {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] ". قالَتْ: فظَنَنْتُ أنَّهُ خُيِّرَ

(3)

.

وهذهِ الرِّواياتُ مخرَّجةٌ في "صحيح البُخاريِّ" وغيرِهِ.

وقد رُوِيَ ما يَدُلُّ على أنَّهُ قُبِضَ ثمَّ رَأى مقعدَهُ مِن الجنَّةِ ثُمَّ رُدَّتْ إليهِ نفسُهُ ثمَّ خُيِّرَ: ففي "المسند" عن عائِشَةَ؛ قالَتْ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: "ما مِن نبيٍّ إلَّا تُقْبَضُ نفسُهُ ثم يَرى الثَّوابَ ثمَّ تُرَدُّ إليهِ فيُخَيَّرُ بينَ أنْ تُرَدَّ إليهِ إلى أنْ يُلْحَقَ". فكُنْتُ قد حَفِظْتُ ذلكَ منهُ، فإنِّي لمسندتُهُ إلى صدري، فنَظَرْتُ إليهِ حتَّى مالَتْ عنقُهُ، فقُلْتُ: قد قَضى. قالَتْ: فعَرَفْتُ الذي قالَ، فنَظَرْتُ إليهِ حتَّى ارْتَفَعَ ونَظَرَ، فقُلْتُ: إذًا واللهِ لا يَخْتارُنا، فقالَ:"مَعَ الرَّفيقِ الأعْلى في الجَنَّةِ، {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] إلى آخرِ الآيةِ"

(4)

.

(1)

رواه: البخاري (64 - المغازي، 83 - مرضه صلى الله عليه وسلم، 8/ 136/ 4437)، ومسلم (44 - الصحابة، 13 - فضل عائشة، 4/ 1894/ 2444).

(2)

قطعة من الحديث المتقدّم قبله رواها: البخاري (الموضع السابق، 8/ 138/ 4440)، ومسلم (الموضع السابق، 4/ 1893/ 2444).

(3)

قطعة من الحديث المتقدّم آنفًا رواها: البخاري (الموضع السابق، 8/ 136/ 4435)، ومسلم (الموضع السابق، 4/ 1893/ 2444). ووقع في خ: "يخيّر"، وما أثبتّه من م و ن وط أولى بلفظ الصحيح.

(4)

(ضعيف). رواه: ابن سعد (2/ 229)، وأحمد (6/ 74)؛ من طريق كثير بن زيد، عن المطّلب بن عبد الله؛ قال: قالت عائشة

فذكرته. قال الهيثمي (9/ 39): "أحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح". قلت: كثير يخطيء وما هو من رجال الصحيح، ورواية المطّلب عن عائشة غير ثابتة، والنصّ هنا ظاهر الإرسال. فالسند ضعيف لانقطاعه.

ورواه الطبراني في "الأوسط"(7841) من طريق صالح بن عمرو، عن مطرّف بن طريف، عن بشير بن مسلم، عن كثير بن عبيد مولى عائشة، عن عائشة

بنحوه. وصالح بن عمرو منكر الحديث؛ إلَّا أن يكون تحريفًا صوابه صالح بن عمر، فهذا ثقة، وفي القلب أنّه كذلك. وبشير بن مسلم مجهول.

فالطريقان ضعيفتان، وجاءتا بزيادة غريبة مخالفة لرواية الثقات على الأوجه المتقدّمة، فبان أنّها رواية بالمعنى، وأنّ المعروف في هذا رواية الشيخين وغيرهما للحديث على الوجه المتقدّم آنفًا. والله أعلم.

ص: 262

وفي "صحيح ابن حِبَّان" عنها؛ قالَتْ: أُغْمِيَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ورأْسُهُ في حجري، فجَعَلْتُ أمْسَحُهُ وأدْعو لهُ بالشِّفاءِ، فلَمَّا أفاقَ؛ قالَ:"لا بل أسْألُ الله الرَّفيقَ الأعلى معَ جِبْريلَ وميكائيلَ وإسْرافيلَ"

(1)

.

وفيهِ وفي "المسند" عنها؛ أنَّها كانَتْ تَرْقيهِ في مرضِهِ الذي ماتَ فيهِ، فقالَ:"ارْفَعي يدَكِ؛ فإنَّها كانَتْ تَنْفَعُني في المدَّةِ"

(2)

.

قالَ الحَسَنُ: لمَّا كَرِهَتِ الأنبياءُ الموتَ؛ هَوَّنَ اللهُ ذلكَ عليهِم بلقاءِ اللهِ وبكل ما أحَبُّوا مِن تحفةٍ وكرامةٍ، حتَّى إنَّ نفسَ أحدِهِم لَتُنْزَعُ مِن بين جنبيهِ وهوَ يُحِبُّ ذلكَ لِما قد مُثِّلَ لهُ.

وفي "المسند" عن عائِشَةَ، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"إنَّهُ لَيُهَوِّنُ عليَّ الموتَ أنِّي رَأيْتُ بياضَ كفِّ عائِشَةَ في الجنَّةِ"

(3)

.

وخَرَّجَهُ ابنُ سَعْدٍ وغيرهُ مرسلًا؛ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لقد أُريتُها في الجنَّةِ لِيُهَوِّنَ بذلكَ

(1)

(صحيح). رواه: ابن سعد (2/ 230)، والنسائي في "الكبرى"(7104 و 10936) و"اليوم والليلة"(1105) و"الوفاة"(28)، وابن حبَّان (6591)، والبيهقي في "الدلائل"(7/ 209)؛ من طريق إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بردة، [عن عائشة]

رفعته.

وهؤلاء ثقات رجال الشيخين، والوصل فيه زيادة الثوريّ جبل الحفظ ينبغي الأخذ به. وله شاهد من حديث أبي موسى ذكره الهيثمي (9/ 40) يزداد به قوّة. وقد صحّحه ابن حبّان والعسقلاني.

(2)

(ضعيف). رواه: ابن سعد (2/ 211)، وإسحاق (3/ 725/ 1332)، وأحمد (6/ 260)، وابن حبّان (2962)؛ من طريق عمرو بن مالك النكري، عن أبي الجوزاء، عن عائشة

رفعته.

وهذا سند فيه ضعف من أجل النكري؛ فإنّه يخطى ويخالف، وحديثه لا يعدو أن يكون صالحًا في الشواهد، فلا يحتمل منه التفرّد بهذا المتن.

(3)

(ضعيف). يرويه مصعب بن إسحاق بن طلحة واختلف عليه فيه على وجهين: روى الأوّل: ابن سعد (8/ 65) من طريق يزيد بن هارون، وابن أبي شيبة (32270) من طريق أبي أسامة، وأحمد في "الصحابة"(1633) من طريق وكيع؛ ثلاثتهم عن إسماعيل بن أبي خالد، ثني مصعب بن إسحاق بن طلحة، أخبرت أن رسول الله

فذكره مرسلًا. وروى الثاني أحمد في "المسند"(6/ 138) و"الفضائل"(1633) من طريق وكيع، عن إسماعيل، عن مصعب، عن عائشة

رفعته.

وعليه؛ فهاهنا علّتان: أولاهما: أنّ وكيعًا - وهو ثقة ثبت - تردّد في هذا الحديث وصلًا وإرسالًا بخلاف يزيد وأبي أُسامة - وكلاهما ثقة ثبت - اللذين جزما بإرساله، فالقول قولهما. والصواب هاهنا الإرسال. والعلّة الثانية: أنّ مصعبًا هذا مجهول.

ص: 263

عليَّ موتي، كأنِّي أرى كفَّيها"؛ يَعْني: عائِشَة

(1)

.

كانَ صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ عائِشَةَ حبًّا شديدًا، حتَّى لا يَكادُ يَصْبِرُ عنها، فمُثِّلَتْ لهُ بينَ يديهِ في الجنَّةِ لِيُهَوَّنَ عليهِ موتُهُ؛ فإنَّ العيشَ إنَّما يَطيبُ باجتماعِ الأحبّةِ. وقد سَألَهُ رجلٌ: أيُّ النَّاسِ أحبُّ إليكَ؟ [فـ]ـقالَ: "عائِشَةُ". [فـ]ـقالَ [لهُ]: فمِنَ الرِّجالِ؟ قالَ: "أبوها"

(2)

. ولهذا قالَ لها في ابتداءِ مرضِهِ لمَّا قالَتْ وارأْساهُ: "وَدِدْتُ أن ذلكَ كانَ وأنا حيٌّ، فأُصَلِّيَ عليكِ وأدْفِنَكِ"

(3)

، فعَظُمَ ذلكَ عليها، وظَنَّتْ أنَّهُ يُحِبُّ فراقَها. وإنَّما كانَ يُريدُ تعجيلَها بينَ يديهِ لِيقْرُبَ اجتماعُهُما.

وقد كانَتْ عائِشَةُ مَضَغَتْ [لهُ صلى الله عليه وسلم]، سواكًا وطَيّبتْهُ بريقِها ثمَّ دَفَعَتْهُ إليهِ فاسْتَنَّ بهِ أحسنَ استنانٍ، ثمَّ ذَهَبَ يَتَناوَلُهُ فضَعُفَتْ يدُهُ عنهُ فسَقَطَ مِن يدِهِ الكريمةِ. فكانَتْ عائِشَةُ تَقولُ: جَمَعَ اللهُ بينَ ريقِهِ وريقي في آخرِ يومٍ مِن الدُّنيا وأوَّلِ يومٍ مِن الآخرةِ. والحديثُ مخرَّجٌ في الصَّحيحين

(4)

.

وفي حديثٍ خَرَّجَهُ العُقَيْلِيُّ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لها في مرضِهِ: "ائْتِيني بسواكٍ رطبٍ امْضَغِيهِ ثمَّ ائْتِيني بهِ أمْضَغُهُ؛ لكي يَخْتَلِطَ ريقي بريقِكِ لكي يُهَوَّنَ بهِ عليَّ عندَ الموتِ"

(5)

.

(1)

(ضعيف). وهو أحد أوجه الاختلاف المتقدّمة في الحديث السابق نفسه.

(2)

رواه: البخاري (62 - الصحابة، 5 - لو كنت متّخذًا خليلًا، 7/ 18/ 3662)، ومسلم (44 - الصحابة، 1 - فضائل أبي بكر، 4/ 1856/ 2384).

(3)

متفق عليه. تقدّم بطوله وتخريجه (ص 256).

(4)

البخاري (64 - المغازي، 83 - مرضه صلى الله عليه وسلم، 8/ 144/ 4449 - 4451)، ومسلم (44 - الصحابة، 13 - فضائل عائشة، 4/ 1893/ 2443 - 2444) مختصرًا.

(5)

(موضوع). رواه: العقيلي (2/ 249)، والذهبي في "الميزان"(2/ 415)؛ من طريق سهيل بن إبراهيم، ثنا عبد الله بن داوود، ثنا ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة

رفعته.

قال العقيلي: "لا يحفظ إلّا عن هذا الشيخ ولا يتابع عليه"؛ يعني: عبد الله بن داوود الواسطي وهو ضعيف منكر الحديث، وسهيل بن إبراهيم هو الجارودي مجهول، وقد أتيا بهذا المتن الغريب المخالف للنصوص الصحيحة الصريحة المخرّجة في الصحيحين وغيرهما عن ابن أبي مليكة وغيره في أنّ قصّة السواك وقعت اتّفاقًا عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر يستاك وأنّ عائشة رضي الله عنها هي التي تنبّهت لرغبته صلى الله عليه وسلم فبلّلته بريقها وقدّمته له صلى الله عليه وسلم، فبان أنّه ممّا صنعته أيديهما سهوًا أو عمدًا.

ص: 264

قال جَعْفَرُ بنُ مُحَمَّدٍ عن أبيهِ: لمَّا بقِيَ مِن أجلِ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم ثلاثٌ؛ نَزَل عليهِ جِبْريلُ عليه السلام. فقال: يا أحْمَدُ! إن الله قد أرْسَلَني إليكَ إكرامًا لكَ وتفضيلًا لكَ وخاصَّةً لكَ، يَسْألُكَ عمَّا هوَ أعلمُ بهِ منكَ، يَقول: كيفَ تَجِدُكَ؟ فقال: "أجِدُني يا جِبْريلُ مغمومًا وأجدُني يا جِبْريلُ مكروبًا". ثم أتاهُ في اليومِ الثَّاني، فقالَ لهُ مثلَ ذلكَ. ثمَّ أتاهُ في اليومِ الثالثِ، فقالَ لهُ مثلَ ذلكَ. ثمَّ اسْتَأْذَنَ فيهِ ملكُ الموتِ. فقال جِبْريلُ: يا أحْمَدُ! هذا ملكُ الموتِ يَسْتَأْذِنُ عليكَ، ولم يَسْتَأْذِنْ على آدميٍّ كانَ قبلَكَ، ولا يَسْتَأذِنُ على آدميٍّ بعدَكَ. قال:"ائْذَنْ لهُ". فدَخَلَ ملكُ الموتِ، فوَقَفَ بينَ يديهِ، فقال: يا رسول اللهِ! يا أحْمَدُ! إن الله قد أرْسَلَني إليكَ وأمَرَني أنْ أُطيعَكَ في كلِّ ما تَأْمُرُني؛ إنْ أمَرْتَني أنْ أقْبِضَ نفسَكَ قَبَضْتُها، وإنْ أمَرْتَني أنْ أتْرُكَها تَرَكْتُها؟ قال:"وتَفْعَلُ يا مَلَكَ الموتِ؟! ". قال: بذلكَ أُمِرْتُ؛ أنْ أُطيعَكَ في كلِّ ما تَأْمُرُني بهِ. فقال جِبْريلُ: يا أحْمَدُ! إن الله قدِ اشْتاقَ إليكَ. قال: "فامْضِ يا ملكَ الموتِ لِما أُمِرْتَ بهِ". فقال جِبْريلُ: السَّلامُ عليكَ يا رسول اللهِ

(1)

! هذا آخرُ موطئي مِن الأرضِ، إنَّما كُنْتَ حاجتي مِن الدُّنيا. وجاءَتِ التَّعزيةُ يَسْمَعونَ الصَّوتَ والحسَّ ولا يَرَوْنَ الشَّخصَ: السَّلامُ عليكُم يا أهلَ البيتِ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ! {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185]، إنَّ في اللهِ عزاءً مِن كلِّ مصيبةٍ، وخلفًا مِن كلِّ هالكٍ، ودركًا مِن كلِّ فائتٍ، فباللهِ فثِقُوا، وإيَّاهُ فارْجُوا، إنَّما المصابُ مَن حُرِمَ الثوابَ، والسَّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ

(2)

.

(1)

في خ: "عليك السلام يا رسول الله"، وأثبت ما في م ون وط لموافقته لفظ ابن سعد.

(2)

(موضوع). رواه: ابن سعد (2/ 258)، والبيهقي في "الدلائل"(7/ 269) من طريق أنس بن عياض حدّثونا عن، وابن سعد (2/ 259) من طريق الواقدي عن رجل، والطبراني (3/ 129/ 2890) من طريق عبد الله بن ميمون القدّاح، والسهمي في "جرجان"(ص 362 و 363) وأبو نعيم في "الدلائل"(508) من طريق محمّد بن جعفر بن محمّد، والبيهقي في "الدلائل"(7/ 267 و 268) من طريق القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص؛ خمستهم عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين.

وهذا حديث ساقط فيه علل: أولاها: أنّ الطرق الخمس إلى جعفر ساقطة؛ في الأولى راو مبهم لا يبعد أن يكون أحد المتهمين المذكورين بعده، وفي الثانية الواقدي المتّهم عن راو مبهم، وفي الثالثة القدّاح المتروك صاحب المناكير، وفي الرابعة محمّد بن جعفر ليس بثقة وألصقت فيه موضوعات، وفي الخامسة =

ص: 265

• وكانَتْ وفاتُهُ صلى الله عليه وسلم في يومِ الاثنينِ في شهرِ ربيعٍ الأوَّل بغيرِ خلافٍ، وكانَ صلى الله عليه وسلم قد كَشَفَ السِّترَ في ذلكَ اليومِ والنَّاسُ في صلاةِ الصُّبحِ خلفَ أبي بَكْرٍ، فهَمَّ المسلمونَ أنْ يُفْتَتَنوا مِن فرحِهِم برؤيتِهِ صلى الله عليه وسلم حينَ نَظَروا إلى وجهِهِ كأنَّهُ ورقةُ مصحفٍ، وظَنُّوا أنَّهُ يَخْرُجُ للصَّلاةِ، فأشارَ إليهِم أنْ مكانكم، ثمَّ أرْخى السِّترَ، وتُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم مِن ذلكَ اليومِ

(1)

.

وظَنَّ المسلمونَ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قد بَرِئَ مِن مرضِهِ لمَّا أصْبَحَ يومَ الاثنينِ مفيقًا، فخَرَجَ أبو بَكْرٍ إلى منزلهِ بالسُّنْح خارجَ المدينةِ، فلمَّا ارْتَفَعَ الضُّحى مِن ذلكَ اليومِ؛ تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم. وقيلَ: تُوُفِّيَ حينَ زاغتِ الشَّمسُ. والأوَّل أصحُّ؛ أنَّهُ تُوُفِّيَ حينَ اشْتَدَّ الضُّحى مِن يومِ الاثنينِ في مثلِ الوقتِ الذي دَخَلَ فيهِ المدينةَ حينَ هاجَرَ إليها.

واخْتَلَفوا في تعيينِ ذلكَ اليومِ مِن الشَّهرِ: فقيلَ: كانَ أوَّلَهُ. وقيلَ: ثانيَهُ. وقيلَ: ثانيَ عشرِهِ. وقيلَ: ثالثَ عشرِهِ. وقيلَ: خامسَ عشرِهِ. والمشهورُ بينَ النَّاسِ أنَّهُ كانَ ثانيَ عشرَ ربيعٍ الأوَّل.

وقد رَدَّ ذلكَ السُّهَيْلِيُّ وغيرُهُ بأنَّ وقفةَ حجَّةِ الوداعِ في السَّنةِ العاشرة كانَتِ الجمعةَ، وكانَ أوَّل ذي الحِجَّةِ فيها الخميسُ، ومتى كانَ كذلكَ؛ لمْ يَصِحَّ أنْ يَكونَ يومُ الاثنينِ ثانيَ عشرَ ربيعٍ الأوَّل، سواء حُسِبَتِ الشُّهورُ الثَّلاثةُ - أعني: ذا الحِجَّةِ ومحرَّمًا وصفرًا - كلُّها كاملةً أو ناقصةً، أو بعضُها كاملةً وبعضُها ناقصةً.

ولكنْ أُجيبَ عن هذا بجوابٍ حسنٍ، وهوَ أن ابنَ إسْحاقَ ذَكَرَ أن النَّبيَّ

= القاسم المتّهم المتروك. ومعلوم أنّ هذه الطرق لا تستفيد باجتماعها قوّة. والثانية: أنّهم اختلفوا فيه على جعفر فقالوا مرّة: عن جعفر عن أبيه معضلًا، ومرّة: عن جعفر عن أبيه عن عليّ بن الحسين مرسلًا، ومرّة: عن جعفر عن أبيه عن جابر بن عبد الله، ومرّة: عن جعفر عن أبيه عن عليّ عن الحسين، ومرّة: عن جعفر عن أبيه عن عليّ عن الحسين عن علي بن أبي طالب

وغير ذلك من أوجه الاختلاف. والثالثة: أنّهم اختلفوا في المتن أيضا اختلافا يطول تفصيله. والرابعة: أنّ في المتن نكارة من أوجه كثيرة ومخالفة للأحاديث الصحيحة. ومع هذا كلّه فقد ذكر البيهقي في "الدلائل"(7/ 210 و 269) له طريقًا أخرى وشاهدًا قوّاه بهما، وفي كلّ منهما متّهم! فلا الشاهد يغني عن المشهود له، ولا المشهود له أهل للشهادة، وما تواطأ المتّهمون والمتروكون على حديث وأعرض عنه الثقات إلّا كان موضوعًا مصنوعًا.

(1)

رواه: البخاري (10 - الأذان، 46 - أهل العلم والفضل أحقّ بالإمامة، 2/ 164/ 680)، ومسلم (4 - الصلاة، 21 - استخلاف الإمام، 1/ 315/ 419)؛ من حديث أنس.

ص: 266

- صلى الله عليه وسلم تُوُفِّيَ لاثنتي عشرةَ ليلةً مِن ربيعٍ الأوَّلِ، وهذا ممكنٌ، فإن العربَ تؤرِّخُ بالليالي دونَ الأيَّامِ، ولكنْ لا تُؤرِّخُ إلَّا بليلةٍ مضى يومُها، فيَكونُ اليومُ تبعًا للَّيلةِ، وكلُّ ليلةٍ لم يَمْضِ يومُها لم يُعْتَدَّ بها، وكذلكَ إذا ذَكَروا اللياليَ في عدب فإنَهُم يُريدونَ بها اللياليَ معَ أيَّامِها، فإذا قالوا: عشرُ ليال؛ فمرادُهُم بأيَّامِها.

ومِن هنا تَتَبَيَّنُ صحَّةُ قولِ الجمهورِ في أن عدَّةَ الوفاةِ أربعةُ أشهرٍ وعشرُ ليالٍ بأيَّامِها، وأن يومَ العاشرِ مِن جملةِ إتمامِ العدَّةِ؛ خلافًا للأوْزاعِيِّ. وكذلكَ قالَ الجمهورُ في أشهرِ الحجِّ:[إنَّها] شوَّالٌ وذو القَعْدَةِ وعشرٌ مِن ذي الحِجَّةِ، وإنَّ يومَ النَّحرِ داخلٌ [فيها] لهذا المعنى؛ خلافًا للشَّافِعِيِّ.

وحينئذٍ؛ فيومُ الاثنينِ الذي تُوُفِّيَ فيهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ ثالثَ عشرَ الشَّهرِ، لكنْ لمَّا لمْ يَكُنْ يومُهُ قد مَضى لمْ يُؤَرَّخْ بليلتِهِ، إنَّما أرَّخوا بليلةِ الأحدِ ويومِها، وهوَ الثَّاني عشرَ، فلذلكَ قالَ ابنُ إسْحاقَ: تُوُفِّيَ لاثنتي عشرةَ ليلةً مَضَتْ مِن ربيعٍ الأوَّلِ. واللهُ أعلمُ.

• واخْتَلَفوا في وقتِ دفنِهِ: فقيلَ: دُفِنَ مِن ساعتِهِ. وفيهِ بعدٌ. وقيلَ: مِن ليلةِ الثُّلاثاءِ. وقيلَ: يومَ الثُّلاثاءِ. وقيلَ: ليلةَ الأربعاءِ.

• ولمَّا تُوُفِّيَ صلى الله عليه وسلم اضْطَرَبَ المسلمونَ: فمنهُم مَن دُهِشَ فخولِطَ، ومنهُم مَن أُقْعِدَ فلمْ يُطِقِ القيامَ، ومنهُم مَنِ اعْتُقِلَ لسانُهُ فلمْ يُطِقِ الكلامَ، ومنهُم مَن أنْكَرَ موتَهُ بالكلِّيَّةِ وقالَ: إنَّما بُعِثَ إليهِ كما بُعِثَ إلى موسى. وكانَ مِن هؤلاءِ عُمَرُ.

وبَلَغَ الخبرُ أبا بَكْرٍ، فأقْبَلَ مسرعًا، حتَّى دَخَلَ بيتَ عائِشَةَ، ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مسجًّى، فكَشَفَ عن وجهِهِ الثَّوبَ وأكَبَّ عليهِ وقَبَّلَ وجهَهُ مرارًا وهوَ يَبْكي ويَقولُ: وانبيَّاه! واخليلاه! وا صفيَّاه! وقالَ: إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ، ماتَ واللهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وقالَ: واللهِ؛ لا يَجْمَعُ اللهُ عليكَ موتتينِ، أمَّا الموتةُ التي كُتِبَتْ عليكَ؛ فقد مُتَّها. ثمَّ دَخَلَ المسجدَ، وعُمَرُ يُكَلِّمُ النَّاسَ، وهُم مجتمعونَ عليهِ، فتكَلَّمَ أبو بكرٍ رضي الله عنه وتَشَهَّدَ وحَمِدَ الله، فأقْبَلَ النَّاسُ إليهِ

(1)

وتَرَكوا عُمَرَ، فقالَ: مَن كانَ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا؛ فإنَّ

(1)

في خ: "وقبّل جبهته مرارًا

الناس عليه"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 267

مُحَمَدًا قد ماتَ، ومَن كانَ يَعْبُدُ الله؛ فإن الله حيٌّ لا يَموتُ، وتَلا {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآيةَ [آل عمران: 144]. فاسْتَيْقَنَ النَّاسُ كلُّهُم بموتِهِ وكأنَّهُم لم يَسْمَعوا هذهِ الآيةَ مِن قبلِ أنْ يَتْلُوَها أبو بكرٍ، فتَلَقَاها النّاسُ منهُ، فما يُسْمَعُ أحدٌ إلَّا يَتْلوها.

وقالَتْ فاطِمَةُ عليها السلام: يا أبتاه! أجابَ ربًّا دَعاه، يا أبتاه! جنَّةُ الفردوسِ مأْواه، يا أبتاه! إلى جِبْريلَ أنْعاه، يا أبتاه! مِن ربِّهِ ما أدناه. وعاشَتْ بعدَهُ ستَّةَ أشهرٍ، فما ضَحِكَتْ في تلكَ المدَّةِ، وحُقَّ لها ذلكَ رضي الله عنها.

عَلى مِثْلِ لَيْلَى يَقْتُلُ المَرْءُ نَفْسَهُ

وإنْ كانَ مِنْ لَيْلَى عَلى الهَجْرِ طاوِيا

• كُلُ المصائبِ تَهونُ عندَ هذهِ المصيبةِ.

في "سنن ابن ماجَهْ"؛ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ في مرضِهِ: "أيُّها النَّاسُ! إنْ أحدٌ مِن الناس (أو: مِن المؤمنينَ) أُصيبَ بمصيبةٍ؛ فَلْيَتَعَزَّ بمصيبتِهِ بي عن المصيبةِ التي تُصيبُهُ بغيري؛ فإنَّ أحدًا مِن أُمَّتي لن يُصابَ بمصيبةٍ بعدي أشدَّ عليهِ مِن مصيبتي"

(1)

.

(1)

(صحيح بشواهده). وقد جاء عن جماعة من الصحابة والتابعين:

• فرواه ابن عبد البرّ في "التمهيد"(19/ 324) من طريق حسّان بن غالب، ثني الليث بن سعد، عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن المسور

رفعه. قال ابن عبدالبرّ: "غير متّصل". قلت: أبو بكر هذا مجهول من أحفاد المسور، وحسّان متهم.

• ورواه: مالك في "الموطّأ"(1/ 236)، وابن المبارك في "الزهد"(467)، وابن سعد (2/ 275)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(19/ 322)؛ من طريقين، عن مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمّد بن أبي بكر، [عن أبيه]

به. وهذا مرسل قويّ.

• ورواه الدارمي (1/ 40) من طريق قويّة، عن الأوزاعي، ثني يعيش بن الوليد، ثني مكحول

به. وهذا مرسل قويّ.

• ورواه علقمة بن مرثد واختلف عليه فيه على ثلاثة وجوه: روى أوّلها: ابن عدي (7/ 2625)، وابن السنّي (582)، والذهبي في "الميزان"(4/ 471) معلّقًا، والعسقلاني في "اللسان"(6/ 399) معلّقًا؛ من طريق يوسف بن الغرق، عن عثمان بن مقسم البرّيّ، عن علقمة، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه

رفعه. ويوسف وعثمان متروكان. وروى الثاني: بقيّ بن مخلد (2/ 2 - إصابة)، وأبو حاتم الرازي في "الوحدان"(4/ 320 - جرح)، والبغوي في "الصحابة"(2/ 2 و 313 - إصابة)، وابن قانع في "المعجم"(1/ 135 - إصابة)، والبيهقي في "الشعب"(10153)؛ من طريق يحيى الحمّاني، عن أبي بردة عمرو بن يزيد الكندي، عن علقمة، عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبيه

رفعه. والحمّاني غير مأمون والكنديّ ضعيف. وروى =

ص: 268

قالَ أبو الجَوْزاءِ: كانَ الرَّجلُ مِن أهلِ المدينةِ إذا أصابَتْهُ مصيبةٌ؛ جاءَ أخوهُ فصافَحَهُ، وتقولُ: يا عبدَ اللهِ! اتَّقِ الله؛ فإنَّ في رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُسوةً حسنةً.

اصْبِرْ لِكُلِّ مُصيبَةٍ وَتَجَلَّدِ

وَاعْلَمْ بِأنَّ المَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ

واصْبِرْ كَما صَبَرَ الكِرامُ فَإنَّها

نُوَبٌ تَنُوبُ اليَوْمَ تكْشَفُ في غَدِ

وَإذا أتَتْكَ مُصيبَةٌ تَشْجى بِها

فَاذْكُرْ

(1)

مُصابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ

= الثالث: عبد الرزّاق في "المصنّف"(6700)، ونعيم بن حمّاد في "زوائد الزهد"(271)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(4/ 320) تعليقًا، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(19/ 325)؛ من طريق سفيان، عن علقمة، عن عبد الرحمن بن سابط

مرسلًا. وسفيان ثقة إمام. فهذا الوجه هو المعتمد في حديث علقمة، والوجهان المتقدّمان ساقطان، والحديث مرسل صحيح. ومن هنا تعلم ما في قول العسقلاني:"إسناده حسن، لكن اختلف فيه على علقمة".

• ورواه أحمد في "الفضائل"(216) والطبراني في "الأوسط"(4445) و "الصغير"(613) وابن عبد البرّ في "التمهيد"(19/ 324) من طريق عبد الله بن جعفر بن نجيح، ورواه ابن ماجه (6 - الجنائز، 55 - الصبر على المصيبة، 1/ 510/ 1599) والبيهقي في "الشعب"(10154) و"الدلائل"(7/ 202) من طريق موسى بن عبيدة الربذي؛ كلاهما عن مصعب بن محمّد بن شرحبيل، عن أبي سلمة، عن عائشة

رفعته. قال الهيثمي في الطريق الأولى (3/ 15، 9/ 40): "فيه عبد الله بن جعفر بن نجيح، وهو ضعيف". قلت: بل واه. وقال البوصيري في الطريق الثانية: "فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف". قلت: وحديث عائشة باق على ضعفه باجتماع طريقيه لشدّة وهاء الأولى.

• ورواه فطر بن خليفة واختلف عليه فيه على وجهين: روى الأوّل: ابن عدي (5/ 1821)، وأبو نعيم في "أصبهان"(1/ 158)، والبيهقي في "الشعب"(10152)؛ من طريق عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، عنه، عن شرحبيل بن سعد، عن ابن عبّاس

رفعه. وروى الثاني: ابن سعد (2/ 275)، والدارمي (1/ 40)، والعقيلي (3/ 465)، وابن السنّي (583)، وابن عديّ (6/ 2056)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(19/ 322)؛ من طرق، عن فطر، عن عطاء، [عن ابن عبّاس]

رفعه. وفي الطرائفيّ كلام طويل، وهو مدلّس عنعن، فلا تقوم روايته لرواية الثقات الذين رووه على الوجه الثاني، فالمحفوظ هنا الوجه الثاني، واختلافهم فيه وصلًا وإرسالا لا يضرّ؛ لأن الوصل زيادة ثقة، والحديث من هذا الوجه لا بأس به.

• ورواه: أبو يعلى (7547)، والطبراني (6/ 135/ 5757)، والبيهقي في "الشعب"(10151)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(19/ 322) تعليقًا؛ من طريق موسى بن يعقوب، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد

رفعه بنحوه. وحديث موسى صالح في الشواهد على الأقلّ.

فهذه ستّة أوجه لهذا الحديث، أوّلها ساقط، والثلاثة التي تليه مراسيل قويّة، والخامس مرفوع ضعيف، والسادس مرفوع حسن. ويضاف إلى ذلك حديث سهل الصالح الذي يشهد للمعنى. فهذا أكثر من كاف لتقوية هذا المتن، وقد مال إلى تقويته الهيثمي والعسقلاني والمناوي والألباني.

(1)

في خ: "جاء أخوه وصافحه

مصيبة فاصبر لها واذكر"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 269

ولبعضِهِم:

تَذَكَّرْتُ

(1)

لَمَّا فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنا

فَعَزَّيْتُ نَفْسي بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ

وَقُلْتُ لَها إن المَنايا سَبيلُنا

فَمَنْ لَمْ يَمُتْ في يَوْمِهِ ماتَ في غَدِ

كادَتِ الجماداتُ تتصَدَّعُ مِن ألمِ مفارقةِ الرَّسولِ؛ فكيفَ بقلوبِ المؤمنينَ؟!

لمَّا فَقَدَهُ الجذعُ الذي كانَ يَخْطُبُ إليهِ قبلَ اتِّخاذِ المنبرِ؛ حَنَّ إليهِ وصاحَ كما يَصيحُ الصَّبيُّ، فنَزَلَ إليهِ فاعْتَنَقَهُ، فجَعَلَ يُهَدَّى كما يُهَدَّى الصَّبيُّ الذي يُسَكَّنُ عندَ بكائِهِ، فقال:"لو لمْ أعْتَنِقْهُ، لَحَنَّ إلى يومِ القيامةِ"

(2)

. كانَ الحَسَنُ إذا حَدَّثَ بهذا الحديثِ، بَكى وقالَ: هذهِ خشبة تَحِنُّ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأنتُم أحقُّ أنْ تَشْتاقوا إليهِ.

ورُوِيَ أن بلالًا كانَ يُؤذِّنُ بعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قبلَ دفنِهِ، فإذا قال: أشْهَدُ أن مُحَمَّدًا رسول اللهِ؛ ارْتَجَّ المسجدُ بالبكاءِ والنَّحيبِ، فلمَّا دُفِنَ؛ تَرَكَ بلالٌ الأذانَ.

ما أمَرَّ عيشَ مَن فارَقَ الأحباب! خصوصًا مَن كانَتْ رؤيتُهُ حياةَ الألباب.

لَوْ ذاقَ طَعْمَ الفِراقِ رَضْوى

لَكادَ مِنْ وَجْدِهِ يَميدُ

قَدْ حَمَّلوني عَذابَ شَوْقٍ

يَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِ الحَديدُ

(1)

في خ: "بالنبيّ محمّد غيره وذكرت"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

(صحيح). رواه: أحمد (1/ 249 و 266 و 267 و 363)، وعبد بن حميد في "المسند"(1336 - منتخب)، والبخاري في "التاريخ"(7/ 26)، والدارمي (1/ 18 و 19 و 367)، وابن ماجه (5 - الصلاة، 199 - بدء شأن المنبر، 1/ 454/ 1415)، وأبو يعلى (3384)، وابن خزيمة (1777)، واللالكائي في "الاعتقاد"(1472)، والضياء في "المختارة"(4/ 356/ 1519 و 1643 - 1645)؛ من طريقين قويّتين، عن أنس .. رفعه. قال البوصيري:"إسناده صحيح ورجاله ثقات".

ورواه: ابن سعد (1/ 252)، وابن أبي شيبة (31741 و 31737)، وأحمد (1/ 249 و 266 و 267 و 363)، وعبد بن حميد (1336)، والدارمي (1/ 18 و 19 و 367)، والبخاري في "التاريخ"(7/ 26)، وابن ماجه (الموضع السابق)، والطبراني (12/ 145/ 12841)، واللالكائي في "الاعتقاد"(1471)، والبيهقي في "الدلائل"(2/ 558)، والضياء في "المختارة"(5/ 37/ 1643 - 1645)؛ من طريقين إحداهما حسنة، عن ابن عبّاس

رفعه. قال البوصيري: "إسناده صحيح ورجاله ثقات".

وله شاهد قويّ عند: إسحاق في "المسند"، والبغوي في "حديث هدبة بن عمّار"(2174 - صحيحة)، والضياء في "المختارة"(1645)؛ من حديث الحسن مرسلًا.

وحديثا أنس وابن عبّاس كلاهما صحيح، وأصل القصّة عند البخاري في "الصحيح" من حديث جابر وابن عمر، لكن ليس عندهما هذا اللفظ.

ص: 270

لمَّا دُفِنَ صلى الله عليه وسلم؛ قالَتْ فاطِمَةُ: كيفَ طابَتْ أنفسُكُم أنْ تَحْثوا على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم التُّرابَ؟!

قالَ أنَسٌ: لمَّا كانَ اليومُ الذي دَخَلَ فيهِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم المدينةَ؛ أضاءَ منها كلُّ شيءٍ، فلمَّا كانَ اليومُ الذي دُفِنَ فيهِ، أظْلَمَ منها كلُّ شيءٍ، وما نَفَضْنا التُّرابَ

(1)

عن رسولِ اللهِ [صلى الله عليه وسلم]، وإنَّا لفي دفنِهِ، حتَّى أنْكَرْنا قلوبَنا.

لِيَبْكِ رَسولَ اللهِ مَنْ كانَ باكِيًا

فَلا تَنْسَ قَبْرًا بِالمدينةِ ثاوِيا

جَزى اللهُ عَنَّا كُلَّ خَيْرٍ مُحَمَّدًا

فَقَدْ كانَ مَهْدِيًّا وَقَدْ كانَ هادِيا

وَكانَ رَسولُ اللهِ رَوْحًا وَرَحْمَةً

وَنورًا وَبُرْهانًا مِنَ اللهِ بادِيا

وَكانَ رَسولُ اللهِ بِالخَيْرِ آمِرًا

وَكانَ عَنِ الفَحْشاءِ والسُّوءِ ناهِيا

وَكانَ رَسولُ اللهِ بِالقِسْطِ قائِمًا

وَكانَ لِما اسْتَرْعاهُ مَوْلاهُ راعِيا

وَكانَ رَسولُ اللهِ يَدْعو إلى الهُدى

فَلَبَّى رَسولُ اللهِ لَبَّيْهِ داعِيا

أيُنْسى أبَرُّ النَّاسِ بِالنَّاسِ كُلِّهِمْ

وَأكْرَمُهُمْ بَيْتًا وَشِعْبًا وَوادِيا

أيُنْسى رَسولُ اللهِ أكْرَمُ مَن مَشى

وَآثارُهُ بِالْمَسْجِدَيْنِ كَما هِيا

تكدَّرَ مِنْ بَعْدِ النَّبِي مُحَمَّدٍ

عَلَيْهِ سَلامٌ كُلُّ ما

(2)

كانَ صافِيا

رَكَنَّا إلى الدُّنْيا الدَّنِيَّةِ بَعْدَهُ

وَكَشَّفَتِ الأطْماعُ مِنَّا مَساوِيا

وَكَمْ مِنْ مَنارٍ كانَ أوْضَحَهُ لَنا

وَمِنْ عَلَمٍ أمْسى وَأصْبَحَ عافِيا

إذا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيابًا مِنَ التُّقى

تَقَلَّبَ عُرْيانًا وَلَوْ كانَ كاسِيا

[وَخَيْرُ خِصالِ المَرْءِ طاعَةُ رَبِّهِ

وَلا خَيْرَ فيمَنْ كانَ للهِ عاصِيا]

* * *

(1)

في م ون وط: "وما نفضنا أيدينا".

(2)

كذا في خ وم ون، وفي ط نقلًا عن إحدى النسخ:"عليه سلام الله".

ص: 271

‌وظيفة شهر رجب

خَرَّجا في الصَّحيحينِ

(1)

مِن حديثِ أبي بَكْرَةَ: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ في حَجَّةِ الوداع فقالَ في خطبتِهِ: "إنَّ الزَّمانَ قدِ اسْتَدارَ كهيئتِهِ يومَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ والأرضَ، السَّنة اثنا عَشَرَ شهرًا، منها أربعة حرمٌ: ثلاثة متوالياتٌ؛ ذو القَعْدَةِ وذو الحِجَّةِ والمحرَّمُ، ورجبُ مُضَرَ الذي بينَ جُمادى وشعبانَ

" وذَكَرَ الحديثَ.

• قالَ اللهُ تَعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]. فأخْبَرَ سبحانَهُ أنَّهُ منذُ خَلَقَ السَّماواتِ والأرضَ، وخَلَقَ الليلَ والنَّهارَ يَدورانِ في الفلكِ، وخَلَقَ ما في السَّماءِ مِن الشَّمسِ والقمرِ والنُّجومِ، وجَعَلَ الشَّمسَ والقمرَ يَسْبَحانِ في الفَلَكِ [فـ]ـينْشَأُ منهُما ظلمةُ الليلِ وبياضُ النَّهارِ؛ فمِن حينئذٍ جَعَلَ السَّنةَ اثني عشرَ شهرًا بحسبِ الهلالِ.

فالسَّنةُ في الشَّرعِ مقدَّرة بسيرِ القمرِ وطلوعِهِ لا بسيرِ الشَّمسِ وانتقالِها كما يَفْعَلُهُ أهلُ الكتابِ.

وجَعَلَ [اللهُ تَعالى] مِن هذهِ الأشهرِ أربعةَ أشهرٍ حرمًا، وقد فَسَّرَها النَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ، وذَكَرَ أنَّها ثلاثةٌ متوالياتٌ؛ ذو القَعْدَةِ وذو الحِجَّةِ ومُحَرَّمٌ، وواحدٌ فردٌ وهوَ شهر رجبٍ. وهذا قد يَسْتَدِلُّ بهِ مَن يَقولُ: إنَّها مِن سنتينِ. وقد رُوِيَ مِن حديثِ ابن عُمَرَ مرفوعًا: "أوَّلُهُنَ رجبٌ"

(2)

، وفي إسناده موسى بنُ عُبَيْدَةَ، وفيهِ ضعفٌ شديدٌ

(1)

البخاري (25 - الحجّ، 132 - الخطبة أيّام منى، 3/ 573/ 1741)، ومسلم (28 - القسامة، 9 - تغليظ تحريم الدماء، 3/ 1305/ 1679).

(2)

(منكر). رواه: ابن جرير (16699)، وابن المنذر (التوبة 36 - الدرّ)، وابن أبي حاتم (10096) =

ص: 272

مِن قبلِ حفظِهِ. وقد حُكِيَ عن أهلِ المدينةِ أنَّهُم جَعَلوها مِن سنتينِ، وأنَّ أوَّلَها ذو القَعْدَةِ ثمَّ ذو الحِجَّةِ ثمَّ المحرَّمُ ثمَّ رجبٌ، فيَكونُ رجبٌ آخرَها. وعن بعضِ المدنيِّينَ أنَّ أوَّلَها رجبٌ ثمَّ ذو القعدةِ ثم ذو الحجَّةِ ثمَّ المحرَّمُ. وعن [بعضِ] أهلِ الكوفةِ أنَّها مِن سنةٍ واحدةٍ؛ أوَّلُها المحرَّمُ ثمَّ رجبٌ ثمَّ ذو القَعْدَةِ ثمَّ ذو الحِجَّةِ

(1)

.

واخْتُلِفَ في أي هذهِ الأشهرِ الحرمِ أفضلُ: فقيلَ: رجبٌ. قالَهُ بعضُ الشَّافعيّةِ، وضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ وغيرُهُ. وقيلَ: المحرَّمُ. قالَهُ الحَسَنُ، ورَجَّحَهُ النَّوَوِيُّ. وقيلَ: ذو الحِجَّةِ. رُوِيَ عن سَعيدِ بن جُبَيْرٍ وغيرِهِ، وهوَ أظهرُ. واللهُ أعلمُ.

• وقولُهُ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الزَّمانَ قدِ اسْتَدارَ كهيئتِهِ يومَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ والأرضَ، السَّنةُ اثنا عشرَ شهرًا"؛ مرادُهُ بذلكَ إبطالُ ما كانتِ الجاهليَّةُ تَفْعَلُهُ مِن النَّسيءِ، كما قالَ تَعالى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37].

وقدِ اخْتُلِفَ في تفسيرِ النَّسيءِ: فقالَتْ طائفةٌ: كانوا يُبْدِلونَ بعضَ الأشهرِ الحرمِ بغيرِها مِن الأشهرِ فيُحَرِّمونَها بدلَها ويُحِلُّونَ ما أرادوا تحليلَهُ مِن الأشهرِ الحرمِ إذا احْتاجوا إلى ذلكَ، ولكنْ لا يَزيدونَ في عددِ الأشهرِ الهلاليّةِ شيئًا. ثمَّ مِن أهلِ هذهِ المقالةِ مَن قالَ: كانوا يُحِلُّونَ المحرَّمَ فيَسْتَحِلُّونَ القتالَ فيه؛ لطولِ مدَّةِ التَّحريمِ عليهِم بتوالي ثلاثةِ أشهرٍ محرَّمةٍ، ثمَّ يُحَرِّمونَ صَفَرَ مكانَهُ، فكأنَّهُم تقْتَرِضونَهُ ثمَّ يُوَفُّونَهُ. ومنهُم مَن قالَ: كانوا يُحِلُونَ المحرَّمَ معَ صَفَرَ مِن عامٍ ويُسَمُّونَهُما صَفرينِ، ثمَّ يُحِرِّمونَهُما مِن عامٍ قابلٍ ويُسَمُّونَهُما محرَّمينِ، قالَهُ ابنُ زيدِ بن أسْلَمَ. وقيلَ: بل كانوا ربَّما احْتاجوا إلى صَفَرَ أيضًا فأحَلُّوهُ وجَعَلوا مكانَهُ ربيعًا، ثمَّ يَدورُ ذلكَ التَّحريمُ

= مختصرًا، وابن مردويه (التوبة 36 - ابن كثير)؛ من طريق موسى بن عبيدة الربذي، ثني صدقة بن يسار (وقال ابن أبي حاتم وابن مردويه: عن عبد الله بن دينار)، عن ابن عمر

رفعه.

قال ابن رجب: "فيه موسى بن عبيدة، وفيه ضعف شديد من قبل حفظه". قلت: موسى ضعيف، ولا سيّما في عبد الله بن دينار، وقد تردّد في تابعيّ الحديث، وهذا، وإن كان تردّدًا بين ثقتين لا يضرّ، فإنه يدلّ على أنّه لم يضبط الحديث، وقد خالف الثقات الذين رووا هذا الحديث بغير هذا القيد، وهذا حدّ النكارة.

(1)

وهذا نوع من الترف العلمي الذي لا طائل تحته ولا فائدة تجنى من ورائه.

ص: 273

والتَّحليلُ بالتَّأْخير

(1)

، إلى أنْ جاءَ الإسلامُ ووافَقَ حجَّةَ الوداعِ [و] صارَ رجوعُ التَّحريمِ إلى محرَّمٍ الحقيقيِّ. وهذا هوَ الذي رَجَّحَهُ أبو عُبَيْدٍ. وعلى هذا

(2)

فالتَّغييرُ إنَّما وَقَعَ في عينِ الأشهرِ الحرمِ خاصَّة. وقالَتْ طائفةٌ أُخرى: بل كانوا يَزيدونَ في عددِ شهورِ السَّنةِ، وظاهرُ الآيةِ يُشْعِرُ بذلكَ، حيثُ قالَ اللهُ تَعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} فذَكَرَ هذا توطئةً لهدمِ النَّسيءِ وإبطالِهِ.

ثمَّ مِن هؤلاءِ مَن قالَ: كانوا يَجْعَلونَ السَّنةَ ثلاثةَ عشرَ شهرًا. قالَهُ مُجاهِدٌ وأبو مالِكٍ. قالَ أبو مالِكٍ: كانوا يَجْعَلونَ السَّنةَ ثلاثةَ عشرَ شهرًا، ويَجْعَلونَ المحرَّمَ صَفَرًا. وقالَ مُجاهِدٌ: كانوا يُسْقِطونَ المحرَّمَ، ثمَّ تقولونَ صَفَرَينِ لصَفَرَ وربيعٍ الأوَّلِ، ثمَّ يَقولونَ لرمضان شعبانُ

(3)

ولِشوَّالٍ رمضانُ ولذي القعدةِ شوَّالٌ ولذي الحجَّةِ ذو القعدةِ - على وجهِ ما ابْتَدَؤوا -. وللمحرَّمِ ذو الحِجَّةِ، فيَعُدُّونَ ما ناسَؤُوا على مستقبلِهِ على وجهِ ما ابْتَدَؤُوا.

وعنهُ قالَ: كانَتِ الجاهليَّةُ يَحُجُّونَ في كلِّ شهرٍ مِن شهورِ السَّنةِ عامينِ، فوافَقَ حجُّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في ذي الحِجَّةِ، فقالَ:"هذا يومَ اسْتَدارَ الزَّمانُ كهيئتِهِ يومَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ والأرضَ"

(4)

.

ومِن هؤلاءِ مَن قالَ: كانَتِ الجاهليَّةُ يَجْعَلونَ السَّنةَ

(5)

اثني عشرَ شهرًا وخمسةَ أيَّامٍ. قالَهُ إياسُ بنُ مُعاوِيَةَ. وهذا العددُ قريبٌ مِن عددِ السَّنةِ الرُّوميَّةِ، ولهذا جاءَ في مراسيلِ عِكْرِمَةَ بن خالِدٍ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في خطبتِهِ يومَ النَّحرِ:"والشَّهرُ هكذا وهكذا وهكذا، وخَنَسَ إبهامَهُ في الثَّالثةِ، وهكذا وهكذا وهكذا"؛ يَعْني

(1)

في خ وم: "يدور كذلك التحريم والتحليل والتأخير"، والمقطع ساقط من ن، والتصويب من ط.

(2)

في خ: "وعلى ذلك"، والأولى ما أثبتّه من م وط.

(3)

في خ: "ويقولون صفرين لصفر وربيع الأوّل وربيع الآخر، ثمّ يقولون [شهرا ربيع، ثمّ يقولون] لرمضان شعبان"! وذكر ربيع الآخر لا محلّ له في هذا السياق ولا ذكره من خرّجه من أهل التفسير وإنّما هو من إضافات النسّاخ لاستكمال أشهر السنة! وذكره خطأ واضح؛ لأنّ الأشهر تصبح ثلاثة؛ فكيف يقال لها صفرين؟! وكذلك لم يذكر "شهرا ربيع" في السياق أحد ممّن خرّج هذا الأثر.

(4)

المرفوع متّفق عليه كما تقدّم، والموقوف من كلام مجاهد، وفي صحّة نسبته إليه نظر.

(5)

أشار في خ إلى أنّها كذلك في نسخة، وفي متن خ و م و ن و ط:"يجعلون الشهور".

ص: 274

ثلاثينَ

(1)

. فأشارَ إلى أن الشَّهرَ هلاليٌّ، ثمَّ تارةً يَنْقُصُ وتارةً يَتِمُّ.

ولعل أهلَ النَّسيءِ كانوا يُتِمُّونَ الشُّهورَ كلَّها ويَزيدونَ عليها. واللهُ أعلمُ.

وقد قيلَ: إنَّ رَبيعَةَ ومُضَرَ كانوا يُحَرِّمونَ أربعةَ أشهرٍ مِن السَّنةِ معَ اختلافِهِم في تعيينِ رجبٍ منها، كما سَنَذْكُرُهُ إنْ شاءَ اللهُ. وكانَت بَنو عَوْفِ بن لُؤَيٍّ يُحَرِّمونَ مِن السَّنةِ ثمانيةَ أشهرٍ، وهذا مبالغةٌ في الزِّيادةِ على ما حَرَّمَهُ اللهُ تَعالى.

واخْتَلَفوا في أيِّ عامٍ عادَ الحجُ إلى ذي الحِجَّةِ على وجهِهِ، واسْتَدارَ الزَّمانُ فيهِ كهيئتِهِ: فقالَتْ طائفةٌ: إنَّما عادَ على وجهِهِ في حَجَّةِ الوداعِ، وأمَّا حَجَّةُ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه؛ فكانَتْ [قد] وَقَعَتْ في شهرِ ذي القَعْدَةِ. هذا قولُ مُجاهِدٍ وعِكْرِمَةَ بن خالِدٍ وغيرِهِما. وقيلَ: إنَّهُ اجْتَمَعَ في ذلكَ العامِ حجُّ الأُممِ كلِّها في وقتٍ واحدٍ، فلذلكَ سُمِّيَ يومَ الحجِّ الأكبرِ. وقالَتْ طائفة: بل وَقَعَتْ حَجَّةُ الصِّدَيقِ في ذي الحِجَّةِ. قالَهُ الإمامُ أحْمَدُ، وأنْكَرَ قولَ مُجاهِدٍ، واسْتَدَلَّ بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَرَ عليًّا فنادى يومَ النَّحرِ:"لا يَحُجُّ بعدَ العامِ مشركٌ"

(2)

. وفي روايةٍ: "واليومُ يومُ الحجِّ الأكبرِ"

(3)

. وقد قالَ تَعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3]، فسَمَاهُ يومَ الحجِّ الأكبرِ، وهذا يَدُلُّ على أن النِّداءَ وَقَعَ في ذي الحِجَّةِ.

وخَرَّجَ الطَبَرانِيُّ في "أوسطه" مِن حديثِ: عَمْرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّهِ؛ قالَ: كانَ العربُ يُحِلُّونَ عامًا شهرًا وعامًا شهرينِ، ولا يُصيبونَ الحجَّ إلَّا في كلِّ ستَّةٍ

(1)

(ضعيف). رواه عكرمة بن خالد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ذكره المصنف، ولم أقف عليه بعد طول بحث، فإن صحّت الطريق إلى عكرمة فالسند ضعيف لإرساله.

وله شاهد رواه الخطيب في "الجمع والتفريق"(1/ 383) من حديث ابن عبّاس بسند ساقط.

وقد جاءت خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم من أوجه صحيحة وحسنة وضعيفة عن جماعة كبيرة من الصحابة لم يذكر أحد منهم فيها هذه الزيادة إلّا من هذين الوجهين ممّا يدلّ على نكارتها.

(2)

رواه: البخاري (8 - الصلاة، 10 - ما يستر العورة، 1/ 477/ 369)، ومسلم (15 - الحجّ، 78 - لا يحجّ البيت مشرك، 2/ 983/ 1347).

(3)

هو أحد ألفاظ الحديث المتقدّم قبله عند البخاري (58 - الجزية، 16 - كيف ينبذ إلى أهل العهد، 6/ 279/ 3177)، لكنّه قال:"ويوم الحجّ الأكبر يوم النحر".

ص: 275

وعشرينَ سنةً مرَّةً، وهوَ النَّسيءُ الذي ذَكَرَهُ اللهُ في كتابِهِ، فلمَّا كانَ عامَ حَجَّ أبو بَكْرٍ [الصِّدِّيقُ] بالنَّاسِ؛ وافَقَ في ذلكَ العامِ الحجَّ، فسَمَّاهُ اللهُ يومَ الحجِّ الأكبرِ. ثمَّ حجَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في العامِ المقبلِ، فاسْتَقْبَلَ النَّاسُ الأهلَّةَ، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الزَّمانَ قدِ اسْتَدارَ كهيئتِهِ يومَ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ والأرضَ"

(1)

.

وقيلَ: بلِ استدارةُ الزَّمانِ كهيئتِهِ كانَ مِن عامِ الفتحِ.

وخَرَّجَ البزَّارُ في "مسنده" مِن حديثِ سَمُرَةَ بن جُنْدَبٍ؛ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُم يومَ الفتحِ: "إنَّ هذا العامَ الحجُّ الأكبرُ، قدِ اجْتَمَعَ حجُّ المسلمينَ وحجُّ المشركينَ في ثلاثةِ أيَّامٍ متتابعاتٍ، واجْتَمَعَ حجُّ اليهودِ وحجُّ النَّصارى في ستةِ أيَّامٍ متتابعاتٍ، ولم يَجْتَمعْ منذُ خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ والأرضَ ولا يَجْتَمعُ بعدَ العامِ حتَّى تَقومَ السَّاعةُ"

(2)

.

وفي إسنادِهِ يوسُفُ السَّمْتِيُّ، وهوَ ضعيفٌ جدًّا.

• واخْتَلَفوا لِمَ سُمِّيَتْ هذهِ الأشهرُ الأربعةُ حرمًا:

فقيلَ: لعظمِ حرمتِها وحرمةِ الذَّنبِ فيها.

قالَ عَلِيُّ بنُ أبي طَلْحَةَ عن ابن عَبَّاسٍ: اخْتَصَّ اللهُ أربعةَ أشهرٍ وجَعَلَهُنَّ حرمًا، وعَظَّمَ حرماتِهِنَّ، وجَعَلَ الذَّنبَ فيهِنَّ أعظمَ، وجَعَلَ العملَ الصَّالحَ والأجرَ أعظمَ.

قالَ كَعْبٌ: اخْتارَ اللهُ الزمانَ، فأحبُّهُ إلى اللهِ الأشهرُ الحرمُ. وقد رُوِيَ مرفوعًا،

(1)

(حسن بهذا السياق). رواه: الطبراني في "الأوسط"(2930)، وابن مردويه (8/ 322 - فتح)؛ من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه

به. قال الهيثمي (7/ 32): "رجاله ثقات". قلت: المرفوع منه من مخرّجات الصحيحين.

(2)

(منكر). رواه: البزّار (1826 - كشف) من طريق يوسف بن خالد السمتي، والطبراني (7/ 256/ 7040) من طريق مروان بن جعفر عن محمّد بن إبراهيم؛ كلاهما عن جعفر بن سعد بن سمرة، ثنا خبيب بن سليمان بن سمرة، عن سليمان بن سمرة، عن سمرة

رفعه.

قال ابن رجب والهيثمي (6/ 188): "فيه يوسف بن خالد السمتي وهو ضعيف [جدًّا] ". قلت: متّهم لا يصلح لصالحة. لكنه توبع عند الطبراني كما ترى، قال الهيثمي (7/ 32) في المتابعة:"رجاله موثّقون". قلت: وثّق ابن حبّان بعضهم لا جميعهم على طريقته في توثيق المجاهيل: ومروان صاحب منكرات، ومحمّد مجهول ضعيف، وجعفر ليّن، وخبيب مجهول، وسليمان لا يعدو أن يكون مقبولًا في المتابعات. والحديث ساقط بمفردات طرقه ومجموعها، وقد استنكره الذهبي وابن رجب والهيثمي والعسقلاني.

ص: 276

ولا يَصِحُّ رفعُهُ.

وقد قيلَ في قولِهِ تَعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]: إنَّ المرادَ في الأشهرِ الحرمِ. وقيلَ: بل في جميعِ شهورِ السَّنةِ.

وقيلَ: إنَّما سُمِّيَتْ حرمًا لتحريمِ القتالِ فيها، وكانَ ذلكَ معروفًا في الجاهليّةِ.

وقيلَ: إنَّهُ كانَ في عهدِ إبْراهيمَ عليه السلام.

وقيلَ: إنَّ سببَ تحريمِ هذهِ الأشهرِ الأربعةِ بينَ العربِ لأجلِ التَّمكُّنِ مِن الحجِّ والعمرةِ: فحُرِّمَ

(1)

شهرُ ذي الحِجَّةِ لوقوعِ الحجِّ فيهِ، وحُرِّمَ معَهُ شهرُ ذي القعدةِ للسَّيرِ فيهِ إلى الحجِّ، وشهرُ المحرَّمِ للرُّجوعِ فيهِ مِن الحجِّ، حتَّى يَأْمَنَ الحاجُّ على نفسِهِ مِن حينِ يَخْرُجُ مِن بيتِهِ إلى أنْ يَرْجِعَ إليهِ، وحُرِّمَ شهرُ رَجَبٍ، للاعتمارِ فيهِ في وسطِ السَّنةِ، فيَعْتَمِرُ فيهِ مَن كانَ قريبًا مِن مَكَّةَ.

• وقد شَرَعَ اللهُ تَعالى في أوَّلِ الإسلامِ تحريمَ القتالِ في الشَّهرِ الحرامِ: قالَ تَعالى: {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]. وقالَ تَعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].

وخَرَّجَ ابنُ أبي حاتِمٍ بإسناده عن جُنْدَبِ بن عَبْدِ اللهِ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رهطًا وبَعَثَ عليهِم عَبْدَ اللهِ بنَ جَحْشٍ، فَلَقُوا ابنَ الحَضْرَمِيِّ فقَتَلوهُ، ولم يَدْروا أن ذلكَ مِن رجبٍ أو مِن جمادى، فقالَ المشركونَ للمسلمينَ: قَتَلْتُم في الشَّهرِ الحرامِ، فأنْزَلَ اللهُ تَعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 217]

(2)

.

(1)

في خ: "تحريم هذه الأربعة أشهر

وحرَّم"، والأولى ما أثبته من م وط.

(2)

(صحيح بشواهده). رواه: الطبري (4087)، وابن أبي حاتم (ابن كثير - البقرة 217)، والطبراني (2/ 162/ 1670)، والعسقلاني في "التغليق"(2/ 76)؛ من طريق معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحضرميّ، عن أبي السوار، عن جندب

به. وهذا سند لا بأس به، رجاله ثقات رجال الصحيح، إلّا الحضرمي فصدوق لا بأس بحديثه.

وله شاهد عند: ابن إسحاق في "المغازي"(2/ 76 - تغليق)، والطبري (4085)، والبيهقي (9/ 58)، =

ص: 277

ورَوَى السُّدِّيُّ: عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ عن ابن عَبَّاسٍ، وعن مُرَّةَ عن ابن مَسْعودٍ في هذهِ الآيةِ

فذَكَروا هذهِ القصَّةَ مبسوطةً، وقالوا فيها: فقالَ المشركونَ: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أنَّهُ يَتَبعُ طاعةَ اللهِ وهوَ أوَّلُ مَنِ اسْتَحَلَّ الشَّهرَ الحرامَ. فقالَ المسلمونَ: إنَّما قتَلْناهُ في جُمادى. وقيلَ: في أوَّلِ رجبٍ وآخرِ ليلةٍ مِن جمادى، وغَمَدَ المسلمونَ سيوفَهُم حينَ دَخَلَ شهرُ رجبٍ. وأنْزَلَ اللهُ تعييرًا لأهلِ مَكَّةَ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} لا يَحِلُّ، وما صَنَعْتُمْ أنتُم يا معشرَ المشركينَ أكبرُ مِن القتلِ في الشَّهرِ الحرامِ حينَ كَفَرْتُم باللهِ وصَدَدْتُم عن مُحَمَّدٍ وأصحابِهِ، وإخراجُ أهلِ المسجدِ الحرامِ حينَ أخْرَجوا منهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم أكبرُ مِن القتلِ عندَ اللهِ.

وقد رُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ هذا المعنى: مِن روايةِ العَوْفِيِّ عنهُ، ومِن روايةِ أبي سَعْدٍ البَقَّالِ عن عِكْرِمَةَ عنهُ، ومِن روايةِ الكَلْبِيِّ عن أبي صالحٍ عنهُ.

وذَكَرَ ابنُ إسحاقَ أن ذلكَ كانَ في آخرِ يومٍ مِن رجبٍ، وأنَّهُم خافوا إنْ أخَّروا القتالَ أنْ يَسْبِقَهُمُ المشركونَ فيَدْخُلوا الحرمَ فيَأْمَنوا. وأنَّهُم لمَّا قَدِموا على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُم:"ما أمَرْتُكُم بالقتالِ في الشَّهرِ الحرامِ"، ولمْ يَأْخُذْ مِن غنيمتِهِم شيئًا. وقالَتْ قُرَيْشٌ: قدِ اسْتَحَلَّ مُحَمَّد وأصحابُهُ الشَّهرَ الحرامَ. فقالَ مَن بمَكَّةَ مِن المسلمينَ: إنَّما قَتَلوهُم في شعبانَ. فلمَّا أكْثَرَ النَّاسُ في ذلكَ؛ نَزَلَ قولُهُ تَعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} الآية

(1)

.

ورُوِيَ نحوُ هذا السِّياق عن عُرْوَةَ والزُّهْرِيِّ وغيرِهِما.

وقيلَ: إنَّها كانَتْ أوَّلَ غنيمةٍ غَنِمَها المسلمونَ.

= والعسقلاني في "التغليق"(2/ 75 - 76)؛ من طريقين قويّتين، عن عروة بن الزبير

مرسلًا.

وآخر عند البيهقي (9/ 58) من طريق لا بأس بها عن موسى بن عقبة

مرسلًا.

وشواهد أُخرى عند: عبد الرزّاق (254)، وابن جرير (4086 و 4088 - 4090 و 4092 و 4093 - 4096)؛ من أوجه عدّة موصولة ضعيفة ومرسلة قويّة.

ومن وقف على شواهد القصّة لم يتردّد في صحّتها، وإلى تقويتها مال ابن كثير والهيثمي والعسقلاني.

(1)

(لا بأس به). تقدّم تفصيل القول فيه في الحاشية السابقة؛ إلّا قوله صلى الله عليه وسلم "ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام"؛ فقد جاء فقط في مرسل عروة بن الزبير المتقدّم آنفًا، لكنّ الجوّ العام للنصوص المتقدّمة يقوّيه، ويشهد لمعناه حديث جابر الحسن الآتي قريبًا، فأرجو أنّه ممّا لا بأس به من أخبار السيرة.

ص: 278

وقالَ عَبْدُ اللهِ بنُ جَحْشٍ في ذلكَ - وقيلَ: إنَّها لأبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه:

تَعُدُّونَ قَتْلًا في الحَرامِ عَظيمَةً

وَأعْظَمُ مِنْهُ لَوْ يَرَى الرُّشْدَ راشِدُ

صُدودُكُمُ عَمَّا تقولُ مُحَمَّدٌ

وَكُفْرٌ بِهِ واللهُ راءٍ وَشاهِدُ

وَإخْراجُكُمْ مِنْ مَسْجِدِ اللهِ أهْلَهُ

لِئَلَّا يُرى للهِ في البَيْتِ ساجِدُ

في أبياتٍ أُخرَ.

• وقدِ اخْتَلَفَ العلماءُ في حكمِ القتالِ في الأشهرِ الحرمِ، هل تحريمُهُ باقٍ أم نُسِخَ:

فالجمهورُ على أنَّهُ نُسِخَ تحريمُهُ، ونَصَّ على نسخِهِ الإمامُ أحْمَدُ وغيرُهُ مِن الأئمَّةِ. وذَهَبَ طائفةٌ مِن السَّلفِ - منهُم عطاءٌ - إلى بقاءِ تحريمِهِ، ورَجَّحَهُ بعضُ المتأخِّرينَ، واسْتَدَلُوا بآيةِ المائدةِ، والمائدةُ مِن آخرِ ما نَزَلَ مِن القرآنِ. وقد رُوِيَ

(1)

: أحِلُّوا حلالَها وحَرِّموا حرامَها. وقيلَ: ليسَ فيها منسوخٌ.

وفي "المسند": أن عائِشَةَ قالَتْ: هيَ آخرُ سورةٍ نَزَلَتْ، فما وَجَدْتُم فيها مِن حلالٍ فاسْتَحِلوهُ، وما وَجَدْتُم فيها مِن حرامٍ فحَرِّموهُ.

ورَوى الإمامُ أحْمَدُ في "مسنده": حَدَّثَنا إسْحاقُ بنُ عيسى، حَدَّثَنا لَيْثُ بنُ سَعْدٍ، عن أبي الزُّبَيْرِ، عن جابِرٍ؛ قالَ: لم يَكُنْ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزو في الشَّهرِ الحرامِ إلَّا أنْ يُغْزى، ويَغْزو فإذا حَضَرَهُ أقامَ حتَّى يَنْسَلخَ

(2)

.

وذَكَرَ بعضُهُم أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم حاصَرَ الطَّائفَ في شوَّالٍ، فلمَّا دَخَلَ ذو القَعْدَةِ؛ لمْ يُقاتِلْ، بل صابَرَهُم، ثمَّ رَجَعَ

(3)

.

(1)

يعني: في الموقوف، ولم أقف على مرفوع بهذا المعنى، فكأنّه يعني قول عائشة الآتي بعده.

(2)

(حسن). رواه: أحمد (3/ 334 و 345)، والحارث (645 - هيثمي)، والطبري (4084)، والنحّاس في "الناسخ"؛ من طرق، عن الليث، عن أبي الزبير، عن جابر

رفعه.

قال الهيثمي (6/ 69): "رجاله رجال الصحيح". قلت: أبو الزبير صدوق حسن الحديث من رجال الشيخين، ورواية الليث عنه أمان من التدليس، فالسند حسن.

(3)

(منكر). لم أقف عليه، ولكنّه ظاهر المخالفة لقصّة حصار الطائف المخرّجة في الصحيحين وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم للمسلمين "اغدوا على القتال" قبل رجوعهم عن الحصن بيوم واحد.

ص: 279

وكذلكَ في عمرةِ الحُدَيْبِيَةِ

(1)

لمْ يُقاتِلْ حتَّى بَلَغَهُ أن عُثْمانَ قُتِلَ، فبايَعَ على القتالِ، ثمَّ لمَّا بَلَغَهُ أن ذلكَ لا حقيقةَ لهُ؛ كَفَّ عن القتالِ

(2)

.

واسْتَدَلَّ الجمهورُ بأنَّ الصَّحابةَ رضي الله عنهم اشْتَغَلوا بعدَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بفتحِ البلادِ ومواصلةِ القتالِ والجهادِ ولمْ يُنْقَلْ عن أحدٍ منهُم أنَّهُ تَوَقَّفَ عن القتالِ وهوَ طالبٌ لهُ في شيء مِن الأشهرِ الحرمِ، وهذا يَدُلُّ على إجماعِهِم على نسخِ ذلكَ

(3)

. واللهُ أعلمُ.

ومِن عجائبِ الأشهرِ الحرمِ ما رُوِيَ [عن] عَبْدِ اللهِ بن عَمْرِو بن العاصِ؛ أنَّهُ ذَكَرَ عجائبَ الدُّنيا، فعَدَّ منهـ[ـا]، بأرضِ عادٍ عمودَ نحاسٍ، عليهِ شجرة مِن نحاسٍ، فإذا كانَ في الأشهرِ الحرمِ؛ قَطَرَ منها الماءُ، فملؤوا منهُ حياضَهُم، وسَقَوْا مواشيَهُم وزروعَهُم، فإذا ذَهَبَ الأشهرُ الحرمُ؛ انْقَطَعَ المال

(4)

.

• وقولُهُ صلى الله عليه وسلم "ورَجَبُ مُضَر": سُمِّيَ رجبٌ رجبًا لأنَّهُ كانَ يُرَجَّبُ؛ أي: يُعَظّمُ. كذا قالَ الأصْمَعِيُّ والمُفَضَّلُ والفَرَّاءُ. وقيلَ: لأنَّ الملائكةَ [تَ]ـتَرَجَّبُ للتَّسبيحِ والتَّحميدِ فيهِ، وفي ذلكَ حديث مرفوعٌ؛ إلَّا أنَّهُ موضوعٌ.

(1)

في خ: "وكذلك غزوة الحديبية"، والأولى ما أثبتّه من م وط.

(2)

ملخص مختصر لقصّة غزوة الحديبية المشهورة المخرّجة في "السير" و"الصحاح". وانظر لتفاصيلها: "صحيح البخاري"(64 - المغازي، 35 - الحديبية، 7/ 439/ 4147 - 4191)، و"صحيح مسلم"(32 - الجهاد والسير، 34 - صلح الحديبية، 3/ 1409/ 1783 - 1786).

(3)

استند الذين حرَّموا القتال في الشهر الحرام وجعلوه أمرًا محكمًا إلى: آية البقرة {قل قتال فيه كبير} ، وأنّ آية المائدة {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} ظاهرتها والمائدة من آخر ما نزل من القرآن، وأنّ حديث جابر الصحيح بيّن أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم التزم بذلك حتّى مات. وهذه أدلة يقينية غاية في الوضوح.

واستند الذين أحلّوا القتال في الشهر الحرام وجعلوا التحريم حكمًا منسوخًا إلى: آية التوبة {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} ، وليست صريحة في الأشهر الحرم فضلًا عن نسخ تحريم القتال فيها، وعلى فرض أنّها نزلت في الأشهر الحرم فيمكن أن يوفق بينها وبين آيات التحريم بيسر بحملها على مقاتلة المشركين في الحرم إذا ابتدؤوا هم بالقتال فيه، ويقوّي ذلك لفظة {كما} . واستندوا أيضًا إلى فعل الصحابة، وهذا يستلزم إثبات ابتدائهم القتال في الحرم بغير اضطرار منهم، ولا تحرّش للعدوّ بهم ولا نكير من أحد منهم، وهو أمر غاية في الصعوبة.

ومعلوم أن الظنون والاحتمالات لا تصلح لنسخ الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة. والله أعلم.

(4)

والله المستعان على هذا الكذب والبهتان على هذا الصحابيّ الجليل.

ص: 280

وأمَّا إضافتُهُ إلى مُضَرَ: فقيلَ: لأنَّ مُضَرَ كانَتْ تَزيدُ في تعظيمِهِ واحترامِهِ، فنُسِبَ إليهِم لذلكَ. وقيلَ: بل كانَتْ ربيعةُ تُحَرِّمُ رمضانَ وتُحَرِّمُ مُضَرُ رجبًا، فلذلكَ سَمَّاهُ رجبَ مُضَرَ وحَقَّقَ ذلكَ بقولِهِ "الذي بينَ جمادى وشعبانَ".

وذَكَرَ بعضُهُم أن لشهرِ رجبٍ أربعةَ عشرَ اسمًا: شهرُ اللهِ، ورجبٌ، ورجبُ مُضَرَ، ومُنْصِلُ الأسنَّةِ، والأصمُّ، والأصبُّ، ومُنَفِّسٌ، ومُطَهِّر، ومُعَلًّى، ومقيمٌ، وهَرِمٌ، ومقشقِشٌ، ومُبَرِّئ، وفردٌ. وذَكَرَ غيرُهُ أن لهُ سبعةَ عشرَ اسمًا، فزادَ: رَجَمَ بالميم، ومُنْصِلَ الألَّةِ وهيَ الحربةُ، ومنزِعَ الأسنَّةِ.

• ويَتَعَلَّقُ بشهرِ رجبٍ أحكامٌ كثيرةٌ:

فمنها ما كانَ في الجاهليَّةِ واخْتَلَفَ العلماءُ في استمرارِهِ في الإسلامِ:

• كالقتالِ، وقد سَبَقَ ذكرُهُ.

• وكالذَّبائحِ؛ فإنَّهُم كانوا في الجاهليّةِ يَذْبَحونَ ذبيحةً يُسَمُّونَها العَتِيرَةَ. واخْتَلَفَ العلماءُ في حكمِها في الإسلامِ:

فالأكثرونَ على أن الإسلامَ أبْطَلَها. وفي الصَّحيحينِ

(1)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"لا فَرَعَ ولا عَتِيرَةَ"

(2)

.

ومنهُم مَن قالَ: بل هيَ مستحبَّةٌ. منهُمُ ابنُ سِيرِينَ. وحَكاهُ الإمامُ أحْمَدُ عن أهلِ البَصْرَةِ. ورَجَّحَهُ طائفةٌ مِن أهلِ الحديثِ المتأخِّرينَ. ونَقَلَ حَنْبَلٌ عن أحْمَدَ نحوَهُ.

وفي "سنن" أبي داوودَ والنَّسائِيِّ وابنِ ماجَهْ: عن مِخْنَفِ بن سُلَيْمٍ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ بعَرَفَةَ: "إنَّ على كلِّ أهلِ بيتٍ في كلِّ عامٍ أضْحاةٌ وعَتِيرَةً، وهيَ التي يُسَمُّونَها الرَّجَبِيّة"

(3)

.

(1)

البخاري (71 - العقيقة، 3 - الفرع، 9/ 596/ 5473 و 5474)، ومسلم (35 - الأضاحي، 7 - الفرع والعتيرة، 3/ 1564/ 1976).

(2)

الفرع: بكر الناقة أو النعجة

كانوا يذبحونه لأصنامهم. العتيرة: الذبيحة الرجبية.

(3)

(ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة (24293)، وأحمد (4/ 215، 5/ 76)، والبخاري في "التاريخ"(8/ 52)، وابن ماجه (26 - الأضاحي، 2 - الأضاحي واجبة أم لا، 2/ 1045/ 3125)، وأبو داوود (10 - الضحايا، 1 - إيجاب الأضاحي، 2/ 102/ 2788)، والترمذي (2 - الأضاحي، 19 - باب، =

ص: 281

وفي النَّسائِيِّ عن نُبَيْشَةَ؛ أنَّهُم قالوا: يا رسولَ اللهِ! إنَّا كنَّا نَعْتِرُ فيهِ في الجاهليَّةِ (يَعْني: في رجبٍ). قالَ: "اذْبَحوا للهِ في أيِّ شهرٍ كانَ

(1)

، وبَرُّوا الله وأطْعِموا"

(2)

.

ورَوى الحارِثُ بنُ عَمْرٍو؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن الفَرَع والعَتائِرِ، فقالَ:"مَن شاءَ فَرَّعَ ومَن شاءَ لم يُفَرِّعْ، ومَن شاءَ عَتَرَ ومَن شاءَ لمْ يَعْتِرْ"

(3)

.

= 2/ 102/ 2788)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2318)، والنسائي في "المجتبى"(41 - الفرع والعتيرة، 1 - باب، 7/ 167/ 4235) و"الكبرى"(4550)، والبغوي في "المعجم"(3/ 392 - إصابة)، والطحاوي في "المشكل"(1/ 463)، وابن قانع في "المعجم"(3/ 91/ 1053)، والطبراني (20/ 310/ 738 و 739)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(1/ 279 و 281 و 282)، والبيهقي (9/ 260 و 312)؛ من طريق ابن عون، عن أبي رملة، عن مخنف بن سليم

رفعه. قال الترمذي: "حسن غريب". وقال البغوي وعبد الحقّ وابن القطان: "غريب ضعيف الإسناد". قلت: من أجل أبي رملة؛ فإنّه لا يعرف.

ورواه: عبد الرزّاق (8001 و 8159)، وأحمد (5/ 76)، والطبراني (20/ 311/ 740)، وابن الأثير في "الغابة"(1/ 424)؛ من طريق عبد الكريم بن أبي المخارق، عن حيب بن مخنف، [عن أبيه]

رفعه. وهذا سند واهٍ: عبد الكريم واهٍ اتّفقوا على ضعفه، وحبيب مجهول لا يعرف.

وهذا طريقان لا يصلح أن يقوّي أحدهما الآخر لأمور: أوّلها: أنّ أحدهما شديد الضعف يكاد يكون دون حدّ الاعتبار. والثاني: أنّه لا يبعد أن يكون أبو رملة هذا هو حبيب بن مخنف نفسه فتعود الطريقان طريقًا واحدة واهية. والثالث: أنّ المتن منكر مخالف لأحاديث الصحيحين في إبطال العتيرة، فلا تقوم هذه الأسانيد المتداعية لإثباتها بصيغة الأمر والإيجاب. والرابع: أنّ السياق يدلّ على أنّ الحادثة وقعت في عرفة أمام جمهرة فلا يعقل أن يتفرد بروايتها مخنف بن سليم من طريقين واهيتين عنه. ولذلك استنكره البغوي وضعّفه عبد الحقّ وابن القطّان والخطّابي، وقد مال الألباني إلى تقويته، وفيه نظر كبير.

(1)

في خ: "اذبحوا لله في كلّ شهر"، وما أثبتّه من م و ط أولى بلفظ النسائي.

(2)

(صحيح). رواه: الشافعي في "السنن"(395)، وأحمد (5/ 75 و 76)، وابن ماجه (27 - الذبائح، 2 - الفرعة، 2/ 1057/ 3167)، وأبو داوود (13 - الذبائح، 20 - العتيرة، 2/ 114/ 2830)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(1071 و 1072)، والنسائي (41 - الفرع، 2 - تفسير العتيرة، 7/ 169/ 4239 - 4243) و"الكبرى"(4554 - 4558)، والطحاوي في "المشكل"(1/ 465)، والحاكم (4/ 235)، والبيهقي (9/ 311)، والمزّي (5/ 132)؛ من طرق ثلاث، عن أبي المليح، عن نبيشة

رفعته.

وبعض طرقه إلى أبي المليح صحيحة، وأبو المليح ثقة، فالسند صحيح، وقد صحّحه الحاكم وابن المنذر والذهبي والعسقلاني والألباني.

(3)

(حسن). رواه: ابن سعد (7/ 64)، وأحمد (3/ 485)، والبخاري في "التاريخ"(2/ 259 و 260، 3/ 438، 8/ 274) و"الأدب"(1148) و"خلق الأفعال"(ص 90)، وأبو داوود (5 - المناسك، 9 - المواقيت، 1/ 543/ 1742) مختصرًا، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(1257 و 1258)، والبزّار (3347 - كشف)، والنسائي في "المجتبى"(41 - الفرع، 1 - باب، 7/ 169/ 4237) و"الكبرى"(4552 و 4553) و"اليوم والليلة"(423)، والبغوي في "المعجم"(1/ 285 - إصابة)، والطحاوي في "المشكل" (1/ 465 =

ص: 282

وفي حديثٍ آخرَ؛ قالَ: "العتيرةُ حقٌّ"

(1)

.

وفي النَّسائِيِّ عن أبي رَزِينٍ؛ قالَ: قُلْتُ: [يا رسولَ اللهِ]! كنَّا نَذْبَحُ ذبائحَ في الجاهليّةِ (يَعْني: في رجب)، فنَأْكُلُ ونُطعِمُ مَن جاءَنا. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لا بأْسَ بهِ"

(2)

.

= و 466)، وابن قانع في "المعجم"(1/ 181/ 199)، وابن حبّان في "الثقات"(7/ 602)، والطبراني في "الكبير"(3/ 261/ 3350 - 3352) و"الأوسط"(5924)، والحاكم (4/ 232 و 236)، والبيهقي (5/ 28) مختصرًا، وابن الأثير في "الغابة"(1/ 387)، والمزّي في "التهذيب"(31/ 304)؛ من طرق ثلاث لا بأس بها، عن زرارة بن كريم بن الحارث، عن جدّه الحارث

رفعه.

قال الهيثمي (3/ 272): "رجاله ثقات". قلت: زرارة وثّقه ابن حبّان وروى عنه جماعة فحديثه لا بأس به والسند حسن. وقد قوّاه الحاكم والذهبي والعسقلاني والهيثمي والألباني.

(1)

(حسن). قطعة من حديث رواه: عبد الرزّاق (7961 و 7995)، وابن أبي شيبة (24295)، وأحمد (2/ 182)، وأبو داوود (21 - العقيقة، 20 - باب، 2/ 118/ 2842)، والنسائي في "المجتبى"(41 - الفرع، 1 - باب، 7/ 168/ 4236) و"الكبرى"(4551)، والحاكم (4/ 236)، والبيهقي (9/ 312)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(4/ 317)؛ من طرق، عن داوود بن قيس، عن عمرو بن شعيب، (قال مرّة: عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، ومرّة: عن أبيه وزيد بن أسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا، ومرّة: عن أبيه أراه عن جدّه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومرة عن أبيه عن جدّه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم)

مطوّلًا ومختصرًا. وهذا سند رجاله ثقات، لكنّهم اختلفوا فيه على الأوجه المتقدّمة، ولا يضرّ إن شاء الله، فقد جاء من غير وجه قويّ مسندًا، فالإسناد زيادة ثقة له حكمها، والحديث حسن من أجل كلامهم في عمرو بن شعيب، وقد قوّاه الحاكم والذهبي والعسقلاني والألباني.

وله شاهد عند: مالك (2/ 9)، وأحمد (5/ 369)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(981)، والبيهقي (9/ 312)؛ من طريق رجل من بني ضمرة، عن أبيه

رفعه مطوّلًا ومختصرًا. وفيه راو مبهم.

وله شاهد آخر عند الطبراني في "الأوسط"(4/ 32 - مجمع) سكت عنه الهيثمي ولم أقف عليه.

فمن لم تطب نفسه بتقوية حديث ابن عمرو للخلاف فيه؛ فحريّ به أن يقوّيه بهذين الشاهدين.

(2)

(حسن بشواهده). رواه: ابن أبي شيبة (24298)، وأحمد (4/ 12 و 13)، والنسائي في "المجتبى"(41 - الفرع، 3 - تفسير الفرع، 7/ 171/ 4244) و"الكبرى"(4559)، وابن حبّان (5891)، والطبراني (19/ 207/ 467)، والبيهقي (9/ 312)؛ من طريق يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن عمّه أبي رزين العقيلي

رفعه. وهذا سند ضعيف من أجل وكيع؛ فإنّه مجهول.

وله شاهد عند: الطبراني (7/ 168/ 6722)، وابن عديّ (4/ 1601)، وأبي الشيخ في "الطبقات"(2/ 264)، والخطيب في "التاريخ"(1/ 413، 9/ 57)، والمزّي في "التهذيب"(34/ 86)، والذهبي في "الميزان"(2/ 583)؛ عن أبي العشراء الدارمي، عن أبيه؛ أنّه صلى الله عليه وسلم سئل عن العتيرة فحسّنها. لكن في سنده متّهم، وأبو العشراء وأبوه لا يعرفان.

ويشهد لمعناه حديثا نبيشة والحارث المتقدّمين آنفًا، فمقتضاهما أنّه لا بأس بذلك، ولعلّه لذلك قوّاه ابن حبّان وأقرّه العسقلاني.

ص: 283

وخَرَّجَ الطَّبَرانيُّ بإسنادِهِ عن ابن عَبَّاسٍ؛ قالَ: اسْتَأْذَنَتْ قُرَيْشٌ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في العَتِيرَةِ، فقالَ:"أعَتْرٌ كعَتْرِ الجاهليَّةِ، ولكنْ مَن أحَبَّ منكُم أنْ يَذْبَحَ للهِ فيَأْكُلَ ويَتَصَدَّقَ؛ فلْيَفْعَلْ"

(1)

.

وهؤلاءِ جَمَعوا بينَ هذهِ الأحاديثِ وبينَ حديثِ "لا فَرَعَ ولا عَتِيرَةَ" بأنَّ المنهيَّ عنهُ هوَ ما كانَ يَفْعَلُهُ أهلُ الجاهلية مِن الذبحِ لغيرِ اللهِ.

وحَمَلَهُ سُفْيانُ بنُ عُيَيْنة على أنَّ المرادَ بهِ نفيُ الوجوبِ.

ومِن العلماءِ مَن قالَ: حديثُ أبي هُرَيْرَةَ أصحُّ مِن هذهِ الأحاديثِ وأثبتُ، فيَكونُ العملُ عليهِ دونَها. وهذهِ طريقةُ الإمامِ أحْمَدَ.

ورَوى مُبارَكُ بنُ فَضالَةَ عن الحَسَنِ؛ قالَ: ليسَ في الإسلامِ عتيرة، إنَّما كانَتِ العتيرةُ في الجاهليَّةِ، كانَ أحدُهُم يَصومُ رَجَبَ ويَعْتِرُ فيهِ

(2)

.

• ويُشْبِهُ الذَّبحَ في رجبٍ اتِّخاذُهُ موسمًا وعيدًا لأكلِ الحلوى ونحوِها.

وقد رُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ أنَّهُ كانَ يَكْرَهُ أنْ يُتَّخَذَ رجبٌ عيدًا.

ورَوى عَبْدُ الرَّزاقِ: عن ابن جُرَيْجٍ، عن عَطاءٍ؛ قالَ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَنْهى عن

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه الطبراني في "الكبير"(11/ 185/ 11586) من طريق إبراهيم بن إسماعيل، عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داوود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاس

رفعه.

قال الهيثمي (4/ 31): "فيه إسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيبة، وثقه ابن معين وضعّفه الناس". قلت: خلاصة أمره الضعف. وشيخه داوود منكر الحديث عن عكرمة. والراوي عنه إبراهيم بن إسماعيل اليشكري مجهول الحال. والسند ضعيف جدًّا دون حدّ الانتفاع بالشواهد المتقدّمة.

(2)

من المعلوم أنّ الإسلام لم يأت لصدّ الناس عن الخيرات وإنما جاء لتجريد التوحيد لله وتجريد الاتّباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإتمام مكارم الأخلاق. وانطلاقًا من هذا الأصل الأصيل الذي لا يجادل فيه إلَّا ضالّ زائغ أستطيع أن أوفّق بين النصوص المتقدّمة كما يلي: [1] كل ذبيحة قارف صاحبها بها شيئًا من الشرك فهي حرام لاحق بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا فرع ولا عتيرة". [2] كلّ ذبيحة أراد بها صاحبها إحياء آثار الجاهلية ومعاهدها ومواسمها فهي حرام لاحق بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا فرع ولا عتيرة". [3] كل ذبيحة ذبحت لله تعالى وأراد صاحبها بها برّ أهله وجيرانه وغيرهم من المحتاجين فأمر مشروع "لا بأس به" لاحق بقوله صلى الله عليه وسلم: "العتيرة حقّ"، لكن لا على سبيل الوجوب بل "من شاء عتر ومن شاء لم يعتر"، ولا يضرّها أن تقع في رجب اتفاقًا لأنّ الذبح لله والبرّ مشروع "في أيّ شهر كان"، فإن وقعت في رجب قصدًا واختصاصًا أصبحت لاحقة بما تقدّم من إحياء مواسم الجاهليّة. والله أعلى وأعلم.

ص: 284

صيامِ رجبٍ كلِّهِ لئلَّا يُتَّخَذَ عيدًا

(1)

.

وعن مَعْمَرٍ، عن ابن طاووسٍ، عن أبيهِ؛ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تتَّخِذوا شهرًا عيدًا ولا يومًا عيدًا"

(2)

.

وأصلُ هذا أنَّهُ لا يُشْرَعُ أنْ يَتَّخِذَ المسلمونَ عيدًا إلَّا ما جاءَتِ الشَّريعةُ باتِّخاذِهِ عيدًا، وهوَ يومُ الفطرِ ويومُ الأضحى وأيَّامُ التَّشريقِ - وهيَ أعيادُ العامِ - ويومُ الجمعةِ - وهوَ عيدُ الأسبوعِ -، وما عَدا ذلكَ؛ فاتِّخاذُهُ عيدًا أو موسمًا بدعةٌ لا أصلَ لهـ[ـا] في الشَّريعةِ.

ومِن أحكامِ رجبٍ ما وَرَدَ فيهِ مِن الصَّلاةِ والزَّكاةِ والصِّيامِ والاعتمارِ:

• فأمَّا الصَّلاةُ؛ فلمْ يَصِحَّ في شهرِ رجبٍ صلاة مخصوصةٌ تَخْتَصُّ بهِ، والأحاديثُ المرويَّةُ في فضلِ صلاةِ الرَّغائبِ في أوَّلِ ليلةِ جمعة مِن شهرِ رجب كذبٌ وباطلٌ لا يَصِحُّ، وهذهِ الصَّلاةُ بدعةٌ عندَ جمهورِ العلماءِ. وممَّن ذَكَرَ ذلكَ مِن أعيانِ العلماءِ المتأخِّرينَ مِن الحفَّاظِ أبو إسْماعيلَ الأنْصارِيُّ وأبو بَكْرِ بنُ السَّمْعانِي وأبو الفَضْلِ بنُ ناصِرٍ وأبو الفَرَجِ بنُ الجَوْزِيِّ وغيرُهُم. وإنَّما لم يَذْكُرْها المتقدِّمونَ لأنَّها أُحْدِثَتْ بعدَهُم. وأوَّلُ ما ظهَرَتْ بعدَ الأربعِ مئةٍ، فلذلكَ لمْ يَعْرِفْها المتقدِّمونَ ولم

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن ماجه (7 - الصيام، 23 - صيام الحرم، 1/ 554/ 1743)، والطبراني (10/ 287/ 10681)، والبيهقي في "فضائل الأوقات"(18)، وابن الجوزي في "الواهيات"(913) تعليقًا، والمزّي (10/ 84)، وابن حجر في "تبيين العجب" تعليقًا؛ من طريق داوود بن عطاء، ثني زيد بن عبد الحميد بن زيد بن الخطّاب، عن سليمان بن علي بن عبد الله بن عبّاس، عن أبيه، عن جدّه

رفعه.

وهذا سند ساقط فيه علل: أشار إلى أولاها البوصيري بقوله: "داوود بن عطاء متّفق على ضعفه".

قلت: هو منكر الحديث واه شبه المتروك. والثانية: أنّ زيدًا هذا مجهول. والثالثة: أن عبد الرزّاق رواه في "المصنّف"(7854): عن ابن جريج، عن عطاء؛ قال: كان ابن عبّاس ينهى عن صيام رجب كلّه لئلًا يتّخذ عيدًا. كذا موقوفًا لا مرسلًا كما ذكر ابن رجب هنا! وقد جاء عنه موقوفًا من غير وجه بأسانيد قويّة. فالظاهر أن هذا أصل الحديث، ثمّ جاء أُولئك الضعفاء فأسندوه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقد ضعّفه البيهقي وابن الجوزي والذهبي وابن القيم والبوصيري والعسقلاني، وقال الألباني:"ضعيف جدًّا".

(2)

(ضعيف). رواه عبد الرزّاق (7853): ثنا معمر، عن ابن طاووس، عن أبيه

به.

وهذا سند قويّ، ثقات رجال الشيخين، لكنّه مرسل. ومعناه صحيح جدًّا، لكن العمدة هنا هل قاله النبيّ صلى الله عليه وسلم أو لا، وهذا السند لا يكفي لترجيح ذلك.

ص: 285

يَتَكَلَّموا فيها.

• وأمَّا الصِّيامُ؛ فلمْ يَصِحَّ في فضلِ صومِ رجبٍ بخصوصهِ شيءٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابِهِ، ولكنْ رُوِيَ عن أبي قِلابةَ؛ قالَ: في الجنَّةِ قصرٌ لصوَّامِ رجبٍ. قالَ البَيْهَقِيُّ: أبو قِلابةَ مِن كبارِ التَّابعينَ لا يَقولُ مثلَهُ إلَّا عن بلاغٍ

(1)

.

وإنَّما وَرَدَ في صيامِ الأشهرِ الحرمِ كلِّها حديثُ: مُجِيبَة

(2)

الباهِلِيّةِ، عن أبيها (أو: عمِّها)؛ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ: "صُمْ مِن الحرمِ واتْرُكْ"؛ قالَها ثلاثًا

(3)

.

خَرَّجَهُ أبو داوودَ وغيرُهُ. وخَرَّجَهُ ابنُ ماجَهْ، وعندَهُ:"صُم أشهُرَ الحرمِ".

وقد كانَ بعضُ السَّلفِ يَصومُ الأشهرَ الحرمَ كلَّها، منهُمُ ابنُ عُمَرَ والحَسَنُ البَصرِيُّ وأبو إسْحاقَ السَّبِيعِيُّ

(4)

، وقالَ الثَّوْرِيُّ: الأشهرُ الحرمُ أحبُّ إليَّ أنْ أصومَ فيها.

وجاءَ في حديثٍ خَرَّجَهُ ابنُ ماجَهْ؛ أن أُسامَةَ بنَ زيدٍ كانَ يَصومُ أشهرَ الحرم، فقالَ لهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"صُمْ شوَّالًا"، فتَرَكَ أشهرَ الحرمِ وصامَ شوَّالًا حتَّى ماتَ

(5)

. وفي إسناده انقطاعٌ.

وخَرَّجَ ابن ماجَهْ أيضًا بإسنادٍ فيهِ ضعفٌ عن ابن عَبَّاسٍ؛ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم

(1)

كذا في "فضائل الأوقات"(21). وفي هذا الكلام نظر لأمور: أوّلها: أنّ بلاغات أبي قلابة ليست حجة، بل قصاراها أن تكون في حكم المرسل، وما هو بالحجّة. والثاني: أنّه لا يبعد أن يكون أبو قلابة قد تلقّاه عن بعض الضعفاء أو عمّن تلقّاه عنهم، بل هذا هو المرجّح، ولذلك وقفه ولم يرسله. والثالث: أنّه صحّ عمّن هو أعظم من أبي قلابة كابن عبّاس وعمر بن الخطّاب النهي عن صيام رجب، فقول هذين الصحابيّين أولى أن يكون بلاغًا أم قول أبي قلابة؟!

(2)

في خ: "جحيفة"، وأشار إلى أنّه في نسخة "نجيبة"، وكلاهما تحريف صوابه ما أثبتّه من م وط.

(3)

(ضعيف). سيأتي نصّه مطوّلًا وتخريجه في وظائف شهر ذي القعدة.

(4)

ولا يسلم كثير من هذا من نظر في إسناده أو متنه أو مجموع ما ورد عن الرجل الواحد في الباب الواحد. فابن عمر مثلًا كان كثير الصيام في جميع الشهور رجب وغيره، وكان يكره أن يرى ما يعدّه الناس لرجب، وجاء عنه أنّه كره صوم رجب كلّه لا يفطر منه شيئًا كما سيأتي (ص 287)، فمن روى عنه أنّه كان يصوم رجبًا كلّه؛ ففي روايته - على صدقه - قصور شديد في وصف حقيقة حاله ومذهبه في الباب. وكذلك الشأن مع الحسن والسبيعيّ سواء بسواء. والله أعلم.

(5)

(ضعيف). سيأتي تفصيل الكلام فيه (ص 491 - 492).

ص: 286

نَهى عن صيامِ رجبٍ

(1)

. والصحيحُ وقفُهُ على ابن عَبَّاس. ورَواهُ عَطاءٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا

(2)

، وقد سَبَقَ لفظُهُ.

ورَوى عَبْدُ الرَّزاقِ في كتابِهِ: عن داوودَ بن قَيْسٍ، عن زَيْدِ بن أسْلَمَ: ذُكِرَ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قومٌ يَصومونَ رجبًا. [فـ]ـقالَ: "أينَ هُم مِن شعبانَ؟ "

(3)

.

ورَوى أزْهَرُ بنُ سَعيدٍ

(4)

الجُمَحِيِّ عن أُمِّهِ؛ أنَّها سَألَتْ عائِشَةَ عن صومِ رجبٍ.

فقالَتْ: إن كنتِ صائمةً؛ فعليكِ بشعبانَ. ورُوِيَ مرفوعًا، ووقفُهُ أصحُّ

(5)

.

ورُوِيَ عن عُمَرَ رضي الله عنه؛ أنَّهُ كانَ يَضْرِبُ أكفَّ الرِّجالِ في صومِ رجبٍ حتَّى يَضَعوها في الطَّعامِ ويَقولُ: ما رجبٌ؟! إنَّ رجبًا كانَتْ تُعَظِّمُهُ أهلُ الجاهليةِ، فلمَّا كانَ الإسلامُ تُرِكَ

(6)

. وفي روايةٍ: كَرِهَ أنْ يَكونَ صيامُهُ سنَّةً.

وعن أبي بَكْرَةَ؛ أنَّهُ رَأى أهلَهُ يَتَهَيَّؤونَ لصيامِ رجبٍ. فقالَ لهُم: أجَعَلْتُم رجبًا كرمضانَ؟! وألْقى السِّلالَ وكَسَرَ الكيزانَ.

وعنِ ابن عَبَّاسٍ؛ أنَّهُ كَرِهَ أنْ يُصامَ رجبٌ كلُّهُ.

وعنِ ابن عُمَرَ وابنِ عَبَّاسٍ أنَّهُما كانا يَرَيانِ أنْ يُفْطِرَ منهُ أيَّامًا.

وكَرِهَهُ أنَسٌ [أيضًا] وسَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ.

وكَرِهَ صيامَ رجب كلِّهِ يَحْيى بنُ سَعيدٍ الأنْصارِيُّ والإمامُ أحْمَدُ، وقالَ: يُفْطِرُ منهُ

(1)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه قبل صفحة واحدة.

(2)

بل موقوفًا كما أشرت إليه فيما تقدّم (ص 285).

(3)

(ضعيف). رواه: عبد الرزّاق (7858)، وابن أبي شيبة (9759)، وإسحاق بن راهويه في "المسند"(3/ 954/ 1663)؛ من طريقين صحيحتين، عن زيد بن أسلم

به مرسلًا.

ورواه ابن وهب (ص 310 - لطائف المعارف)، وابن زنجويه؛ كلاهما عن أزهر بن سعيد، عن أُمّه، عن عائشة رضي الله عنها

موقوفًا. وأزهر صالح لا بأس بحديثه، لكن أُمّه مجهولة لا تعرف إلَّا في هذا الحديث، زد على ذلك أنّه روي عنه مرفوعًا أيضًا كما ذكر ابن رجب هنا، ومثل هذا لا يحتمل منه ولا من أمّه، ولذلك رجّح ابن رجب وقفه.

ومعلوم أنّ الطريق الأخيرة لا تقوم بالمرسلة التي قبلها لضعفها ورجحان وقفها. فالحديث ضعيف.

(4)

في خ: "أزهر بن سعد"! وهذا تحريف صوابه ما أثبتّه من م وط.

(5)

(ضعيف). انظر ما تقدّم في الحاشية السابقة.

(6)

سنده صحيح إلى عمر رضي الله عنه. انظر: "مصنّف ابن أبي شيبة"(9758).

ص: 287

يومًا أو يومينِ، وحَكاهُ عن ابن عُمَرَ وابنِ عَبَّاسٍ. وقال الشَّافِعِيُّ في القديمِ: أكْرَهُ أنْ يَتَّخِذَ الرَّجلُ صومَ شهرٍ يُكْمِلُهُ كما يُكْمِلُ رمضانَ، واحْتَجَّ بحديثِ عائِشَةَ: ما رَأيْتُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتكمَلَ شهرًا قطُّ إلَّا رمضانَ

(1)

. قال: وكذلكَ يومًا مِن بين الأيَّامِ. قال: وإنَّما كَرِهْتُهُ أنْ لا يَتَأسَّى رجل جاهلٌ فيَظُنَّ أن ذلكَ واجبٌ، وإنْ فَعَلَ فحَسَنٌ.

وتَزول كراهةُ إفرادِ رجبٍ بالصَّومِ بأنْ يَصومَ [معَهُ] شهرًا آخرَ تطوُّعًا عندَ بعضِ أصحابِنا، مثلُ أن يَصومَ الأشهرَ الحرمَ، أو يَصومَ رجبَ وشعبانَ

(2)

. وقد تَقَدَّمَ عن ابن عُمَرَ وغيرِهِ صيامُ الأشهرِ الحرمِ. والمنصوصُ عن أحْمَدَ أنّهُ لا يَصومُهُ بتمامِهِ إلَّا مَن صامَ الدَّهرَ.

ورُوِيَ عن ابن عُمَرَ ما يَدُلُّ عليهِ؛ فإنَّهُ بَلَغَهُ أن قومًا أنْكَروا عليهِ أنَّهُ حَرَّمَ صومَ رجبٍ، فقال: كيفَ بمَن يَصومُ الدَّهرَ؟! وهذا يَدُلُّ على أنَّهُ لا يُصامُ رجب إلَّا معَ صومِ الدَّهرِ!

ورَوى: يوسُفُ بنُ عَطِيّةَ، عن هِشامِ بن حَسَّانَ، عن ابن سِيرينَ، عن عائِشَةَ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَصُمْ بعدَ رمضانَ إلَّا رجبًا وشعبانَ

(3)

. ويوسُفُ ضعيفٌ جدًّا.

ورَوى أبو يوسُفَ القاضي: عن ابن أبي لَيْلى، عن أخيهِ عيسى، عن عَبْدِ الرَّحمنِ بن أبي لَيْلى، عن عائِشَةَ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَصومُ مِن كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيامٍ، وربَّما أخَّرَ

(1)

رواه: البخاري (30 - الصوم، 52 - صوم شعبان، 4/ 213/ 1969)، ومسلم (13 - الصيام، 34 - صيامه صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، 2/ 809 / 1156).

(2)

فيه نظر من وجهين: أوّلهما: أنّ من صام جمادى أو شعبان أو كليهما ليتوصّل بهما إلى صيام رجب؛ فلا يخلو فعله من مواطأة الجاهليّة أو أهل البدع في تعظيمهم المبالغ فيه لرجب، والأعمال بالنيّات، والله يعلم السرّ وأخفى. والثاني: أنه لا يشرع اختصاص جمادى ورجب أو رجب وشعبان أو جمادى ورجب وشعبان معًا بعبادة معيّنة بغير دليل شرعيّ كما أنّه لا يشرع اختصاص رجب وحده بعبادة معينة بغير دليل شرعيّ. ولا ينجو المرء من مثل هذه البدع والمخالفات إلَّا بأن يجعل نوافله مطلقة بغير توقيت بزمان أو مكان ما أنزل الله بهما من سلطان، وإنّما يجعل ذلك كلّه مقيّدًا بإقباله وهمّته ورغبته في الاستزادة من الخيرات.

(3)

(ضعيف جدًّا). رواه: الطبراني في "الأوسط"(9418)، والبيهقي في "الشعب"(3803)؛ من طريق يوسف بن عطية الصفّار

به رفعه.

قال ابن رجب والهيثمي (3/ 194): "فيه يوسف بن عطيّة، وهو ضعيف [جدًّا] ". قلت: متروك.

ص: 288

ذلكَ حتَّى يقْضِيَهُ في رجبٍ وشعبانَ

(1)

.

ورَواهُ عَمْرُو بنُ أبي قَيْسٍ عن ابن أبي لَيْلى، فلمْ يَذْكُرْ [فيهِ] رجبًا، وهوَ أصحُّ

(2)

.

• وأمَّا الزَّكاةُ؛ فقدِ اعْتادَ أهلُ هذهِ البلادِ إخراجَ الزَّكاةِ في شهرِ رجب، ولا أصلَ لذلكَ في السُّنَّةِ، ولا عُرِفَ عن أحدٍ مِن السَّلفِ.

ولكنْ رُوِيَ عن عُثْمانَ رضي الله عنه؛ أنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ على المنبرِ فقالَ: إنَّ هذا شهرُ زكاتِكُم، فمَن كانَ عليهِ دينٌ؛ فلْيُؤدِّ دينَهُ ولْيُزَكِّ ما بَقِي

(3)

. خَرَّجَهُ مالِكٌ في "الموطَّإ".

وقد قيلَ: إنَّ ذلكَ الشَّهرَ الذي كانوا يُخْرِجونَ فيهِ زكاتَهُم نُسِيَ ولمْ يُعْرَفْ.

وقيلَ: بل كانَ شهرَ المُحَرَّمِ؛ لأنَّهُ رأْسُ الحولِ. وقد ذَكَرَ الفقهاءُ مِن أصحابِنا وغيرِهِم أن الإمامَ يَبْعَثُ سعاتَهُ لأخْذِ الزَّكاةِ في المحرَّمِ.

وقيلَ: بل كانَ شهرَ رمضانَ؛ لفضلِهِ وفضلِ الصَّدقةِ فيهِ.

وبكلِّ حالٍ؛ [فـ]ـإنَّما تَجِبُ الزَّكاةُ إذا تَمَّ الحولُ على النِّصابِ، فكلُّ أحدٍ لهُ حولٌ يَخُصُّهُ بحسبِ وقتِ ملكِهِ للنِّصابِ، فإذا تَمَّ حولُهُ؛ وَجَبَ عليهِ إخراجُ زكاتِهِ في أيِّ شهرٍ كان.

فإنْ عَجَّلَ زكاتَهُ قبلَ الحولِ؛ أجْزَأهُ عندَ جمهورِ العلماءِ، سواءٌ كانَ تعجيلُهُ لاغتنامِ زمانٍ فاضلٍ أو لاغتنامِ الصَّدقةِ على مَن لا يَجِدُ مثلَهُ في الحاجةِ، أو كانَ لمشقَّةِ إخراجِ الزَّكاةِ عليهِ عندَ تمامِ الحولِ جملةً فيَكونُ التَّفريقُ في طولِ الحولِ أرفقَ بهِ. وقد صَرَّحَ مُجاهِدٌ بجوازِ التَّعجيلِ على هذا الوجهِ، وهوَ مقتضى إطلاقِ الأكثرينَ. وخالَفَ في هذهِ الصُّورةِ إسْحاقُ. نَقَلَهُ عنهُ ابن مَنْصورٍ.

(1)

(ضعيف). أبو يوسف إمام جليل في حديثه بعض لين. وابن أبي ليلى هو محمّد بن عبد الرحمن، سيئ الحفظ جدًّا، قصاراه أن يكون صالحًا في الشواهد. ولذلك ضعّف العسقلاني في "الفتح" هذا الحديث.

(2)

(ضعيف). رواه الطبراني في "الأوسط"(2119) من طريق عمرو بن قيس

به. قال الهيثمي (3/ 195): "فيه محمّد بن أبي ليلى، وفيه كلام". وقال العسقلاني في "الفتح"(4/ 214): "ابن أبي ليلى ضعيف"، وضعّف حديثه هذا.

(3)

جاء عند البيهقي (4/ 148) أنّ الزهريّ - وهو راوي أثر عثمان - قال: "ولم يسمّ لي السائب (وهو شيخه) الشهر ولم أسأله عنه"! فما أدري ما الذي جعل المصنّف يرحمه الله يورده في رجب!

ص: 289

وأمَّا إذا حال الحول؛ فليسَ لهُ التَّأْخيرُ بعدَ ذلكَ عندَ الأكثرينَ. وعن أحْمَدَ: يَجوزُ تأْخيرُها لانتظارِ قومٍ لا يَجِدُ مثلَهُم في الحاجةِ.

وأجازَ مالِكٌ وأحْمَدُ في رواية نَقْلَها إلى بلدٍ فاضلٍ. فعلى قياسِ هذا لا يَبْعُدُ جوازُ تأْخيرِها إلى زمنٍ فاضلٍ لا يوجَدُ مثلُّهَ كرمضانَ ونحوِهِ.

ورَوى يَزيدُ الرَّقاشِيُّ عن أنَسٍ؛ أن المسلمينَ كانوا يُخْرِجونَ زكاتَهُم في شعبانَ تقويةً على الاستعدادِ لرمضانَ

(1)

. وفي الإسنادِ ضعفٌ.

• وأمَّا الاعتمارُ في رجبٍ؛ فقد رَوى ابن عُمَرَ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ في رجبٍ، فأنْكَرَتْ ذلكَ عليهِ عائِشَةُ، وهوَ يَسْمَعُ، فسَكَتَ

(2)

.

واسْتَحَبَّ الاعتمارَ في رجبٍ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وغيرُهُ. وكانَتْ عائِشَةُ تَفْعَلُهُ وابنُ عُمَرَ أيضًا. ونَقَلَ ابن سِيرِينَ عن السَّلفِ أنَّهُم كانوا يَفْعَلونَهُ. فإنَّ أفضلَ الأنساكِ أنْ يُؤْتى بالحجِّ في سفرةٍ، وبالعمرةِ في سفرةٍ أُخرى في غيرِ أشهرِ الحجِّ، وذلكَ مِن جملةِ إتمامِ الحجِّ والعمرةِ المأْمورِ بهِ. كذلكَ قالَهُ جمهورُ الصَّحابةِ كعُمَرَ وعُثْمانَ وعَلِيٍّ وغيرِهِم رضي الله عنهم أجمعينَ

(3)

.

• وقد رُوِيَ أنَّهُ كانَ في شهرِ رجب حوادثُ عظيمةٌ

(4)

، ولمْ يَصِحَّ شيءٌ مِن ذلكَ: فرُوِيَ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وُلِدَ في أوَّلِ ليلةٍ منهُ، وأنَّهُ بُعِثَ في السَّابعِ والعشرينَ منهُ، وقيلَ: في الخامسِ والعشرينَ. ولا يَصِحُّ شيءٌ مِن ذلكَ.

ورُوِيَ بإسنادٍ لا يَصِحُّ عن القاسِمِ بن مُحَمَّدٍ، أن الإسراءَ بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كانَ في سابعِ عشرينَ رجبٍ. وأنْكَرَ ذلكَ إبْراهيمُ الحَرْبِيُّ وغيرُهُ.

(1)

(ضعيف). يزيد بن أبان ضعيف منكر الحديث.

(2)

رواه: البخاري (26 - العمرة، 3 - كم اعتمر صلى الله عليه وسلم، 3/ 599/ 1775 - 1577)، ومسلم (15 - الحجّ، 35 - عدد عمره صلى الله عليه وسلم، 2/ 916/ 1255).

(3)

وقال غيرهم غيره، وقد أطال ابن القيِّم يرحمه الله في "زاد المعاد"(2/ 178) في تفصيل هذه القضيّة، وانتهى إلى أنّ أفضل الأنساك هو التمتّع الذي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم به أصحابه وشدّد عليهم فيه، ويليه القران الذي فعله النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن ساق الهدي من أصحابه.

(4)

وكلّها أقوال مرسلة، لا تثبت إلى أصحابها، وبين أصحابها وبين النبيّ صلى الله عليه وسلم مفاوز.

ص: 290

ورُوِيَ عن قَيْسِ بن عُبادٍ؛ قالَ: في اليومِ العاشرِ مِن رجبٍ {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39].

وكانَ أهلُ الجاهليَّة يَتَحَرَّوْنَ الدُّعاءَ فيهِ على الظَّالمِ، وكانَ يُسْتَجابُ لهُم، ولهُم في ذلكَ أخبارٌ مشهورةٌ قد ذَكَرَها ابنُ أبي الدُّنيا في كتابِ "مجابي الدَّعوة" وغيرُهُ. وقد ذُكِرَ ذلكَ لعُمَرَ بن الخَطَّابِ، فقالَ [عُمَرُ]: إنَّ الله كانَ يَصْنَعُ بهِم ذلكَ لِيَحْجُزَ بعضَهُم عن بعضٍ، وإنَّ الله جَعَلَ السَّاعةَ موعدَكُم والسَّاعةُ أدْهى وأمرُّ

(1)

.

وروى زائِدَةُ بنُ أبي الرُّقادِ: عن زِيادٍ النُّمَيْرِيِّ، عن أنَسٍ؛ قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا دَخَلَ رجب؛ قالَ: "اللهمَّ! بارِكْ لنا في رجبٍ وشعبانَ وبَلِّغْنا رمضانَ"

(2)

.

ورُوِيَ عن أبي إسْماعيلَ الأنْصارِيِّ أنَّهُ قالَ: لمْ يَصِحَّ في فضلِ رجبٍ غيرُ هذا الحديثِ. وفي قولِهِ نظرٌ؛ فإنَّ هذا الإسنادَ فيهِ ضعف.

وفي هذا الحديثِ دليلٌ على استحبابِ الدُّعاءِ بالبقاءِ إلى الأزمانِ الفاضلةِ لإدراكِ الأعمالِ الصَّالحةِ فيها؛ فإنَّ المؤمنَ لا يَزيدُهُ عمرُهُ إلَّا خيرًا، وخيرُ النَّاسِ مَن طالَ عمرُهُ وحَسُنَ عملُهُ. وكانَ السَّلفُ يَسْتَحِبُّونَ أنْ يَموتوا عقبَ عملٍ صالحٍ مِن صومِ رمضانَ أو رجوع مِن حجٍّ، وكانَ يُقالُ: مَن ماتَ كذلكَ؛ غُفِرَ لهُ.

كانَ بعضُ العلماءِ الصَّالحينَ قد مَرِضَ قبلَ شهرِ رجبٍ، فقالَ: إنِّي دَعَوْتُ الله أنْ يُؤَخِّرَ وفاتي إلى شهرِ رجب؛ فإنَّهُ بَلَغَني أن للهِ فيهِ عتقاءَ

(3)

، فبَلَّغَهُ اللهُ ذلكَ وماتَ في

(1)

فانظر إلى هذا الفقه العميق والفهم الدقيق؛ حلّل المسألة وبيّن وجهها وشدّد على الالتزام بالسنّة.

(2)

(ضعيف جدًّا). رواه: عبد الله بن أحمد (1/ 259)، والبزّار (616 و 961 - كشف)، والطبراني في "الأوسط"(3951) و"الدعاء"(911)، وابن السني (659)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 269)، والبيهقي في "فضائل الأوقات"(17) و"الشعب"(3815)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(2/ 473)، وابن النجّار في "ذيل تاريخ بغداد"(16/ 153)، والرافعي في "التدوين"(3/ 449)، والذهبي في "الميزان"(2/ 65) تعليقًا؛ من طريق زائدة بن أبي الرقاد، عن زياد النميري، عن أنس

رفعه.

قال البزّار: "زائدة إنّما ينكر من حديثه ما ينفرد به". وقال البيهقي: "تفرّد به زياد وعنه زائدة". وقال البيهقي والهيثمي (2/ 168، 3/ 143): "زائدة قال البخاري منكر الحديث". وقال الذهبي: "زياد أيضًا ضعيف". فالسند واهٍ، وقد ضعفه البزّار والبيهقي والنووي والذهبي وابن رجب والهيثمي والعسقلاني والألباني.

(3)

مثل هذا لا بدّ فيه من سند صالح إلى من لا ينطق عن الهوى، وهيهات!

ص: 291

شهرِ رجبٍ.

شهرُ رجبٍ مفتاحُ أشهرِ الخيرِ والبركةِ.

قال أبو بكرٍ الوَرَّاقُ البَلْخِيُّ: شهرُ رجبٍ شهرُ الزَّرعِ، وشهرُ شعبانَ شهرُ السَّقيِ للزَّرعِ، وشهرُ رمضانَ شهرُ حصادِ الزَّرعِ.

وعنهُ قال: مَثَلُ شهرِ رجبٍ مَثَلُ الرِّيح، ومَثَلُ شعبانَ مَثَلُ الغيمِ، ومَثَلُ رمضانَ مَثَلُ المطرِ.

وقال بعضُهُم: السَّنةُ مثلُ الشَّجرةِ، وشهرُ رجبٍ أيَّامُ توريقِها، وشعبانُ أيَّامُ تفريعِها، ورمضانُ أيَّامُ قطفِها

(1)

، والمؤمنونَ قطَّافُها.

جديرٌ بمَن سَوَّدَ صحيفتَهُ بالذُّنوبِ أنْ يُبيِّضَها بالتَّوبةِ في هذا الشَّهر، وبمَن ضَيَّعَ عمرَهُ في البطالةِ أنْ يَغْتَنِمَ فيهِ ما بقِيَ مِن العمر.

بيِّضْ صحيفَتَكَ السَّوداءَ في رَجَبٍ

بِصالِحِ العَمَلِ المُنْجي مِنَ اللَهَبِ

شَهْرٌ حَرامٌ أتى مِنْ أشْهُرٍ حُرُمٍ

إذا دَعا الله داعٍ فيهِ لَمْ يَخِبِ

طوبى لِعَبْدٍ زكا فيهِ لَهُ عَمَلٌ

فَكَفَّ فيهِ عَنِ الفَحْشاءِ وَالرِّيَبِ

انتهازُ الفرصةِ بالعملِ في هذا الشَّهرِ غنيمة، واغتنامُ أوقاتِهِ بالطَّاعاتِ لهُ فضيلةٌ عظيمة.

يا عَبْدُ أقْبِلْ مُنيبًا واغْتَنِمْ رَجَبا

فَإنَّ عَفْوِيَ عَمَّنْ تابَ قَدْ وَجَبا

في هذهِ الأشْهُرِ الأبوابُ قَدْ فُتِحَتْ

للتَّائِبينَ فَكُلٌّ نَحْوَنا هَرَبا

حَطُّوا الرَّكائِبَ في أبْوابِ رَحْمَتِنا

بِحُسْنِ ظَنٍّ فكُلٌّ نال ما طَلَبا

وَقَدْ نَثَرْنا عَلَيْهِمْ مِنْ تَعَطُّفِنا

نِثارَ حُسْنِ قَبولٍ فازَ مَن نَهَبا

* * *

(1)

في خ: "قطعها"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 292

‌وظائف شهر شعبان

ويَشْتَمِلُ على مجالسَ:

‌المجلس الأول في صيامه

خَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائيُّ مِن حديثِ [أُسامَةَ بن زَيْدٍ]؛ قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصومُ الأيَّامَ يَسْرُدُ حتَّى نَقولَ لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ الأيامَ حتَّى لا يَكادُ يَصومُ؛ إلَّا يومينِ مِن الجمعةِ إنْ كانا في صيامِهِ، وإلَّا؛ صامَهُما. ولمْ يَكُنْ يَصومُ مِن الشُّهورِ ما يَصومُ مِن شعبانَ. فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ! إنَّكَ تَصومُ لا تكادُ تُفْطِرُ، وتُفْطِرُ حتَّى لا تكادُ تَصومُ إلَّا يومينِ إنْ دَخَلا في صيامِكَ وإلَّا صمتَهُما. قالَ:"أيُّ يومينِ؟ ". قُلْتُ: يومُ الاثنينِ ويومُ الخميسِ. قالَ: "ذانِكَ يومانِ تُعْرَضُ فيهِما الأعمالُ على ربِّ العالمينَ، وأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عملي وأنا صائمٌ". قُلْتُ: ولم أرَكَ تَصومُ مِن الشُّهورِ ما تَصومُ مِن شعبانَ. قالَ: "ذاكَ شهرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عنهُ بينَ رجب ورمضانَ، وهوَ [شهرٌ] تُرْفَعُ فيهِ الأعمالُ إلى ربّ العالمينَ عز وجل، وأُحِبُّ أنْ يُرْفَعَ عملي وأنا صائمٌ"

(1)

.

(1)

(صحيح). رواه: عبد الرزّاق (7917)، والطيالسي (632)، وابن أبي شيبة (9234 و 9765)، وابن سعد (4/ 71)، وأحمد (5/ 200 و 201 و 204 و 205 و 206 و 208)، والدارمي (2/ 19)، وأبو داوود (8 - الصيام، 60 - صيام الاثنين والخميس، 1/ 740/ 2436)، والبزّار (7/ 69/ 2617 و 3821)، والنسائي في "السنن الكبرى"(2667 و 2781 - 2783 و 2785) و"المجتبى"(22 - الصيام، 70 - صوم النبيّ صلى الله عليه وسلم، 4/ 201/ 2356 - 2358)، وابن خزيمة (2119)، والطحاوي في "شرح المعاني"(2/ 82)، وابن عديّ (2/ 519)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 18)، والبيهقي في "السنن"(4/ 293) و"الشعب"(3820 و 3821 و 3859)، والأصبهاني في "الترغيب"(1838)، والضياء في "المختارة"(4/ 143/ 1356 - 1358)؛ من طرق أربع، عن أُسامة

رفعه مطوّلًا ومختصرًا.

وإحدى طرق الحديث صحيحة لذاتها، والأخرى حسنة لذاتها، والثالثة حسنة في الشواهد، والرابعة =

ص: 293

قد تَضَمَّنَ هذا الحديثُ ذكرَ صيامِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن جميعِ السَّنةِ، وصيامَهُ مِن أيَّامِ الأُسبوعِ، وصيامَهُ مِن شهورِ السَّنةِ.

• فأمَّا صيامُهُ مِن السَّنةِ؛ فكانَ صلى الله عليه وسلم يَسْرُدُ الصِّيامَ أحيانًا والفِطْرَ أحيانًا، فيَصومُ حتَّى يُقالَ لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتَّى يُقالَ لا يَصومُ.

وقد رَوَى ذلكَ أيضًا عائِشَةُ

(1)

وابنُ عَبَّاسٍ وأنَسٌ وغيرُهُم.

ففي الصَّحيحينِ

(2)

عن عائِشَةَ؛ قالَتْ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصومُ حتَّى نَقولَ: لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتَّى نَقولَ: لا يَصومُ.

وفيهِما

(3)

عن ابن عَبَّاسٍ؛ قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصومُ إذا صامَ حتَّى يَقولَ القائلُ: لا واللهِ لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ إذا أفْطَرَ حتَّى تقولَ القائلُ: لا واللهِ لا يَصومُ.

وفيهِما

(4)

عن أنَسٍ؛ أنَّهُ سُئِلَ عن صيامِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَ: ما كُنْتُ أُحِبُّ أنْ أراهُ مِن الشَّهرِ صائمًا إلَّا رَأيْتُهُ ولا مفطرًا إلَّا رَأيْتُهُ، ولا مِن الليلِ قائمًا إلَّا رَأيْتُهُ ولا نائمًا إلَّا رَأيْتُهُ.

ولمسلمٍ

(5)

عنهُ؛ قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصومُ حتَّى يُقالَ: قد صامَ قد صامَ، ويُفْطِرُ حتَّى يُقالَ: قَدْ أفْطَرَ قد أفْطَرَ

(6)

.

• وقد كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُنْكِرُ على مَن يَسْرُدُ الصَّومَ الدَّهرَ ولا يُفْطِرُ منهُ، ويُخْبِرُ عن نفسِهِ أنَّهُ لا يَفْعَلُ ذلكَ.

= ضعيفة بمجهولين، والحديث صحيح غاية بمجموع طرقه الأربع بما يغني عن التفصيل فيها، وقد قوّاه ابن خزيمة والضياء المقدسي والمنذري والعسقلاني والألباني.

(1)

في خ: "أيضًا عن عائشة"! والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

البخاري (30 - الصوم، 52 - صوم شعبان، 4/ 213/ 1969)، ومسلم (13 - الصيام، 34 - صيامه صلى الله عليه وسلم، 2/ 809/ 1156).

(3)

البخاري (30 - الصوم، 53 - ما يذكر من صومه صلى الله عليه وسلم، 4/ 215/ 1971)، ومسلم (الموضع السابق، 4/ 811/ 1157).

(4)

بل في البخاري فقط (الموضع السابق، 1973).

(5)

(الموضع السابق، 4/ 812/ 1158).

(6)

زاد في خ هنا "وقد كان صلى الله عليه وسلم يصوم حتّى يقال قد صام ويفطر حتّى يقال قد أفطر" مرّة أخرى.

ص: 294

ففي الصَّحيحينِ

(1)

عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ: "أتَصومُ النَّهارَ وتَقومُ الليلَ؟ ". قالَ: نعم. فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لكنِّي أصومُ وأُفْطِرُ، وأُصَلِّي وأنامُ، وأمَسُّ النِّساءَ، فمَن رَغِبَ عن سنَّتي؛ فليسَ منِّي".

وفيهِما

(2)

عن أنَسٍ؛ أن نفرًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ بعضهُم: لا أتَزَوَّجُ النِّساءَ، وقالَ بعضُهُم: لا آكلُ اللحمَ، وقالَ بعضُهُم: لا أنامُ على فراشٍ. فبَلَغَ ذلكَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فخَطَبَ وقالَ:"ما بالُ أقوامٍ يَقولونَ كذا وكذا؟ لكنِّي أُصَلِّي وأنامُ، وأصومُ وأُفْطِرُ، وأتَزَوَّجُ النِّساءَ؛ فمَن رَغِبَ عن سنَّتي؛ فليسَ منِّي".

وخَرَّجَهُ النَّسائيُّ وزادَ فيهِ: وقالَ بعضُهُم: أصومُ ولا أُفْطِرُ

(3)

.

وفي "مسند الإمامِ أحْمَد": عن رجلٍ مِن الصَّحابةِ قالَ: ذُكِرَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مولاةٌ لبني عبدِ المُطَّلِبِ [أنَّها] قامَتِ الليلَ وتَصومُ النَّهارَ. فقالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: "لكنِّي أنا أنامُ وأُصَلِّي

(4)

وأصومُ وأُفْطِرُ، فمنِ اقْتَدى بي؛ فهوَ منِّي، ومَن رَغِبَ عن سنَّتي؛ فليسَ منِّي. إنَّ لكلِّ عملٍ شِرَّةً وفترةً، فمَن كانَتْ فترتُهُ إلى بدعةٍ فقد ضَلَّ، ومَن كانَتْ فترتُهُ إلى سنَّةٍ فقدِ اهْتَدى"

(5)

.

(1)

البخاري (30 - الصوم، 54 - 59 - باب، 4/ 217/ 1974 - 1980)، ومسلم (13 - الصيام، 35 - النهي عن صوم الدهر، 2/ 812/ 1159).

(2)

البخاري (67 - النكاح، 1 - الترغيب في النكاح، 9/ 104/ 5063)، ومسلم (16 - النكاح، 1 - استحباب النكاح، 2/ 1020/ 1401).

(3)

(صحيح). رواه: ابن سعد (1/ 371)، وأحمد (3/ 241 و 285)، وعبد بن حميد (1318)، والنسائي في "المجتبى"(26 - النكاح، 4 - النهي عن التبتّل، 6/ 60/ 3217) و"الكبرى"(5324)، وأبو نعيم في "المستخرج"(3238)، والبيهقي (7/ 77)؛ من طرق، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس

رفعه بهذه الزيادة. وهذا سند مسلم نفسه.

(4)

في خ: "لكنّي أصلّي وأنام"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط متابعة للفظ أحمد.

(5)

(صحيح). رواه مجاهد واختلف عليه فيه على أوجه روى أوّلها: الحسين المروزي في "زوائد الزهد"(1102)، والشاشي (894)؛ من طريق قويّ، عن الأعمش، عن عمرو بن مرّة، عن مجاهد، أعن عبد الله]

رفعه بنحوه مطوّلًا ومختصرًا. وهذا سند قويّ، ووصله زيادة ثقة. وروى الثاني: أحمد (5/ 409)، والطحاوي في "المشكل"(2/ 88)، والطبراني في "الكبير"(2/ 284/ 2186)، من طرق قويّة، عن منصور، عن مجاهد، (قال مرّة: عن رجل من الصحابة، ومرّة: عن رجل من الأنصار من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومرّة: عن جعدة بن هبيرة)

رفعه مطوّلًا ومختصرًا. وهذا سند قويّ، وإبهام الصحابيّ لا يضرّ، على =

ص: 295

وفي "المسند" و "سنن أبي داوود" عن عائِشَةَ؛ أن عُثْمانَ بنَ مَظْعونٍ أرادَ التَّبتُّلَ، فقال لهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أتَرْغَبُ عن سنَّتي؟ ". قال: لا واللهِ، ولكنْ سنّتكَ أُريدُ. قال: "فإنِّي أنامُ وأُصَلِّي

(1)

، وأصومُ وأُفْطِرُ، وأنْكِحُ النِّساءَ، فاتَّقِ اللهِ يا عُثْمانُ؛ فإن لأهلِكَ عليكَ حقًّا، وإنَّ لضيفِكَ عليكَ حقًّا، و [إنَّ] لنفسِكَ عليكَ حقًّا، فصُمْ وأفْطِرْ وصَل ونَمْ"

(2)

.

وقد قال عِكْرِمَةُ وغيرُهُ: إنّ عُثْمانَ بنَ مَظْعونٍ وعَلِيَّ بنَ أبي طالِبٍ والمِقْدادَ وسالِمًا مولى أبي حُذَيْفَةَ في جماعةٍ تَبَتَّلوا، فجَلَسوا في البيوتِ واعْتَزَلوا النِّساءَ وحَرَّموا طيِّباتِ الطَّعامِ واللباسِ؛ إلَّا ما يَأْكُلُ ويَلْبَسُ أهلُ السِّياحةِ مِن بني إسْرائيلَ، وهَمُّوا بالاختصاءِ، وأجْمَعوا لقيامِ الليلِ وصيامِ النَّهارِ، فنَزَلَتْ [فيهِم]:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا [إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ]}

= أنّ المبهم هنا محمول على المبيّن، وهو جعدة بن هبيرة، صحابيّ صغير له رؤية، ومرسله مقبول عند أهل العلم. وروى الثالث: البزّار (724 - كشف)، والطحاوي في "المشكل"(2/ 89)، والقضاعي في "الشهاب"(1027)؛ من طريق مسلم بن كيسان الأعور، عن مجاهد، عن ابن عبّاس مطوّلًا ومختصرًا. وهذا واهٍ، مسلم هذا ضعيف جدًّا شبه المتروك.

فالوجهان الأوّلان هنا قويّان، ولا يبعد أن يكون مجاهد سمعه من أكثر من صحابيّ فإنّه واسع الرواية جدّا. فمن لم يرتح لهذا؛ فليعلم أنّ التردّد بين وجهين صحيحين لا يضرّ. فالحديث قويّ على جميع الأحوال، ولا سيما أنّ للحديث شواهد عدّة. وقد قوّاه الهيثمي.

(1)

في خ: "فإنّي أصلّي وأنام"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط متابعة للفظ أحمد.

(2)

(صحيح). رواه بهذا اللفظ: أحمد (6/ 268)، وأبو داوود (2 - الصلاة، 317 - ما يؤمر من القصد، 1/ 435/ 1369)، والبزّار (1457 - كشف)؛ من طريق قويّة، عن ابن إسحاق، ثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة

رفعته، وهذا سند قويّ، وقد صرّح ابن إسحاق بالتحديث فانتفت شبهة التدليس، ولذلك قال الألباني: صحيح.

ولحديث عائشة طرق أخرى صحيحة بنحو هذا اللفظ ومعناه عند: عبد الرزّاق (10375)، وأحمد (6/ 106 و 226)، والبزّار (1458 - كشف).

وروى الحادثة مختصرة: البخاري (5073 و 5074)، ومسلم (1402)؛ من حديث سعد.

ولها شواهد مطوّلة ومختصرة بنحوه عند: ابن سعد (3/ 395)، وأبي يعلى (7242)، وابن حبّان (316)؛ من حديث أبي موسى الأشعري بسند صالح.

وعند الطبراني (8/ 170/ 7715) من حديث أبي أُمامة بسند ضعيف.

وعند ابن سعد (3/ 394 و 395) من مراسيل الزهريّ وأبي قلابة الجرميّ وغيرهما.

ص: 296

[المائدة: 87]

(1)

.

وفي "صحيح البخاريِّ"

(2)

؛ أن سَلْمانَ زارَ أبا الدَّرْداءِ، وكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم قد آخى بينَهُما، فرَأى أُمَّ الدَّرْداءِ متبذِّلةً، فقالَ لها: ما شأْنُكِ متبذِّلةً؟ فقالَتْ: إنَّ أخاكَ أبا الدَّرْداءِ لا حاجةَ لهُ في الدُّنيا. فلمَّا جاءَ أبو الدَّرْداءِ؛ قَرَّبَ لهُ طعامًا. فقالَ لهُ: كُلْ. قالَ: إنِّي صائمٌ. قالَ: ما أنا بآكلٍ حتَّى تَأْكُلَ. فأكَلَ. فلمَّا كانَ الليلُ، ذَهَبَ أبو الدَّرْداءِ لِيَقومَ، فقالَ لهُ سَلْمانُ: نَمْ. ثمَّ ذَهَبَ لِيَقومَ، فقالَ لهُ: نَمْ. فلمَّا كانَ مِن آخرِ الليلِ؛ قالَ سَلْمانُ: قُمِ الآنَ. فقاما فصَلَّيا. فقالَ سَلْمانُ: إنَّ لنفسِكَ عليكَ حقًّا، وإنَّ لضيفِكَ عليكَ حقًّا، وإن لأهلِكَ عليكَ حقًّا، فأعْطِ كل ذي حقٍّ حقَّهُ. فأتَيا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذَكَرا ذلكَ لهُ، فقالَ:"صَدَقَ سَلْمانُ". وفي روايةٍ في غيرِ الصَّحيحِ؛ قالَ: "ثَكِلَتْ سَلْمانَ أُمُّهُ! لقد أُشْبعَ مِن العلمِ"

(3)

.

وهكذا قالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعَبْدِ اللهِ بن عَمْرِو بن العاصِ لمَّا كانَ يَصومُ الدَّهرَ، فنَهاهُ وأمَرَهُ أنْ يَصومَ صومَ داوودَ؛ يَصومَ يومًا ويُفْطِرَ يومًا. وقالَ لهُ:"لا أفضلَ مِن ذلكَ"

(4)

.

ووَرَدَ النَّهيُ عن صيامِ الدَّهرِ والتَّشديدُ فيهِ

(5)

.

(1)

وقد جاء هذا من أوجه قويّة كثيرة جدًّا مرسلة وموصولة ساق السيوطي أكثرها في "الدرّ"(المائدة 87) وجاء فيها ذكر جماعة آخرين من الصحابة زيادة على المذكورين هنا بما يوحي بأنّ الاندفاع في العبادات والرغبة بالتبتّل وقع من جماعة غير قليلة من الصحابة رضوان الله عليهم، فنزلت الآية فيهم جميعًا وفيمن تلاهم من الأُمّة إلى يوم الدين. فلله الحمد والمنّة على الإسلام والسنّة.

(2)

(30 - الصوم، 51 - من أقسم على أخيه ليفطر، 4/ 209/ 1968).

(3)

(حسن). رواه: ابن سعد (2/ 346)، وابن أبي شيبة (32318)، وابن عساكر (21/ 417)؛ من طريق الأعمش، عن أبي صالح

به. وهذا مرسل قويّ.

ورواه الطبراني في "الأوسط"(7633) من طريق الحسن بن جبلة، ثنا سعيد بن الصلت، عن الأعمش، عن شمر بن عطيّة، عن شهر بن حوشب، عن أُمّ الدرداء

رفعته. قال الطبراني: "تفرّد به الحسن بن جبلة". وقال الهيثمي (9/ 347): "لم أعرفه". قلت: وشهر لا يعدو أن يكون صالحًا في المتابعات.

لكنّ هذا اللفظ يرتقي إلى الحسن بمجموع طريقيه المرسل والموصول.

(4)

أحد ألفاظ حديث ابن عمرو المتّفق عليه الذي تقدّم تخريجه (ص 295).

(5)

عن جماعة من الصحابة، منهم ابن عمرو في حديثه المتفق عليه المتقدّم تخريجه (ص 295).

ص: 297

• وهذا كلُّهُ يَدُلُّ على أن أفضلَ الصِّيامِ ألَّا يُسْتَدامَ، بل يُعاقَبُ بينَهُ وبينَ الفطرِ، وهذا هوَ الصَّحيحُ مِن قولَـ[ـي] العلماءِ، وهوَ مذهبُ أحْمَدَ وغيرِهِ.

وقيلَ لِعُمَرَ: إنَّ فلانًا يَصومُ الدَّهرَ. فجَعَلَ يَقْرَعُ رأْسَهُ بقناةٍ معَهُ ويَقولُ: كُلْ يا دهرُ! كُلْ يا دهرُ! خَرَّجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.

• وقد أشارَ صلى الله عليه وسلم إلى الحكمةِ في ذلكَ مِن وجوهٍ:

- منها: قولُهُ صلى الله عليه وسلم في صيامِ الدَّهرِ: "لا صامَ ولا أفْطَرَ"

(1)

؛ يَعْني: أنَّهُ لا يَجِدُ مشقَّةَ الصِّيامِ ولا فقدَ الطَّعامِ والشَّرابِ والشَّهوةِ؛ لأنَّهُ صارَ الصِّيامُ لهُ عادةً مأْلوفةً، فربَّما تَضَرَّرَ بتركِهِ، فإذا صامَ تارةً وأفْطَرَ أُخرى؛ حَصَلَ لهُ بالصِّيامِ مقصودُهُ بتركِ هذهِ الشَّهواتِ، وفي نفسِهِ داعية إليها، وذلكَ أفضلُ مِن أنْ يَتْرُكَها ونفسُهُ لا تتوقُ إليها.

- ومنها: قولُهُ صلى الله عليه وسلم في حقِّ داوودَ عليه السلام: "كانَ يَصومُ يومًا ويُفْطِرُ يومًا ولا يَفِرُّ إذا لاقى"

(2)

؛ يُشيرُ إلى أنَّهُ كانَ لا يُضْعِفُهُ صيامُهُ عن ملاقاةِ عدوِّهِ ومجاهدتِهِ في سبيلِ اللهِ. ولهذا رُوِيَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ لأصحابِهِ يومَ الفتحِ وكانَ في رمضانَ: "إنَّ هذا يومُ قتالٍ فأفْطِروا"

(3)

. وكانَ عُمَرُ إذا بَعَثَ سريَّةً؛ قالَ لهُم: لا تَصوموا؛ فإنَّ التَّقوِّيَ على الجهادِ أفضلُ مِن الصَّومِ.

فأفضلُ الصَّومِ ألَّا يُضْعِفَ البدنَ حتَّى يَعْجِزَ عمَّا هوَ أفضلُ منهُ؛ مِن القيامِ بحقوق اللهِ أو حقوقِ عباده اللازمةِ، فإنْ أضْعَفَ عن شيءٍ مِن ذلكَ ممَّا هوَ أفضلُ منهُ؛ كانَ تركُهُ أفضلَ.

فالأوَّلُ: مثلُ أنْ يُضْعِفَ الصِّيامُ البدنَ عن الصَّلاةِ أو عن الذِّكرِ أو العلمِ، كما قيلَ

(1)

رواه مسلم (13 - الصيام، 35 - النهي عن صوم الدهر، 2/ 818/ 1162) من حديث أبي قتادة.

(2)

قطعة من حديث ابن عمرو المتّفق عليه الذي تقدّم تخريجه (ص 295).

(3)

رواه مسلم (13 - الصيام، 16 - أجر المفطر في السفر، 2/ 789/ 1120) من حديث أبي سعيد رفعه بلفظ: "إنّكم مصبّحو عدوّكم، والفطر أقوى لكم، فأفطروا".

وهو عند ابن سعد (2/ 140) من حديث أبي سعيد بلفظ: "حتى إذا بلغنا مرّ الظهران أعلمنا أنّا نلقى العدوّ وأمرنا بالفطر".

وأمّا هذا اللفظ بالتحديد فعند: عبد الرزّاق (9688)، وابن سعد (2/ 141)؛ من حديث عبيد بن عمير مرسلًا. وسند قويّ. ويشهد له حديث أبي سعيد المتقدّم.

ص: 298

في النَّهيِ عن صيامِ الجمعةِ ويومِ عرفةَ بعرفةَ: إنّهُ يُضْعِفُ عن الذِّكرِ والدُّعاءِ في هذينِ اليومينِ. وكانَ ابنُ مَسْعودٍ يُقِلُّ الصِّيامَ وتقولُ: إنَّهُ يَمْنَعُني مِن قراءةِ القرآنِ

(1)

، وقراءةُ القرآنِ أحبُّ إليَّ. فقراءةُ القرآنِ أفضلُ مِن الصِّيامِ. نَصَّ عليهِ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ وغيرُهُ مِن الأئمَّةِ. وكذلكَ تعلَّمُ العلمِ النَّافعِ وتعليمُهُ أفضلُ مِن الصِّيامِ.

وقد نَصَّ الأئمَّةُ الأربعةُ على أن طلبَ العلمِ أفضلُ مِن صلاةِ النَّافلةِ، والصلاةُ أفضلُ مِن الصِّيامِ المتطوَّعِ بهِ، فيَكونُ العلمُ أفضلَ مِن الصِّيامِ بطريقِ الأَوْلى؛ فإنَّ العلمَ مصباحٌ يُسْتَضاءُ بهِ في ظلمةِ الجهلِ والهوى، فمَن سارَ في طريقٍ على غيرِ مصباحٍ؛ لمْ يَأْمَنْ أنْ يَقَعَ في بئرٍ بوارٍ فيَعْطَبَ. قالَ ابن سِيرِينَ: إنَّ قومًا تَرَكوا العلمَ واتَّخَذوا محاريبَ فصاموا وصَلَّوْا بغيرِ علمٍ، واللهِ؛ ما عَمِلَ أحدٌ بغيرِ علمٍ إلَّا كانَ ما يُفْسِدُ أكثرَ ممَّا يُصْلحُ.

والثَّاني: [مثلُ] أنْ يُضْعِفَ الصِّيامُ عن الكسبِ للعيالِ أوِ القيامِ بحقوقِ الزَّوجاتِ، فيَكونُ تركُهُ أفضلَ. وإليهِ الإشارةُ بقولهِ صلى الله عليه وسلم:"وإنَّ لأهلِكَ عليكَ حقًّا"

(2)

. - ومنها: ما أشارَ إليهِ صلى الله عليه وسلم بقولِهِ: "إنَّ لنفسِكَ عليكَ حقًّا

فأعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ"

(3)

؛ يُشيرُ إلى أن النَّفسَ وديعةٌ للهِ عندَ ابن آدَمَ، وهوَ مأْمورٌ أنْ يَقومَ بحقِّها، ومِن حقِّها اللطفُ بها حتَّى توصِلَ صاحبَها إلى المنزلِ.

قالَ الحَسَنُ: نفوسُكُم مطاياكُم إلى ربكم، فأصْلِحوا مطاياكُم توصِلْكُم إلى ربِّكُم.

فمَن وَفَّى نفسَهُ حظَّها مِن المباحِ بنيّةِ التَّقوِّي بهِ على أعمالِ الطَّاعاتِ

(4)

؛ كانَ مأْجورًا في ذلكَ، كما قالَ مُعاذ: إنِّي أحْتَسِبُ نومتي كما أحْتَسِبُ قومتي. ومَن قَصَّرَ في حقِّها حتَّى ضَعُفَتْ وتَضَرَّرَتْ؛ كانَ ظالمًا لها. وإلى هذا أشارَ صلى الله عليه وسلم بقولهِ لعَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو: "إنَّكَ إذا فَعَلْتَ ذلكَ نَفِهَتْ لهُ النَّفسُ وهَجَمَتْ لهُ العينُ"

(5)

. ومعنى نَفِهَتْ:

(1)

في خ: "من تلاوة القرآن"، وما أثبتّه من م ون وط أولى بالسياق.

(2)

قطعة من حديث ابن عمرو المتّفق عليه الذي تقدّم تخريجه (ص 295).

(3)

قطعة من حديث ابن عمرو المتّفق عليه الذي تقدّم تخريجه (ص 295).

(4)

في خ: "بنية التقوّي به على تقويتها على أعمال الطاعات"! والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(5)

قطعة من حديث ابن عمرو المتفق عليه الذي تقدّم تخريجه (ص 295).

ص: 299

كَلَّتْ وأعْيَتْ. ومعنى هَجَمَتِ العينُ: غارَتْ.

وقالَ لأعرابيٍّ جاءَهُ فأسْلَمَ، ثمَّ أتاهُ مِن عامٍ قابلٍ وقد تَغَيَّرَ فلمْ يَعْرِفْهُ، فلمَّا عَرَفَهُ؛ سَألَهُ عن حالِهِ، قالَ: ما أكَلْتُ بعدَكَ طعامًا بنهارٍ. فقالَ صلى الله عليه وسلم: "ومَن أمَرَكَ أنْ تُعَذِّبَ نفسَكَ؟ "

(1)

.

فمَن عَذَّبَ نفسَهُ بأنْ حَمَّلَها ما لا تُطيقُهُ مِن الصِّيامِ ونحوِهِ؛ فربَّما أثَرَ ذلكَ في ضعفِ بدنِهِ وعقلِهِ، فيَفوتُهُ مِن الطَّاعاتِ الفاضلةِ أكثرُ ممَّا يَحْصُلُ لهُ بتعذيبِهِ نفسَهُ بالصِّيامِ.

وكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَسَّطُ في إعطاءِ نفسِهِ حقَّها ويَعْدِلُ فيها غايةَ العدلِ: فيَصوم ويُفْطِرُ، ويقومُ ويَنامُ، ويَنكِحُ النِّساءَ، ويَأْكُلُ ممَّا يَجِدُ مِن الطَّيِّباتِ كالحلواءِ والعسلِ ولحمِ الدَّجاجِ. وتارةً يَجوعُ حتَّى يَرْبِطَ على بطنِهِ الحجرَ.

وقالَ: "عَرَضَ عليَّ ربِّي أنْ يَجْعَلَ لي بطحاءَ مكَّةَ ذهبًا، فقُلْتُ: لا يا ربِّ! ولكنْ أجوعُ يومًا وأشْبَعُ يومًا، فإذا جُعْتُ؛ تَضَرَّعْتُ إليكَ وذَكَرْتُكَ، وإذا شَبِعْتُ؛ حَمِدْتُكَ وشَكَرْتُكَ"

(2)

.

فاخْتارَ صلى الله عليه وسلم لنفسِهِ أفضلَ الأحوال؛ لِيَجْمَعَ بينَ مقاميِ الشُّكرِ والصَّبرِ والرِّضى.

- ومنها: ما أشارَ إليهِ بقولهِ صلى الله عليه وسلم لعَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو: "لَعَلَّهُ أنْ يَطولَ بكَ حياةٌ"

(3)

؛ يَعْني: أن مَن تكلَّفَ الاجتهاد

(4)

في العبادةِ فقد تَحْمِلُهُ قوَّةُ الشَّبابِ ما دامَتْ باقيةً، فإذا

(1)

(حسن). سيأتي تفصيل القول في تخريجه (ص 559).

(2)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن المبارك في "الزهد"(196)، وابن سعد (1/ 381)، وأحمد في "المسند"(5/ 254)، والترمذي (37 - الزهد، 35 - الكفاف والصبر عليه، 4/ 575/ 2347)، والروياني (1222)، والطبراني (8/ 207/ 7835)، وأبو الشيخ في "أخلاقه صلى الله عليه وسلم "(836 و 837)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 133) و"الدلائل"(540)، والسلمي في "الأربعين"، والبيهقي في "الشعب"(1467 و 10410)؛ من طريق عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة

رفعه.

قال الترمذي: "حسن"، وتعقّبه ابن كثير بقوله:"عليّ بن يزيد يضعّف". وقال أبو نعيم: "لا أعلم روي بهذا اللفظ إلَّا عن عليّ بن يزيد عن القاسم". قلت: ابن زحر لا يعدو أن يكون صالحًا في المتابعات، وعليّ بن يزيد منكر الحديث شبه المتروك، والقاسم في حديثه مناكير. فالسند واهٍ، وقد ضعّفه ابن كثير والألباني.

(3)

قطعة من حديث ابن عمرو المتّفق عليه المتقدّم تخريجه (ص 295).

(4)

في خ: "من تكلّف الجهاد"! والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 300

ذَهَبَ الشَّبابُ وجاءَ المشيبُ والكِبَرُ؛ عَجَزَ عن حملِ ذلكَ، فإنْ صابَرَ وجاهَدَ واسْتَمَرَّ؛ فربَّما هَلَكَ بدنُهُ، وإنْ قَطَعَ؛ فقد فاتَهُ أحبُّ العملِ إلى اللهِ تَعالى، وهوَ المداومةُ على العملِ.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "اكْلَفوا مِن العملِ ما تُطيقونَ، فواللهِ؛ لا يَمَلُّ الله حتَّى تَمَلُّوا

(1)

.

وقالَ: "أحبُّ العملِ إلى اللهِ أدومُهُ وإنْ قَلَّ"

(2)

.

فمَن عَمِلَ عملًا تقْوى عليهِ بدنُهُ في طولِ عمرِهِ في قوَّتِهِ وضعفِهِ؛ اسْتَقامَ سيرُهُ. ومَن حَمَلَ ما لا يُطيقُ؛ فإنَّهُ قد يَحْدُثُ لهُ مرضٌ يَمْنَعُهُ مِن العملِ بالكلِّيَّةِ وقد يَسْأمُ ويَضْجَرُ فيقْطَعُ العملَ فيَصيرُ كالمُنْبَتِّ لا أرضًا قَطَعَ ولا ظهرًا أبْقى.

• وأمَّا صيامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن الأيَّامِ؛ أعْني: أيَّامَ الأسبوعِ

(3)

؛ فكانَ يَتَحَرَّى صيامَ الاثنينِ والخميسِ.

وكذا رُوِيَ عن عائِشَةَ: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَتَحَرَّى صيامَ الاثنينِ والخميسِ

(4)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائيُّ وابنُ ماجَهْ والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ.

وخَرَّجَ ابنُ ماجَهْ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه؛ قالَ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَصومُ الاثنينِ والخميسَ. فقيلَ: يا رسولَ اللهِ! إنَّكَ تَصومُ الاثنينِ والخميسَ؟ فقال: "إنَّ يومَ الاثنينِ والخميسِ يَغْفِرُ [اللهُ] فيهِما لكلِّ مسلمٍ؛ إلَّا مهتجرينِ، فتقولُ: دَعوهُما حتَّى يَصْطَلِحا"

(5)

.

وخَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ، وعندَهُ: أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ أكثرُ ما يَصومُ الاثنينِ والخميسَ، فقيلَ لهُ، قالَ: "إنَّ الأعمالَ تُعْرَضُ كل اثنينِ وخميسٍ، فيُغْفَرُ لكلِّ مسلمٍ

(1)

رواه: البخاري (2 - الإيمان، 32 - أحبّ الدين إلى الله، 1/ 101/ 43)، ومسلم (6 - المسافرين، 30 - فضيلة العمل الدائم، 1/ 540/ 782)؛ من حديث عائشة.

(2)

قطعة من حديث عائشة المتّفق عليه المتقدّم تخريجه في الحاشية السابقة.

(3)

في خ: "يعني أيّام الأسبوع"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(4)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول في تخريجه (ص 237).

(5)

(صحيح بشواهده). تقدم تفصيل القول في تخريجه (ص 238).

ص: 301

(أو: لكلِّ مؤمنٍ)؛ إلَّا المتهاجرينِ، فيَقولُ: أخِّروهُما"

(1)

.

وأخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، ولفظُهُ: قالَ: "تُعْرَضُ الأعمالُ يومَ الاثنينِ ويومَ الخميسِ، فأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عملي وأنا صائمٌ"

(2)

. ورُوِيَ موقوفًا على أبي هُرَيْرَةَ، ورَجَّحَ بعضُهُم وقفَهُ.

وفي "صحيح مسلم"

(3)

عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: "تُفْتَحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ ويومَ الخميسِ، فيُغْفَرُ لكلِّ عبدٍ لا يُشْرِكُ باللهِ شيئًا؛ إلَّا رجلًا كانَتْ بينَهُ وبينَ أخيهِ شحناءُ، تقولُ: أنْظِروا هذينِ حتَّى يَصْطَلِحا".

ويُرْوى بإسنادٍ فيهِ ضعف عن أبي أُمامَةَ مرفوعًا: "تُرْفَعُ الأعمالُ يومَ الاثنينِ ويومَ الخميسِ، فيُغْفَرُ للمستغفرينَ ويُتْرَكُ أهلُ الحقدِ بحقدِهِم"

(4)

.

ورَوى عَلِيُّ [بنُ] أبي طَلْحَةَ عن ابن عَبَّاسٍ، في قولهِ عز وجل:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، قالَ: يُكْتَبُ كلُّ ما تَكَلَّمَ بهِ مِن خيرٍ وشرٍّ، حتَّى إنَّهُ لَيُكْتَبُ قولُهُ أكَلْتُ وشَرِبْتُ وذَهَبْتُ وجِئْتُ ورَأيْتُ، حتَّى إذا كانَ يومُ الخميسِ؛ عُرِضَ قولُهُ وعملُهُ، فأُقِرَّ [منهُ] ما كانَ فيهِ مِن خيرٍ أو شرٍّ وأُلْقِيَ سائرُهُ. فذلكَ قولُهُ تَعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]

(5)

. خَرَّجَهُ ابنُ أبي حاتِمٍ وغيرُهُ. فهذا يَدُلُّ على اختصاصِ يومِ الخميسِ بعرضٍ للأعمالِ لا يوجَدُ في غيرِهِ

(6)

.

وكانَ إبْراهيمُ النَّخَعِيُّ يَبْكي إلى امرأتِهِ يومَ الخميسِ وتَبْكي إليهِ ويَقولُ: اليومَ تُعْرَضُ أعمالُنا على اللهِ عز وجل.

(1)

(صحيح بشواهده). تقدّم تفصيل القول في تخريجه (ص 238).

(2)

(صحيح بشواهده). تقدّم تفصيل القول في تخريجه (ص 238).

(3)

(45 - البرّ والصلة، 11 - النهي عن الشحناء والتهاجر، 4/ 1987/ 25265).

(4)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 238). ووقع في خ: "لحقدهم"!

(5)

(موقوف ضعيف). علي بن أبي طلحة يخطئ، وروايته عن ابن عبّاس مرسلة. ولو صحّ هذا السند؛ فليس له حكم الرفع.

(6)

الاستدلال بالنصّ فرع تصحيحه، وقد علمت ما فيه.

ص: 302

فهذا عرضٌ خاصٌ في هذينِ اليومينِ غيرُ العرضِ العامِّ كلَّ يومٍ؛ فإنَّ ذلكَ عرضٌ دائمٌ كلَّ يومٍ بكرةً وعشيًّا.

ويَدُلُّ على ذلكَ ما في الصَّحيحينِ

(1)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"يَتَعاقَبونَ فيكُم ملائكةٌ بالليلِ وملائكةٌ بالنَّهارِ، فيَجْتَمِعونَ في صلاةِ الصُّبحِ وفي صلاةِ العصرِ، فيَسْألُ الذينَ باتوا فيكُم - وهوَ أعْلَمُ -: كيفَ تَرَكْتُم عبادي؟ فيَقولونَ: أتَيْناهُم وهُم يُصَلُّونَ، وتَرَكْناهُم وهُم يُصلُّونَ".

وفي "صحيح مسلم"

(2)

: عن أبي موسى الأشْعَرِيِّ؛ قالَ: قامَ فينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بخمسِ كلماتٍ، فقالَ:"إنَّ الله لا يَنامُ، ولا يَنْبَغي لهُ أنْ يَنامَ، يَخْفِضُ القسطَ ويَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إليهِ عملُ الليلِ قبلَ النَّهارِ، وعملُ النَّهارِ قبلَ الليلِ، حجابُهُ النُّورُ، لو كَشَفَهُ؛ لأحْرَقَتْ سُبُحاتُ وجهِهِ ما انْتَهى إليهِ بصرُهُ مِن خلقِهِ".

ويُرْوى عن ابن مَسْعودٍ؛ قالَ: إن مقدارَ كلِّ يومٍ مِن أيَّامِكُم عندَ ربَكُم ثنتا عشرةَ ساعةً، فتُعْرَضُ عليهِ أعمالُكُم بالأمسِ أوَّلَ النَّهارِ اليومَ، فيَنْظُرُ فيها ثلاثَ ساعاتٍ

وذَكَرَ باقيَهُ.

كانَ الضَّحَّاكُ يَبْكي آخرَ النَّهارِ ويَقولُ: لا أدْري ما رُفعَ مِن عملي.

يا مَن عملُهُ معروضٌ على مَن يَعْلَمُ السِّرَّ وأخْفى، لا تُبَهْرِجْ؛ فالنَّاقدُ بصيرٌ.

السُّقْمُ عَلى الجِسْمِ لَهُ تَرْدادُ

والعُمْرُ مَضى وَزَلَّتي تَزْدادُ

ما أبْعَدَ شُقَتي وما لِيَ

ما أكْثَرَ بَهْرَجي ولي نُقَّادُ

وحديثُ أُسامَةَ فيهِ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا سَرَدَ الفطرَ؛ يَصومُ الاثنينِ والخميسَ

(3)

.

فدَلَّ على مواظبةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم على صيامِهِما، وقد كانَ أُسامَةُ يَصومُهُما حضرًا وسفرًا لهذا.

وفي "مسند الإمام أحْمَدَ" و "سنن النَّسائِي": عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم

(1)

البخاري (9 - المواقيت، 16 - فضل العصر، 2/ 33/ 555)، ومسلم (5 - المساجد، 37 - فضل الصبح والعصر، 1/ 439/ 632).

(2)

(1 - الإيمان، 79 - قوله صلى الله عليه وسلم إنّ الله لا ينام، 1/ 161/ 179).

(3)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 293).

ص: 303

أمَرَهُ أنْ يَصومَ ثلاثةَ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ. فقالَ [لهُ]: إنِّي أقوى على أكثرَ مِن ذلكَ. قالَ: "فصُمْ مِن الجمعةِ [يومَ] الاثنينِ والخميسِ". قالَ: إنِّي أقوى على أكثرَ مِن ذلكَ. قالَ: "فصُمْ صيامَ داوودَ"

(1)

.

وفي "مسند الإمام أحْمَدَ" مِن روايةِ: عُثْمانَ بن رُشَيْدٍ، حَدَّثَني أنَسُ بنُ سِيرِينَ؛ قالَ: أتَيْنا أنَسَ بنَ مالِكٍ في يومِ خميسٍ، فدَعا بمائدتِهِ، فدَعاهُم إلى الغداءِ، فأكَلَ بعضُ القومِ وأمْسَكَ بعضٌ. ثمَّ أتَوْهُ يومَ خميسٍ، ففَعَلَ مثلَها. فقالَ أنَسٌ: لعلَّكُم أثنائيُّونَ، لعلَّكُم خميسيُّونَ، كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصومُ حتَّى يُقالَ لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتَّى يُقالَ لا يَصومُ

(2)

.

وظاهرُ هذا الحديثِ يُخالِفُ حديثَ أُسامَةَ وأنَّ

(3)

النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إنَّما كانَ يَصومُ الاثنينِ والخميسَ إذا دَخَلا في صيامِهِ ولمْ يَكُنْ يَتَحَرَّى صيامَهُما في أيَّامِ سردِ فطرِهِ. ولكنَّ عُثْمانَ بنَ رُشَيْدٍ ضعيفٌ، ضَعفَهُ ابنُ مَعينٍ وغيرُهُ، وحديثُ أُسامَةَ أصحُّ منهُ.

وقد رُوِيَ مِن حديثِ أُمَّ سَلَمَةَ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَصومُ مِن كل شهرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ؛ أوَّلَ خميسٍ والاثنينِ والاثنينِ

(4)

. وفي روايةٍ بالعكسِ: الاثنينِ والخميسَ والخميسَ

(5)

.

(1)

(صحيح). رواه: أحمد (2/ 200 و 201)، والنسائي في "المجتبى"(22 - الصيام، 76 - صوم يوم وإفطار يوم، 4/ 211/ 2392) و"الكبرى"(2701)؛ من طريق ابن إسحاق، عن محمّد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن ابن عمرو

رفعه. وهذا سند رجاله ثقات، لكنّ ابن إسحاق عنعن على تدليسه.

على أنّه يشهد له في الجملة أنّه جاء في بعض سياقات الحديث عند أحمد (2/ 216) بسند صالح: "فما زلت أناقصه ويناقصني".

فلا معنى لتضعيف هذه الزيادة بعنعنة ابن إسحاق، وإلى تقويتها مال العسقلاني، واستنكر الألباني الحديث لزيادة أخرى فيه وأمّا هذه فليست موضع استنكار. وأصل الحديث في الصحيحين كما تقدّم مرارًا.

(2)

(ضعيف بهذا التمام). رواه: أحمد (3/ 230)، والطبراني في "الأوسط"(3/ 230)؛ من طريق عثمان بن رشيد، عن أنس بن سيرين، عن أنس

به.

قال ابن رجب والهيثمي (3/ 195): "فيه عثمان بن رشيد الثقفي وهو ضعيف". قلت: الضعف لازم للقصّة جملة، وأمّا المرفوع؛ فيشهد له حديث عائشة المتّفق عليه المتقدّم في أوّل المجلس.

(3)

يعني: وظاهره أيضًا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم

إلخ.

(4)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 128 - 130).

(5)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 128 - 130).

ص: 304

وأكثرُ العلماءِ على استحبابِ صيامِ الاثنينِ والخميسِ.

ورُوِيَ كراهتُهُ عن أنسِ بن مالكٍ مِن غيرِ وجهٍ عنهُ. وكانَ مُجاهِدٌ يَفْعَلُهُ ثمَّ تَرَكَهُ وكَرِهَهُ. وكَرِهَ أبو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ صيامَ الاثنينِ. وكَرِهَتْ طائفةٌ صيامَ يومٍ معيَّنٍ كلَّما مَرَّ بالإنسانِ، رُوِيَ عن عِمْرانَ بن حُصَيْنٍ وابنِ عَبَّاسٍ والشَّعْبِيِّ والنَّخَعِيِّ، ونَقَلَهُ ابنُ القاسِمِ عن مالِكٍ. وقالَ الشَّافِعِيُّ في القديمِ: أكْرَهُ ذلكَ. قالَ: وإنَّما أكْرَهُهُ لئلَّا يَتَأسَّى جاهلٌ فيَظُنَّ أن ذلكَ واجبٌ. فالَ: وإنْ فَعَلَ فحسنٌ؛ يَعْني: على غيرِ اعتقادِ الوجوبِ

(1)

.

• وأمَّا صيامُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن أشهرِ السَّنةِ؛ فكانَ يَصومُ مِن شعبانَ ما لا يَصومُ مِن غيرِهِ مِن الشُّهورِ.

ففي الصَّحيحينِ

(2)

عن عائِشَةَ؛ قالَتْ: ما رَأيْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم اسْتكْمَلَ صيامَ شهرٍ قطُّ إلَّا رمضانَ، وما رَأيْتُهُ في شهرٍ أكثرَ صيامًا منهُ في شعبانَ. زادَ البُخارِيُّ

(3)

في روايةٍ: كانَ يَصومُ شعبانَ كلَّهُ. ولمسلمٍ

(4)

في روايةٍ: كانَ يَصومُ شعبانَ كلَّهُ، كانَ يَصومُ شعبانَ إلَّا قليلًا. وفي روايةٍ [لـ]ـنَّسائيِّ عن عائِشَةَ؛ قالَتْ: كانَ أحبَّ الشُهورِ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَصومَ شعبانُ، كانَ يَصِلُهُ برمضانَ

(5)

.

(1)

لا يشرع توقيت عبادة معيّنة في ميقات زمانيّ أو مكانيّ محدّد بغير دليل شرعيّ، فإن حضر الدليل الشرعيّ؛ صارت العبادة مشروعة. فاختصاص السابع والعشرين من رجب بصيام أو قيام بدعة ضلالة، واختصاص يوم عرفة بالصوم مندوب إليه. وبهذا الاعتبار؛ فاختصاص الاثنين والخميس بالصيام أمر مشروع مندوب إليه؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم: أقرّه واستحبّه في قوله "ذلك يوم ولدت فيه"، وفعله كما في حديث أسامة، وأمر به ابن عمرو كما تقدّم آنفًا. نعم؛ من المستحبّ أن يفطر العبد بعض أيّام الاثنين والخميس اتّباعًا لسنّته صلى الله عليه وسلم الفعليّة والتركيّة، فإن لم يفعل؛ فلا بأس عليه. والله أعلى وأعلم.

(2)

البخاري (30 - الصوم، 52 - صوم شعبان، 4/ 213/ 1969)، ومسلم (13 - الصيام، 34 - صيامه صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، 2/ 1156/810).

(3)

(الموضع السابق، 1970).

(4)

(الموضع السابق، 2/ 811/ 1156).

(5)

(حسن بهذا السياق). رواه: أحمد (6/ 188)، وأبو داوود (8 - الصيام، 56 - صوم شعبان، 1/ 739/ 2431)، والنسائي في "المجتبى"(22 - الصيام، 70 - صوم النبي صلى الله عليه وسلم، 4/ 199/ 2349) و"الكبرى"(2659 و 2910)، وابن خزيمة (2077)، والحاكم (1/ 434)، والبيهقي في "السنن"(4/ 292) و"الشعب"(3818)، والبغوي في "السنّة"(1779)، والرافعي في "التدوين"(2/ 66)؛ من طريق معاوية بن صالح، ثنا عبد الله بن أبي قيس، سمعت عائشة

رفعته.

ص: 305

وعنها وعن أُمِّ سَلَمَةَ؛ قالَتا: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصومُ شعبانَ إلَّا قليلًا، بل كانَ يَصومُهُ كلَّهُ

(1)

.

وعن أُمِّ سَلَمَةَ؛ قالَتْ: ما رَأيْتُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصومُ شهرينِ متتابعينِ إلَّا شعبانَ ورمضانَ

(2)

.

• وقد رَجَّحَ طائفةٌ مِن العلماءِ - منهُمُ ابنُ المبارَكِ وغيرُهُ - أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لمْ يَسْتكْمِلْ صيامَ شعبانَ، وإنَّما كانَ يَصومُ أكثرَهُ

(3)

.

ويَشْهَدُ لهُ ما في "صحيحِ مسلم"

(4)

عن عائِشَةَ؛ قالَتْ: ما عَلِمْتُهُ (يَعْني: النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم) صامَ شهرًا كلَّهُ إلَّا رمضان. وفي روايةٍ لهُ

(5)

أيضًا عنها قالَتْ: ما رَأيْتُهُ صامَ شهرًا

= قال الحاكم: "على شرط البخاري ومسلم"، ووافقه الذهبي. قلت: معاوية وعبد الله من رجال مسلم وحده، وفي معاوية كلام يسير، فالسند حسن، وقد صحّحه ابن خزيمة والألباني، وأصله في الصحيحين.

(1)

هذه رواية مسلم المتقدّمة نفسها، ولكنّه عنده عن عائشة وحدها.

ورواه: أحمد (6/ 143 و 165)، وعبد بن حميد (1516)، وأبو داوود (8 - الصيام، 59 - كيف كان صلى الله عليه وسلم يصوم، 1/ 740/ 2435)، والترمذي (6 - الصوم، 37 - وصال شعبان برمضان، 3/ 113/ 737)، والنسائي في "المجتبى"(22 - الصوم، 34 - الاختلاف على محمّد بن إبراهيم، 4/ 150/ 2177) و"الكبرى"(2488)، وابن الجارود (400)، والطحاوي (2/ 82)، وابن حبّان (3516)، وأبو نعيم في "المستخرج "(2601 و 2622)، والبيهقي (4/ 292)، والخطيب في "التاريخ"(8/ 145)؛ من طريقين قويّتين، عن أبي سلمة، عن عائشة (إلّا أبا داوود فقال: عن أبي هريرة)

رفعته بهذا اللفظ على التحديد. ولم يذكر أحد منهم أُمّ سلمة! فكأنّه التبس على المصنّف يرحمه الله "أبو سلمة عن عائشة" بـ "أُمّ سلمة وعائشة".

(2)

(صحيح). رواه: إسحاق في "المسند"(1/ 150/ 113 - 114)، وابن ماجه (7 - الصيام، 4 - وصال شعبان برمضان، 1/ 528/ 1648) وليس عنده هذ اللفظ، والترمذي (6 - الصوم، 37 - وصال شعبان ورمضان، 3/ 113/ 736)، والنسائي في "المجتبى"(22 - الصيام، 33 - حديث أبي سلمة، 4/ 150/ 2174 و 2351) و"الكبرى"(2485 و 2661)، والطحاوي (2/ 82)، والبيهقي في "السنن"(4/ 210) و"الشعب"(3817)؛ من طرق، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن أبي سلمة، عن أُمّ سلمة

رفعته.

قال الترمذي: "حديث أُمّ سلمة حديث حسن". قلت: هؤلاء ثقات رجال الشيخين، والطرق إلى منصور صحيحة، فالسند صحيح، وقد صحّحه الألباني.

(3)

وهو ظاهر روايات الصحيحين وغيرهما، وما جاء مطلقًا فهو محمول على المقيّد. ومن المألوف جدًّا أن يقال: قمت ليلة القدر كلّها مع أنّه قد اشتغل حينًا بإعداد سحوره وأكله وغير ذلك من شأنه.

(4)

(13 - الصيام، 34 - صيامه صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، 2/ 810/ 1156). وأصله عند البخاريّ.

(5)

(الموضع السابق، بعدها).

ص: 306

كاملًا منذُ قَدِمَ المدينةَ، إلَّا أنْ يَكونَ رمضانَ. وفي روايةٍ له

(1)

أيضًا " أنَّها قالَتْ: لا أعْلَمُ نبيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأ القرآنَ كلَّهُ في ليلةٍ ولا صامَ شهرًا كاملًا غيرَ رمضانَ. وفي رواية لهُ أيضًا

(2)

؛ قالَتْ: ما رَأيْتُهُ قامَ ليلةَّ حَتى الصَّباحِ ولا صامَ شهرًا متتابعًا إلَّا رمضانَ.

وفي الصَّحيحينِ

(3)

عن ابن عَبَّاسٍ؛ قالَ: ما صامَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا غيرَ رمضانَ. وكانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَكْرَهُ أنْ يَصومَ شهرًا كاملًا غيرَ رمضانَ.

ورَوى عَبْدُ الرَّزَّاقِ في كتابِهِ: عن ابن جُرَيْجٍ، عن عَطاء، قالَ: كانَ ابنُ عَبَّاسٍ يَنْهى عن صيامِ الشَّهرِ كاملًا ويَقولُ: لِيَصُمْهُ إلَّا أيَّامًا، وكانَ يَنْهى عن إفرادِ اليومِ كلَّما مرَّ بهِ، وعن صيامِ الأيَّامِ المعلومةِ، وكانَ يَقولُ: لا تَصُمْ أيَّامًا معلومةً

(4)

.

• فإنْ قيلَ: كيفَ كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَخُصُّ شعبانَ بصيامِ التَّطوُّعِ فيهِ معَ أنَّهُ قالَ: "أفضلُ الصِّيامِ بعدَ شهرِ رمضانَ شهرُ اللهِ المحرَّمُ"

(5)

؟

فالجوابُ: أن جماعةً مِن النَّاسِ أجابوا عن ذلكَ بأجوبةٍ غيرِ قويَّةٍ، لاعتقادِهِم أن صيامَ المحرَّمِ والأشهرِ الحرمِ أفضلُ مِن صيامِ شعبانَ، كما صَرَّحَ بهِ الشَّافعيَّةُ وغيرُهُم، والأظهرُ خلافُ ذلكَ، وأن صيامَ شعبانَ أفضلُ مِن صيامِ الأشهرِ الحرمِ.

ويَدُلُّ على ذلكَ ما خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ أنَسٍ: سُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الصِّيامِ أفضلُ بعدَ رمضانَ؟ قالَ: "شعبانُ؛ تعظيمًا لرمضانَ"

(6)

. وفي إسنادِهِ مقالٌ.

(1)

(6 - المسافرين، 18 - جامع صلاة الليل، 1/ 514/ 746).

(2)

(الموضع السابق، 1/ 515/ 746).

(3)

البخاري (30 - الصيام، 53 - ما يذكر من صومه صلى الله عليه وسلم، 4/ 215/ 1971)، ومسلم (13 - الصيام، 34 - صيامه صلى الله عليه وسلم، 2/ 811/ 1157).

(4)

يعني: في نفل الصيام المطلق. وقد تقدّم تفصيل القول في هذا المعنى (ص 305).

(5)

رواه مسلم. تقدّم تفصيل القول فيه وفي تخريجه (ص 85).

(6)

(ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة (9763)، والترمذي (5 - الزكاة، 28 - فضل الصدقة، 3/ 51 / 661)، وأبو يعلى (6/ 154)، والطحاوي (2/ 83)، والبيهقي في "السنن"(4/ 305) و"الشعب"(3819) و"الأوقات"(26)، والخطيب (13/ 314)، والبغوي في "السنّة"(1778)، وابن الجوزي في "الواهيات"(914)، والمزّي (13/ 154)؛ من طريق صدقة بن موسى، ثنا ثابت، عن أنس

رفعه.

قال الترمذي: "غريب، وصدقة ليس عندهم بذاك القويّ"، وأقرّه البغوي وابن الجوزي والمنذري وابن رجب والشوكاني والألباني، وزاد العسقلاني: "ويعارضه ما رواه مسلم (فذكر حديث صيام المحرّم).

ص: 307

وفي "سنن ابن ماجَهْ"؛ أن أُسامَةَ كانَ يَصومُ الأشهرَ الحرمَ، فقالَ لهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"صُمْ شوَّالًا"، فتَرَكَ الأشهرَ الحرمَ، فكانَ يَصومُ شوَّالًا حتَّى ماتَ

(1)

. وفي إسنادِهِ إرسالٌ. وقد رُوِيَ مِن وجهٍ آخرَ يَعْضُدُهُ

(2)

. فهذا نَصٌّ في تفضيلِ صيامِ شوَّالٍ على صيامِ الأشهرِ الحرمِ.

وإنَّما كانَ كذلكَ لأنَّهُ يَلي رمضانَ مِن بعدِهِ، كما أن شعبانَ يَليهِ مِن قبلِهِ، وشعبانُ أفضلُ؛ لصيامِ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لهُ دونَ شوَّالٍ، فإذا كانَ صيامُ شوَّالٍ أفضلَ مِن الأشهرِ الحرمِ؛ فلأَنْ يَكونَ صومُ شعبانَ أفضلَ بطريقِ الأَوْلى

(3)

.

فظَهَرَ بهذا أن أفضلَ التَّطوُّعِ ما كانَ قريبًا مِن رمضانَ قبلَهُ وبعدَهُ، وذلكَ ملتحقٌ بصيامِ رمضانَ لقربِهِ منهُ، وتَكونُ منزلتُهُ مِن الصِّيامِ بمنزلةِ السُّننِ الرَّواتبِ معَ الفرائضِ قبلَها وبعدَها فتَلْتَحِقُ بالفرائضِ في الفضلِ وهيَ تكملةٌ لنقصِ الفرائضِ، وكذلكَ صيامُ ما قبلَ رمضانَ وبعدَهُ. فكما أن السُّننَ الرَّواتبَ أفضلُ مِن التَّطوُّعِ المطلَقِ بالصَّلاةِ؛ فكذلكَ يَكونُ صيامُ ما قبلَ رمضانَ وما بعدَهُ أفضلَ مِن صيامِ ما بَعُدَ منهُ، ويَكونُ قولُهُ "أفضلُ الصِّيامِ بعدَ رمضانَ المحرَّمُ" محمولًا على التَّطوُّعِ المطلقِ بالصِّيامِ. فأمَّا ما قبلَ رمضانَ وبعدَهُ؛ فإنَّهُ ملتحقٌ بهِ في الفضلِ. كما أن قولَهُ في تمامِ الحديثِ "وأفضلُ الصَّلاةِ بعدَ المكتوبةِ قيامُ الليلِ" إنَّما أُريدَ بهِ تفضيلُ قيامِ الليلِ على التَّطوُّعِ المطلقِ دونَ السُّننِ الرَّواتبِ عندَ جمهورِ العلماءِ خلافًا لبعضِ الشَّافعيَّةِ

(4)

. واللهُ أعلمُ -.

• فإنْ قيلَ: فقد قالَ صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الصِّيامُ صيامُ داوودَ، كانَ يَصومُ يومًا ويُفْطِرُ

(1)

(ضعيف). سيأتي تفصيل القول فيه (ص 491).

(2)

(ضعيف). سيأتي تفصيل القول فيه وبيان أنّه لا يعضد ما سبقه (ص 492).

(3)

هذا يستلزم أن يثبت فضل صيام شوّال على الحرم وفضل صيام شعبان على شوّال، وهيهات.

(4)

هذا كلام طويل فيه نظر من وجوه: أوّلها: أنّ قوله صلى الله عليه وسلم مقدّم على فعله عند الأُصوليّين، وذلك لأنّ قوله صلى الله عليه وسلم "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرّم" هو تقرير لقاعدة عامّة بخلاف صومه في شعبان الذي هو واقعة حال يتطرّق إليها الاحتمال. والثاني: أنّ حديثي أنس وأسامة ضعيفان لا يقومان سندًا لحديث مسلم، ولو فرضنا أنّ حديث أُسامة قابل للتقوية؛ فمتنه حمّال لأوجه لا يقوم لمتن حديث مسلم الصحيح الصريح. والثالث: أنّ تفضيل الرواتب على قيام الليل محلّ نظر، بل النظر فيه أكبر من النظر في القضيّة محلّ البحث، والمستشهد به لها كالمستجير من الرمضاء بالنار.

ص: 308

يومًا"

(1)

، ولم يَصُمْ كذلكَ، بل كانَ يَصومُ سردًا ويُفْطِرُ سردًا، ويَصومُ شعبانَ وكلَّ اثنينِ وخميسٍ. قيلَ: صيامُ داوودَ الذي فَضَّلَهُ على الصِّيامِ قد فَسَّرَهُ صلى الله عليه وسلم في حديثٍ آخرَ بأنَّهُ صومُ شطرِ الدَّهرِ، وكانَ صيامُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا جُمعَ يَبْلُغُ صيامَ نصفِ الدَّهرِ أو يَزيدُ عليهِ

(2)

، وقد كانَ يَصومُ معَ ما سَبَقَ ذكرُهُ يومَ عاشوراءَ وتسعَ ذي الحِجَّةِ

(3)

، وإنَّما كانَ يُفَرِّقُ صيامَهُ ولا يَصومُ يومًا ويُفْطِرُ يومًا؛ لأنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يَتَحَرَّى صيامَ الأوقاتِ الفاضلةِ، ولا يَضُرُّ تفريقُ الصِّيامِ والفطرِ أكثرَ مِن يومٍ ويومٍ إذا كانَ القصدُ بهِ التَّقوِّيَ على ما هوَ أفضلُ مِن الصِّيامِ مِن أداءِ الرِّسالةِ وتبليغِها والجهادِ عليها والقيامِ بحقوقِها، وكانَ صيامُ يومٍ وفطرُ يومٍ يُضْعِفُهُ عن ذلكَ. ولهذا لمَّا سُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديثِ أبي قَتادَةَ عمَّن يَصومُ يومًا ويُفْطِرُ يومينِ؛ قالَ:"وَدِدْتُ أنِّي طُوِّقْتُ ذلكَ"

(4)

. وقد كانَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بن العاصِ لمَّا كَبُرَ يَسْرُدُ الفطرَ أحيانًا لِيَتَقَوَّى بهِ على الصِّيامِ ثمَّ يَعودُ فيَصومُ ما فاتَهُ؛ محافظةً على ما فارَقَ عليهِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم مِن صيامِ شطرِ الدَّهرِ. فحَصَلَ للنَّبي صلى الله عليه وسلم أجرُ صيامِ شطرِ الدَّهرِ وأزيدُ منهُ بصيامِهِ المتفرَّقِ، وحَصَلَ لهُ صلى الله عليه وسلم أجرُ تتابعِ الصِّيامِ بتمنِّيهِ لذلكَ، وإنَّما عاقَهُ عنهُ الاشتغالُ بما هوَ أهمُّ منهُ وأفضلُ. واللهُ أعلمُ.

• وقد ظَهَرَ بما ذَكَرْناهُ وجهُ صيام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لشعبانَ دونَ غيرِهِ مِن الشُّهورِ، وفيهِ معانٍ أُخرُ، وقد ذَكَرَ منها صلى الله عليه وسلم في حديثِ أُسامَةَ معنيينِ:

أحدُهُما: أنَّهُ شهرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عنهُ بينَ رجب ورمضانَ؛ يُشيرُ [إلى] أنَّهُ لمَّا اكْتَنَفَهُ شهرانِ عظيمانِ؛ الشَّهرُ الحرامُ وشهرُ الصِّيامِ؛ اشْتَغَلَ النَّاسُ بهِما عنهُ فصارَ مغفولًا عنهُ.

وكثيرٌ مِن النَّاس يَظُنُّ أن صيامَ رجبٍ أفضلُ مِن صيامِهِ؛ لأنَّهُ شهرٌ حرامٌ، وليسَ كذلكَ.

(1)

قطعة من حديث ابن عمرو المتّفق عليه المتقدّم آنفًا.

(2)

من جمع ما ثبت من النصوص في صيامه صلى الله عليه وسلم على صعيد واحد، ثمّ نظر فيها نظرة علميّة بعيدة عن العواطف؛ أيقن أنّ هذه دعوى مجرّدة لا تسندها الأدلّة. ولعمر الله إنّه صلى الله عليه وسلم لخير الأنبياء وأحبّهم وأقربهم إلى الله وأكثرهم له عبوديّة بما صحّ من النصوص، ثمّ هو بعد ذلك غنيّ عن غلوّ الغالين ووضع الوضّاعين.

(3)

أمّا يوم عاشوراء؛ فنعم، وأمّا عشر ذي الحجّة؛ فقد تقدّم لك ضعف الحديث فيه، وفيه مزيد من التفصيل يأتي في وظائف ذي الحجّة إن شاء الله.

(4)

قطعة من حديث رواه مسلم (13 - الصيام، 36 - استحباب صيام ثلاثة أيّام، 2/ 818/ 1162).

ص: 309

ورَوى ابنُ وَهْبٍ: عن مُعاوِيَةَ بن صالحٍ، عن أزْهَرَ بن سعيدٍ

(1)

، عن أبيهِ، عن عائِشَةَ؛ قالَتْ: ذُكِرَ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ناسٌ يَصومونَ رجبًا، فقالَ:"فأينَ هُم عن شعبانَ"

(2)

.

وفي قولِهِ صلى الله عليه وسلم: "يَغْفُلُ النَّاسُ عنهُ بينَ رجبٍ ورمضانَ"، إشارةٌ إلى أنَّ بعضَ ما يَشْتَهِرُ فضلُهُ مِن الأزمانِ أوِ الأماكنِ أوِ الأشخاصِ قد يَكونُ غيرُهُ أفضلَ منهُ إمَّا مطلقًا أو لخصوصيَّةٍ فيهِ لا يَتَفَطَّنُ لها أكثرُ النَّاسِ فيَشْتَغِلونَ بالمشهورِ عنهُ ويُفَوِّتونَ تحصيلَ فضيلةِ ما ليسَ بمشهورٍ عندَهُم

(3)

.

وفيهِ دليلٌ على استحبابِ عمارةِ أزمانِ غفلةِ النَّاسِ بالطَّاعةِ، وأنَّ ذلكَ محبوبٌ للهِ عز وجل، كما كانَ طائفةٌ مِن السَّلفِ يَسْتَحِبُّونَ إحياءَ ما بينَ العشاءينِ بالصلاةِ ويَقولونَ: هيَ ساعةُ الغفلةِ

(4)

، وكذلكَ فضلُ القيامِ في وسطِ الليلِ لشمولِ الغفلةِ لأكثرِ النَّاسِ فيهِ عن الذِّكرِ، وقد قالَ صلى الله عليه وسلم:"إنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَكونَ ممَّن يَذْكُرُ الله في تلكَ السَّاعةِ فكُنْ"

(5)

. ولهذا المعنى كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُريدُ أنْ يُؤَخِّرَ العشاءَ إلى نصفِ الليلِ، وإنَّما عَلَّلَ تركَ ذلكَ بخشيةِ المشقَّةِ على النَّاسِ

(6)

. ولما خَرَجَ صلى الله عليه وسلم على أصحابهِ وهُم يَنْتَظِرونَهُ لصلاةِ العشاءِ؛ قالَ [لهُم]: "ما يَنْتَظِرُها أحدٌ مِن أهلِ الأرضِ غيرُكُم"

(7)

. وفي هذا إشارةٌ إلى فضيلةِ التَّفرُّدِ بذكرِ اللهِ في وقتٍ من الأوقاتِ لا يوجَدُ فيهِ ذاكرٌ لهُ. ولهذا وَرَدَ في فضلِ الذِّكرِ في الأسواقِ ما وَرَدَ مِن الحديثِ المرفوعِ والآثارِ الموقوفةِ، حتَّى

(1)

في خ و م و ن: "أزهر بن سعد"! والذي يروي عنه معاوية هو أزهر بن سعيد لا ابن سعد.

(2)

(ضعيف). تقدّم (ص 287) عن أمّ أزهر لا عن أبيه، فإن كان ذكر أبيه محفوظًا فعلّة جديدة.

(3)

كما يتأخّر كثيرون في الحضور إلى المسجد لصلاة القيام في رمضان حتّى تنقضي جماعة العشاء! ويقوم آخرون الليل بطوله ثمّ يستعجلون الفجر قبل الجماعة من شدّة نعاسهم!

(4)

تخصيص ما بين العشاءين بصلاة مخصوصة غير سنّة المغرب وركعتين قبل فرض العشاء والتزامها بدعوى أنّه وقت غفلة أو غير ذلك لا يجوز، بل هو داخل في باب البدع المنهيّ عنها كما قدّمت.

(5)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 115)، لكنّ المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم "في تلك الساعة" هو ثلث الليل الأخير لا وسطه كما تقدّم.

(6)

كما جاء في حديث ابن عبّاس عند: البخاري (9 - المواقيت، 24 - النوم قبل العشاء، 2/ 50/ 571)، ومسلم (5 - المساجد، 39 - وقت العشاء، 1/ 444/ 642).

(7)

رواه: البخاري (الموضع السابق، 569 و 570)، ومسلم (الموضع السابق، 1/ 442/ 639).

ص: 310

قالَ أبو صالحٍ: إنَّ الله لَيَضْحَكُ ممَّن يَذْكُرُهُ في السُّوقِ. وسببُ ذلكَ أنَّهُ ذكرٌ في موطنِ الغفلةِ بينَ أهلِ الغفلةِ.

وفي حديثِ أبي ذَرٍّ المرفوعِ: "ثلاثةٌ يُحِبُّهُمُ اللهُ: قومٌ ساروا ليلتَهُم

(1)

، حتَّى إذا كانَ النَّومُ أحبَّ إليهِم ممَّا يُعْدَلُ بهِ، فوَضَعوا رؤوسَهُم، فقامَ أحدُهُم يَتَمَلَّقُني ويَتْلو آياتي. وقومٌ كانوا في سريَّةٍ، فانْهَزَموا، فتَقَدَّمَ أحدُهُم، فلَقِيَ العدوَّ فصَبَرَ حتَّى قُتِلَ". وذَكَرَ أيضًا قومًا جاءَهُم سائلٌ فسَألَهُم فلمْ يُعْطوهُ، فانْفَرَدَ أحدُهُم حتَّى أعْطاهُ سرًّا

(2)

. فهؤلاءِ الثَّلاثةُ انْفَرَدوا عن رفقتِهِم بمعاملةِ اللهِ عز وجل سرًّا بينَهُم وبينَهُ، فأحَبَّهُمُ اللهُ. فكذلكَ مَن يَذْكُرُ الله في غفلةِ النَّاسِ أو مَن يَصومُ في أيَّامِ غفلةِ النَّاسِ عن الصِّيامِ

(3)

.

وفي إحياءِ الوقتِ المغفولِ عنهُ بالطَّاعةِ فوائدُ

(4)

:

منها: أنَّهُ يَكونُ أخفى، وإخفاءُ النَّوافلِ وإسرارُها أفضلُ، ولا سيَّما الصِّيامِ؛ فإنَّهُ سرٌّ بينَ العبدِ وربِّهِ، ولهذا قيلَ: إنَّهُ ليسَ فيهِ رياءٌ.

وقد صامَ بعضُ السَّلفِ أربعينَ سنةً لا يَعْلَمُ بهِ أحدٌ، كانَ يَخْرُجُ مِن بيتِهِ إلى السُّوقِ ومعَهُ رغيفانِ، فيَتَصَدَّقُ بهِما ويَصومُ، فيَظُنُّ أهلُهُ أنَّهُ أكلَهُما، ويَظُنُّ أهلُ السُّوقِ

(1)

في خ: "بليلتهم"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 110).

(3)

هذا حسن على أن لا يتّخذ عادة وتوقيتًا كما تقدّم بيانه! فلو أنّ رجلًا رأى الظالمين من المسلمين - ولا أقول النصارى - الذين ينبعثون في ليلة رأس السنة الميلاديّة فجرًا وعهرًا، فحمله ذلك على صيام ذاك اليوم وقيام تلك الليلة يناجي ربّه ويحمده على أنّه لم يجعله من أُولئك الهوامّ ويسأله أن يتولّاه برحمته ويصلحه ويصلح أحوال المسلمين، لكان حسنًا. فإن جعل هذا الفعل عادة موقوتة يلتزمها كلّ عام أو دعا الناس إليها؛ صار بدعة تبدأ صغيرة ثمّ تتحوّل إلى ضلالة عظيمة.

ولقد رأيت بعض المعثّرين من المشايخ وأنصاف المتعلّمين في دمشق الشام - فرّج الله عن أهلها - يجمعون العامّة في المساجد ويحيون بهم ليلة ميلاد المسيح المزعومة بقراءة الموالد وتلاوة الأناشيد ودق الدفوف، فسألت متعجّبًا عن المناسبة، فقال بعضهم: أما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم "نحن أحقّ بموسى منهم" وصام عاشوراء؟ فكذلك نحن أحقّ بعيسى من النصارى! فانصرفت متألّمًا وأنا أقول في نفسي: سبحان الله! كيف يستجرّ الشيطان بني آدم وإلى أيّ درك يحملهم؟! أترى الشيطان أفرح بأهل المجون الذين أحيوا ليلتهم بالخمور والفجور أم بأُولئك المعثّرين الذين جمعوا بدعة المولد إلى بدعة التوقيت إلى بدعة مضاهأة النصارى فضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعًا؟!

(4)

على أن يكون مقيّدًا بالضوابط المتقدّمة.

ص: 311

أنَّهُ أكَلَ في بيتِهِ.

وكانوا يَسْتَحِبُّونَ لمَن صامَ أنْ يُظْهِرَ ما يُخْفي بهِ صيامَهُ.

فعنِ ابن مَسْعودٍ قالَ: إذا أصْبَحْتُمْ صيامًا؛ فأصْبِحوا مدَّهنين.

وقالَ قتادَةُ: يُسْتَحَبُّ للصَّائمِ أنْ يَدَّهِنَ حتَّى تَذْهَبَ عنهُ غُبْرَةُ الصِّيامِ.

وقالَ أبو التَّيَّاحِ: أدْرَكْتُ أبي ومشيخةَ الحيِّ إذا صامَ أحدُهُمُ ادَّهَنَ ولَبِسَ أحسنَ ثيابِهِ.

ويُرْوى أنَّ عيسى بنَ مَرْيَمَ عليه السلام قالَ: إذا كانَ يومُ صومِ أحدِكُم؛ فلْيَدْهَنْ لحيتَهُ ولْيَمْسَحْ شفتيهِ مِن دهنِهِ حتَّى يَنْظُرَ النَّاظرُ إليهِ [فـ) ـيَرى أنَّهُ ليسَ بصائمٍ.

اشْتَهَرَ بعضُ الصَّالحينَ بكثرةِ الصِّيامِ، فكانَ يَجْتَهِدُ في إظهارِ فطرِهِ للنَّاسِ، حتَّى [كانَ] يَقومُ يومَ الجمعةِ والنَّاسُ مجتمعونَ في مسجدِ الجامعِ، فيَأْخُذُ إبريقًا، [فـ) ـيَضَعُ بلبلتَهُ في فيهِ ويَمَصُّهُ ولا يَزْدَرِدُ منهُ شيئًا ويَبْقى ساعةً كذلكَ لِيَنْظُرَ النَّاسُ إليهِ فيَظنُّوا أنَّهُ يَشْرَبُ الماءَ، وما يَدْخُلُ إلى حلقِهِ منهُ شيءٌ.

كم يَسْتُرُ الصَّادقونَ أحوالَهُم وريحُ الصِّدقِ يَنُمُّ عليهِم.

ريحُ الصِّيامِ أطيبُ مِن ريحِ المسكِ، تَسْتَنْشِقُهُ قلوبُ المؤمنينَ وإنْ أُخْفِيَ، وكلَّما طالَتْ عليهِ المدَّةُ؛ ازْدادَ قوَّةُ ريحِهِ.

كَمْ أكْتُمُ حُبَّكُمْ عَنِ الأغْيارِ

وَالدَّمْعُ يُذيعُ في الهَوى أسْراري

كَمْ أسْتُرُكُم هَتَكْتُمُ أسْتاري

مَنْ يُخْفي في الهَوى لَهيبَ النَّارِ

ما أسَرَّ أحدٌ سريرةً إلَّا ألْبَسَهُ اللهُ رداءَها علانيةً.

وَهَبْني كَتَمْتُ السِّرَّ أوْ قُلْتُ غَيْرَهُ

أتَخْفى عَلى أهْلِ القُلوبِ السَّرائِرُ

أبى ذاكَ أنَّ السِّرَّ في الوَجْهِ ناطِقٌ

وَأنَّ ضَميرَ القَلْبِ في العَيْنِ ظاهِرُ

ومنها: أنَّهُ أشقُّ على النُّفوسِ، وأفضلُ الأعمالِ أشقُّها على النُّفوسِ

(1)

. وسببُ

(1)

لا يخلو هذا التعميم من نظر، والأمثلة الشاهدة لذلك كثيرة جدًّا.

ص: 312

ذلكَ أن النُّفوسَ تتأسَّى بما تُشاهِدُ [هُ] مِن أحوالِ أبناءِ الجنسِ، فإذا كَثُرَتْ يقظةُ النَّاسِ وطاعاتُهُم

(1)

؛ كَثُرَ أهلُ الطَّاعةِ لكثرةِ المقتدينَ بهِم، فسَهُلَتِ الطَّاعاتُ. وإذا كَثُرَتِ الغفلاتُ وأهلُها؛ تَأسَّى بهِم عمومُ النَّاسِ، فيَشُقُّ على نفوسِ المتيقِّظينَ طاعاتُهُم؛ لقلَّةِ مَن يَقْتَدونَ بهِم فيها.

ولهذا المعنى قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "للعاملِ منهُم أجرُ خمسينَ منكُم، إنَّكُم تَجِدونَ على الخيرِ أعوانًا ولا يَجِدونَ"

(2)

.

وقالَ صلى الله عليه وسلم: "بَدَأ الإسلامُ غريبًا، وسَيَعودُ غريبًا كما بَدَأ، فطوبى للغرباءِ"

(3)

. وفي روايةٍ: قيلَ: ومَنِ الغرباءُ؟ قالَ: "الذينَ يُصْلِحونَ إذا فَسَدَ النَّاسُ"

(4)

.

(1)

في خ ون: "وطاعتهم"، والأولى ما أثبتّه من م وط.

(2)

(لم أقف عليه بهذا التمام). القطعة الأولى من الحديث جاءت عن جماعة من الصحابة منهم أبو ثعلبة الخشني وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وعتبة بن غزوان ومازن بن صعصعة، وبعض أسانيدها صحيحة، وليس في شيء منها ذكر هذه الزيادة.

(3)

رواه مسلم (1 - الإيمان، 65 - الإسلام بدأ غريبًا، 1/ 130/ 145) من حديث أبي هريرة.

(4)

(صحيح). وقد جاء من حديث جماعة من الصحابة:

• فرواه: ابن حبّان في "المجروجن"(2/ 226)، والآجرّي في "الشريعة"(104)، والطبراني (8/ 152/ 7659)، وابن بطّة (532)، والبيهقي في "الزهد"(201)، وابن عساكر (33/ 369 - 370)؛ من طريق كثير بن مروان الشامي، ثنا عبد الله بن يزيد الدمشقي، ثنا أنس وواثلة وأبو الدرداء وأبو أُمامة

به مرفوعًا. قال الهيثمي (1/ 111): "كثير كذّبه يحيى والدارقطني". قلت: وعبد الله مثله. والسند ساقط.

• ورواه: ابن أحمد (4/ 73)، والبغوي (2/ 401 - إصابة)، وابن عديّ (4/ 1615)، وابن الأثير في "الغابة"(3/ 457)؛ من طريقين، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، ثنا يوسف بن سليمان، عن جدّته ميمونة، عن عبد الرحمن بن سنّة

رفعه. قال الهيثمي (7/ 281): "فيه ابن أبي فروة وهو متروك". قلت: ويوسف وجدّته مجهولان. فالسند مظلم، وقد ضعّفه البخاري والبغوي وابن السكن وابن عديّ والعسقلاني.

• ورواه: ابن أبي شيبة (34357) بسند لا بأس به عن إبراهيم بن أبي المغيرة، وهناد في "الزهد"(1262) بسند صحيح عن يحيى بن سعيد؛ كلاهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذان معضلان.

• ورواه: الدولابي (1/ 192)، والطبراني في "الكبير"(6/ 164/ 5867) و"الأوسط"(3080) و"الصغير"(291)، وابن عديّ (2/ 462)، والقضاعي (1055)؛ من طرق، عن أحمد بن عمرو بن السرح، ثنا بكر بن بكر، وهو ثقة". قلت: بل ليّن، وفي روايته عن أبي حازم ضعف، وقد اضطرب، فرواه ابن عديّ (2/ 462) وابن بطة (32) عنه عن أبي حازم (وزاد ابن عديّ: عن الأعرج) عن أبي هريرة

رفعه!

• ورواه: الطحاوي (1/ 298)، والطبراني في "الأوسط"(4912 و 8711 و 8972)، والبيهقي في "الزهد"(200)؛ من طريقين تقوّي إحداهما الأُخرى، عن خالد بن أبي عمران، ثنا أبو عيّاش، سمعت =

ص: 313

وفي "صحيح مسلم"

(1)

مِن حديثِ: مَعْقِلِ بن يَسارٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"العبادةُ في الهَرْجِ كالهجرةِ إليَّ". وخَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ، ولفظُهُ:"العبادةُ في الفتنةِ كالهجرةِ إليَّ"

(2)

.

وسببُ ذلكَ أن النَّاسَ في زمنِ الفتنِ يَتَّبِعونَ أهواءَهُم ولا يَرْجِعونَ إلى دينٍ، فيَكونُ حالُهُم شبيهًا بحالِ الجاهليَّةِ، فإذا انْفَرَدَ مِن بينِهِم مَن يَتَمَسَّكُ بدينِهِ ويَعْبُدُ ربَّهُ ويَتَّبعُ مراضِيَهُ ويَجْتَنِبُ مساخطَهُ؛ كانَ بمنزلةِ مَن هاجَرَ مِن بين أهلِ الجاهليَّةِ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مؤمنًا بهِ متَّبعًا لأوامرِهِ مجتنبًا لنواهيهِ.

ومنها: أنَّ المنفردَ بالطَّاعةِ بينَ أهلِ المعاصي والغفلةِ قد يُدْفَعُ بهِ البلاءُ عن النَّاسِ [كلِّهِم]، فكأنَّهُ يَحْميهِم ويُدافِعُ عنهُم.

وفي حديثِ ابن عُمَرَ الذي رَوَيْناهُ في "جزءِ ابن عَرَفَةَ" مرفوعًا: "ذاكرُ اللهِ في الغافلينَ كالذي يُقاتِلُ عن الفارِّينَ، وذاكرُ اللهِ في الغافلينَ كالشَّجرةِ الخضراءِ في وسطِ الشَّجرِ الذي تَحاتَّ ورقُهُ مِن الصَّريدِ (والصَّريدُ: البردُ الشَّديدُ)، وذاكرُ اللهِ في الغافلينَ يُغْفَرُ لهُ بعددِ كلِّ رطبٍ ويابسٍ، وذاكرُ اللهِ في الغافلينَ يَعْرِفُ مقعدَهُ في الجنَّةِ"

(3)

.

= جابرًا

رفعه. قال الهيثمي: "فيه عبد الله بن صالح كاتب الليث، وهو ضعيف، وقد وثّق". قلت: قد توبع عند الطبراني نفسه، والعلّة من أبي عيّاش؛ فإنّه مجهول الحال أو مشور.

• ورواه الداني (1273 - صحيحة) من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود

رفعه. قال الألباني: "صحيح رجاله ثقات". قلت: قد عنعن الأعمش على تدليسه.

• ورواه: أحمد (1/ 184)، والبزّار (1119)، وأبو يعلى (756)، وعبد الله بن أحمد (1/ 184)؛ من طريق صخر، ثني أبو حازم، ثني ابن لسعد، عن أبيه

رفعه بنحوه. قال الهيثمي: "رجال الصحيح".

قلت: في أبي صخر حميد بن زياد الخرّاط كلام لا ينزل بحديثه عن رتبة الحسن.

• نعم؛ الأوجه الثلاثة الأولى ساقطة، ولكن الحديث صحيح بما تلاها، وقد صحّحه الألباني وغيره.

(1)

(52 - الفتن، 36 - فضل العبادة في الهرج، 4/ 2268/ 2948).

(2)

والفتنة والهرج واحد، وإنّما ذكر اللفظ الآخر لبيان المقصود بالهرج. وهو عند: ابن أبي شيبة (37288)، وأحمد (5/ 27)، والطبراني في "الكبير"(20/ 213/ 942 - 494) و"الصغير"(934)، وأبي نعيم في "الحلية"(3/ 62)؛ من طرق، عن معاوية بن قرّة، عن معقل

رفعه. وهذه طريق مسلم نفسها.

(3)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن عرفة في "جزئه"(45)، وابن عدي في "الكامل"(5/ 1745)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 181)، والبيهقي في "الشعب"(565 و 566)؛ من طريق يحيى بن سليم الطائفي، عن عمران بن مسلم القصير وعبّاد بن كثير، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر

رفعه.

ص: 314

قالَ بعضُ السَّلفِ: ذاكرُ اللهِ في الغافلينَ كمَثَلِ الذي يَحْمي الفئةَ المنهزمةَ، ولولا مَن يَذْكُرُ الله في غفلةِ النَّاسِ؛ لَهَلَكَ النَّاسُ.

رَأى جماعةٌ مِن المتقدِّمينَ في منامِهِم كأنَّ ملائكةً نَزَلَتْ إلى بلادٍ شتَّى، فقالَ بعضُهُم لبعضٍ: اخْسِفوا بهذهِ القريةِ، [فـ]ـقالَ بعضُهُم: كيفَ نَخْسِفُ بها وفلانٌ فيها قائم يُصَلِّي؟

ورَأى بعضُ المتقدِّمينَ في منامِهِ مَن يُنْشِدُ:

لَوْلا الَّذينَ لَهُمْ وِرْدٌ يُصَلونا

وَآخَرونَ لَهُمْ سَرْدٌ يَصومونا

لَدُكْدِكَتْ أرْضُكُمْ مِنْ تَحْتِكُمْ سَحَرًا

لِأنَّكُمْ قومُ سَوْءٍ ما تُطيعونا

وفي "مسند البَزَّارِ" عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: "مهلًا عن اللهِ مهلًا! فلولا عبادٌ رُكَّعٌ وأطفالٌ رُضَّع وبهائمُ رُتَّعٌّ؛ لَصُبَّ عليكُمُ العذابُ صبًّا"

(1)

.

= قال ابن عدي: "هذا عندي قد حمل يحيى بن سليم حديث عبّاد بن كثير على حديث عمران بن مسلم فجمع بينهما، وعمران خير من عبّاد". قلت: يحيى سيء الحفظ، وقد جمع بين لفظي عمران وعبّاد بصورة لا يطمئنّ القلب إليها إطلاقًا، وهذا من أدلّة سوء تحمّله وأدائه للحديث. وعمران بن مسلم الذي يروي عن ابن دينار وعنه ابن سليم قال البخاري منكر الحديث وفرّق بينه وبين القصير وتابعه جماعة، فإن كانا واحدًا كما ذهب إليه جماعة؛ فهذا لا يعفي روايته عن ابن دينار أو رواية ابن سليم عنه من النكارة. وعبّاد بن كثير هالك.

فالسند واه، وقد أعلّه ابن عديّ والمنذري والذهبي والعراقي والألباني.

(1)

(ضعيف). رواه: البزّار (3212 - كشف الأستار)، وأبو يعلى (6402 و 6633)، والطبراني في "الأوسط"(7081)، وابن عدي (1/ 243)، والبيهقي (3/ 345)، والخطيب في "التاريخ"(6/ 64)؛ من طريق إبراهيم بن خثيم بن عراك بن مالك، عن أبيه، عن جدّه، عن أبي هريرة

رفعه. قال الهيثمي (10/ 230): "فيه إبراهيم بن خشتم وهو ضعيف". قلت: إبراهيم متروك، والسند ساقط.

وله شاهد عند: ابن أبي عاصم في "الآحاد"(965)، وابن قانع في "المعجم"(2/ 184/ 675) على خطأ عنده بيّنه العسقلاني في "الإصابة"(3/ 159)، والطبراني في "الكبير"(22/ 309/ 785) و"الأوسط"(6539)، وابن عدي (4/ 1622، 6/ 2377)، وابن منده (3/ 406 - إصابة)، وأبي نعيم في "المعرفة"(2/ 104 - التلخيص)، والبيهقي في "السنن"(3/ 345) و"الشعب"(9280)، وابن الأثير في "الغابة"(4/ 113) تعليقًا؛ من طريق عبد الرحمن بن سعد المؤذّن، عن مالك بن عبيدة بن مسافع الدئلي، عن أبيه، عن جدّه

رفعه. قال الذهبي: "مالك وأبوه مجهولان". وقال الهيثمي (10/ 230): "فيه عبد الرحمن بن سعد بن عمّار، وهو ضعيف". قلت: فهذه آفات ثلاث، والسند واه.

وله شاهد رواه أبو نعيم في "المعرفة"(2/ 104 - التلخيص) و"الحلية"(6/ 100) من طريق معاوية بن صالح، عن أبي الزاهريّة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذا مرسل أو معضل؛ فإنّ أكثر رواية أبي الزاهريّة عن التابعين.

ص: 315

ولبعضِهِم في المعنى:

لَوْلا عِبادٌ لِلإلهِ رُكَّعُ

وَصِبْيَةٌ مِنَ اليَتامى رُضَّعُ

وَمُهْمَلاتٌ في الفَلاةِ رُتَّعُ

صُبَّ عَلَيْكُمُ

(1)

العَذابُ الموجِعُ

وقد قيلَ في تأْويلِ قولِهِ تعالى {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]: إنَّهُ يَدْخُلُ فيها دفعُهُ عن العصاةِ بأهلِ الطَّاعةِ.

وجاءَ في الآثارِ: إنَّ الله يَدْفَعُ بالرَّجلِ الصَّالح عن أهلِهِ وولدِهِ وذرِّيَّتِهِ ومَن حولَهُ

(2)

.

وفي بعضِ الآثارِ

(3)

: يَقولُ اللهُ عز وجل: أحَبُّ العبادِ إليَّ: المتحابُّونَ بجلالي، المشَّاؤونَ في الأرضِ بالنَّصيحةِ، المشَّاؤونَ على أقدامِهِم إلى الجمعاتِ (وفي روايةٍ: المعلَّقةُ قلوبُهُم بالمساجدِ)، والمستغفرونَ بالأسحارِ، فإذا أرَدْتُ إنزالَ عذابٍ بأهلِ الأرضِ فنَظَرْتُ إليهِم؛ صَرَفْتُ العذابَ عن النَّاسِ.

وقالَ مَكْحولٌ: ما دامَ في الناسِ خمسةَ عشرَ يَسْتَغْفِرُ كلٌّ منهُمُ [الله] كلَّ يومٍ خمسًا وعشرينَ مرَّةً؛ لم يَهْلِكوا بعذابٍ عامٍّ

(4)

.

والآثارُ في هذا المعنى كثيرةٌ جدًّا.

• وقد رُوِيَ في صيامِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شعبانَ معنًى آخرَ، وهوَ أنَّهُ تُنْسَخُ فيهِ الآجالُ. فرُوِيَ بإسناد فيهِ ضعفٌ عن عائِشَةَ؛ قالَتْ: كانَ أكثرُ صيامِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في شعبانَ، فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ! أرَى أكثرَ صيامِكَ في شعبانَ. قالَ: "إنَّ هذا الشَّهرَ يُكْتَبُ فيهِ لملَكِ

= فحديث أبي هريرة ساقط، وحديث مسافع واهٍ، وحديث أبي الزاهريّة مرسل؛ فلا يفيدها اجتماعها قوّة، وقد ضعّف الحديث ابن عديّ والبيهقي والذهبي والهيثمي والعسقلاني وغيرهم.

(1)

كذا في خ و ن وط، وفي م وأشار إليها في خ:"لصبّ فيكم".

(2)

قد أحسن يرحمه الله إذ لم يجعله من المرفوع؛ فإن المرفوع فيه جاء عند ابن جرير (5755 و 5756) من حديث ابن عمر بسند ساقط ومن حديث جابر بسند واه.

(3)

يعني: الإسرائيليات. وهو عند: ابن أبي شيبة (34279) من حديث يزيد بن ميسرة عمّا أوحى الله إلى موسى، وأبي نعيم في "الحلية"(5/ 212) من كلام خالد بن معدان.

(4)

وهذا وأمثاله أقوال تذكر لتقوية الفكرة وتثبيتها في الجملة؛ وأمّا على التفصيل والتدقيق؛ فلا بدّ من مرفوع صحيح تقوم به الحجّة، وهيهات!

ص: 316

الموتِ مَن تقْبِضُ، فأنا لا أُحِبُّ أنْ يُنْسَخَ اسمي إلَّا وأنا صائمٌ"

(1)

. وقد رُوِيَ مرسلًا، وقيلَ: إنَّهُ أصحُّ.

وفي حديثٍ آخرَ مرسلِ: "تُقْطَعُ الآجالُ مِن شعبانَ إلى شعبانَ، حتَّى إن الرَّجلَ لَيَنْكِحُ ويولَدُ لهُ ولقدْ خَرَجَ اسمُهُ في الموتى"

(2)

.

• ورُوِيَ في ذلكَ معنًى آخرُ، وهوَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وقد رُوِيَ مرسلًا، كانَ يَصومُ مِن كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ، وربَّما أخَّرَ ذلكَ حتَّى يَصومَ شعبانَ

(3)

. رَواهُ: ابنُ أبي لَيْلى، عن أخيهِ عيسى، عن أبيهِما، عن عائِشَةَ. خَرَّجَهُ الطبَرانِى. ورَواهُ غيرُهُ وزادَ: قالَتْ عائِشَةُ: فربَّما أرَدْتُ أنْ أصومَ فلم أُطِقْ، حتَّى إذا [صامَ] صُمْتُ معَهُ

(4)

.

وقد يُشْكِلُ على هذا ما في "صحيح مسلم"

(5)

عن عائِشَةَ؛ قالَتْ: كانَ رسولُ اللهِ

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن أبي حاتم (737 و 778) والخطيب (11/ 314) وفي "أوهام الجمع"(2/ 224) من طريق إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت عن هشام بن عروة، والبيهقي في "الفضائل"(26) والأصبهاني (1827) من طريق النضر بن كثير عن يحيى بن سعيد؛ كلاهما عن عروة، عن عائشة

رفعته. وفي الطريق الأولى إسماعيل بن قيس متروك منكر الحديث، وفي الثانية النضر بن كثير متروك.

ورواه أبو يعلى (4911): ثنا سويد بن سعيد، ثنا مسلم بن خالد، عن طريف، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن عائشة

رفعته. قال الهيثمي (3/ 195): "فيه مسلم بن خالد الزنجي، وفيه كلام، وقد وثّق". قلت: لا يعدو مسلم أن يكون صالحًا في الشواهد. وسويد ليّن عمي فصار يتلقّن. وطريف ليّن على جهالته. فالسند واه.

وعلى أنّ هذه الأسانيد دون حدّ الاعتبار؛ لا يقوّي أحدها الآخر، ولا تتقوّى بالشواهد؛ فإنّ شواهدها مثلها في السقوط أو دونها، فليس في الباب حديث ضعيف بله الحسن والصحيح، ولذلك استنكرها ابن كثير.

(2)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن أبي الدنيا في "الموت"(10/ 281 - إتحاف السادة)، والطبري (31040)، والبيهقي في "الشعب"(3839)، والبغوي في "التفسير"(5/ 111)؛ من طريق قويّة، عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس

به موقوفًا تارة وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم تارة.

وفيه علل: أولاها: أنّه معضل. والثانية: أنّ عثمان هذا فيه ضعف. والثالثة: أنّه اضطرب فيه وقفًا وإرسالًا. ولذلك قال ابن كثير: "مثله لا يعارض به النصوص". يعني نصوص القرآن في أنّ الليلة التي يفرق فيها كلّ أمر حكيم هي ليلة القدر. فهذه علّة رابعة. فالسند واه كما ترى، وشواهده أوهى منه كما تقدّم.

(3)

(ضعيف). رواه الطبراني في "الأوسط"(2119) من هذه الطريق. قال الهيثمي (3/ 195): "فيه محمّد بن أبي ليلى وفيه كلام". وقال العسقلاني في "الفتح"(4/ 214): " [محمّد] بن أبي ليلى ضعيف".

(4)

(لم أقف عليه بهذا اللفظ). لكنّ معناه مخرّج عند الشيخين.

(5)

(13 - الصيام، 36 - استحباب صيام ثلاثة أيّام، 2/ 818/ 1160).

ص: 317

- صلى الله عليه وسلم يَصومُ ثلاثةَ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، لا يُبالي مِن أيِّهِ كانَ.

وفيهِ أيضًا

(1)

عنها؛ قالَتْ: ما عَلِمْتُهُ (تَعْني: النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم) صامَ شهرًا كاملًا إلَّا رمضانَ، ولا أفْطَرَهُ كلَّهُ حتَّى يَصومَ منهُ، حتَّى مضى لسبيلِهِ.

وقد يُجْمَعُ بينَهُما بأنَّهُ قد يَكونُ صومُهُ في بعضِ الشُّهورِ لا يَبْلُغُ ثلاثةَ أيَّامٍ، فيُكْمِلُ ما فاتَهُ مِن ذلكَ في شعبانَ، أو أنَّهُ كانَ يَصومُ مِن كل شهرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ معَ الاثنينِ والخميسِ، فيُؤَخِّرُ الثلاثةَ خاصَّةً حتَّى يَقْضِيَها في شعبانَ معَ صومِهِ الاثنينِ والخميسَ.

وبكلِّ حالٍ؛ [فـ]ـكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عملُهُ ديمةٌ، وكانَ إذا فاتَهُ شيءٌ مِن نوافلِهِ قَضاهُ، كما [كانَ] يَقْضي ما فاتَهُ مِن سننِ الصَّلاةِ، وما فاتَهُ مِن قيامِ الليلِ قَضاهُ بالنَّهارِ. وكانَ إذا دَخَلَ شعبانُ وعليهِ بقيَّةٌ مِن صيامِ تطوُّعٍ لمْ يَصُمْهُ؛ قَضاهُ في شعبانَ حتَّى يَسْتكمِلَ نوافلَهُ بالصَّومِ قبلَ دخولِ رمضانَ

(2)

، فكانَتْ عائِشَةُ حينئذٍ تَغْتَنِمُ قضاءَهُ لنوافلِهِ فتَقْضي ما عليها مِن فرضِ رمضانَ حينئذٍ لفطرِها فيهِ بالحيضِ، وكانَتْ في غيرِهِ مِن الشُّهورِ مشتغلةً بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ المرأةَ لا تَصومُ وبعلُها شاهدٌ إلَّا بإذنِهِ

(3)

.

فمَن دَخَلَ عليهِ شعبانُ وقد بَقِيَ عليهِ مِن نوافلِ صيامِهِ في العامِ؛ اسْتُحِبَّ لهُ قضاؤُها فيهِ حتَّى يُكَمِّلَ نوافلَ صيامِهِ بينَ الرَّمضانينِ.

ومَن كانَ عليهِ [شيءٌ] مِن قضاءِ رمضانَ؛ وَجَبَ عليهِ قضاؤُهُ معَ القدرةِ، ولا يَجوزُ لهُ تأْخيرُهُ إلى ما بعدَ رمضانَ آخرَ لغيرِ ضرورةٍ. فإنْ فَعَلَ ذلكَ وكانَ تأْخيرُهُ لعذرٍ مستمرٍّ بينَ الرَّمضانينِ؛ كانَ عليهِ قضاؤُهُ بعدَ رمضانَ الثَّاني ولا شيءَ عليهِ معَ القضاءِ. وإنْ كانَ ذلكَ لغيرِ عذرٍ: فقيلَ: يَقْضي ويُطْعِمُ معَ القضاءِ لكلِّ يومٍ مسكينًا، وهوَ قولُ مالِكٍ والشَّافِعِيِّ وأحْمَدَ اتِّباعًا لآثارٍ وَرَدَتْ بذلكَ. وقيلَ: يَقْضي ولا إطعامَ عليهِ، وهوَ

(1)

(13 - الصيام، 34 - صيامه صلى الله عليه وسلم في غير رمضان، 2/ 809/ 156). وأصله عند البخاري (30 - الصوم، 52 - صوم شعبان، 4/ 213/ 1969).

(2)

أمّا أنّ عمله صلى الله عليه وسلم كان ديمة وأنّه كان يقضي ما فاته من السنن أحيانًا؛ فصحيح مخرّج عند الشيخين وغيرهما. وأمّا أنّه صلى الله عليه وسلم كان يقضي نوافل صومه في شعبان؛ فرأي يحتمل الخطأ والصواب، وقد تبيّن لك أنّ الأسانيد فيه ضعيفة، ولذلك استنكره العسقلاني في "الفتح"(4/ 214 - 215) ورجّح غيره. والله أعلم.

(3)

إلّا في قضاء الفريضة إن ضاق الوقت أو علمت أنّها لن تتمكّن من صومه في المستقبل لسبب ما.

ص: 318

قولُ أبي حَنِيفَةَ. وقيلَ: يُطْعِمُ ولا يَقْضي، وهوَ ضعيفٌ

(1)

،

• وقد قيلَ في صومِ شعبانَ معنًى آخرُ، وهوَ أن صيامَهُ كالتَّمرينِ على صيامِ رمضانَ، لئلَّا يَدْخُلَ في صيامِ رمضانَ على مشقَّةٍ وكلفةٍ، بل يَكونُ قد تَمَرَّنَ على الصِّيامِ واعْتادَهُ ووَجَدَ بصيامِ شعبانَ قبلَهُ حلاوةَ الصِّيامِ ولذَّتَهُ، فيَدْخُلُ في صيامِ رمضانَ بقوَّةٍ ونشاطٍ.

ولمَّا كانَ شعبانُ كالمقدِّمةِ لرمضانَ؛ شُرِعَ فيهِ ما يُشْرَعُ في رمضانَ مِن الصِّيامِ وقراءةِ القرآنِ؛ لِيَحْصُلَ التَّأهُّبُ لِتَلَقِّي رمضان وتَرْتاضَ النُّفوسُ بذلكَ على طاعةِ الرَّحمنِ.

رُوِّينا بإسنادٍ ضعيفٍ عن أنَسٍ، قالَ: كانَ المسلمونَ إذا دَخَلَ شعبانُ، أكَبُّوا على المصاحفِ يَقْرَؤونَها، وأخْرَجوا زكاةَ أموالِهِم، تقويةً للضَّعيفِ والمسكينِ على صيامِ رمضانَ

(2)

.

وقالَ سَلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ: كانَ يُقالُ: شهرُ شعبانَ شهرُ القرَّاءِ.

وكانَ حَبيبُ بنُ أبي ثابِتٍ إذا دَخَلَ شعبانُ قالَ: هذا شهرُ القرَّاءِ.

وكانَ عَمْرُو بنُ قَيْسٍ المُلائِيُّ إذا دَخَلَ شعبانُ أغْلَقَ حانوتَهُ وتَفَرَّغَ لقراءةِ القرآنِ.

قالَ الحَسَنُ بنُ سَهْلٍ: قالَ شعبانُ: يا ربِّ! جَعَلْتَني بينَ شهرينِ عظيمينِ فما لي؟ قالَ: جَعَلْتُ فيكَ قراءةَ القرآنِ.

يا مَن فَرَّطَ في الأوقاتِ الشَّريفةِ وضَيَّعَها وأوْدَعَها الأعمالَ السَّيِّئةَ، وبئسَ ما اسْتَوْدَعَها!

مَضى رَجَبٌ وما أحْسَنْتَ فيهِ

وهذا شَهْرُ شَعْبانَ المُبارَكْ

(1)

لأنّه معارض لعموم قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وهذا بيّن. وكذلك قول من ألزم المؤخّر الصيام والفدية معًا ضعيف من وجوه: أوّلها: أنّ الإلزام بالفدية تشريع لا بدّ فيه من دليل، ولا دليل. والثاني: أنّ الصيام بعد رمضان الثاني سدّ الدين وقضاه؛ فما الحاجة لهذه الفائدة الربويّة بعده؟! والثالث: أنّ طرد هذا الحكم أنّ من أخّر رمضانين عليه أن يدفع فديتين ومن أخّر عشرًا يدفع عشر فديات

وهكذا دواليك!

فالراجح المعتمد هنا قول من قال: يقضي ما أفطره ولا فدية عليه، وإن كان أساء وظلم بتأخيره.

(2)

(ضعيف). رواه يزيد بن أبان الرقاشي عن أنس، ويزيد ضعيف منكر الحديث.

ص: 319

فَيا مَنْ ضَيَّعَ الأوْقاتَ جَهْلًا

بِحُرْمَتِها أفِقْ وَاحْذَرْ بَوارَكْ

فَسَوْفَ تُفارِقُ اللَذَّاتِ قَهْرًا

وَيُخْلي المَوْتُ كَرْهًا مِنْكَ دارَكْ

تَدارَكْ ما اسْتَطَعْتَ مِنَ الخَطايا

بِتَوْبَةِ مُخْلِصٍ وَاجْعَلْ مَدارَكْ

عَلى طَلَبِ السَّلامَةِ مِنْ جَحِيمٍ

فَخَيْرُ ذوي الجَرائِمِ مَنْ تَدارَكْ

‌المجلس الثاني في ذكر نصف شعبان

خَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ وأبو داوودَ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ وابنُ ماجَهْ وابنُ حِبَّانَ في "صحيحه" والحاكِمُ مِن حديثِ: العَلاءِ بن عَبْدِ الرَّحْمنِ، عن أبيهِ، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إذا انْتَصَفَ شعبانُ؛ فلا تَصوموا حتَّى رمضانَ"

(1)

.

وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وغيرُهُ.

• واخْتَلَفَ العلماءُ في صحَّةِ هذا الحديثِ ثمَّ في العملِ بهِ:

• فأمَّا تصحيحُهُ؛ فصَحَّحَهُ غيرُ واحدٍ، منهُمُ التِّرْمِذِيُّ وابنُ حِبَّانَ والحاكِمُ والطَّحاوِيُّ وابنُ عَبْدِ البَرِّ، وتَكَلَّمَ فيهِ مَن هوَ أكبرُ مِن هؤلاءِ وأعلمُ وقالوا: هوَ حديثٌ

(1)

(حسن). رواه: عبد الرزاق (7325)، وابن أبي شيبة (9026)، وأحمد (2/ 442)، والدارمي (2/ 17)، وابن ماجه (7 - الصيام، 5 - النهي أن يتقدّم رمضان، 1/ 528/ 1651)، وأبو داوود (8 - الصيام، 12 - كراهية ذلك، 1/ 713/ 2337)، والترمذي (6 - الصوم، 38 - كراهية الصوم في النصف، 3/ 115/ 738)، والنسائي في "الكبرى"(2911)، والطحاوي (2/ 82)، والعقيلي (3/ 354)، وابن حبّان (3589 و 3591)، والطبراني في "الأوسط"(6859)، وابن عدي (1/ 226، 2/ 476، 3/ 1073، 4/ 1617، 5/ 1918)، والدارقطني (2/ 191)، وابن حزم في "المحلّى"(7/ 25 و 26)، والبيهقي (4/ 209)، والخطيب (8/ 48)؛ من طرق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة

رفعه.

قال أبو داوود: "قال أحمد: هذا حديث منكر. وكان عبد الرحمن لا يحدّث به. قلت لأحمد: لم؟ قال: لأنّه كان عنده أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصل شعبان برمضان وقال عن النبيّ صلى الله عليه وسلم خلافه". قال أبو داوود: "وليس هذا عندي خلافه، ولم يجئ به غير العلاء عن أبيه". وقال الذهبي: "هذا أغرب ما أتى به العلاء". قلت: العلاء صدوق ربّما وهم من رجال مسلم، لكنّه ردّ على من أنكر عليه عند أبي داوود وغيره؛ قال:"اللهمّ إنّ أبي حدّثني عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك"، فهذا يدفع الوهم هاهنا، فالسند حسن، وقد قوّاه الترمذي وابن حبّان والحاكم والطحاوي وابن عبد البرّ فيما ذكر ابن رجب، وصحّحه الألباني.

وتوبع العلاء عند ابن عدي (1/ 226) من وجه فيه إبراهيم بن محمّد بن أبي يحيى المتّهم المتروك.

ص: 320

منكرٌ، منهُم عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ مَهْدِيٍّ والإمامُ أحْمَدُ وأبو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ والأثْرَمُ. وقالَ أحْمَدُ: لمْ يَرْوِ العلاءُ حديثًا أنكرَ منهُ. ورَدَّهُ بحديثِ "لا تَقَدَّموا رمضانَ بصومِ يومٍ أو يومينِ"؛ فإنَّ مفهومَهُ جوازُ التَّقدُّمِ بأكثرَ مِن يومينِ

(1)

. وقالَ الأثْرَمُ: الأحاديثُ كلُّها تُخالِفُهُ. يُشيرُ إلى أحاديثِ صيامِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شعبانَ كلَّهُ ووصلِهِ برمضانَ ونهيهِ عن التَّقدُّمِ على رمضانَ بيومينِ، فصارَ الحديثُ حينئذٍ شاذًّا مخالفًا للأحاديثِ الصَّحيحةِ. وقالَ الطَّحاوِيُّ: هوَ منسوخٌ. وحَكى الإجماعَ على تركِ العملِ بهِ. وأكثرُ العلماءِ على أنَّهُ لا يُعْمَلُ بهِ. وقد أخَذَ بهِ آخرونَ - منهُمُ الشَّافِعِي وأصحابُهُ - ونَهَوْا - عن ابتداءِ التَّطوُّعِ بالصِّيامِ بعدَ نصفِ شعبانَ لمَن ليسَ لهُ عادةٌ، ووافَقَهُم بعضُ المتأخرينَ مِن أصحابِنا.

• ثمَّ اخْتَلَفوا في علَّةِ النَّهيِ:

فمنهُم مَن قالَ: خشيةَ أنْ يُزادَ في صيامِ رمضانَ ما ليسَ منهُ. وهذا بعيدٌ جدًّا فيما بعدَ النِّصفِ، وإنَّما يُحْتَمَلُ هذا في التَّقدُّمِ بيومٍ أو يومينِ.

ومنهُم مَن قالَ: النَّهيُ للتَّقوِّي على صيامِ رمضانَ شفقةَ أنْ يُضْعِفَهُ ذلكَ عن صيامِ رمضانَ. ورُوِيَ ذلكَ عن وَكيعٍ. ويَرُدُّ هذا صيامُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم شعبانَ كلَّهُ أو أكثرَهُ ووصلُهُ برمضانَ.

هذا كلُّهُ في الصِّيامِ بعدَ نصفِ شعبانَ.

• فأمَّا صيامُ يومِ النِّصفِ منهُ؛ فغيرُ منهيٍّ عنهُ؛ فإنَّهُ مِن جملةِ أيَّامِ البيضِ الغرِّ المندوبِ إلى صيامِها مِن كلِّ شهرٍ. وقد وَرَدَ الأمرُ بصيامِهِ مِن شعبانَ بخصوصِهِ؛ ففي "سنن ابن ماجَهْ" بإسنادٍ ضعيفٍ: عن عَلِيٍّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إذا كانَ ليلةُ نصفِ شعبانَ؛ فقوموا ليلَها، وصوموا نهارَها؛ فإنَّ الله تَعالى يَنْزِلُ فيها لغروبِ الشَّمسِ إلى السَّماءِ الدُّنيا فيَقولُ: ألا مستغفرٌ فأغْفِرَ لهُ، ألا مسترزقٌ فأرْزُقَهُ، ألا مبتلًى فأُعافِيَهُ، ألا كذا، ألا كذا، حتَّى يَطْلُعَ الفجرُ"

(2)

.

(1)

في هذا المفهوم نظر ظاهر.

(2)

(موضوع). رواه: الفاكهي (1837)، وابن ماجه (5 - الإقامة، 191 - ليلة النصف، 1/ 444 / 1388)، والبيهقي في "الشعب"(3822 و 3823) و"الفضائل"(33)، وابن الجوزي في "الواهيات" =

ص: 321

• وفي فضلِ ليلةِ نصفِ شعبانَ أحاديثُ أُخَرُ متعدِّدةٌ، وقدِ اخْتُلِفَ فيها، فضَعَّفَها الأكثرونَ، وصَحَّحَ ابنُ حِبَّانَ بعضَها وخَرَّجَهُ في "صحيحه".

ومِن أمثلِها حديثُ عائِشَةَ؛ قالَتْ: فَقَدْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فخَرَجْتُ، فإذا هوَ بالبقيعِ رافعٌ رأْسَهُ إلى السَّماءِ، فقالَ:"أكُنْتِ تخافينَ أنْ يَحيفَ اللهُ عليكِ ورسولُهُ؟ ". فقُلْت: يا رسولَ اللهِ! ظَنَنْتُ أنَّكَ أتَيْتَ بعضَ نسائِكَ. فقالَ: "إنَّ الله [تَبارَكَ و] تَعالى يَنْزِلُ ليلةَ النِّصفِ مِن شعبانَ إلى السَّماءِ الدُّنيا، فيَغْفِرُ لأكثرَ مِن عددِ شعرِ غنمِ كلبٍ"

(1)

. خَرَّجَهُ

= (923)، والأصبهاني في "الترغيب"(1833)، والمزّي في "التهذيب"(33/ 107)؛ من طريق أبي بكر بن أبي سبرة، عن إبراهيم بن محمّد، عن معاوية بن عبد الله بن جعفر، عن أبيه، عن عليّ

رفعه.

قال البوصيري: "إسناده ضعيف لضعف ابن أبي سبرة، واسمه أبو بكر بن عبد الله بن محمّد بن أبي سبرة، قال فيه أحمد وابن معين: يضع الحديث". قلت: وإبراهيم بن محمّد هو ابن أبي يحيى كما استظهر العسقلاني في "التهذيب"، وهو متروك متّهم. فالسند ساقط، وقد وهّاه ابن الجوزي، وضعّفه المنذري والبوصيري، وقال العراقي:"باطل"، وقال الألباني:"موضوع السند".

(1)

(ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة (29849)، وإسحاق في "المسند"(2/ 327/ 850، 3/ 979/ 1700 و 1701)، وأحمد (6/ 238)، وعبد بن حميد (1509)، وابن ماجه (الموضع السابق، 1389)، والترمذي (6 - الصوم، 39 - ليلة النصف، 3/ 116/ 739)، والدارقطني في "النزول"(89 - 91)، واللالكائي في "الاعتقاد"(764)، والبيهقي في "الشعب"(3824 و 3826) و"الفضائل"(37)، والبغوي في "السنّة"(992)، وابن الجوزي في "الواهيات"(915 و 918)؛ من طريقين قويّتين، عن الحجّاج بن أرطاة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة

رفعته. قال الترمذي: "لا نعرفه إلّا من هذا الوجه". قلت: واهٍ فيه علل: أولاها: أنّ الحجّاج كثير الخطأ ليّن الحديث. والثانية: أنّه كثير التدليس، وقد عنعن، على أنّ البخاري قال:"لم يسمع من يحيى". والثالثة: أنّ فيه انقطاعًا آخر، فقد قال البخاري:"يحيى بن أبي كثير لم يسمع من عروة". والرابعة: أنّ البيهقي رواه في "الشعب"(3825) من وجه قويّ عن الحجّاج عن يحيى مرسلًا وقال: "المحفوظ هذا الحديث من حديث الحجّاج بن أرطاة عن يحيى بن أبي كثير مرسلًا". والخامسة: أنّ فيه خلافًا أشار إليه الدارقطني بقوله: "روي من وجوه، وإسناده مضطرب غير ثابت".

ورواه الفاكهي في "مكّة"(1839) من طريق عمّار بن عمرو بن هاشم الجنبي، عن أبيه، عن الحجّاج، عن مكحول، عن كثير بن مرّة الحضرمي، عن عائشة

رفعته. وعمّار وعمرو ضعيفان، وقد خالفا رواية الثقات عن الحجّاج، وهذا حدّ النكارة.

ورواه الإسماعيلي في "شيوخه"(1/ 407/ 71) من طريق الشعبي، عن عروة، عن عائشة. لكنّ في طريقه عبّاد بن أحمد بن عبد الرحمن العرزمي متروك، وعمّه وجدّه لم أعرفهما.

وروى البيهقي في "الفضائل"(35) معناه من طريق النضر بن كثير، عن يحيى بن سعيد، عن عروة، عن عائشة. لكنّ النضر متروك.

ورواه البيهقي في "الشعب"(3837) عن وهيب المكّي عن أبي رهم عن عائشة. لكن من طريق محمّد =

ص: 322

الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ ماجَهْ، وذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ عن البُخارِيِّ أنَّهُ ضَعَّفَهُ.

وخَرَّجَ ابنُ ماجَهْ مِن حديثِ: أبي موسى، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إنَّ الله لَيَطَّلعُ ليلةَ النِّصفِ مِن شعبانَ فيَغْفِرُ لجميعِ خلقِهِ؛ إلَّا لمشركٍ أو مشاحنٍ"

(1)

.

= بن عيسى بن حبّان المدائني متروك، عن سلام بن سليمان المدائني ضعيف، عن سلام الطويل متروك، وأبو رهم ما عرفته، وظاهر السند الانقطاع، وقد ضعّفه البيهقي.

وروى البيهقي معناه في "فضائل الأوقات"(36) من طريق أنس عن عائشة. لكن في الطريق إلى أنس سعد بن عبد الكريم متّهم، وأبو النعمان السعدي ما عرفته.

ورواه إسحاق (3/ 981/ 1702) من طريق ضعيفة عن الوضين بن عطاء عن النبيّ؛ صلى الله عليه وسلم. وهذا ساقط لضعف الطريق إلى الوضين، ولين الوضين في نفسه، ولإعضاله.

وجملة القول أنّ عمدة طرق هذا المتن هي الطريق الأولى، وهي ضعيفة بل واهية، والطرق التي تليها ساقطة لا تصلح لصالحة، فاجتماعها لا يزحزح هذا المتن عن الضعف، ولذلك ضعّفه البخاري والترمذي والدارقطني والبيهقي والبغوي وابن الجوزي والألباني.

(1)

(صحيح بشواهده). رواه: ابن ماجه (5 - إقامة الصلاة، 191 - ليلة النصف من شعبان، 1/ 445 / 1390)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(510)، والطبراني (9/ 3019 - تهذيب الكمال)، والدارقطني في "النزول"(94)، واللالكائي في "أُصول الاعتقاد"(763)، والبيهقي في "الشعب"(3834) و"فضائل الأوقات"(38)، وابن الجوزي في "الواهيات"(922)، والمزّي في "الهذيب"(9/ 309)؛ من طريق ابن لهيعة، (قال مرّة: عن الزبير بن سليم، ومرّة: عن الضحّاك بن أيمن، ومرّة: عن الربيع بن سليمان)، عن الضحّاك بن عبد الرحمن بن عرزب، [عن أبيه]، سمعت أبا موسى

رفعه.

وهذا سند واهٍ فيه علل: أشار إلى أولاها البوصيري بقوله: "إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة". والثانية: أنّه اضطرب في شيخه فيه على ثلاثة مجاهيل، وإن كنت أُرجّح أنّ الربيع بن سليمان محرّف عن الزبير بن سليم. والثالثة: أنّ عبد الرحمن بن عرزب مجهول إن أُثبت والسند منقطع إن أُسقط كما فعل بعض الرواة.

فالسند واه لكن بغير متّهم ولا متروك، فيتأهّل لينتفع بالشواهد إذا تكاثرت كما هو الحال هنا.

• وله شاهد رواه: الفاكهي في "مكّة"(1838)، والدارمي في "الجهميّة"(136)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(509)، والبزّار (80 و 80 م)، وابن خزيمة في "التوحيد"(ص 136)، والعقيلي (3/ 29)، وابن عديّ (5/ 1946)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(2/ 149)، والدارقطني في "النزول"(75 و 76)، واللالكائي في "أصول الاعتقاد"(750)، وأبو نعيم في "أصبهان"(2/ 2)، والبيهقي في "الشعب"(3827 - 3829)، والبغوي في "التفسير"(5/ 111) و"السنّة"(993)، وابن الجوزي في "الواهيات"(916)؛ من طريق عبد الملك بن عبد الملك من ولد ابن حمد، عن مصعب بن أبي ذئب، عن القاسم بن محمّد، عن أبيه أو عمّه، [عن أبي بكر]

رفعه. وهذا سند واهٍ: عبد الملك ومصعب مجهولان، وقد تردّد القاسم بين أبيه وعمّه، فإن كان المحفوظ أباه؛ فروايته عن أبي بكر مرسلة.

• وله شاهد رواه: الفاكهي في "مكّة"(1839) من طريق كثير بن مرّة، والطبراني في "الدعاء"(606) والدارقطني في "النزول"(92) والبيهقي في "الشعب"(3838) وابن الجوزي في "الواهيات"(917) من طريق =

ص: 323

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= عروة بن الزبير، وابن الجوزي في "الواهيات"(919) من طريق ابن أبي مليكة، والبيهقي في "الشعب"(3837) من طريق أبي رهم، والبيهقي في "الشعب"(3835) من طريق العلاء بن الحارث؛ خمستهم عن عائشة

رفعته. فأمّا طريق كثير بن مرّة؛ فسيأتيك أنها منكرة جمعت الضعف إلى المخالفة عند الكلام في حديث معاذ الآتي قريبًا. وأمّا طريق عروة؛ ففيها عمرو بن هاشم البيروتي هو أقرب إلى الضعف وسليمان بن أبي كريمة منكر الحديث. وأمّا طريق ابن أبي مليكة؛ ففيها عطاء بن عجلان متهم. وأمّا طريق أبي رهم؛ ففيها سلام بن سليمان المدائني ضعيف وسلام الطويل متروك وأبو رهم ما عرفته. وأمّا الطريق إلى العلاء بن الحارث؛ فلا بأس بها، ولكنّ ابن الحارث لم يلحق عائشة، ولذلك قال المنذري:"مرسل جيّد، ويحتمل أن يكون العلاء أخذه من مكحول". قلت: لأنّ العلاء من الرواة عن مكحول، وقد اشتهر هذا الحديث عن مكحول كما سيأتي، فاحتمال أن يكون العلاء تلقّاه عنه ثمّ أرسله راجح، لكنّه على أيّ الحالين يبقى أصلًا صالحًا للتقوّي من حديث عائشة وينتشله من الضعف الشديد الذي في الطرق الأخرى، ولا سيّما أنّ حديث عائشة المطوّل الضعيف المتقدّم آنفًا يشهد لمعناه بل وللفظه في بعض سياقاته.

• وله شاهد رواه: البزّار (2046 - كشف)، والخطيب في "التاريخ"(14/ 285)، وابن الجوزي في "الواهيات"(921)؛ من طريق قويّة، عن هشام بن عبد الرحمن (أو: ابن عبد الملك) الكوفي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة

رفعه. قال البزّار: "لم يتابع هشام على هذا". وقال الهيثمي (8/ 68): "هشام بن عبد الرحمن لم أعرفه، وبقيّة رجاله ثقات".

• وله شاهد رواه البزّار (2048 - كشف) من طريق ابن لهيعة، عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبادة بن نسيّ، عن كثير بن مرّة، عن عوف بن مالك

رفعه. وهذا منكر فيه علل ثلاث: أشار الهيثمي (8/ 68) إلى الأولى والثانية بقوله: "فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وثّقه أحمد بن صالح وضعّفه جمهور الأئمّة، وابن لهيعة ليّن، وبقيّة رجاله ثقات". ولذلك قال العسقلاني: "إسناد ضعيف". والثالثة: أنّه روي من أوجه قويّة عن كثير بن مرّة موقوفًا ومرسلًا، وهذا هو المعروف عنه، والرفع منكر.

• وله شاهد موقوف على عطاء بن يسار عند اللالكائي (769) بسند جيّد، وله حكم الإرسال.

• وله شاهد فيه لين من حديث عبد الله بن عمرو يأتي بعده.

• وآخر من حديث معاذ يأتي بعده.

• وآخر من حديث عثمان بن أبي العاص يأتي بعده.

• وجاء هذا اللفظ أيضًا في بعض سياقات حديث عليّ الموضوع المتقدّم.

فهذه أسانيد عدّة، لا يخلو شيء منها من ضعف بانقطاع أو إرسال أو جهالة أو سوء حفظ، وبعضها واهٍ، لكنّها سليمة من المتروكين والمتّهمين إلّا حديث عليّ الأخير، فحريّ باجتماعها أن يشدّها وينتشلها من ضعفها ويصحّحها أو يحسنّها على الأقل. وقد مال العقيلي والدارقطني وابن الجوزي إلى أنّه لا يثبت في الباب حديث، وهو حقّ كما رأيت، لكنّ هذا لا يعني أنّ اجتماع الضعاف غير ثابت، وقد قوّى الرواية في هذا الباب البزّار وابن حبّان والبيهقي والمنذري والهيثمي والألباني. والله أعلم.

• تنبيه: جاءت أغلب مفردات هذا المتن وأقوى أسانيده بلفظ: "يطّلع الله إلى عباده ليلة النصف

"، وجاء في أحيان قليلة وأسانيد واهية "ينزل الله ليلة النصف

"، ولذلك فاللفظ الأوّل هو =

ص: 324

وخرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ مِن حديثِ: عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إنَّ الله لَيَطَّلعُ إلى خلقِهِ ليلةَ النِّصفِ مِن شعبانَ، فيَغْفِرُ لعبادِهِ؛ إلَّا اثنينِ؛ مشاحنٌ أو قاتلُ نفسٍ"

(1)

.

وخَرَّجَهُ ابنُ حِبَّانَ في "صحيحه" مِن حديثِ معاذٍ مرفوعًا

(2)

.

= المحفوظ أو المعروف في هذا المتن واللفظ الثاني بين الشذوذ والنكارة. والله أعلم.

(1)

(صحيح بشواهده إلَّا ذكر قاتل النفس فمنكر). رواه أحمد (2/ 176) من طريق ابن لهيعة، وابن حيّويه في "حديثه"(1144 - صحيحة) من طريق رشدين بن سعد؛ كلاهما عن حييّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن ابن عمرو

رفعه.

قال المنذري: "إسناد ليّن". وقال الهيثمي (8/ 68): "فيه ابن لهيعة وهو ليّن الحديث، وبقيّة رجاله وثّقوا". قلت: ابن لهيعة توبع كما ترى، لكن تبقى العلّة في حييّ؛ فإنّ فيه لينًا لا يطمئنّ القلب معه لتحسين حديثه، ولا سيّما أنّه تفرّد بذكر "قاتل النفس" في سياق ليلة النصف من شعبان ولم يتابعه عليه أحد فيما أعلم، فهذه اللفظة من مناكيره التي حذّر منها أحمد والبخاري وغيرهما.

نعم؛ لبقيّة السياق شواهد يصحّ بها تقدّم أكثرها وسيأتي بعضها قريبًا.

(2)

(صحيح بشواهده). رواه مكحول الشاميّ واختلف عليه فيه على أوجه: روى أوّلها: الفاكهي في "مكّة"(1839) من طريق عمّار بن عمرو بن هاشم الجنبي، عن أبيه، عن حجّاج بن أرطاة، عن مكحول، عن كثير بن مرّة، عن عائشة

رفعته. وعمّار وأبوه ضعيفان، وحجّاج كثير الخطأ والتدليس وقد عنعن. وروى الثاني: ابن أبي عاصم في "السنّة"(511)، وابن أبي شيبة في "العرش"(87)، وابن قانع (1/ 160/ 173)، وابن حبّان (5665)، والدارقطني في "النزول"(78 - 81)، والطبراني (22/ 223/ 590 و 593)، واللالكائي في "أصول الاعتقاد"(760)، والبيهقي في "الشعب"(3832 و 6628)، وابن الجوزي في "الواهيات"(920)؛ من طريق الأحوص بن حكيم، (قال مرّة: عن مهاصر بن حبيب، ومرّة: عن حبيب بن صهيب)، [عن مكحول]، عن أبي ثعلبة الخشني

رفعه. قال الهيثمي (8/ 68): "فيه الأحوص بن حكيم وهو ضعيف". قلت: وحبيب ما وقفت له على ترجمة. وروى الثالث: الطبراني في "الكبير"(20/ 108/ 215) و"الأوسط"(6772)، و"الشاميّين"(203)، والدارقطني في "النزول"(77) و"العلل"(970)، وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 191)، والبيهقي في "الشعب"(3833)، وابن عساكر؛ من طريقين إحداهما قويّة، عن مكحول، عن مالك بن يخامر، عن معاذ

رفعه. قال الدارقطني: "غير محفوظ". قلت: يريد أنّ المحفوظ هو الإرسال لا الوصل على طريقة المتقدّمين في الترجيح، وأمّا على طريقة ابن الصلاح وغيره فالوصل زيادة ثقة، لكنّ العلّة القادحة هنا هي أنّ رواية مكحول عن مالك بن يخامر مرسلة. ولذلك اكتفى الهيثمي (68/ 8) بقوله:"رجاله ثقات". وروى الرابع: اللالكائي في "أصول الاعتقاد"(772)، والبيهقي في "الشعب"(3830)؛ من طريقين قويتين، عن مكحول

به موقوفًا. وله حكم الإرسال. وروى الخامس: عبد الرزّاق (7923 و 7924)، وابن أبي شيبة (29850)، والدارقطني في "النزول"(82)، والبيهقي في "الشعب"(3831)؛ من أوجه يقوّي بعضها بعضًا، عن مكحول، عن كثير بن مرّة

به موقوفًا ومرسلًا. وله حكم الإرسال في كلّ حال. وتابع خالد بن معدان مكحولًا فرواه عن كثير مرسلًا عند الحارث (338 - هيثمي) بسند جيّد.

ص: 325

ويُرْوى مِن حديثِ عُثْمانَ بن أبي العاصِ مرفوعًا: "إذا كانَ ليلةُ النِّصفِ مِن شعبانَ؛ نادى منادٍ: هل مِن مستغفرٍ فأغْفِرَ له؛ هل مِن سائلٍ فأُعْطِيَهُ؟ فلا يَسْألُ أحدٌ شيئًا إلَّا أُعْطيَهُ؛ إلَّا زانيةً بفرجِها أو مشركًا"

(1)

.

وفي البابِ أحاديثُ أُخرُ فيها ضعفٌ

(2)

.

ويُرْوى عن نَوْفٍ البِكالِيِّ؛ أن عَلِيًّا عليه السلام خَرَجَ ليلةَ النِّصفِ مِن شعبانَ، فأكثَرَ الخروجَ فيها يَنْظُرُ إلى السَّماءِ، فقالَ: إنَّ داوودَ عليه السلام خَرَجَ ذاتَ ليلةٍ في مثلِ هذهِ السَّاعةِ، فنَظَرَ إلى السَّماءِ، فقالَ: إنَّ هذهِ السَّاعةَ ما دَعا الله أحدٌ إلَّا أجابَهُ، ولا اسْتَغْفَرَ [هُ] أحدٌ في هذهِ الليلةِ إلَّا غَفَرَ لهُ، ما لم يَكُنْ عشَّارًا أو ساحرًا أو شاعرًا أو كاهنًا أو عريفًا أو شرطيًّا أو جابيًا أو صاحبَ كوبةٍ أو عُرْطُبَةٍ (قالَ نَوْفٌ: الكوبَةُ الطَّبلُ، والعُرْطُبَةُ الطُّنبورُ). اللهمَّ! ربَّ داوودَ! اغْفِرْ لمَن دَعاكَ في هذهِ الليلةِ ولمَنِ اسْتَغْفَرَكَ فيها

(3)

.

= فالوجهان الأوّلان منكران جمعا الضعف إلى المخالفة. والثلاثة التالية يمكن الجمع بينها بأنّ مكحولًا كان يختصر فيقفه تارة ويرسله أو يرويه عن كثير مرسلًا أو معاذ موصولًا تارات أُخرى. ولا يبعد أن يكون مكحول تلقّاه عن كثير عن معاذ فدلّسه عن معاذ، لكن يبقى هذا في باب الظنّ، وأمّا الواقع الملموس فيفيد أنّ اجتماع الأوجه الثلاثة الأخيرة لا يزحزح حديث مكحول عن الضعف بإرسال أو انقطاع.

لكن الشواهد المتقدّمة والتالية تشدّ هذا المرسل أو المنقطع وتصحّحه.

(1)

(ضعيف بهذا السياق). رواه: الخرائطي في "المساوئ"(490)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(3836) و"الفضائل"(34)؛ من طريق مرحوم بن عبد العزيز، عن داوود بن عبد الرحمن، عن هشام بن حسّان، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص

رفعه.

وهذا ضعيف من وجوه: أوّلها: أنّهم تكلّموا في رواية هشام عن الحسن خاصّة وأنّها مرسلة. والثاني: أنّ الحسن عنعن على تدليسه وترجيحهم عدم سماعه من عثمان. والثالث: أنّ الحديث روي عن عثمان بن أبي العاص عند: أحمد (4/ 22 و 218)، وابن خزيمة في "التوحيد"(ص 135)، وابن قانع (2/ 388/ 941)، والطبراني في "الكبير"(9/ 54/ 8371 و 8373 و 8374 و 8375) و"الأوسط"(2790)، وابن عدي، وغيرهم؛ من أوجه بعضها صحيح لذاته بلفظ: "تفتح أبواب السماء نصف الليل فينادي مناد

إلّا زانية تسعى بفرجها أو عشّارًا"، وليس في شيء منها ذكر ليلة النصف من شعبان ولا المشرك، فالظاهر أنّه دخل حديث في حديث على هشام أو الذي دلّسه عنه. والرابع: أنّه مخالف لجمهرة الأحاديث المتقدّمة الواردة في ليلة شعبان، فليس في شيء منها ذكر الزانية.

(2)

وقد تقدّم ذكر أكثرها في شواهد الأحاديث المتقدّمة.

(3)

رواه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 79، 6/ 53) بسند مسلسل بالمجاهيل ومن ظاهره أنّه من قصص=

ص: 326

• وليلةُ النِّصفِ مِن شعبانَ كانَ التَّابعونَ مِن أهلِ الشَّامِ كخالِدِ بن مَعْدانَ ومَكْحولٍ ولُقْمانَ بن عامِرٍ وغيرِهِم يُعَظِّمونَها ويَجْتَهِدونَ فيها في العبادةِ، وعنهُم أخَذَ النَّاسُ فضلَها وتعظيمَها، وقد قيلَ: إنَّهُ بَلَغَهُم في ذلكَ آثارٌ إسرائيليَّةٌ

(1)

. فلمَّا اشْتَهَرَ ذلكَ عنهُم في البلدانِ؛ اخْتَلَفَ النَّاسُ في ذلكَ، فمنهُم مَن قَبِلَهُ منهُم ووافَقَهُم

(2)

على تعظيمِها - منهُم طائفةٌ مِن عبَّادِ [أهلِ] البصرةِ وغيرِهِم -، وأنْكَرَ ذلكَ أكثرُ العلماءِ مِن أهلِ الحجازِ - منهُم عطاءٌ وابنُ أبي مُلَيْكَةَ، ونَقَلَهُ عَبْدُ الرَّحمنِ بنُ زَيْدِ بن أسْلَمَ عن فقهاءِ أهلِ المدينةِ، وهوَ قولُ أصحابِ مالِكٍ وغيرِهِم - وقالوا: ذلكَ كلُّهُ بدعةٌ.

واخْتَلَفَ علماءُ أهلِ الشَّامِ في صفةِ إحيائِها على قولينِ:

أحدُهُما: أنَّهُ يُسْتَحَبُّ إحياؤُها جماعة في المساجدِ، كانَ خالِدُ بنُ مَعْدانَ ولُقْمانُ بنُ عامِرٍ وغيرُهُما يَلْبَسونَ فيها أحسنَ ثيابِهِم ويَتبَخَّرونَ ويَكْتَحِلونَ ويَقومونَ في المسجدِ ليلتَهُم تلكَ، ووافَقَهُم إسْحاقُ بنُ راهَوَيْهِ على ذلكَ، وقالَ في قيامِها في المساجدِ جماعةً: ليسَ ذلكَ ببدعةٍ. نَقَلَهُ عنهُ حربٌ الكِرْمانِيُّ في "مسائلِهِ".

والثَّاني: أنَّهُ يُكْرَهُ الاجتماعُ لها

(3)

في المساجدِ للصَّلاةِ والقصصِ والدُّعاءِ، ولا يُكْرَهُ أنْ يُصَلِّيَ الرَّجلُ فيها بخاصَّةِ نفسِهِ. وهذا قولُ الأوزاعِيِّ إمامِ أهلِ الشَّامِ وفقيهِهِم [وعالمِهِم]. وهذا هوَ الأقربُ إنْ شاءَ اللهُ.

وقد رُوِيَ عن عُمَرَ بن عَبْدِ العَزيزِ أنَّهُ كتَبَ إلى عاملِهِ بالبصرةِ: عليكَ بأربعِ ليالٍ مِن السَّنةِ؛ فإنَّ الله يُفْرِغُ فيهِنَّ الرَّحمةَ إفراغًا: أوَّلِ ليلةٍ مِن رجبٍ، وليلةِ النِّصفِ مِن شعبانَ، وليلةِ الفطرِ، وليلةِ الأضحى. وفي صحَّتِهِ عنهُ نظرٌ.

وقالَ الشَّافِعِيُّ: بلَغَنا أن الدُّعاءَ يُسْتَجابُ في خمسِ ليالٍ: ليلةِ الجمعةِ، والعيدينِ، وأوَّلِ رجبٍ، ونصفِ شعبانَ. قالَ: وأسْتَحِبُّ كلَّ ما حَكَيْتُ في هذهِ

= أهل الكتاب، وليس عنده ذكر ليلة النصف من شعبان، فالغالب أنّه من كلام نوف، ثمّ أسنده أُولئك المجاهيل إلى عليّ سهوًا أو عمدًا! وما أكثر ما كُذب على عليّ رضي الله عنه!

(1)

والأثر المتقدّم آنفًا يدلُّ على أنّ هذا القول ليس بعيدًا عن الصواب.

(2)

في خ: "من قبله ومنهم من وافقهم"! والصواب ما أثبتّه من م ون وط.

(3)

في م ون وط: "الاجتماع فيها"، والأولى ما أثبتّه من خ.

ص: 327

الليالي.

ولا يُعْرَفُ للإمامِ أحْمَدَ كلامٌ في ليلةِ نصفِ شعبانَ. ويُخَرَّجُ في استحبابِ قيامِها عنهُ روايتانِ مِن الرِّوايتينِ عنهُ في قيامِ ليلةِ العيدِ؛ فإنَّهُ في روايةٍ لمْ يَسْتَحِبَّ قيامَها جماعةً لأنَّهُ لم يُنْقَلْ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ، واسْتَحَبَّها في روايةٍ لفعلِ عَبْدِ الرَّحمنِ بن الأسودِ بن يَزيدَ

(1)

لذلكَ، وهوَ مِن التَّابعينَ. فكذلكَ قيامُ ليلةِ النِّصفِ مِن شعبانَ لم يَثْبُتْ فيها شيءٌ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابهِ، وثَبَتَ فيها عن طائفةٍ من التَّابعينَ مِن أعيانِ فقهاءِ [أهلِ] الشَّامِ

(2)

.

ورُوِيَ عن كعبٍ؛ قالَ: إنَّ الله تَعالى يَبْعَثُ ليلةَ النِّصفِ مِن شعبانَ جبريلَ عليه السلام إلى الجنَّةِ، فيَأْمُرُها أنْ تَتَزَيَّنَ، ويَقولُ: إن الله قدْ أعْتَقَ في ليلتِكِ هذهِ عددَ نجومِ السَّماءِ وعددَ أيَّامِ الدُّنيا ولياليها وعددَ ورقِ الشَّجرِ وزِنَةَ الجبالِ وعددَ الرِّمالِ

(3)

.

ورَوى سَعيدُ بنُ مَنْصورٍ: حَدَّثَنا أبو مَعْشَرٍ، عن أبي حازِمٍ ومُحَمَّدِ بن قَيْسٍ، عن

(1)

في خ وم ون: "عبد الرحمن بن يزيد الأسود"! والصواب ما أثبتّه. وهو عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد، وقد كان يقوم ليلة الفطر بالناس، رواه عنه ابن أبي شيبة (7734).

(2)

تقدّم لك أنّ الذي صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة النصف من شعبان ولم يصحّ عنه غيره أن الله سبحانه يطّلع على عباده تلك الليلة فيغفر لهم جميعًا إلّا مشركًا أو مشاحنًا. وعليه؛ فقد اختصّ سبحانه وتعالى هذه النعمة الجزيلة والهبة الجليلة بأهل التوحيد القويم والقلب السليم ولم يختصّ بها أهل الصيام والقيام وغير ذلك من الصالحات. ومن هنا رأينا النبيّ الكريم الرؤوف الرحيم بالمؤمنين الحريص على دلالتهم على كلّ خير لا يأمرهم بقيام هذه الليلة ولا بصيام نهارها، بل ولا يفعله في نفسه وهو أعلم الناس بمرضاة الربّ تعالى وأحرصهم عليها، وإنّما رأيناه يفعل فيها ما كان يفعله في سائر اليالي. وعلى هذا النهج سار الصحابة الكرام، فلم يصحّ عن واحد منهم أنّه عني بهذه الليلة عناية خاصّة بقيام أو عني بنهارها بصيام. ثمّ جاء بعض الجلّة من التابعين فاستحبّوا قيام هذه الليلة وصيام نهارها، وظلّ السواد الأعظم منهم مستمسكين بمنهج سلفهم من الأصحاب، بل صرّح جماعة منهم بكراهة تخصيص هذه الليلة بصيام وتخصيص نهارها بقيام. ثمّ نبتت نوابت لا يروي ظمأهم إلّا مخالفة السنّة ولا يشفي غليلهم إلّا التقدّم بين يدي الله ورسوله، فتعلّقوا باجتهادات أُولئك الجلّة من التابعين أصحاب الأجر الواحد، ونبذوا ما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام أجمعين والسواد الأعظم من التابعين واتخذوه وراءهم ظهريّا، فكان عاقبة أمرهم أن استحوذ عليهم الشيطان وشغلهم بالصيام والقيام وأنساهم تطهير قلوبهم من علائق الشرك والغلّ والحقد

فلم يلتفتوا إلى ذلك إلّا نادرًا، فكانوا من المحرومين في هذه الليلة العظيمة جزاءً وفاقًا.

(3)

لعلّ هذا أضعاف عدد البشر من لدن آدم حتّى قيام الساعة! فالله المستعان على هذه المرويّات التي ما لها خطام ولا زمام.

ص: 328

عَطاءِ بن يَسارٍ؛ قالَ: ما مِن ليلةٍ بعدَ ليلةِ القدرِ أفضلَ مِن ليلةِ نصفِ شعبانَ، يَنْزِلُ اللهُ عز وجل إلى السَّماءِ الدُّنيا فيَغْفِرُ لعبادِهِ كلِّهِم إلَّا لمشركٍ أو مشاحنٍ أو قاطعِ رحمٍ.

فيا مَن أُعْتِقَ فيها مِن النَّارِ! هنيئًا لكَ هذهِ المنحةُ الجسيمة. ويا أيُّها المردودُ فيها! جَبَرَ اللهُ مصيبتَكَ فإنَّها مصيبةٌ عظيمة.

بَكَيْتُ عَلى نَفْسي وَحَقِّي أنْ أبْكي

وَما أنا مِنْ تَضْييعِ عُمْرِيَ في شَكِّ

لَئِنْ قُلْتُ إنِّي في صَنيعِيَ مُحْسِنُ

فَإنِّيَ في قَوْلي لِذلِكَ ذو إفْكِ

لَيالِيَ شَعْبانٍ ولَيْلَةُ نِصْفِهِ

بِأيَّةِ حالٍ قَدْ تُنَزَّلُ في صَكِّي

(1)

وحَقِّي [لَـ]ـعَمْرِي

(2)

أنْ أُديمَ تَضَرُّعي

لَعَلَّ إلهَ الخَلْقِ يَسْمَحُ بِالفَكِّ

• فيَنْبَغي للمؤمنِ أنْ يَتَفرَّغَ في تلكَ الليلةِ لذكرِ اللهِ تَعالى ودعائِهِ بغفرانِ الذُّنوبِ وسترِ العيوبِ وتفريجِ الكروبِ، وأنْ يُقَدَّمَ على ذلكَ التَّوبةَ؛ فإنَّ الله يَتوبُ فيها على مَن يَتوبُ.

فَقُمْ لَيْلَةَ النِّصْفِ الشَّريفِ مُصَلِّيًا

فَأشْرَفُ هذا الشَهْرِ لَيْلَةُ نِصفِهِ

فَكَمْ مِنْ فَتًى قَدْ باتَ في النِّصْفِ غافِلًا

وَقَدْ نُسِخَتْ فيهِ صَحيفَةُ حَتْفِهِ

فبادِرْ بِفِعْلِ الخَيْرِ قَبْلَ انْقِضائِهِ

وحاذِرْ هُجومَ المَوْتِ فيهِ بِصَرْفِهِ

وَصُمْ يَوْمَها لِلِهِ وَاعْظِمْ رَجاءَهُ

(3)

لِتَظْفَرَ عِنْدَ الكَرْبِ مِنْهُ بِلُطْفِهِ

(4)

ويَتَعَيَّنُ على المسلمِ أنْ يَتَجَنَّبَ الذُّنوبَ التي تَمْنَعُ مِن المغفرةِ وقبولِ الدُّعاءِ في تلكَ الليلةِ. وقد رُوِيَ أنَّها: الشِّركُ، وقتلُ النَّفسِ، والزِّنى

(5)

وهذهِ الثَّلاثةُ أعظمُ الذُّنوبِ عندَ اللهِ عز وجل، كما في حديثِ ابن مَسْعودٍ المتَّفقِ على صحَّتِهِ؛ أنَّهُ سَألَ

(1)

صكّي: صحيفتي. والمعنى: كيف ستكتب هذه الليالي في صحيفتي؟ هل سيكتب لي فيها توبة ومغفرة أو سأكون من الخاسرين؟ نسأل الله العافية.

(2)

ما بين الحاصرتين زيادة يقتضيها الوزن والسياق.

(3)

في ن وحاشية خ: "في النصف آمنًا

لله واحسن رجاءه".

(4)

تقدّم لك أنّ تجريد التوحيد لله وتجريد الاتّباع لنبيّه صلى الله عليه وسلم وسلامة الصدر للمؤمنين هي أعظم أسباب الفوز في هذه الليلة وأنّ اختصاصها بقيام واختصاص نهارها بصيام غير مشروع.

(5)

الروايات الواردة في قتل النفس ضعيفة والواردة في الزنى ساقطة، لكنْ من المعلوم أنّ الإصرار على مثل هذه الكبائر من أعظم أسباب إعراض الله عن العبد وخروجه في تلك الليلة بائرًا خاسرًا.

ص: 329

النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذَّنبِ أعظمُ؟ قالَ: "أن تَجْعَلَ للهِ ندًّا وهوَ خَلَقَكَ". قالَ: ثمَّ أيٌّ؟ قالَ: "أنْ تَقْتُلَ ولدَكَ خشيةَ أنْ يَطْعَمَ معَكَ". قالَ: ثمَّ أيٌّ؟ قالَ: "أنْ تُزانِيَ حليلةَ جارِكَ". فأنْزَلَ اللهُ تَعالى تصديقَ ذلكَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} الآية [الفرقان: 68]

(1)

.

ومِن الذُّنوبِ المانعةِ مِن المغفرةِ أيضًا الشَّحناءُ، وهيَ حقدُ المسلمِ على أخيهِ بغضًا لهُ لهوى نفسِهِ، وذلكَ يَمْنَعُ أيضًا مِن المغفرةِ في أكثرِ أوقاتِ المغفرةِ والرَّحمةِ، كما في "صحيحِ مسلم"

(2)

: عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: "تُفْتَحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ والخميسِ، فيُغْفرُ لكلِّ عبدٍ لا يُشْرِكُ باللهِ شيئًا؛ إلَّا رجلًا كانَتْ بينَهُ وبينَ أخيهِ شحناءُ، يُقالُ: أنْظِروا هذينِ حتَّى يَصْطَلِحا".

وقد فَسَّرَ الأوْزاعِيُّ هذهِ الشَّحناءَ المانعةَ بالذي في قلبِهِ شحناءُ لأصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. ولا ريبَ أن هذهِ الشَّحناءَ أعظمُ جرمًا مِن مشاحنةِ الأقرانِ بعضِهِم بعضًا.

وعنِ الأوْزاعِيِّ أنَّهُ قالَ: المشاحنُ كلُّ صاحبِ بدعةٍ فارَقَ عليهـ[ـا] الأُمَّةَ.

وكذا قالَ ابنُ ثَوْبانَ: المشاحِنُ هوَ: التَّاركُ لسنَّةِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، الطَّاعنُ على أُمَّتِهِ، السَّافِكُ دماءَهُم

(3)

.

وهذهِ الشَّحناءُ - أعْني: شحناءَ البدعةِ - توجِبُ الطعنَ على جماعةِ المسلمينَ واستحلالَ دمائِهِم وأموالِهِم وأعراضِهِم، كبدعِ الخوارجِ والرَّوافضِ ونحوِهِم.

فأفضلُ الأعمالِ: سلامةُ الصَّدرِ مِن أنواعِ الشَّحناءِ كلِّها، وأفضلُها السَّلامةُ مِن شحناءِ أهلِ الأهواءِ والبدعِ التي تَقْتَضي الطَّعنَ على سلفِ الأُمَّةِ وبغضَهُم والحقدَ عليهِم واعتقادَ تكفيرِهِم أو تبديعِهِم وتضليلِهِم، ثمَّ يَلي ذلكَ سلامةُ القلبِ مِن الشَّحناءِ لعمومِ المسلمينَ وإرادةُ الخيرِ لهُم ونصيحتُهُم وأنْ يُحِبَّ لهُم ما يُحِبُّ لنفسِهِ.

(1)

البخاري (65 - التفسير، 2 - سورة البقرة، 3 - فلا تجعلوا لله أندادًا، 8/ 163/ 4477)، ومسلم (1 - الإيمان، 37 - الشرك أقبح الذنوب، 1/ 90/ 86).

(2)

(45 - البرّ، 11 - النهي عن الشحناء، 4/ 1987/ 2565).

(3)

لا ريب أنّ هؤلاء جميعًا أولى الخلق بلقب المشاحن وأعظم جرمًا من مشاحنة الأقران، لكنّ قصر الشحناء عليهم لا يخلو من نظر.

ص: 330

وقد وَصَفَ اللهُ المؤمنينَ عمومًا بأنَّهُم يَقولونَ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

وفي "المسند": عن أنَسٍ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لأصحابِهِ ثلاثةَ أيَّامٍ: "يَطْلُعُ عليكُمُ الآنَ رجلٌ مِن أهلِ الجنَّةِ". فيَطَلُعُ رجلٌ واحدٌ. فاسْتَضافَهُ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرٍو، فنامَ عندَهُ ثلاثًا لِيَنْظُرَ عملَهُ، فلم يَرَ لهُ في بيتِهِ كثيرَ عملٍ، فأخْبَرَهُ بالحالِ، فقالَ لهُ: هوَ ما تَرى؛ إلَّا أنِّي أبِيتُ وليسَ في قلبي شيءٌ على أحدٍ مِن المسلمينَ. فقالَ عَبْدُ اللهِ: بهذا بَلَغَ ما بَلَغَ

(1)

.

وفي "سنن ابن ماجَهْ": عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو؛ قالَ: قيلَ: يا رسولَ اللهِ! أيُّ النَّاسِ أفضلُ؟ قالَ: " [كلُّ] مخمومِ القلبِ صدوقِ اللسانِ". قالوا: صدوقُ اللسانِ نَعْرِفُهُ، فما مخمومُ القلبِ؟ قالَ:"هوَ التَّقيُّ النَّقيُّ الذي لا إثمَ فيهِ ولا بغيَ ولا غلَّ ولا حسدَ"

(2)

.

قالَ بعضُ السَّلفِ: أفضلُ الأعمالِ سلامةُ الصُّدورِ وسخاوةُ النُّفوسِ والنَّصيحةُ للأُمَّةِ. وبهذهِ الخصالِ بَلَغَ مَن بَلَغَ لا بكثرةِ الاجتهادِ في الصَّومِ والصَّلاةِ.

(1)

(صحيح). رواه: معمر في "الجامع"(20559)، وابن المبارك في "الزهد"(694)، وأحمد (3/ 166)، وعبد بن حميد (1159)، والبزّار (1981 - كشف)، والنسائي في "الكبرى"(10699) و"اليوم والليلة"(869)، والبيهقي في "الشعب"(6605)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(6/ 121)، والبغوي في "السنّة"(3535)، والأصبهاني في "الرغيب"(1108 و 2247)، والسمعاني في "الإملاء والاستملاء"(ص 122)؛ من طرق، عن معمر، عن الزهري، عن أنس

رفعه.

قال المنذري: "إسناد على شرط البخاري ومسلم". وصحَّحه ابن كثير. وقال الهيثمي (8/ 82): "رجال الصحيح". قلت: لكن جاء عند البيهقي في "الشعب"(6606) عن الزهري، ثني من لا أتّهم، عن أنس

رفعه! ولا يضرّه لأمرين: أوّلهما: ضعف هذا الطريق وانقطاعها. والآخر: أنّ الزهريّ صرّح بالإخبار عند البيهقي في "الشعب"(6605)، فلو صحّت الطريق الأُخرى؛ فالأمر محمول على أنّه سمعه من أنس مباشرة وبواسطة، فكيف والطريق الأُخرى غير صحيحة؟!

(2)

(صحيح). رواه: الفسوي (2/ 523)، وابن ماجه (37 - الزهد، 24 - في الورع، 2/ 1409/ 4216)، وابن أبي حاتم في "العلل"(1873) تعليقًا، والخرائطي في "المكارم"(44)، والطبراني في "الشاميّين"(1218)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 183، 6/ 69)، والبيهقي في "الشعب"(4800 و 6604)، وابن عساكر (59/ 450 - 452)، من طريق زيد بن واقد، ثني مغيث بن سميّ، عن ابن عمرو

رفعه.

قال ابن أبي حاتم: "قال أبي: هذا حديث صحيح حسن وزيد محلّه الصدق". وقال المنذري والبوصيري: "إسناد صحيح". وصحّحه الألباني.

ص: 331

إخواني! اجْتَنِبوا الذُّنوبَ التي تَحْرِمُ العبدَ مغفرةَ مولاهُ الغفَّار في مواسمِ الرَّحمةِ والتَّوبةِ والاستغفار. أمَّا الشِّركُ؛ فإنَّهُ {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72]. وأمَّا القتلُ؛ فلوِ اجْتَمَعَ أهلُ السَّماواتِ و [أهلُ] الأرضِ على قتلِ رجلٍ مسلمٍ بغيرِ حقٍّ؛ لأكَبَّهُمُ اللهُ جميعًا في النَّار. وأمَّا الزِّنى؛ فحذارِ حذارِ مِن التَّعرُّضِ لسخطِ الجبَّار، الخلقُ كلُهُم عبيدُهُ وإماؤهُ واللهُ يَغار، لا أحدَ أغيرُ مِن اللهِ أنْ يَزْنِيَ عبدُهُ أو تَزْني أمَتُهُ فمِن أجلِ ذلكَ حَرَّمَ الفواحشَ وأمَرَ بغضِّ الأبصار. وأمَّا الشَّحناءُ؛ فيا مَن أضْمَرَ لأخيهِ السُّوءَ وقَصَدَ لهُ الإضرار! {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42]، يَكْفيكَ حرمانُ المغفرةِ في أوقاتِ مغفرةِ الأوزار.

خابَ عَبْدٌ بارَزَ المَوْ

لَى بِأسْبابِ المَعاصي

وَيْحَهُ مِمَّا جَناهُ

لَمْ يَخَفْ يَوْمَ القِصاصِ

يَوْمَ فيهِ تَرْعَدُ الأقْـ

دامُ مِنْ شَيْبِ النَّواصي

لي ذُنوبٌ في ازْدِيادٍ

وَحَياةٌ في انْتِقاصِ

فَمَتى أعْمَلُ ما أعـ

لَمُ لي فيهِ خَلاصي

وقد رُوِيَ عن عِكْرِمَةَ وغيرِهِ مِن المفسِّرينَ في قولِهِ تَعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]؛ أنَّها ليلةُ نصفِ شعبانَ! والجمهورُ [على] أنَّها ليلةُ القدرِ. وهوَ الصَّحيحُ.

وقالَ عَطاءُ بنُ يَسارٍ: إذا كانَ ليلةُ النِّصفِ مِن شعبانَ؛ دُفِعَ إلى ملَكِ الموتِ صحيفةٌ، فيُقالُ: اقْبِضْ روحَ مَن في هذهِ الصَّحيفةِ؛ فإنَّ العبدَ لَيَغْرِسُ الغراسَ ويَنْكِحُ الأزواجَ ويَبْني البُنيانَ وإنَّ اسمَهُ قد نُسِخَ في الموتى، ما يَنْتَظِرُ بهِ ملَكُ الموتِ إلَّا أنْ يُؤْمَرَ بهِ فيَقْبِضَهُ

(1)

.

يا مغرورًا بطولِ الأمل! يا مسرورًا بسوءِ العمل! كُنْ مِن الموتِ على وَجَل، فما

(1)

تقدّم أنّ ما ورد في هذا من المرفوعات منكر.

ص: 332

تَدْري متى يَهْجُمُ الأجل.

كُلُّ امْرِئ مُصَبَّحٌ في أهْلِهِ

وَالمَوْتُ أدْنى مِن شِراكِ نَعْلِهِ

قالَ بعضُ السَّلفِ: كم مِن مستقبلٍ يومًا لا يَسْتكمِلُه، ومِن مؤمِّلٍ غدًا لا يُدْرِكُه؛ إنَّكُم لو رَأيْتُمُ الأجلَ ومسيرَه لأبْغَضْتُمُ الأملَ وغرورَه.

أُؤَمِّلُ أنْ أُخَلَّدَ وَالمَنايا

تَدورُ عَلَي مِنْ كُلِّ النَّواحي

وَما أدْري وَإنْ أمْسَيْتُ يَوْمًا

لَعَلِّي لا أعِيشُ إلى الصَّباحِ

كم ممَّن راحَ في طلبِ الدُّنيا أو غَدا أصْبَحَ مِن سكَّانِ القبورِ غدا.

كَأنَّكَ بِالمُضِيِّ إلى سَبيلِكْ

وَقَدْ جَدَّ المُجَهِّزُ في رَحيلِكْ

وَجيءَ بِغاسِلٍ فَاسْتَعْجَلوهُ

بِقَوْلِهِمُ لَهُ افْرَغْ مِن غَسيلِكْ

وَلَمْ تَحْمِلْ سِوى كَفنٍ وَقُطْنٍ

إلَيْهِـ[ـمْ] مِنْ كَثيرِكَ أوْ قَليلِكْ

وَقَدْ مَدَّ الرِّجالُ إلَيْكَ نَعْشًا

فَأنْتَ عَلَيْهِ مَمْدودٌ بِطولِكْ

وَصَلَّوْا لمَّ إنَّهُمُ تَداعَوْا

لِحَمْلِكَ

(1)

في بُكورِكَ أو أصيلِكْ

فَلَمَّا أسْلَموكَ نَزَلْتَ قَبْرًا

وَمَنْ لَكَ بِالسَّلامَةِ في نُزولِكْ

(2)

أعانَكَ يَومَ تَدْخُلُهُ رَحيمٌ

رَؤوفٌ بِالعِبادِ عَلى دُخولِكْ

فَسَوْفَ تُجاوِرُ المَوْتى طَويلًا

فَذَرْني مِنْ قَصيرِكَ أو طَويلِكْ

أخِي ها قَدْ

(3)

نَصَحْتُكَ فاسْتَمعْ لي

وَبِاللهِ اسْتَعَنْتُ عَلى قَبولِكْ

ألَسْتَ تَرى المَنايا كُلَّ حينٍ

تُصيبُكَ في أخيكَ وفي خَليلِكْ

‌المجلس الثالث في صيام آخر شعبان

في الصَّحيحينِ

(4)

عن عِمْرانَ بن حُصَيْنٍ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لرجل: "هل صُمْتَ

(1)

في خ ون: "بحملك"! والصواب ما أثبتّه من م وط.

(2)

في خ: "من نزولك"، والأولى ما أثبته من م ون وط.

(3)

كذا في خ، وفي م:"أخي إني"، وفي ن:"أخيّ لقد".

(4)

البخاري (30 - الصوم، 62 - الصوم من آخر الشهر، 4/ 230/ 1983)، ومسلم (13 - الصيام، 37 - صوم سرر شعبان، 2/ 820/ 1161).

ص: 333

مِن سَرَرِ هذا الشَّهرِ شيئًا؟ ". قالَ: لا. قالَ: "فإذا أفْطَرْتَ فصُمْ يومينِ". وفي روايةٍ للبُخارِيِّ: أظُنُّهُ يَعْني رمضانَ

(1)

. وفي رواية لمسلمٍ وعَلَّقَها البُخارِيُّ: "هل صُمْتَ مِن سَرَرِ شعبانَ شيئًا؟ ". وفي روايةٍ: "فإذا أفْطَرْتَ مِن رمضانَ؛ فصُمْ يومينِ مكانَهُ". وفي روايةٍ: يومًا أو يومينِ. شَكَّ شُعْبَةُ

(2)

. ورُوِيَ: "مِن سِرارِ [هذا] الشَّهرِ"

(3)

.

• وقدِ اخْتُلِفَ في تفسيرِ السِّرارِ:

* والمشهورُ أنَّهُ آخرُ الشَّهرِ، يُقالُ: سِرارُ الشَّهرِ وسَرارُهُ؛ بكسرِ السِّينِ وفتحِها، ذَكَرَهُ ابنُ السِّكِّيتِ وغيرُهُ. وقيلَ: إنَّ الفتحَ أفصحُ. قالَهُ الفَرَّاءُ. وسُمِّيَ آخرُ الشَّهرِ سِرارًا لاستسرارِ القمرِ فيهِ. وممَّن فَسَّرَ السِّرارَ بآخرِ الشَّهرِ أبو عُبَيْدٍ وغيرُهُ مِن الأئمَّةِ. وكذلكَ بَوَّبَ عليهِ البُخارِيُّ صيامَ آخرِ الشَّهرِ.

وأشْكَلَ هذا على كثيرٍ مِن العلماءِ؛ فإنَّ في الصَّحيحينِ أيضًا

(4)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ [قالَ]:"لا تَقَدموا رَمضانَ بيومٍ أو يومينِ؛ إلَّا مَن كانَ يَصومُ صومًا فلْيَصُمْهُ".

فقالَ كثيرٌ مِن العلماءِ - كأبي عُبَيْدٍ ومَن تابَعَهُ كالخَطَّابِيِّ وأكثرِ شرَّاحِ الحديثِ -: إنَّ هذا الرَّجلَ الذي سَألَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَعْلَمُ أن لهُ عادةً بصيامِهِ أو كانَ قد نَذَرَهُ، فلذلكَ أمَرَهُ بقضائِهِ

(5)

.

وقالَتْ طائفةٌ: حديثُ عِمْرانَ يَدُلُّ على أنَّهُ يَجوزُ صيامُ يومِ الشَّكِّ وآخرِ شعبانَ مطلقًا، سواءٌ وافَقَ عادةً أو لم يُوافِقْ، وإنَّما يُنْهى عنهُ إذا صامَهُ بنيَّةِ الرَّمضانيَّةِ احتياطًا.

(1)

جاء هذا الظنّ من بعض الرواة عند البخاري لا من البخاري نفسه: فإن أراد بظنّه "أصمت من سرر رمضان شيئًا؟؛ فشذوذ يخالف جمهور رواة هذا الحديث وخطأ ظاهر لأنّ صيام رمضان جميعه متعيّن. وإن أراد بظنّه "فإذا أفطرت من رمضان فصم"؛ فصحيح يلتئم مع سائر روايات الحديث.

(2)

وهذه الروايات كلّها عندهما في الموضع السابق نفسه.

(3)

هذه الرواية عند أحمد في "المسند"(4/ 432 و 434 و 442) بأسانيد صحيحة عن عمران.

(4)

البخاري (4/ 128/ 1815 - فتح)، ومسلم (1082)؛ من حديث أبي هريرة.

(5)

يعني: فلمّا سمع هذا الصحابيّ نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن تقدّم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ ترك ما اعتاده من صيام يوم أو يومين أو ثلاثة آخر كلّ شهر حتّى لا يقع في تقدّم رمضان المحظور، فأمره النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يقضي هذه الأيّام إذا أفطر من رمضان ليكون عمله ديمة.

ص: 334

وهذا مذهبُ مالِكٍ، وذَكَرَ أنَّهُ القولُ الذي أدْرَكَ عليهِ أهلَ العلمِ، حتَّى قالَ مُحَمَّدُ بنُ مَسْلَمَةَ مِن أصحابِهِ: يُكْرَهُ الأمرُ بفطرِهِ؛ لئلَّا يُعْتَقَدَ وجوبُ الفطرِ قبلَ الشَّهرِ كما وَجَبَ بعدَهُ، وحَكى ابنُ عَبْدِ البَرِّ هذا القولَ عن أكثرِ علماءِ الأمصارِ. وذَكَرَ مُحَمَّدُ بنُ ناصِرٍ الحافظُ أن هذا هوَ مذهبُ أحْمَدَ أيضًا، وغُلِّطَ في نقلِهِ هذا عن أحْمَدَ.

ولكنْ يُشْكِلُ على هذا حديثُ أبي هُرَيْرَةَ وقولُهُ: "إلَّا مَن كانَ يَصومُ صومًا فَلْيَصُمْهُ"

(1)

.

وقد ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ في كتابِهِ "مختلف الحديث" احتمالًا في معنى قولِهِ "إلَّا مَن كانَ يَصومُ صومًا فَلْيَصُمْهُ" وفي روايةٍ "إلَّا أنْ يُوافِقَ ذلكَ صومًا كانَ يَصومُهُ أحدُكُم": أن المرادَ بموافقةِ العادةِ صيامُهُ على عادةِ النَّاسِ في التَّطوُّعِ بالصِّيامِ دونَ صيامِهِ بنيَّةِ الرَّمضانيَّةِ للاحتياطِ

(2)

.

* وقالَتْ طائفةٌ: سرُّ الشَّهرِ؛ أوَّلُهُ.

وخَرَّجَ أبو داوودَ في بابِ تقدُّمِ رمضانَ

(3)

مِن حديثِ مُعاوِيَةَ، أنَّهُ قالَ: إنِّي متقدِّمٌ الشَّهرَ، فمَن شاءَ فَلْيَتَقَدَّمْ. فسُئِلَ عن ذلكَ، فقالَ: سَمِعْتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم يَقولُ: "صوموا الشَّهرَ وسرَّهُ"

(4)

. ثمَّ حَكى أبو داوودَ عن الأوْزاعِيِّ وسَعيدِ بن عَبْدِ العَزيزِ أن سرَّ الشَّهرِ أوَّلُهُ. قالَ أبو داوودَ: وقالَ بعضُهُم: سرُّهُ وسطُهُ.

(1)

وجه الإشكال أنّه صلى الله عليه وسلم استثنى فقط من وافق هذان اليومان صيامًا معتادًا له، فألحق أصحاب هذا القول به من لم يوافق هذان اليومان صيامًا معتادًا له، وصرفوا النصّ عن ظاهره في العادة إلى النيّة!

(2)

ولكنّه استضعفه ورجّح غيره كما سيأتيك قريبًا.

(3)

في خ: "تقديم رمضان"! وهذا تحريف صوابه ما أثبتّه من م ون وط.

(4)

(ضعيف). رواه: أبو داوود (8 - الصيام، 8 - التقدّم، 1/ 711/ 2329)، والطبراني في "الكبير "(19/ 384/ 901) و"الشاميّين"(795)، والبيهقي في "السنن"(4/ 210)، وابن عساكر في "التاريخ"(60/ 81)؛ من طريق الوليد بن مسلم، (عن عبد الله بن العلاء بن زبر؛ إلّا ابن عساكر فعن سعيد بن عبد العزيز)، سمعت أبا الأزهر المغيرة بن فروة، سمع معاوية يخطب

فذكره.

وهذا سند ضعيف من أجل الوليد؛ فقد عنعنه عندهم جميعًا، نعم صرّح بالتحديث في "الشاميّين"، لكن من وجه ضعيف عنه، فلا يليق أن يعتمد. وأبو الأزهر تابعيّ، روى عنه جماعة من الثقات، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، فحريّ ألّا يعلّ الحديث به. وقد سكت عنه المنذري وضعّفه الألباني.

ص: 335

* وفَرَّقَ الأزْهَرِيُّ بينَ سِرارِ الشَّهرِ وسِرِّهِ، فقالَ: سَرارُهُ وسَرَرُهُ آخرُهُ، وسِرُّهُ وسطُهُ، وهيَ أيَّامُ البيضِ، وسرُّ كلِّ شيءٍ جوفُهُ. وفي روايةٍ لمسلمٍ في حديثِ عِمْرانَ بن حُصَيْنٍ المذكورِ: "هل صُمْتَ مِن سُرَّةِ

(1)

هذا الشَّهرِ"، وفُسِّرَ ذلكَ بالأيَّامِ البيضِ.

قُلْتُ: لا يَصِحُّ أنْ يُفَسَّرَ سِررُ الشَّهرِ وسَرارُهُ بأوَّلِهِ؛ لأنَّ أوَّلَ الشَّهرِ يَشْتَهِرُ فيهِ الهلالُ ويُرَى مِن أوَّلِ الليلِ، ولذلكَ سُمِّيَ الشَّهرُ شهرًا؛ لاشتهارِهِ وظهورِهِ. فتسميةُ ليالي الاشتهارِ لياليَ السِّرارِ قلبٌ للُّغةِ والعرفِ.

وقد أنْكَرَ العلماءُ ما حَكاهُ أبو داوودَ عن الأوْزاعِيِّ، منهُمُ الخَطَّابِيُّ، ورَوى بإسنادِهِ عن الوَليدِ عن الأوْزاعِيِّ؛ قالَ: سِرُّ الشَّهرِ آخرُهُ. وقالَ الهَرَوِيُّ: المعروفُ أن سِرَّ الشَّهرِ آخرُهُ. وفَسَّرَ الخَطَّابِيُّ حديثَ مُعاوِيَةَ "صوموا الشَّهرَ وسِرَّهُ" بأنَّ المرادَ بالشَّهرِ الهلالُ، فيَكونُ المعنى: صوموا أوَّلَ الشَّهرِ وآخرَهُ، فلذلكَ أمَرَ مُعاوِيَةَ بصومِ آخرِ الشَّهرِ.

قُلْتُ: لمَّا رَوى مُعاوِيَةُ "صوموا الشَّهرَ وسِرَّهُ" وصامَ آخرَ الشَّهرِ؛ عُلِمَ أنَّهُ فَسَّرَ السرَّ بالآخرِ. والأظهرُ أن المرادَ بالشَّهرِ شهرُ رمضانَ كلِّهِ، والمرادُ بسِرِّهِ آخرُ شعبانَ، كما في روايةِ البُخارِيِّ في حديثِ عِمْرانَ:"أظُنُّهُ يَعْني رمضانَ". وأضافَ السِّرَّ إلى رمضانَ وإنْ لمْ يَكُنْ منهُ، كما سُمِّيَ رمضانُ شهرَ عيدٍ وإنْ كانَ العيدُ ليسَ منهُ لكنَّهُ يَعْقُبُهُ.

فدَلَّ حديثُ عِمْرانَ وحديثُ مُعاوِيَةَ على استحبابِ صيامِ آخرِ شعبانَ

(2)

.

• وإنَّما أمَرَ بقضائِهِ في أوَّل شوَّالٍ؛ لأنَّ كلًّا مِن الوقتينِ صيامٌ يَلي شهرَ رمضانَ،

(1)

قال النووي تبعًا لابن قرقول: "كذا هو في جميع النسخ"؛ يعني: نسخ "الصحيح". نقله العسقلاني في "الفتح"(3/ 230) ثمّ قال: "والذي رأيته في رواية أبي بكر بن ياسر الجيّاني ومن خطه نقلت "سرر هذا الشهر" كباقي الروايات". ثمّ قال: "لم أره في جميع طرق الحديث باللفظ الذي ذكره - وهو "سرّة" - بل هو عند أحمد من وجهين بلفظ "سرار"، وأخرجه من طرق عن سليمان التيمي في بعضها "سرر" وفي بعضها "سرار"" اهـ. فالظاهر أنّ الصواب رواية الجيّاني.

(2)

فيه نظر! فأمّا حديث معاوية! فضعيف. وأمّا حديث عمران؛ فقصاراه أن يدلّ على استحباب صوم سرار الأشهر أو ما يسمّيه بعضهم بالأيّام السود، فمن اعتاد صومها؛ فلا بأس عليه إن تقدّم رمضان بيوم أو يومين، فإن أحبّ أن يفطر قبل رمضان؛ فيستحبّ له أن يقضي ما فاته من سرار شعبان في شوّال.

ص: 336

فهوَ ملتحِقٌ برمضانَ في الفضلِ، فمَن فاتَهُ ما قبلَهُ، صامَهُ فيما بعدَهُ

(1)

، كما كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَصومُ شعبانَ ونَدَبَ إلى صيامِ شوَّالٍ.

• وإنَّما يُشْكِلُ على هذا حديثُ أبي هُرَيْرَةَ في نهي النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عن تقدُّمِ رمضانَ بيومٍ أو يومينِ إلَّا مَن لهُ عادةٌ أو مَن كانَ يَصومُ صومًا. وأَكثرُ العلماءِ على أنَّهُ نَهى عن التَّقدُّمِ إلَّا مَن كانَتْ لهُ عادة بالتَّطوُّعِ فيهِ، وهوَ ظاهرُ الحديثِ. ولم يَذْكُرْ أكثرُ العلماءِ في تفسيرِهِ بذلكَ اختلافًا، وهوَ الذي اخْتارَهُ الشَّافِعِيُّ في تفسيرِهِ، ولم يُرَجِّحْ ذلكَ الاحتمالَ المتقدِّمَ.

وعلى هذا؛ فيُرَجَّحُ حديثُ أبي هُرَيْرَةَ على حديثِ عِمْرانَ؛ فإنَّ حديثَ أبي هُرَيْرَةَ فيهِ نهيٌ عامٌّ للأمَّةِ عمومًا، فهوَ تشريعٌ عامٌّ للأُمَّةِ، فيُعْمَلُ بهِ. وأمَّا حديثُ عِمْرانَ، فهيَ قضيَّةُ عينٍ في حقِّ رجلٍ معيَّنٍ، فيَتَعَيَّنُ حملُهُ على صورةِ صيامٍ لا يُنْهى عن التَّقدُّمِ بهِ جمعًا بينَ الحديثينِ.

وأحسنُ ما حُمِلَ عليهِ أن هذا الرَّجلَ الذي سَألَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كانَ قد عَلِمَ منهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ كانَ يَصومُ شعبانَ أو أكثرَهُ موافقةً لصيامِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، وكانَ قد أفْطَرَ فيهِ بعضَهُ

(2)

، فسَألَهُ عن صيامِ آخرِهِ، فلمَّا أخْبَرَهُ أنَّهُ لمْ يَصُمْ آخرَهُ؛ أمَرَهُ بأنْ يَصومَ بدلَهُ بعدَ يومِ الفطرِ، لأنَّ صيامَ أوَّلِ سوَّالٍ كصيامِ آخرِ شعبانَ، وكلاهُما حريمٌ لرمضانَ.

• وفيهِ دليلٌ على استحبابِ قضاءِ ما فاتَ مِن التَّطوُّعِ بالصِّيامِ، وأنْ يَكونَ في أيَّامٍ مشابهةٍ للأيَّامِ التي فاتَ فيها الصِّيامُ في الفضلِ

(3)

.

• وفيهِ دليلٌ على أنَّهُ يَجوزُ لمَن صامَ شعبانَ أو أكثرَهُ أنْ يَصِلَهُ برمضانَ مِن غيرِ فصلٍ بينَهُما.

فصيامُ آخرِ شعبانَ لهُ ثلاثةُ أحوالٍ:

(1)

والأظهر - والله أعلم - أنه أمره بقضائه في شوّال حثًّا على المسارعة في الخيرات وعدم تأجيلها.

(2)

أو علم منه أنّه اعتاد صيام أيّام السرار من كلّ شهر.

(3)

أمّا استحباب قضاء ما فات من التطوّع؛ فنعم. وأمّا أن يكون في أيّام مشابهة لأيّام المقضيّ! فلا يستقيم إلّا إذا ثبت مشابهة شوّال لشعبان في الفضل!

ص: 337

• أحدُها: أنْ يَصومَهُ بنيَّةِ الرَّمضانيَّةِ احتياطًا لرمضانَ. فهذا منهيٌّ عنهُ. وقد فَعَلَهُ بعضُ الصَّحابةِ، وكأنَّهُم لمْ يَبْلُغْهُمُ النَّهيُ عنهُ. وفَرَّقَ ابنُ عُمَرَ بينَ يومِ الغيمِ والصَّحوِ في يومِ الثَّلاثينَ مِن شعبانَ، وتَبِعَهُ الإمامُ أحْمَدُ

(1)

.

• والثَّاني: أن يُصامَ بنيَّةِ النَّذرِ أو قضاءً عن رمضانَ أو عن كفارةٍ ونحوِ ذلكَ: فجَوَّزَهُ الجمهورُ

(2)

. ونَهى عنهُ مَن أمَرَ بالفصلِ بينَ شعبانَ ورمضانَ بفطرِ يومٍ مطلقًا، وهم طائفةٌ مِن السَّلفِ. وحُكِيَ كراهتُهُ أيضًا عن أبي حَنيفَةَ والشَّافِعِيِّ، وفيهِ نظرٌ.

• والثَّالثُ: أنْ يُصامَ بنيَّةِ التَّطوُّعِ المطلقِ. فكَرِهَهُ مَن أمَرَ بالفصلِ بينَ شعبانَ ورمضانَ بالفطرِ - ومنهُمُ الحَسَنُ - وإنْ وافَقَ صومًا كانَ يَصومُهُ، ورَخَّصَ فيهِ مالكٌ ومَن وافَقَهُ، وفَرَّقَ الشَّافِعِيُّ والأوزاعِيُّ وأحْمَدُ وغيرُهُم بينَ أنْ يُوافِقَ عادةً أو لا

(3)

.

وكذلكَ يُفَرَّقُ [بينَ هذا و]

(4)

بينَ مَن تَقَدَّمَ صيامَهُ بأكثرَ مِن يومينِ ووَصَلَهُ برمضانَ، فلا يُكْرَهُ أيضًا

(5)

؛ إلَّا عندَ مَن كَرِهَ الابتداءَ بالتَّطوُّعِ بالصِّيامِ بعدَ نصفِ شعبانَ؛ فإنَّهُ يَنْهى عنهُ؛ إلَّا أنْ يَبْتَدِئَ الصِّيامَ قبلَ النِّصفِ ثمَّ يَصِلَهُ برمضانَ

(6)

.

وفي الجملةِ؛ فحديثُ أبي هُرَيْرَةَ هوَ المعمولُ بهِ في هذا البابِ عندَ كثيرٍ مِن العلماءِ، وأنَّهُ يُكْرَهُ التَّقدُّمُ قبلَ رمضانَ بالتَّطوُّعِ بالصِّيامِ بيومٍ أو يومينِ لمَن ليسَ لهُ بهِ

(1)

في أحد أقواله الثلاثة في المسألة، وسوف يأتي تفصيل هذا قريبًا.

(2)

وهو أولى الأقوال بالصواب. والله أعلم.

(3)

وهو أولى الأقوال بالصواب. والله أعلم.

(4)

زيادة يقتضيها السياق.

(5)

فيه نظر من وجوه: أوّلها: أنّه يبسٌ شديد على ظاهر النصّ - والثانى: أنّ من تقدّم بثلاثة فهو داخل في عموم من تقدّم بيومين. والثالث: أنّه لا فرق عمليًّا بين من تقدّم بيومين فخالف ظاهر أمره صلى الله عليه وسلم وبين من تقدّم بثلاثة فاحتال بيوم لمخالفة ظاهر أمره صلى الله عليه وسلم، فالأعمال بالنيّات، والله عليم بالسرائر. والرابع: أنّك إن سألت من تقدّم رمضان بثلاثة: ما هذا الصوم؟ فإن كان عادة له أو داخلًا في صوم له؛ خرج من الإثم باستثناء النبيّ صلى الله عليه وسلم بنصّ الحديث، وإن كان صومًا مطلقًا عرض له قبل رمضان بثلاثة أيّام؛ فهذا هو التقدّم بعينه، وهذا هو الذي نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه، وإنّما اقتصر على ذكر اليوم واليومين لأنّه الغالب. وبهذا قطع جماعة من أهل العلم.

(6)

وهذا كالذي قبله تمامًا ولا فرق، ويرد عليه ما ورد على الذي قبله، ولا يخرج المرء من إثم المخالفة إلّا بأن يكون صيام شعبان أو أكثره أو بعضه أو الأيّام البيض أو السود أو الاثنين والخميس أو ثلاثة أيّام من كلّ أسبوع أو صوم يوم وإفطار يوم

إلخ أن يكون هذا له عادة.

ص: 338

عادةٌ ولا سَبَقَ منهُ صيام قبلَ ذلكَ في شعبانَ متَّصلًا بآخرِهِ.

• ولكراهةِ التَّقدُّمِ ثلاثةُ معانٍ:

* أحدُها: أنَّهُ على وجهِ الاحتياطِ لرمضانَ، فيُنْهى عن التَّقدُّمِ قبلَهُ؛ لئلَّا يُزادَ في صيامِ رمضانَ ما ليسَ منهُ كما نُهِيَ عن صيامِ يومِ العيدِ لهذا المعنى

(1)

، حذرًا ممَّا وَقَعَ فيهِ أهلُ الكتابِ في صيامِهِم، فزادوا فيهِ بآرائِهِم وأهوائِهِم.

وخَرَّجَ الطَّبَرانِيُّ وغيرُهُ عن عائِشَةَ؛ قالَتْ: إن ناسًا كانوا يَتَقَدَّمونَ الشَّهرَ فيَصومونَ قبلَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأنْزَلَ اللهُ عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]. قالَتْ عائِشَةُ: إنَّما الصَّومُ صومُ النَّاسِ والفطرُ فطرُ النَّاسِ

(2)

.

ومعَ هذا؛ فكانَ مِن السَّلفِ مَن يَتَقَدَّمُ للاحتياطِ، والحديثُ حجَّة عليهِ.

ولهذا نُهِيَ عن صيامِ يومِ الشَّكِّ. قالَ عَمَّارٌ: مَن صامَهُ فقد عَصى أبا القاسِمِ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

(1)

ولمعان أُخرى كثيرة سيأتي بعضها، فهذه واحدة من حكم النهي عن صيام يوم الفطر.

(2)

(ضعيف). رواه: ابن سعد في "الطبقات"(6/ 79)، والطبراني في "الأوسط"(2734)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(2/ 228)، وابن مردويه في "التفسير"(الحجرات 1 - الدرّ)، وابن النجّار في "ذيل بغداد" (الحجرات 1 - الدرّ)؛ من طريق يحيى بن عبد الله الجابر (وجاء عند أبي الشيخ من وجه ضعيف: يحيى بن سعيد التيمي)، عن حبال بن رفيدة، عن مسروق، عن عائشة

به.

قال الهيثمي (3/ 151): "فيه حبال بن رفيدة وهو مجهول". قلت: ويحيى الجابر ليّن. وله شاهد من حديث جابر عند ابن مردويه لم أقف على سنده، لكن الغالب في نحوه الضعف إن لم يكن دون ذلك.

ومع ذلك؛ فالمعنى الذي أفاده النصّ صحيح جدًّا، لأنّ التقدّم بين يدي صيام الأُمّة بأسرها هو تقدّم بين يدي الله ورسوله ومفارقة لجماعة المسلمين وتفريق لوحدة كلمتهم ورغبة بالتميّز عهم والاستعلاء عليهم

إلى غير ذلك من الآفات التي يبغضها الله تعالى ويبغض أصحابها. والله أعلم.

(3)

(حسن صحيح موقوف لفظًا مرفوع حكمًا). علّقه البخاري (30 - الصوم، 11 - قوله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الهلال، 4/ 119): قال صلة، عن عمّار .. . به.

قال العسقلاني في "الفتح"(4/ 120): "وقد وصله: [الدارمي 2/ 2، وابن ماجه 1645، و] أبو داوود [2334]، والترمذي [686]، والنسائي [4/ 153، وأبو يعلى 1644]، وابن خزيمة [1914]، وابن حبّان [3585 و 3595 و 3596، والدارقطني 2/ 157]، والحاكم 11/ 423، والبيهقي 4/ 208]؛ من طريق عمرو بن قيس، عن أبي إسحاق، عنه [يعني: عن صلة]. ولفظه عندهم: "كنّا عند عمّار بن ياسر، فأتي بشاة مصليّة،=

ص: 339

ويومُ الشَّكِّ هوَ اليومُ الذي يُشَكُّ فيهِ هل هوَ مِن رمضانَ أو غيرِهِ، فكانَ مِن المتقدِّمينَ مَن يَصومُهُ احتياطًا، ورَخَّصَ فيهِ بعضُ الحنفيَّةِ للعلماءِ في أنفسِهِم خاصةً دونَ العامَّةِ

(1)

لئلَّا يَعْتَقِدوا وجوبَهُ بناءً على أصلِهِم في أن صومَ رمضانَ يُجْزِئُ بنيَّةِ الصِّيامِ المطلقِ والنَّفلِ، ويومُ الشَّكِّ هوَ الذي تَحَدَّثَ برؤيتِهِ مَن لمْ يُقْبَلْ قولُهُ.

فأمَّا يومُ الغيمِ: فمِنَ العلماءِ مَن جَعَلَهُ يومَ شكٍّ ونَهى عن صيامِهِ، وهوَ قولُ الأكثرينَ. ومنهُم مَن صامَهُ احتياطًا، وهوَ قولُ ابن عُمَرَ، وكانَ الإمامُ أحْمَدُ يُتابِعُهُ على ذلكَ. وعنهُ في صيامِهِ ثلاثُ رواياتٍ مشهوراتٍ: ثالثُها: لا يُصامُ إلَّا معَ الإمامِ وجماعةِ المسلمينَ لئلَّا تقَعَ الافتئاتُ عليهِم والانفرادُ عنهُم. وقالَ إسْحاقُ: لا يُصامُ يومُ الغيمِ، ولكنْ يُتَصَبَّرُ بالأكلِ فيهِ إلى ضحوةِ النَّهارِ خشيةَ أنْ يُشْهَدَ برؤيتِهِ بخلافِ حالِ الصَّحوِ؛ فإنَّهُ يَأْكُلُ فيهِ مِن غدوةٍ

(2)

.

= فقال: كلوا. فتنحَّى بعض القوم فقال: إنّي صائم. فقال عمّار

[فذكره] ".

قال العسقلاني: "وله متابع بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة [9502]، من طريق منصور عن ربعيّ؛ أنّ عمّارًا وناسًا معه أتوهم بمسلوخة في اليوم الذي يشكّ فيه، فاعتزلهم رجل، فقال له عمّار: تعال فكل. فقال: إنّي صائم. فقال له عمّار: إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فتعال وكل. ورواه عبد الرزّاق [7318]، من وجه آخر عن منصور عن ربعي عن رجل عن عمّار".

قال العسقلاني: (وله شاهد من وجه آخر أخرجه عبد الرزاق [7318 وابن أبي شيبة 9503] وإسحاق بن راهويه من رواية سماك عن عكرمة. ومنهم [كالخطيب 2/ 397] من وصله بذكر ابن عبّاس فيه" اهـ.

فإن كان في الطريق الأولى كلام لحال أبي إسحاق السبيعي؛ فإنّها تتقوّى بالطريق الأُخرى وشاهد عكرمة المرسل القويّ باللفظ نفسه. وقد قوّى حديث عمّار الترمذي وابن خزيمة وابن حبّان والدارقطني والحاكم والمنذري والذهبي والعسقلاني والألباني. وقال العسقلاني: "موقوف لفظًا مرفوع حكمًا". وإنّما أطلت في تخريجه على غير منهجي في الموقوفات لهذا الملحظ.

(1)

وحديث عمّار المتقدّم حجّة عليهم. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتقدّم عليه: "لا تصوموا حتى تروا الهلال"؛ لأن الرؤية المعتمدة شرعًا لا تتحقّق إلا بشهادة الثقات من أهل المعرفة، وأمّا الفسقة والجهلة وغيرهم من ساقطي الشهادة؛ فرؤيتهم وعدمها واحد.

(2)

وأشبه هذه الروايات الثلاث عن الإمام أحمد قدّس الله روحه في عليّين بالصواب وأولاها بالنصوص الصحيحة الواردة في الباب وأكثرها انسجامًا مع الفروع الفقهيّة والقواعد والأصوليّة هي الرواية التي وافق فيها جمهور أهل العلم، وهو ما اختاره كثير من المحققين من أصحابه. قال ابن عبد الهادي في "تنقيحه":"الذي دلّت عليه الأحاديث وهو مقتضى القواعد أنّه أيّ شهر غمّ أكمل ثلاثين، سواء في ذلك شعبان ورمضان وغيرهما، فعلى هذا فقوله صلى الله عليه وسلم "فأكملوا العدّة" يرجع إلى الجملتين، وهو قوله صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته وأفطروا =

ص: 340

* والمعنى الثَّاني: الفصلُ بينَ صيامِ الفرضِ والنَّفلِ؛ فإن جنسَ الفصلِ بينَ الفرائضِ والنَّوافلِ مشروعٌ:

ولهذا حَرُمَ صيامُ يومِ العيدِ.

ونهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ توصَلَ صلاةٌ مفروضةٌ بصلاة حتَّى يُفْصَلَ بينَهُما بسلامٍ أو كلامٍ

(1)

، وخصوصًا سنَّةَ الفجرِ قبلَها؛ فإنَّهُ يُشْرَعُ الفصلُ بينَها وبينَ الفريضةِ، ولهذا يُشْرَعُ صلاتُها في البيتِ والاضطجاعُ بعدَها.

ولمَّا رَأى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا يُصَلِّي وقد أُقيمَتْ صلاةُ الفجرِ؛ قالَ لهُ: "الصُّبحَ أربعًا"

(2)

.

وفي "المسند"؛ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: "افْصِلوا بينَها وبينَ المكتوبةِ ولا تَجْعَلوها كصلاةِ الظُّهرِ"

(3)

.

وفي "سنن أبي داوود"؛ أن رجلًا صَلَّى معَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا سَلَّمَ قامَ يَشْفَعُ، فوَثَبَ إليهِ عُمَرُ، فأخَذَ بمنكبيهِ فهَزَّهُ ثمَّ قالَ: اجْلِسْ؛ فإنَّهُ لمْ يَهْلِكْ أهلُ الكتاب إلَّا أنَّهُ لم يَكُنْ لصلاتِهِم فصلٌ. فَرَفَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بصرَهُ فقالَ: "أصابَ اللهُ بكَ يا ابنَ الخَطَّابِ"

(4)

.

= لرؤيته فإن غمّ عليكم فأكملوا العدّة"؛ أي: غمّ عليكم في صومكم أو فطركم، وبقيّة الأحاديث تدلّ عليه، فاللام في قوله صلى الله عليه وسلم "فأكملوا العدّة" للشهر؛ أي: عدّة الشهر، ولم يخصّ صلى الله عليه وسلم شهرًا دون شهر بالإكمال إذا غمّ، فلا فرق بين شعبان وغيره في ذلك

ويؤيّد ذلك قوله في الرواية الأخرى "فإن حال بينكم وبينه سحاب فأكملوا العدّة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالًا" أخرجه أحمد وأصحاب السنن وابن خزيمة وأبو يعلى

" إلخ. نقله العسقلاني في "الفتح" (4/ 122) منتصرًا به منتصرًا له. والله أعلم.

(1)

رواه مسلم (7 - الجمعة، 18 - الصلاة بعد الجمعة، 2/ 601/ 883) من حديث معاوية.

(2)

رواه: البخاري (10 - الأذان، 38 - إذا أُقيمت الصلاة، 2/ 148/ 663)، ومسلم (6 - المسافرين، 9 - كراهة الشروع في نافلة بعد المؤذّن، 1/ 493/ 711)؛ من حديث ابن بحينة.

(3)

(صحيح). رواه: أحمد (5/ 345)، والبخاري في "التاريخ"(1/ 45)، والطحاوي في "شرح المعاني"(1/ 373)، وخيثمة في "حديثه"(ص 201)، وابن منده في "الصحابة"(1/ 195 - غابة)، والحاكم (3/ 430)، والخطيب في "الكفاية"(ص 251)، وأبو موسى المديني في "الصحابة"(1/ 195 - غابة)؛ من طريقين، عن محمّد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن عبد الله بن مالك بن بحينة

رفعه.

وإحدى الطريقين إلى ابن ثوبان قويّة، وابن ثوبان ثقة من رجال الستّة، وأصل الحديث عند البخاري ومسلم باللفظ المتقدّم، وسند هذا اللفظ صحيح أيضًا.

(4)

(صحيح بلفظ أصاب ابن الخطاب أو أحسن ابن الخطّاب). يرويه الأزرق بن قيس واختلف عليه =

ص: 341

ومَن عَلَّلَ بهذا؛ فمنهُم مَن كَرِهَ وصلَ صومِ شعبانَ برمضانَ مطلقًا. ورُوِيَ عن ابن عُمَرَ؛ قالَ: لو صُمْتُ الدَّهرَ كلَّهُ؛ لأفْطَرْتُ الذي بينَهُما. ورُوِيَ فيهِ حديثٌ مرفوعٌ لا يَصِحُّ. والجمهورُ على جوازِ صيامِ ما وافَقَ عادةً؛ لأنَّ الزِّيادةَ إنَّما تُخْشى إذا لمْ يُعْرَفْ سببُ الصِّيامِ.

• والمعنى الثَّالثُ: أنَّهُ أمَرَ بذلكَ؛ للتَّقوِّي على صيامِ رمضانَ؛ فإنَّ مواصلةَ الصِّيامِ [قد] تُضْعِفُ عن صيامٍ الفرضِ، فإذا حَصَلَ الفطرُ قبلَهُ بيومٍ أو يومينِ؛ كانَ أقربَ إلى التَّقوِّي على صيامِ رمضان.

وفي هذا التَّعليلِ نظرٌ؛ فإنَّهُ لا يُكْرَهُ التَّقدُّمُ بأكثرَ مِن ذلكَ

(1)

، ولا لمَن صامَ الشَّهرَ كلَّهُ، وهوَ أبلغُ في معنى الضَّعفِ، لكنَّ الفطرَ بنيَّةِ التَّقوِّي لصيامِ رمضانَ حسنٌ لمَن أضْعَفَهُ مواصلةُ الصِّيامِ، كما كانَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بن العاصِ يَسْرُدُ الفطرَ أحيانًا ثمَّ يَسْرُدُ الصَّومَ لِيَتَقَوَّى بفطرِهِ على صومِهِ.

= فيه على وجهين: روى الأوّل: أبو داوود (2 - الصلاة، 194 - الرجل يتطوّع في مكانه، 1/ 329/ 1007)، والطبراني في "الكبير"(22/ 284/ 727) و"الأوسط"(2109)، والحاكم (1/ 270)، وابن منده في "الصحابة"(4/ 73 - إصابة)، وأبو نعيم في "الصحابة"(4/ 73 - إصابة)، والبيهقي (2/ 190)؛ من طريقين، عن المنهال بن خليفة، عن الأزرق، عن أبي رمثه

رفعه في قصّة. قال الطبراني: "تفرّد به المنهال". وقال الحاكم: "على شرط مسلم". وردّه المنذري بقوله: "في إسناده أشعث بن شعبة والمنهال وفيهما مقال". وقال الذهبيّ والألباني نحوه وزاد الذهبي: "والحديث منكر". قلت: أشعث ليّن، لكن تابعه عبد الصمد بن النعمان عند الطبراني في "الأوسط" وهو مثله، فخرج الحديث بهذه المتابعة من عهدته. والمنهال ضعيف. وروى الثاني: عبد الرزّاق (3973) من طريق عبد الله بن سعيد، وأحمد (5/ 368) وأبو يعلى (7166) وابن منده في "الصحابة"(4/ 451 - غابة) وأبو نعيم في "الصحابة"(4/ 451 - غابة) من طريق شعبة؛ كلاهما عن الأزرق، سمعت عبد الله بن رباح، عن رجل من الصحابة

رفعه بلفظ: "أصاب ابن الخطّاب". قال الهيثمي (2/ 237): "رجال أحمد رجال الصحيح".

فالعمدة هاهنا الوجه الثاني لاتّفاق شعبة الجبل الإمام مع عبد الله بن سعيد بن أبي هند الصدوق عليه، وخالفهم المنهال على ضعفه في السند وتسمية الصحابي وزيادة القصّة في السياق وهذا حدّ النكارة، والقطعة المذكورة هنا من الحديث صحيحة بهذا الوجه الثاني، وقد أعلّ الألباني الحديث في "المشكاة"(972) بأشعث والمنهال وضعّفه جملة، فكأنّه لم يقف على الطريق الأُخرى النظيفة أو رأى أنّها قاصرة عن تقوية سياق أبي داوود بطوله. والله أعلم.

(1)

تقدّم أنّ هذا المذهب لا يخلو من نظر.

ص: 342

ومنهُ قولُ بعضِ الصَّحابةِ: إنِّي أحْتَسِبُ نومَتي كما أحْتَسِبُ قومَتي.

وفي الحديثِ المرفوعِ: "الطَّاعمُ الشَّاكرُ كالصَّائمِ

(1)

الصَّابرِ"

(2)

. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ

(1)

في خ: "ليقوى بفطره

مثل الصائم"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

(صحيح). علّقه البخاري في "الصحيح"(9/ 582) فقال: "باب الطاعم الشاكر مثل الصائم الصابر. فيه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ". وقد جاء موصولًا عن أبي هريرة من وجوه:

فرواه معن بن محمّد واختلف عليه فيه على وجهين: روى الأوّل: عبد الرزّاق (19573)، ومسدّد (9/ 582 - فتح)، وأحمد (2/ 283)، والترمذي (38 - القيامة، 43 - باب، 4/ 653/ 2486)، وأبو يعلى (6582)، وابن خزيمة (1898)، وابن أبي حاتم في "العلل"(1512)، وابن حبّان (315)، والحاكم (1/ 422، 4/ 136)، والبيهقي (4/ 306)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(2/ 404)، والبغوي في "السنّة"(2832)، والعسقلاني في "التغليق"(4/ 491)؛ من ثلاث طرق قويّة، عن معن (وجاء في بعضها: عن رجل من بني غفار)، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة

رفعه. والرجل المبهم في بعض الطرق بيّنت الطرق الأُخرى القويّة أنّه معن نفسه. وقد سقط معن من سند ابن حبّان فاستدركه عليه العسقلاني من "مسند مسدّد". ووقع عند ابن أبي حاتم "سعيد بن المسيّب" وهو تحريف ظاهر أو وهم. وروى الثاني: ابن ماجه (7 - الصيام، 55 - الطاعم الشاكر، 1/ 561/ 1764)، وابن خزيمة (1899)، وأبو عوانة، وابن أبي حاتم (1512)، والطبراني في "الأوسط"(7377)، والبيهقي (4/ 306)، والعسقلاني في "التغليق"(4/ 492)؛ من طرق أربع، عن محمّد بن معن، عن حنظلة بن عليّ، عن أبي هريرة

رفعه.

ومعن ذكره ابن حبّان في "الثقات" وروى عنه جماعة من الأثبات وخرّج له البخاري فلا أقلّ من أن يحسّن حديثه، وبقيّة السندين ثقات، فكلاهما قويّ رأجح، ولذلك قال ابن خزيمة:"الإسنادان صحيحان عن سعيد المقبريّ وعن حنظلة بن عليّ جميعًا عن أبي هريرة، ألا تسمع المقبريّ يقول: كنت أنا وحنظلة بن علي بالبقيع مع أبي هريرة"؛ يعني: أنّ في المتن ما يدلّ على سماعهما هذا الحديث معًا من أبي هريرة. وقال العسقلاني في "التغليق": "إن كان محفوظًا [يعني: الوجه الثاني، وهو محفوظ كما تقدّم]؛ فمعن سمعه من سعيد المقبريّ وحنظلة بن عليّ جميعًا، ويدلّ عليه رواية ابن خزيمة

فلا مانع أن يكون معن سمعه من حنظلة بعد أن سمعه من سعيد". وقال في "الفتح": "هذا محمول على أنّ معن بن محمّد حمله عن سعيد ثمّ حمله عن حنظلة".

ورواه حكيم بن أبي حرّة واختلف عليه فيه أيضًا على وجوه: روى الأوّل منها: البخارى في "التاريخ"(1/ 143)، وابن أبي حاتم في "العلل"(1513) تعليقًا، والعسقلاني في "التغليق"(4/ 491)؛ من طريق سليمان بن بلال، عن محمّد بن عبد الله بن أبي حرّة، عن عمّه حكيم بن أبي حرّة، عن سلمان الأغرّ، عن أبي هريرة

فعه. ورورى الثاني: أحمد (4/ 343)، والدارمي (2/ 95)، والبخاري في "التاريخ"(1/ 143)، وابن ماجه (الموضع السابق، 1765)، وعبد الله بن أحمد (4/ 343)، والطبراني (7/ 100/ 6492)، والقضاعي في "الشهاب"(264)، وابن الأثير في "الغابة"(2/ 381)، والمزّي في "التهذيب"(12/ 153، 25/ 464)، والعسقلاني في "الفتح"(9/ 582) معلّقًا؛ من طرق سبع، عن الدراوردي، عن محمّد بن عبد الله بن أبي حرّة، عن عمّه (ووقع في إحدى طرق البخاري "عن أبيه" وهو تحريف أو وهم)، عن سنان بن سنّة (ووقع عند العسقلاني:"رجل من أسلم"، وهو هو. وزاد الدارمي:"عن أبيه"؛ يعني: سنّة، وهو وهم من =

ص: 343

وغيرُهُ.

• ولربَّما ظَنَّ بعضُ الجهَّالِ أن الفطرَ قبلَ رمضانَ يُرادُ بهِ اغتنامُ الأكلِ؛ لِتَأْخُذَ النُّفوسُ حظَّها مِن الشَّهواتِ قبلَ أنْ تُمْنَعَ مِن ذلكَ بالصِّيامِ، ولهذا يَقولونَ: هيَ أيَّامُ توديعٍ [لـ]ـلأكل، وتُسَمَّى تنحيسًا، واشتقاقُهُ مِن الأيَّامِ النَّحِساتِ. ومَن قالَ هوَ تنهيسٌ بالهاءِ فهوَ خطأٌ منهُ. ذَكَرَهُ ابنُ دُرُسْتَوَيْهِ النَّحويُّ، وذَكَرَ أن أصلَ ذلكَ متلقًّى مِن النَّصارى؛ فإنَّهُم يَفْعَلونَهُ عندَ قربِ صيامِهِم. وهذا كلُّهُ خطأٌ وجهلٌ ممَّن ظَنَّهُ. وربَّما لمْ يَقْتَصِرْ كثيرٌ منهُم على اغتنامِ الشَّهواتِ المباحةِ بل يَتَعَدَّى إلى المحرَّماتِ، وهذا هوَ الخسرانُ المبينُ.

وأنْشَدَ بعضُهُم في المعنى:

إذا العِشْرونَ مِنْ شَعْبانَ وَلَّتْ

فَواصِلْ شُرْبَ لَيْلِكَ بِالنَّهارِ

وَلا تَشْرَبْ بِأقْداحٍ صِغارٍ

فَإنَّ الوَقْتَ ضاقَ عَلى الصِّغارِ

وقال آخرُ

(1)

:

= نعيم بن حمّاد شيخه لم يتابعه عليه أحد)

رفعه. وزاد العسقلاني في الطريق المعلّقة الي ذكرها بين الدراوردي وبين محمّد موسى بن عقبة ثمّ قال: "لكن صرّح الدراوردي في رواية أحمد بأنّ محمّد بن أبي حرّة أخبره، فلعلّه كان حمله عن موسى بن عقبة عنه ثمّ سمعه منه". قلت: الأرجح أنّه وهم بدلالة الوجه الثالث: الذي رواه البخاري في "التاريخ"(1/ 143) من طريق مسلسلة بالأثبات، عن موسى بن عقبة، عن حكيم بن أبي حرّة، عن بعض الصحابة

رفعه.

والدراوردي صدوق لا ينزل حديثه عن رتبة الحسن، وكذلك حكيم بن أبي حرّة، وسائر الأسانيد الثلاثة ثقات، وهذا يعني أن الأسانيد الثلاثة حسنة كلّ على حدة. ورجّح الألباني الوجه الأوّل بالنظر إلى أنّ سليمان أثبت عن الدراورديّ. وقال أبو زرعة الرازي:"حديث الدراوردي أشبه"، والوجه الثالث يقوّي قول أبي زرعة؛ لأن "بعض الصحابة" فيه لا يمكن أن يكون أبا هريرة؛ لأنّ حكيمًا لم يرو عنه مباشرة، فلا بدّ أنّه سنان. والأولى أنّ حكيمًا حمله عن سنان مباشرة وعن أبي هريرة بالواسطة.

وللحديث طريق ثالثة عن أبي هريرة عند أبي نعيم في "الحلية"(7/ 142)، لكن فيها إسحاق بن العنبري متهم لا تساوي متابعته فلسًا.

فإن لم يكن حديث أبي هريرة صحيحًا من طريق معن الغفاريّ؛ فإنّه صحيح بطريقيه، وقد قوّاه أبو زرعة الرازي والترمذي وابن خزيمة وابن أبي حاتم وابن حبّان والحاكم والذهبي والعسقلاني والألباني.

وحديث سنان حسن لذاته صحيح بحديث أبي هريرة، وقد قوّاه أبو زرعة والبوصيري والعسقلاني والألباني.

(1)

في خ: "غيره"؛ بدل "وقال آخر".

ص: 344

جاءَ شَعْبانُ مُنْذِرًا بِالصِّيامِ

فاسْقِياني خمرًا بِماءِ الغَمامِ

ومَن كانَتْ هذهِ حالُهُ؛ فالبهائمُ أعقلُ منهُ، ولهُ نصيبٌ مِن قولِهِ تَعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} الآيةَ [الأعراف: 179].

وربَّما تَكَرَّهَ كثيرٌ منهُم بصيامِ شهرِ رمضانَ، حتَّى إن بعضَ السُّفهاءِ مِن الشُّعراءِ كانَ يَسُبُّهُ. وكانَ للرَّشيدِ ابنٌ سفيهٌ، فقالَ مرَّةً:

دَعانِيَ شَهْرُ الصَّوْمِ لا كانَ مِنْ شَهْرِ

وَلا صُمْتُ شَهْرًا بَعْدَهُ آخِرَ الدَّهْرِ

فَلَوْ كانَ يُعْديني الأنامُ بِقُدْرَةٍ

(1)

عَلى الشَّهْرِ لاسْتَعْدَيْتُ جَهْدي عَلى الشَّهْرِ

فأخَذَهُ داءُ الصَّرْعِ، فكانَ يُصْرَعُ في كلِّ يومٍ مرَّاتٍ متعدِّدةً، وماتَ قبلَ أنْ يُدْرِكَهُ رمضانُ آخرُ.

وهؤلاءِ السُّفهاءُ يَسْتَثْقِلونَ رمضانَ لاستثقالِهِمُ العباداتِ فيهِ مِن الصَّلاةِ والصِّيامِ. فكثيرٌ مِن هؤلاءِ الجهَّالِ لا يُصَلِّي إلَّا في رمضانَ إذا صامَ، وكثيرٌ منهُم لا يَجْتَنِبُ كبائرَ الذُّنوبِ إلَّا في رمضانَ، فيَطولُ عليهِ، ويَشُقُّ على نفسِهِ مفارقتُها لمألوفِها، فهوَ يَعُدُّ الأيَّامَ واللياليَ لِيَعودَ إلى المعصيةِ، وهؤلاءِ مصرُّونَ على ما فَعَلوا وهُم يَعْلَمونَ، فهُم هلكى، ومنهُم مَن لا يَصْبِرُ على المعاصي، فهوَ يواقِعُها في رمضانَ.

وحكايةُ مُحَمَّدِ بن هارونَ البَلْخِيِّ مشهورةٌ قد رُوِيَتْ مِن وجوهٍ، وهوَ أنَّهُ كانَ مصرًّا على شربِ الخمرِ، فجاءَ في آخرِ يومٍ مِن شعبانَ وهوَ سكرانُ، فعاتَبَتْهُ أُمُّهُ وهيَ تَسْجُرُ تنُّورًا، فحَمَلَها فألْقاها في التَّنُّورِ فاحْتَرَقَتْ، وكانَ بعدَ ذلكَ قد تابَ وتَعَبَّدَ، فرُئِيَ لهُ في النَّومِ أن الله تَعالى قد غَفَرَ للحاجِّ كلِّهِم سواهُ.

فمَن أرادَ اللهُ بهِ خيرًا حَبَّبَ إليهِ الإيمانَ وزَيَّنَهُ في قلبِهِ وكَرَّهَ إليهِ الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ فصارَ مِن الرَّاشدينَ، ومَن أرادَ بهِ شرًّا خَلَّى بينَهُ وبينَ نفسِهِ فأتْبَعَهُ الشَّيطانُ

(2)

فحَبَّبَ إليهِ الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ فكانَ مِن الغاوينَ.

الحذرَ الحذرَ مِن المعاصي! فكم سَلَبَتْ مِن نعم! وكم جَلَبَتْ مِن نقم! وكم

(1)

في خ: "يعديني الإمام بقدرة"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

بقطع الهمزة وإسكان التاء، على لفظ آية الأعراف 175، ومعاه: جعله الشيطان تابعًا له.

ص: 345

خَرَبَتْ مِن ديار! وكم أخْلَتْ ديارًا مِن أهلِها فما بَقِيَ منهُم ديَّار! كم أخَذَتْ مِن العصاةِ بالثَّار! كم مَحَتْ لهُم مِن آثار!

يا صاحِبَ الذَّنْبِ لا تَأْمَنْ عَواقِبَهُ

عَواقِبُ الذَّنْبِ تُخْشى وَهْيَ تُنْتَظَرُ

فَكُلُّ نَفْسٍ سَتُجْزى بِالَّذي كَسَبَتْ

وَلَيْسَ لِلْخَلْقِ مِن دَيَّانِهِمْ وَزَرُ

(1)

أينَ حالُ هؤلاءِ الحمقى مِن قومٍ كانَ دهرُهُم كلُّهُ رمضانَ؛ ليلُهُم قيامٌ ونهارُهُم صيامٌ؟!

باعَ قومٌ مِن السَّلفِ جاريةً، فلمَّا قَرُبَ شهرُ رمضانَ؛ رَأتْهُمْ يَتَأهَّبونَ لهُ ويَسْتَعِدُّونَ بالأطعمةِ

(2)

وغيرِها، فسَألَتْهُم، فقالوا: نَتَهَيأُ لصيامِ رمضانَ، فقا لَتْ: وأنتُم لا تَصومونَ إلَّا رمضانَ؟! لقد كُنْتُ عندَ قومٍ كلُّ زمانِهِم رمضانُ، رُدُّوني عليهِم.

وباعَ الحَسَنُ بنُ صالِحٍ جاريةً لهُ، فلمَّا انْتَصَفَ الليلُ؛ قامَتْ فنادَتْهُم: يا أهلَ الدَّارِ! الصَّلاةَ الصَّلاةَ! قالوا: أطَلَعَ الفجرُ؟ قالَتْ: وأنتُم لا تُصَلُّونَ إلَّا المكتوبةَ؟! ثمَّ جاءَتْ إلى الحَسَنِ فقالَتْ: بِعْتَني على قومِ سوءٍ لا يُصَلُّونَ إلَّا الفرائضَ، رُدَّني رُدَّني.

قال بعضُ السَّلفِ: صُمِ الدُّنيا واجْعَلْ فطرَكَ الموتَ.

الدُّنيا كلُّها شهرُ صيامِ المتَّقينَ، يَصومونَ فيهِ عن الشَّهواتِ [المحرَّماتِ]، فإذا جاءَهُمُ الموتُ؛ فقدِ انْقَضى شهرُ صيامِهِم واسْتَهَلُّوا عيدَ فطرِهِم.

وَقَدْ صُمْتُ عَنْ لَذَّاتِ دَهْرِيَ كُلِّها

وَيَوْمَ لِقاكُمْ ذاكَ فِطْرُ صِيامي

مَن صامَ اليومَ عن شهواتِه؛ أفْطَرَ عليها بعدَ مماتِه، ومَن تَعَجَّلَ ما حُرمَ عليهِ قبلَ وفاتِه؛ عوقِبَ بحرمانِهِ في الآخرةِ وفواتِه.

وشاهدُ ذلكَ: قولُهُ تَعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} الآيةَ [الأحقاف: 25]. وقولُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَن شَرِبَ الخمرَ في الدُّنيا؛ لمْ يَشْرَبْها في الآخرةِ"

(3)

، و"مَن لَبِسَ الحريرَ في الدُّنيا؛ لمْ يَلْبَسْهُ في

(1)

في خ: "الحذار الحذار

دنياهم وزر"! والصواب ما أثبتّه من م ون وط. والوزر: المفرّ.

(2)

في خ ون: "في الأطعمة"، والأولى ما أثبتّه من م وط.

(3)

رواه: البخاري (74 - الأشربة، 1 - إنّما الخمر والميسر، 10/ 30/ 5575)، ومسلم (36 - =

ص: 346

الآخرةِ"

(1)

.

أنْتَ في دارِ شَتاتٍ

فَتَأهَّبْ لِشَتاتِكْ

وَاجْعَلِ الدُّنْيا كَيَوْمٍ

صُمْتَهُ عَنْ شَهَواتِك

وَلْيَكُنْ فِطْرُكَ عِنْدَ الـ

ـلهِ في يَوْمِ وَفاتِكْ

في حديثٍ مرفوعٍ خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا: "لو يَعْلَمُ العبادُ ما في رمضانَ؛ لَتَمَنَّتْ أُمَّتي أنْ تَكونَ السَّنةُ كلُّها رمضانَ"

(2)

.

• وكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُ أصحابَهُ بقدومِ رمضانَ، كما خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائِيُّ عن أبي هُرَيْرَةَ؛ قالَ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُبَشِّرُ أصحابَهُ يَقولُ: "قد جاءَكُمْ شهرُ رمضانَ، شهرٌ مباركٌ، كَتَبَ اللهُ عليكُم صيامَهُ، تفْتَحُ فيهِ أبوابُ السَّماءِ، وتُغْلَقُ فيهِ

= الأشربة، 7 - كلّ مسكر خمر، 3/ 1587/ 2003)؛ من حديث ابن عمر.

(1)

رواه: البخاري (77 - اللباس، 25 - لبس الحرير للرجال، 10/ 283/ 5832 - 5834) من حديث أنس وابن الزبير وعمر، ومسلم (37 - اللباس، 2 - تحريم إناء الذهب والفضّة، 3/ 1642/ 2069 و 2073 و 2074)؛ من حديث عمر وابن الزبير وأنس وأبي أُمامة.

(2)

(موضوع). رواه: ابن أبي الدنيا، وأبو يعلى (5273)، وابن خزيمة (1886)، والشاشي (852)، والبيهقي في "الشعب"(3634)، والأصبهاني (1738)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 189)؛ من طريق جرير بن أيّوب البجلي، (ح) ورواه: الطبراني (22/ 388/ 967)، والدارقطني (2/ 100 - لآلئ)، وابن النجّار (2/ 100 - لآلئ)؛ من طريق الهيّاج بن بسطام، ثنا عبّاد (وقيل: عبّاس).

كلاهما عن نافع بن بردة، عن ابن مسعود (وقيل: أبي مسعود، وقيل: أبي شريك) الغفاري

رفعه.

وهاهنا علل: أولاها: أنّ جريرًا هذا متّهم متروك. وبه أعلّه ابن خزيمة والبيهقي وابن الجوزي والهيثمي (3/ 144) والعسقلاني في "المطالب". والثانية: أنّ متابعَهُ الهيّاج ضعيف منكر الحديث، وبه أعلّه الهيثمي في "المجمع". وشيخ الهيّاج عبّاد أو عبّاس لا يُدرى من هو، ولا يبعد أبدًا أن يكون أحد المتّهمين أو المتروكين، وهم كثر في هذه الطبقة، وهذا الإبهام للراوي كثيرًا ما يكون لإخفاء حاله. والثالثة: أنّ نافع بن بردة هذا لا يُدرى من هو ولم أقف له على ذكر. والرابعة: أنّ هذا الاضطراب في اسم الصحابيّ يدلّ على حقيقة حال الرواة. والخامسة: أنّ سياق الحديث بطوله يشهد بأنّه موضوع.

وقد قال ابن خزيمة في الحديث: "إن صحّ الخبر؛ فإنّ في القلب من جرير بن أيّوب البجلي". فقال العسقلاني في "المطالب" بعد أن ضعّفه جدًّا: "كأنّه تساهل فيه لكونه من الرغائب". وقال ابن الجوزي: "موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فاستدركه عليه السيوطي، فردّ عليه الشوكاني في "الفوائد" بقوله:"سياقه ممّا يشهد العقل أنّه موضوع، فلا معنى لاستدراك السيوطي على ابن الجوزي بأنّه رواه غير من روى عنه ابن الجوزي؛ فإنّ الموضوع لا يخرج عن كونه موضوعًا برواية الرواة له". وقال الألباني: "موضوع".

ص: 347

أبوابُ الجحيمِ، وتُغَلُّ فيهِ الشَّياطينُ، فيهِ ليلةٌ خيرٌ مِن ألفِ شهرٍ، مَن حُرِمَ خيرَها فقدْ حُرِمَ"

(1)

.

قالَ بعضُ العلماءِ: هذا الحديثُ أصلٌ في تهنئةِ النَّاسِ بعضِهِم بعضًا بشهرِ رمضانَ.

كيفَ لا يُبَشَّرُ المؤمنُ بفتح أبوابِ الجنان؟! كيفَ لا يُبَشَّرُ المذنبُ بغلقِ أبوابِ النِّيران؟! كيفَ لا يُبَشَّرُ الغافلُ

(2)

بوقتٍ يُغَلُّ فيهِ الشَّيطان؟! مِن أينَ يُشْبِهُ هذا الزَّمانَ زمان.

وفي حديثٍ آخرَ: "أتاكُم رمضانُ سيِّدُ الشُهورِ؛ فمرحبًا بهِ وأهلًا"

(3)

.

جاءَ شَهْرُ الصِّيامِ بِالبَرَكاتِ

فَأكْرِمْ بِهِ مِنْ زائِرٍ هُوَ آتِ

[و] رُوِيَ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَدْعو ببلوغِ رمضانَ، فكانَ إذا دَخَلَ شهرُ رجبٍ تقولُ:"اللهمَّ! بارِكْ لنا في رجبٍ وشعبانَ وبَلِّغْنا رمضانَ"

(4)

. خَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ وغيرُهُ مِن حديثِ أنسٍ.

وقالَ مُعَلَّى بنُ الفَضْلِ: كانوا يَدْعونَ الله ستَّةَ أشهرٍ أنْ يُبَلِّغَهُمْ رمضانَ، ثمَّ

(1)

(حسن بشواهده). رواه: عبد الرزّاق (7383)، وابن أبي شيبة (8867)، وإسحاق في "المسند"(1/ 73/ 1 و 2)، وأحمد (2/ 230 و 385 و 425)، وعبد بن حميد (1429)، والنسائي في "الكبرى"(2416) و"المجتبى"(22 - الصيام، 5 - ذكر الاختلاف على معمر، 4/ 129/ 2105)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(3600)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(16/ 154)، والرافعي في "التدوين"(2/ 252)؛ من طريق أيّوب، عن أبي قلابة، عن أبي هريرة

رفعه. وهذا سند رجاله ثقات، لكن قال المنذري:"أبو قلابة عن أبي هريرة ولم يسمع منه فيما أعلم". وقال الذهبي: "أبو قلابة ثقة في نفسه؛ إلّا أنّه يدلّس عمّن لحقهم وعمّن لم يلحقهم، وكانت له صحف يحدّث منها ويدلّس". قلت: فعلى هذا؛ فلا يؤمن أن يكون في السند انقطاع.

ولقوله صلى الله عليه وسلم "تفتح فيه

الشياطين" طريق أُخرى عند: البخاري (1898) ومسلم (1079).

وله بطوله شاهد ضعيف عن أنس عند: ابن ماجه (1644)، والطبراني في "الأوسط"(7623).

وللقطعة الأولى والأخيرة منه شاهد ضعيف عن عبادة بن الصامت عند الطبراني (3/ 145 - مجمع).

فهذه الشواهد تنهض لشدّ الانقطاع المحتمل فيه إن شاء الله، وقد مال إلى تحسينه الألباني.

(2)

في خ: "العابد"، وفي ن و ط:"العاقل"، والأولى ما أثبتّه من م.

(3)

(لم أقف عليه بهذا التمام). لكن الغالب في مثل هذا التضعيف وربّما كان دون ذلك.

(4)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 291).

ص: 348

يَدْعونَهُ ستَّةَ أشهرٍ أنْ يُتَقَبَّلَ منهُم.

وقالَ يَحْيى بنُ أبي كَثيرٍ: كانَ مِن دعائِهِمُ: اللهمَّ! سَلِّمْني إلى رمضانَ، وسَلِّمْ لي رمضانَ، وتَسَلَّمْهُ منِّي متقبَّلًا.

بلوغُ شهرِ رمضانَ وصيامُهُ نعمةٌ عظيمةٌ على مَن أقْدَرَهُ اللهُ عليهِ، ويَدُلُّ عليهِ حديثُ الثَّلاثةِ الذينَ اسْتُشْهِدَ اثنانِ منهُم ثمَّ ماتَ الثَّالثُ على فراشِهِ بعدَهُما، فرُئِيَ في المنامِ سابقًا لهُما، فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أليسَ صَلَّى بعدَهُما كذا وكذا صلاةً وَأدْرَكَ رمضانَ فصامَهُ؟ فوالذي نفسي بيدِهِ؛ إنَّ بينَهُما لأبعدَ ممَّا بينَ السَّماءِ والأرضِ"

(1)

.

(1)

(صحيح، والمحفوظ أنّهما رجلان لا ثلاثة). وقد جاء بلفظه وبمعناه عن جماعة من الصحابة:

* فرواه: مسدّد في "مسنده"(3/ 218 - مصباح الزجاجة)، وأحمد (1/ 163)، وعبد بن حميد (104)، والبزّار (954 - بحر)، والنسائي في "اليوم والليلة"(844 و 845) مختصرًا، وأبو يعلى (634)، والشاشي (26)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 224)؛ من طريق قويّة، عن طلحة بن يحيى بن طلحة، عن إبراهيم بن محمّد بن طلحة، عن عبد الله بن شدّاد، [عن طلحة بن عبيد الله]

فذكره بنحوه. قال الهيثمي (10/ 207): "رواه أحمد فوصل بعضه وأرسل أوّله، ورواه أبو يعلى والبزّار فقالا عن عبد الله بن شدّاد عن طلحة فوصلاه بنحوه، ورجالهم رجال الصحيح". قلت: الوصل زيادة ثقة، ووصل أحمد للحديث في سياقه يقوّي هذه الزيادة ويؤكّد أنّها محفوظة. لكن المشكل أنّ طلحة هذا يخطئ، فالسند مقارب.

ورواه: سعيد بن منصور، وعنه ابن عبد البرّ (24/ 223)؛ من طريق صالح بن موسى بن إسحاق بن طلحة، عن أبيه، عن إبراهيم بن محمّد بن طلحة، عن جدّه طلحة

فذكره بنحوه. قال ابن عبد البرّ: "لم يسمعه إبراهيم من جدّه"، قلت: صالح متروك، والسند ساقط.

ورواه: أحمد (1/ 162 و 163)، وابن أبي عمر في "المسند"(3/ 218 - مصباح الزجاجة)، وابن ماجه (35 - التعبير، 10 - تعبير الرؤيا، 2/ 1293/ 3925)، والشاشي في "المسند"(28)، وابن حبّان (2982)، والبيهقي (3/ 371)، وابن عبد البرّ في "التمهيد" 24/ 221 - 223)؛ من طريق محمّد بن إبراهيم التيمي. (ح) ورواه: أحمد (2/ 333)، وأبو يعلى (648)، والشاشي (27)، والبيهقي في "الزهد"(625)، والضياء في "المختارة"(3/ 26/ 826)؛ من طريق محمّد بن عمرو بن علقمة. كلاهما عن أبي سلمة، عن طلحة

رفعه بنحوه، لكن جعلهما رجلين لا ثلاثة. وهذا سند يمكن أن يعلّ من أحد وجهين: أوّلهما: أنّهم اختلفوا على محمّد بن إبراهيم: فرواه بعضهم عنه مرسلًا، وبعضهم عنه عن أبي سلمة مرسلًا، وبعضهم عنه عن أبي سلمة عن طلحة. ولا يضرّ؛ لأنّ الطريق الموصولة صحيحة أوّلًا، ولأنّه توبع ثانيًا. والوجه الآخر: قول ابن المديني وابن معين وغيرهما: "أبو سلمة لم يسمع من طلحة شيئًا". وبه أعلّه ابن أبي خيثمة والشاشي وابن عبد البرّ والبوصيري. وهذه أيضًا غير قادحة، قال ابن عبد البرّ:"هو عند أبي سلمة عن أبي هريرة عن طلحة". قلت: يشير إلى ما رواه: ابن أبي شيبة، وأحمد (2/ 333)، والبزّار (929)، وابن عبد البرّ (24/ 225)؛ من طريق قوية، عن محمّد بن عمرو، عن أبي =

ص: 349

خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ وغيرُهُ.

مَن رُحِمَ في شهرِ رمضانَ فهوَ المرحوم، ومَن حُرِمَ خيرَهُ فهوَ المحروم، ومَن لمْ يَتَزَوَّدْ فيهِ لِمَعادِ [هِ] فهوَ ملوم.

أتى رَمضانُ مَزْرَعَةُ العِبادِ

لِتَطْهيرِ القُلوبِ مِنَ الفَسادِ

فَأدِّ حُقوقَهُ قَوْلًا وَفِعْلًا

وَزادَكَ فَاتَّخِذْهُ إلى المعادِ

(1)

فَمَنْ زَرَعَ الحُبوبَ وَما سَقاها

تَأوَّهَ نادِمًا يَوْمَ الحَصادِ

يا مَن طالَتْ غيبتُهُ عنَّا! قد قَرُبَتْ أيَّامُ المصالحة. يا مَن دامَتْ خسارتُهُ! قد أقْبَلَتْ أيامُ التِّجارةِ الرَّابحة.

مَن لمْ يَرْبَحْ في هذا الشَّهرِ ففي أيِّ وقتٍ يَرْبَح؟! مَن لمْ يقْرُبْ فيهِ مِن مولاهُ فهوَ على بعدِهِ لا يَبْرَح.

أُناسٌ أعْرَضوا عَنَّا

بِلا جُرْمٍ وَلا مَعْنى

أساؤوا ظَنَّهُمْ فينا

فَهَلَّا أحْسَنوا الظَّنَّا

فَإنْ عادوا لَنا عُدْنا

وَإنْ خانوا فَما خُنَّا

= سلمة، عن أبي هريرة

فذكره وأسند بعضه إلى طلحة. وهذا سند حسن، ومحمّد بن عمرو صدوق مقبول الزيادة. فبان أنّ العلّتين غير قادحتين، والسند صحيح.

• ورواه: الطيالسي (1190)، وأبو داوود (9 - الجهاد، 29 - النور عند قبر الشهيد، 2/ 20/ 2524)، والنسائي (21 - الجنائز، 77 - الدعاء، 4/ 74/ 1984)، والبيهقي في "السنن"(3/ 371) و"الزهد"(626)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 225 و 226)؛ من طريق مسلسلة بالأثبات، عن عبد الله بن ربيّعة، عن عبيد بن خالد

رفعه لكن جعلهما رجلين لا ثلاثة. وعبد الله هذا ذكره ابن حبّان في "الثقات" وروى عنه جماعة واختلف في صحبته فلا أقلّ من أن يحسّن حديثه.

* وذكره مالك في "الموطّأ"(1/ 174) بلاغًا، ووصله ابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 221) من طريق قويّة عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن عامر بن سعد، عن سعد رضي الله عنه

رفعه بنحوه وجعلهما رجلين لا ثلاثة. وهذا سند قويّ.

* ورواه ابن أبي شيبة (35699) من طريق قويّة عن الحسن مرسلًا بذكر رجلين لا ثلاثة.

فحديث طلحة صحيح بطرقه، وحديث عبيد حسن أو صحيح، وحديث سعد صحيح أيضًا، ومرسل الحسن يزيدها قوّة على قوّتها، وقد صحّح هذا المتن ابن حبّان وابن عبد البرّ والضياء والمنذري والهيثمي والبوصيري وشاكر والألباني.

(1)

في خ ون: "للمعاد"، ولا يستوي الوزن إلّا بما أثبتّه من م وط.

ص: 350

وَإنْ كانوا قَدِ اسْتَغْنَوْا

فَإنَّا عَنْهُمُ أغْنى

كم يُنادى حَيَّ على الفلاحِ وأنْتَ خاسر! كم تُدْعى إلى الصَّلاحِ وأنتَ على الفسادِ مثابر!

إذا رَمَضانُ أتى مُقْبِلًا

فَأقْبِلْ فَبِالخَيْرِ يُسْتَقْبَلُ

لَعَلَّكَ تُخْطِئُهُ قابِلًا

وَتَأْتي بِعُذْرٍ فَلا يُقْبَلُ

كم ممَّن أمَّلَ أنْ يَصومَ هذا الشَّهر فخانَهُ أملُهُ فصارَ قبلَهُ إلى ظلمةِ القبر!

كم مِن مستقبلٍ يومًا لا يَسْتكْمِلُه ومؤمِّلٍ غدًا لا يُدْرِكُه!

إنَّكم لو أبْصَرْتُمُ الأجلَ ومسيرَه؛ لأبْغَضْتُمُ الأملَ وغرورَه.

خَطَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ آخرَ خطبةٍ خَطَبَها فقالَ فيها: إنَّكم لم تُخْلَقوا عبثًا، ولنْ تُتْرَكوا سدًى، وإنَّ لكُم معادًا يَنْزِلُ اللهُ فيهِ للفصلِ بينَ عبادِهِ، فقد خابَ وخَسِرَ مَن خَرَجَ مِن رحمةِ اللهِ التي وَسِعَتْ كلَّ شيءٍ وحُرِمَ جنَّةً عرضها السَّماواتُ والأرضُ. ألا تَرَوْن أنَّكم في أسلابِ الهالكينَ، وسَيَرِثُها بعدَكُمُ الباقونَ كذلكَ [حتَّى] تُرَدَّ إلى خيرِ الوارثينَ؟! وفي كلِّ يومٍ تُشَيِّعونَ غاديًا ورائحًا إلى اللهِ قد قَضى نحبَهُ وانْقَضى أجلُهُ، فتُوَدِّعونَهُ وتَدَعونَهُ في صدعٍ مِن الأرضِ غيرِ موسَّدٍ ولا ممهَّدٍ، قد خَلَعَ الأسبابَ وفارَق الأحبابَ وسَكَنَ التُّرابَ وواجَهَ الحسابَ، غنيًّا عمَّا خَلَّفَ فقيرًا إلى ما أسْلَفَ، فاتَّقوا الله عبادَ اللهِ قبلَ نزولِ الموتِ وانقضاءِ مواقيتِهِ، وإنِّي لأقولُ لكُم هذهِ المقالةَ وما أعْلَمُ عندَ أحدٍ مِن الذُّنوبِ أكثرَ ممَّا أعْلَمُ عندي، ولكنِّـ[ـي] أسْتَغْفِرُ الله وأتوبُ إليهِ. ثمَّ رَفَعَ طرفَ ردائِهِ وبَكى حتَّى شَهَقَ، ثمَّ نَزَلَ عن المنبرِ فما عادَ إلى المنبرِ بعدَها حتَّى ماتَ رحمةُ اللهِ عليهِ

(1)

.

يا ذا الذي ما كَفاهُ الذَّنْبُ في رَجَبٍ

حَتَّى عَصى رَبَّهُ في شَهْرِ شَعْبانِ

لَقَدْ أظَلَّكَ شَهْرُ الصوْمِ بَعْدَهُما

فَلا تُصيِّرْهُ أيْضًا شَهْرَ عِصيانِ

وَاتْلُ القُرَانَ وَسَبِّحْ فيهِ مُجْتَهِدًا

فَإنَّهُ شَهْرُ تَسْبيحٍ وَقُرْآنِ

(1)

وهي والله من عيون الخطب. رحمة الله عليهم، ما كان أجزل كلامهم وأقلّه وأدلّه!

ص: 351

وَاحْمِلْ عَلى جَسَدٍ تَرْجو النَّجاةَ لَهُ

فَسَوْفَ تُضْرَمُ أجْسامٌ بِنيرانِ

كَمْ كُنْتَ تَعْرِفُ ممَّنْ صامَ في سَلَفٍ

(1)

مِنْ بَيْنِ أهلٍ وجيرانٍ وَإخوانِ

أفْناهُمُ المَوْتُ وَاسْتَبْقاكَ بَعْدَهُمُ

حَيًّا فَما أقْرَبَ القاصي مِنَ الدَّاني

وَمُعْجَبٍ بثيابِ العيدِ يقْطَعُها

فَأصْبَحَتْ في غدٍ أثْوابَ أكْفانِ

حَتَّى مَتى يَعْمُرُ الإنْسانُ مَسْكَنَهُ

مَصيرُ مَسْكَنِهِ قَبْرٌ لإنْسانِ

* * *

(1)

يعني: صام في رمضان الماضي ثمّ لم يدرك رمضان الحاضر.

ص: 352

‌وظائف شهر رمضان المعظم

وفيه مجالس:

‌المجلس الأول في فضل الصيام

في الصَّحيحينِ

(1)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"كلُّ عملِ ابن آدَمَ لهُ؛ الحسنةُ بعشرِ أمثالِها إلى سبعِ مئةِ ضعفٍ. قالَ اللهُ عز وجل: إلَّا الصِّيامَ؛ فإنَّهُ لي وأنا أجْزي بهِ. إنَّهُ تَرَكَ شهوتَهُ وطعامَهُ وشرابَهُ مِن أجلي. للصَّائمِ فرحتانِ: فرحةٌ عند فطرِهِ، وفرحةٌ عندَ لقاءِ ربِّهِ. ولَخُلوفُ فمِ الصَّائمِ عندَ اللهِ أطيَبُ مِن ريحِ المسكِ". وفي روايةٍ

(2)

: "كلُّ عملِ ابن آدَمَ لهُ إلَّا الصِّيامَ فإنَّهُ لي". وفي روايةٍ للبُخارِيِّ

(3)

: "لكلِّ عملٍ كفَّارةٌ، والصَّومُ لي وأنا أجْزي بهِ". وخَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ مِن هذا الوجهِ

(4)

ولفظُهُ: "كلُّ عملِ ابن آدَمَ كفَّارةٌ؛ إلَّا الصَّومَ، والصَّومُ لي، وأنا أجْزي بهِ".

• فعلى الرِّوايةِ الأُولى يَكونُ استثناءُ الصَّومِ مِن الأعمالِ المضاعفةِ، فتكونُ الأعمالُ كلُّها تُضاعَفُ بعشرِ أمثالِها إلى سبعِ مئةِ ضعفٍ؛ إلَّا الصِّيامَ؛ فإنَّهُ لا يَنْحَصِرُ تضعيفُهُ في هذا العددِ، بل يُضاعِفُهُ اللهُ أضعافًا كثيرةً بغيرِ حصرِ عددٍ:

(1)

البخاري (97 - التوحيد، 35 - يريدون أن يبدّلوا كلام الله، 13/ 464/ 7492)، ومسلم (13 - الصيام، 30 - فضل الصيام، 2/ 807/ 1151).

(2)

البخاري (30 - الصوم، 9 - أيقول إنّي صائم، 4/ 118/ 1904)، ومسلم (الموضع السابق).

(3)

(97 - التوحيد، 50 - ذكر النبيّ صلى الله عليه وسلم، 13/ 512/ 7538).

(4)

يعني: من طريق شعبة عن محمّد بن زياد عن أبي هريرة مرفوعًا. وقد رواه أحمد (2/ 457 و 467 و 501) من هذا الوجه، وأسانيده ثقات رجال البخاري، لكن ليس عنده هذا اللفظ على التحديد، وإنّما عنده في الموضعين الأوّل والثاني "كلّ العمل كفّارة وفي الثالث "لكلّ عمل كفارة".

ص: 353

* فإنَّ الصِّيامَ مِن الصَّبرِ، وقد قالَ اللهُ:{إنَّما يُوَفَّى الصَّابِرونَ أجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

ولهذا وَرَدَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ سَمَّى شهرَ رمضانَ شهرَ الصَّبرِ

(1)

.

وفي حديثٍ آخرَ عنهُ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "الصَّومُ نصفُ الصَّبرِ"

(2)

. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ.

والصَّبرُ ثلاثةُ أنواعٍ: صبرٌ على طاعةِ اللهِ عز وجل، وصبرٌ عن محارمِ اللهِ، وصبرٌ على أقدارِ اللهِ المؤلمةِ. وتَجْتَمعُ الثَّلاثةُ كلُّها في الصَّومِ؛ فإنَّ فيهِ صبرًا على طاعةِ اللهِ، وصبرًا عمَّا حَرَّمَ اللهُ على الصَّائمِ مِن الشَّهواتِ، وصبرًا على ما يَحْصُلُ للصَّائمِ [فيهِ] مِن ألمِ الجوعِ والعطشِ وضعفِ النَّفسِ والبدنِ.

وهذا الألمُ النَّاشئ مِن أعمالِ الطَّاعاتِ يُثابُ عليهِ صاحبُهُ، كما قالَ تَعالى في المجاهدينَ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ

(1)

(صحيح). وقد جاء في جملة من الأحاديث: منها حديث مجيبة الباهليّة الذي تقدّم (ص 559) تخريجه وبيان ضعفه. ومنها حديث سلمان الفارسيّ الذي سيأتي بيان ضعفه بعد سطور. ومنها حديثا أبي ذرّ وزهير بن أقيش الصحيحان الآتيان بنصّهما وتفصيل القول فيهما في الحاشية التالية.

(2)

(حسن). وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم من وجهين:

* فرواه: ابن ماجه (7 - الصيام، 44 - الصوم زكاة الجسد، 1/ 555/ 1745)، والقضاعي (229)، والبيهقي في "الشعب"(3577 و 3578)؛ عن موسى بن عبيدة، عن جمهان، عن أبي هريرة

رفعه. قال البوصيري: "فيه موسى بن عبيدة الربذي، متّفق على تضعيفه". قلت: وجمهان فلا بأس بحديثه.

* ورواه: معمر في "الجامع"(20582)، وأحمد (4/ 260، 5/ 363 و 365 و 370 و 372)، والعدني في "الإيمان"(58)، والدارمي (1/ 167)، والترمذي (49 - الدعوات، 87 - باب، 5/ 536/ 3519)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(1429 و 2920)، وابن نصر في "تنظيم الصلاة"(432)، والطبراني في "الدعاء"(1734)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(4/ 13)، والبيهقي في "الشعب"(631)؛ من طرق ثلاثة، عن جريّ النهديّ، عن رجل من بني سليم من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم

رفعه في سياق. قال الترمذي: "حديث حسن". قلت: حديث جريّ لا يحتمل التحسين، وفي حقيقة حاله وهل هو رجل أو اثنين أو ثلاثة كلام يطول، وأعدل الأقوال فيه قول العسقلاني "مقبول"، فالسند صالح في الشواهد لا أكثر.

وعليه؛ فهذه القطعة المذكورة حسنة بمجموع هذين الوجهين كما ذكر الترمذي، ولا سيّما أنّ ما قبلها وبعدها يشهد لها في الجملة. وقد مال إلى تحسينه العراقي وضعّف الألباني الحديثان بطولهما، وتضعيفه سليم جار على الأصول، لكنّ هذه القطعة بالتحديد تتقوّى بمجموعهما.

ص: 354

يُضِيعُ أجْرَ المُحْسِنينَ} [التَّوبة: 120].

وفي حديثِ سَلْمانَ المرفوعِ الذي خَرَّجَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ في "صحيحه" في فضلِ شهرِ رمضانَ: "وهوَ شهرُ الصَّبرِ، والصَّبرُ ثوابُهُ الجنَّةُ"

(1)

.

وفي الطَّبَرانِيِّ عن ابن عُمَرَ مرفوعًا: "الصِّيامُ للهِ، لا يَعْلَمُ ثوابَ عملِهِ إلَّا اللهُ عز وجل"

(2)

. ورُوِيَ مرسلًا، وهوَ أصحَّ.

(1)

(ضعيف جدًّا). قطعة من حديث طويل رواه: الحارث في "مسنده"(321) وابن أبي حاتم في "العلل"(733) والعقيلي (1/ 35) والبيهقي في "الشعب"(3608) والخطيب في "التاريخ"(4/ 333) من طريق عبد الله بن بكر السهمي (قال الحارث: عن رجل يقال له إياس، وقال العقيلي: عن إياس بن أبي إياس، وقال ابن أبي حاتم والبيهقي: ثنا إياس بن عبد الغفّار). (ح) ورواه ابن خزيمة (1887) وأبو الشيخ في "الثواب"، والبيهقي في "الأوقات"(48 - 51)، والأصبهاني في "الترغيب" (1726) من طريق يوسف بن زياد عن همّام بن يحيى. (ح) ورواه المحاملي (293) وابن عدي (5/ 1931) من طريق سعيد بن محمّد بن ثواب عن عبد العزيز بن عبد الله الجدعاني عن سعيد بن أبي عروبة. ثلاثتهم عن عليّ بن زيد بن جدعان (إلّا الحارث فأسقطه من السند وإلّا العقيلي فقال: عن شعبة)، عن سعيد بن المسيّب، عن سلمان

رفعه.

وهذا سند واه فيه علّتان: أشار إلى أولاهما: العسقلاني بقوله: "مداره على عليّ بن زيد بن جدعان وهو ضعيف". والثانية: أنّ الطرق إلى ابن جدعان واهية: ففي الطريق الأولى إياس بن أبي إياس قال العسقلاني: "ما عرفته". قلت: مجهول لم يرو غير هذا الحديث واضطرب فيه فأسقط ابن جدعان مرّة وجعل مكانه شعبة مرّة فبان أنّه واهٍ على جهالته، وجزم أبو حاتم أنّه تحريف صوابه أبان بن أبي عيّاش، وهذا متروك. وفي الطريق الثانية يوسف بن زيد قال العسقلاني:"ضعيف جدّا". قلت: منكر الحديث متروك. وفي الثالثة ابن ثواب له أوهام والجدعاني ضعيف منكر الحديث مدلّس وقد عنعن. فاجتماع هذه الطرق الثلاث لا ينتشلها من الضعف. والحديث قال ابن خزيمة: "إن صحّ الخبر"، واستنكره أبو حاتم وابنه والعقيلي وابن عدي والعسقلاني والألباني. وقد جاء نحو هذه القطعة من أوجه قويّة تغني عن هذا الأصل جملة.

(2)

(صحيح بشواهده). قطعة من حديث طويل رواه عمر بن محمّد بن زيد واختلف عليه فيه على وجهين: روى الأوّل: ابن وهب في "الجامع"(4/ 108 - فتح)، ومن طريقه البيهقي في "الشعب"(3588)؛ أني عمر بن محمّد بن زيد، أنّ زيدًا حدّثه، لا أعلمه إلّا عن رسول الله

فذكره. وروى الثاني: الطبراني في "الأوسط"(869)، والبيهقي في "الشعب"(3589)؛ من طريق يحيى بن المتوكّل أبي عقيل، عن عمر، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر

رفعه. قال الهيثمي (3/ 185): "فيه يحيى بن المتوكّل، ضعّفه جمهور الأئمّة ووثّقه ابن معين في رواية وضعّفه في أُخرى". قلت: خلاصة أمره أنّه منكر الحديث، وممّا يدلّ على نكارة حديثه مخالفته لابن وهب الثقة الثبت في وصل هذا السند، ولذلك قال ابن رجب:"وروي مرسلًا وهو أصحّ". فالمعروف هاهنا الإرسال على الوجه الأوّل والوصل منكر.

لكن يشهد لجملة الحديث دون قطعة الصوم المذكورة حديث خريم بن فاتك الصحيح عند: أحمد (4/ 322 و 345 و 346)، والترمذي (1625)، وابن حبّان (4647 و 6171)، والطبراني (4/ 205/ =

ص: 355

* واعْلَمْ أن مضاعفةَ الأجرِ للأعمالِ تكونُ بأسبابٍ:

- منها: شرفُ المكانِ المعمولِ فيهِ ذلكَ العملُ، كالحرمِ.

ولذلكَ تُضاعَفُ الصَّلاةُ في مسجدَي مَكَّةَ والمَدينَةِ، كما ثَبَتَ ذلكَ في الحديثِ الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ مِن ألفِ صلاةٍ فيما سِواهُ مِن المساجدِ إلَّا المسجدَ الحرامَ"

(1)

. وفي روايةٍ: "فإنَّهُ أفضلُ".

وكذلكَ

(2)

رُوِيَ أنَّ الصِّيامَ يُضاعَفُ بالحرمِ. وفي "سنن ابن ماجَهْ" بإسنادٍ ضعيفٍ عن ابن عَبَّاسٍ مرفوعًا: "مَن أدْرَكَ رمضانَ بمكَّةَ فصامَهُ وقامَ منهُ ما تَيَسَّرَ؛ كَتَبَ اللهُ لهُ مئةَ ألفِ شهرِ رمضانَ فيما سواهُ"، وذَكَرَ لهُ ثوابًا كثيرًا

(3)

.

- ومنها: شرفُ الزَّمانِ، كشهرِ رمضانَ وعشرِ ذي الحجَّةِ.

وفي حديثِ سَلْمانَ المرفوعِ الذي أشَرْنا إليهِ في فضلِ شهرِ رمضانَ: "مَن تَطَوَّعَ فيهِ بخصلةٍ مِن خصالِ الخيرِ؛ كانَ كمَن أدَّى فريضةً فيما سواهُ، ومَن أدَّى فيهِ فريضة؛ كانَ كمَن أدَّى سبعينَ فريضةً فيما سواهُ"

(4)

.

وفي التِّرْمِذِيِّ عن أنَسٍ: سُئِلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ الصَّدقةِ أفضلُ؟ قالَ: "الصَّدقةُ في

= 4151 - 4155)، والحاكم (2/ 87).

ويشهد لهذه القطعة ما رواه سمّويه في "الفوائد"(4/ 108 - فتح) من طريق المسيب بن رافع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رفعه بلفظ:"إلّا الصوم فإنّه لا يدري أحد ما فيه".

فالحديث صحيح بهذه الشواهد، وهذه القطعة قويّة بشواهدها المعنويّة.

(1)

رواه البخاري (20 - مسجد مكّة، 1 - فضل الصلاة، 3/ 63/ 1190) من حديث أبي هريرة، ومسلم (15 - الحجّ، 94 - الصلاة بمسجدي مكّة والمدينة، 2/ 1012/ 1394 - 1396) من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن عبّاس.

(2)

في خ و ن: "ولذلك"، والأولى ما أثبتّه من م وط.

(3)

(موضوع). رواه: الفاكهي في "مكّة"(1574)، وابن ماجه (35 - المناسك، 106 - صيام رمضان بمكّة، 2/ 1041/ 3117)، وابن أبي حاتم في "العلل"(735) تعليقًا، والبيهقي في "الشعب"(3729 و 4149)؛ من طريق عبد الرحيم بن زيد العمّي، عن أبيه، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس

رفعه.

قال أبو حاتم: "منكر، وعبد الرحيم بن زيد متروك الحديث". وقال البيهقي: "تفرّد به عبد الرحيم بن زيد"، وقال:"ضعيف يأتي بما لا يتابعه الثقات عليه". قلت: هو متّهم متروك. وقال ابن رجب: "إسناد ضعيف". وقال الألباني: "موضوع، ولوائح الوضع عليه ظاهرة".

(4)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه قبل قليل.

ص: 356

رمضانَ"

(1)

.

وفي الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "عمرةٌ في رمضانَ تَعْدِلُ حجَّةً (أو قالَ: حجَّةً معي) "

(2)

.

ووَرَدَ في حديثٍ آخرَ: "إنَّ عملَ الصَّائمِ مضاعَفٌ"

(3)

.

وذَكَرَ أبو بكرِ بنُ أبي مَرْيَمَ عن أشياخِهِ؛ أنَّهُم كانوا يَقولونَ: إذا حَضَرَ شهرُ رمضانَ؛ فانْبَسِطوا فيهِ بالنَّفقةِ؛ فإنَّ النَّفقةَ فيهِ مضاعفةٌ كالنَّفقةِ في سبيلِ اللهِ، وتسبيحةٌ فيهِ أفضلُ مِن ألفِ تسبيحةٍ في غيرِهِ،

[و] قالَ النَّخَعِيُّ: صومُ يومٍ مِن رمضانَ أفضلُ مِن ألفِ يومٍ، وتسبيحةٌ فيهِ أفضلُ مِن ألفِ تسبيحةٍ، وركعةٌ فيهِ أفضلُ مِن ألفِ ركعةٍ

(4)

.

(1)

(ضعيف). قطعة من حديث أنس أنّه صلى الله عليه وسلم سئل أيّ الصوم أفضل بعد رمضان؟ فقال: "شعبان تعظيمًا لرمضان". وقد تقدّم تفصيل القول في القطعة الأولى منه (ص 307) ولهذه القطعة حكمها.

(2)

رواه: البخاري (26 - العمرة، 4 - عمرة في رمضان، 3/ 603/ 1782)، ومسلم (15 - الحجّ، 36 - العمرة في رمضان، 2/ 917/ 1256)؛ من حديث ابن عبّاس.

(3)

(ضعيف جدًّا). قطعة من حديث لفظه "نوم الصائم عبادة وصمته تسبيح وعمله مضاعف ودعاؤه مستجاب وذنبه مغفور". رواه البيهقي في "الشعب"(3937) من طريق إدريس بن موسى ثنا سهيل بن خاقان ثنا خلف بن يحيى العبدي عن عبسة بن عبد الواحد القرشي، والبيهقي (3938) والديلمي في "المسند"(6834) من طريق سليمان بن عمرو، والبيهقي (3939) من طريق معروف بن حسّان عن زياد الأعلم؛ ثلاثتهم عن عبد الملك بن عمير، عن ابن أبي أوفى

رفعه. فأمّا الطريق الأولى؛ فإدريس لم أقف له على ترجمة، وسهيل أو سهل بن خاقان مترجم في "اللسان" بحديث باطل، وخلف بن يحيى إن كان قاضي الريّ فمتّهم وإلّا ما عرفته. وأمّا الطريق الثانية؛ فقال العراقي:"سليمان بن عمرو النخعي أحد الكذّابين". وأمّا الطريق الثالثة؛ فقال البيهقي: "معروف بن حسّان ضعيف". قلت: بل منكر الحديث متّهم.

قال العراقي: "رويناه في "أمالي ابن منده" من رواية ابن المغيرة القوّاس عن عبد الله بن عمر بسند ضعيف، ولعلّه عبد الله بن عمرو؛ فإنّهم لم يذكروا لابن المغيرة رواية إلَّا عنه". قلت: وابن المغيرة تحريف صوابه أبو المغيرة، ولا يعدو أن يكون صالحًا في المتابعات.

قال العسقلاني في "الفتح"(7/ 151): "وقد أورده صاحب "مسند الفردوس" من حديث ابن عمر، وفي إسناده الربيع بن بدر، وهو ساقط".

فهذه أسانيد غاية في الوهاء، والحديث ساقط، وقد ضعّفه البيهقي والعراقي والعسقلاني والسيوطي والعجلوني والمناوي والألباني.

(4)

وهذا وما قبله لا بدّ فيه من سند صحيح إلى من يتعيّن المصير إلى قوله، وهيهات!

ص: 357

فلمَّا كانَ الصِّيامُ في نفسِهِ مضاعفًا أجرُهُ بالنِّسبةِ إلى سائرِ الأعمالِ؛ كانَ صيامُ شهرِ رمضانَ مضاعفًا على سائرِ الصِّيامِ؛ لشرفِ زمانِهِ وكونِهِ هوَ الصَّومَ الذي فَرَضَهُ اللهُ على عبادِهِ، وجَعَلَ صيامَهُ أحدَ أركانِ الإسلامِ التي بُنِيَ الإسلامُ عليها.

- وقد يُضاعَفُ الثَّوابُ بأسبابٍ أُخرَ منها: شرفُ العاملِ عندَ اللهِ وقربُهُ منهُ وكثرةُ تقواهُ، كما ضوعِفَ أجرُ هذهِ الأُمَّةِ على أُجورِ مَن قبلَهُم مِن الأُممِ وأُعْطُوا كفلينِ مِن الأجرِ.

• وأمَّا على الرِّوايةِ الثانيةِ؛ فاستثناءُ الصِّيامِ مِن بين الأعمالِ يَرْجِعُ إلى أن سائرَ الأعمالِ للعبادِ والصِّيامُ اخْتَصَّهُ اللهُ لنفسِهِ مِن بين أعمالِ عبادِهِ وأضافَهُ إليهِ. وسَيَأْتي ذكرُ توجيهِ هذا الاختصاصِ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.

• وأمَّا [على] الرِّوايةِ الثَّالثةِ؛ فالاستثناءُ يَعودُ إلى التكفيرِ بالأعمالِ، ومِن أحسنِ ما قيلَ في معنى ذلكَ ما قالَهُ سُفْيانُ بنُ عُيَيْنَةَ رحمه الله؛ قالَ: هذا مِن أجودِ الأحاديثِ وأجلِّها، إذا كانَ يومُ القيامةِ؛ يُحاسِبُ اللهُ عبدَهُ، ويُؤَدِّي ما عليهِ مِن المظالمِ مِن سائرِ عملِهِ حتَّى لا يَبْقى إلَّا الصَّومُ، فيَتَحَمَّلُ اللهُ عز وجل ما بَقِيَ عليهِ مِن المظالمِ ويُدْخِلُهُ بالصَّومِ الجنَّةَ. خَرَّجَهُ البَيْهَقِيُّ في "شعب الإيمان" وغيرُهُ. وعلى هذا فيَكونُ المعنى أن الصِّيامَ للهِ عز وجل، فلا سبيلَ لأحدٍ إلى أخذِ أجرِهِ مِن الصِّيامِ، بل أجرُهُ مدَّخرٌ لصاحبِهِ عندَ اللهِ عز وجل. وحينئذٍ [فـ]ـقد يُقالُ: إنَّ سائرَ الأعمالِ [قد] يُكَفِّرُ بها اللهُ عز وجل ذنوبَ صاحبِها فلا يَبْقى لها أجرٌ؛ فإنَّهُ رُوِيَ أنَّهُ يوازَنُ يومَ القيامةِ بينَ السَّيِّئاتِ والحسناتِ، ويُقَصُّ بعضُها مِن بعضٍ، فإنْ بَقِيَ مِن الحسناتِ حسنة؛ دَخَلَ بها صاحبُها الجنَّةَ. قالَهُ سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ وغيرُهُ، وفيهِ حديثٌ مرفوعٌ خَرَّجَهُ الحاكِمُ مِن حديثِ ابن عَبَّاسٍ مرفوعًا

(1)

. فيُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ في الصَّومِ: إنَّهُ لا يَسْقُطُ ثوابُهُ بمقاصَّةٍ ولا غيرِها،

(1)

(ضعيف). رواه: عبد بن حميد (661 - منتخب)، والعدني (4/ 252 - تلخيص المستدرك)، والبخاري في "التاريخ"(7/ 113)، وابن جرير (28255 و 31271)، وابن المنذر (الأحقاف 16 - الدرّ)، وابن أبي حاتم (الأحقاف 16 - ابن كثير)، والطبراني (10/ 220 - مجمع)، والحاكم (4/ 252)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 91)، والبيهقي في "الشعب"(6920)، والذهبي في "النبلاء"(12/ 340)؛ من طريق الحكم بن أبان، ثني أبو هارون الغطريف بن عبيد الله، أنّ أبا الشعثاء حدّثه، أنّ ابن عبّاس حدّثه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: يؤتى =

ص: 358

بل يُوَفَّرُ أجرُهُ لصاحبِهِ حتَّى يَدْخُلَ الجنَّةَ فيُوَفَّى أجرُهُ فيها

(1)

.

• وأمَّا قولُهُ: "فإنَّهُ لي"؛ فإن الله خَصَّ الصِّيامَ بإضافتِهِ إلى نفسِهِ دونَ سائرِ الأعمالِ، وقد كَثُرَ القولُ في معنى ذلكَ مِن الفقهاءِ والصُّوفيَّةِ وغيرِهِم، وذَكَروا فيهِ وجوهًا كثيرةً، ومِن أحسنِ ما ذُكِرَ فيهِ وجهانِ:

* أحدُهُما: أن الصِّيامَ هوَ مجرَّدُ تركِ حظوظِ النَّفسِ وشهواتِها الأصليَّةِ التي جُبِلَتْ على الميلِ إليها للهِ عز وجل، ولا يوجَدُ ذلكَ في عبادةٍ أُخرى غيرِ الصِّيامِ: لأنَّ الإحرامَ إنَّما يُتْرَكُ فيهِ الجماعُ ودواعيهِ مِن الطِّيبِ دونَ سائرِ الشَّهواتِ مِن الأكلِ والشُّربِ. وكذلكَ الاعتكافُ معَ أنَّهُ تابعٌ للصَّومِ. وأمَّا الصَّلاةُ؛ فإنَّهُ وإنْ تَرَكَ المصلِّي فيها جميعَ الشَّهواتِ، إلَّا أن مدَّتَها لا تَطولُ، فلا يَجِدُ المصلِّي فقدَ الطَّعامِ والشَّرابِ في صلاتِهِ، بل قد نُهِيَ أنْ يُصَلِّيَ ونفسُهُ تَتوقُ إلى الطَّعامِ بحضرتِهِ حتَّى يَتَناوَلَ منهُ ما يُسَكِّنُ نفسَهُ. ولهذا أُمِرَ بتقديمِ العَشاءِ على الصَّلاةِ

(2)

. وذهَبَتْ طائفةٌ مِن العلماءِ إلى إباحةِ شربِ الماءِ في صلاةِ التَّطوُّعِ، وكانَ ابنُ الزُّبَيْرِ يَفْعَلُهُ في صلاتِهِ، وهوَ روايةٌ عن الإمامِ أحْمَدَ. وهذا بخلافِ الصِّيامِ؛ فإنَّهُ يَسْتَوْعِبُ النَّهارَ كلَّهُ، فيَجِدُ الصَّائمُ فقدَ هذهِ الشَّهواتِ، وتَتُوقُ نفسُهُ إليها، [و] خصوصًا في نهارِ الصَّيفِ؛ لشدَّةِ حرِّهِ وطولِهِ. ولهذا رُوِيَ أن مِن خصالِ الإيمانِ الصَّومَ في الصَّيفِ

(3)

.

= بحسنات العبد وسيّئاته فيقصّ بعضها ببعض، فإن بقيت حسنة وسّع الله له في الجنّة

" إلخ.

قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير:"غريب، وإسناده جيّد، ولا بأس به". وقال الهيثمي: "إسناده جيّد". قلت: الحكم صدوق له أوهام، والغطريف مجهول لا يعرف إلّا بهذا الراوي وهذا الحديث، فالسند ضعيف.

(1)

فيه نظر يوضّحه ما رواه مسلم (2581) من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا

فيعطى هذ من حسناته

فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثمّ طرح في النار"! فهذا بيّن في أنّ الصيام يدخل في المقاصّة بين الحسنات والسيئات، ولو لم يدخل لما ذكره النبيّ صلى الله عليه وسلم هنا أصلًا ولما فنيت الحسنات ولما صار الرجل مفلسًا أصلًا!

(2)

جاء هذا عنه صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث بعضها مخرّج في الصحيحين.

(3)

(موقوف ضعيف). رواه: ابن سعد (3/ 359)، والبيهقي في "الشعب"(2756)؛ من طريق ليث بن أبي سليم، عن أبي منير رجل من مكّة، عن ابن عمر، قال عمر: عليك بخصال الإيمان

فذكره.

ص: 359

وقد كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصومُ رمضانَ في السَّفرِ في شدَّةِ الحرِّ دونَ أصحابِهِ، كما قالَ أبو الدَّرْداءِ: كُنَّا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في رمضانَ، وأحدُنا يَضَعُ يدَهُ على رأْسِهِ مِن شدَّةِ الحرِّ، وما كانَ فينا صائمٌ إلَّا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعَبْدَ اللهِ بنَ رَوَاحَةَ

(1)

.

وفي "الموطَّإ" أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ بالعَرْجِ يَصُبُّ الماءَ على رأْسه وهوَ صائمٌ مِن العطشِ أو مِن الحرِّ

(2)

.

فإذا اشْتَدَّ توقانُ النَّفسِ إلى ما تَشْتَهيهِ معَ قدرتِها عليهِ ثمَّ تَرَكَتْهُ للهِ عز وجل في موضعٍ لا يَطَّلِعُ عليهِ إلَّا اللهُ، كانَ ذلكَ دليلًا على صحَّةِ الإيمانِ؛ فإنَّ الصَّائمَ يَعْلَمُ أن لهُ ربًّا يَطَّلعُ عليهِ في خلوتِهِ، وقد حَرَّمَ عليهِ أنْ يَتَناوَلَ شهواتِهِ المجبولَ على الميلِ إليها في الخلوةِ، فأطاعَ ربّهُ وامْتَثَلَ أمرَهُ واجْتَنَبَ نهيَهُ خوفًا مِن عقابِهِ ورغبةً في ثوابِهِ، فشَكَرَ اللهُ لهُ ذلكَ واخْتَصَّ لنفسِهِ عملَهُ هذا مِن بين سائرِ أعمالِهِ. ولهذا قالَ بعدَ ذلكَ:"إنَّهُ تَرَكَ شهوتَهُ وطعامَهُ وشرابَهُ مِن أجلي".

قالَ بعضُ السَّلفِ: طوبى لمَن تَرَكَ شهوةً حاضرةً لموعدِ غيبٍ لمْ يَرَهُ.

لمَّا عَلِمَ المؤمنُ الصَّائمُ أنَّ رضى مولاهُ في ترك شهواتِهِ، قَدَّمَ رضى مولاهُ على هواهُ، فصارَتْ لذَّتُهُ في تركِ شهوتِهِ لله - لإيمانِهِ باطِّلاع اللهِ [عليهِ] وثوابِهِ وعقابِهِ - أعظمَ مِن لذتِهِ في تناولِها في الخلوةِ، إيثارًا لرضى ربِّهِ على هوى نفسِهِ. بلِ المؤمنُ

= وهذا موقوف ما له حكم الرفع، والليث لا يعدو أن يكون صالحًا في الشواهد، وأتى برجل مجهول.

(1)

رواه: البخاري (30 - الصوم، 35 - باب، 4/ 182/ 1945)، ومسلم (13 - الصيام، 17 - التخيير في الصوم والفطر، 2/ 790/ 1122).

(2)

(صحيح). رواه: مالك في "الموطّأ"(1/ 294)، والشافعي في "السنن"(ص 316)، وعبد الرزّاق (7509)، وأحمد (3/ 475، 4/ 63، 5/ 376)، وأبو داوود (8 - الصيام، 27 - الصائم يصبّ عليه الماء، 1/ 721/ 2365)، والنسائي في "الكبرى"(3029)، والطحاوي في "المعاني"(2/ 66)، والحاكم (1/ 432)، والبيهقي (4/ 242)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(22/ 47)؛ من طريق سميّ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، [عن رجل من الصحابة]

رفعه.

وهذا سند رجاله ثقات رجال الستّة، لكن رواه الجماعة من طريق مالك عن سميّ موصولًا، وخالفهم عبد الرزّاق فرواه من طريق ابن عيينة عن سميّ عن أبي بكر مرسلًا. وزيادة مالك على الرأس والعين. وقد قوّى هذا الحديث الحاكم والذهبي والعسقلاني والشوكاني والألباني.

ووقع في خ وم: "من العطش والحرّ"، وما أثبتّه من ن وط أولى بمصادر التخريج.

ص: 360

يَكْرَهُ ذلكَ في خلوتِهِ أشدَّ مِن كراهتِهِ لألمِ الضَّربِ.

ولهذا؛ أكثرُ المؤمنينَ لو ضُرِبَ على أنْ يُفْطِرَ في أشهرِ، رمضانَ لغيرِ عذرٍ لمْ يَفْعَلْ؛ لعلمِهِ بكراهةِ اللهِ لفطرِهِ في هذا الشَّهرِ، وهذا مِن علاماتِ الإيمانِ أنْ يَكْرَهَ المؤمنُ ما يُلائِمُهُ مِن شهواتِهِ إذا عَلِمَ أن الله يَكْرَهُهُ، فتَصيرُ لذَّتُهُ فيما يُرْضي مولاهُ وإنْ كانَ مخالفًا لهواهُ، ويَكونُ ألمُهُ فيما يَكْرَهُهُ مولاهُ وإنْ كانَ موافقًا لهواهُ.

وإذا كانَ هذا فيما حُرِّمَ لعارضِ الصَّومِ مِن الطعامِ والشَّرابِ ومباشرةِ النِّساءِ؛ فيَنْبَغي أنْ يَتَأكَّدَ ذلكَ فيما حُرِّمَ على الإطلاقِ كالزِّنى وشربِ الخمرِ وأخذِ الأموالِ أوِ الأعراضِ بغيرِ حقٍّ وسفكِ الدِّماءِ المحرَّمةِ؛ فإنَّ هذا يُسْخِطُ الله على كلِّ حالٍ وفي كلِّ زمانٍ ومكانٍ، فإذا كَمَلَ إيمانُ المؤمنِ

(1)

؛ كَرِهَ ذلكَ كلَّهُ أعظمَ مِن كراهتِهِ للقتلِ والضَّربِ.

ولهذا جَعَلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن علاماتِ وجودِ حلاوةِ الإيمانِ: أنْ يَكْرَهَ أنْ يَرْجِعَ إلى الكفرِ بعدَ أنْ أنْقَذَهُ اللهُ كما يَكْرَهُ أنْ يُلْقى في النَّارِ

(2)

.

وقالَ يوسُفُ عليه السلام: {رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعونَني إلَيْهِ} [يوسف: 33].

سُئِلَ ذو النُّونِ: متى أُحِبُّ ربِّي؟ قالَ: إذا كانَ ما يَكْرَهُهُ أمَرَّ عندَكَ مِن الصَّبرِ.

وقالَ غيرُهُ: ليسَ مِن أعلامِ المحبَّةِ أنْ تُحِبَّ ما يَكْرَهُهُ حبيبُكَ.

وكثيرٌ مِن النَّاسِ يَمْشي على العوائدِ دونَ ما يوجِبُهُ الإيمانُ ويَقْتَضيهِ، فلهذا كثيرٌ منهُم لو ضُرِبَ ما أفْطَرَ في رمضانَ لغيرِ عذرٍ، ومِن جهَّالِهِم مَن لا يُفْطِرُ لعذرٍ ولو تَضَرَّرَ بالصَّومِ - معَ أنَّ الله يُحِبُّ منهُ أنْ يَقْبَلَ رخصتَهُ - جريًا منهُ على العادةِ، وقدِ اعْتادَ معَ ذلكَ ما حَرَّمـ[ـهُ] اللهُ مِن شربِ الخمرِ والزِّنى وأخذِ الأموالِ والأعراضِ أوِ الدِّماءِ بغيرِ حقٍّ! فهذا يَجْري على عوائدهِ في ذلكَ كلِّهِ لا على مقتضى الإيمانِ، ومَن عَمِلَ بمقتضى

(1)

في خ: "كمل الإيمان للمؤمن"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

فيما رواه: البخاري (2 - الإيمان، 9 - حلاوة الإيمان، 1/ 60/ 16)، ومسلم (1 - الإيمان، 15 - خصال من اتصف بهنّ، 1/ 66/ 43)؛ من حديث أنس.

ص: 361

الإيمانِ؛ صارَتْ لذَّتُهُ في مصابرةِ نفسِهِ عمَّا تَميلُ نفسُهُ إليهِ إذا كانَ فيهِ سخطُ اللهِ، وربَّما يَرْتَقي إلى أنْ يَكْرَهَ جميعَ ما يَكْرَهُهُ اللهُ منهُ ويَنْفُرَ منهُ وإنْ كانَ ملائمًا للنُّفوسِ، كما قيلَ:

إنْ كانَ رِضاكُمْ في سَهَري

فَسَلامُ اللهِ عَلى وَسَني

وقالَ آخرُ: فَما لِجُرْحٍ إذا أرْضاكُمُ ألَمُ.

وقالَ آخرُ:

عَذابُهُ فيكَ عَذْبُ

وَبُعْدُهُ فيكَ قُرْبُ

وَأنْتَ عِنْدي كَرُوحي

بَلْ أنْتَ مِنْها أحَبُّ

حَسْبي مِنَ الحُبِّ أنِّي

لِما تُحِبُّ أُحِبُّ

* الوجهُ الثَّاني: أن الصِّيامَ سرٌّ بينَ العبدِ وربِّهِ لا يَطَّلعُ عليهِ غيرُهُ؛ لأنَّهُ مركَّبٌ مِن نيَّةٍ باطنةٍ لا يَطَّلعُ عليها إلَّا اللهُ، وتركٍ لتناولِ الشَّهواتِ التي يُسْتَخْفى [بـ]ـتناولِها في العادةِ، ولذلكَ قيلَ: لا تَكْتبهُ الحفظةُ، وقيلَ: إنَّهُ ليسَ فيهِ رياءٌ. كذا قالَهُ الإمامُ أحْمَدُ وغيرُهُ. وفيهِ حديثٌ مرفوعٌ مرسلٌ

(1)

.

وهذا الوجهُ اختيارُ أبي عُبَيْدٍ وغيرِهِ. وقد يَرْجِعُ إلى الأوَّلِ؛ فإنَّ مَن تَرَكَ ما تَدْعوهُ نفسُهُ إليهِ للهِ عز وجل حيثُ لا يَطَّلعُ عليهِ غيرُ مَن أمَرَهُ ونَهاهُ؛ دَلَّ على صحَّةِ إيمانِهِ. واللهُ تَعالى يُحِبُّ مِن عبادِهِ أنْ يُعامِلوهُ سرًّا بينَهُم وبينَهُ، وأهلُ محبَّتِهِ يُحِبُّونَ أنْ يُعامِلوهُ سرًّا بينَهُم وبينَهُ بحيثُ لا يَطَّلعُ على معاملتِهِم إيَّاهُ سواهُ، حتَّى كانَ بعضُ السَّلفِ يَوَدُّ لو تَمَكَّنَ مِن عبادةٍ لا تَشْعُرُ بها الملائكةُ الحفظةُ. وقالَ بعضُهُم لمَّا اطُّلِعَ على بعضِ سرائرِهِ: إنَّما كانَتْ تَطيبُ الحياةُ لمَّا كانَتِ المعاملةُ بيني وبينَهُ سرًّا، ثمَّ دَعا لنفسه بالموتِ، فماتَ

(2)

.

(1)

أغلب الظنّ أنّه يريد ما جاء في الحديث الإلهي: "الإخلاص سرّ من أسراري استودعته قلب من أحبّ لا يطّلع عليه ملك فيكتبه ولا شيطان فيفسده". وهذا موضوع على النبيّ صلى الله عليه وسلم كما بيّنته في "مدارج السالكين"(2/ 116 - ط. ابن خزيمة). فإن أراد غيره فما عرفته.

(2)

إذا ستر العبد الصادق حاله مع الله عن الخلق، فاطّلع بعضهم على شيء من ذلك بغير قصد منه ولا تشوّف؛ فهذا قدر من أقدار من الله يستلزم منه عبوديّة الشكر أو الرضى أو الصبر بحسب مقامه، وهذا =

ص: 362

المحبُّونَ يَغارونَ مِنِ اطِّلاعِ الأغيارِ على الأسرارِ التي بينَهُم وبينَ مَن يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَهُ.

نَسيمَ صَبا نَجْدٍ مَتى جِئْتَ حامِلًا

تَحِيَّتَهُم فَأطْوِ الحَديثَ عَنِ الرَّكْبِ

وَلا تُذعِ السِّرَّ المَصونَ فَإنَّني

أغارُ عَلى ذِكْرِ الأحِبَّةِ مِنْ صَحْبي

• وقولُهُ "تَرَكَ شهوتَهُ وطعامَهُ وشرابَهُ مِن أجلي" فيهِ إشارة إلى المعنى الذي ذَكَرْناهُ، وأنَّ الصَّائمَ تَقَرَّبَ إلى اللهِ بتركِ ما تَشْتَهيهِ نفسُهُ مِن الطَّعامِ والشَّرابِ والنِّكاحِ، وهذهِ أعظمُ شهواتِ النَّفسِ.

* وفي التَّقرُّبِ بتركِ هذهِ الشَّهواتِ بالصِّيامِ فوائدُ:

منها: كسرُ النَّفسِ؛ فإنَّ الشِّبعَ والرِّيَّ ومباشرةَ النِّساءِ تَحْمِلُ النَّفسَ على الأشرِ والبطرِ والغفلةِ.

ومنها: تخلِّي القلبِ للفكرِ والذِّكرِ؛ فإنَّ تناول هذهِ الشَّهواتِ قد تُقَسِّي القلبَ وتُعْميهِ وتَحول بينَ العبدِ وبينَ الفكرِ والذِّكرِ وتَسْتَدْعي الغفلةَ. وخلوُّ الباطنِ مِن الطَّعامِ والشَّرابِ يُنَوِّرُ القلبَ ويوجِبُ رقَّتَهُ ويُزيلُ قسوتَهُ ويُخْليهِ للذِّكرِ والفكرِ.

ومنها: أنَّ الغنيَّ يَعْرِفُ قدرَ نعمةِ اللهِ عليهِ بإقدارِهِ لهُ على ما مَنَعَهُ كثيرًا مِن الفقراءِ مِن فضول الطَّعامِ والشَّرابِ والنِّكاحِ؛ فإنَّهُ بامتناعِهِ مِن ذلكَ في وقتٍ مخصوصٍ وحصول المشقَّةِ لهُ بذلكَ يَتَذَكَّرُ بهِ مَن مُنعَ مِن ذلكَ على الإطلاقِ، فيوجِبُ لهُ ذلكَ شكرَ نعمةِ اللهِ عليهِ بالغنى، ويَدْعوهُ إلى رحمةِ أخيهِ المحتاجِ ومواساتِهِ بما يُمْكِنُ مِن ذلكَ.

ومنها: أن الصِّيامَ يُضَيِّقُ مجاريَ الدَّمِ التي هيَ مجاري الشَّيطانِ منِ ابن آدَمَ؛ فإنَّ الشَّيطانَ يَجْري مِنِ آبنِ آدَمَ مجرى الدَّمِ، فتَسْكُنُ بالصِّيامِ وساوسُ الشَّيطانِ، وتَنْكَسِرُ

= المذكور لم يفعل شيئًا من ذلك بل جزع واضطرب واستحوذ عليه الشيطان فجعله يتمنّى الموت مخالفًا لوصيّة النبيّ صلى الله عليه وسلم فهذه واحدة. وإذا اطّلع بعض الخلق على شيء من حال الصادق مع ربّه؛ فالأصل فيه أن يستر ما خفي عنهم من أحواله، وهذا فضح سائر أحواله بقوله:"لمّا كانت المعاملة بيني وبينه سرًّا"! فكان كالذي قيل فيه: ما أحسن صلاة هذا الرجل! فلمّا سلّم قال للمستحسِن: إنّي صائم أيضًا! فتأمّل هذه القصص التي تساق على أنّها من كرامات القوم، فإذا أنعم الباحث عن الحقّ فيها نظره؛ رآها جهالات ومخالفات.

ص: 363

سَوْرَةُ الشَّهوةِ والغضبِ، ولهذا جَعَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الصِّيامَ وِجاءً؛ لقطعِهِ عن شهوةِ النِّكاحِ.

* واعْلَمْ أنَّهُ لا يَتِمُّ التَّقرُّبُ إلى اللهِ تَعالى بتركِ هذهِ الشَّهواتِ المباحةِ في غيرِ حالةِ الصِّيامِ إلَّا بعدَ التَّقرُّبِ إليهِ بتركِ ما حَرَّمَـ[ـهُ] اللهُ في كل حالٍ مِن الكذبِ والظُّلمِ والعدوانِ على النَّاسِ في دمائِهِم وأموالِهِم وأعراضِهِم.

ولهذا قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَن لمْ يَدَعْ قولَ الزورِ والعملَ بهِ؛ فليسَ للهِ حاجةٌ في أنْ يَدَعَ طعامَهُ وشرابَهُ". خَرَّجَهُ البخاريُّ

(1)

.

وفي حديثٍ آخرَ: "ليسَ الصِّيامُ مِن الطَّعامِ والشَّرابِ، إنَّما الصّيامُ مِن اللغوِ والرَّفثِ"

(2)

. قالَ الحافظُ أبو موسى المَدينِي: هوَ على شرطِ مسلمٍ.

[و] قالَ بعضُ السَّلفِ: أهونُ الصِّيامِ تركُ الشَّرابِ والطعامِ.

وقالَ جابِرٌ: إذا صُمْتَ؛ فلْيَصُمْ سمعُكَ وبصرُكَ ولسانُكَ عن الكذبِ والمحارمِ، ودع أذى الجارِ، ولْيَكُنْ عليكَ سكينةٌ ووقارٌ يومَ صومِكَ، ولا تَجْعَلْ يومَ صومِكَ ويومَ فطرِكَ سواء.

إذا لَمْ يَكُنْ في السَّمْعِ مِنِّي تَصاوُنٌ

وَفي بَصَري غَضٌّ وَفي مَنْطِقي صَمْتُ

فَحَظِّي إذًا مِنْ صَوْمِيَ الجوعُ وَالظَّما

فَإنْ قُلْتُ إنِّي صُمْتُ يَوْمِي فَما صُمْتُ

وقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "ربَّ صائمٍ حظُّهُ مِن صيامِهِ

(3)

الجوعُ والعطشُ، وربَّ قائمٍ حظُّهُ

(1)

(30 - الصوم، 8 - من لم يدع قول الزور، 4/ 116/ 1903).

(2)

(صحيح). رواه الحارث بن أبي ذباب واختلف عليه فيه على وجهين: روى الأوَّل منها: ابن خزيمة (1996)، وابن حبّان (3479)، والحاكم (1/ 430)، والبيهقي (4/ 270)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(1/ 81)؛ من طريقين قويّتين، عن الحارث، عن عمّه، عن أبي هريرة

رفعه. قال الحاكم: "على شرط مسلم"، وأقرّه المنذري والذهبي. قلت: عمّ الحارث هو عبد الله بن المغيرة بن أبي ذباب، لم يرو عنه إلّا الحارث ولم يوثّقه إلّا ابن حبّان ولم يخرّج له مسلم! وروى الثاني: الخطيب في "الجمع والتفريق"(1/ 81)، والأصبهاني في "الترغيب"(1747)؛ من طريقين قويّتين، عن الحارث، عن عطاء بن ميناء، عن أبي هريرة

رفعه. وهذا سند حسن.

وليس أحد الوجهين أولى من الآخر بالترجيح، فأولى الأقوال هاهنا قول الخطيب:"لعلّ الحديث عند الحارث عن عمّه وعن عطاء بن ميناء فيصحّ القولان معًا". قلت: ويصحّ الحديث أيضًا، ولا سيّما أنّ الشواهد لا تعوزه، وقد قوّاه ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم والخطيب وأبو موسى المديني والمنذري والذهبي والألباني.

(3)

في خ: "من صومه"، وما أثبته من م ون وط أولى بلفظ "المسند".

ص: 364

مِن قيامِهِ السَّهرُ"

(1)

.

وسرُّ هذا أنَّ التَّقرُّبَ إلى اللهِ تَعالى بتركِ المباحاتِ لا يَكْمُلُ إلَّا بعدَ التَّقرُّبِ إليهِ بتركِ المحرَّماتِ، فمَنِ ارْتكبَ المحرَّماتِ ثمَّ تَقَرَّبَ بتركِ المباحاتِ؛ كانَ بمثابةِ مَن يَتْرُكُ الفرائضَ ويَتَقَرَّبُ بالنَّوافلِ، وإنْ كانَ صومُهُ مجزئًا عندَ الجمهورِ بحيثُ لا يُؤْمَرُ بإعادتِهِ؛ لأنَّ العملَ إنَّما يَبْطُلُ بارتكابِ ما نُهِيَ عنهُ فيهِ بخصوصِهِ دونَ ارتكابِ ما نُهِيَ عنهُ لغيرِ معنًى يَخْتَصُّ بهِ. هذا هوَ أصلُ جمهورِ العلماءِ.

وفي "مسند الإمام أحْمَد": أنَّ امرأتينِ صامَتا في عهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فكادَتا أنْ تَموتا مِن العطشِ، فذُكِرَ ذلكَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فأعْرَضَ، ثمَّ ذُكِرَتا لهُ فدَعاهُما وأمَرَهُما أنْ يَتَقَيَّأا، فقاءَتا ملءَ قدحٍ قيحًا ودمًا وصديدًا ولحمًا عبيطًا. فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم:"إن هاتينِ صامَتا عمَّا أحَلَّ اللهُ لهُما، وأفْطَرَتا على ما حَرَّمَ اللهُ عليهِما، جَلَسَتْ إحداهُما إلى الأُخرى، فجَعَلَتا يَأْكُلانِ لحومَ النَّاسِ"

(2)

.

(1)

(صحيح). رواه: ابن المبارك في "المسند"(75)، وأحمد (2/ 373 و 441)، والدارمي (1/ 301)، وابن ماجه (7 - الصيام، 21 - الغيبة والرفث للصائم، 1/ 539/ 1690)، والنسائي في "الكبرى"(3249 - 3251 و 3333)، وأبو يعلى (6551)، وابن خزيمة (1997)، وابن حبّان (3481)، والحاكم (1/ 431)، والقضاعي في "الشهاب"(1425 و 1426)، والبيهقي في "السنن"(4/ 270) و"الشعب"(3642)، والبغوي في "السنة"(1747)؛ بعضهم من طريق أسامة بن زيد وبعضهم من طريق عمرو بن أبي عمرو، [عن سعيد المقبري]، [عن أبيه]، عن أبي هريرة

رفعه. قال البوصيري: "إسناده ضعيف"؛ يعني: سند ابن ماجه خصوصًا، فيه أُسامة بن زيد الليثي تكلّموا فيه وحديثه صالح في الشواهد على الأقلّ، وقد تابعه عمرو الثقة فخرج الحديث من عهدته. نعم؛ هاهنا خلاف في إثبات سعيد وإسقاطه إثبات أبيه وإسقاطه، ولا يضرّ، فكلاهما ثقة روى عن أبي هريرة، ولا يبعد أن سعيدًا حمله عن أبيه وعن أبي هريرة وحمله عمرو عن سعيد وعن أبيه. وكذلك رواه النسائيّ مرّة موقوفًا، والروايات المرفوعة أكثر وأصحّ. وقد صحّح الحديث ابن خزيمة وابن حبّان والألباني، وقال الحاكم:"على شرط البخاري"، وأقرّه المنذري والذهبي.

وله شاهد من حديث ابن عمر عند: ابن أبي حاتم في "العلل"(354 و 692)، والطبراني (12/ 292 / 13413)، وابن عدي في "الكامل"(6/ 2398)، والقضاعي في "المسند"(1424)، والرافعي في "التدوين"(3/ 236)؛ بسند ضعّفه أبو حاتم وقوّاه الهيثمي.

(2)

(ضعيف). رواه: أحمد (5/ 431)، والبخاري في "التاريخ"(5/ 440)، وابن أبي خيثمة (2/ 448 - إصابة)، وابن أبي الدنيا في "الصمت"(171)، وأبو يعلى (1576)، والحسن بن سفيان (2/ 40 - إصابة)، والروياني (729)، وابن قانع (1/ 257/ 294)، وابن السكن (2/ 448 - إصابة)، وابن منده (2/ 448 - إصابة)، والبيهقي في "الدلائل"(6/ 186)، والأصبهاني في "الترغيب"(2211)، وابن الأثير في =

ص: 365

ولهذا المعنى - واللهُ أعلمُ - وَرَدَ في القرآنِ بعدَ ذكرِ تحريمِ الطَّعامِ والشَّرابِ على الصَّائمِ بالنَّهارِ ذكرُ تحريمِ أكلِ أموالِ النَّاسِ بالباطلِ؛ فإنَّ تحريمَ هذا عامٌّ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، بخلافِ الطعامِ والشَّرابِ، فكانَ إشارةً إلى أن مَنِ امْتَثَلَ أمرَ اللهِ في اجتنابِ الطعامِ والشَّرابِ في نهارِ صومِهِ؛ فلْيَمْتَثِلْ أمرَهُ في اجتنابِ أكلِ الأموالِ بالباطلِ؛ فإنَّهُ محرَّمٌ بكلِّ حالٍ لا يُباحُ في وقتٍ مِن الأوقاتِ. واللهُ أعلمُ.

• وقولُهُ صلى الله عليه وسلم: "وللصَّائمِ فرحتانِ: فرحةٌ عندَ فطرِهِ، وفرحةٌ عندَ لقاءِ ربِّهِ":

* أمَّا فرحةُ

(1)

الصَّائمِ عندَ فطرِهِ؛ فإنَّ النُّفوسَ مجبولة على الميلِ إلى ما يُلائِمُها مِن مطعمٍ ومشربٍ ومنكحٍ، فإذا مُنِعَتْ مِن ذلكَ في وقتٍ مِن الأوقاتِ، ثمَّ أُبيحَ لها في وقتٍ آخرَ؛ فَرِحَتْ إباحةِ ما مُنِعَتْ منهُ، خصوصًا عندَ اشتدادِ الحاجةِ إليهِ؛ فإنَّ النُّفوسَ تَفْرَحُ بذلكَ طبعًا، فإنْ كانَ ذلكَ محبوبًا للهِ؛ كانَ محبوبًا شرعًا، والصَّائمُ عندَ فطرِهِ كذلكَ، فكما أنَّ الله تَعالى حَرَّمَ على الصَّائمِ في نهارِ الصَّومِ تناولَ هذهِ الشَّهواتِ فقد أذِنَ لهُ فيها في ليلِ الصِّيامِ، بل أحَبَّ منهُ المبادرةَ إلى تناولِها في أوَّلِ الليلِ وآخرِهِ، فأحبُّ عبادِهِ إليهِ أعجلُهُم فطرًا، واللهُ وملائكتُهُ يُصلُّونَ على المتسحِّرينَ.

= "الغابة"(3/ 183)؛ من طريق سليمان التيمي تارة وعثمان بن غياث تارة، [عن رجل في حلقة أبي عثمان النهدي]، عن عبيد (أو: سعد) مولى النبي صلى الله عليه وسلم

رفعه. قال البخاري وأبو حاتم وابنه وابن السكن: "مرسل". قال العسقلاني: "كأنّ البخاري يسمّي السند الذي فيه راو مبهم مرسلًا كما قال جماعة من المحدّثين". وقال المنذري والعراقي والهيثمي (3/ 174): "فيه رجل لم يسمّ". وقال ابن كثير: "إسناد ضعيف ومتن غريب". وقال الألباني: "ضعيف".

وله شاهد عند: العقيلي (3/ 319)، وابن مردويه (7/ 54 - إتحاف المتّقين)، والأصبهاني (2212)، وابن الجوزي في "الواهيات"(1299)؛ من طريق عمّار بن علثم المحاربي، عن أُمّه أُم سعيد بنت الأسود، عن أمّها، عن أُمّ سلمة

رفعته بنحوه. قال البخاري والعقيلي وابن الجوزي: "إسناد مجهول ولا يتابع عليه". وقال الذهبي وأقرّه العسقلاني: "منكر لظلمة إسناده وجهالة عمّار وأمّه". قلت: وجدّته.

وشاهد آخر عند: الطيالسي (2107)، وابن أبي الدنيا في "الصمت"(170) و"الغيبة"(31)، وابن مردويه، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 309)، والبيهقي في "الشعب"(6722)؛ من طريق الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي، عن أنس

رفعه بنحوه. ويزيد ضعيف منكر الحديث والربيع ضعيف، وكلاهما من القصّاص أهل الزهد الذين تختلط عليهم الأسانيد والمرويات، ولا يبعد أنّ أحدهما تلقّاه من أحد الأوجه السابقة.

(1)

في خ: "فإنّه يحرم بكلّ حال

فأمّا فرحة"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 366

فالصَّائمُ تَرَكَ شهواتِهِ للهِ بالنَّهارِ تقرُّبًا إليهِ وطاعةً لهُ، وبادَرَ إليها في الليلِ تقرُّبًا إلى اللهِ وطاعةً لهُ، فما تَرَكَها إلَّا بأمرِ ربِّهِ ولا عادَ إليها إلَّا بأمرِ ربِّهِ، فهوَ مطيعٌ لهُ في الحالينِ. ولهذا نُهِيَ عن الوصالِ في الصِّيامِ. فإذا بادَرَ الصَّائمُ إلى الفطرِ تقرُّبًا إلى مولاهُ، وأكَلَ وشَرِبَ وحَمِدَ الله؛ فإنَّهُ يُرْجى لهُ المغفرةُ أو بلوغُ الرِّضوانِ بذلكَ. وفي الحديثِ:"إنَّ الله لَيَرْضى عن عبدِهِ يَأْكُلُ الأكلةَ فيَحْمَدُهُ عليها ويَشْرَبُ الشَّربةَ فيَحْمَدُهُ عليها"

(1)

. وربَّما اسْتُجيبَ دعاؤُهُ عندَ ذلكَ، كما في الحديثِ المرفوعِ الذي خَرَّجَهُ ابنُ ماجَهْ:"إنَّ للصَّائمِ عندَ فطرِهِ دعوةً ما تُرَدُّ"

(2)

. وإنْ نَوى بأكلِهِ وشربِهِ تقويةَ بدنِهِ على القيامِ والصِّيامِ؛ كانَ مثابًا على ذلكَ، كما أنَّهُ إذا نَوى بنومِهِ في الليلِ والنَّهارِ التَّقوِّيَ

(1)

رواه مسلم (48 - الذكر، 24 - استحباب حمد الله، 4/ 2095/ 2734) من حديث أنس.

(2)

(حسن بشواهده). رواه: ابن ماجه (7 - الصيام، 48 - الصائم لا تردّ دعوته، 1/ 557/ 1753)، والطبراني في "الدعاء"(919)، وابن السنّي (481)، والحاكم (1/ 422)، والبيهقي في "الشعب"(3904 - 3906)، والأصبهاني (1780)، وابن عساكر (8/ 256)؛ من طرق، عن الوليد بن مسلم، ثنا إسحاق بن عبيد الله، سمعت عبد الله بن أبي مليكة، سمعت عبد الله بن عمرو

به. وهذا سندٌ ضعيفٌ من أجل إسحاق: فإن كان ابن عبيد الله بن أبي المهاجر؛ فمجهول، وهذا أرجح الأقوال، وإليه مال ابن عساكر والعسقلاني. وإن كان ابن عبيد الله بن أبي مليكة؛ فمستور، وإليه مال الحافظ عبد الغني والمزّي. وإن كان ابن عبد الله مولى زائدة - كما أورده الحاكم ووافقه الذهبي -؛ فثقة، ولكنّه بعيد، فهذا تابعي قديم ما أدركه الوليد. وإن كان ابن عبد الله بن أبي طلحة؛ فثقة. وإن كان ابن عبد الله بن أبي فروة - كما أورده الحاكم ووافقه الذهبي -؛ فمتروك، وهو وارد أيضًا. وربّما كان مدنيًّا مجهولًا كما مال إليه المنذري.

ورواه: الطيالسي (2262)، والبيهقي في "الشعب"(3907)؛ من طريق أبي محمّد المليكي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه

مرفوعًا بنحوه. وأبو محمّد هذا لم أجد له ترجمة.

وله شاهد رواه: ابن عدي (6/ 2282)، والبيهقي في "الشعب"(3903)، والذهبي في "الميزان"(3/ 476)، والعسقلاني في "اللسان"(5/ 76)؛ من طريقين، عن محمد بن يزيد بن خنيس، عن عبد العزيز بن أبي روّاد، عن نافع، عن ابن عمر

كان يقال فذكره. وفي طريق ابن عديّ محمّد بن إسحاق البلخي متّهم، لكن تابعه الحسن بن علي بن بحر بن بري عند البيهقي، لكن يبقى السند ضعيفًا لأنّ ابن بري هذا مستور.

وآخر عند: ابن المبارك في "الزهد"(1409)، والقضاعي (1031)؛ بسند قويّ، عن الحارث بن عبيدة

به. وهذا معضل.

ويشهد لمعناه حديث أبي هريرة "ثلاثة لا تردّ دعوتهم"، وقد طوّلت الكلام فيه في "الأذكار"(586).

ومن المرجّح أنّ الحديث يرتقي بهذه الشواهد إلى مصاف الحسن، وقد مال إلى تقويته البوصيري والعسقلاني، وضعّفه الألباني.

ص: 367

على العملِ؛ كانَ نومُهُ عبادةً.

وفي حديثٍ مرفوعٍ: "نومُ الصَّائمِ عبادةٌ"

(1)

.

قالَتْ حَفْصَةُ بنتُ سِيرينَ: قال أبو العالِيَةِ: الصَّائمُ في عبادة ما لمْ يَغْتَبْ أحدًا وإنْ كانَ نائمًا على فراشِهِ. قال: وكانَتْ حَفْصَةُ تَقول: يا حَبَّذا عبادةٌ وأنا نائمةٌ على فراشي. خَرَّجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.

فالصَّائمُ في ليلهِ ونهارِهِ في عبادةٍ، ويُسْتَجابُ دعاؤُهُ في صيامِهِ وعندَ فطرِهِ، فهوَ في نهارِهِ صائم صابرٌ، وفي ليلِهِ طاعم شاكرٌ.

وفي الحديثِ الذي خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وغيرُهُ: "الطَّاعمُ الشَّاكرُ بمنزلةِ الصَّائمِ الصَّابرِ"

(2)

.

ومَن فَهِمَ هذا الذي أشَرْنا إليهِ؛ لمْ يَتَوَقَّفْ في معنى فرحِ الصَّائمِ عندَ فطرِهِ؛ فإنَّ فطرَهُ على الوجهِ المشارِ إليهِ مِن فضلِ اللهِ ورحمتِهِ، فيَدْخُلُ في قولِهِ تَعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحوا} [يونس: 58].

ولكنْ شرطُ ذلكَ أنْ يَكونَ فطرُهُ على حلالٍ، فإنْ كانَ فطرُهُ على حرامٍ؛ كانَ ممَّن صامَ عمَّا أحَلَّ اللهُ وأفْطَرَ على ما حَرَّمَ اللهُ

(3)

ولمْ يُسْتَجَبْ لهُ دعاءٌ، كما قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الذي يُطيلُ السَّفرَ:"يَمُدُّ يديهِ إلى السَّماءِ: يا ربِّ! يا ربِّ! ومطعمُهُ حرامٌ، ومشربُهُ حرامٌ، وملبسُهُ حرامٌ، وغُذِيَ بالحرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ"

(4)

.

* وأمَّا فرحُهُ عندَ لقاءِ ربِّهِ؛ فبما يَجِدُهُ عندَ اللهِ مِن ثوابِ الصِّيامِ مدَّخرًا، فيَجِدُهُ أحوجَ ما كانَ إليهِ: كما قال تَعالى: {وَما تُقَدِّموا لِأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرًا وَأعْظَمَ أجْرًا} [المزَّمِّل: 20]. وقال تَعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا] [آل عمران: 30]. وقالَ تَعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهْ}

(1)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 357).

(2)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 343).

(3)

كما يفعل المبتلون بالتدخين الذين يفطرون أوّل ما يفطرون على السجائر.

(4)

رواه مسلم (12 - الزكاة، 19 - قبول الصدقة، 2/ 703/ 1015) عن أبي هريرة.

ص: 368

[الزَّلزلة: 7].

وقد تَقَدَّمَ قولُ ابن عُيَيْنَةَ أنَّ ثوابَ الصَّائمِ لا يَأْخُذُهُ الغرماءُ في المظالمِ بل يَدَّخِرُهُ اللهُ عندَهُ للصَّائمِ حتَّى يُدْخِلَهُ بهِ الجنَّةَ

(1)

.

وفي "المسند": عن عُقْبَةَ بن عامِرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"ليسَ مِن عملِ يومٍ إلَّا يُخْتَمُ عليهِ"

(2)

.

وعن عيسى عليه السلام؛ قالَ: إنَّ هذا الليلَ والنَّهارَ خزانتانِ، فانْظُروا ما تَضَعونَ فيهِما.

فالأيامُ خزائنُ للنَّاسِ ممتلئةٌ بما خَزَنوهُ فيها مِن خيرٍ وشرٍّ، وفي يومِ القيامةِ تُفْتَحُ هذهِ الخزائنُ لأهلِها، فالمتَّقونَ يَجِدونَ في خزائنِهِم العزَّ والكرامةَ، والمذنبونَ يَجِدون في خزائنِهِمُ الحسرةَ والنَّدامةَ.

• الصَّائمونَ على طبقتينِ:

* إحداهُما: مَن تَرَكَ طعامَهُ وشرابَهُ وشهوتَهُ للهِ يَرْجو عندَهُ عوضَ ذلكَ في الجنَّةِ، فهذا [قد] تاجَرَ معَ اللهِ وعامَلَهُ، واللهُ تَعالى لا يُضِيعُ أجرَ مَن أحْسَنَ عملًا ولا يَخِيبُ [معَهُ] مَن عامَلَهُ، بل يَرْبَحُ عليهِ أعظمَ الرِّبحِ.

وقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لرجلٍ: "إنَّكَ لنْ تَدَعَ شيئًا اتِّقاءَ اللهِ إلَّا آتاكَ اللهُ خيرًا منهُ"

(3)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ.

فهذا الصَّائمُ يُعْطى في الجنَّةِ ما شاءَ اللهُ مِن طعامٍ وشرابٍ ونساءٍ.

(1)

وتقدّم ما فيه (ص 359).

(2)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 42).

(3)

(صحيح). رواه: ابن المبارك في "الزهد"(1168)، ووكيع في "الزهد"(356)، وأحمد (5/ 78 و 79 و 363)، وهنّاد في "الزهد"(952)، والحارث (1101 - زوائد الهيثمي)، والنسائي في "الكبرى"(15660 - تحفة)، وابن منده في "الصحابة"(5/ 200 - غابة)، وأبو نعيم في "الصحابة"(5/ 200 - غابة)، والقضاعي في "الشهاب"(1135 - 1138)، والبيهقي في "السنن"(5/ 335) و"الشعب"(5748) و"الزهد"(860)، وابن الأثير في "الغابة"(5/ 200)، والمزّي في "التهذيب"(23/ 570)؛ من طريق حميد بن هلال، [عن أبي قتادة وأبي الدهماء]، عن رجل من الصحابة من أهل البادية

رفعه.

قال الهيثمي (10/ 299): "رجاله ثقات". قلت: جهالة الصحابيّ لا تضرّ، وقد صحّحه الألباني.

ص: 369

قالَ اللهُ تَعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أسْلَفْتُمْ في الأيَّامِ الخالِيَةِ} [الحاقَّة: 24]. قالَ مُجاهِدٌ وغيرُهُ: نَزَلَتْ في الصَّائمينَ.

قالَ يَعْقوبُ بنُ يوسُفَ الحَنَفِيُّ: بَلَغَنا أن الله تَعالى يَقولُ لأوليائِهِ يومَ القيامةِ: يا أوليائي! طالَما نَظَرْتُ إليكُم في الدُّنيا وقد قَلَصَتْ شفاهُكُم عن الأشربةِ وغارَتْ أعينُكُم وخَفَقَتْ بطونكُم! كونوا اليومَ في نعيمِكُم، وتَعاطَوُا الكأْسَ فيما بينكم، وكُلوا واشْرَبوا هنيئًا بما أسْلَفْتُمْ في الأيَّامِ الخاليةِ.

وقالَ الحَسَنُ: تَقولُ الحوراءُ لوليِّ اللهِ وهوَ متَّكئ معَها على نهرِ العسلِ تُعاطيهِ الكأْسَ: إنَّ الله نَظَرَ إليكَ في يومٍ صائفٍ بعيدِ ما بينَ الطَّرفينِ وأنتَ في ظمإ هاجرةٍ مِن جهدِ العطشِ، فباهى بكَ الملائكةَ وقالَ: انْظُروا إلى عبدي، تَرَكَ زوجتَهُ وشهوتَهُ ولذَّتَهُ وطعامَهُ وشرابَهُ مِن أجلي رغبةً فيما عندي، اشْهَدوا أنِّي قد غَفَرْتُ لهُ، فغَفَرَ لكَ يومئذٍ وزَوَّجَنيكَ.

وفي الصَّحيحينِ

(1)

: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "إنَّ في الجنَّةِ بابًا يُقالُ لهُ الرَّيَّانُ، يَدْخُلُ منهُ الصَّائمونَ، لا يَدْخُلُ منهُ غيرُهُم". وفي روايةٍ: "فإذا دَخَلوا أُغْلِقَ". وفي روايةٍ: "مَن دَخَلَ منهُ شَرِبَ، ومَن شَرِبَ لمْ يَظْمَأْ أبدًا".

وفي حديثِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بن سَمُرَةَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في منامِهِ الطَّويلِ؛ قالَ: "ورَأيْتُ رجلًا مِن أُمَّتي يَلْهَثُ عطشًا، كلَّما وَرَدَ حوضًا مُنِعَ، فجاءَهُ صيامُ رمضانَ، فسَقاهُ وأرواهُ"

(2)

. خَرَّجَهُ الطَّبَرانِي وغيرُهُ.

(1)

البخاري (30 - الصوم، 4 - الريّان للصائمين، 4/ 111/ 1896)، ومسلم (13 - الصيام، 30 - فضل الصيام، 2/ 808/ 1152)؛ من حديث سهل بن سعد. والرواية الأولى والثانية عندهما رواية واحدة. والثالثة ليست في الصحيحين، وإنّما هي عند: النَّسَائِي (22 - الصيام، 43 - باب، 4/ 168/ 2635)، وابن خزيمة (1902)؛ إسناد رجاله رجال مسلم.

(2)

(ضعيف جدًّا). رواه: بحشل في "واسط"(ص 169)، والحكيم الترمذي في "النوادر"(إبراهيم 27 - ابن كثير)، والخرائطي، وابن حبّان في "المجروحين"(3/ 43)، والطبراني (7/ 183 - مجمع)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(2/ 303)، وأبو موسى المديني، وابن الجوزي في "الواهيات"(1165 و 1166)؛ من طرق ستّة، عن ابن المسيّب، عن عبد الرحمن بن سمرة

رفعه مطوّلًا ومختصرًا.

فأمّا طريق بحشل وطريق ابن الجوزي الثانية؛ فقال ابن الجوزي: "فيه عليّ بن زيد [قلت: ضعيفًا] =

ص: 370

ورَوى ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادٍ فيهِ ضعف عن أنسٍ مرفوعًا: "الصَّائمونَ يَنْفَحُ

(1)

مِن أفواهِهِم ريحُ المسكِ، ويوضَعُ لهُم مائدةٌ تحتَ العرشِ، يَأْكُلونَ منها والنَّاسُ في الحسابِ"

(2)

.

وعن أنَسٍ مرفوعًا: "إنَّ للهِ مائدةً لم تَرَ مثلَها عينٌ ولمْ تَسْمَعْ أُذنٌ ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ، لا يَقْعُدُ عليها إلَّا الصَّائمونَ"

(3)

.

وعن بعضِ السَّلفِ؛ قالَ: بَلَغَنا أنَّهُ يُوضَعُ للصُّوَّامِ مائدةٌ يَأْكُلونَ عليها والنَّاسُ في الحسابِ، فيَقولونَ: يا ربِّ! نحنُ نُحاسَبُ وهُم يَأْكُلونَ؟ فيُقالُ: إنَّهُم طالَما صاموا وأفْطَرْتُم وقاموا ونِمْتُم

(4)

.

= ومخلد بن عبد الواحد قال ابن حبّان: منكر الحديث جدًّا". قلت: متّهم. وأمّا طريق الحكيم الترمذي؛ ففيها أبو الحكيم الترمذي مستور، وعبد الله بن نافع وعبد الرحمن بن عبد الله لم أعرفهما. وأمّا طريقا الطبراني؛ فقال الهيثمي: "في أحدهما سليمان بن أحمد الواسطي وفي الآخر خالد بن عبد الرحمن المخزومي وكلاهما ضعيف". قلت: هما متّهمان متروكان. وأمّا طريق أبي الشيخ؛ ففيها عليّ بن بشر متّهم متروك عن نوح بن يعقوب بن عبد الله الأشعري لا يعرف. وأمّا طريق ابن الجوزي الأولى؛ ففيها فرج بن فضالة ضعيف أو دون ذلك عن هلال أبي جبلة لا يعرف. فالطريقان الثانية والسادسة واهيتان، وبقيّة الطرق ساقطة، والحديث ضعيف ولو اجتمعت طرقه، وقد مال إلى توهينه ابن الجوزي وابن كثير والهيثمي.

(1)

ينفح من أفواههم: يفوح من أفواههم.

(2)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن أبي الدنيا في "الجوع"(139) من طريق جعفر بن الحارث النخعي عن شيخ من أهل البصرة، والسهمي في "تاريخ جرجان"(ص 478) من طريق مقاتل بن سليمان عن يزيد الرقاشي؛ كلاهما عن أنس بن مالك

رفعه.

وهذا ساقط: النخعيّ ضعيف، ومقاتل كذّاب، والشيخ البصري في الأولى هو الرقاشي في الثانية ضعيف منكر الحديث، فالسند واه، والمتن منكر لائق بأخبار القصّاص.

(3)

(ضعيف جدًّا). رواه: الطبراني في "الأوسط"(9439)، وابن بشران في "أماليه"(4/ 243)؛ من طريق عبد المجيد بن كثير، ثنا بقيّة، ثني أبي بكر العنسي، ثنا أبو قبيل المصريّ، عن أنس

رفعه.

قال الطبراني: "تفرّد به بقيّة". قلت: تفرّده لا يضرّ إذا صرّح بالتحديث. وقال الهيثمي (3/ 185): "فيه عبد المجيد بن كثير الحرّاني لم أجد من ترجمه". قلت: والعنسيّ إن كان أبا بكر بن أبي مريم كما استظهر العسقلاني فضعيف منكر الحديث وإن لم يكنه فمجهول منكر الحديث. وهاهنا علّة ثالثة، وهي الوقف على ما ذكره ابن رجب. فالسند ساقط.

(4)

هذا البلاغ من جنس الواهيات المتقدّمة قبله، فإمّا أنّه أصل لها، أو أنّها أصل له، وهذا الثاني أرجح، وكثيرًا ما يقصد بالسلف هنا الزهّاد وكبار الصوفيّة الذين تختلط عليهم الرؤى والكشوف بالنصوص المرفوعة ولا يبالون في التفريق بينها.

ص: 371

رَأى بعضُهُم بِشْرَ بنَ الحارِثِ في المنامِ وبينَ يديهِ مائدةٌ وهوَ يَأْكُلُ ويُقالُ لهُ: كُلْ يا مَن لمْ يَأْكُلْ! واشْرَبْ يا مَن لمْ يَشْرَبْ!

كانَ بعضُ الصَّالحينَ قد صامَ حتَّى انْحَنى وانْقَطَعَ صوتُهُ فماتَ، فرُئِيَ بعضُ أصحابِهِ الصَّالحينَ في المنامِ، فسُئِلَ عن حالِهِ

(1)

، فضَحِكَ وأنْشَدَ:

قَدْ كُسِي حُلَّةَ البَهاءِ وَأطافَتْ

بِأباريقَ حَوْلَهُ الخُدَّامُ

ثُمَّ حُلِّي وَقيلَ يا قارِئُ أرْقَ

فَلَعَمْري لَقَدْ بَراكَ الصِّيامُ

(2)

اجْتازَ بعضُ العارفينَ بمنادٍ يُنادي على السَّحورِ في رمضانَ: ياما خَبَأْنا للصَّائمينَ! فتَنَبَّهَ بهذهِ الكلمةِ، وأكْثَرَ مِن الصّيامِ.

رَأى بعضُ العارفينَ في منامِهِ كأنَّهُ أُدْخِلَ الجنَّةَ، فسَمعَ قائلًا يَقولُ لهُ: هل تَذْكُرُ أنَّكَ صُمْتَ للهِ يومًا قطُّ

(3)

؟ فقالَ: نعم! قالَ: فأخَذَتْني صواني النِّثارِ مِن الجنَّةِ.

مَن تَرَكَ للهِ في الدُّنيا طعامًا وشرابًا وشهوةً مدَّةً يسيرةً عَوَّضهُ اللهُ عندَهُ طعامًا وشرابًا لا يَنْفَدُ وأزواجًا لا يَمُتْنَ أبدًا.

شهرُ رمضانَ فيهِ يُزَوَّجُ الصَّائمونَ.

في الحديثِ: "إنَّ الجنَّةَ لَتُزَخْرَفُ وتُنَجَّدُ مِن الحولِ إلى الحولِ لدخولِ رمضانَ، فتَقولُ الحورُ: يا ربِّ! اجْعَلْ لنا في هذا الشَّهرِ مِن عبادِكَ أزواجًا تَقَرُّ أعينُنا بهم وتَقَرُّ أعيُنُهم بنا"

(4)

.

(1)

في خ: "في منامه وهو يسأل عن حاله"، وهذا تحريف صوابه ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

تقدّم هذا (ص 94)، فراجع إن شئت هناك تعقيبي عليه.

(3)

في خ: "أنّك صمت قطّ يومًا لله"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(4)

(موضوع). قد جاء هذا ونحوه عن جماعة من الصحابة:

* فرواه: الطبراني في "الأوسط"(6796) و"الشاميّين"(91)، والبيهقي في "الشعب"(3633)، وابن الجوزي في "الواهيات"(881)، والذهبي في "السير"(17/ 562) و"التذكرة"(3/ 1107) "من طريق الوليد بن الوليد الدمشقي، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر

رفعه.

قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن ابن ثوبان إلّا الوليد". وقال الهيثمي (3/ 145): "فيه الوليد بن الوليد القلانسي وثّقه أبو حاتم وضعّفه جماعة". قلت: هو متّهم متروك، وابن ثوبان فصالح في الشواهد.

ورواه: الطبراني في "الأوسط"(3700) من طريق زهير بن عبّاد الرواسي ثني أحمد بن أبيض=

ص: 372

وفي حديثٍ آخرَ: "إنَّ الحورَ تُنادي في شهرِ رمضانَ: هل مِن خاطبٍ إلى اللهِ فيُزَوِّجَهُ؟ "

(1)

.

مهورُ الحورِ طولُ التَّهجُّدِ، وهوَ حاصلٌ في شهرِ رمضانَ أكثرَ مِن غيرِهِ.

كانَ بعضُ الصَّالحينَ كثيرَ التَّهجُّدِ والصِّيامِ، فصَلَّى ليلةً في المسجدِ ودَعا، فغَلَبَتْهُ عيناهُ، فرَأى في منامِهِ جماعةً عَلِمَ أنَّهُم لَيْسوا مِن الآدميِّينَ، بأيديهِم أطباقٌ عليها أرغفةٌ ببياضِ الثَّلجِ

(2)

، فوقَ كلِّ رغيفٍ درٌّ أمثالُ الرُّمَّانِ. فقالوا: كُلْ. فقالَ: إنِّي أريدُ الصَّومَ. قالوا لهُ: يَأْمُرُكَ صاحبُ هذا البيتِ أنْ تَأْكُلَ. قالَ: فأكَلْتُ، وجَعَلْتُ آخُذ ذلكَ الدُّرَّ لِأحْتَمِلَهُ. فقالوا لي: دَعْهُ نَغْرِسْهُ لكَ شجرًا يُنْبِتُ لكَ خيرًا مِن هذا. قالَ: أينَ؟ قالوا: في دارٍ لا تَخْرَبُ وثمرٍ لا يَتَغَيَّرُ وملكٍ لا يَنْقَطعُ وثيابٍ لا تَبْلى، فيها رضوى وعينا وقرَّةُ أعينٍ، أزواجٌ رضيَّاتٌ مرضيَّات راضياتٌ، لا يَغِرْنَ ولا يُغَرْنَ، فعليكَ بالانكماشِ فيما أنتَ؛ فإنَّما هيَ غفوةٌ حتَّى تَرْتَحِلَ فتَنْزِلَ الدَّارَ. فما مَكَثَ بعدَ هذهِ

= المديني، والبيهقي في "الشعب"(3632) من طريق محمد بن إبراهيم بن العلاء الشامي عن أحمد بن محمّد ابن أخي سواد القاضي؛ كلاهما عن الأوزاعي، عن عطاء بن رباح، عن ابن عبّاس

رفعه.

والرؤاسيّ في الطريق الأولى ضعيف أتى بالمدينيّ الذي لم أقف له على ترجمة، والشاميّ في الطريق الثانية كذّاب أتى بابن أخي سواد القاضي الذي لم أقف له على ذكر. فالسند ساقط.

وله شاهد من حديث أبي مسعود الغفاري (أو ابن مسعود) تقدّم (ص 347) أنّه موضوع.

ولأوَّله شاهد من حديث أن عند ابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 187) بسند فيه أصرم بن حوشب كذّاب يضع، وتعقّبه السيوطي في "اللآلئ"(2/ 99) بأنّ الديلمي رواه من طريق أُخرى عن أنس فلم يصنع شيئًا؛ فإن في تلك الطريق أبان بن أبي عيّاش هالك إن لم يكن فيها من هو شرّ منه.

وبالجملة؛ فطرق هذه الرواية ساقطة لا تصلح لصالحة، ومتونها طويلة فيها عجائب ومنكرات يشهد القلب أنّها مصنوعة، وقد أعلّها البيهقي وابن الجوزي والهيثمي.

(1)

(موضوع). رواه: سلمة بن شبيب في "فضائل رمضان (473 - لطائف المعارف)، والفاكهي في "مكّة" (1575)، وأبو الشيخ في "الثواب"، والبيهقي في "الشعب" (3695)، والأصبهاني في "الترغيب" (1741)، وابن الجوزي في "الواهيات" (880)؛ من طريقين واهيتين، [عن أبي الحسن جويبر]، عن الضحّاك بن مزاحم، عن ابن عبَّاس

رفعه في سياق طويل.

قال المنذري: "ليس في إسناده من أجمع على ضعفه"! قلت: لكنّه مظلم: الطريقان إلى جويبر واهيتان، وجويبر هالك وأسقطه بعضهم فأصبح السند ظاهر الانقطاع، والضحّاك عن ابن عبّاس منقطع، والمتن طويل فيه عجائب يشهد القلب أنّها مصنوعة.

(2)

في خ: "فغلبته عينه

كبياض الثلج"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 373

الرُّؤيا إلَّا جمعتينِ حتَّى تُوُفِّيَ، فرَآهُ ليلةَ وفاتِهِ في المنامِ بعضُ أصحابِهِ الذينَ حَدَّثَهُم برؤياهُ وهوَ يَقولُ: ألا تَعْجَبُ مِن شجرٍ غُرِسَ لي في يومِ حَدَّثْتُكَ وقد حَمَلَ؟! فقالَ لهُ: ما حَمَلَ؟! قالَ: لا تَسْألْ، لا يَقْدِرُ أحدٌ على صفتِهِ. لمْ يُرَ مثلُ الكريمِ إذا حَلَّ بهِ مطيعٌ.

يا قومِ! ألا خاطبٌ في هذا الشَّهرِ إلى الرَّحمن؟! ألا راغبٌ فيما أعَدَّهُ اللهُ تَعالى للطَّائعينَ في الجنان؟! ألا طالبٌ لِما أخْبَرَ بهِ مِن النَّعيمِ المقيمِ معَ أنَّهُ ليسَ الخبرُ كالعيان؟

مَن يُرِدْ مُلْكَ الجِنانِ

فَلْيَدَعْ عَنْهُ التَّواني

وَلْيَقُمْ في ظُلْمَةِ اللَيْـ

ـلِ إلى نورِ القُرانِ

وَلْيَصِلْ صَوْمًا بِصوْمٍ

إنَّ هذا العَيْشَ فاني

إنَّما العَيْشُ جِوارُ الـ

ـلهِ في دارِ الأمانِ

* الطَّبقةُ الثَّانيةُ مِن الصَّائمينَ: مَن يَصومُ في الدُّنيا عمَّا سِوى اللهِ، فيَحْفَظُ الرَّأْسَ وما حَوى، ويَحْفَظُ البطنَ وما وَعى، ويَذْكُرُ الموتَ والبِلى، ويُريدُ الآخرةَ فيَتْرُكُ زينةَ الدُّنيا. فهذا عيدُ فطرِهِ يومَ لقاءِ ربِّهِ وفرحِهِ برؤيتِهِ.

أهْلُ الخُصوصِ مِنَ الصُّوَّامِ صَوْمُهُمُ

صَوْنُ اللِسانِ عَنِ البُهْتانِ وَالكَذِبِ

وَالعارِفونَ وَأهْلُ الأُنْسِ صَوْمُهُمُ

صَوْنُ القُلوبِ عَنِ الأغْيارِ وَالحُجُبِ

العارفونَ لا يُسَلِّيهِم عن رؤيةِ مولاهُم قصرٌ، ولا يُرَوِّيهِم دونَ مشاهدتِهِ نهرٌ، هممُهُم أجلُّ مِن ذلكَ.

كَبُرَتْ هِمَّةُ عَبْدٍ

طَمِعَتْ في أنْ تَراكَ

مَنْ يَصُمْ عَنْ مُفْطِراتٍ

فَصِيامي عَنْ سِواكَ

مَن صامَ عن شهواتِهِ في الدنيا؛ أدْرَكَها غدًا في الجنَّةِ. ومَن صامَ عمَّا سِوى اللهِ؛ فعيدُهُ يومَ لقائِهِ.

{مَنْ كانَ يَرْجو لِقاءَ اللهِ فَإنَّ أجَلَ اللهِ لَاتٍ} [العنكبوت: 5].

وَقَدْ صُمْتُ عَنْ لَذَّاتِ دَهْرِيَ كُلِّها

وَيَوْمَ لِقاكُمْ ذاكَ فِطْرُ صِيامي

رُئِيَ بِشْرٌ في المنامِ، فسُئِلَ عن حالِهِ، فقالَ: عَلِمَ قلَّةَ رغبتي في الطَّعامِ فأباحَني

ص: 374

النَّظرَ إليهِ

(1)

.

وقيلَ لبعضِهِم: أينَ نَطْلُبُكَ في الآخرةِ؟ قالَ: في زمرةِ الناظرينَ إلى اللهِ. قيلَ لهُ: كيفَ عَلِمْتَ ذلكَ؟ قالَ: بغضِّي طرفيَ لهُ عن كلِّ محرَّمٍ، وباجتنابي فيهِ كلَّ منكرٍ ومأْثم، وقد سَألْتُهُ أنْ يَجْعَلَ جنَّتي النَّظرَ إليهِ.

يا حَبِيبَ القُلوبِ مَنْ لي سِواكا

إرْحَمِ اليَوْمَ مُذْنِبًا قَدْ أتاكا

لَيْسَ لي في الجِنانِ مَوْلايَ إرْبٌ

غَيْرَ أنِّي أُريدُها لِأراكا

(2)

يا معشرَ الصَّائمينَ! صوموا اليومَ عن شهواتِ الهوى، لِتُدْرِكوا عيدَ الفطرِ يومَ اللقاءِ، لا يَطولَنَّ عليكُمُ الأمدُ باستبطاءِ الأجلِ؛ فإنَّ معظمَ نهارِ الصِّيامِ قد ذَهَب وعيدُ اللقاءِ قدِ اقْتَرَب.

إنَّ يَوْمًا جامِعًا شَمْلي بِهِمْ

ذاكَ عِيدي لَيْسَ لي عِيدٌ سِواهُ

• قولُهُ: "ولَخُلوفُ فمِ الصَّائمِ أطيبُ عندَ اللهِ مِن ريحِ المسكِ": خُلوفُ الفمِ: رائحةُ ما يَتَصاعَدُ منهُ مِن الأبخرةِ؛ لخلوِّ المعدةِ مِن الطَّعامِ بالصِّيامِ. وهيَ رائحةٌ مستكرهةٌ في مشامِّ النَّاسِ في الدُّنيا، لكنَّها طيِّبة عندَ اللهِ حيثُ كانَتْ ناشئةً عن طاعتِهِ وابتغاءَ مرضاتِهِ، كما أن دمَ الشَّهيدِ يَجيءُ يومَ القيامةِ يَثْعَبُ دمًا؛ لونُهُ لونُ الدَّمِ، وريحُهُ ريحُ المسكِ.

(1)

تقدّم (ص 372) أنّ هناك من رآه يأكل ويقال له: كل يا من كنت لا تأكل! فأيّهما نصدّق؟! أفكلّما رأى مصطلم مهلوس شيخه في صورة تمسّكنا بها وتناقلناها؟!

(2)

في خ: "في الجنان أحسن رأي"، وفي م:"في الجنان رأي ولكن"، وفي ن:"في الجنان غرام"، وفي حاشية ن:"لعلّه وطر". وأثبتّ ما في ط لأنه أولاها بالصواب.

هذا؛ ولا يخلو هذا المذهب من نظر شرعًا وعقلًا: فأمّا شرعًا؛ فلأنّه محدث مخالف لمعاني الكتاب والسنّة ومذاهب الصحابة وتابعيهم بإحسان. وأمّا عقلًا؛ فلأنّ العبد الحقيقيّ لا يشترط على مولاه ولا يردّ هداياه، والمحب الحقيقيّ يفرح أشدّ الفرح بكلّ ما وصله من محبوبه ولو كان كلمة في هاتف أو زهرة أو لقمة؛ فكيف إذا كان جنّة عرضها السماوات والأرض؟! والمذنب المعرف جلّ مطلوبه المسامحة والمغفرة؛ فأين هو من المشارطة؟! أوليس من الجحود أن يقول عبد حقير منغمس في الظلم والآثام لمولاه الكريم الرحيم الحليم: لا حاجة لي بعطاياك هذه كلّها؟! كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلَّا كذبا! نعم؛ لا ريب أن رؤية المولى سبحانه هي أعلى درجات نعيم الجنّة، نسأل الله ألّا يحرمنا إيّاها.

ص: 375

وبهذا اسْتَدَلَّ مَن كَرِهَ السَّواكَ للصَّائمِ أو لمْ يَسْتَحِبَّهُ مِن العلماءِ. وأوَّلُ مَن عَلِمْناهُ اسْتَدَلَّ بذلكَ عطاءُ بنُ أبي رَباحٍ. ورُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ أنَّهُ اسْتَدَلَّ بهِ، لكنْ مِن وجهٍ لا يَثْبُتُ. وفي المسألةِ اختلافٌ مشهورٌ بينَ العلماءِ. وإنَّما كَرِهَهُ مَن كَرِهَهُ في آخرِ نهارِ الصَّومِ؛ لأنَّهُ وقتُ خلوِّ المعدةِ وتصاعدِ الأبخرةِ. وهل يَدْخُلُ وقتُ الكراهةِ بصلاةِ العصرِ أو بزوالِ الشَّمسِ أو بفعلِ صلاةِ الظُّهرِ في أوَّلِ وقتِها، على أقوالٍ ثلاثةٍ، والثَّالثُ هوَ المنصوصُ عن أحْمَدَ

(1)

.

• وفي طيبِ ريحِ خُلوفِ فمِ الصَّائمِ عندَ اللهِ عز وجل معنيانِ:

* أحدُهُما: أن الصِّيامَ لمَّا كانَ سرًّا بينَ العبدِ وربِّهِ في الدُّنيا؛ أظْهَرَهُ اللهُ في الآخرةِ علانيةً للخلقِ؛ لِيَشْتَهِرَ بذلكَ أهلُ الصِّيامِ ويُعْرَفوا بصيامِهِم بينَ النَّاسِ جزاءً لإخفائِهِم صيامَهُم في الدُّنيا.

ورَوى أبو الشَّيخِ الأصبَهانِيُّ بإسنادٍ فيهِ ضعفٌ عن أنَسٍ مرفوعًا: "يَخْرُجُ الصَّائمونَ مِن قبورِهِم يُعْرَفونَ بريحِ أفواهِهِم، أفواهُهُم أطيبُ مِن ريحِ المسكِ"

(2)

.

قالَ مَكْحولٌ: يُرَوَّحُ أهلُ الجنَّةِ برائحةٍ. فيَقولونَ: ربَّنا! ما وَجَدْنا ريحًا منذُ دَخَلْنا الجنَّةَ أطيبَ مِن هذهِ الرِّيحِ. فيُقالُ: هذهِ ريحُ أفواهِ الصَّائمينَ.

وقد تَفوحُ رائحةُ الصِّيامِ في الدُّنيا فتُسْتَنْشَقُ قبلَ الآخرةِ، وهوَ نوعانِ:

(1)

الاستدلال لكراهة السواك للصائم في وقت ما بقوله صلى الله عليه وسلم: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" فيه نظر من وجوه: أوَّلها: أنّه لو كان استدلالًا صحيحًا لسبق إليه النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام أسبق الخلق إلى كلّ خير، ولكنهم لم يفعلوا، بل ثبت عن عمر وابن عمر وغيرهما خلافه. والثاني: أنّ السواك لا يزيل خلوف فم الصائم مهما تكرّر، وإنَّما يزيل روائح القلح وجفاف اللعاب وتفسّخ فضلات الطعام بين الأضراس، وتبقى خلوف فم الصائم ورائحة صيامه تنبعث من فمه وجوفه كما هو مشهود. والثالث: أنّ الله تعالى يحبّ أيضا أن يقبل الناس على الصلاة في رمضان ويتراصّوا فيها ويتآلفوا ولا يؤذي بعضهم بعضًا بالروائح المنفّرة، وهذا لا يحصل بغير السواك الذي يزيل الأذيّة ويبقي الخلوف التي يحبّها الله. وعليه؛ فاستحباب السواك في كلّ حال والحضّ عليه عند كلّ وضوء باق على عمومه للصائم وغيره في رمضان وغيره قبل الزوال وبعده، وإلى هذا مال جماعة كثر من أهل العلم، يحضرني الآن منهم عمر وابنه وابن عبّاس وأبو هريرة وعروة بن الزبير والشعبي والنخعي والإمام أحمد والبخاري وابن تيميّة وابن القيّم. والله أعلى وأعلم.

(2)

(ضعيف). رواه أبو الشيخ في "الثواب" ولم أقف عليه فحسبي فيه شهادة ابن رجب بضعفه.

ص: 376

أحدُهُما: ما يُدْرَكُ بالحواسِّ الظَّاهرةِ.

كانَ عَبْدُ اللهِ بنُ غالِبٍ مِن العبَّادِ المجتهدينَ في الصَّلاةِ والصَّومِ، فلمَّا دُفِنَ؛ كانَ يَفوحُ مِن ترابِ قبرِهِ رائحةُ المسكِ، فرُئِيَ في المنامِ، فسُئِلَ عن تلكَ الرَّائحةِ التي توجَدُ مِن قبرِهِ، فقالَ: تلكَ رائحةُ التِّلاوةِ والظَّمإِ

(1)

.

والنَّوع الثَّاني: ما تَسْتَنْشِقُهُ الأرواحُ والقلوبُ، فيُوجِبُ ذلكَ للصَّائمينَ المخلصينَ المودَّةَ والمحبَّةَ في قلوبِ المؤمنينَ.

وفي حديثِ الحارِثِ الأشْعَرِيِّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ [يَحْيى بنَ]

(2)

زَكَرِيَّا عليه السلام قالَ لبني إسْرائيلَ: آمُرُكُم بالصِّيامِ؛ فإن مَثَلَ ذلكَ كمَثَلِ رجلٍ في عصابةٍ، معَهُ صرَّةٌ فيها مسكٌ، فكلُّهُم يُعْجِبُهُ ريحُهُ، وإنَّ ريحَ الصَّائمِ عندَ اللهِ أطيبُ مِن ريحِ المسكِ"

(3)

. خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وغيرُهُ.

(1)

راجع ما تقدّم في هذا وأمثاله (ص 96).

(2)

زيادة لا بدّ منها مستفادة من "سنن الترمذي"(2863) وحاشية ن.

(3)

(صحيح). قطعة من حديث الكلمات التي أُمر يحيى صلى الله عليه وسلم أن يبلّغها بني إسرائيل.

رواه معمر في "الجامع"(20709) عن يحيى بن أبي كثير بلاغا. ووصله: الطيالسي (1161 و 1162)، وابن سعد (4/ 494)، وأحمد (4/ 130 و 202)، والبخاري في "التاريخ"(2/ 260)، والترمذي (45 - الأمثال، 3 - مثل الصلاة والصيام، 5/ 148/ 2863 و 2864)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(1036)، والبزّار (695)، وابن نصر في "الصلاة"(124 - 127)، والنسائي في "الكبرى"(3274 - تحفة)، وأبو يعلى (1571)، وابن خزيمة (483 و 930 و 1895)، وابن قانع في "المعجم"(1/ 167)، وابن حبّان (6233)، والطبراني (3/ 285/ 3427 - 3431)، وابن منده في "الإيمان"(212)، والحاكم (1/ 117 و 118 و 236 و 421)، والبيهقي (8/ 157)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(21/ 279)، وابن عساكر في "التاريخ (64/ 186 - 184)، وابن الأثير في "الغابة" (1/ 383)، والمزّي في "التهذيب" (5/ 217)؛ من طرق، عن يحيى بن أبي كثير تارة وعن معاوية بن سلام تارة أُخرى، كلاهما عن زيد بن سلام، عن أبي سلام ممطور، عن الحارث الأشعري

رفعه. وهذا سند صحيح. وقد أغمض الشيخان عن عنعنة ابن أبي كثير فخرّجاها في مواضع، على أنّه صرّح بالتحديث عند أبي يعلى وابن حبّان وتوبع كما ترى.

وله شاهد من حديث علي عند: عبد الرزّاق (5141)، والبزّار (337 - كشف).

وآخر من حديث ابن مسعود عند البيهقي في "الشعب"(538).

والحديث؛ قال الترمذي في الموضعين: "حسن صحيح غريب". قال: "قال محمّد بن إسماعيل [يعني: البخاري]: الحارث الأشعريّ له صحبة وله غير هذا الحديث". وصحّحه ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم والذهبي والمنذري والألباني.

ص: 377

لمَّا كانَ معاملةُ المخلصينَ بصيامِهِم لمولاهُم سرًّا بينَهُ وبينَهُم، أظْهَرَ اللهُ سرَّهُم لعبادِهِ فصارَ علانيةً، فصارَ هذا التَّجلِّي والإظهار جزاءً لذلكَ الصَّونِ والإسرار.

في الحديثِ: "ما أسَرَّ أحدٌ سريرةً إلَّا ألْبَسَهُ اللهُ رداءَها علانيةً"

(1)

.

قالَ يوسُفُ بنُ أسْباطٍ: أوْحى اللهُ تَعالى إلى نبيٍّ مِن الأنبياءِ: قُلْ لقومِكَ يُخْفونَ لي أعمالَهُم وعليَّ أظهارُها لهُم.

تَذَلُّلُ أرْبابِ الهَوى في الهَوى عِزُّ

وَفَقْرُهُمُ نَحْوَ الحَبيبِ هُوَ الكَنْزُ

وَسَتْرُهُمُ فيهِ السَّرائِرَ شُهْرَةٌ

وَغَيْرُ تَلافِ النَّفْسِ فيهِ هُوَ العَجْزُ

* والمعنى الثَّاني: أن مَن عَبَدَ الله وأطاعَهُ وطَلَبَ رضاهُ في الدُّنيا بعملٍ، فنَشَأ مِن

(1)

(ضعيف جدًّا). وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجوه:

• فرواه: الطبراني في "الكبير"(2/ 171/ 1702) و "الأوسط"(7902)، والذكواني في "اثنا عشر مجلسًا"(237 - الضعيفة)؛ من طريق الفضل بن موسى، عن [محمّد] بن عبيد الله العرزمي، عن سلمة بن كهيل، عن جندب بن سفيان

رفعه. قال الهثمي (10/ 228): "فيه حامد بن آدم وهو كذّاب". قلت: تابعه ابن أبي رزمة عن الفضل عند الذكواني، لكن في الطريق إليه الجعابي وهو ضعيف. ثمّ هاهنا علّة أُخرى، وهي العرزميّ هذا؛ فإنّه متروك، وهو آفة هذا السند.

* ورواه البيهقي في "الشعب"(6943) من طريق يوسف بن عطيّة، عن ثابت، عن أنس

رفعه.

وهذا ساقط: يوسف متروك، وقد خالف رواية الثقات عند البيهقي (6944) عن ثابت: كان يقال

فذكره.

* ورواه: ابن جرير (14451)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(8342)؛ من طريق سليمان بن أرقم، عن الحسن، رأيت عثمان على المنبر

فذكره مرفوعًا. وهذا ساقط: الحسن لعلّه رأى عثمان لكن لا يثبت له منه سماع. وسليمان متروك متّهم، وقد خالف من رواه عن الحسن مرسلًا عند أبي الشيخ (الأعراف 26 - الدرّ) والغالب أنّه خير منه، أو خالف من رواه عن عثمان موقوفًا كما سيأتي بعده.

* ورواه: ابن عدي (2/ 789)، وأبو نعيم في "الحلية"(10/ 215)، والقضاعي (510 و 511)، والبيهقي في "الشعب"(6942)، والخطيب في "التاريخ"(2/ 460)؛ من طريق حفص بن سليمان، عن علقمة بن مرثد، [عن سعد بن عبيد] عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان

رفعه. وهذا ساقط: حفص واه متروك، وقد خالف رواية الثقات عند البيهقي (6941) عن عثمان موقوفًا. قال البيهقي:"هذا هو الصحيح موقوفًا عن عثمان وقد رفعه بعض الضعفاء".

* ورواه أبو نعيم في "الحلية"(5/ 36) من طريق روح بن مسافر، عن زبيد، عن مرّة، عن ابن مسعود

رفعه. قال أبو نعيم: "لم نكتبه إلّا من هذا الوجه". قلت: روح متّهم متروك، والسند ساقط.

فهذه خمسة أوجه ساقطة لهذا المتن، لا يخلو وجه منها من متّهم أو متروك، وأكثرها جمع إلى ذلك المخالفة والنكارة، فاجتماعها لا يغني عنها شيئًا، والحديث ساقط، وقد أعلّه ابن عدي وأبو نعيم والبيهقي وابن كثير والهيثمي وقال الألباني:"ضعيف جدًّا".

ص: 378

عملِهِ آثارٌ مكروهةٌ للنُّفوسِ في الدُّنيا؛ فإنَّ تلكَ الآثارَ غيرُ مكروهةٍ عندَ اللهِ، بل هيَ محبوبةٌ لهُ وطيِّبةٌ عندَهُ؛ لكونها نَشَأتْ عن طاعتِهِ واتِّباعِ مرضاتِهِ. فإخبارُهُ بذلكَ للعاملينَ في الدُّنيا فيهِ تطييبٌ لقلوبِهِم؛ لئلّا يُكْرَهَ منهُم ما وُجِدَ في الدُّنيا.

قالَ بعضُ السَّلفِ: وَعَدَ اللهُ موسى عليه السلام ثلاثينَ ليلةً أنْ يُكَلِّمَهُ على رأْسِها، فصامَ ثلاثينَ يومًا، ثمَّ وَجَدَ مِن فيهِ خُلوفًا، فكَرِهَ أنْ يُناجِيَ ربَّهُ على تلكَ الحالِ، فأخَذَ سواكًا فاسْتاكَ بهِ، فلمَّا أتى لموعدِ اللهِ إيَّاهُ؛ قالَ لهُ: يا موسى! أما عَلِمْتَ أن خُلوفَ فمِ الصَّائمِ أطيبُ عندَنا مِن ريحِ المسكِ، ارْجِعْ فصُم عشرةً أُخرى

(1)

.

ولهذا المعنى كانَ دمُ الشَّهيدِ ريحُهُ يومَ القيامةِ كريحِ المسكِ، وغبارُ المجاهدينَ في سبيلِهِ ذريرةَ أهلِ الجنَّةِ، وَرَدَ في ذلكَ حديثٌ مرسلٌ

(2)

.

كلُّ شيءٍ ناقصٍ في عرفِ النَّاسِ في الدُّنيا إذا انْتَسَبَ إلى طاعتِهِ ورضاهُ فهوَ الكاملُ في الحقيقةِ.

خُلوفُ أفواهِ الصَّائمينَ لهُ أطيبُ مِن ريحِ المسكِ، عُرْيُ المحرمينَ لزيارةِ بيتِهِ أجملُ مِن لباسِ الحللِ، نَوْحُ المذنبينَ على أنفسِهِم مِن خشيتِهِ أفضلُ مِن التَّسبيحِ، انكسارُ المخبتينَ لعظمتِهِ هوَ الجبرُ، ذلُّ الخائفينَ مِن سطوتِهِ هوَ العزُّ، تهتكُ المحبِّينَ في محبَّتِهِ أحسنُ مِن السَّترِ، بذلُ النُّفوسِ للقتلِ في سبيلِهِ هوَ الحياةُ، جوعُ الصَّائمينَ لأجلِهِ هوَ الشِّبعُ، عطشُهُم في طلبِ مرضاتِهِ هوَ الرِّيُّ، نَصَبُ المجتهدينَ في خدمتِهِ هوَ الرَّاحةُ.

ذُلُّ الفَتى في الحُبِّ مَكْرُمَةٌ

وَخُضوعُهُ لِحَبيبِهِ شَرَفُ

هَبَّتِ اليومَ على القلوبِ نفحةٌ مِن نفحاتِ نسيمِ القربِ.

(1)

كذا ذكره كثير من المفسّرين، والظاهر أنّه من الإسرائيليّات، وقد جاء مرفوعًا عند الديلمي في "الفردوس"، ولا يصحّ.

(2)

(ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة (19359)، وأبو داوود في "المراسيل"(305)، والنسائي في "الكبرى"(3601 - تحفة) وفي "الكنى"(1/ 505 - إصابة)، والبغوي في "الصحابة"(1/ 505 - إصابة)، والطبراني (5/ 69/ 4608)، وابن منده في "الصحابة"(1/ 505 - إصابة)؛ من طريق قويّة، عن وبرة الحارثي أبي كرز، عن الربيع بن زيد (أو: الربيع بن زياد، أو: ربيعة بن زيد)

رفعه.

قال الهيثمي (5/ 90): "رجاله ثقات". قلت: فيه علّتان: أولاهما: أنّ وبرة هذا مجهول الحال.

والثانية: أنّه لا تثبت للربيع صحبة، ولذلك عدّ أبو داوود والمنذري وغيرهما هذا الحديث في المراسيل.

ص: 379

سَعى سمسارُ المواعظِ للمهجورينَ في الصُّلحِ.

وَصَلَتِ البشارةُ للمنقطعينَ بالوصلِ وللمذنبينَ بالعفوِ وللمستوجبينَ النَّارَ بالعتقِ.

لمَّا سُلْسِلَ الشَّيطانُ في شهرِ رمضانَ وخَمَدَتْ نيرانُ الشَّهواتِ بالصِّيامِ؛ انْعَزَلَ سلطانُ الهوى، وصارَتِ الدَّولةُ لحاكمِ العقلِ بالعدلِ، فلم يَبْقَ للعاصي عذرٌ.

يا غيومَ الغفلةِ عن القلوبِ تَقَشَعي! يا شُموسَ التَّقوى والإيمانِ اطْلُعي! يا صحائفَ أعمالِ الصَّالحينَ ارْتَفِعي! يا قلوبَ الصَّائمينَ اخْشَعي! يا أقدامَ المجتهدينَ اسْجُدي لربكِ وارْكَعي! يا عيونَ المتهجِّدينَ لا تَهْجَعي! يا ذنوبَ التَّائبينَ لا تَرْجِعي! يا أرضَ الهوى ابْلَعي ماءَكِ ويا سماءَ النُّفوسِ أقْلِعي! يا بُروقَ الأشواقِ للعشَّاقِ الْمَعي! يا خواطرَ العارفينَ ارْتَعي! يا هممَ المحبِّينَ بغيرِ اللهِ لا تَقْنَعي! يا جُنَيْدُ اطْرَبْ، يا شِبْلِيُّ احْضُرْ، يا رابعةُ اسْمَعي! قد مُدَّتْ في هذهِ الأيامِ موائدُ الإنعامِ للصُّوَّامِ فما منكُم إلَّا مَن دُعي. يا قومَنا أجِيبوا داعيَ اللهِ، ويا هممَ المؤمنينَ أسْرِعي! فطوبى لمَن أجابَ فأصابَ، وويلٌ لمَن طُرِدَ عن البابِ وما دُعي!

سَألْتُكِ يا بانَةَ الأجْرَعي

مَتى رُفِعَ الحَيُّ مِنْ لَعْلَعي

وَهَلْ مَرَّ قَلْبي مَعَ الظَّاعِنيـ

ـنَ أمْ خارَ ضَعْفًا فَلَمْ يَتْبَعي

رَحَلْنا ووافَقَنا الصَّادِقونَ

وَلَمْ يَتَخَلَّفْ سِوى مُدَّعي

لَيْتَ شِعْري إنْ جِئْتُهُمْ يَقْبَلوني

أمْ تُراهُمْ عَنْ بابِهِم يَصْرِفوني

أمْ تُراني إذا وَقَفْتُ لَدَيْهِمْ

يَأْذَنوا بِالدُّخولِ أمْ يَطْرُدوني

(1)

‌المجلس الثاني: في فضل الجود في رمضان وتلاوة القرآن

في الصَّحيحين

(2)

: عن ابن عَبَّاسٍ؛ قالَ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أجوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجودَ ما يَكونُ في رمضانَ حينَ يَلْقاهُ جِبْريلُ فيُدارِسُهُ القرآنَ، وكانَ جِبْريلُ يَلْقاهُ في كلِّ ليلةٍ

(1)

كذا بالجزم في "يأذنوا" و"يطردوني"، وهي لغة ضعيفة.

(2)

البخاري (1 - بدء الوحي، 5 - باب، 1/ 30/ 6)، ومسلم (43 - الفضائل، 12 - كان صلى الله عليه وسلم أجود بالخير، 4/ 1803/ 2308).

ص: 380

فيُدارِسُهُ القرآنَ، فلَرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ يَلْقاهُ جِبْريلُ أجودُ بالخيرِ مِن الرِّيحِ المرسلةِ".

وخَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ بزيادة في آخرِهِ، وهيَ:"لا يُسْألُ عن شيءٍ إلَّا أعْطاهُ"

(1)

.

• الجودُ هوَ سعةُ العطاءِ وكثرتُهُ، واللهُ تَعالى يوصفُ بالجودِ.

وفي التِّرْمِذِيِّ مِن حديثِ: سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ الله جوادٌ يُحِبُّ الجودَ، كريم يُحِبُّ الكرمَ"

(2)

.

(1)

(صحيح بشاهده). رواه: ابن سعد (2/ 195)، وابن أبي شيبة (31802)، وأحمد (1/ 231 و 326)، وعبد بن حميد (647)، وابن أبي الدنيا في "المكارم"(395)، والبيهقي في "الشعب"(2247)؛ من طريق ابن إسحاق، عن الزهريّ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عبّاس

رفعه.

فقد تفرّد ابن إسحاق على تدليسه وعنعنته بهذه الزيادة دون سائر أصحاب الزهريّ، فهي ضعيفة. لكن قال العسقلاني في "الفتح" (1/ 31):"ثبتت هذه الزيادة في "الصحيح" البخاري 6034 ومسلم 2311، من حديث جابر". قلت: ومن حديث سهل عند البخاري (6036). فهي صحيحة بهذين الشاهدين.

(2)

(ضعيف جدًّا بهذا التمام). قطعة من حديث رواه: الفسوي (855 - راوي وسامع)، والترمذي (44 - الأدب، 41 - النظافة، 5/ 111/ 2799)، وابن أبي الدنيا في "المكارم"(8)، والبزار (1114)، والدورقي في "مسند سعد"(31)، وأبو يعلى (790 و 791)، وابن حبّان في "المجروحين"(1/ 279)، والطبراني في "الكبير"(3/ 131/ 2894)، وابن عدي (3/ 878)، والخطيب في "الراوي والسامع"(855)، وابن الجوزي في "الواهيات" (1186)؛ من طريق خالد بن إياس (أو: إلياس)، (قال مرّة: عن صالح بن أبي حسّان عن سعيد بن المسيّب موقوفًا. ومرّة: عن مهاجر بن مسمار عن عامر بن سعد عن أبيه رفعه. ومرّة: عن عامر بن سعد عن أبيه رفعه. ومرّة: عن محمّد بن عبد الله بن عمرو عن فاطمة بنت الحسين عن أبيها رفعه).

قال الترمذي: "غريب، وخالد بن إلياس يضعّف". قلت: خالد متروك، والسند ساقط.

ورواه الدولابي في "الكنى"(1203) من طريق أبي الطيّب هارون بن محمّد، ثنا بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد، عن أبيه

رفعه. وهذا ساقط، هارون متروك متّهم.

وللقطعة الأولى شاهد عند: هنّاد في "الزهد"(839)، والشاشي في "المسند"(20)، والخرائطي في "المكارم"(327)، والبيهقي في "الشعب"(10840)؛ من طريق حجّاج بن أرطاة، عن سليمان بن سحيم، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

به. وهذا واهٍ: حجّاج ليّن كثير التدليس وقد عنعن، وابن كريز عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسل. ورواه نوح الجامع عن حجّاج موصولًا وخالف في إسناده كما في "الحلية"(5/ 29)، ونوح كذّاب لا يفرح بوصله ولا يعتبر بمخالفته.

وروى القطعة الثانية أبو حازم سلمة بن دينار واختلف عليه فيها على وجهين: روى الأوّل: ابن أبي الدنيا في "المكارم"(6)، والخرائطي في "المكارم"(3)، وابن قانع (1/ 269/ 313)، وابن حبّان في "روضة العقلاء"(ص 16)، والطبراني في "الكبير"(6/ 181/ 5928) و"الأوسط"(2964)، وأبو الشيخ في "حديثه"(1378 - صحيحة)، والحاكم (1/ 48)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 255، 8/ 133)، والبيهقي في "السنن"(10/ 191) و"الشعب"(8011)، والسلفي في "معجم السفر"(1378 - صحيحة)؛ من طريقين قويّتين، عن =

ص: 381

وفيهِ أيضًا مِن حديثِ: أبي ذَرٍّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، عن ربِّهِ؛ قالَ:"يا عبادي! لو أن أوَّلَكُم وآخرَكُم وحيَّكُم وميِّتَكُم ورطبَكُم ويابسَكُمُ اجْتَمَعوا في صعيدٍ واحدٍ، فسَألَ كلُّ إنسانٍ منكُم ما بَلَغَتْ أُمنيتُهُ، فأعْطَيْتُ كلَّ سائلٍ منكُم؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن ملكي إلَّا كما لو أنَّ أحدَكُم مَرَّ بالبحرِ فغَمَسَ فيهِ إبرةً ثمَّ رَفَعَها إليهِ، ذلكَ بأنِّي جواد واجد ماجد أفْعَلُ ما أُريدُ، عَطائي كلامٌ وعذابي كلامٌ، إنَّما أمري لشيءٍ إذا أرَدْتُ أنْ أقولَ لهُ كُنْ فيَكونُ"

(1)

.

وفي الأثرِ المشهورِ عن فُضَيْلِ بن عِياضٍ: إنَّ الله تَعالى يَقولُ كلَّ ليلةٍ: أنا الجوادُ

= أبي حازم، عن سهل بن سعد

رفعه. وروى الثاني: معمر في "الجامع"(20150)، وابن أبي شيبة، والبخاري في "التاريخ"(4/ 347)، وابن أبي الدنيا في "المكارم"(7)، والحاكم (1/ 48)، والبيهقي (1/ 191)، والبغوي في "السنّة"(3503)؛ من طرق ثلاث قويّة، عن أبي حازم، عن طلحة بن عبيد بن كريز

مرسلا. وجميع الطرق عن أبي حازم قويّة، والوجه الثاني أقوى لكثرة رواته وفيهم الثوري جبل الحفظ. وبهذا الثاني أعلّ الذهبي الوجه الأوّل. وأمّا الحاكم فقال:"هذا لا يوهّن حديث سهل بن سعد على ما قدّمته من قبول الزيادات من الثقات". وقول الحاكم أوجه وأقعد، ولا يبعد أن يكون الحديث عند أبي حازم على الوجهين، ولذلك قال العراقي "صحيح الإسناد" ولم يتوقّف عند العلّة المذكورة، وقال الهيثمي (8/ 191):"رجال" الكبير "ثقات".

وعليه؛ فالسياق بطوله ضعيف جدًّا دون حدّ الاعتبار، والقطعة الأولى منه جاءت من أوجه ضعيفة، والثانية جاءت من أوجه صحيحة. وقد ضعّف السياق بطوله الترمذي وابن حبّان وابن الجوزي والألباني.

(1)

(ضعيف بهذا التمام). رواه: ابن فضيل في "الدعاء"(130)، وابن أبي شيبة (29548)، وأحمد (5/ 154 و 177)، وهنّاد (919)، وابن ماجه (37 - الزهد، 30 - ذكر التوبة، 2/ 1422/ 4257)، والترمذي (38 - القيامة، 48 - باب، 4/ 656/ 2495)، والبزّار (9/ 439/ 4051 و 4052)، وابن أبي حاتم في "العلل"(2/ 134)، والطبراني في "الشاميّين"(2811) و"الدعاء"(15)، والبيهقي في "الصفات"(112 و 246 و 334) و"الشعب"(7089)، والخطيب في "التاريخ"(7/ 203)، وتمّام في "الفوائد"(1699)؛ من طرق خمس، عن شهر، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي ذرّ

رفعه بهذا السياق.

قال الترمذي: "حسن، وروى بعضهم هذا الحديث عن شهر بن حوشب عن معديكرب عن أبي ذرّ نحوه". قلت: لم أقف عليه، لكن لا يبعد أن يكون من اضطرابات شهر فإنّه ضعيف لا ينبغي أن يحسّن ما انفرد به، وقد انفرد بهذا السياق مخالفًا رواية الثقات لهذا الحديث عن أبي ذرّ كما أوردها مسلم في "صحيحه"(2577)، ولذلك ضعفه الألباني وقال:"وأكثره في مسلم".

نعم؛ رواه البزّار (9/ 402/ 3995) من طريق المحاربي، عن موسى بن المسيّب، عن سالم بن أبي الجعد، عن المعرور بن سويد، عن أبي ذر

رفعه بهذا السياق. لكنّها رواية منكرة، ففي المحاربيّ ضعف وتدليس وقد عنعن وخالف سبعة من الثقات رووا الحديث عن موسى عن شهر على الوجه الأوَّل.

ص: 382

ومنِّي الجودُ، أنا الكريمُ ومنِّي الكرمُ

(1)

.

فاللهُ سبحانَهُ أجودُ الأجودينَ، وجودُهُ يَتَضاعَفُ في أوقاتٍ خاصَّةٍ كشهرِ رمضانَ:

وفيهِ أُنْزِلَ قولُهُ [تَعالى]: {وَإذا سَألَكَ عِبادي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجيبُ دَعْوَةَ الدَّاعي إذا دَعانِ} [البقرة: 186].

وفي الحديثِ الذي خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وغيرُهُ: أنَّهُ يُنادي فيه منادٍ: "يا باغيَ الخيرِ! هَلُمَّ، ويا باغيَ الشَّرِّ! أقْصِرْ. وللهِ عتقاءُ مِن النَّارِ، وذَلكَ كلَّ ليلةٍ"

(2)

.

• ولمَّا كانَ اللهُ عز وجل قد جَبَلَ نبيَّهُ عليه السلام على أكملِ الأخلاقِ وأشرفِها كما في حديثِ: أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إنَّما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صالحَ الأخلاقِ"

(3)

. وذَكَرَهُ مالكٌ في "الموطَّإ" بلاغًا. فكانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أجودَ النَّاس كلَهِم.

وخَرَّجَ ابنُ عَدِيٍّ بإسنادٍ فيهِ ضعفٌ مِن حديثِ أنَسٍ مرفوعًا: "ألا أُخْبِرُكُم بالأجودِ

(1)

إن لم يكن هذا من الإسرائيليات؛ فأحسن أحواله أن يكون له حكم الإعضال! وأيّ آفة؟!

(2)

(صحيح). قطعة من حديث سيأتي بطوله وتخريجه قريبا.

(3)

(حسن صحيح). رواه مالك في "الموطّأ"(2/ 904) بلاغًا. ووصله: ابن سعد (1/ 192)، وأحمد (2/ 381)، والبخاري في "الأدب"(273) و "التاريخ"(7/ 188)، وابن أبي الدنيا في "المكارم"(13)، والبزّار (2740 - كشف)، والخرائطي في "المكارم"(1 و 2)، والبغوي في "حديث الزبيريّ"(106)، والحاكم (2/ 613)، والقضاعي في "الشهاب"(1165)، والبيهقي في "السنن"(1/ 191 و 192) و"الشعب"(7977 و 7978)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 333)؛ من طريق ابن عجلان، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة

رفعه. قال الحاكم: "على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي، وتعقّبهما الألباني بقوله:"ابن عجلان إنّما أخرج له مسلم مقرونًا". قلت: هو صدوق حسن الحديث، فالسند كذلك.

وله شاهد عند: ابن وهب في "الجامع"(483)، وابن أبي شيبة (31764)؛ بسند صحيح، عن زيد بن أسلم، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا.

وآخر عند ابن عبد البرّ (16/ 254) بسند قويّ عن إبراهيم النخعي مرسلًا.

وثالث من حديث جابر عند الطبراني في "الأوسط"(6891) بسند ضعيف.

ورابع من حديث معاذ عند: الحارث بن أبي أُسامة، وابن أبي الدنيا في "المكارم"(14)، والبزّار (1973 - كشف)، والطبراني (20/ 65/ 120)، وابن عبد البر (4/ 334)؛ بسند ضعيف.

والحديث صحيح بلا ريب بهذه الشواهد، وقد قوّاه الحاكم وابن عبد البرّ والذهبي والهيثمي والألباني.

ص: 383

الأجودِ؟ اللهُ الأجودُ الأجودُ. وأنا أجودُ بني آدَمَ. وأجودُهُم مِن بعدي: رجلٌ عَلِمَ علمًا فنَشَرَ علمَهُ، يُبْعَثُ يومَ القيامةِ أُمَّةً وحدَهُ. ورجلٌ جادَ بنفسِهِ في سبيلِ اللهِ"

(1)

. فدَلَّ هذا على أنَّهُ عليه السلام أجودُ بني آدَمَ على الإطلاقِ، كما أنَّهُ أفضلُهُم وأعلمُهُم وأشجعُهُم وأكملُهُم في جميعِ الأوصافِ الحميدةِ.

وكانَ جودُهُ بجميعِ أنواعِ الجودِ مِن: بذلِ العلمِ والمالِ، وبذلِ نفسِهِ للهِ في إظهارِ دينِهِ وهدايةِ عبادِهِ وإيصالِ النَّفعِ إليهِم بكلِّ طريقٍ مِن إطعامِ جائعِهِم ووعظِ جاهلِهِم وقضاءِ حوائجِهِم وتحمُّلِ أثقالِهِم.

ولمْ يَزَلْ صلى الله عليه وسلم على هذهِ الخصالِ الحميدةِ منذُ نَشَأ، ولهذا قالَتْ لهُ خديجةُ في أوَّلِ مبعثِهِ: واللهِ؛ لا يُخْزيكَ اللهُ أبدًا، إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحمَ وتَقْري الضَّيفَ وتَحْمِلُ الكَلَّ وتكْسِبُ المعدومَ وتُعينُ على نوائبِ الحق

(2)

.

ثمَّ تَزايَدَتْ هذهِ الخصالُ فيهِ صلى الله عليه وسلم بعدَ البعثةِ وتَضاعَفَتْ أضعافًا كثيرةً.

وفي الصَّحيحينِ

(3)

: عن أنَسٍ؛ قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أحسنَ النَّاسِ وأشجعَ النَّاسِ وأجودَ النَّاسِ.

وفي "صحيح مسلم"

(4)

عنهُ؛ قالَ: ما سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم على الإسلامِ شيئًا إلَّا أعْطاهُ، فجاءَهُ رجلٌ فأعطاهُ غنمًا بينَ جبلينِ، فرَجَعَ إلى قومِهِ فقالَ: يا قومِ! أسْلِموا؛

(1)

(موضوع). رواه: أبو يعلى (2790)، وابن حبّان في "المجروحين"(1/ 168، 2/ 301)، وابن عدي في "الكامل"(1/ 350)، والبيهقي في "الشعب"(1767)، وابن عبد البرّ في "جامع بيان العلم"، وابن الجوزي في "الموضوعات"(1/ 230)؛ من طريق سويد بن عبد العزيز، عن نوح بن ذكوان، عن أخيه أيّوب بن ذكوان، عن الحسن البصري، عن أنس

رفعه.

قال الهيثمي (1/ 171، 9/ 16): "فيه سويد بن عبد العزيز وهو متروك". قلت: ونوح متّهم، وأيّوب متروك منكر الحديث، والحسن عنعن على تدليسه. وقد ضعّفه المنذري والبوصيري والعسقلاني والألباني واستنكره ابن عدي، وقال ابن حبّان:"منكر باطل لا أصل له"، وعدّه ابن الجوزي في الموضوعات.

(2)

رواه: البخاري (1 - بدء الوحي، 3 - باب، 1/ 23/ 3)، ومسلم (1 - الإيمان، 73 - بدء الوحي، 1/ 139/ 160)؛ من حديث عائشة.

(3)

البخاري (56 - الجهاد، 82 - الحمائل وتعليق السيف، 6/ 95/ 2908)، ومسلم (43 - الفضائل، 11 - شجاعته صلى الله عليه وسلم، 4/ 1802/ 2307)؛ من حديث أنس.

(4)

(43 - الفضائل، 14 - ما سئل صلى الله عليه وسلم شيئا فقال لا، 4/ 1806/ 2312).

ص: 384

فإنَّ مُحَمَّدًا يُعْطي عطاءَ مَن لا يَخْشى الفاقةَ.

وفي روايةٍ لهُ

(1)

: أن رجلًا سَألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم غنمًا بينَ جبلينِ، فأعْطاهُ إيَّاهُ، فأتى قومَهُ فقالَ: يا قومِ! أسْلِموا؛ فإنَّ مُحَمَّدًا يُعْطي عطاءً ما يَخافُ

(2)

الفقرَ. قالَ أنَسٌ: إنْ كانَ الرَّجلُ لَيُسْلِمُ ما يُريدُ إلَّا الدُّنيا، فما يُمْسي حتَّى يَكونَ الإسلامُ أحبَّ إليهِ مِن الدُّنيا وما عليها.

وفيهِ أيضًا

(3)

: عن صَفْوانَ بن أُمَيَّةَ؛ قالَ: لقد أعْطاني رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما أعْطاني وإنَّهُ لَمِن أبغضِ النَّاسِ إليَّ، فما بَرِحَ يُعْطيني حتَّى إنَّهُ لأَحبُّ النَّاسِ إليَّ. قالَ ابنُ شِهابٍ: أعْطاهُ يومَ حنينٍ مئةً مِن النَّعمِ ثمَّ مئةً ثمَّ مئةً.

وفي "مغازي الواقِدِيِّ": أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أعْطى صَفْوانَ [بنَ أُمَيَّةَ] يومئذٍ واديًا مملوءًا إبلًا ونعمًا، فقالَ صَفْوانُ: أشْهَدُ ما طابَتْ بهذا إلَّا نفسُ نبيٍّ

(4)

.

وفي الصَّحيحينِ

(5)

: عن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ؛ أن الأعرابَ عَلِقوا بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مرجعَهُ مِن حُنَيْنٍ يَسْألونَهُ أنْ يَقْسِمَ بينَهُم. فقالَ: "لو كانَ لي عددُ هذهِ العِضاهِ نَعَمًا؛ لَقَسَمْتُهُ بينكُم، ثمَّ لا تَجِدوني بخيلًا ولا كذوبًا ولا جبانًا".

وفيهِما

(6)

: عن جابِرٍ؛ قالَ: ما سُئِلَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم شيئًا فقالَ: لا. وأنَّهُ قالَ لجابِرٍ: "لو جاءَنا مالُ البحرينِ؛ لقد أعْطَيْتُكَ هكذا وهكذا وهكذا (وقالَ بيديهِ جميعًا) ".

(1)

(الموضع السابق، بعده).

(2)

في خ: "عطاء من لا يخاف"، وأثبتّ ما في م ون وط لموافقته لفظ مسلم.

(3)

(الموضع السابق، 2313).

(4)

(ضعيف جدًّا). رواه الواقدي في "المغازي"(2/ 854، 3/ 946) في سياق مسند مطوّل، والواقدي متّهم لا يفرح بمسنداته. وذكر بعضه الزبير بن بكّار بغير إسناد، وعنه ابن عساكر (24/ 105)، والغالب أنّ الزبير تلقّاه من الواقدي مباشرة أو بالواسطة أو من كتابه. وخير من هذا كلّه وأولى منه بالقبول عند أهل العلم مرسل الزهريّ المتقدّم.

(5)

بل تفرّد به البخاري (56 - الجهاد، 24 - الشجاعة في الحرب، 6/ 35/ 2821).

(6)

البخاري (78 - الأدب، 39 - حسن الخلق، 10/ 455/ 6034)، ومسلم (الموضع السابق، 4/ 1805/ 2311).

ص: 385

وخَرَّجَ البُخارِيُّ

(1)

مِن حديثِ سَهْلِ بن سَعْدٍ؛ أن شَمْلَةً أهْدِيَتْ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فلَبِسَها وهوَ محتاجٌ إليها، فسَألَهُ إيَّاها رجلٌ فأعْطاهُ، فلامَهُ النَّاسُ وقالوا: كانَ محتاجًا إليها، وقد عَلِمْتَ أنَّهُ لا يَرُدُّ سائلًا! فقالَ: إنَّما سَألْتُها لِتكونَ كفني. فكانَتْ كفنَهُ.

• وكانَ جودُهُ صلى الله عليه وسلم كلُّه للهِ وفي ابتغاءِ مرضاتِهِ؛ فإنَّهُ كانَ يَبْذُلُ المالَ إمَّا لفقيرٍ أو محتاجٍ، أو يُنْفِقُهُ في سبيلِ اللهِ، أو يَتَألَّفُ بهِ على الإسلامِ مَن يَقْوى الإسلامُ بإسلامِهِ.

وكانَ يُؤْثِرُ على نفسِهِ وأهلِهِ وأولادِهِ، فيُعْطي عطاءً يَعْجِزُ عنهُ الملوكُ مثلُ كسرى وقيصرَ ويَعيشُ في نفسِهِ عيشَ الفقراءِ، فيَأْتي عليهِ الشَّهرُ والشَّهرانِ لا يُوقَدُ في بيتِهِ نارٌ، وربَّما رَبَطَ على بطنِهِ الحجرَ مِن الجوعِ.

وكانَ قد أتاهُ صلى الله عليه وسلم سبيٌ مرَّةً، فشَكَتْ إليهِ فاطِمَةُ ما تَلْقى مِن خدمةِ البيتِ، وطَلَبَتْ منهُ خادمًا يَكْفِيها مؤونةَ بيتِهاِ، فأمَرَها أنْ تَسْتَعينَ بالتَّسبيحِ والتَّكبيرِ والتَّحميدِ عندَ نومِها، وقالَ:"لا أُعْطيكِ وأدَعُ أهلَ الصُّفَّةِ تُطْوى بطونُهُم مِن الجوعِ"

(2)

.

وكانَ جودُهُ صلى الله عليه وسلم يَتَضاعَفُ في شهرِ رمضانَ على غيرِهِ مِن الشُّهورِ كما أن جودَ ربِّهِ يَتَضاعَفُ فيهِ أيضًا؛ فإنَّ الله جَبَلَهُ على ما يُحِبُّهُ مِن الأخلاقِ الكريمةِ، وكانَ على ذلكَ مِن قبلِ البعثةِ.

ذَكَرَ ابنُ إسْحاقَ عن: وَهْبِ بن كَيْسانَ، عن عُبَيْدِ بن عُمَيْرٍ، قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُجاوِرُ في حراءَ مِن كلِّ سنةٍ شهرًا يُطْعِمُ مَن جاءَهُ مِن المساكينِ، حتَّى إذا كانَ الشَّهرُ الذي أرادَ اللهُ [بهِ] ما أرادَ مِن كرامتِهِ مِن السَّنةِ التي بَعَثَهُ اللهُ فيها - وذلكَ الشَّهرُ شهرُ

(1)

(23 - الجنائز، 28 - من استعدّ الكفن، 3/ 143/ 1277).

(2)

(صحيح). رواه: الحميدي (44)، وابن أبي شيبة (29254)، وابن سعد (8/ 25)، وأحمد (1/ 79 و 106)، وابن ماجه (37 - الزهد، 11 - ضجاع آل محمّد، 2/ 1390/ 4152)، والبزّار (757)؛ من طريق عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عليّ

رفعه.

وعطاء بن السائب اختلط، لكن في الرواة عنه هنا ابن عيينة، وهو ممّن روى عنه قبل اختلاطه، والسائب أبوه صحابي صغير، فالسند صحيح.

وأصل الحديث عند: البخاري (3113)، ومسلم (2727)؛ من غير هذه الطريق ودون هذه الزيادة.

ص: 386

رمضانَ -؛ خَرَجَ إلى حراءَ كما كانَ يَخْرُجُ لجوارِهِ معَهُ أهلُهُ، حتَّى إذا كانَتِ الليلةُ التي أكْرَمَهُ اللهُ برسالتِهِ ورَحِمَ العبادَ بها؛ جاءَهُ جبريلُ مِن اللهِ عز وجل

(1)

.

ثمَّ كانَ بعدَ الرِّسالةِ جودُهُ في رمضانَ أضعافُ ما كانَ قبلَ ذلكَ؛ فإنَّهُ كانَ يَلْتَقي هوَ وجبريلُ عليه السلام، وهوَ أفضلُ الملائكةِ وأكرمُهُم، ويُدارِسُهُ الكتابَ الذي جاءَ بهِ إليهِ، وهوَ أشرفُ الكتبِ وأفضلُها، وهوَ يَحُثُّ على الإحسانِ ومكارمِ الأخلاقِ.

وقد كانَ صلى الله عليه وسلم هذا الكتابُ لهُ خلُقًا بحيثُ: يَرْضى لرضاهُ، ويَسْخَطُ لسخطِهِ، ويُسارِعُ إلى ما حَثَّ عليهِ، ويَمْتَنِعُ ممَّا زَجَرَ عنهُ. فلهذا كانَ يَتَضاعَفُ جودُهُ وإفضالُهُ في هذا الشَّهرِ؛ لقربِ عهدِهِ بمخالطةِ جِبْريلَ عليه السلام، وكثرةِ مدارستِهِ لهُ هذا الكتابَ الكريمَ الذي يَحُثُّ على المكارمِ والجودِ. ولا شكَّ أن المخالطةَ تُؤَثِّرُ وتُورِثُ أخلاقًا مِن المخالطِ.

كانَ بعضُ الشُّعراءِ قدِ امْتَدَحَ ملكًا جوادًا، فأعْطاهُ جائزةً سنيَّةً، فخَرَجَ بها مِن عندِهِ وفَرَّقَها كلَّها على النَّاسِ، وأنْشَدَ:

لَمَسْتُ بِكَفِّي كَفَّهُ أبْتَغي الغِنى

وَلَمْ أدْرِ أنَّ الجودَ مِن كَفِّهِ يُعْدي

فبَلَغَ ذلكَ الملكَ فأضْعَفَ لهُ الجائزةَ.

وقد قال بعضُ الشُّعراءِ يَمْدَحُ بعضَ الأجوادِ - ولا يَصْلُحُ أنْ يَكونَ ذلكَ إلَّا لرسول اللهِ صلى الله عليه وسلم -:

تَعَوَّدَ بَسْطَ الكَفِّ حَتَّى لَوَ انَّهُ

ثَناها لِقَبْضٍ لَمْ تُطِعْهُ أنامِلُهْ

(1)

(منكر بهذه السياق). رواه: ابن إسحاق (10/ 425 - فتح)، وعنه ابن هشام في "السيرة"(1/ 253)، والطبري في "التاريخ"(1/ 532)، والعسقلاني في "تغليق التعليق"(5/ 89)؛ من طريق ابن إسحاق، ثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير، سمعت عبد الله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير: حدثنا كيف كان ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي

فذكره في سياق مطوّل جدًّا.

وهذا ضعيف لأمور: أوّلها: أنّه مرسل. الثاني: أنّه مطوّل جدًّا بصورة ترجّح أنّ راويه جمعه وصاغه ممّا سمع من عدد غير قليل من الصحابة وغيرهم، وهذا مألوف جدًّا من أمثال عبيد بن عمير؛ فإنّه كان يرحمه الله قاصًّا، بل كان سيّد القصّاص وأصدقهم، وكان الصحابة يستمعون إلى قصصه. الثالث: أنّه مخالف لما رواه البخاري ومسلم بأصح الأسانيد عن عائشة رضي الله عنها من وجوه كثيرة: منها قوله هنا: "معه أهله"، وسياق الشيخين ظاهر في أنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج وحده من وجوه، ومنها أنّه جعل الوحي منامًا

وغير ذلك.

ص: 387

تَراهُ إذا ما جِئْتَهُ مُتَهَلِّلًا

كَأنَّكَ تُعْطيهِ الذي أنْتَ سائِلُهْ

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ في كَفِّهِ غَيْرُ رُوحِهِ

لَجادَ بِها فَلْيَتَّقِ الله سائِلُهْ

هُوَ البَحْرُ مِن أيِّ النَّواحي أتَيْتَهُ

فَلُجَّتُهُ المَعْروفُ والجودُ ساحِلُهْ

سَمعَ الشِّبْلِيُّ قائلًا يَقولُ: يا اللهُ! يا جوادُ! فتَأوَّهَ وصاحَ وقالَ: كيفَ يُمْكِنُني أنْ أصِفَ الحقَّ بالجودِ ومخلوقٌ يَقولُ في شكلِهِ

فذَكَرَ هذهِ الأبياتَ ثمَّ بكى وقالَ: بلى يا جوادُ! فإنَّكَ أوْجَدْتَ تلكَ الجوارحَ، وبَسَطْتَ تلكَ الهممَ، فأنتَ الجوادُ كلُّ الجوادِ؛ فإنَّهُم يُعْطونَ عن محدودٍ وعطاؤُكَ لا حدَّ لهُ ولا صفةَ، فيا جوادًا يَعْلو كلَّ جوادٍ وبهِ جادَ كلُّ مَن جاد

(1)

!

• وفي تضاعفِ جودِهِ صلى الله عليه وسلم في شهرِ رمضانَ بخصوصِهِ فوائدُ كثيرةٌ:

* منها: شرفُ الزَّمانِ ومضاعفةُ أجرِ العملِ فيهِ. وفي التِّرْمِذِيِّ: عن أنَسٍ مرفوعًا: "أفضلُ الصَّدقةِ صدقةٌ في رمضانَ"

(2)

.

* ومنها: إعانةُ الصَّائمينَ والقائمينَ والذَّاكرينَ على طاعاتِهِم، فيَسْتَوْجِبُ المعينُ لهُم مثلَ أجرِهِم، كما أن مَن جَهَّزَ غازيًا فقد غَزا ومَن خَلَفَهُ في أهلِهِ فقد غَزا.

وفي حديثِ: زَيْدِ بن خالِدٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:"مَن فَطَرَ صائمًا فلَهُ مثلُ أجرِهِ مِن غيرِ أنْ يَنْقُصَ مِن أجرِ الصَّائمِ شيءٌ"

(3)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائيُّ والتِّرْمِذِيُّ

(1)

الذين أثبتوا اسم الجواد لله تعالى إنّما أثبتوه اعتمادًا على الحديث المشهور "إنّ الله جواد يحبّ الجود

، وقد تبيّن لك (ص 381 و 382) أنّ هذه القطعة من الحديث لا تصحّ فكذلك اسم الجواد، ولله جلّ وعلا من كلّ صفة أكمل معانيها وأكمل مفرداتها، ولا ريب أنّ صفة الكرم والعطاء أكمل وأعلى من صفة الجود، والله هو الكريم والأكرم والوهّاب والمنّان والمعطي والمنعم، وهذا أعظم من الجود؛ لأنّ الجود هو السخاء بالمال، ونعم الله تعالى ماديّة ومعنويّة، وهي أوسع من أن تحدّ بالمال أو بالمحسوسات.

(2)

(ضعيف). قطعة من حديث أنس في أنّه صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ الصيام أفضل بعد رمضان؟ فقال: "شعبان تعظيمًا لرمضان". وقد تقدّم تفصيل القول فيه (ص 307).

(3)

(صحيح). رواه: عبد الرزّاق (7905)، وسعيد بن منصور (2328)، وابن أبي شيبة (19548)، وأحمد (4/ 114 و 116، 5/ 192)، وعبد بن حميد (276)، والدارمي (2/ 7)، وابن ماجه (7 - الصيام، 45 - ثواب من فطّر صائمًا، 1/ 555/ 1746)، والترمذي (6 - الصوم، 2 - فضل من فطّر صائمًا، 3/ 171/ 807)، والبزّار (3775)، والنسائي في "السنن الكبرى"(3330 و 3331)، وابن خزيمة (2064)، وابن قانع في "المعجم"(1/ 224/ 249)، وابن حبّان (3429 و 4633)، والطبراني في "الكبير"(5/ 255/ 5267 - 5277) =

ص: 388

وابنُ ماجَهْ.

وخَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ مِن حديثِ عائِشَةَ وزادَ: "وما عَمِلَ الصَّائمُ مِن أعمالِ البرِّ إلَّا كانَ لصاحبِ الطَّعامِ ما دامَ قوَّةُ الطَّعامِ فيهِ"

(1)

.

وخَرَّجَ ابنُ خُزَيْمَةَ في "صحيحه" مِن حديثِ سَلْمانَ مرفوعًا حديثًا في فضلِ شهرِ رمضانَ، وفيهِ:"وهوَ شهرُ المواساةِ، وشهرٌ يُزادُ فيهِ في رزقِ المؤمنِ، مَن فَطَّرَ فيهِ صائمًا؛ كانَ مغفرةً لذنوبِهِ وعتقَ رقبتِهِ مِن النَّارِ وكانَ لهُ مثلُ أجرِهِ مِن غيرِ أنْ يَنْقُصَ مِن أجرِهِ شيءٌ". قالوا: يا رسولَ اللهِ! ليسَ كلُّنا يَجِدُ ما يُفَطِّرُ الصَّائمَ. قالَ: "يُعْطي اللهُ هذا الثَّوابَ لمَن فَطَّرَ صائمًا على مَذْقَةِ لبنٍ أو تمرةٍ أو شربةِ ماءٍ. ومَن أشْبَعَ فيهِ صائمًا؛ سَقاهُ اللهُ مِن حوضي شربةً لا يَظْمَأُ بعدَها حتَّى يَدْخُلَ الجنَّةَ"

(2)

.

* ومنها: أن شهرَ رمضانَ شهرٌ يَجودُ اللهُ فيهِ على عبادهِ بالرَّحمةِ والمغفرةِ والعتقِ مِن النَّارِ، لا سيَّما في ليلةِ القدرِ، واللهُ تَعالى يَرْحَمُ مِن عبادهِ الرُّحماءَ، كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّما يَرْحَمُ اللهُ مِن عباده الرُّحماءَ"

(3)

، فمَن جادَ على عبادِ اللهِ؛ جادَ اللهُ عليهِ بالعطاءِ والفضلِ، والجزاءُ مِن جنسِ العملِ.

* ومنها: أنَّ الجمعَ بينَ الصِّيامِ والصَّدقةِ مِن موجِباتِ الجنَّةِ، كما في حديثِ

"الأوسط"(1052 و 7696) و"الصغير"(837)، وابن عدي (6/ 2445)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 325، 7/ 98)، والقضاعي في "الشهاب"(382)، والبيهقي في "السنن"(4/ 240) و"الشعب"(3952 و 3953 و 4121 و 4122)، والخطيب في "التاريخ"(1/ 243)، والبغوي في "السنّة"(1818 و 1819)، والأصبهاني في "الترغيب"(1735)؛ من طرق كثيرة، عن عطاء، عن زيد بن خالد الجهني

رفعه.

قال الترمذي: "حسن صحيح". وأقرّه البغوي والمنذري، وصحّحه ابن خزيمة وابن حبّان والألباني.

(1)

(موضوع). رواه الطبراني في "الأوسط"(7132 و 8433) من طريق عيسى بن إبراهيم، عن الحكم بن عبد الله الأيلي، عن الزهريّ، عن ابن المسب، عن عائشة

رفعته.

قال الهيثمي (3/ 160): "فيه الحكم بن عبد الله الأيلي وهو متروك". قلت: حسبك فيه قول الإمام أحمد مع اعتداله وورعه في الحكم على الرجال: "أحاديثه كلّها موضوعة"! وعيسى بن إبراهيم هذا هو ابن طهمان متروك هالك أيضًا! فهذه الزيادة ممّا صنعته أيديهما. والله أعلم.

(2)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 355).

(3)

رواه: البخاري (29 - الجنائز، 32 - يعذب الميّت ببعض البكاء، 3/ 151/ 1284)، ومسلم (11 - الجنائز، 6 - البكاء على الميّت، 2/ 635/ 923)؛ من حديث أُسامة بن زيد.

ص: 389

عَلِيٍّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "إنَّ في الجنَّةِ غرفًا يُرى ظهورُها مِن بطونِها وبطونُها مِن ظهورِها". قالوا: لمَن هيَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: "لمَن طَيَّبَ الكلام، وأطْعَمَ الطعام، وأدامَ الصِّيام، وصَلَّى بالليلِ والنَّاسُ نيام"

(1)

.

وهذهِ الخصالُ كلُّها تَكونُ في رمضانَ، فيَجْتَمعُ فيهِ للمؤمنِ الصِّيامُ والقيامُ والصَّدقةُ وطيبُ الكلامِ؛ فإنَّهُ يُنْهى فيهِ الصَّائمُ عن اللغوِ والرَّفثِ، والصِّيامُ والصَّلاةُ والصَّدقةُ توصِلُ صاحبَها إلى اللهِ عز وجل.

قالَ بعضُ السَّلفِ: الصَّلاةُ توصِلُ صاحبَها إلى نصفِ الطَّريقِ، والصِّيامُ يوصِلُهُ إلى بابِ الملكِ، والصَّدقةُ تَأْخُذُ بيدِهِ فتُدْخِلُهُ على الملكِ.

وفي "صحيح مسلم"

(2)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قالَ:"مَن أصْبَحَ منكُمُ اليومَ صائمًا؟ ". قالَ أبو بَكْرٍ: أنا. قالَ: "مَن تَبعَ منكُمُ اليومَ جنازةً؟ ". قالَ أبو بَكْرٍ: أنا. قالَ: "فمَن أطْعَمَ اليومَ مسكينًا؟ ". قالَ أبو بكرٍ: أنا. قالَ: "مَن تَصَدَّقَ بصدقةٍ؟ ". قالَ أبو بكرٍ: أنا. قالَ: "فمَن عادَ منكُم مريضًا؟ ". قالَ أبو بكرٍ: أنا. قالَ: "ما اجْتَمَعْنَ في امرئ إلَّا دَخَلَ الجنَّةَ".

• ومنها: أن الجمعَ بينَ الصِّيامِ والصَّدقةِ أبلغُ في تكفيرِ الخطايا واتِّقاءِ جهنَّمَ والمباعدةِ عنها، وخصوصًا إنْ ضُمَّ إلى ذلكَ قيامُ الليلِ.

فقد ثَبَتَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: "الصِّيامُ جُنَّةٌ (وفي روايةٍ: جُنَّةُ أحدِكُم) مِن النَّارِ كجُنَّتِهِ مِن القتالِ"

(3)

.

(1)

(ضعيف جدا من حديث علي صحيح من حديث غيره). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 108).

(2)

(12 - الزكاة، 27 - من جمع الصدقة وأعمال البرّ، 2/ 713/ 1028).

(3)

(صحيح). رواه: ابن أبي شيبة (8891)، وأحمد (4/ 21 و 22 و 217)، وابن ماجه (7 - الصيام، 1 - فضل الصيام، 1/ 525/ 1639)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(1542 و 1543)، والبزّار (6/ 306/ 2319)، والنسائي (22 - الصيام، 43 - الاختلاف على محمّد، 4/ 161/ 2230 - 2232) وفي "الكبرى"(2539 - 2541)، وابن خزيمة (1891 و 2125)، والروياني (1522)، وابن حبّان (3649)، والطبراني (9/ 51/ 8360 - 8363)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 265)، والبيهقي في "الشعب"(3573)؛ من طريقين، عن مطرّف، عن عثمان بن أبي العاص

رفعه. وهذا سند صحّحه ابن خزيمة وابن حبّان والمنذري وحسّن الألباني إحدى طريقيه وصحّح الأُخرى.

ص: 390

وفي حديثِ مُعاذٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "الصَّدقةُ تُطْفِئ الخطيئةَ كما يُطْفِئ الماءُ النَّارَ، وقيامُ الرَّجلِ مِن جوفِ

(1)

الليلِ"

(2)

؛ يَعْني أنَّهُ يُطْفِئ الخطيئةَ أيضًا.

وقد صَرَّحَ بذلكَ في روايةِ الإمامِ أحْمَدَ.

وفي الصَّحيحِ عنهُ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ قالَ:"اتَّقوا النَّارَ ولو بشقِّ تمرةٍ"

(3)

.

وكانَ أبو الدَّرداءِ يَقولُ: صَلُّوا في ظلمةِ الليلِ ركعتينِ لظلمةِ القبور، صوموا يومًا شديدًا حرُّهُ لحرِّ يومِ النُّشور، تَصَدَّقوا بصدقةٍ لشرِّ يومٍ عسير.

* ومنها: أن الصِّيامَ لا بدَّ أنْ يَقَعَ فيهِ خللٌ ونقصٌ، وتكفيرُ الصِّيامِ للذنوبِ مشروطٌ بالتَّحفُّظِ ممَّا يَنْبَغي التَّحفُّظُ منهُ، كما وَرَدَ ذلكَ في حديثٍ خَرَّجَهُ ابنُ حِبَّانَ في "صحيحه"، وعامَّةُ صيامِ النَّاسِ لا يَجْتَمعُ في صومِهِ التَّحفُّظُ كما يَنْبَغي، ولهذا نُهِيَ أنْ يَقولَ الرَّجلُ: صُمْتُ رمضانَ كلَّهُ أو قمتُهُ كلَّهُ. فالصَّدقةُ تَجْبُرُ ما فيهِ مِن النَّقصِ والخللِ، ولهذا وَجَبَ في آخرِ شهرِ رمضانَ زكاةُ الفطرِ طهرةً للصَّائمِ مِن اللغوِ والرَّفثِ.

والصِّيامُ والصَّدقةُ لهُما مدخلٌ في كفاراتِ الأيمانِ ومحظوراتِ الإحرامِ وكفَّارةِ الوطءِ في رمضانَ. ولهذا كانَ اللهُ تَعالى قد خَيَّرَ المسلمينَ في ابتداءِ الأمرِ بينَ الصِّيامِ وإطعامِ المسكينِ، ثمَّ نُسِخَ ذلكَ وبَقِيَ الإطعامُ لمَن يَعْجِزُ عن الصِّيامِ لكبرِهِ. ومَن أخَّرَ قضاءَ رمضانَ حتَّى أدْرَكَهُ رمضانٌ آخر

(4)

، فإنَّهُ يَقْضيهِ ويَضُمُّ إليهِ إطعامَ مسكينٍ لكلِّ يومٍ؛ تقويةً لهُ عندَ أكثرِ العلماءِ، كما أفْتى بهِ الصَّحابةُ. وكذلكَ مَن أفْطَرَ لأجلِ غيرِهِ - كالحاملِ والمرضعِ - على قولِ طائفةٍ مِن العلماءِ

(5)

.

= وله طريق أُخرى رواها: البزّار (6/ 309/ 2321)، والطبراني (9/ 58/ 8386)، عن عنبسة بن رائطة، عن الحسن، عن عثمان

رفعه. وعنبسة صالح في الشواهد، والحسن عنعن على تدليسه، فهذه الطريق صالحة لتقوية الطريق الأولى.

(1)

في خ: "وقيام الرجل في جوف"، وما أثبتّه من م ون وط أولى بمصادر التخريج.

(2)

(صحيح). قطعة من حديث طويل لمعاذ تقدّم تفصيل القول فيه (ص 100).

(3)

رواه: البخاري (24 - الزكاة، 9 - الصدقة قبل الردّ، 3/ 281/ 1413)، ومسلم (12 - الزكاة، 20 - الحثّ على الصدقة، 2/ 703/ 1016)؛ من حديث عديّ بن حاتم.

(4)

في خ: "طهرة للصيام من اللغو

رمضان إلى رمضان آخر"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(5)

تقدّم تفصيل القول في هذا وما فيه (ص 319).

ص: 391

* ومنها: أن الصَّائمَ يَدَعُ طعامَهُ وشرابَهُ للهِ، فإذا أعانَ الصَّائمينَ على التَّقوِّي على طعامِهِم وشرابِهِم؛ كانَ بمنزلةِ مَن تَرَكَ شهوةً للهِ تَعالى وآثَرَ بِها أو واسى فيها. ولهذا يُشْرَعُ لهُ تفطيرُ الصُّوَّامِ معَهُ إذا أفْطَرَ؛ لأنَّ الطعامَ يَكونُ محبوبًا لهُ حينئذٍ، فيواسي منهُ حتَّى يَكونَ ممَّن أطْعَمَ الطَّعامَ على حبِّهِ، ويَكونُ في ذلكَ شكرٌ للهِ على نعمةِ إباحةِ الطعامِ والشَّرابِ لهُ وردِّهِ عليهِ بعدَ منعِهِ إيَّاهُ؛ فإنَّ هذهِ النِّعمةَ إنَّما عُرِفَ قدرُها عندَ المنعِ منها. وسُئِلَ بعضُ السَّلفِ: لمَ شُرِعَ الصِّيامُ؟ قالَ: لِيَذوقَ الغنيُّ طعمَ الجوعِ فلا يَنْسى الجائعَ. وهذا مِن بعضِ حكمِ الصَّومِ وفوائدِهِ. وقد ذَكَرْنا فيما تَقَدَّمَ حديثَ سَلْمانَ، وفيهِ "وهوَ شهرُ المواساةِ"

(1)

، فمَن لمْ يَقْدِرْ فيهِ على درجةِ الإيثارِ على نفسِهِ؛ فلا يَعْجِزْ عن درجةِ أهلِ المواساةِ.

كانَ كثيرٌ مِن السَّلفِ يواسونَ مِن إفطارِهِم أو يُؤْثِرونَ بهِ ويَطْوونَ، وكانَ ابنُ عُمَرَ يَصومُ ولا يُفْطِرُ إلَّا معَ المساكينِ، فإذا مَنَعَهُم أهلُهُ عنهُ؛ لم يَتَعَشَّ تلكَ الليلةَ. وكانَ إذا جاءَهُ سائلٌ وهوَ على طعامِهِ؛ أخَذَ نصيبَهُ مِن الطعامِ وقامَ فأعْطاهُ السَّائلَ، فيَرْجِعُ وقد أكَلَ أهلُهُ ما بَقِيَ في الجفنةِ، فيُصْبِحُ صائمًا ولم يَأْكُلْ شيئًا.

واشْتَهى بعضُ الصَّالحينَ مِن السَّلفِ طعامًا، وكانَ صائمًا، فوُضِعَ بينَ يديهِ عندَ فطرِهِ، فسَمعَ سائلًا يَقولُ: مَن يُقْرِضُ الملِيَّ الوفيَّ الغنيَّ؟ فقالَ: عبدُهُ المعدمُ مِن الحسناتِ. فقامَ فأخَذَ الصَّحفةَ وخَرَجَ بها إليهِ وباتَ طاويًا.

وجاءَ سائلٌ إلى الإمامِ أحْمَدَ، فدَفَعَ إليهِ رغيفينِ كانَ يُعِدُّهُما لفطرِهِ، ثمَّ طَوى وأصْبَحَ صائمًا.

وكانَ الحَسَنُ يُطْعِمُ إخوانَهُ وهوَ صائمٌ تطوُّعًا، ويَجْلِسُ يُرَوِّحُهُم وهُم يَأْكُلونَ.

وكانَ ابنُ المُبارَكِ يُطْعِمُ إخوانَهُ الألوانَ مِن الحلواءِ وغيرِها في السَّفرِ وهوَ صائمٌ.

سلامُ اللهِ على تلكَ الأرواح، رحمةُ اللهِ على تلكَ الأشباح، لم يَبْقَ منهُم إلَّا أخبارٌ وآثار، كم بينَ مَن يَمْنَعُ الحق الواجبَ عليهِ وبينَ أهلِ الإيثار.

(1)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 355).

ص: 392

لا تَعْرِضَنَّ لِذِكْرِنا في ذِكْرِهِمْ

لَيْسَ الصَّحيحُ إذا مَشى كَالمُقْعَدِ

ولهُ فوائدُ أُخرُ: قالَ الشَّافِعِيُّ: أُحِبُّ للرَّجلِ الزِّيادةَ بالجودِ في شهرِ رمضانَ اقتداءً برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ولحاجةِ النَّاسِ فيهِ إلى مصالحِهِم، ولتشاغلِ كثيرٍ منهُم بالصَّومِ والصَّلاةِ عن مكاسبِهِم. وكذا قالَ القاضي أبو يَعْلى وغيرُهُ مِن أصحابِنا أيضًا.

• ودَلَّ الحديثُ أيضًا على استحبابِ دراسةِ القرآنِ في رمضانَ والاجتماعِ على ذلكَ وعرضِ القرانِ على مَن هوَ أحفظُ لهُ منهُ.

وفيهِ دليلٌ على استحبابِ الإكثارِ مِن تلاوةِ القرآنِ في شهرِ رمضانَ.

وفي حديثِ فاطِمَةَ عليها السلام: عن أبيها صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ أخْبَرَها أن جِبْريلَ كانَ يَعارِضُهُ القرآنَ كلَّ عامٍ مرَّةً، وأنَّهُ عارَضَهُ في عامِ وفاتِهِ مرَّتينِ

(1)

.

وفي حديثِ ابن عَبَّاسٍ

(2)

أن المدارسةَ بينَهُ وبينَ جِبْريلَ كانَتْ ليلًا. فدَلَّ على استحبابِ الإكثارِ مِن التِّلاوةِ في رمضانَ ليلًا؛ فإنَّ الليلَ تَنْقَطعُ فيهِ الشَّواغلُ، وتَجْتَمعُ فيهِ الهممُ، ويَتَواطَأُ فيهِ القلبُ واللسانُ على التَّدبُّرِ، كما قالَ تَعالى:{إنَّ ناشِئَةَ اللَيْلِ هِيَ أشَدُّ وَطْئًا وَأقْوَمُ قيلًا} [المزَّمِّل: 6]. وشهرُ رمضانَ لهُ خصوصيَّةٌ بالقرآنِ، كما قالَ تعالى:{شَهْرُ رَمَضانَ الَّذي أُنزِلَ فيهِ القُرْآنُ} [البقرة: 185]. وقد قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إنَّهُ أُنْزِلَ جملةً واحدةً مِن اللوحِ المحفوظِ إلى بيتِ العزَّةِ في ليلةِ القدرِ. ويَشْهَدُ لذلكَ قولُهُ تَعالى: {إنَّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ القَدْرِ} [القدر: 1]، وقولُهُ:{إنَّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَة مُبارَكَةٍ} [الدُّخان: 3].

وقد سَبَقَ عن عُبَيْدِ بن عُمَيْرٍ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بُدِئَ بالوحيِ ونزولِ القرآنِ عليهِ في شهرِ رمضانَ

(3)

.

وفي "المسند": عن واثِلَةَ بن الأسْقَعِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قالَ: "نَزَلَتْ صحفُ

(1)

رواه: البخاري (61 - المناقب، 25 - علامات النبوّة، 6/ 628/ 3624)، ومسلم (44 - الصحابة، 15 - فضائل فاطمة، 4/ 1904/ 2450)؛ من حديث عائشة عن فاطمة.

(2)

المتقدّم أوّل هذا الباب.

(3)

وهذا صحيح، لكن من غير طريق عبيد بن عمير، وقد تقدّم أنّ في مرسل عبيد نكارة.

ص: 393

إبْراهيمَ في أوَّلِ ليلةٍ مِن شهرِ رمضانَ، وأُنْزِلَتِ التَّوراةُ لستٍّ مَضَيْنَ مِن رمضانَ، وأُنْزِلَ الإنجيلُ لثلاثَ عشرةَ مِن رمضانَ، وأنزِلَ القرآنُ لأربعٍ وعشرينَ خَلَتْ مِن رمضانَ"

(1)

.

وقد كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُطيلُ القراءةَ في قيامِ رمضانَ بالليلِ أكثرَ مِن غيرِهِ. وقد صَلَّى معَهُ حُذَيْفَةُ ليلةً في رمضانَ، فقَرَأ بالبقرةِ ثمَّ بالنِّساءِ ثمَّ بآلِ عِمْرانَ، لا يَمُرُّ بآيةِ تخويفٍ إلَّا وَقَفَ وسَألَ. قالَ: فما صَلَّى الرَّكعتينِ حتَّى جاءَهُ بلالٌ فآذَنَهُ بالصَّلاةِ

(2)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ. وخَرَّجَهُ النَّسائيُّ، وعندَهُ [أنَّهُ] ما صَلَّى إلَّا أربعَ

(1)

(حسن لشواهده). وقد جاء من أوجه عدّة مرفوعًا وموقوفا:

* فرواه قتادة واختلف عليه فيه وخولف على أربعة وجوه: روى أوّلها: ابن جرير (31026) من طريق ابن أبي عروبة، والبيهقي في "الصفات"(494) معلّقًا من طريق إبراهيم بن طهمان؛ كلاهما عن قتادة

موقوفًا. وروى الثاني: عبد بن حميد (الدخان 3 - الدرّ)، وابن جرير (37002)، وابن الضريس (البقرة 185 - الدرّ)؛ من الطريق السابقة نفسها، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي الجلد

موقوفًا. وتوبع قتادة على هذا عند ابن أبي شيبة (30182) من طريق قويّة، عمّن سمع أبا العالية، عن أبي الجلد

موقوفًا. وروى الثالث: أحمد (4/ 107)، وابن نصر في "قيام رمضان"(ص 250)، وابن جرير (2821)، وابن أبي حاتم (البقرة 185 - الدرّ)، والطبراني في "الكبير"(22/ 75/ 185) و"الأوسط"(3752)، والبيهقي في "السنن"(9/ 188) و"الشعب"(2248) و"الصفات"(494)، والنعالي في "حديثه"(1575 - صحيحة)، والأصبهاني في "الترغيب"(1791)، وابن عساكر (6/ 202)، والمقدسي في "فضائل رمضان"(1575 - صحيحة)؛ من طريق عمران القطّان، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة

رفعه. قال الهيثمي (1/ 202): "فيه عمران بن داور القطّان ضعّفه يحيى ووثّقه ابن حبّان وقال أحمد أرجو أن يكون صالح الحديث". وقال الألباني: "إسناد حسن، رجاله ثقات، وفي القطّان كلام يسير". وروى الرابع: أبو يعلى (2190)، وابن مردويه (البقرة 185 - الدرّ)، والبيهقي في "الصفات" معلّقًا؛ من طريق أبي المليح، عن جابر

موقوفًا. قال الهيثمي: "فيه سفيان بن وكيع وهو ضعيف. قلت: أسقطوا حديثه، وطريق البيهقي فيها عبيد الله بن أبي حميد متروك. وعليه؛ فالوجه الرابع ساقط عند الترجيح. والقطان في الوجه الثالث، وإن كان صالح الحديث؛ فإنّه لا تحتمل مخالفته لابن أبي عروبة الراوي المعياري لقتادة قبل اختلاطه - وهذا منه -، فالوجه الثالث مرجوح أيضا. والصواب هاهنا الوقف على قتادة، وأقوى منه الوقف على أبي الجلد لأن فيه زيادة ثقة يتعيّن الأخذ بها. لكنّ هذا الموقوف الصحيح له حكم الإرسال؛ لأنَّه لا يقال اجتهادًا وما هو بالإسرائيلي.

* قال ابن نصر (ص 250): "وروي موقوفًا عن عائشة". قلت: لم أقف عليه، وله حكم الإرسال.

* ورواه ابن أبي شيبة (30179 و 30180) عن أبي قلابة موقوفًا مختصرًا وله أيضا حكم الإرسال.

* ورواه: تمّام الرازي، وعنه ابن عساكر (6/ 202)؛ من طريق صالحة في الشواهد، عن عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس

رفعه. قال الألباني: "منقطع؛ لأنّ عليًّا هذا لم ير ابن عبّاس".

فهذه الأوجه الأربعة ترجّح أنّ لهذا الحديث أصلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإلى تقويته مال الألباني.

(2)

(صحيح إلا ذكر الركعتين فإنّه شاذّ). انظر ما بعده.

ص: 394

ركعاتٍ

(1)

.

وكانَ عُمَرُ قد أمَرَ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ وتَميمًا الدَّارِيَّ أنْ يقوما بالنَّاسِ في شهرِ رمضانَ، فكانَ القارئ يقْرَأُ بالمئتينِ في ركعةٍ، حتى كانوا يَعْتَمِدونَ على العِصِيِّ مِن طول القيامِ، ما كانوا يَنْصَرِفونَ إلَّا عندَ الفجرِ. وفي رواية: أنَّهُم كانوا يَرْبِطونَ الحبال بينَ السَّواري، ثمَّ يَتَعَلَّقونَ بها.

ورُوِيَ أنَّ عُمَرَ جمعَ ثلاثةَ قرَّاءٍ: فأمَرَ أسْرَعَهُم قراءةً أنْ يَقْرَأ بالنَّاسِ ثلاثينَ، وأوسطَهُم بخمسٍ وعشرينَ، وأبطأهُم بعشرينَ.

ثمَّ كانَ في زمانِ التَّابعينَ يَقْرَؤونَ بالبقرةِ في قيامِ رمضانَ في ثمانِ ركعاتٍ، فإنْ

(1)

(صحيح). يرويه عمرو بن مرّة واختلف عليه فيه سندا ومتنا على ثلاثة وجوه: روى الأوَّل منها أحمد (5/ 400) من طريق قويّة، عن العلاء بن المسيب، عن عمرو، عن طلحة بن يزيد، عن حذيفة

رفعه بذكر الركعتين. ورواية طلحة عن حذيفة فيها انقطاع كما سيأتي. وروى الثاني: ابن نصر في "قيام رمضان"(ص 217)، والنسائي (20 - قام الليل، 25 - تسوية القيام بالركوع، 3/ 226/ 1664)، والحاكم (1/ 321)؛ من طريقين قويّتين، عن العلاء، عن عمرو، عن طلحة بن يزيد، عن حذيفة

رفعه بذكر أربع. قال النسائيّ: "هذا الحديث عندي مرسل، وطلحة بن يزيد لا أعلم سمع من حذيفة شيئا، وغير العلاء قال في هذا الحديث عن طلحة عن رجل عن حذيفة". قلت: وهو الوجه الثالث الذي رواه: عليّ بن الجعد (89)، وأحمد (5/ 398)، وأبو داوود (2 - الصلاة، 151 - ما يقول في الركوع والسجود، 1/ 293/ 874)، والترمذي في "الشمائل"(262)، والبزّار (2934)، والنسائي في "الكبرى"(656 و 1379) و"المجتبى"(12 - التطبيق، 25 - ما يقول في قيامه، 2/ 199/ 1068 و 1144)، والطحاوي في "المشكل"(1/ 307)، والبيهقي (2/ 122)، والبغوي في "السنّة"(910)، والمزّي في "التهذيب"(13/ 448)؛ من طرق، عن شعبة، عن عمرو، عن أبي حمزة الأنصاري، عن رجل من بني عبس، عن حذيفة

رفعه بذكر أربع ركعات. قال النسائي: "أبو حمزة عندنا والله أعلم طلحة بن يزيد، وهذا الرجل يشبه أن يكون صلة". قلت: يعني: صلة بن زفر؛ فإنّه عبسيّ، يروي عن حذيفة، وقد روى عنه هذا الحديث بالتحديد بلفظ مقارب عند مسلم (772).

فأمّا بالنسبة للمتن؛ فرواية الثقتين بذكر الأربع أولى من رواية الثقة بذكر الاثنتين، أو يقال: رواية العلاء بذكر الأربع التي تابع فيها شعبة أولى من روايته التي تفرّد بها بذكر الثنتين. وعليه؛ فذكر الركعتين هاهنا شاذ والصواب ذكر الأربع.

وأمّا بالنسبة للسند؛ ففي الوجه الثالث زيادة ثقة جبل يتعيّن الأخذ بها. فإن كان ما استظهره النسائيّ وأقرّه عليه المنذري والمزّي والعسقلاني في أبي حمزة والعبسيّ صحيحًا - وهو مذهب وجيه جدًّا -؛ فالسند صحيح لذاته. وإن لم يكن كذلك؛ فأكثر المتن صحيح برواية مسلم المذكورة آنفًا إلّا أشياء يسيرة لا تعدو أن تكون تفصيلًا لما أجمله مسلم.

وقد مال إلى تصحيح الحديث الحاكم والمنذري والذهبي والألباني.

ص: 395

قَرَأ [بها] في اثنتي عشرةَ ركعةً؛ رَأَوا أنَّهُ قد خَفَّفَ.

قالَ ابنُ مَنْصورِ: سُئِلَ إسْحاقُ (يَعْني: ابنَ راهَوَيْهِ): كم يُقْرَأُ في قيامِ شهرِ رمضانَ؟ فلم يُرَخِّصْ في دونِ عشرِ آياتٍ من البقرةِ. فقيلَ لهُ: إنَّهُم لا يَرْضَوْنَ. فقالَ: لا رَضُوا، فلا تَؤُمَّهُم إذا لم يَرْضَوْا بعشرِ آياتٍ مِن البقرةِ، ثمَّ إذا صِرْتَ إلى الآياتِ الخفافِ فبقدرِ عشرِ آياتِ مِن البقرةِ؛ يَعْني: في كلِّ ركعةٍ.

وكذلكَ كَرِهَ مالكٌ أنْ يُقْرَأ دونَ عشرِ آياتٍ.

وسُئِلَ الإمامُ أحْمَدُ عمَّا رُوِيَ عن عُمَرَ كما تَقَدَّمَ ذكرُهُ في السَّريعِ القراءةِ والبطيءِ.

فقالَ: في هذا مشقَّةٌ على النَّاسِ، ولا سيَّما في هذهِ الليالي القصارِ، وإنَّما الأمرُ على ما يَحْتَمِلُهُ النَّاسُ

(1)

.

وقالَ أحْمَدُ لبعضِ أصحابِهِ - وكانَ يُصَلِّي بهِم في رمضانَ -: هؤلاءِ قومٌ ضعفاءُ، اقْرَأْ بِهِم خمسًا ستًّا سبعًا. قالَ: فقَرَأْتُ فخَتَمْتُ ليلةَ سبعٍ وعشرينَ.

وقد رُوِيَ عن الحَسَنِ: أن الذي أمَرَهُ عُمَرُ أنْ يُصَلِّيَ بالنَّاسِ كانَ يَقْرَأ خمسَ آياتٍ ستَّ آياتٍ.

وكلامُ الإمامِ أحْمَدَ يَدُلُّ على أنَّهُ يُراعى في القراءةِ حالُ المأْمومينَ، فلا يُشَقُّ عليهِم. وقالَهُ أيضًا غيرُهُ مِن الفقهاءِ مِن أصحابِ أبي حَنِيفَةَ وغيرِهِم.

وقد رُوِيَ عن أبي ذَرٍّ: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قامَ بهِم ليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ إلى ثلثِ الليلِ، وليلةَ خمسٍ وعشرينَ إلى نصفِ الليلِ. فقالوا لهُ: لو نَفَّلْتَنا بقيَّةَ ليلتِنا؟ فقالَ: "إنَّ الرَّجلَ إذا صَلَّى مَعَ الإمامِ حتَّى يَنْصرِفَ؛ كُتِبَ لهُ بقيَّةُ ليلتِهِ"

(2)

. خَرَّجَهُ أهلُ السُّننِ،

(1)

هذا والله قول فصل وحكم عدل لا ينبغي أن يمرّ أئمّة المساجد عليه مرور الكرام، فالله يرحم الإمام ما أفقهه وما أعدل آراءه! فالناس متفاوتون والأئمّة متفاوتون والأصوات متفاوتة والليالي متفاوتة.

(2)

(صحيح). رواه جبير بن نفير واختلف عليه في متنه على أربعة وجوه: روى أوَّلها: أحمد (5/ 180)، والفريابي في "الصيام"(151)، وابن خزيمة (2205)، وابن حبّان في "الصحيح"(2547)؛ من طريق معاوية بن صالح، ثني أبو الزاهريّة، عن جبير بن نفير، عن أبي ذرّ؛ قال: قام بنا صلى الله عليه وسلم ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل، ثمّ ليلة خمس وعشرين إلى نصفه، ثمّ ليلة سبع وعشرين إلى الصبح. وهذا سند حسن رجاله بين ثقة وصدوق. وروى الثاني: عبد الرزّاق (7706)، وابن أبي شيبة (7694)، وأحمد (5/ 163)، والدارمي (2/ 26 و 27)، وابن ماجه (5 - إقامة الصلاة، 173 - قيام شهر رمضان، 1/ 420/ 1327)، وأبو داوود (2 - =

ص: 396

وحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.

وهذا يَدُلُّ على أن قيامَ ثلثِ الليلِ ونصفِ الليلِ يُكْتَبُ بهِ قيامُ ليلةٍ، لكنْ معَ

= الصلاة، 318 - قيام شهر رمضان، 1/ 437/ 1375)، والترمذي (6 - الصوم، 81 - قيام شهر رمضان، 3/ 169/ 806)، والبزّار (9/ 433/ 4041 - 4043)، وابن نصر في "قيام رمضان"(ص 216)، والنسائي في "الكبرى (1287 و 1298) و"المجتبى" (13 - السهو، 103 - ثواب من صلّى مع الإمام، 3/ 83/ 1363 و 1604)، والفريابي في "الصيام" (152 - 154)، وابن الجارود في "المنتقى" (403)، وابن خزيمة (2206)، والطحاوي (1/ 349)، والبيهقي (2/ 494)، والبغوى في "السنّة" (1991)، من طرق سبعة منهم الثوري، عن داوود بن أبي هند، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، عن جبير بن نفير، عن أبي ذرّ؛ قال: قام صلى الله عليه وسلم بنا حين بقي من الشهر سبع (وجاء مرّة: ليلة ثلاث وعشرين) إلى ثلث الليل، ثم قام بنا في الخامسة (وجاء مرّة: ليلة خمس وعشرين)

إلخ. قال الترمذي: "حسن صحيح"، وأقرّه البغوي والمنذري والألباني. وروى الثالث: الطيالسي (466) عن وهيب، والبيهقي في "الصغرى" من طريق علي بن عاصم؛ كلاهما عن داوود بن أبي هند، عن الوليد بن عبد الرحمن، عن جبير، عن أبي ذر

فذكره بنحوه لكن جعل القيام ليلة أربع وعشرين وستّ وعشرين وثمان وعشرين. وعلي بن عاصم ضعيف، لكن تابعه وهيب الثقة. وروى الرابع: الفريابي في "الصيام"(150)، والطبراني في "الشاميين"(939)، من طريق قويّة، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن أبي ذرّ

رفعه مختصرًا بذكر قيامه صلى الله عليه وسلم ليلة سبع وعشرين إلى ثلث الليل.

وله شاهد عند: ابن أبي شيبة (7695)، وأحمد (4/ 272)، وابن نصر في "قيام رمضان"(ص 216)، والنسائي في "الكبرى"(1299) و"المجتبى"(الموضع السابق، 3/ 203/ 1605)، والفريابي في "الصوم"(155)، وابن خزيمة (2204)، والحاكم (1/ 440)، والمزّي في "التهذيب"(29/ 486)؛ من وجه حسن، عن النعمان بن بشير: قمنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة ثلاث وعشرين إلى نصف الليل، ثمّ قمنا معه ليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، ثمّ قمنا معه ليلة سبع وعشرين حتّى ظننّا أن لن ندرك الفلاح (يعني: السحور).

فأمّا الوجه الثالث في حديث أبي ذرّ فتفرّد به وهيب بن خالد الثقة وعليّ بن عاصم الضعيف، فخالفا رواية جماعة الثقات عن داوود بن أبي هند ورواية الثقات عن جبير وحديث النعمان الحسن، وجعلا قيامه صلى الله عليه وسلم ليالي الشفع! وعلى هذا تكون رواية وهيب شاذّة ورواية عليّ منكرة، وإنّما أُتيا - والله أعلم - من تصرُّفهما في متن الحديث وروايته بالمعنى على حساب آخر الشهر.

وأمّا الوجه الرابع في حديث أبي ذرّ؛ فتفرّد به عبد الرحمن بن جبير الثقة وخالف الأوجه الثلاثة المتقدّمة وحديث النعمان فجعل القيام ليلة سبع وعشرين إلى ثلث الليل فقط، وهذا حدّ الشذوذ، وإنّما أُتي من اختصاره الشديد الذي أخل بالمتن.

فلم يبق إلّا الوجهان الأوّل والثاني، وكلاهما قوي، فإمّا أنّ أحدهما رواية بالمعنى للآخر، وإما أنّ أبا ذرّ رضي الله عنه كان يرويه على الوجهين، والحديث صحيح بمجموعهما، وقد صحّحه الترمذي وابن خزيمة وابن حبّان والبغوي والمنذري والألباني.

فائدة: دلّ هذان الوجهان مع حديث النعمان على أنّ المراد بقولهم "ليلة سابعة تبقى" و"ليلة بقي من الشهر سبع" هو ليلة ثلاث وعشرين

وهكذا دواليك، وأنّهم كانوا يحتسبونها على نقصان الشهر - كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم لأنَّه متيقّن. فتمسّك بهذه الفائدة؛ فإنها عظيمة النفع في ضبط هذه المسألة وقطع الخلاف فيها.

ص: 397

الإمامِ.

وكانَ الإمامُ أحْمَدُ يَأْخُذُ بهذا الحديثِ، ويُصَلِّي معَ الإمامِ حتَّى يَنْصَرِفَ، ولا يَنْصَرِفُ حتَّى يَنْصَرِفَ الإمامُ.

وقالَ بعضُ السَّلفِ: مَن قامَ نصفَ الليلِ فقد قامَ الليلَ.

وفي "سنن أبي داوود": عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"مَن قامَ بعَشْرِ آياتٍ؛ لمْ يُكْتَبْ مِن الغافلينَ، ومَن قامَ بمئةِ آيةٍ؛ كُتِبَ مِن القانتينَ، ومَن قامَ بألفِ آَيةٍ كُتِبَ مِن المقنطرينَ"

(1)

؛ يَعْني: أنَّهُ يُكْتَبُ لهُ قنطارٌ مِن الأجرِ.

ويُرْوى مِن حديثِ تَميمٍ وأنَسٍ مرفوعًا: "مَن قَرَأ بمئةِ آيةٍ في ليلةٍ؛ كُتِبَ لهُ قيامُ ليلةٍ"

(2)

. وفي إسنادِهِما ضعفٌ. ورُوِيَ حديثُ تَميمٍ موقوفًا عليهِ، وهوَ

(1)

(صحيح). رواه: أبو داوود (2 - الصلاة، 326 - تحزيب القرآن، 1/ 444/ 1398)، وابن خزيمة (1144)، وابن حبّان (2572)، وابن السنّي (703)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(2194)، والمزّي في "التهذيب"(19/ 214)؛ من طريق صحيحة، عن أبي سويّة عبيد بن سويد (على خلاف لهم في اسمه وكنيته)، سمعت عبد الرحمن بن حجيرة، عن ابن عمرو

رفعه.

قال ابن خزيمة: "إن صحّ الخبر؛ فإنّي لا أعرف أبا سويّة بعدالة ولا جرح". قلت: روى عنه جماعة، وقال ابن حبّان:"ثقة"، وقال ابن يونس وابن ماكولا وأبو عمير الكندي:"كان فاضلا"، وصحّح له الحاكم، ولم يجرّحه أحد، فمثله يحسّن له بل يصحّح. وابن حجيرة ثقة. فالسند صحيح. وقد قوّاه الألباني.

وللقطعة الأولى شواهد عن فضالة بن عبيد وتميم الداري وعبادة بن الصامت وابن عمر وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم، وللثانية شواهد عن تميم وأنس وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم، وللثالثة شواهد عن تميم وفضالة وعبادة وغيرهم. لكن لا حاجة لنا للتطويل فيها بعد أن صحّ الأصل المذكور، وإنّما ذكرتها ليطمئن من يتردّد في تصحيح حديث أبي سويّة.

(2)

(حسن صحيح). رواه: أحمد (4/ 103)، والدارمي (2/ 464)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2547)، والنسائي في "السنن الكبرى"(10553) و"اليوم والليلة"(722)، والطبراني في "الكبير"(2/ 50 / 1252) و"الأوسط"(3167) و"الشاميّين"(1208)، وابن السنّي (673)؛ من طريق زيد بن واقد، عن سليمان بن موسى، عن كثير بن مرّة، عن تميم الداريّ

رفعه. وهذا سند يمكن أن يعلّ من أحد وجهين: أوَّلهما: أنّ في حديث سليمان بعض لين، قال الهيثمي (2/ 270):"فيه سليمان بن موسى الشامي، وثقه ابن معين وأبو حاتم وقال البخاري عنده مناكير، وهذا لا يقدح". والآخر: قول أبي مسهر في سليمان: "لم يدرك كثير بن مرّة". ولا يخلو هذا من نظر؛ فإنّ كثيرًا مات ولسليمان ثلاثون عامًّا وكلاهما شاميّ، ولذلك لم يعوّل الذهبيّ على هذا وقال:"لعلّه أدركه"، ولذلك أيضا قال ابن أبي عاصم:"هذا إسناد وثيق".

وله شاهد عند سعيد بن منصور (46) من طريق قويّة عن الحسن، بلغني أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال

فذكره.

ص: 398

أصحُّ

(1)

.

وعنِ ابن مَسْعودٍ؛ قالَ: مَن قَرَأ في ليلةٍ خمسينَ آية، لمْ يُكْتَبْ مِن الغافلينَ، ومَن قَرَأ مئةَ آيةٍ؛ كُتِبَ مِن القانتينَ، ومَن قَرَأ ثلاثَ مئةِ آيةٍ؛ كُتِبَ لهُ قنطارٌ

(2)

.

أرادَ أنْ يُطيلَ في القراءةِ ويَزيدَ وكانَ يُصَلِّي لنفسِهِ، فلْيُطَوِّلْ ما شاءَ، كما قالَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم

(3)

وكذلكَ مَن صَلَّى بجماعةٍ يَرْضَوْنَ بصلاتِهِ.

وكان بعضُ السَّلفِ يَخْتِمُ في قيامِ رمضانَ في كلِّ ثلاثِ ليالي. وبعضُهُم في كلِّ سبعٍ، قَتادَةُ. وبعضُهُم في كلِّ عشرٍ. منهُم أبو رَجاءٍ العُطارِدِيُّ.

وكان السَّلفُ يَتْلونَ القرآنَ في شهرِ رمضانَ في الصَّلاةِ وغيرِها:

كان الأسودُ يقْرَأُ القرآنَ في كلِّ ليلتينِ في رمضانَ.

وكان النَّخَعِيُّ يَفْعَلُ ذلكَ في العشرِ الأواخرِ منهُ خاصَّةً، وفي بقيَّةِ الشَّهرِ في كلِّ ثلاثٍ.

وكانَ قَتادَةُ يَخْتِمُ في كلِّ سبعٍ دائمًا، وفي رمضانَ في كلِّ ثلاثٍ، وفي العشرِ

= ويشهد لمعناه الفقرة الأخيرة من حديث ابن عمرو المتقدّم وشواهدها؛ فإنّ القانتين هم طويلو القيام.

وله شاهد من حديث عبادة بن الصامت عند: الطبراني (2/ 271 - مجمع)، والضياء في "المختارة"(8/ 278/ 341)؛ بسند فيه يحيى بن عقبة بن أبي العيزار متّهم هالك.

وآخر من حديث أبي أمامة عند الطبراني في "الكبير"(8/ 180/ 7748) و"الشاميّين"(892) بسند فيه ابن أبي العيزار الهالك المتقدّم.

ولم أقف على هذا المتن من حديث أن فلعل المصنّف رحمه الله أراد معناه. والله أعلم.

وخلاصة القول أنّ الحديث حسن لذاته صحيح بمرسل الحسن والشواهد المعنويّة، وأمّا حديثا عبادة وأبي أُمامة فساقطان لا يصلحان لصالحة، وقد قوّى حديثنا هذا العسقلاني والألباني.

(1)

لم أقف عليه، فإن صحّ عنه فإنّه يزيد المرفوع قوّة؛ لأنّ له حكم الرفع.

(2)

(ضعيف بهذا التمام). رواه: ابن أبي شيبة (30077)، والدارمي (2/ 463 و 465 و 466)، والطبراني (9/ 146/ 8727) - وعنده بخمس آيات -، وابن السنّي (437 و 671)؛ من طريق فطر بن خليفة، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود

به موقوفًا وفيه زيادة.

قال الهيثمي (2/ 271): "رجاله ثقات". قلت: السبيعيّ عنعن على تدليسه، ورواية فطر عنه بعد اختلاطه، فلا يطمئنّ القلب إلى تقوية ما تفرّد به. نعم؛ لبعضه ما يشهد له، وأمّا المتن بطوله فلا.

(3)

فيما رواه: البخاري (10 - الأذان، 62 - إذا صلّى لنفسه، 2/ 199/ 703)، ومسلم (4 - الصلاة، 37 - أمر الأئمّة بالتخفيف، 1/ 341/ 467)؛ من حديث أبي هريرة.

ص: 399

الأواخرِ كلَّ ليلةٍ.

وكانَ للشَّافِعِي في رمضانَ ستُّونَ ختمةً تقْرَؤُها في غيرِ الصَّلاةِ.

وعن أبي حَنيفَةَ نحوُهُ.

وكانَ قَتَادَةُ يَدْرُسُ القرآنَ في شهرِ رمضانَ

(1)

.

وكانَ الزُّهْرِيُّ إذا دَخَلَ رمضانُ قالَ: إنَّما هوَ تلاوةُ القرآنِ وإطعامُ الطَّعامِ.

قالَ ابنُ عَبْدِ الحَكَمِ: كانَ مالِكٌ إذا دَخَلَ رمضانُ؛ نَفَرَ

(2)

مِن قراءةِ الحديثِ ومجالسةِ أهلِ العلمِ، وأقْبَلَ على تلاوةِ القرآنِ مِن المصحفِ.

وقالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: كانَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ إذا دَخَلَ رمضانُ؛ تَرَكَ جميعَ العبادةِ وأقْبَلَ على تلاوةِ القرآنِ.

وكانَتْ عائِشَةُ تَقْرَأُ في المصحفِ أوَّلَ النَّهارِ في شهرِ رمضانَ، فإذا طَلَعـ[ـتِ] الشَّمسُ؛ نامَتْ.

وقالَ سُفْيانُ: كانَ زُبَيْدٌ اليمامِيُّ إذا حَضَرَ رمضانُ؛ أحْضَرَ المصاحفَ وجَمَعَ إليهِ أصحابَهُ.

وإنَّما وَرَدَ النَّهيُ عن قراءةِ القرآنِ في أقلَّ مِن ثلاثٍ على المداومةِ على ذلكَ. فأمَّا في الأوقاتِ المفضَّلةِ - كشهرِ رمضانَ خصوصًا اللياليَ التي يُطْلَبُ فيها ليلةُ القدرِ - أو في الأماكنِ المفضَّلةِ

(3)

- كمكَّةَ لمَن دَخَلَها مِن غيرِ أهلِها -؛ فيُسْتَحَبُّ الإكثارُ فيها مِن تلاوةِ القرآنِ؛ اغتنامًا للزَّمانِ والمكانِ. وهذا قولُ أحْمَدَ وإسْحاقَ وغيرِهِما مِن الأئمَّةِ، وعليهِ يَدُلُّ عملُ غيرِهِم، كما سَبَقَ ذكرُهُ

(4)

.

(1)

في خ: "في كلّ شهر رمضان"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

كذا في م وط، وفي خ ون:"يفرّ"، والغالب أنّه تصحيف.

(3)

في خ: "فأمّا أوقات الفضيلة

الأماكن الفاضلة"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(4)

فيه نظر من وجوه: أوّلها: أنّ النهي عن قراءة القرآن في أقلّ من ثلاث عامّ يتناول المداومة وغيرها والأماكن الفاضلة وغيرها والأوقات الفاضلة وغيرها، فمن رام قصره على حال دون حال أو مكان دون مكان أو زمان دون زمان فلا بدّ له من دليل، وهيهات! والثاني: أنّ عدم القراءة في أقل من ثلاث هو هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد صحّ عن عائشة رضي الله عنها أنّه صلى الله عليه وسلم كان لا يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، وهذا عامّ أيضًا كالذي قبله، ومن رغب عن سنته صلى الله عليه وسلم فليس منه. والثالث: أنّه صلى الله عليه وسلم بيّن علّة النهي عن الختم في أقلّ من ثلاث بقوله:=

ص: 400

• واعْلَمْ أن المؤمنَ يَجْتَمعُ لهُ في شهرِ رمضانَ جهادانِ لنفسِهِ: جهادٌ بالنَّهارِ على الصِّيامِ، وجهادٌ بالليلِ على القيامِ. فمَن جَمَعَ بينَ هذينِ الجهادينِ ووَفى بحقوقِهِما وصَبَرَ عليهِما؛ وُفِّيَ أجرَهُ بغيرِ حسابٍ.

قالَ كَعْبٌ: يُنادي يومَ القيامةِ منادٍ: إنَّ كلَّ حارثٍ يُعْطى بحرثِهِ ويُزادُ، غيرَ أهلِ القرآنِ والصُّوَّامِ، يُعْطَوْنَ أُجورَهُم بغيرِ حسابٍ.

ويَشْفَعانِ لهُ أيضًا عندَ اللهِ عز وجل كما في "المسند": عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "الصِّيامُ والقرآنُ

(1)

يَشْفَعانِ للعبدِ يومَ القيامةِ، يَقولُ الصِّيامُ: أيْ ربِّ! مَنَعْتُهُ الطَّعامَ والشَّهواتِ بالنَّهارِ [فشَفِّعْني فيهِ]

(2)

. ويَقولُ القرآنُ: مَنَعْتُهُ النَّومَ بالليلِ فشَفِّعْني فيهِ. فيُشَفَّعانِ"

(3)

.

= "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث"، ومعلوم أنّ هذه العلّة قائمة في جميع الأحوال المستثناة بل هي أعظم وأشدّ ظهورًا فيها، فالصيام وزيارة مكّة والمدينة عبادات في حدّ ذاتها تشغل عن التركيز والتدبّر الطويلين. والرابع: أنّ التلاوة، وإن كانت مقصودة لذاتها من وجه، فإنّها مقصودة للفهم والتدبّر والعمل من وجه أعظم وأجلّ، وقد صحّ عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما أنّ سورة واحدة مع التدبّر خير من ختمة بغيره أو نحوه. والخامس: أنّ ما جاء من مخالفة بعض السلف لذلك: فإمّا أنّه لا يصحّ عنهم، وإما أنهم لم يبلغهم النهي فهم معذورون. والسادس: أنّه يقابل هؤلاء جماعة كبار من السلف نهوا عن ذلك وحذروا منه، وحسبك في هذا قول ابن مسعود لمن قرأ في ليلة فأكثر:"أهذا كهذّ الشعر؟! ".

(1)

في خ و م و ن: "الصيام والقيام"! وأثبتّ ما في ط لموافقته لفظ "المسند".

(2)

في خ و ن: "والشهوات المحرّمة بالنهار"، والأولى ما أثبتّه من م و ط و"المسند"، والزيادة منه.

(3)

(حسن). رواه: ابن المبارك (385)، وأحمد (2/ 174)، وابن أبي الدنيا في "الجوع"(1436 - ترغيب)، والطبراني (3/ 184 - مجمع)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 161)، والحاكم (1/ 554)، والبيهقي في "الشعب"(1994)، والذهبي في "النبلاء"(12/ 22، 14/ 435)؛ من طرق، عن حييّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن ابن عمرو

رفعه.

قال الحاكم: "على شرط مسلم"، وأقرّه المنذري والذهبي. وقال المنذري والهيثمي (3/ 184):"رجال الصحيح". وقال المنذري والهيثمي (10/ 384): "إسناده حسن". زاد الهيثمي: "على ضعف في ابن لهيعة وقد وثّق". قلت: وليّنه الذهبيّ مرّة في "النبلاء" من أجل ابن لهيعة، وليس بالقادح فقد توبع عند ابن المبارك والحاكم من وجهين. نعم؛ في حييّ المعافري كلام، لكنّه لا ينحط بحديثه إلى الضعف، ولا سيّما في باب الرقائق، فالسند لا بأس به، وقد صححه الألباني، فكأنّه لشواهده.

ويشهد لمعناه "الصيام جنّة (وفي رواية: وحصن حصين) من النار (وفي رواية: كجنّة أحدكم من القتال) و"القرآن شافع مشفّع وماحل مصدّق"، ويشهد له أيضًا حديثا بريدة وعبادة الآتيان قريبًا.

ص: 401

فالصِّيامُ يَشْفَعُ لمَن مَنَعَهُ الطَّعامَ والشَّهواتِ المحرَّمةَ كلَّها، سواءٌ كانَ تحريمُها يَخْتَصُّ بالصِّيامِ - كشهوةِ الطَّعامِ والشَّرابِ والنِّكاحِ ومقدِّماتِها - أو لا يَخْتَصُّ بهِ - كشهوةِ فضولِ الكلامِ المحرَّمِ والنَّظرِ المحرَّمِ والسَّماعِ المحرَّمِ والكسبِ المحرَّمِ -، فإذا مَنَعَهُ الصِّيامُ مِن هذهِ المحرَّماتِ كلِّها؛ فإنَّهُ يَشْفَعُ لهُ عندَ اللهِ يومَ القيامةِ فيَقولُ: يا ربِّ! مَنَعْتُهُ شهواتِهِ فشَفِّعْني فيهِ.

فهذا لمَن حَفِظَ صيامَهُ ومَنَعَهُ مِن شهواتِهِ. فأمَّا مَن ضَيَّعَ صيامَهُ ولمْ يَمْنَعْهُ ممَّا حَرَّمَهُ اللهُ عليهِ؛ فإنَّهُ جديرٌ أنْ يُضرَبَ بهِ وجهُ صاحبِهِ ويَقولَ لهُ: ضَيَّعَكَ اللهُ كما ضَيَّعْتَني، كما وَرَدَ مثلُ ذلكَ في الصَّلاةِ.

قالَ بعضُ السَّلفِ: إذا احْتُضِرَ المؤمنُ؛ يُقالُ للمَلَكِ: شُمَّ رأْسَهُ. قالَ: أجِدُ في رأْسِهِ القرآنَ. فيُقالُ: شُمَّ قلبَهُ. فيَقولُ: أجِدُ في قلبِهِ الصِّيامَ. فيُقالُ

(1)

: شُمَّ قدميهِ. فيَقولُ: أجدُ في قدميهِ القيامَ. فيُقالُ: حَفِظَ نفسَهُ حَفِظَهُ اللهُ.

وكذَلكَ القرآنُ إنَّما يَشْفَعُ لمَن مَنَعَهُ مِن النَّومِ بالليلِ؛ فإنَّ مَن قَرَأ القرآنَ وقامَ بهِ؛ فقد قامَ بحقِّهِ، فيَشْفَعُ لهُ.

وقد ذَكَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا، فقالَ:"ذاكَ لا يَتَوَسَّدُ القرآنَ"

(2)

؛ يَعْني: لا يَنامُ عليهِ فيَصيرُ لهُ كالوسادةِ

(3)

.

(1)

في خ: "فيقول"، والأولى ما أثبتّه من م و ن و ط.

(2)

(صحيح). رواه: ابن المبارك (1210)، وابن سعد (4/ 363)، وأحمد (3/ 449)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2422) و 2423)، والنسائي في "المجتبى"(20 - قيام الليل، 60 - وقت ركعتي الفجر، 3/ 257/ 1782) و"الكبرى"(1305)، والبغوي في "المعجم"(2/ 147 - إصابة)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"(8/ 362)، وابن قانع في "المعجم"(1/ 300/ 365)، والطبراني (7/ 148/ 6654 و 6655)، وابن منده في "الصحابة"(2/ 147 - إصابة)، والبيهقي في "الشعب"(2005 - 2007) و"الصفات"(585)، وابن عبد البرّ في "الاستيعاب"(2/ 145 و 146)، وأبو الحسن الخلعي في "الفوائد الخلعيّات"(2/ 147 - غابة)، وابن الأثير في "الغابة"(4/ 93) تعليقًا؛ من طرق، عن الزهريّ، عن السائب بن يزيد؛ أنّ شريحًا الحضرميّ ذكر عنده صلى الله عليه وسلم، فقال

فذكره.

والسائب صحابيّ، والسند صحيح غاية، غير أنّهم اختلفوا في المذكور عند النبيّ صلى الله عليه وسلم هل هو شريح الحضرمي أو مخرمة بن شريح، وهذا لا يضرّ كما هو معلوم، وقد صحّح الحديث العسقلاني والألباني.

(3)

يعني: يسهر عليه تلاوة وحفظًا وفهمًا. فهذا أحسن ما قيل في معنى الحديث.

ص: 402

وخَرَّجَ الإمامُ أحمدُ مِن حديثِ بُرَيْدَةَ مرفوعًا: "إنَّ القرآنَ يَلْقى صاحبَهُ يومَ القيامةِ حينَ يَنْشَقُّ عنهُ قبرُهُ كالرَّجلِ الشَّاحبِ، فيقولُ: هل تَعْرِفُني؟ أنا صاحبُكَ، الذي أظْمَأْتُكَ في الهواجرِ وأسْهَرْتُ ليلَكَ، وكلُّ تاجرٍ مِن وراءِ تجارتِهِ. فيُعْطى الملكَ بيمينِهِ، والخلدَ بشمالِهِ، ويوضَعُ على رأْسِهِ تاجُ الوقارِ، ثمَّ يُقالُ لهُ: اقْرَأْ واصْعَدْ في درجِ الجنَّةِ وغرفِها، فهوَ في صعودٍ ما دامَ يَقْرَأ؛ هذًّا كانَ أو ترتيلًا"

(1)

.

وفي حديثِ عُبادَةَ بن الصَّامِتِ الطَّويلِ: "إنَّ القرآنَ يَأْتي صاحبَهُ في القبرِ فيَقولُ لهُ: أنا الذي كُنْتُ أشْهِرُ ليلَكَ وأُظْمِئُ نهارَكَ وأمْنَعُكَ شهواتِكَ وسمعَكَ وبصرَكَ، فسَتَجِدُني مِن الأخلَّاءِ خليلَ صدقٍ. ثمَّ يَصْعَدُ فيَسْألُ لهُ

(2)

فراشًا ودثارًا، فيُؤْمَرُ لهُ بفراشٍ مِن الجنَّةِ وقنديلٍ مِن الجنَّةِ وياسَمين مِن الجنَّةِ، ثمَّ يَدْفَعُ القرآنُ في قبلةِ القبرِ فيُوَسِّعُ عليهِ ما شاءَ الله مِن ذلكَ"

(3)

.

(1)

(حسن شواهده). رواه: أبو عبيد في "الفضائل"(ص 84)، وأحمد (5/ 348 و 352)، وابن أبي عمر في "المسند"(سورة البقرة - الدرّ)، والدارمي (2/ 450)، وابن ماجه (33 - الأدب، 52 - ثواب القرآن، 2/ 1242/ 3781)، وابن نصر في "قيام الليل"(202)، والعقيلي (1/ 143)، وابن عدي (2/ 454)، والحاكم (1/ 556) مختصرًا، والبيهقي في "الشعب"(1989 - 1990)، والبغوي في "السنّة"(1190) و"التفسير"(1/ 19)؛ من طرق، عن بشير بن المهاجر، ثني عبد الله بن بريدة، عن أبيه

رفعه. قال الحاكم: "على شرط مسلم". وردّه الألباني بقوله: "لا؛ فإنّ فيه بشير بن المهاجر، وهو صدوق ليّن الحديث كما قال الحافظ في "التقريب"، فمثله يحتمل حديثه التحسين، أمّا التصحيح فهو بعيد".

قلت: له شاهد عند: عبد الرزّاق (6014)، والطبراني في "الأوسط" (5760)؛ من حديث يحيى بن أبي كثير مرسلًا وموصولًا والإرسال أقوى. وآخر من حديث ابن عمرو سيأتي تفصيل القول فيه قريبًا. وثالث من حديث أبي أمامة عند: الطبراني (8/ 291/ 8119)، وأبي نعيم (5/ 107)؛ بسند ساقط. وللقسم الأخير منه شاهد عند البيهقي في "الشعب" (1991 و 1996 و 1997) من حديث أبي هريرة بسند فيه ضعف. وآخر عند: الطبراني (20/ 72/ 136)، والبيهقي في "الشعب"(1992)؛ بسند ساقط.

والحديث حسن بحديث ابن عمرو ومرسل ابن أبي كثير، والشواهد الأُخرى لن تضرّه إن لم تنفعه.

(2)

في خ: "فيسأل الله له"، والأولى ما أثبتّه من م و ن و ط.

(3)

(موضوع). رواه: الحارث (730 - هيثمي)، والعقيلي (2/ 39)؛ من طريق داورد الطفاوي أبي بحر، عن صهر له يقال له مسلم بن أبي مسلم، عن مورّق العجليّ، عن عبيد بن عمير، عن عبادة

وقفه.

قال ابن معين: "داورد الطفاوي الذي يروي عنه المقرئ حديث القرآن ليس بشيء". وقال العقيلي: "حديثه باطل لا أصل له". وأقرّه العسقلاني. قلت: وصهره هذا الله أعلم من هو.

وله شاهد ساقط ظاهر الوضع عند البزّار (2655).

ص: 403

قالَ ابنُ مَسْعودٍ: يَنْبَغي لقارئ القرآنِ أنْ يُعْرَفَ: بليلِهِ إذا النَّاسُ يَنامونَ، وبنهارِهِ إذا النَّاسُ يُفْطِرونَ، وببكائِهِ إذا النَّاسُ يَضْحَكونَ، وبورعِهِ إذا النَّاسُ يُخَلِّطونَ، وبصمتِهِ إذا النَّاسُ يَخوضونَ، وبخشوعِهِ إذا النَّاسُ يَخْتالونَ، وبحزنِهِ إذا النَّاسُ يَفْرَحونَ.

قالَ مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ: كنَّا نَعْرِفُ قارئَ القرآنِ بصفرةِ لونِهِ. يُشيرُ إلى سهرِهِ وطولِ تهجُّدِهِ.

قالَ وُهَيْبُ بنُ الوَرْدِ: قيلَ لرجلٍ: ألا تَنامُ؟ قالَ: إنَّ عجائبَ القرآنِ أطَرْنَ نومي.

وصَحِبَ رجلٌ رجلًا شهرينِ، فلم يَرَهُ نائمًا، فقالَ: ما لي لا أراكَ نائمًا؟! قالَ: إنَّ عجائبَ القرآنِ أطَرْنَ نومي، ما أخْرُجُ مِن أُعجوبةٍ إلَّا وَقَعْتُ في أُخرى.

قالَ أحْمَدُ بنُ أبي الحَوَاري: إنِّي لأَقْرَأُ القرآنَ وأنْظُرُ في آيةٍ آيةٍ، فيَحِيرُ عقلي بها، وأعْجَبُ مِن حفَّاظِ القرآنِ كيفَ يَهْنِيهِمُ النَّومُ ويَسَعُهُم أنْ يَشْتَغِلوا بشيءٍ منَ الدُّنيا وهُم يَتْلونَ كلامَ اللهِ؟! أما إنَّهُم لو فَهِموا ما يَتْلونَ وعَرَفوا حقَّهُ وتَلَذَّذوا بهِ واسْتَحْلَوُا المناجاةَ بهِ؛ لذَهَبَ عنهُمُ النَّومُ فرحًا بما قد رُزِقوا.

وأنْشَدَ ذو النُّونِ:

مَنَعَ القُرَانُ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ

مُقَلَ العُيونِ بِلَيْلِها لا تَهْجَعُ

فَهِمُوا عَنِ المَلِكِ الجَليلِ كَلامَهُ

فَهْمًا تَذِلُّ لَهُ الرِّقابُ وَتَخْضَعُ

فأمَّا مَن كانَ معَهُ القرآنُ فنامَ عنهُ بالليلِ ولمْ يَعْمَلْ بهِ بالنَّهارِ؛ فإنَّهُ يَنْتَصِبُ القرآنُ

(1)

خصمًا لهُ، يُطالِبُهُ بحقوقِهِ التي ضَيَّعَها.

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ مِن حديثِ سَمُرَةَ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم رَأى في منامِهِ رجلًا مستلقيًا على قفاهُ ورجلٌ قائمٌ بيدِهِ فهرٌ أو صخرةٌ فيَشْدَخُ بهِ رأْسَهُ فيَتَدَهْدَهُ الحجرُ، فإذا ذَهَبَ لِيَأخُذَهُ؛ عادَ رأْسُهُ كما كانَ، فصَنَعَ بهِ مثلَ ذلكَ، فسَألَ عنهُ، فقيلَ لهُ: هذا رجلٌ آتاهُ اللهُ القرآنَ فنامَ عنهُ بالليلِ ولمْ يَعْمَلْ بهِ بالنَّهارِ، فهوَ يَفْعَلُ بهِ ذلكَ إلى يومِ القيامةِ

(2)

. وقد

(1)

في خ: "القرآن فينام عنه

ينتصب له القرآن"، والأولى ما أثبتّه من م و ن و ط.

(2)

رواه: أحمد (5/ 14)، والبخاري (23 - الجنائز، 93 - باب، 3/ 251/ 1386)؛ كلاهما من=

ص: 404

خَرَّجَهُ البُخارِيُّ بغيرِ هذا اللفظِ.

وفي حديثِ: عَمْرِو بن شُعَيْب، عن أبيهِ، عن جدِّهِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"يُمَثَّلُ القرآنُ يومَ القيامةِ رجلًا، فيُؤْتى بالرَّجلِ قد حَمَلَهُ فخالَفَ أمرَهُ، فيَتَمَثَّلُ لهُ خصمًا، فيَقولُ: يا ربِّ! حَمَّلْتَهُ إيَّايَ فبئسَ الحاملُ؛ تَعَدَّى حدودي، وضَيَّعَ فرائضي، ورَكِبَ معصيتي، وتَرَكَ طاعتي، فما يَزالُ يَقْذِفُ عليهِ بالحججِ حتَّى يُقالَ: شأْنَكَ بهِ! فيَأْخُذُ بيدِهِ، فما يُرسِلُهُ حتَّى يَكُبَّهُ على مَنْخِرِهِ في النَّارِ. ويُؤْتى بالرَّجلِ الصَّالحِ كانَ قد حَمَلَهُ وحَفِظَ أمرَهُ، فيَمْثُلُ خصمًا دونَهُ، فيَقولُ: يا ربِّ! حَمَّلْتَهُ إيَّايَ فخيرُ حامل؛ حَفِظَ حدودي، وعَمِلَ بفرائضي، واجْتَنَبَ معصيتي، واتَّبَعَ طاعتي، فلا يَزالُ يَقْذِفُ لهُ بالحججِ حتَّى يُقالَ: شأْنَكَ بهِ، فيَأْخُذُ بيدِهِ، فما يُرْسِلُهُ حتَّى يلبِسَهُ حُلَّةَ الإستبرقِ ويَعْقِدَ عليهِ تاجَ الملكِ ويَسْقِيَهُ كأسَ الخمرِ"

(1)

.

يا مَن ضَيَّعَ عمرَهُ في غيرِ الطَّاعة! يا مَن فَرَّطَ في شهرِهِ بل في دهرِهِ وأضاعَه! يا مَن بضاعتُهُ التَّسويفُ والتَّفريطُ وبئستِ البضاعة! يا مَن جَعَلَ خصمَهُ القرآنَ وشهرَ رمضانَ كيفَ تَرْجو ممَّن جَعَلْتَهُ خصمَكَ الشَّفاعة؟!

وَيْلٌ لِمَنْ شُفَعاؤُهُ خُصَماؤُهُ

وَالصُّوْرُ في يَوْمِ القِيامَةِ يُنْفَخُ

ربَّ صائمٍ حظُّهُ مِن صيامِهِ الجوعُ والعطشُ وقائمٍ حظُّهُ مِن قيامِهِ السَّهرُ.

كلُّ قيامٍ لا يَنْهى عن الفحشاءِ والمنكرِ لا يَزيدُ صاحبَهُ إلَّا بعدًا، وكلُّ صيامٍ لا يُصانُ عن قولِ الزُّورِ والعملِ بهِ لا يُورِثُ صاحبَهُ إلَّا مقتًا وردًّا.

يا قومِ! أينَ آثارُ الصِّيامِ؟! أينَ أنوارُ القيامِ؟!

= طريق جرير بن حازم، ثنا أبو رجاء العطاردي، عن سمرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. ولفظ البخاري في هذا الموضع يكاد يطابق لفظ أحمد واللفظ المذكور هنا، فكأنّ المصنّف نظر في لفظ آخر للبخاري.

(1)

(حسن). رواه: ابن أبي شيبة (30035)، والبخاري في "خلق الأفعال"(ص 74)، وابن قتيبة في "مختلف الحديث"(ص 258)، والبزّار (2337 - كشف)، والديلمي في "الفردوس"(9037)؛ من طرق، عن محمّد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه

رفعه.

قال الهيثمي (7/ 164): "فيه ابن إسحاق وهو ثقة ولكنّه مدلّس، وبقيّة رجاله ثقات". قلت: صرّح ابن إسحاق بالتحديث عند البخاري فأمنّا شبهة التدليس، ولعلّه لذلك حسنه العسقلاني.

ص: 405

إنْ كُنْتَ تَنوحُ يا حَمامَ البانِ

لِلْبَيْنِ فَأيْنَ شاهِدُ الأحْزانِ

أجْفانُكَ لِلدُّموعِ أمْ أجْفاني

لا يُقْبَلُ مُدَّعٍ بِلا بُرْهانِ

هذا عبادَ اللهِ شهرُ رمضانَ الذي أُنزِلَ فيهِ القرآنُ وفي بقيَّتِهِ للعابدينَ مستمتع، وهذا كتابُ اللهِ يُتْلى فيهِ بينَ أظهرِكُم

(1)

ويُسْمَع، وهوَ القرآنُ الذي لو أُنْزِلَ على جبلٍ لرَأيْتَهُ خاشعًا يَتَصَدَّع، ومعَ هذا فلا قلبٌ يَخْشَعُ ولا عين تَدمَعُ ولا صيامٌ يُصانُ عن الحرامِ فيَنْفَعُ ولا قيامٌ اسْتَقامَ فيُرْجى في صاحبِهِ أنْ يَشْفَع! قلوبٌ خَلَتْ مِن التَّقوى فهيَ خرابٌ بَلْقَع، وتَراكَمَتْ عليها ظلمةُ الذُّنوبِ فهيَ لا تُبْصِرُ ولا تَسْمَع.

كم تُتْلى علينا آياتُ القرآنِ وقلوبُنا كالحجارةِ أو أشدُّ قسوة! وكم يَتَوالى علينا شهرُ رمضانَ وحالُنا فيهِ كحالِ أهلِ الشِّقوة؛ لا الشَّابُّ منَّا يَنْتَهي عن الصَّبوةِ ولا الشَّيخُ يَنْزَجِرُ عن القبيحِ فيَلْتَحِقُ بالصَّفوة! أينَ نحنُ مِن قومٍ إذا سَمِعوا داعيَ اللهِ أجابوا الدَّعوة، وإذا تُلِيَتْ عليهِم آياتُ اللهِ جَلَتْ قلوبَهُم جَلْوَة، وإذا صاموا صامَتْ منهُمُ الألسنةُ والأسماعُ والأبصارُ؟ أفما لنا فيهِم أُسوة؟ كم بينَنا وبينَ حالِ أهلِ الصَّفا! أبعدُ ممَّا بينَنا وبينَ

(2)

الصَّفا والمروة.

كلَّما حَسُنَتْ منَّا الأقوالُ ساءَتِ الأعمالُ! فلا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ العليِّ العظيمِ.

يا نَفْسُ فازَ الصَّالِحونَ بِالتُّقى

وَأبْصَروا الحَقَّ وَقَلْبي قَدْ عَمِي

يا حُسْنَهُمْ وَاللَيْلُ قَدْ جَنَّهُمُ

وَنورُهُمْ يَفوقُ نورَ الأنْجُمِ

تَرَنَّموا بِالذِّكْرِ في لَيْلِهِمُ

فَعَيْشُهُمْ قَدْ طابَ بِالتَّرَنُّمِ

قُلوبُهُمْ لِلذِّكْرِ قَدْ تَفَرَّغَتْ

دُموعُهُمْ كَلُؤْلُؤٍ مُنْتَظِم

أسْحارُهُمْ بِهِمْ لَهُمْ قدْ أشْرَقَتْ

وَخِلَعُ الغُفْرانِ خَيْرُ القِسَم

وَيْحَكِ يا نَفْسُ ألا تَيَقُّظٌ

يَنْفَعُ قَبْلَ أنْ تَزِلَّ قَدَمي

مَضى الزَّمانُ في تَوانٍ وَهَوًى

فَاسْتَدْرِكي ما قدْ بَقِي وَاغْتَنِمي

(1)

في خ: "كتاب الله فيه يتلى بين أظهركم"، والأولى ما أثبتّه من م و ن و ط.

(2)

في خ و م: "ممّا هنا وبين"، والأولى ما أثبتّه من ط.

ص: 406

‌المجلس الثالث في ذكر العشر الأوسط من شهر رمضان وذكر نصف الشهر الأخير

في الصَّحيحينِ

(1)

: عن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ؛ قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتكِفُ في العشرِ الأوسطِ مِن رمضانَ، فاعْتكَفَ عامًا، حتَّى إذا كانَتْ ليلةُ إحدى وعشرينَ، وهيَ الليلةُ التي يَخْرُجُ في صبيحتِها من اعتكافه؛ قالَ:"مَن كانَ اعْتكَفَ معي؛ فلْيَعْتكِفِ العشرَ الأواخرَ، وقد أُرِيتُ هذهِ الليلةَ ثمَّ أُنسِيتُها، وقد رَأيْتُني أسْجُدُ في ماءٍ وطينٍ مِن صبيحتِها، فالْتَمِسوها في العشرِ الأواخرِ، والْتَمِسوها في كلِّ وترٍ". فمَطَرَتِ السَّماءُ تلكَ الليلةَ، وكانَ المسجدُ على عريشٍ، فوَكَفَ المسجدُ، فبَصُرَتْ عينايَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعلى جبهتِهِ أثرُ الماءِ والطِّينِ مِن صبحِ إحدى وعشرينَ.

• هذا الحديثُ يَدُلُّ على أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَعْتكِفُ العشرَ الأوسطَ مِن شهرِ رمضانَ؛ لابتغاءِ ليلةِ القدرِ فيهِ. وهذا السِّياقُ يَقْتَضي أن ذلكَ تَكَرَّرَ منهُ صلى الله عليه وسلم.

وفي روايةٍ في الصَّحيحينِ

(2)

في هذا الحديثِ: أنَّهُ اعْتكَفَ العشرَ الأوَّلَ، ثمَّ اعْتكَفَ العشرَ الأوسطَ، ثمَّ قالَ:"إنِّي أُتِيتُ، فقيلَ لي: إنَّها في العشرِ الأواخرِ، فمَن أحَبَّ منكُم أنْ يَعْتكِفَ؛ فلْيَعْتكِفْ". فاعْتكَفَ النَّاسُ معَهُ.

وهذا يَدُلُّ على أن ذلكَ كانَ منهُ قبلَ أنْ يَتبَيَّنَ لهُ أنَّها في العشرِ الأواخرِ، ثمَّ لمَّا تَبَيَّنَ لهُ ذلكَ؛ اعْتَكَفَ العشرَ الأواخرَ حتَّى قَبَضَهُ اللهُ عز وجل. كما رَواهُ عنهُ عائِشَةُ وأبو هُرَيْرَةَ وغيرُهُما

(3)

.

• ورُوِيَ أن عُمَرَ جَمَعَ جماعةً مِن الصَّحابةِ، فسَألَهُم عن ليلةِ القدرِ، فقالَ

(1)

البخاري (32 - ليلة القدر، 3 - تحرّي ليلة القدر، 4/ 259/ 2018)، ومسلم (13 - الصيام، 40 - فضل ليلة القدر، 2/ 824/ 1167).

(2)

البخاري (10 - الأذان، 135 - السجود على الأنف، 2/ 298/ 813)، ومسلم (الموضع السابق، 2/ 825/ 1167).

(3)

رواه: البخاري (33 - الاعتكاف، 1 - اعتكاف العشر الأواخر، 4/ 271/ 2025 و 2026)، ومسلم (14 - الاعتكاف، 1 - اعتكاف العشر الأواخر، 2/ 830/ 1171 و 1172)؛ من حديث ابن عمر وعائشة. والبخاري (33 - الاعتكاف، 17 - اعتكاف العشر الأوسط، 4/ 284/ 2044) من حديث أبي هريرة.

ص: 407

بعضُهُم: كنَّا نَراها في العشرِ الأوسطِ، ثمَّ بَلَغَنا أنَّها في العشرِ الأواخرِ. وسَيَأْتي الحديثُ بتمامِهِ في موضعٍ آخرَ إن شاءَ اللهُ.

وخَرَّجَ ابنُ أبي عاصِمٍ في كتابِ "الصِّيام" وغيرِهِ مِن حديثِ: خالِدِ بن مَحْدوجٍ، عن أنَسٍ؛ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قالَ:"الْتَمِسوها في أوَّلِ ليلةٍ، أو في تسعٍ، أو في أربعَ عشرةَ"

(1)

. وخالدٌ هذا فيهِ ضعفٌ.

وهذا يَدُلُّ على أنَّها تُطْلَبُ في ليلتينِ مِن العشرِ الأوَّلِ، وفي ليلةٍ مِن العشرِ الأوسطِ، وهيَ أربعَ عشرةَ

(2)

. وقد سَبَقَ مِن حديثِ واثِلَةَ بن الأسْقَعِ مرفوعًا: "إنَّ الإنجيلَ أُنْزِلَ لثلاثَ عشرةَ مِن رمضانَ"

(3)

.

وقد وَرَدَ الأمرُ بطلبِ ليلةِ القدرِ في النِّصفِ الأواخرِ مِن رمضانَ، وفي أفرادِ ما بَقِيَ مِن العشرِ الأوسطِ مِن هذا النِّصفِ، وهُما ليلتانِ: ليلةُ سبعَ عشرةَ، وليلةُ تسعَ عشرةَ.

أمَّا الأوَّلُ؛ فخَرَّجَهُ الطبَرانِيُّ مِن حديثِ: عَبْدِ اللهِ بن أُنَيسٍ؛ أنَّهُ سَألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ليلةِ القدرِ. فقالَ: "رَأيْتُها ونَسيتُها، فتَحَرَّها في النِّصفِ الأواخرِ". ثمَّ عادَ فسَألَهُ. فقالَ: "الْتَمِسْها في ليلةِ ثلاثٍ وعشرينَ تَمْضي مِن الشَّهرِ"

(4)

.

(1)

(موضوع). رواه: ابن أبي عاصم في "الصيام"(408 - لطائف المعارف)، وابن عدي (3/ 881) مختصرًا؛ من طريق خالد بن محدوج، عن أنس

رفعه.

وخالد هذا متّهم متروك، وقصّر ابن رجب يرحمه الله فقال:"فيه ضعف"! وقد عدّ ابن عدي والذهبي والعسقلاني حديثه هذا في المنكرات.

(2)

وأيّ دلالة ترجى من حديث موضوع تفرّد به راو رُمي بالكذب؟! هذه أحاديث لا تذكر إلّا على سبيل التحذير والتعجيب!

(3)

(حسن شواهده). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 394). وليس فيه أدنى دليل على أنّ ليلة القدر تطلب ليلة ثلاث عشرة بله أربع عشرة!

(4)

(ضعيف جدًّا بهذا التمام). رواه: البخاري في "التاريخ"(5/ 15)، والطحاوي في "المعاني"(3/ 88)، والطبراني في "الأوسط"(6564)؛ من طريق عبد العزيز بن بلال بن عبد الله بن أنيس، [عن أبيه بلال بن عبد الله، عن عطيّة بن عبد الله،، عن أبيه عبد الله بن أنيس

رفعه.

وهذا سند واه: عبد العزيز وأبوه وعمّه مجاهيل لا يعرفون إلّا بهذا السند وهذا المتن، والحديث مشهور مرويّ عن ابن أنيس من طرق كثيرة لم يذكر في شيء منها هذه الزيادة، بل المحفوظ في هذا أنّ ابن أنيس جاء =

ص: 408

ولهذا المعنى - واللهُ أعلمُ - كانَ أُبيُّ بنُ كَعْبٍ يَقْنُتُ في الوترِ في ليالي النِّصفِ الأواخرِ؛ لأنَّهُ يُرْجى فيهِ ليلةُ القدرِ.

وأيضًا؛ فكلُّ زمانٍ فاضلٍ مِن ليل أو نهارٍ؛ فإنَّ آخرَهُ أفضلُ مِن أوَّلِهِ

(1)

، كيومِ عرفةَ ويومِ الجمعةِ. وكذلكَ الليلُ والنَّهارُ عمومًا آخرُهُ أفضلُ مِن أوَّلِهِ. ولذلكَ كانَتِ الصَّلاةُ الوسطى صلاةَ العصرِ، كما دَلَّتِ الأحاديثُ الصَّحيحةُ عليهِ، وآثارُ السَّلفِ [الـ]ــــكثيرةُ تَدُلُّ عليهِ. وكذلكَ عشرُ ذي الحجةِ والمحرَّمِ؛ آخرُهُما أفضلُ مِن أوَّلِهما.

وأمَّا الثَّاني؛ ففي "سنن أبي داورد" عن ابن مَسْعودٍ مرفوعًا: "اطْلُبوها ليلةَ سبعَ عشرةَ مِن رمضانَ، وليلةَ إحدى وعشرينَ، وليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ". ثمَّ سَكَتَ

(2)

. وفي روايةٍ: "ليلةَ تسعَ عشرةَ"

(3)

. وقيلَ: إنَّ الصَّحيحَ وقفُهُ على ابن مَسْعودٍ، فقد صَحَّ عنهُ

= النبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة اثنين أو ثلاث وعشرين يسأله؛ فكيف يقول له: "التمسها في النصف الأخير"؟!

(1)

في هذا التعميم نظر لا يخفى: فيوم النحر مثلًا أوّله أفضل من آخره لأنّه يتضمّن أكثر أعمال الحجّ والأضحية وصلاة العيد بالنسبة لغير الحاجّ. وكذلك صبيحة الفطر. وليلة القدر أفضل من ليلة الثلاثين من رمضان وإن كانت بعدها. ويوم النحر أفضل من أيّام منى وإن كانت بعده. والمحرّم شهر حرام يشرع الإكثار من الصيام فيه ومع ذلك فتاسعه وعاشره أفضل من آخره. والصلاة أوّل الوقت أفضل من الصلاة آخره

وغير ذلك ممّا يطول ذكره.

(2)

(صحيح موقوفًا ورفعه منكر). رواه أبو إسحاق الشيعي واختلف عليه فيه على وجهين: روى أوّلهما: أبو داوود (2 - الصلاة، 321 - من روى أنّها ليلة سبع عشرة، 1/ 440/ 1384)، والبزّار (1648)، والبيهقي (4/ 310)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(2/ 206)؛ من طريق زيد بن أبي أنيسة، عنه، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ابن مسعود

رفعه. وروى الثاني: سعيد بن منصور (996)، وابن أبي شيبة (8680)، وابن جرير (2/ 19)، والطبراني (9/ 221/ 9074، 10/ 130/ 10203)؛ من طريق شعبة وإسرائيل وأبي عوانة، عنه، عن [حجير التغلبي]، عن الأسود بن يزيد، عن ابن مسعود

وقفه.

والمعروف هنا الوجه الثاني الموقوف لأمرين: أوّلهما: أنّ رواية شعبة وإسرائيل عن أبي إسحاق قويّة بخلاف رواية ابن أبي أنيسة فإنّها بعد اختلاطه. والثاني: أن أبا إسحاق توبع على وقفه فيما رواه: عبد الرزاق (7697)، وابن أبي شيبة (8671)، والطبراني (9/ 315/ 9579)، والبيهقي (4/ 310)، وابن عبد البرّ (2/ 206) تعليقًا؛ من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن ابن مسعود

وقفه. وهذا سند صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين. ولذلك ضعّف الرفع المنذري والعسقلاني والألباني.

(3)

(صحيح موقوفًا ورفعه منكر). رواه أبو إسحاق السبيعي واختلف عليه فيه على وجهين: روى أوّلهما: ابن جرير (2/ 19)، والطحاوي في "المعاني"(3/ 92)؛ من طريق إسرائيل، عنه، عن حجير التغلبي، عن الأسود، عن ابن مسعود

رفعه مرّة ووقفه أُخرى. وروى الثاني: ابن جرير (2/ 19) من طريق =

ص: 409

أنَّهُ قالَ: تَحَرَّوا ليلةَ القدرِ ليلةَ سبعَ عشرةَ صبَّاحةَ بدرٍ أو إحدى وعشرينَ. وفي روايةٍ عنهُ؛ قالَ: ليلةَ سبعَ عشرةَ فإنْ لم تَكُنْ ففي تسعَ عشر

(1)

.

وخَرَّجَ الطَّبَرانِيُّ مِن روايةِ أبي المُهَزِّمِ - وهوَ ضعيفٌ - عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا؛ قالَ: "الْتَمِسوا ليلةَ القدرِ في سبعَ عشرةَ أو تسعَ عشرةَ أو إحدى وعشرينَ أو ثلاثٍ وعشرينَ أو خمسٍ وعشرينَ أو سبعٍ وعشرينَ أو تسعٍ وعشرينَ"

(2)

.

ففي هذا الحديثِ التماسُها في أفرادِ النِّصفِ الثَّاني كلِّها.

ويُرْوى مِن حديثِ عائِشَةَ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا كانَ ليلةُ تسعَ عشرةَ مِن رمضانَ؛ شَدَّ المئزرَ وهَجَرَ الفراشَ حتَّى يُفْطِرَ

(3)

. قالَ البُخارِيُّ: تَفَرَّدَ بهِ عُمَرُ بنُ مِسْكينٍ، ولا يُتابَعُ عليهِ.

• وقد رُوِيَ عن طائفةٍ مِن الصَّحابةِ أنَّها تُطْلَبُ ليلةَ سبعَ عشرةَ، وقالوا: إنَّ صبيحتَها كانَ يومُ بدرٍ. رُوِيَ عن عَلِي وابنِ مَسْعودٍ وزَيْدِ بن ثابِتٍ وزَيْدِ بن أرْقَمَ وعَمْرِو بن حُرَيْثٍ.

ومنهُم مَن رُوِيَ عنهُ أنَّها ليلةُ تسعَ عشرةَ. رُوِيَ عن عَلِيٍّ وابنِ مَسْعودٍ وزَيْدِ بن

= شعبة عن أبي إسحاق عن حجير، وابن جرير (2/ 19) من طريق عنبسة عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود؛ كلاهما عن الأسود، عن ابن مسعود

وقفه.

والمعروف هنا الوجه الثاني الموقوف لثلاثة أُمور: أوّلها: أنّ رواية شعبة عن أبي إسحاق أقوى من رواية إسرائيل. والثاني: أن عبسة تابعه على وقفه. والثالثة: أنّ أبا إسحاق توبع على روايته الموقوفة فيما رواه: الحاكم (3/ 20)، والبيهقي في "الدلائل"(3/ 128)؛ من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن ابن مسعود

موقوفًا. صحّحه الحاكم على شرطهما ووافقه الذهبي.

(1)

وقد صح عنه رضي الله عنه كلا الوجهين، فكأنه يرحمه الله كان متردّدًا في يوم بدر.

(2)

(ضعيف جدًّا). رواه: الطبراني في "الأوسط"(1306)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(3/ 505)؛ من طريق أبي المهزّم يزيد بن سفيان، عن أبي هريرة

رفعه.

قال الهيثمي (3/ 179): "فيه أبو المهزّم وهو ضعيف". قلت: ساقط متروك، وحديثه شديد الضعف.

(3)

(ضعيف): رواه العقيلي في "الضعفاء"(3/ 191) من طريق عمر بن مسكين، عن نافع، عن ابن عمر، عن عائشة

رفعته.

قال البخاري: "تفرّد به عمر بن مسكين ولا يتابع عليه". وأقرّه العقيلي وزاد: "وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر الأواخر

بإسناد أصلح من هذا".

ص: 410

أَرْقَمَ.

والمشهورُ عندَ أهلِ السِّيرِ والمغازي أنَّ ليلةَ بدرٍ كانَتْ ليلةَ سبعَ عشرةَ وكانَتْ ليلةَ جمعةٍ. رُوِيَ ذلكَ عن عَلِيٍّ وابنِ عَبَّاسٍ وغيرِهِما. وعنِ ابن عَبَّاسٍ روايةٌ ضعيفةٌ أنَّها كانَتْ ليلةَ الاثنينِ.

وكانَ زَيْدُ بنُ ثابِتٍ لا يُحْيي ليلةً مِن رمضانَ كما يُحْيي ليلةَ سبعَ عشرةَ ويقولُ: إنَّ الله فَرَقَ في صبيحتِها بينَ الحقِّ والباطلِ وأذَلَّ في صبيحتِها أئمَّةَ الكفرِ.

وحَكى الإمامُ أحْمَدُ هذا القولَ عن أهلِ المدينةِ؛ أن ليلةَ القدرِ تُطْلَبُ ليلةَ سبعَ عشرةَ. قالَ في روايةِ أبي داوردَ فيمَن قالَ لامرأتِهِ: أنتِ طالقٌ ليلةَ القدرِ؛ قالَ: يَعْتَزِلُها إذا دَخَلَ العشرُ وقبلَ العشرِ، أهلُ المدينةِ يَرَوْنَها في السَّبعَ عشرةَ، إلَّا أن المثبتَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في العشرِ الأواخر

(1)

.

وحُكِيَ عن عامِرِ بن عَبْدِ اللهِ بن الزُّبَيْرِ أنَّهُ كانَ يُواصِلُ ليلةَ سبعَ عشرةَ.

وعن أهلِ مَكَّةَ أنَّهُم كانوا لا يَنامونَ فيها ويَعْتَمِرونَ.

وحُكِيَ عن أبي يوسُفَ ومُحَمَّدٍ صاحبي أبي حَنيفَةَ أن ليلةَ القدرِ في النِّصفِ الأواخرِ مِن رمضانَ مِن غيرِ تعيينٍ لها بليلةٍ، وإنْ كانَتْ في نفسِ الأمرِ عندَ اللهِ معيَّنةً.

ورُوِيَ عن عَبْدِ الرَّحْمنِ بن الحارِثِ بن هِشامٍ

(2)

، قالَ: ليلةُ القدرِ ليلةُ سبعَ عشرةَ ليلةُ جمعةٍ. خَرَّجَهُ ابنُ أبي شَيْبَةَ. وظاهرُهُ أنَّها إنَّما تَكونُ ليلةَ القدرِ إذا كانَتْ ليلةَ جمعةٍ لِتُوافِقَ ليلةَ بدرٍ.

ورَوى أبو الشَّيخِ الأصْبَهانِيُّ بإسنادٍ جيِّدٍ عن الحَسَنِ؛ قالَ: إنَّ غلامًا لعُثْمانَ بن أبي العاصِ قالَ لهُ: يا سيِّدي! إنَّ البحرَ يَعْذُبُ في هذا الشَّهرِ في ليلةٍ. قالَ: فإذا كانَتْ تلكَ الليلةُ؛ فأعْلِمْني. قالَ: فلمَّا كانَتْ تلكَ الليلةُ؛ آذَنَهُ، فنَظَروا، فوَجَدوهُ عذبًا، فإذا هيَ ليلةُ سبعَ عشرةَ

(3)

.

(1)

وهذا يدلّ على أنّه لم يثبت عنده في أنّ ليلة القدر هي ليلة سبع عشرة شيء مرفوع.

(2)

في خ: "بن هاشم"! وهذا تحريف بيّن صوابه ما أثبتّه من م و ن و ط.

(3)

ظاهر سنده الانقطاع وظاهر متنه الغرابة!

ص: 411

ورُوِيَ مِن حديثِ جابرٍ؛ قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَأتي قُباءً صبيحةَ سبعَ عشرةَ مِن رمضانَ أيَّ يومٍ كانَ

(1)

. خَرَّجَهُ أبو موسى المَدِينِيُّ.

وقد قيلَ: إنَّ المعراجَ كانَ فيها أيضًا.

ذَكَرَ ابنُ سَعْدٍ: عن الواقِدِيِّ، عن أشياخِهِ؛ أن المعراجَ كانَ ليلةَ السَّبتِ لسبعَ عشرةَ خَلَتْ مِن رمضانَ قبلَ الهجرةِ إلى السَّماءِ، وأنَّ الإسراءَ كانَ ليلةَ سبعَ عشرةَ مِن ربيع الأوَّلِ قبلَ الهجرةِ بسنةٍ إلى بيتِ المقدسِ

(2)

. [وهذا على قولِ مَن فَرَّقَ بينَ المعراجِ والإسراءِ، فجَعَلَ المعراجَ إلى السَّماءِ كما ذُكِرَ في سورةِ النَّجمِ والإسراءَ إلى بيتِ المقدسِ] خاصَّةً كما ذُكِرَ في سورةِ {سُبْحَانَ} .

وقد قيلَ: إنَّ ابتداءَ نبوَّةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كانَ في سابعَ عشرةَ رمضانَ. قالَ أبو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ الباقِرُ: نَزَلَ جِبْريلُ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ليلةَ السَّبتِ وليلةَ الأحدِ، ثمَّ ظَهَرَ لهُ بحِراءَ برسالةِ اللهِ عز وجل يومَ الاثنينِ لسبعَ عشرةَ خَلَتْ مِن رمضانَ

(3)

.

• وأصَحُّ ما رُوِيَ من الحوادثِ في هذهِ الليلةِ أنَّها ليلةُ بدرٍ كما سَبَقَ أنَّها كانَتْ ليلةَ سبعَ عشرةَ. وقيلَ: تسعَ عشرةَ. والمشهورُ أنَّها كانَتْ ليلةَ سبعَ عشرةَ كما تَقَدَّمَ.

وصبيحتُها هوَ يومُ الفرقانِ، يومَ الْتَقى الجمعانِ.

وسُمِّيَ يومَ الفرقانِ؛ لأنَّ الله تَعالى فَرَقَ فيهِ بينَ الحقِّ والباطلِ، وأظْهَرَ الحقَّ وأهلَهُ على الباطلِ وحزبِهِ، وعَلَتْ كلمةُ اللهِ وتوحيدُهُ، وذَلَّ أعداؤُهُ مِن المشركينَ وأهلِ الكتابِ.

وكانَ ذلكَ في السَّنةِ الثانيةِ مِن الهجرةِ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَدِمَ المدينةَ في ربيعٍ الأوَّلِ في أوَّلِ سنةٍ مِن سني الهجرةِ، ولم يُفْرَضْ رمضانُ في ذلكَ العامِ، ثمَّ صامَ عاشوراءَ وفُرِضَ عليهِ رمضانُ في ثاني سنةٍ، فهوَ أوَّلُ رمضانٍ صامَهُ وصامَهُ المسلمونَ معَهُ. ثمَّ

(1)

(لم أقف عليه). لكن الغالب تجربة واستقراءً في أمثال هذه النصوص التي ينفرد بروايتها المتأخّرون الضعف، وقد صدّرها ابن رجب بصيغة التضعيف. والله أعلم.

(2)

روايات الواقديّ ساقطة إذا صرّح بأسماء أشياخه وأسند، فكيف إذا أبهمهم وأرسل؟!

(3)

هذا معضل سندًا منكر متنًا! إن سلمت الطريق إلى أبي جعفر الباقر رحمه الله.

ص: 412

خَرَجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لطلبِ عيرٍ [لِـ]ـــقُرَيْشٍ قَدِمَتْ مِن الشَّامِ إلى المدينةِ في يومِ السَّبتِ لاثنتي عشرةَ ليلةً خَلَتْ مِن رمضانَ وأفْطَرَ صلى الله عليه وسلم في خروجِهِ إليها.

قالَ ابنُ المُسَيَّبِ: قالَ عُمَرُ: غَزَوْنا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم غزوتينِ في رمضانَ يومَ بدرٍ ويومَ الفتحِ وأفْطَرْنا فيهِما

(1)

.

وكانَ سببُ خروجِهِ حاجةَ أصحابِهِ، خصوصًا المهاجرونَ، {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].

وكانَتْ هذهِ العيرُ فيها أموالٌ كثيرةٌ لأعدائِهِمُ الكفَّارِ الذينَ أخْرَجوهُم مِن ديارِهِم وأموالِهِم ظلمًا وعدوانًا، كما قالَ تَعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 39، 40]، فقَصَدَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَأخُذَ أموالَ هؤلاءِ الكفَّارِ الظَّالمينَ المعتدينَ على أولياءِ اللهِ وحزبِهِ وجندِهِ، فيَرُدَّها على أولياءِ اللهِ وحزبِهِ المظلومينَ المخرَجينَ مِن ديارِهِم وأموالِهِم لِيَتَقَوَّوا بها على عبادةِ اللهِ وطاعتِهِ وجهادِ أعدائِهِ. وهذا منَا أحَلَّهُ اللهُ لهذهِ الأمَّةِ؛ فإنَّهُ أحَلَّ لهُمُ الغنائمَ، ولم تَحِلَّ لأحدٍ قبلَهُم.

وكانَ عدَّةُ مَن معَهُ ثلاثَ مئةٍ وبضعةَ عشرَ، وكانوا على عدَّةِ أصحابِ طالوتَ الذينَ جازوا معَهُ النَّهرَ، وما جازَهُ معَهُ إلَّا مؤمنٌ

(2)

.

(1)

(حسن). يرويه عبد الله بن لهيعة واختلف عليه فيه على وجهين: روى الأوّل منهما: أحمد (1/ 22)، والبزّار (296)؛ من طريقين، عنه، ثنا بكير بن عبد الله، عن ابن المسيّب، عن عمر

به. وروى الثاني: ابن سعد (2/ 21)، وأحمد (1/ 22)، والترمذي (6 - الصوم، 20 - الرخصة للمحارب في الإفطار، 3/ 93/ 714)، والفريابي في "الصيام"(91)؛ من طريق قتيبة بن سعيد وحسن بن موسى، عنه، ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن معمر بن أبي حييّة، عن ابن المسيّب، عن عمر

به. والراجح هنا الوجه الثاني؛ لأنّ رواية قتيبة عن ابن لهيعة جيّدة. وبقيّة السند ثقات. وابن المسيّب سمع من عمر. فالسند لا بأس به.

وقد جاء إفطار الصحابة في إحدى الغزوات عند البخاري (1945)، وإفطاره صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في غزوة الفتح عند مسلم (1120). واتّفق أهل السير على أنّ غزوة بدر كانت في رمضان، لكن لم أقف على ذكر الإفطار فيها إلّا من وجه واه عند ابن سعد (2/ 21).

(2)

رواه البخاري (64 - المغازي، 6 - عدّة أصحاب بدر، 7/ 290/ 3957 - 3959) من حديث =

ص: 413

وفي "سنن أبي داورد" مِن حديثِ عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو؛ قالَ: خَرَجَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يومَ بَدْرٍ في ثلاثِ مئةٍ وخمسةَ عشرَ مِن المقاتلةِ كما خَرَجَ طالوتُ، فدَعا لهُم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حينَ خَرَجوا فقال:"اللهمَّ! إنَّهُم حفاةٌ فاحْمِلْهُم، وإنَّهُم عراةٌ فأكْسُهُم، وإنَّهُم جياعٌ فأشْبِعْهُمْ". ففَتَحَ اللهُ يومَ بدرٍ، فانْقَلَبوا حينَ انْقَلَبوا وما فيهِم رجلٌ إلَّا وقد رَجَعَ بجملٍ أو جملينِ واكْتَسَوا وشَبِعوا

(1)

.

وكانَ أصحابُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حينَ خَرَجوا على غايةٍ مِن قلَّةِ الظَّهرِ والزَّادِ؛ فإنَّهُم لم يَخْرُجوا مستعدِّينَ لحرب ولا لقتالٍ، وإنَّما خَرَجوا لطلبِ العيرِ، وكانَ معَهُم نحوُ سبعينَ بعيرًا يَعْتَقِبونَها بينَهُم، كلُّ ثلاثةٍ على بعيرٍ، وكانَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم زميلانِ، وكانوا يَعْتَقِبونَ على بعيرٍ واحدٍ، فكانَ زميلاهُ يَقولانِ لهُ: يا رسول اللهِ! ارْكَبْ حتَّى نَمْشِيَ عنكَ، فيَقولُ:"ما أنتُما بأقوى على المشيِ منِّي ولا أنا [بـ]ــــأغنى عن الأجرِ منكُما"

(2)

. ولم يَكُنْ معَهُم إلَّا فرسانِ، وقيلَ ثلاثةٌ، وقيلَ فرسٌ واحدٌ للمِقدادِ.

وبَلَغَ المشركينَ خروجُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لطلبِ العيرِ، فأخَذَ أبو سُفْيانَ بالعيرِ نحوَ السَّاحلِ، وبَعَثَ إلى أهلِ مَكَّةَ يُخْبِرُهُمُ الخبرَ ويَطْلُبُ منهُم أنْ يَنْفِروا لحمايةِ عيرِهِم، فخَرَجوا مستصرخينَ، وخَرَجَ أشرافُهُم ورؤساؤُهُم وساروا نحوَ بدرٍ.

= البراء. ووقع في خ: "وما جاوزه"، وما أثبته من م و ن و ط أولى بالسياق.

(1)

(لا بأس به). رواه: ابن سعد في "الطبقات"(2/ 20)، وأبو داورد (9 - الجهاد، 155 - نفل السريّة، 2/ 88/ 2747)، والحاكم (2/ 132 و 145)، والبيهقي (6/ 305، 9/ 57)؛ من طريق حييّ بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن ابن عمرو

رفعه.

قال الحاكم: "على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، مع أنّهما لم يخرّجا لحييّ، وفي حديثه نوع لين، لكن لا بأس به في الرقائق والمغازي، ولا سيّما أنّه يشهد لأوّله ما قبله، ويشهد لآخره الأحاديث الصحيحة الكثيرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في الدعاء والابتهال لأصحابه يوم بدر، وقد حسّنه العسقلاني والألباني.

(2)

(حسن). رواه: الطيالسي (354)، وابن سعد (2/ 21)، وأحمد (1/ 411 و 418 و 422 و 424)، والبزّار (1759 - كشف)، والنسائي في "الكبرى"(8807)، وأبو يعلى (5359)، والشاشي (639)، وابن حبّان (4733)، والحاكم (2/ 91، 3/ 20)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 254)، والبيهقي (5/ 258)، والبغوي في "السنّة"(2686)؛ من طريق حمّاد بن سلمة، عن عاصم، عن زرّ، عن ابن مسعود

رفعه.

قال البزّار: "لا نعلم رواه عن عاصم عن زرّ عن عبد الله إلّا حمّاد". وصحّحه الحاكم والذهبي. وقال الهيثمي في "المجمع"(6/ 72): "فيه عاصم بن بهدلة، وحديثه حسن، وبقيّة رجال أحمد رجال الصحيح".

ص: 414

واسْتَشارَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المسلمينَ في القتالِ، فتكلَّمَ المهاجرونَ فسَكَتَ عنهُم، وإنَّما كانَ قصدُهُ صلى الله عليه وسلم الأنصارَ؛ لأنَّهُ ظَنَّ أنَّهُم لمْ يُبايِعوه إلَّا على نصرتِهِ على مَن قَصَدَهُ في ديارِهِم، فقامَ سَعْدُ بنُ عُبادَةَ فقالَ: إيَّانا تُريدُ (يَعْني: الأنصارَ)؟ والذي نفسي بيده؛ لو أمَرْتَنا أنْ نُخِيضَها البحرَ؛ لأخَضْناها، ولو أمَرْتَنا أنْ نَضْرِبَ أكبادَها إلى بَرْكِ الغِمادِ؛ لَفَعَلْنا

(1)

. وقالَ لهُ المِقدادُ: لا نَقولُ لكَ كما قالَ بنو إسْرائيلَ لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]، ولكنْ نُقاتِلُ معكَ عن يَمينِكَ وشمالِكَ وبينَ يديكَ ومِن خلفِكَ، فسُرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلكَ

(2)

وأجْمَعَ على القتالِ وباتَ تلكَ الليلةَ ليلةَ الجمعةِ سابعَ عشرَ رمضانَ قائمًا يُصَلِّي ويَبْكي ويَدْعو الله ويَسْتَنْصِرُهُ على أعدائِهِ.

وفي "المسند": عن عَلِيِّ [بن أبي طالِبٍ]؛ قالَ: لقد رَأيْتُنا وما فينا إلَّا نائمٌ؛ إلَّا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تحتَ شجرةٍ يُصَلِّي ويَبْكي حتَّى أصْبَحَ

(3)

.

وفيهِ عنهُ أيضًا؛ قالَ: أصابَنا طشٌّ مِن مطرٍ (يَعْني: ليلةَ بدرٍ)، فانْطَلَقْنا تحتَ الشَّجرِ والحَجَفِ نَسْتَظِلُّ بها مِن المطرِ، وباتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعو ربَّهُ ويَقولُ:"إنْ تَهْلِكْ هذهِ الفئةُ لا تُعْبَدْ". فلمَّا أنْ طَلَعَ الفجرُ؛ نادى: الصَّلاةَ عبادَ اللهِ! فجاءَ النَّاسُ مِن تحتِ الشَّجرِ والحجفِ، فصَلَّى بنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وحَثَّ على القتالِ

(4)

.

(1)

رواه مسلم (32 - الجهاد والسير، 30 - غزوة بدر، 3/ 1403/ 1779) من حديث أنس. لكن رجّح العسقلاني في "الفتح"(7/ 288) أنّ صاحب هذه المقالة هو سعد بن معاذ لا سعد بن عبادة.

(2)

رواه البخاري (64 - المغازي، 4 - إذ تستغيثون ربكم، 7/ 287/ 3952) من حديث ابن مسعود.

(3)

(صحيح). رواه: أحمد (1/ 125 و 138)، وابن نصر في "تعظيم الصلاة"(272)، والنسائي في "الكبرى"(10061)، وأبو يعلى (280)، وابن خزيمة (899)، والطبري في "التاريخ"(2/ 23)، وابن حبّان (2257)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 25)؛ من طريق الثوريّ تارة وشعبة تارة، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عليّ

رفعه.

وهذا سند صحيح رجاله ثقات، ورواية الثوري عن أبي إسحاق أمان من التخليط والتدليس وكذلك رواية شعبة، وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبّان والمنذري والألباني.

(4)

(صحيح). رواه: ابن أبي شيبة (36668)، وأحمد (1/ 117)، والبزّار (719)، وابن جرير (15777) وفي "التاريخ"(2/ 22)؛ من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي

رفعه.

قال الهيثمي (6/ 79): "رجال أحمد رجال الصحيح غير حارثة بن مضرب وهو ثقة". قلت: رواية إسرائيل عن أبي إسحاق جيّدة احتجّ بها ابن مهدي والبخاري وغيرهما.

ص: 415

وأمَدَّ اللهُ تَعالى نبيَّهُ والمؤمنينَ بنصرٍ مِن عندِهِ وبجندٍ مِن جندِهِ، كما قالَ تَعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال: 9، 10].

وفي "صحيح البُخارِيِّ"

(1)

أن جِبْريلَ قالَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: ما تَعُدُّونَ أهلَ بدرٍ فيكُم؟ قالَ: "مِن أفضلِ المسلمينَ (أو كلمةً نحوَها) ". قالَ: وكذلكَ مَن شَهِدَ بدرًا مِن الملائكةِ.

وقالَ اللهُ تَعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]. وقالَ: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].

ورُوِيَ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا رَآهُم؛ قالَ: "اللهمَّ! إنَّ هؤلاءِ قُرَيْشٌ قد جاءَتْ بخُيَلائِها يُكَذِّبونَ رسولَك، فأنْجِزْ لي ما وَعَدْتَني"

(2)

. فأتاهُ جبريلُ فقالَ: خُذْ قبضةً مِن ترابٍ فأرْمِهِم بها. فأخَذَ قبضةً مِن حصباءِ الوادي فرَمى بها نحوَهُم وقالَ: "شاهَتِ الوجوهُ". فلم يَبْقَ مشركٌ إلَّا دَخَلَ في عينِيهِ ومَنْخِرِهِ وفمِهِ شيءٌ، ثمَّ كانَتِ الهزيمةُ

(3)

.

(1)

(64 - المغازي، 11 - شهود الملائكة بدرًا، 7/ 311/ 3992 - 3994) من حديث رافع الزرقي.

(2)

(لا بأس به). ذكره ابن إسحاق في "السيرة"(2/ 260 - ابن هشام) بغير سند.

ورواه الطبري في "التفسير"(15834) من طريق قويّة عن هشام بن عروة مرسلًا.

ورواه الطبري في "التفسير"(16194) من طريق قويّة عن قتادة مرسلًا، وزاد السيوطي في "الدرّ"(الأنفال 47) نسبته لابن أبي حاتم وابن المنذر وأبي الشيخ.

ويشهد له بالجملة ما جاء في الصحيحين وما تقدّم آنفًا من دعائه صلى الله عليه وسلم بنصر المؤمنين وهزيمة الكافرين.

فاجتماع المرسلين المتقدّمين مع الشواهد الموصىولة المجملة يرجّح أنّ لهذا أصلًا، وقد تجوّز أكثر أهل العلم في قبول مثل هذه المرويّات في السير. والله أعلى وأعلم.

(3)

(حسن). رواه: ابن أبي حاتم في "التفسير"(5/ 1672/ 8906)، والطبراني (3/ 203/ 3128)؛ من طريقين، عن يحيى بن عبّاد الشجري، ثنا موسى بن يعقوب الزمعي، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن حكيم بن حزام

رفعه. قال الهيثمي (6/ 87): "إسناده حسن". قلت: بل ضعيف: الشجري وأبوه ضعيفان، والزمعيّ يخطئ.

ورواه: الطبري (15840 و 16198)، وابن أبي حاتم (5/ 1673/ 8907)، والبيهقي في "الدلائل"(3/ 78)، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس

رفعه. وعليّ عن ابن عبّاس منقطع.

ورواه دون كلام جبريل: الطبري (15836) من وجه ضعيف عن محمد بن قيس وابن كعب القرظي مرسلًا. والطبري (15839) وابن أبي حاتم (5/ 1673/ 8908) من وجه قويّ عن ابن زيد معضلًا.

ص: 416

وقالَ حَكيمُ بنُ حِزامٍ: سَمِعْنا يومَ بدرٍ صوتًا وَقَعَ مِن السَّماءِ كأنَّهُ صوتُ حصاةٍ على طستٍ، فرَمى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم تلكَ الرَّميةَ، فانْهَزَمْنا

(1)

.

ولمَّا قَدِمَ الخبرُ على أهلِ مكَّةَ؛ قالوا لمَن أتاهُم بالخبرِ: كيفَ حالُ النَّاسِ؟ قالَ: لا شيءَ! واللهِ؛ إنْ كانَ إلَّا أنْ لَقِيْناهُم فمَنَحْناهُم أكتافَنا يَقْتُلونَنا ويَأْسِروننا كيفَ شاؤوا! وايْمُ اللهِ؛ معَ ذلكَ ما لُمْتُ النَّاسَ، لَقِينا رجالًا على خيلٍ بلقٍ بينَ السَّماءِ والأرضِ ما يَقومُ لها شيءٌ.

وقتَلَ اللهُ صناديدَ كفَّارِ قريشٍ يومئذٍ، منهُم عُتْبَةُ بنُ رَبيعَةَ وشَيْبَةُ والوَليدُ بنُ عُتْبَةَ وأبو جَهْلٍ وغيرُهُم، وأسَروا منهُم سبعينَ.

وقصَّةُ بدرٍ يَطولُ استقصاؤُها، وهيَ مشهورةٌ في التفسيرِ وكتبِ الصِّحاحِ والسُّننِ والمسانيدِ والمغازي والتَّواريخِ وغيرِها. وإنَّما المقصودُ [ها] هُنا التَّشبيهُ على بعضِ مقاصدِها.

وكانَ عدوُّ اللهِ إبْليسُ قد جاءَ إلى المشركينَ في صورةِ سُراقَةَ بن مالكٍ، وكانَتْ يدُهُ في يدِ الحارثِ بن هشامٍ، وجَعَلَ يُشَجِّعُهُم ويَعِدُهُم ويُمَنِّيهِم، فلمَّا رَأى الملائكةَ؛ هَرَبَ وألْقى نفسَهُ في البحرِ

(2)

.

= وجاء رميه صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب يوم بدر عند: الطبراني (4/ 174/ 4056) من حديث أبي أيوّب بسند ضعيف وإن حسّنه الهيثمي. و"الأوسط"(5498) من حديث ابن عبّاس بسند واه. و"الأوسط"(9117) من حديث أبي هريرة بسند ساقط. والطبري في "التفسير"(15830 - 15841) مرسلًا عن جماعة من التابعين.

والمتن المذكور حسن إن شاء الله باجتماع حديثي حكيم وابن عبّاس، ويزداد قوّة بالأوجه المختصرة والمجملة، وإلى تقويته مال ابن كثير والهيثمي.

(1)

(حسن لشواهده). رواه: الواقدي في "المغازي"(1/ 95)، والطبري في "التفسير"(15835)، وابن أبي حاتم (5/ 1672/ 8906)، والطبراني في "الكبير"(3/ 203/ 3127) و"الأوسط"(9093)، وابن مردويه (الأنفال 17 - الدرّ المنثور)؛ من طرق، عن موسى بن يعقوب الزمعي، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن حكيم

رفعه. قال الهيثمي (6/ 87): "إسناده حسن". قلت: موسى يخطئ، ويزيد بن عبد الله هو ابن وهب عمّ موسى فيه جهالة.

وله شاهد من حديث جابر بن عبد الله عند أبي الشيخ وابن مردويه فيما ذكره السيوطي في "الدرّ"، فأرجو أنّه حسن به فإن ضعفه يسير.

(2)

جاء هذا مسندًا ومرسلًا من أوجه يقوّي بعضها بعضًا. وانظر "الدر المنثور"(الأنفال 48).

ص: 417

وقد أخْبَرَ اللهُ عن ذلكَ بقولهِ تَعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48].

• وفي "الموطَّإ" حديث مرسلٌ: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "ما رُئِيَ الشَّيطانُ أحقرَ ولا أدحرَ ولا أصغرَ مِن يومِ عَرَفَةَ؛ إلَّا ما رَأى يومَ بدرٍ". قيلَ: وما رَأى يومَ بدرٍ؟ قالَ: "رَأى جِبْريلَ يَزَعُ الملائكةَ"

(1)

.

فإبليسُ عدوُّ اللهِ يَسْعى جهدَهُ في إطفاءِ نورِ اللهِ وتوحيدِهِ، ويُغْري بذلكَ أولياءَهُ مِن الكفَّارِ والمنافقينَ. فلمَّا عَجَزَ عن ذلكَ بنصرِ اللهِ نبيَّهُ وإظهارِ دينِهِ على الدِّينِ كلِّهِ؛ رَضِيَ بإلقاءِ الفتنِ بينَ المسلمينَ واجْتَزى منهُم بمحقَّراتِ الذُّنوبِ حيثُ عَجَزَ عن ردِّهِم عن دينِهِم، كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إن الشَّيطانَ قد أيِسَ أنْ يَعْبُدَهُ المصلُّونَ في جزيرةِ العربِ، ولكنْ في التَّحريشِ بينَهُم". خَرَّجَهُ مسلمٌ

(2)

مِن حديثِ جابِرٍ.

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائيُّ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ ماجَهْ من حديثِ عمرِو بن الأحْوَصِ؛ قالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تقولُ في حجَّةِ الوداعِ: "ألا إنَّ الشَّيطانَ قد أيِسَ أنْ يُعْبَدَ في بلدِكُم هذا [أبدًا]، ولكن سَتكونُ لهُ طاعةٌ في بعضِ ما تَحْتَقِرونَ مِن أعمالِكُم، فيَرْضى بها"

(3)

.

(1)

(ضعيف). رواه: مالك في "الموطّأ"(1/ 422)، وعبد الرزّاق (8125 و 8832)، والفاكهي في "تاريخ مكّة"(2762)، والطبري (16204)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(4069)؛ كلّهم عن مالك، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز

مرسلًا.

وهذا سند قويّ، ولكنّه مرسل. وقد رواه جماعة من الضعفاء عن إبراهيم فوصلوه عند: ابن قانع في "الصحابة"(2/ 107)، والبيهقي في "الشعب"(4070)، وابن عبد البرّ في "التمهيد" (1/ 115). قال ابن عبد البرّ في هذه الروايات الموصىولة:"ليس بشيء". قلت: الإرسال هو المعروف هنا، والوصل منكر.

(2)

(50 - المنافقين، 16 - تحريش الشيطان، 4/ 2166/ 2812).

(3)

(حسن صحيح). قطعة من حديث طويل في خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع رواه: ابن أبي شيبة (37151)، وأحمد (3/ 426 و 498)، والبخاري في "التاريخ"(6/ 305)، والفاكهي في "مكّة"(1896)، وابن ماجه (9 - النكاح، 3 - حقّ المرأة، 1/ 594/ 1851 و 2669 و 3055)، وأبو داورد (17 - البيوع، 5 - وضع الربا، 2/ 264/ 3334)، والترمذي (10 - الرضاع، 11 - حقّ المرأة، 3/ 467/ 1163 و 2159 و 3087)، والنسائي في "الكبرى"(4100 و 9169 و 11213)، وابن أبي حاتم (البقرة 278 - ابن كثير)، وابن=

ص: 418

وفي "صحيحِ الحاكم"

(1)

: عن ابن عَبَّاسٍ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ في حجَّةِ الوداعِ، فقالَ:"إنَّ الشَّيطان قد أيِسَ أنْ يُعْبَدَ بأرضِكُم، ولكنَّهُ يَرْضى أنْ يُطاعَ فيما سوى ذلكَ فيما تَحاقَرونَ مِن أعمالِكُم، فأحْذَروا. يا أيُّها النَّاسُ! إنِّي [قد] تَرَكْتُ فيكُم ما إنِ اعْتَصَمْتُمْ بهِ فلَن تَضِلُّوا أبدًا؛ كتابَ اللهِ وسنَّةَ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم "

(2)

.

ولم يَعْظُمْ على إبليسَ شيءٌ أكثرُ مِن بعثةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وانتشارِ دعوتِهِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها؛ فإنَّهُ أيِسَ أنْ تَعودَ أُمَّتُهُ كلُّهُم إلى الشِّركِ الأكبرِ.

قالَ سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: لمَّا رَأى إبْليسُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قائمًا بمكَّةَ يُصَلِّي رَنَّ. ولمَّا افْتَتَحَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مكَّةَ رَنَّ رنَّةً أُخرى؛ اجْتَمَعَتْ إليهِ ذرِّيَّتُهُ، فقالَ: ائيَسوا أنْ تَرُدُّوا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ إلى الشِّركِ بعدَ يومِكُم هذا، ولكنِ افْتِنوهُم في دينِهِم، وأفْشُوا فيهِمُ النَّوحَ والشَّعرَ

(3)

. خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا.

وخَرَّجَ الطَّبَرانِيُّ بإسنادِهِ عن: مُجاهِدٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ؛ قالَ: إنَّ إبليسَ رَنَّ لمَّا

= قانع في "المعجم"(2/ 204)، والطبراني (17/ 31/ 58 و 59)، وابن مردويه (البقرة 278 - ابن كثير)، والبيهقي (5/ 275، 8/ 27)، والمزّي في "التهذيب"(21/ 539)؛ من طريق شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه

رفعه مطوّلًا ومختصرًا.

قال الترمذي: "حسن صحيح"، وأقرّه المنذري. قلت: سليمان تابعيّ روى عنه ثقتان ووثّقه ابن حبّان والذهبي وقبله العسقلاني، فمثله قد يحسّن حديثه، وأمّا تصحيحه فبعيد. نعم؛ هو صحيح بشواهده الكثيرة الصحيحة في خطبة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذه القطعة على الخصوص صحيحة بما قبلها وبعدها. وقد حسّنه الألباني.

(1)

تقدّم (ص 159) الكلام في وصف "مستدرك الحاكم" بـ "الصحيح"!

(2)

(حسن صحيح). رواه: الحاكم (1/ 93)، والبيهقي في "الاعتقاد"(ص 228)؛ من طريق إسماعيل بن أبي أُويس، عن أبيه، عن ثور بن يزيد الديلي، عن عكرمة، عن ابن عبّاس

رفعه.

قال الحاكم: "احتجّ البخاري بأحاديث عكرمة، واحتجّ مسلم بأبي أُويس، وسائر رواته متّفق عليهم"، وأقرّه المنذري والذهبي. قلت: لكنّهم تكلّموا في حفظ أبي أُويس وأبنه بما لا ينحطّ بهما عن درجة الحسن، فالسند كذلك، ثمّ هو صحيح بشواهده المتقدّمة، والقطعة الأخيرة منه من مرويّات الصحيحين.

(3)

(ضعيف). رواه: الطبراني (12/ 9/ 12318)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 62)، والضياء في "المختارة"(10/ 105/ 101 و 102)؛ من طريق قويّة، عن يعقوب القمّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس

موقوفًا.

قال الهيثمي (3/ 16): "رجاله موثّقون". قلت: فيه علّتان: أولاهما: أنّهم تكلّموا في القمّي وابن أبي المغيرة. والثانية: أنّهما خولفا فيما ذكره المصنّف من رواية ابن أبي الدنيا موقوفًا على ابن جبير، فإن كانت روايته أقوى؛ فهي أولى من روايتهما، ويكون لها حكم الإرسال لا الرفع، والإرسال فرع الضعف.

ص: 419

أُنزِلَتْ فاتحةُ الكتابِ، وأُنزِلَتْ بالمدينةِ

(1)

والمعروفُ هذا عن مجاهدٍ مِن قولِهِ؛ قالَ: رَنَّ إبليسُ أربعَ رنَّاتٍ: حينَ لُعِنَ، وحينَ أُهْبِطَ مِن الجنَّةِ، وحينَ بُعِثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وحينَ أُنزِلَتْ فاتحةُ الكتابِ، وأُنْزِلَتْ بالمدينةِ

(2)

. خَرَّجَهُ وَكيعٌ وغيرُهُ.

وقالَ بعضُ التَّابعينَ: لمَّا نَزَلَتْ هذهِ الآيةُ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} الآية [آل عمران: 135] بَكى إبْليسُ. يُشيرُ إلى شدَّةِ حزنهِ بنزولِها؛ لِما فيها مِن الفرحِ لأهلِ الذُّنوبِ.

فهوَ لا يَزالُ في همٍّ وغمٍّ وحزنٍ منذُ بُعِثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، لِما رَأى منهُ ومِن أُمَّتِهِ ما يُهِمُّهُ ويَغيظُهُ.

قالَ ثابِتٌ: لمَّا بُعِثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ إبليسُ لشياطينِهِ: لقد حَدَثَ أمرٌ فانْظُروا ما هوَ. فانْطَلَقوا. ثمَّ جاؤوهُ فقالوا: ما ندري. قالَ إبْليسُ: أنا آتيكُم بالخبرِ. فذَهَبَ وجاءَ؛ قالَ: [قد] بُعِثَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم. فجَعَلَ يُرْسِلُ شياطينَهُ إلى أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيَجيئونَ بصحفِهِم ليسَ فيها شيءٌ. فقالَ: ما لكُم لا تُصيبونَ منهم شيئًا؟ قالوا: ما صَحِبْنا قومًا قطُّ مثلَ هؤلاءِ؛ نُصيبُ منهُم ثمَّ تقومونَ إلى الصَّلاةِ، فيُمْحى ذلكَ. قالَ: رويدًا! إنَّهُم عسى أنْ يَفْتَحَ اللهُ لهُمُ الدُّنيا، هنالكَ تُصيبونَ حاجتكُم منهُم

(3)

.

(1)

(ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة، وابن الأعرابي (الفاتحة - الدرّ)، والطبراني في "الأوسط"(4785)، والدارقطني في "العلل"(1542)، وابن الضريس (الفاتحة - الدرّ)؛ من طريق أبي الأحوص، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي هريرة

موقوفًا.

قال الطبراني: "لم يرو هذا الحديث عن منصور إلّا أبو الأحوص". وقال الدارقطني: "يرويه منصور بن المعتمر واختلف عنه: فرواه أبو الأحوص عن منصور عن مجاهد عن أبي هريرة، وغيره يرويه عن منصور عن مجاهد من قوله. وهو الصواب". وعليه؛ فالموقوف على أبي هريرة شاذّ عنده. وقال ابن رجب: "والمعروف هذا عن مجاهد من قوله". وعليه؛ فالموقوف على أبي هريرة منكر عنده. وانظر ما بعده.

(2)

(موقوف صحيح). رواه: وكيع في "تفسيره"، وابن الأنباري في "المصاحف"(الفاتحة - الدرّ)، وأبو الشيخ في "العظمة"(1124)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 299)؛ من طريق جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن مجاهد

موقوفًا. وسنده قويّ.

(3)

لم أقف عليه. على أنّه إن صحّ سنده إلى ثابت فما له حكم الإرسال.

ص: 420

وعنِ الحَسَنِ؛ قالَ: قالَ إبْليسُ: سَوَّلْتُ لأُمَّةِ مُحَمَّدٍ المعاصيَ فقَطَعوا ظهري بالاستغفارِ، فسَوَّلْتُ لهُم ذنوبًا لا يَسْتَغْفِرونَ منها؛ يَعْني: الأهواءَ.

ولا يَزالُ إبْليسُ يَرى في مواسمِ المغفرةِ والعتقِ مِن النَّارِ ما يَسوؤُهُ؛ فيومَ عرفةَ لا يُرى أصغرَ ولا أحقرَ ولا أدحرَ فيهِ منهُ لِما يَرى مِن تنزلِ الرَّحمةِ وتجاوزِ اللهِ عن الذُّنوبِ العظامِ؛ إلَّا ما رُئِيَ يومَ بدرٍ.

ورُوِيَ أنَّهُ لمَّا رَأى نزولَ المغفرةِ للأُمَّةِ في حجَّةِ الوداعِ يومَ النَّحرِ بالمزدلفةِ؛ أهوى يَحْثي على رأْسِهِ التُّرابَ ويَدْعو بالويلِ والثُّبور. فتبَسَّمَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ممَّا رَأى مِن جزعِ الخبيثِ

(1)

.

• وفي شهرِ رمضانَ يَلْطُفُ اللهُ بأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فيَغِلُّ فيهِ الشَّياطينَ ومردةَ الجنِّ حتَّى لا يَقْدِروا على ما كانوا يَقْدِرونَ عليهِ في غيرِهِ مِن تسويلِ الذُّنوبِ، ولهذا تَقِلُّ المعاصي في شهرِ رمضانَ في الأُمَّةِ لذلكَ.

ففي الصَّحيحينِ

(2)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إذا دَخَلَ رمضانُ؛ فُتِّحَتْ أبوابُ السَّماءِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ جهنَّمَ، وسُلْسِلَتِ الشَّياطينُ".

ولمسلمٍ: "فُتِّحَتْ أبوابُ الرَّحمةِ".

ولهُ أيضًا: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إذا جاءَ رمضانُ؛ فتِّحَتْ أبوابُ الجنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبوابُ النَّارِ، وصُفِّدَتِ الشَّياطينُ". وخَرَّجَ منهُ البُخارِيُّ ذكرَ فتحِ أبوابِ الجنَّةِ.

وللتِّرْمِذِيِّ وابنِ ماجَهْ: عنهُ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إذا كانَ أوَّلُ ليلةٍ مِن شهرِ رمضانَ؛ صُفِّدَتِ الشَّياطينُ ومردةُ الجنِّ، وغلِّقَتْ أبوابُ النَّارِ فلم يُفْتَحْ منها بابٌ، وفُتِحَتْ أبوابُ الجنَّةِ فلم يُغْلَقْ منها بابٌ، ويُنادي منادٍ: يا باغيَ الخيرِ! أقْبِلْ، ويا باغيَ الشَّرِّ! أقْصِرْ. وللهِ عُتقاءُ مِن النَّارِ، وذلكَ كل ليلةٍ"

(3)

.

(1)

(موضوع). قطعة من حديث تقدم تفصيل القول فيه (ص 162 - 164).

(2)

البخاري (30 - الصوم، 5 - هل يقال رمضان، 4/ 112/ 1898 و 1899)، ومسلم (13 - الصيام، 1 - فضل شهر رمضان، 2/ 758/ 1079). والألفاظ التالية للحديث نفسه في الموضع نفسه.

(3)

(صحيح). رواه: ابن ماجه (7 - الصيام، 2 - فضل رمضان، 1/ 526/ 1642)، والترمذي (6 - الصوم، 1 - فضل رمضان، 3/ 66/ 682)، وابن خزيمة (1883)، وابن حبّان (3435)، والآجرّي في=

ص: 421

وفي روايةٍ للنَّسائِيِّ: "وتُغَلُّ فيهِ مردةُ الشَّياطينِ"

(1)

.

وللإمامِ أحْمَدَ: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"أُعْطِيَتْ أُمَّتي في رمضانَ خمسَ خصالٍ لم تُعْطَهُ أُمَّةٌ قبلَهُم: خلوفُ فمِ الصَّائمِ أطيبُ عندَ اللهِ مِن ريحِ المسكِ، وتَسْتَغْفِرُ لهُمُ الملائكةُ حتَّى يُفْطِروا، ويُزَيِّنُ اللهُ كلَّ يومٍ جنَّتَهُ ثمَّ يَقولُ: يوشِكُ عبادي الصَّالحونَ أنْ يُلْقوا عنهُمُ المؤنةَ والأذى ويَصيروا إليكِ، وتُصَفَّدُ فيهِ مردةُ الشَّياطينِ فلا يَخْلُصونَ فيهِ إلى ما كانوا يَخْلُصونَ إليهِ في غيرِهِ، ويُغْفَرُ لهُم في آخرِ ليلةٍ". قيلَ: يا رسولَ اللهِ! أهيَ ليلةُ القدرِ؟ قالَ: "لا، ولكنَّ العاملَ إنَّما يُوَفَّى أجرَهُ إذا قَضى عملَهُ"

(2)

.

وفي ليلةِ القدرِ تَنْتَشِرُ الملائكةُ في الأرضِ فيَبْطُلُ سلطانُ الشَّياطينِ:

كما قالَ تَعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4، 5].

= "الشريعة"(942)، والحاكم (1/ 421)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 306)، والبيهقي في "السنن"(4/ 303) و"الشعب"(3598 و 3599)، والبغوي في "السنّة"(1705)؛ من طريق أبي بكر بن عيّاش، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة

رفعه.

قال الترمذي والبغوي: "غريب". وقال الحاكم: "على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي. وقال الألباني:"إسناده صحيح". قلت: حديث أبي بكر بن عيّاش لا يرقى إلى الصحّة، لكن قال أبو نعيم:"غريب من حديث الأعمش، لم يروه عنه إلّا قطبة بن عبد العزيز وأبو بكر"، وقطبة صدوق، فإن صحّت الطريق إليه؛ فمتابعته وحده كافية لتصحيح الحديث. وإلّا؛ فالحديث حسن لذاته صحيح لشواهده الآتية.

(1)

(صحيح). قطعة من حديث سيأتي بطوله وتفصيل القول فيه (ص 441).

(2)

(ضعيف جدًّا). رواه: أحمد (2/ 292)، والحارث بن أبي أُسامة (319 - زوائد الهيثمي)، وابن نصر في "قيام رمضان"(ص 258)، والبزّار (963 - كشف)، والبيهقي في "الشعب"(3602)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(16/ 153)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(2/ 454)، والأصبهاني في "الترغيب"(1730)؛ من طريق هشام بن زياد أبي المقدام، عن محمّد بن محمّد بن الأسود، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

رفعه. قال ابن عبد البرّ: "أبو المقدام فيه ضعف، ولكنّه محتمل فيما يرويه من الفضائل". وقال الهيثمي (3/ 143): "فيه هشام بن زياد أبو المقدام وهو ضعيف". قلت: ما هو ضعيف ولا محتمل في الفضائل بل متروك ساقط الحديث.

وعلى أنّ مثل هذا لا تصلح فيه الشواهد فإنّ له شاهدًا عند: البيهقي في "الشعب"(3603)، والأصبهاني في "الترغيب" (1793)؛ من حديث جابر. قال المنذري:"إسناده مقارب أصلح ممّا قبله". قلت: يعني أنّه ليس فيه متروك، وإلّا فالسند واه مسلسل بالضعفاء.

ص: 422

وفي "المسند": عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قالَ:"الملائكةُ تلكَ الليلةَ في الأرضِ أكثرُ مِن عددِ الحصى"

(1)

.

وفي "صحيح ابن حِبَّانَ": عن جابِرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ في ليلةِ القدرِ:"لا يَخْرُجُ شيطانُها حتَّى يَخْرُجَ فجرُها"

(2)

.

وفي "المسند" مِن حديثِ: عُبادَةَ بن الصَّامِتِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ في ليلةِ القدرِ:"لا يَحِلُّ لكوكبٍ أنْ يُرْمى بهِ حتَّى يُصْبِحَ، وإنَّ أمارتَها أن الشَّمسَ تَخْرُجُ صبيحتَها مستويةً ليسَ لها شعاعٌ مثلَ القمرِ ليلةَ البدرِ، لا يَحِلُّ للشَّيطانِ أنْ يَخْرُجَ معَها يومئذٍ"

(3)

.

(1)

(لا بأس به). رواه: الطيالسي (2545)، وأحمد (2/ 519)، ومحمّد بن نصر (سورة القدر - الدرّ)، والبزّار (1030 - كشف)، وابن خزيمة (2194)، والطبراني في "الأوسط"(2543 و 4934)، وابن مردويه؛ من طريق عمران بن داور، عن قتادة، عن أبي ميمونة، عن أبي هريرة

رفعه.

قال ابن كثير: "إسناده لا بأس به". وقال الهيثمي (3/ 179): "رجاله ثقات". وقال الألباني: "إسناده حسن". قلت: تكلّموا في أبي ميمونة وحديث عمران القطان مقارب. والله أعلم.

(2)

(صحيح بشواهده). قطعة من حديث رواه: ابن أبي عاصم (القدر - ابن كثير)، والطبري في "تهذيب الآثار"(القدر - الدرّ)، وابن حبّان (3688)، وابن مردويه (القدر - الدرّ)؛ من طريق فضيل بن سليمان، ثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر

رفعه. وهذا سند ضعيف فيه علّتان: أولاهما: أنّ فضيلًا ليّن. والأُخرى: عنعنة أبي الزبير على تدليسه.

لكنّ له: شاهدًا يليه. وآخر موقوفًا على ابن عبّاس يأتي قريبًا. وثالثا ضعيفًا من حديث ابن عبّاس عند: البزّار (1034 - كشف) وابن خزيمة (2192). ورابعًا من مرسل الحسن عند ابن أبي شيبة (9543)، وخامسًا موقوفًا على ابن مسعود عند ابن أبي شيبة (9529). فهو صحيح بشواهده، وقد قوّاه الألباني.

(3)

(حسن لشواهده). أصل حديث عبادة من مخرّجات الصحيح، لكن الكلام هنا في هذا اللفظ الذي رواه: أحمد (5/ 324)، وابن نصر في "قيام رمضان"(ص 258)، والطبراني في "الشاميّين"(1119)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 374)، والضياء في "المختارة"(8/ 279/ 342)؛ من طريق بقيّة، ثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عبادة

رفعه. قال ابن عبد البرّ: "حسن غريب". وقال ابن كثير: "إسناده حسن، وفي المتن غرابة وفي بعض ألفاظه نكارة". قلت: لم يذكر ابن رجب يرحمه الله هذه الألفاظ المنكرة هنا. وقال الهيثمي (3/ 178): "رجاله ثقات". قلت: وهذا أولى؛ لأنّه لم يصحّ لخالد سماع من عبادة.

وله طريق أُخرى عند البيهقي في "الشعب"(3694) مختصرًا بسند فيه متروك.

لكن يشهد للقطعة الأولى رواية ابن المنذر عن الضحّاك موقوفًا كما في "الدرّ". وللثانية حديث أُبيّ عند مسلم. وللثالثة حديث جابر المتقدّم وشواهده. فهو حسن بهذه الشواهد، وقد قوّاه من ذكرت.

ص: 423

ورُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ؛ قالَ: إنَّ الشَّيطانَ يَطْلُعُ معَ الشَّمس كلَّ يومٍ إلَّا ليلةَ القدرِ، وذلكَ أنَّها تَطْلُعُ لا شعاعَ لها.

وقالَ مجاهِدٌ في قولِهِ {سَلَامٌ هِيَ} قالَ: سلامٌ؛ أي: لا يَحْدُثُ فيها داءٌ ولا يَسْتَطيعُ شيطانٌ

(1)

العملَ فيها.

وعنهُ قالَ: ليلةُ القدرِ ليلةٌ سالمةٌ لا يَحْدُثُ فيها داءٌ ولا يُرْسَلُ فيها شيطانٌ.

وعنهُ قالَ: هيَ سالمة لا يَسْتَطيعُ الشَّيطانُ أنْ يَعْمَلَ فيها سوءًا ولا يُحْدِثَ فيها أذًى.

وعنِ الضَّحَّاكِ، عن ابن عَبَّاسٍ؛ قالَ: في تلكَ الليلةِ تُصَفَّدُ مردةُ الجنِّ، وتُغَلُّ عفاريتُ الجنِّ، وتُفْتَحُ فيها أبوابُ السَّماءِ كلِّها، ويَقْبَلُ اللهُ فيها التَّوبةَ لكلِّ تائبٍ، فلذلكَ قالَ:{سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} .

ويُرْوى عن أُبيِّ بن كَعْبٍ رضي الله عنه؛ قالَ: لا يَسْتَطيعُ الشَّيطانُ أنْ يُصيبَ فيها أحدًا بخبلٍ أو داءٍ أو ضربٍ مِن ضروبِ الفسادِ، ولا يَنْفُذُ فيها سحرُ [ساحرٍ].

ويُرْوى بإسنادٍ ضعيفٍ عن أنسٍ مرفوعًا: أنَّهُ "لا تَسْري نجومُها، ولا تَنْبَحُ كلابُها"

(2)

.

وكل هذا يَدُلُّ على كفِّ الشَّياطينِ فيها عن انتشارِهِم في الأرضِ ومنعِهِم مِنِ استراقِ السَّمعِ فيها مِن السَّماءِ.

• ابنَ آدَمَ! لو عَرَفْتَ قدرَ نفسِكَ؛ ما أهَنْتَها بالمعاصي، أنتَ المختارُ مِن المخلوقاتِ، ولكَ أُعِدَّتِ الجنَّةُ إنِ اتَّقَيْتَ فهيَ أقطاعُ المتَّقين، والدُّنيا أقطاعُ إبْليسَ فهوَ فيها مِن المنظَرين. فكيفَ رَضِيتَ لنفسِكَ بالإعراضِ عن أقطاعِكَ ومزاحمةِ إبْليسَ على أقطاعِه، وأنْ تكونَ معَهُ غدًا في النَّارِ مِن جملةِ أتباعِه؟! إنَّما طَرَدْناهُ عن السَّماءِ لأجلِكَ حيثُ تَكَبَّرَ عن السُّجودِ لأبيكَ، وطَلَبْنا قربَكَ؛ لِتَكونَ مِن خاصَّتِنا وحزبِنا، فعادَيْتَنا ووالَيْتَ عدوَّنا، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ

(1)

في م و ن و ط: "سلام أن يحدث فيها داء أو يستطيع شيطان"، وأثبتّ ما في خ.

(2)

(ضعيف). لم أقف عليه بعد طول فتش فحسبي فيه قول المصنّف يرحمه الله، بل الغالب - على ما خبرت من تعقيبات المصنّف على نصوص هذا الكتاب - أنه دون ذلك بكثير.

ص: 424

بَدَلًا} [الكهف: 50].

رَعى اللهُ مَن نَهْوى وَإنْ كانَ ما رَعى

حَفِظْنا لَهُ العَهْدَ القَديمَ فَضَيَّعا

وَصاحَبْتَ قَوْمًا كنْتُ أنْهاكَ عَنْهُمُ

وَحَقِّكَ ما أبْقَيْتَ لِلصُّلْحِ مَوْضِعا

أبْشِروا با معاشرَ المسلمينَ! فهذهِ أبوابُ الجنَّةِ الثَّمانيةُ في هذا الشَّهرِ لأجلِكُم قد فُتِحَتْ، ونسماتُها على قلوبِ المؤمنينَ قد نَفَحَتْ، وأبوابُ الجحيمِ كلُّها لأجلِكُم مغلقة، وأقدامُ إبْليسَ وذرِّيَّتهِ مِن أجلِكُم موثقة. ففي هذا الشَّهرِ يُؤْخَذُ مِن إبْليسَ بالثَّار، وتُسْتَخْلَصُ العصاةُ مِن أسرِهِ فما يَبْقى لهُم عندَهُ آثار. كانوا أفراخَهُ قد غَذَاهُم بالشَّهواتِ في أوكارِهِ فهَجَروا اليومَ تلكَ الأوكار، نَقَضوا معاقلَ حصونِهِ بمعاولِ التَّوبةِ والاستغفار، خَرَجوا مِن سجنِهِ إلى حصنِ التَّقوى والإيمانِ فأمِنُوا مِن عذابِ النَّار، قَصَموا ظهرَهُ بكلمةِ التَّوحيدِ فهوَ يَشْكُو ألمَ الانكسار. في كلِّ موسمٍ مِن مواسمِ الفضلِ يَحْزَنُ ففي هذا الشَّهرِ يَدْعو بالويلِ والثُّبورِ لِما يَرى مِن تنزُّلِ الرَّحمةِ ومغفرةِ الأوزار، غَلَبَ حزبُ الرَّحمنِ وهَرَبَ حزبُ الشَّيطانِ فما بَقِيَ لهُ سلطانٌ إلَّا على الكفَّار، عُزِلَ سلطانُ الهوى وصارَتِ الدَّولةُ لسلطانِ التَّقوى {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2].

يا ندامايَ صَحا القَلْبُ صَحا

فَاطْرُدوا عَنَي الصِّبا وَالمَرَحا

هَزَمَ العَقلُ جُنودًا لِلْهَوى

فاسِدي لا تَعْجَبوا إنْ صَلَحا

زَجَرَ الحَقُّ فُؤادي فَارْعَوى

وَأفاقَ القَلْبُ مِنِّي وَصَحا

بادِروا التَّوْبَةَ مِنْ قَبْلِ الرَّدى

فَمُناديهِ يُنادينا الوَحا

هذا - عبادَ اللهِ - شهرُ رمضانَ قدِ انْتَصَف؛ فمَن منكُم حاسَبَ فيهِ نفسَهُ للهِ وأنْصَف؟ مَن منكُم قامَ في هذا الشَّهرِ بحقِّهِ الذي عَرَف؟ مَن منكُم عَزَمَ قبلَ غَلْقِ أبوابِ الجنَّةِ أنْ يَبْنِيَ لهُ فيها غرفًا مِن فوقِها غرف؟ ألا إنَّ شهرَكُم قد أخَذَ في النَّقصِ فزيدوا أنتُم في العملِ فكأنَّكُم بهِ وقدِ انْصَرَف، فكلُّ شهرٍ فعَسى أنْ يَكونَ منهُ خلفٌ وَأَمَّا شهرُ رمضانَ فمِن أينَ لكُم منهُ خلف؟

تنَصَّفَ الشَّهْرُ وا لَهْفاهُ وَانْهَدَما

وَاخْتَصَّ بِالفَوْزِ بِالجَنَّاتِ مَنْ خَدَما

(1)

(1)

المراد بالخدمة هنا العبادة! وفي هذا الاستخدام نظر لغة وشرعًا: فأمّا من حيث اللغة؛ ففي=

ص: 425

وَأصْبَحَ الغافِلُ المِسْكينُ مُنْكَسِرًا

مِثْلي فَيا وَيْحَهُ يا عُظْمَ ما حُرِما

مَن فاتَهُ الزَّرْعُ في وَقْتِ البِذارِ فَما

تَراهُ يَحْصُدُ إلَّا الهَمَّ وَالنَّدَما

طُوبَى لِمَن كانَتِ التَّقْوى بِضاعَتَهُ

في شَهْرِهِ وَبِحَبْلِ اللهِ مُعْتَصِما

‌المجلس الرابع: في ذكر العشر الأواخر من رمضان

في الصَّحيحينِ

(1)

: عن عائِشَةَ رضي الله عنها؛ قالَتْ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا دَخَلَ العشرُ؛ شَدَّ مئزرَهُ وأحْيا ليلَهُ وأيْقَظَ أهلَهُ. هذا لفظُ البُخارِيِّ. ولفظُ مسلمٍ: أحيا الليلَ وأيْقَظَ أهلَهُ وجَدَّ وشَدَّ المئزرَ.

وفي روايةٍ لمسلمٍ

(2)

عنها؛ قالَتْ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ في العشرِ الأواخرِ ما لا يَجْتَهِدُ في غيرِهِ.

كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَخُصُّ العشرَ الأواخرَ مِن رمضانَ بأعمالٍ لا يَعْمَلُها في بقيَّةِ الشَّهرِ.

• فمنها: إحياءُ الليلِ

فيُحْتَمَلُ أن المرادَ إحياءُ الليلِ كلِّهِ.

وقد رُوِيَ من حديثِ عائِشَةَ رضي الله عنها مِن وجهٍ فيهِ ضعفٌ بلفظِ: "وأحيا الليلَ كلَّهُ"

(3)

.

= الخدمة أداء مصلحة للمخدوم، سواء أكان أعلى رتبة من الذي يخدمه أو أدنى منه، والله تعالى غنيّ عن العباد وأعمالهم. وأمّا من حيث الشرع؛ فلا أصل لـ "الخدمة" في كتاب ولا سنّة ولا قول السلف الصالح، فكان الأولى نبذها والالتزام بالمصطلحات الشرعيّة، ولا سيّما أنّها قاصرة عن إفادة معانيها. وقد تسرّبت هذه اللفظة إلى الصوفيّة من طريق أهل الكتاب أو الثقافات الوثنيّة الأُخرى، فالنصارى يكثرون ذكر "التفرّغ لخدمة الربّ"، وكان عند المجوس والهندوس سدنة (أي: خدّام) للمعابد والنار

والخدمة عند الصوفيّة أعظم من مجرّد العبوديّة! فعل الذين قال الله فيهم: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} !

(1)

البخاري (32 - ليلة القدر، 5 - العمل في العشر الأواخر، 4/ 269/ 2024)، ومسلم (14 - الاعتكاف، 3 - الاجتهاد في العشر الأواخر، 2/ 832/ 1174).

(2)

(الموضع السابق، 1175).

(3)

(منكر). لم أقف عليه بعد طول بحث، ولا ذكره العسقلاني عند شرحه للحديث مع استقصائه في تفاصيل الروايات، فحسبي فيه تضعيف المصنّف، ثمّ هو مخالف لرواية مسلم الآتية، وهذا حدّ النكارة.

ص: 426

وفي "المسند" من وجهٍ آخرَ عنها؛ قالَتْ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَخْلِطُ العشرينَ بصلاةٍ ونومٍ، فإذا كانَ العشرُ شَمَّرَ وشَدَّ المئزرَ

(1)

.

وخَرَّجَ الحافظُ أبو نُعَيْمٍ بإسنادٍ فيهِ ضعفٌ عن أنَسٍ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا شَهِدَ رمضانَ؛ قامَ ونامَ، فإذا كانَ أربعًا وعشرينَ؛ لم يَذُقْ غمضًا

(2)

.

ويُحْتَمَلُ أنْ يُريدَ بإحياءِ الليلِ إحياءَ غالبِهِ.

وقد رُوِيَ عن بعضِ المتقدِّمينَ مِن بني هاشمٍ (ظَنَّهُ الرَّاوي أبا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بنَ عَلِيٍّ) أنَّهُ فَسَّرَ ذلكَ بإحياءِ نصفِ الليلِ، وقالَ: مَن أحيا نصفَ الليلِ؛ فقد أحيا الليلَ.

وقد سَبَقَ مثلُ هذا في قولِ عائِشَةَ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَصومُ شعبانَ كلَّهُ، كانَ يَصومُهُ إلَّا قليلًا

(3)

.

ويُؤَيِّدُهُ ما في "صحيح مسلم"

(4)

: عن عائِشَةَ؛ قالَتْ: ما أعْلَمُهُ صلى الله عليه وسلم قامَ ليلةً حتَّى الصَّباحِ.

وذَكَرَ بعضُ الشَّافعيَّةِ في إحياءِ ليلتي العيدينِ أنَّهُ تَحْصُلُ فضيلةُ الإحياءِ بمعظمِ الليلِ. قالَ: وقيلَ: تَحْصُلُ بساعةٍ. وقد نَقَلَ الشَّافِعِيُّ في "الأُمِّ" عن جماعةٍ مِن خيارِ أهلِ المدينةِ ما يُؤَيِّدُهُ.

ونَقَلَ بعضُ أصحابِهِم عن ابن عَبَّاسٍ أن إحياءَها يَحْصُلُ بأنْ يُصَلِّيَ العشاءَ في

(1)

(موضوع). رواه: أحمد (6/ 68/ 146)، وابن النجّار (24481 - كنز)؛ من طريق جابر، عن يزيد بن مرّة، عن لميس، عن عائشة

رفعته.

وهذا ساقط: جابر متروك متّهم، وقد أتانا بيزيد المجهول الذي لا يعرف إلّا بهذا ولميس المجهولة التي لا تعرف إلّا به أيضًا، ولذلك قال البخاري:"لا يصحّ"، وقال العسقلاني:"فيه نظر".

(2)

(ضعيف جدًّا). رواه: العقيلي في "الضعفاء"(3/ 369)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 306)؛ من طريق سعيد بن عثمان (وفي الحلية: سعيد بن عمرو الأمويّ)، ثنا عنبسة بن جبير، ثنا الربيع بن صبيح، عن الحسن، عن أنس

رفعه.

وهذا سند مظلم مسلسل بالعلل: سعيد بن عثمان وسعيد بن عمرو جماعة أكثرهم مجاهيل لم يتبيّن لي المراد منهم هنا، وعنبسة لا يعرف إلّا بهذا الخبر، والربيع ضعيف، والحسن عنعن علي تدليسه. وقد استنكر الحديث العقيلي والذهبي والعسقلاني، وقال ابن رجب:"إسناده ضعيف".

(3)

متّفق عليه. تقدّم تفصيل القول فيه (ص 305).

(4)

(6 - المسافرين، 8 - جامع صلاة الليل، 1/ 512/ 746).

ص: 427

جماعةٍ ويَعْزِمَ على أنْ يُصَلِّيَ الصُّبحَ في جماعةٍ.

وقالَ مالِكٌ في "الموطَّأ": بَلَغَني أن ابنَ المُسَيَّبِ قالَ: مَن شَهِدَ العشاءَ ليلةَ القدرِ (يَعْني: في جماعةٍ)؛ فقد أخَذَ بحظِّهِ منها.

وكذا قالَ الشَّافِعِي في القديمِ: مَن شَهِدَ العشاءَ والصُّبحَ ليلةَ القدرِ؛ فقد أخذَ بحظِّهِ منها.

وقد رُوِيَ هذا مِن حديثِ أبي هُرَيرَةَ مرفوعًا: "مَن صَلَّى العشاءَ الآخرةَ في جماعةٍ في رمضانَ؛ فقد أدْرَكَ ليلةَ القدرِ"

(1)

. خَرَّجَهُ أبو الشَّيخِ الأصْبَهانِيُّ، ومِن طريقِهِ أبو موسى المَدِينِيُّ وذَكَرَ أنَّهُ رُوِيَ مِن وجهِ آخرَ عن أبي هُرَيْرَةَ نحوُهُ.

ويُرْوى مِن حديثِ عَلِيِّ بن أبي طالِبٍ مرفوعًا

(2)

، لكنَّ إسنادَهُ ضعيفٌ جدًّا.

ويُرْوى مِن حديثِ أبي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بن عَلِيٍّ مرسلًا؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَن أتى عليه رمضانُ صحيحًا مسلمًا، فصامَ نهارَهُ، وصَلَى وردًا مِن ليلِهِ، وغَضَّ بصرَهُ، وحَفِظَ فرجَهُ ولسانَهُ ويدَهُ، وحافَظَ على صلاتِهِ في الجماعةِ، وبَكَّرَ إلى جمعِهِ

(3)

؛ فقد صامَ الشَّهرَ واسْتكْمَلَ الأجرَ وأدْرَكَ ليلةَ القدرِ وفازَ بجائزةِ الرَّبِّ عز وجل". قالَ أبو جَعْفَرٍ: جائزةٌ لا تُشْبِهُ جوائزَ الأُمراءِ

(4)

. خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا.

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن خزيمة (2195)، وأبو الشيخ في "الثواب"، والبيهقي في "شعب الإيمان"(3706) و"فضائل الأوقات"(138)، والذهبي في "ميزان الاعتدال" (3/ 85)؛ من طريق عبد الله بن عبد المجيد الحنفي (وقال الذهبي: أبو عليّ الحنفي)، ثنا فرقد بن الحجّاج، سمعت عقبة بن أبي الحسناء، سمعت أبا هريرة رضي الله عنه

رفعه.

وهذا سند ساقط: عبد الله بن عبد المجيد: إن كان هو عبد الله بن محرّر كما استظهر الدارقطني فمتروك، وإن كان غيره فمجهول لا يعرف. وفرقد: يخطئ. وعقبة بن أبي الحسناء مجهول.

(2)

(ضعيف جدًّا). رواه البيهقي في "الشعب"(3705) من طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن الحسن بن محمّد بن علي، عن علي

موقوفًا.

وهذا سند ضعيف: عبد الله بن عبد الرحمن بن موهب ضعيف، والحسن بن محمّد لم يدرك عليًّا. ثمّ هو موقوف، وليس له حكم الرفع. وأمّا الرواية المرفوعة التي أشار إليها ابن رجب فما وقفت عليها، لكن الظاهر أنّها دون هذه، فابن رجب لا يقول "إسناده ضعيف جدًّا" إلَّا في الأباطيل والموضوعات.

(3)

في خ: "إلى الجمعة"، والأولى ما أثبتّه من م و ن و ط.

(4)

(ضعيف جدًّا). لم أقف عليه، لكنّه معضل واهٍ، ورواية أبي جعفر عن التابعين لا عن الصحابة،=

ص: 428

ولو نَذَرَ قيامَ ليلةِ القدرِ؛ لَزِمَهُ أنْ يَقومَ مِن ليالي شهرِ رمضانَ ما يُتَيَقَّنُ بهِ قيامُها: فمَن قالَ مِن العلماءِ إنَّها في جميعِ الشَّهرِ يَقولُ: يَلْزَمُهُ قيامُ جميعِ ليالي الشَّهرِ، ومَن قالَ هيَ في النِّصفِ الأخيرِ مِن الشَّهرِ قالَ: يَلْزَمُهُ قيامُ ليالي النِّصفِ الأخيرِ منهُ، ومَن قالَ: هيَ في العشرِ الأواخرِ مِن الشَّهرِ قالَ: يَلْزَمُهُ قيامُ ليالي العشرِ كلِّها، وهوَ قولُ أصحابِنا.

وإنْ كانَ نذرُهُ كذلكَ وقد مَضى بعضُ ليالي العشرِ: فإنْ قُلْنا إنَّها لا تَنْتَقِلُ في العشرِ؛ أجْزَأهُ مِن نذرِهِ أنْ يَقومَ ما بَقِيَ مِن ليالي العشرِ ويَقومَ مِن عامٍ قابلٍ مِن أوَّلِ العشرِ إلى وقتِ نذرِهِ. وإنْ قُلْنا: إنَّها تَنْتَقِلُ في العشرِ؛ لم يَخْرُجْ مِن نذرِهِ بدونِ قيامِ ليالي العشرِ كلِّها بعدَ عامِ نذرِهِ.

ولو نَذَرَ قيامَ ليلةٍ غيرِ معيَّنةٍ؛ لَزِمَهُ قيامُ ليلةٍ تامَّةٍ، فإنْ قامَ نصفَ ليلةٍ ثمَّ نامَ؛ أجْزَأهُ أنْ يَقومَ مِن ليلةٍ أُخرى نصفَها. قالَهُ الأوْزاعِيُّ، نَقَلَهُ عنهُ الوليدُ بنُ مُسْلِمٍ في كتابِ "النُّذور"، وهوَ شبيهٌ بقولِ مَن قالَ مِن أصحابِنا وغيرِهِم: إنَّ الكفَّارةَ يُجْزئُ فيها أنْ يُعْتِقَ نصفي رقبتينِ.

• ومنها: أن النَّبيَّ كانَ يوقِظُ أهلَهُ للصَّلاةِ في ليالي العشرِ دونَ غيرِهِ مِن الليالي.

وفي حديثِ أبي ذَرٍّ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا قامَ بهِم ليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ وخمسٍ وعشرينَ وسبعٍ وعشرينَ؛ ذَكَرَ أنَّهُ دَعا أهلَهُ ونساءَهُ ليلةَ سبعٍ وعشرينَ خاصَّةً

(1)

. وهذا يَدُلُّ على أنَّهُ يَتَأكَّدُ إيقاظُهُم في آكدِ الأوتارِ التي تُرْجى فيها ليلةُ القدرِ.

وخَرَّجَ الطَّبَرانِيُّ مِن حديثِ عَلِيٍّ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يوقِظُ أهلَهُ في العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ وكلَّ صغيرٍ وكبيرٍ يُطيقُ الصَّلاةَ

(2)

.

= والإعضال من أعظم آفات السند، وما أكثر ما ألّف الكذّابون على لسان أبي جعفر يرحمه الله.

(1)

(صحيح). قطعة من حديث تقدّم تفصيل القول فيه (ص 396 - 397).

(2)

(موضوع بهذا التمام). رواه الطبراني في "الأوسط"(7421) من طريق إسماعيل بن عمرو البجلي، ثنا عبد الغفار بن القاسم، عن أبي إسحاق، عن هانئ بن هانئ وهبيرة، عن عليّ

رفعه.

وهذا سند ساقط مسلسل بالعلل: وقد أشار الهيثمي (3/ 177) إلى أولاها بقوله: "في إسناد الطبراني عبد الغفّار بن القاسم أبو مريم وهو ضعيف". قلت: قصّر يرحمه الله؛ فإنّه كذّاب يضع. والثانية: إسماعيل هذا متّهم منكر الحديث أيضًا. والثالثة: أنّ: الطيالسي (118)، وعبد الرزّاق (7703)، وابن أبي شيبة (9544)، وأحمد (1/ 98 و 128 و 132 و 133 و 137)، وعبد بن حميد (93 - منتخب)، والترمذي (795)، والبزّار =

ص: 429

قالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: أحبُّ إليَّ إذا دَخَلَ العشرُ الأواخرُ أنْ يَتَهَجَّدَ بالليلِ ويَجْتَهِدَ فيهِ ويُنْهِضَ أهلَهُ وولدَهُ إلى الصَّلاةِ إنْ أطاقوا ذلكَ.

وقد صَحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ كانَ يَطْرُقُ فاطِمَةَ

(1)

وعَلِيًّا ليلًا فيَقولُ لهُما: "ألا تَقومانِ فتُصَلِّيانِ"

(2)

.

وكانَ يوقِظُ عائِشَةَ بالليلِ إذا قضى تهجُّدَهُ وأرادَ أنْ يوتِرَ

(3)

.

ووَرَدَ التَّرغيبُ في إيقاظِ أحدِ الزَّوجينِ صاحبَهُ للصَّلاةِ ونضحِ الماءِ في وجهِهِ.

وفي "الموطَّأ": أن عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ كانَ يُصَلِّي مِن الليلِ ما شاءَ اللهُ أنْ يُصَلِّيَ، حتَّى إذا كانَ نصفُ الليلِ؛ أيْقَظَ أهلَهُ للصَّلاةِ، يَقولُ لهُمُ: الصَّلاةَ الصَّلاةَ، ويَتْلو هذهِ الآيةَ:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].

كانَتِ امرأةُ حَبِيبٍ أبي مُحَمَّدٍ تَقولُ لهُ بالليلِ: قد ذَهَبَ الليلُ، وبينَ أيدينا طريقٌ بعيدٌ، وزادُنا قليلٌ، وقوافلُ الصَّالحينَ قد سارَتْ قدَّامَنا، ونحنُ قد بَقِينا!

يا نائِمً [ـــا بِـ]ــــاللَيْلِ كَمْ تَرْقُدُ

قُمْ يا حَبِيبي قَدْ دَنا المَوْعِدُ

وَخُذْ مِنَ اللَيْلِ وَأوْقاتِهِ

وِرْدًا إذا ما هَجَعَ الرُّقَّدُ

مَنْ نامَ حَتَّى يَنْقَضي لَيْلُهُ

لَمْ يَبْلُغِ المَنْزِلَ أوْ يَجْهَدُ

• ومنها: أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَشُدُّ المئزرَ

واخْتَلَفوا في تفسيرِهِ: فمنهُم مَن قالَ: هوَ كنايةٌ عن شدَّةِ جدِّهِ واجتهادِهِ في العبادةِ، كما يُقالُ: فلانٌ يَشُدُّ وسطَهُ ويَسْعى في كذا. وهذا فيهِ نظرٌ؛ فإنَّها قالَتْ: "جَدَّ وشَدَّ المئزرَ"، فعطَفَتْ شَدَّ المئزرَ على جدِّهِ.

= (725)، وأبا يعلى (282 و 372 - 374)، وغيرهم؛ رووه من طريق شعبة وإسرائيل والثوري وغيرهم، عن هبيرة، عن عليّ

رفعه دون هذه الزيادة. فبان أنّها ممّا اقترفته يدا عبد الغفّار أو البجليّ.

(1)

في خ: "كان يطرق باب فاطمة"، وما أثبتّه من م ون وط أولى بسياق الصحيحين.

(2)

رواه: البخاري (19 - التهجّد، 5 - تحريضه صلى الله عليه وسلم على صلاة الليل، 3/ 10/ 1127)، ومسلم (6 - المسافرين، 28 - من نام الليل أجمع، 1/ 537/ 775)؛ من حديث عليّ.

(3)

رواه: البخاري (8 - الصلاة، 103 - الصلاة خلف النائم، 1/ 587/ 512)، ومسلم (4 - الصلاة، 51 - الاعتراض بين يدي المصلّي، 1/ 366/ 512)؛ من حديث عائشة.

ص: 430

والصَّحيحُ أن المرادَ اعتزالُهُ للنِّساءِ، وبذلكَ فَسَّرَهُ السَّلفُ والأئمَّةُ المتقدِّمونَ، منهُمُ الثَّورِيُّ.

وقد وَرَدَ ذلكَ صريحًا مِن حديثِ عائِشَةَ وأنَسٍ، ووَرَدَ تفسيرُهُ بأنَّهُ لم يَأْوِ إلى فراشِهِ حتَّى يَنْسَلخَ رمضانُ، وفي حديثِ أنَسٍ:"وطَوى فراشَهُ، واعْتَزَلَ النِّساءَ"

(1)

.

وقد كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم غالبًا يَعْتكِفُ العشرَ الأواخرَ، والمعتكفُ ممنوعٌ مِن قربانِ النِّساءِ بالنَّصِّ والإجماعِ، وقد قالَ طائفةٌ مِن السَّلفِ في تفسيرِ قولِهِ تَعالى:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]: إنَّهُ طلبُ ليلةِ القدرِ. والمعنى في ذلكَ أن الله تَعالى لمَّا أباحَ مباشرةَ النِّساءِ في ليالي الصِّيامِ إلى أنْ يَتبَيَّنَ الخيطُ الأبيضُ مِن الخيطِ الأسودِ؛ أمَرَ معَ ذلكَ بطلبِ ليلةِ القدرِ، لئلَّا يَشْتَغِلَ المسلمونَ في طولِ ليالي الشَّهرِ بالاستمتاعِ المباحِ فيفوتُهُم طلبُ ليلةِ القدرِ، فأمَرَ معَ ذلكَ بطلبِ ليلةِ القدرِ بالتَّهجُّدِ مِن الليلِ، خصوصًا في الليالي المرجوِّ فيها ليلةُ القدرِ، فمِن هُنا كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُصيبُ مِن أهلِهِ في العشرينَ مِن رمضانَ، ثمَّ يَعْتَزِلُ نساءَهُ ويَتَفَرَّغُ لطلبِ ليلةِ القدرِ في العشرِ الأواخرِ.

• ومنها: تأْخيرُهُ للفطورِ إلى السَّحَرِ

رُوِيَ عنهُ مِن حديثِ عائِشَةَ وأنَسٍ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ في ليالي العشرِ يَجْعَلُ عشاءَهُ سحورًا.

ولفظُ حديثِ عائِشَةَ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا كانَ رمضانُ؛ قامَ ونامَ، فإذا دَخَلَ العشرُ؛ شَدَّ المئزرَ واجْتَنَبَ النِّساءَ واغْتَسَلَ بينَ الأذانينِ وجَعَلَ العشاءَ سحورًا

(2)

.

(1)

(منكر). سيأتي بطوله وتخريجه بعد سطور.

(2)

(منكر). لم أقف عليه، ولا ذكره العسقلاني عند شرحه لحديث عائشة في "الفتح"، وفيه زيادات غريبة عن رواية الثقات للحديث، فهذه لا تحتمل من الأسانيد المقاربة - على التسليم بأنّ الإسناد مقارب وفي القلب منه أشياء - بل لا بدّ فيها من الرواة الثقات الأثبات.

ثمّ وقفت على زيادة "واجتنب النساء" في الحديث عند الطبراني في "الأوسط"(7573) من طريق نهشل، عن الضحّاك، عن مسروق، عن عائشة

رفعته. ونهشل متّهم متروك، والضحّاك كثير الإرسال، وقد رواه الشيخان عن مسروق دون هذه الزيادة، فبان أنّها منكرة، والزيادات الأُخرى أشدّ نكارة.

ص: 431

أخْرَجَهُ ابنُ أبي عاصِمٍ، وإسنادُهُ مقاربٌ.

وحديثُ أنَسٍ خَرَّجَهُ الطبَرانِيُّ، ولفظُهُ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا دَخَلَ العشرُ الأواخرُ مِن رمضانَ؛ طَوى فراشَهُ واعْتَزَلَ النِّساءَ وجَعَلَ عشاءَهُ سحورًا

(1)

. وفي إسنادِهِ حَفْصُ بنُ واقِدٍ؛ قالَ ابنُ عَدِيٍّ: هذا الحديثُ مِن أنكرِ ما رَأيْتُ لهُ.

ورُوِيَ أيضًا نحوُهُ مِن حديثِ جابِرٍ

(2)

، خَرَّجَهُ أبو بكْرٍ الخَطيبُ، وفي إسنادِهِ مَن لا يُعْرَفُ حالُهُ.

وفي الصَّحيحينِ ما يَشْهَدُ لهذهِ الرِّواياتِ، ففيهِما

(3)

: عن أبي هُرَيْرَةَ؛ قالَ: نَهَى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن الوصالِ في الصَّومِ. فقالَ لهُ رجلٌ مِن المسلمينَ: إنَّكَ تُواصِلُ يا رسولَ اللهِ. قالَ: "وأيكُّم مثلي؟ إنِّي أبيتُ يُطْعِمُني ربِّي ويَسْقيني". فلمَّا أبَوْا أنْ يَنْتَهوا عن الوِصالِ؛ واصلَ بهِم يومًا، ثمَّ يومًا، ثمَّ رَأَوُا الهلالَ. فقالَ:"لو تأخَّرَ لَزِدْتُكُمْ"، كالتَّنكيلِ لهُم حينَ أبَوْا أنْ ينْتَهوا. فهذا يَدُلُّ على أنَّهُ واصلَ بالنَّاسِ في آخرِ الشَّهرِ.

ورَوى: عاصِمُ بنُ كلَيْبٍ، عن أبيهِ، عن أبي هُرَيْرَةَ؛ قالَ: ما واصلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وصالَكُم قطُّ، غيرَ أنَّهُ قد أخَّرَ الفطرَ إلى السَّحرِ

(4)

. وإسنادُهُ لا بأْسَ بهِ.

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ مِن حديثِ عَلِيٍّ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُواصِلُ إلى السَّحَرْ

(5)

.

(1)

(منكر). رواه: الطبراني في "الأوسط"(5649)، وابن عدي في "الكامل"(2/ 800)، وأبو

نعيم في "الحلية"(6/ 281)؛ من طريق حفص بن واقد، ثنا هشام الدستوائي، عن قتادة، عن أنس

رفعه.

قال الهيثمي (3/ 177): "فيه حفص بن واقد البصري، قال ابن عدي: له أحاديث منكرة. قلت: هذا أنكرها على ما نقل المصنّف. وقال ابن عديّ أيضًا: "بعض متنه قد شورك فيه وبعض متنه لا يرويه عن هشام غير حفص". قلت: هذه علامة ضعف الراوي ونكارة حديثه.

(2)

(ضعيف). لم أقف عليه في "تاريخ بغداد" بعد طول بحث ولا في كثير ممّا بين يدي من كتب الخطيب، فحسبي فيه شهادة ابن رجب يرحمه الله بقوله:"في إسناده من لا يعرف حاله".

(3)

البخاري (30 - الصوم، 49 - التنكيل لمن أكثر الوصال، 4/ 205/ 1965)، ومسلم (13 - الصيام، 11 - النهي عن الوصال، 2/ 774/ 1102).

(4)

(لا بأس به إن سلمت الطريق إلى عاصم). ولم أقف عليه.

(5)

(صحيح لشواهده). رواه: عبد الرزّاق (7752)، وابن أبي شيبة (9589)، وأحمد في "المسند"(1/ 91 و 141) و"الفضائل"(1236)، وعبد بن حميد (85 - منتخب)، والطبراني (1/ 109/ 185)، والضياء في "المختارة"(2/ 199/ 582 و 725)؛ من طريق إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن محمد بن علي (وجاء مرّة:=

ص: 432

وخَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ مِن حديثِ جابِرٍ أيضًا

(1)

.

وخَرَّجَ ابنُ جَريرٍ الطَّبَرِيُّ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يُواصِلُ إلى السَّحَرِ، ففَعَلَ ذلكَ بعضُ أصحابِهِ، فنَهاهُ، فقالَ: أنتَ تَفْعَلُ ذلكَ. فقالَ: "إنَّكُم لستُم مثلي، إنِّي أظَلُّ عند ربِّي يُطْعِمُني ويَسْقيني"

(2)

.

وزَعَمَ ابنُ جَريرٍ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لمْ يَكُنْ يُواصِلُ في صيامِهِ إلَّا إلى السَّحَرِ خاصَّةً، وأنَّ ذلكَ يَجوزُ لمَن قَوِيَ عليهِ ويُكْرَهُ لغيرِهِ، وأنْكَرَ أنْ يَكونَ استدامةُ الصِّيامِ في الليلِ كلِّهِ طاعة عندَ أحدٍ منَ العلماءِ؛ قالَ: وإنَّما كانَ يُمْسِكُ بعضُهُم لمعنًى آخرَ غيرِ الصِّيامِ: إمَّا لِيَكونَ أنشطَ لهُ على العبادةِ، أو إيثارًا بطعامِهِ على نفسِهِ، أو لخوفٍ مقلقٍ مَنَعَهُ طعامَهُ، أو نحوِ ذلكَ. فمقتضى كلامِهِ: أنَّ مَن واصَلَ ولم يُفْطِرْ لِيَكونَ أنشطَ لهُ على العبادةِ مِن غيرِ أنْ يَعْتَقِدَ أن إمساكَ الليلِ قربةٌ أنَّهُ جائزٌ

(3)

. وإنْ أمْسَكَ تعبُّدًا بالمواصلةِ، فإنْ كانَ إلى السَّحرِ وقَوِيَ عليهِ لم يُكْرَهْ، وإلَّا كُرِهَ.

= عن أبي عبد الرحمن)، [عن عليّ]

رفعه.

قال الهيثمي (3/ 161): "رجال الصحيح". قلت: عبد الأعلى هذا هو ابن عامر الثعلبي، ما هو من رجال الصحيح، وحديثه أقرب إلى الضعف، وقد اضطرب فجعله مرّة عن أبي عبد الرحمن السلمي ومرّة عن ابن الحنفيّة. لكن يشهد له ما قبله وما بعده، فهو حسن به على الأقلّ.

(1)

(صحيح لشواهده). رواه: الحارث بن أبي أُسامة (326 - زوائد الهيثمي) من طريق محمّد بن عمر ثنا سعيد بن مسلم بن بانك، والطبراني في "الأوسط"(3768) من طريق شريك؛ كلاهما عن عبد الله بن محمّد بن عقيل، عن جابر

رفعه بنحوه.

قال الهيثمي (3/ 161): "حديث حسن". قلت: طريق الحارث فيها الواقدي المتّهم، فالمعوّل على طريق "الأوسط" وحدها، وفيها شريك سيئ الحفظ وابن عقيل ليّن، لكن يشهد له ما قبله وما بعده.

(2)

(شاذّ بهذا التمام). رواه: ابن خزيمة (2072)، وابن جرير؛ من طريق عبيدة بن حميد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة

رفعه.

قال العسقلاني في "الفتح"(4/ 209): "المحفوظ في حديث أبي صالح إطلاق النهي عن الوصال دون تقييد بالسحر، ولذلك اتفّق عليه جميع الرواة عن أبي هريرة، فرواية عبيدة هذه شاذّة". وقال الألباني: "إسناده صحيح على شرط البخاري". قلت: هو كذلك عند النظر إليه على وجه الاستقلال، لكنّ زيادة "إلى السحر" هنا تفرّد بها عبيدة بن حميد دون سائر الرواة عن الأعمش وعن أبي صالح، وهي زيادة تخالف إذنه صلى الله عليه وسلم بالوصال إلى السحر الآتي في حديث أبي سعيد بعده، فبان أنّها شاذّة كما قال العسقلاني.

(3)

إن كان لا يراه قربة؛ فهلّا شرب جرعة ماء أو عصير تشدّ أوده!

ص: 433

ولذلكَ قالَ أحْمَدُ وإسْحاقُ: لا يُكْرَهُ الوصالُ إلى السَّحرِ.

وفي "صحيح البخاريِّ"

(1)

: عن أبي سَعيدٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"لا تُواصِلوا، فأيُّكُم أرادَ أنْ يُواصِلَ؛ فلْيُواصِلْ إلى السَّحرِ". قالوا: فإنَّكَ تُواصِلُ يا رسولَ اللهِ! قالَ: "إنِّي لستُ كهيئتِكُم، إنِّي أبيتُ لي مطعمٌ يُطْعِمُني وساقٍ يَسْقيني".

وظاهرُ هذا يَدُلُّ على أنَّهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يُواصِلُ الليلَ كلَّهُ، وقد يَكونُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إنَّما فَعَلَ ذلكَ لأنَّهُ رَآهُ أنشطَ لهُ على الاجتهادِ في ليالي العشرِ، ولم يَكُنْ ذلكَ مضعِفًا لهُ عن العملِ؛ فإنَّ الله كانَ يُطْعِمُهُ ويَسْقيهِ.

واخْتُلِفَ في معنى إطعامِهِ: فقيلَ: إنَّهُ كانَ يُؤْتَى بطعامٍ مِن الجنَّةِ يَأْكُلُهُ. وفي هذا نظرٌ؛ فإنَّهُ لو كانَ كذلكَ؛ لم يَكُنْ مواصلًا، وقد أقَرَّهُم على قولِهِم لهُ: إنَّكَ تُواصِلُ.

لكنْ رَوى عَبْدُ الرَّزَّاقِ في "كتابِهِ": عن ابن جُرَيْجٍ، أخْبَرَني عَمْرُو بنُ دينارٍ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهى عن الوصالِ. قالوا: فإنَّكَ تُواصِلُ! قالَ: "وما يُدْريكُم! لعلَّ ربِّي يُطْعِمُني ويَسْقِيني"

(2)

. وهذا مرسلٌ.

وفي روايةٍ لمسلمٍ

(3)

مِن حديثِ أنَسٍ: "إنِّي أظَلُّ يُطْعِمُني ربِّي ويَسْقيني". وإنَّما يُقالُ: ظَلَّ يَفْعَلُ كذا إذا كانَ نهارًا، ولو كانَ أكلًا حقيقيًّا؛ كانَ منافيًا للصِّيامِ.

والصَّحيحُ أنَّهُ إشارةٌ إلى ما كانَ اللهُ تَعالى يَفْتَحُهُ عليهِ في صيامِهِ وخلوتِهِ بربِّهِ لمناجاتِهِ وذكرِهِ مِن موادِّ أُنسهِ ونفحاتِ قدسِهِ، فكانَ يَرِدُ بذلكَ على قلبِهِ مِن المعارفِ الإلهيَّةِ والمنحِ الرَّبَّانيَّةِ ما يُغَذِّيهِ ويُغْنيهِ عن الطَّعامِ والشَّرابِ. كما قيلَ:

لَها أحاديثُ مِنْ ذِكْراكَ تَشْغَلُها

عَنِ الطَّعامِ وتُلْهيها عن الزَّادِ

لَها بِوَجْهِكَ نورٌ تَسْتَضيءُ بِهِ

وَقْتَ المَسيرِ وفي أعْقابِها حادي

إذا شَكَتْ مِنْ كَلالِ السَّيْرِ أوْعَدَها

رَوْحُ القُدومِ فَتَحْيا عِنْدَ ميعادِ

(1)

(30 - الصوم، 48 - الوصال، 4/ 202/ 1963).

(2)

(ضعيف بهذا السياق). رواه عبد الرزّاق (7756) بالسند المذكور، والمرسل من أنواع الضعيف.

(3)

(13 - الصيام، 11 - النهي عن الوصال، 2/ 776/ 1104). وهو عند البخاري (30 - الصوم، 48 - الوصال، 4/ 202/ 1961) لكن بغير هذا اللفظ.

ص: 434

الذِّكرُ قوتُ قلوبِ

(1)

العارفينَ، يُغْنيهِم عن الطَّعامِ والشَّرابِ، كما قيلَ:

أنْتَ رِيِّي إذا ظَمِئْتُ إلى الما

ءِ وَقُوتي إذا أرَدْتُ الطَّعاما

لمَّا جاعَ المتهجِّدونَ، شَبِعوا مِن طعامِ المناجاةِ. فأُفٍّ لمَن باعَ لذَّةَ المناجاةِ بفضلِ لقمةٍ.

يا مَنْ لِحَشا المُحِبِّ بِالشَّوْقِ حَشا

ذا سِرُّ سُراكَ في الدُّجى كَيْفَ فَشا

هذا المُوَلَّى إلى المَماليكِ مَشى

لا كانَ عَيْشًا أوْرَثَ القَلْبَ غِشا

(2)

ويَتأكَّدُ تأْخيرُ الفطرِ في الليالي التي تُرْجى فيها ليلةُ القدرِ

(3)

.

قالَ زِرُّ بنُ حُبَيْشٍ في ليلةِ سبعٍ وعشرينَ: مَنِ اسْتَطاعَ منكُم أن يُؤخِّرَ فطرَهُ؛ فلْيَفْعَلْ، ولْيُفْطِرْ على ضَياحِ لبنٍ. ورَواهُ بعضُهُم عن زِرٍّ عن أُبَيِّ بن كَعْبٍ مرفوعًا، ولا يَصِحُّ

(4)

. وضِياحُ اللبنِ ويُرْوى ضَيْحُ - بالضَّادِ المعجمةِ والياءِ آخرِ الحروفِ - هوَ اللبنُ الخاثرُ الممزوجُ بالماءِ.

ورَوَى أبو الشَّيخِ الأصْبَهانِيُّ بإسنادِهِ: عن عَلِيٍّ؛ قالَ: إنْ وافَقَ ليلةَ القدرِ وهوَ يَأْكُلُ؛ أوْرَثَهُ داءً لا يُفارِقُهُ حتَّى يَموتَ

(5)

. وخَرَّجَهُ مِنْ طريقِهِ أبو موسى المَدِينِيُّ. وكأنَّهُ يُريدُ: إذا وافَقَ دخولُها أكلَهُ. واللهُ أعلمُ.

• ومنها: اغتسالُهُ صلى الله عليه وسلم بينَ العشاءينِ

وقد تَقَدَّمَ مِن حديثِ عائِشَةَ: "واغْتَسَلَ بينَ الأذانينِ"

(6)

. والمرادُ: أذانُ المغربِ

(1)

في خ: "الذكر قرّة قلوب"، والأولى ما أثبتّه من م و ن و ط.

(2)

يعني: غشاء، والبيتان غير موزونين، أقرب إلى الكلام المنثور.

(3)

إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد: نهى عن الوصال، وحذّر أصحابه من فعله، وأراد أن ينكّل بمن لم يستجب إليه حتّى يدعه، ووصف من فعله بالمتعمّق، وبيّن للناس أنّ مواصلته ليست كمواصلتهم وأنّه يبيت يطعمه ربّه ويسقيه، ثمّ لمّا رأى إلحاح بعض الناس على ذلك أذن لهم بالمواصلة إلى الفجر لا أكثر؛ فكيف يقال: هذه المواصلة مستحبّة؟! أو: هي متأكدة في الوقت الفلانيّ؟! هذه المواصلة قصاراها أن تكون من المباح! وذهب جماعة من أهل العلم إلى كراهتها مطلقًا، وما هو ببعيد عن الصواب. والله أعلم.

(4)

أثر زرّ هذا رواه: عبد الرزّاق (7701)، وابن أبي شيبة (8667). ولم أقف عليه مرفوعًا، وما هو بصحيح، بل هو ظاهر النكارة سندًا على ما ذكر ابن رجب ومتنًا على ما تقدّم آنفًا من النهي عن الوصال.

(5)

كذا! مع أن عليًا رضي الله عنه ممّن نهى عن الوصال مطلقًا.

(6)

(منكر). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 431).

ص: 435

والعشاءِ.

ورُوِيَ مِن حديثِ عَلِيٍّ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَغْتَسِلُ بينَ العشاءينِ كل ليلةٍ، يَعْني: مِن العشرِ الأواخر

(1)

. وفي إسنادِهِ ضعفٌ.

ورُوِيَ عن حُذَيْفَةَ؛ أنَّهُ قامَ معَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ليلةً مِن رمضانَ، فاغْتَسَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وسَتَرَهُ حُذَيْفَةُ، وبقِيَتْ فضلةٌ فاغْتَسَلَ بها حُذَيْفَةُ وسَتَرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم

(2)

. خَرجَهُ ابنُ أبي عاصِمٍ.

وفي روايةٍ أُخرى عن حُذَيْفَةَ؛ قالَ: قامَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ مِن رمضانَ في حجرةٍ مِن جريدِ النَّخلِ، فصَبَّ عليهِ دلوًا مِن ماءٍ

(3)

.

وقالَ ابنُ جَريرٍ: كانوا يَسْتَحِبُّونَ أنْ يَغْتَسِلوا كلَّ ليلةٍ مِن ليالي العشرِ الأواخرِ.

وكانَ النَّخَعِيُّ يَغْتَسِلُ في العشرِ كلَّ ليلةٍ.

ومنهُم مَن كانَ يَغْتَسِلُ ويَتَطَيَّبُ في الليالي التي تكونُ أرجى لليلةِ القدرِ:

فأمَرَ زِرُّ بنُ حُبَيْشٍ بالاغتسالِ ليلةَ سبعٍ وعشرينَ مِن رمضانَ.

ورُوِيَ عن أنَسِ بن مالِكٍ، أنَّهُ إذا كانَ ليلةُ أربعٍ وعشرينَ مِن رمضانَ، اغْتَسَلَ وتَطَيَّبَ ولَبِسَ حلَّةً إزارًا ورداءً، فإذا أصْبَحَ، طَواهُما فلم يَلْبَسْهُما إلى مثلِها مِن قابلٍ.

وكانَ أيُّوبُ السُّخْتِيانِيُّ يَغْتَسِلُ ليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ وأربعٍ وعشرينَ، ويَلْبَسُ ثوبينِ جديدينِ، ويَسْتَجْمِرُ، ويَقولُ: ليلةُ ثلاثٍ وعشرينَ هيَ ليلةُ أهلِ المدينةِ، والتي تَلِيها ليلتُنا؛ يَعْني: البصريِّينَ.

وقالَ حَمَّادُ بنُ سَلَمَةَ: كانَ ثابِتٌ البُنانِيُّ وحُمَيْدٌ الطَويلُ يَلْبَسانِ أحسنَ ثيابِهِما ويَتَطَيَّبانِ ويُطَيِّبونَ المسجدَ بالنَّضوحِ والدُّخنةِ في الليلةِ التي تُرْجى فيها ليلةُ القدرِ.

وقالَ ثابِتٌ البُنانِيُّ: كانَ لتَميمٍ الدَّارِيِّ حلَّةٌ اشْتَراها بألفِ درهمٍ، كانَ يَلْبَسُها في الليلةِ التي يُرْجى فيها ليلةُ القدرِ.

(1)

(ضعيف). ولم أقف عليه، فحسبي فيه حكم من وقف على سنده.

(2)

(لم أقف عليه).

(3)

(ضعيف). رواه ابن أبي شيبة في "المصنّف"(2398 و 7696) من طريق قويَة، عن طلحة بن يزيد الأنصاري، عن حذيفة

رفعه. وهذا سند منقطع، طلحة بن يزيد لم يسمع حذيفة، بينه وبينه رجل كما تقدّم تفصيله آنفًا، ولم أقف على هذه القطعة موصولة بخلاف حديث حذيفة المتقدّم (ص 394 - 395).

ص: 436

فتبَيَّنَ بهذا أنَّهُ يُسْتَحَبُّ في الليالي التي تُرْجى فيها ليلةُ القدرِ التَّنظُّفُ والتَّزيُّنُ والتَّطيُّبُ بالغسلِ والطِّيبِ واللباسِ الحسنِ، كما يُشْرَعُ ذلكَ في الجمعِ والأعيادِ. وكذلكَ يُشْرَعُ أخذُ الزِّينةِ بالثِّيابِ في سائرِ الصَّلواتِ، كما قالَ تَعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. وقالَ ابنُ عُمَرَ: اللهُ أحقُّ أنْ يُتَزَيَّنَ لهُ. ويُرْوى عنهُ مرفوعًا

(1)

.

ولا يَكْمُلُ التَّزيُّنُ الظَّاهرُ إلَّا بتزيُّنِ الباطنِ بالتَّوبةِ والإنابةِ إلى اللهِ وتطهيرِهِ مِن أناسِ الذُّنوبِ وأوضارِها؛ فإنَّ زينةَ الظَّاهرِ معَ خراب الباطنِ لا تُغْني شيئًا. قالَ اللهُ تَعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]:

إذا المَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيابًا مِنَ التُّقى

تَقَلَّبَ عُرْيانًا وَإنْ كانَ كاسِيا

لا يَصْلُحُ لمناجاةِ الملوكٍ في الخلواتِ إلَّا مَن زَيَّنَ ظاهرَهُ وباطنَهُ وطَهَّرَهُما،

(1)

(صحيح موقوفًا منكر مرفوعًا). يرويه نافع مولى ابن عمر واختلف عليه فيه على وجوه: روى الأوَّل: عبد الرزّاق (1390 و 1391)، والبخاري في "التاريخ"(7/ 376)، وابن خزيمة (766)، والطحاوي (1/ 377 و 378)، وابن عدي (4/ 1606)، والبيهقي (2/ 236)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(6/ 369 و 371)، والضياء في "المختارة"(1/ 309/ 200)؛ من طرق ثمان، عن نافع، عن ابن عمر

موقوفًا. وبعض طرقه صحيح لذاته، وأكثرها قويّ، والوقف باجتماعها صحيح جدًّا. وروى الثاني: الحاكم في "المدخل إلى الصحيح"(ص 142) من طريق سعيد بن داورد الزنبري أبي عثمان، عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر

رفعه. قال الحاكم: "موضوع". قلت: من أجل سعيد هذا؛ فإنه كذاب روى هذا الحديث عن مالك فرفعه وخالف ثقات أصحابه الذين رووه عن مالك موقوفًا على الوجه الأول. لكنّه توبع، فرواه: الطحاوي في "المعاني"(1/ 377)، والطبراني في "الأوسط"(9364)؛ من طريق زهير بن عبّاد، ثنا حفص بن ميسرة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر

رفعه. قال الطبراني: "تفرّد به زهير بن عبّاد". وقال الهيثمي (2/ 54): "إسناده حسن". قلت: زهير ضعيف، وحفص يهم. وروى الثالث: الطبراني في "الأوسط"(7058) من طريق عبد الله بن جعفر، عن عمر بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر

لا أعلمه إلّا رفعه. وهاهنا علّتان: أولاهما: عبد الله بن جعفر هذا هو ابن المديني واهٍ. والأخرى: أنّه تردّد في رفعه فلم يجزم. لكنّه توبع، فرواه البيهقي (2/ 235) من طريق أحمد بن منصور المديني، ثنا محمّد بن إسحاق المسيّبي، ثنا أنس بن عياض، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر

لا أراه إلّا رفعه. وأحمد بن منصور مجهول.

وخلاصة هذا أن المعروف في هذا المتن الوقف، وأمّا الرفع فقد جاء على الجزم من وجهين واهيين وعلى الشكّ من وجهين واهيين أيضًا. وقد صحّح الألباني الحديث مرفوعًا باجتماع الطريقين إلى موسى بن عقبة، وفيه نظر: لاختلافهما جزمًا وشكًّا، ولضعفهما، ولمخالفتهما رواية الثقات الكثر للمتن موقوفًا.

ص: 437

خصوصًا ملكَ الملوكِ الذي يَعْلَمُ السِّرَّ وأخفى وهوَ لا يَنْظُرُ إلى صورِكُم وإنَّما يَنْظُرُ إلى قلوبِكُم وأعمالِكُم، فمَن وَقَفَ بينَ يديهِ؛ فلْيُزَيِّنْ [لهُ] ظاهرَهُ باللباسِ وباطنَهُ بلباسِ التَّقوى.

أنْشَدَ الشِّبْلِيُّ:

قالوا غَدا العيدُ ماذا أنْتَ لابِسُهُ

فَقُلْتُ خِلْعَةَ ساقٍ حُبَّهُ جُرَعا

فَقْرٌ وصَبْرٌ هُما ثَوْبانِ تَحْتَهُما

قَلْبٌ يَرى إلْفَهُ الأعيادَ وَالجُمَعا

أحْرى الملابسِ أنْ تَلْقى الحَبيبَ بِهِ

يَوْمَ التَّزاوُرِ في الثَّوْبِ الذي خَلَعا

فَالدَّهْرُ لي مَأْتَمٌ إنْ غِبْتَ يا أمَلِي

وَالعيدُ ما كُنْتَ لي مَرْأًى وَمُسْتَمَعا

(1)

• ومنها: الاعتكافُ

ففي الصَّحيحينِ

(2)

: عن عائِشَةَ رضي الله عنها؛ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كانَ يَعْتكِفُ العشرَ الأواخرَ مِن رمضانَ حتَّى تَوَفَّاهُ اللهُ.

وفي "صحيح البُخارِيِّ"

(3)

: عن أبي هُرَيْرَةَ؛ قالَ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتكِفُ في كلِّ رمضانَ عشرةَ أيامٍ، فلمَّا كانَ العامُ الذي قُبِضَ فيهِ؛ اعْتكفَ عشرينَ.

وإنَّما كانَ يَعْتكِفُ صلى الله عليه وسلم في هذهِ العشرِ التي يُطْلَبُ فيها ليلةُ القدرِ قطعًا لأشغالِهِ وتفريغًا لبالِهِ وتخلِّيًا لمناجاةِ ربِّهِ وذكرِهِ ودعائِهِ. وكانَ صلى الله عليه وسلم يَحْتَجِرُ حصيرًا يَتَخَلَّى فيها عن النَّاسِ فلا يُخالِطُهُم ولا يَشْتَغِلُ بهِم

(4)

.

ولهذا ذَهَبَ الإمامُ أحْمَدُ إلى أن المعتكفَ لا يُسْتَحَبُّ لهُ مخالطةُ النَّاسِ، حتَّى ولا لتعليمِ علمٍ وإقراءِ قرآنٍ، بلِ الأفضلُ لهُ الانفرادُ بنفسِهِ والتَّخلِّي بمناجاةِ ربِّهِ وذكرِهِ

(1)

تقدّم هذا البيت في خ على ما قبله، والأولى ما أثبتّه من م و ن و ط.

(2)

البخاري (33 - الاعتكاف، 1 - الاعتكاف في العشر الأواخر، 4/ 271/ 2026)، ومسلم (14 - الاعتكاف، 1 - اعتكاف العشر الأواخر، 2/ 830/ 1172).

(3)

(33 - الاعتكاف، 17 - الاعتكاف في العشر الأوسط، 4/ 284/ 2044).

(4)

رواه: البخاري (10 - الأذان، 81 - صلاة الليل، 2/ 214/ 730 و 731)، ومسلم (6 - المسافرين، 30 - فضيلة العمل الدائم، 1/ 540/ 782 و 781)؛ من حديث عائشة وزيد بن ثابت على الترتيب.

ومعنى احتجار الحصير: اتخاذه كالحجرة بجعله حاجزًا بينه وبين الناس.

ص: 438

ودعائِهِ.

وهذا الاعتكافُ هوَ الخلوةُ الشَّرعيَّةُ، وإنَّما يَكونُ في المساجدِ؛ لئلَّا يُتْرَكَ بهِ الجمعُ والجماعاتُ؛ فإنَّ الخلوةَ القاطعةَ عن الجمعِ والجماعاتِ منهيٌّ عنها.

سُئِلَ ابنُ عَبَّاسٍ عن رجلٍ يَصومُ النَّهارَ ويَقومُ الليلَ ولا يَشْهَدُ الجمعةَ والجماعةَ؟ قالَ: هوَ في النَّارِ.

فالخلوةُ المشروعةُ لهذهِ الأُمَّةِ هيَ الاعتكافُ في المساجدِ، خصوصًا في شهرِ رمضانَ، خصوصًا في العشرِ الأواخرِ منهُ، كما كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ.

فالمعتكفُ قد حَبَسَ نفسَهُ على طاعةِ اللهِ وذكرِهِ، وقَطَعَ عن نفسِهِ كلَّ شاغلٍ يَشْغَلُهُ عنهُ، وعَكَفَ بقلبِهِ وقالبِهِ على ربِّهِ وما يُقرِّبُهُ منهُ، فما بَقِيَ لهُ همٌّ سوى اللهِ وما يُرْضيهِ عنهُ.

كما كانَ داوردُ الطَّائِيُّ يَقولُ في ليلِهِ: همُّكَ عَطَّلَ عليَّ الهمومَ وحالَفَ بيني وبينَ السُّهادِ، وشوقي إلى النَّظرِ إليكَ أوْبَقَ منِّيَ اللذَّاتِ وحالَ بيني وبينَ الشَّهواتِ.

ما لي شُغُلٌ سِواهُ ما لي شُغُلُ

ما يَصْرِفُ عَنْ هَواهُ قَلْبي عَذَلُ

ما أصْنَعُ إنْ جَفا وَخابَ الأمَلُ

مِنِّي بَدَلٌ وَمِنْهُ ما لي بَدَلُ

فمعنى الاعتكاف وحقيقتُهُ قطعُ العلائقِ عن الخلائقِ للاتِّصالِ بخدمةِ الخالقِ، وكلَّما قَوِيَتِ المعرفةُ باللهِ والمحبَّةُ لهُ والأُنسُ بهِ؛ أوْرَثَتْ صاحبَها الانقطاعَ إلى اللهِ تَعالى بالكلِّيَّةِ على كلِّ حالٍ.

كانَ بعضُهُم لا يَزالُ منفردًا في بيتِهِ خاليًا بربِّهِ، فقيلَ لهُ: أما تَسْتَوْحِشُ؟ قالَ: كيفَ أسْتَوْحِشُ وهوَ يَقولُ: أنا جليسُ مَن ذَكَرَني؟!

أوْحَشَتْني خَلَواتي

بِكَ مِنْ كُلِّ أنِيسي

وَتَفَرَّدْتُ فَعايَنـ

تُكَ بِالغَيْبِ جَليسي

• يا ليلةَ القدرِ! للعابدينَ أشْهَدي، يا أقدامَ القانتينَ! ارْكَعي لربِّكِ واسْجُدي، يا ألسنةَ السَّائلينَ! جُدِّي في المسألةِ واجْتَهِدي.

ص: 439

يا رِجالَ اللَيْلِ جُدُّوا

رُبَّ داعٍ لا يُرَدُّ

ما يَقومُ اللَيْلَ إلَّا

مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ

ليلةُ القدرِ عندَ المحبِّينَ ليلةُ الحظوةِ بأُنسِ

(1)

مولاهُم وقربِهِ، وإنَّما يَفِرُّونَ مِن ليالي البعدِ والهجرِ.

كانَ ببغدادَ موضعانِ يُقالُ لأحدِهِما دارُ الملكِ وللأُخرى القطيعةُ، فجازَ بعضُ العارفينَ بملَّاحٍ في سفينةٍ، فقالَ لهُ: احْمِلْني معَكَ إلى دارِ الملكِ. فقالَ لهُ الملَّاحُ: ما أقْصِدُ إلَّا القطيعةَ. فصاحَ العارفُ: لا باللهِ لا باللهِ، منها أفِرُّ.

وَلَيْلَةٍ بِتُّ بِأكْنافِها

تَعْدِلُ عِنْدِيَ لَيْلَةَ القَدْرِ

كانَتْ سَلامًا لِسُروري بِها

بِالْوَصْلِ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ

يا مَن ضاعَ عمرُهُ في لا شيء! اسْتَدْرِكْ ما فاتَكَ في ليلةِ القدرِ؛ فإنَّها تُحْسَبُ بالعمرِ.

وَلَيْلَةِ وَصْلٍ باتَ مُنْجِزُ وَعْدِهِ

سَمِيرِيَ فيها بَعْدَ طولِ مَطالِ

شَفَيْتُ بِها قَلْبًا أُظيلَ عَليلُهُ

زَمانًا فَكانَتْ لَيْلَةً بِلَيالي

قالَ اللهُ تَعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1 - 3].

قالَ مالِكٌ: بَلَغَني أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُريَ أعمارَ النَّاسِ قبلَهُ أو ما شاءَ اللهُ مِن ذلكَ، فكأنَّهُ تَقاصَرَ أعمارَ أُمَّتِهِ ألَّا يَبْلُغوا مِن العملِ الذي بَلَغَ غيرُهُم في طولِ العمرِ، فأعْطاهُ اللهُ ليلةَ القدرِ خيرًا مِن ألفِ شهرٍ

(2)

.

(1)

في خ: "ليلة الخلوة بأنس"، والأولى ما أثبتّه من م و ن و ط.

(2)

(ضعيف). رواه: مالك في "الموطّأ"(1/ 321)، والبيهقي في "الشعب"(3667)؛ من طريق مالك، أنّه سمع من يثق به من أهل العلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم

به.

قال ابن عبد البرّ في "التمهيد"(24/ 373): "لا أعلم هذا الحديث يروى مسندًا من وجه من الوجوه ولا أعرفه في غير "الموطّأ" مرسلًا ولا مسندًا". وقال ابن كثير: "هذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر

والذي دلّ عليه الحديث أنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا". قلت: يريد حديث أبي ذرّ الذي سيأتي بيان ضعفه قريبًا. وقال السيوطي: "هذا من الأربعة التي لا تعرف"؛ يعني: البلاغات التي أوردها مالك في "موطّئه". قلت: هو مرسل أو معضل، وفيه المخالفة التي أشار إليها ابن كثير.

ص: 440

ورُوِيَ عن مجاهِدٍ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ رجلًا مِن بني إسْرائيلَ لَبِسَ السِّلاحَ ألفَ شهرٍ، فعَجِبَ المسلمونَ مِن ذلكَ، فأنْزَلَ اللهُ تَعالى هذهِ السُّورةَ {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} الذي لَبِسَ فيها ذلكَ الرَّجلُ السِّلاحَ في سبيلِ اللهِ ألفَ شهرٍ

(1)

.

وقالَ النَّخَعِيُّ: العملُ فيها خيرٌ مِن العملِ في ألفِ شهرٍ.

وفي الصَّحيحينِ

(2)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"مَن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِهِ".

وفي "المسند": عن عُبادَةَ بن الصَّامِتِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قالَ:"مَن قامَها ابتغاءَها، ثمَّ وَقَعَتْ لهُ؛ غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِهِ وما تأخَّرَ"

(3)

.

وفي "المسند" و"النَّسائِيِّ": عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قالَ في شهرِ رمضانَ:"فيهِ ليلةٌ خيرٌ مِن ألفِ شهرٍ، مَن حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ"

(4)

.

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن أبي حاتم في "التفسير"(القدر - ابن كثير)، وابن المنذر في "التفسير"(القدر - الدرّ المنثور)، والبيهقي في "السنن"(4/ 306) و"الشعب"(3668)؛ من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن النبي صلى الله عليه وسلم

به.

وهذا واهٍ من أوجه: أوّلها: أنّ الزنجي ليّن. الثاني: أنّ ابن أبي نجيح لم يسمع التفسير من مجاهد.

الثالث: أنّه مرسل. الرابع: أنّ ابن جرير رواه (37713) بنحوه عن مجاهد موقوفًا عليه.

(2)

البخاري (31 - التراويح، 1 - فضل من قام رمضان، 4/ 250/ 2008 و 2009)، ومسلم (6 - المسافرين، 25 - الترغيب في قيام رمضان، 1/ 523/ 759).

(3)

(ضعيف بهذا التمام). رواه: أحمد (5/ 318 و 321 و 324)، والشاشي (1288 و 1289)، والطبراني (3/ 178 - مجمع)؛ من طريق عبد الله بن محمّد بن عقيل، عن عمر بن عبد الرحمن، عن عبادة

رفعه. قال الهيثمي: "فيه عبد الله بن محمّد بن عقيل، وفيه كلام، وقد وثّق". قلت: ابن عقيل ليّن الحديث، وعمر بن عبد الرحمن مجهول لم يرو عنه سوى ابن عقيل، فالسند ضعيف.

وله طريق أُخرى عند أحمد (5/ 324) عن بقيّة، ثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن عبادة

بنحوه مرفوعًا. قال الهيثمي (3/ 178): "رجاله ثقات". قلت: لا يثبت لخالد سماع من عبادة.

قال العسقلاني في "الفتح"(4/ 115): "حديث عبادة بن الصامت عند الإمام أحمد من وجهين إسناده حسن". قلت: ليس شيء من الإسنادين حسنًا كما ترى، وتقوية أحدهما بالآخر فيها نظر؛ لأنه لا يبعد أن يكون خالد تلقّاه عن ابن عقيل أو عمر بن عبد الرحمن من الوجه الأوّل ثمّ أرسله. فلم يبق إلّا تقويته بالشواهد، وهي قاصرة عن بعض ما ورد فيه من الزيادات كقوله "ثمّ وقعت له" وقوله "وما تأخّر" وغيره.

(4)

(صحيح). رواه: عبد الرزّاق (7383)، وابن أبي شيبة (8867)، وإسحاق في "المسند"(1 و 2)، وأحمد (2/ 230 و 385 و 425)، وعبد بن حميد (1429)، والنسائي في "الكبرى"(2416) =

ص: 441

قالَ جُوَيْبِرٌ: قُلْتُ للضَّحَّاكِ: أرَأيْتَ النُّفساءَ والحائضَ والمسافرَ والنَّائمَ لهُم في ليلةِ القدرِ نصيبٌ؟ قالَ: نعم، كلُّ مَن تَقَبَّلَ اللهُ عملَهُ سَيُعْطِيهِ نصيبَهُ مِن ليلةِ القدرِ.

إخواني! المعوَّلُ على القبولِ لا على الاجتهادِ، والاعتبارُ بسيرِ القلوبِ

(1)

لا بعملِ الأبدانِ.

ربَّ قائمٍ حظُّهُ مِن قيامِهِ السَّهرُ!

كم مِن قائمٍ محروم ومِن نائمٍ مرحوم! هذا نامَ وقلبُهُ ذاكر، وهذا قامَ وقلبُهُ فاجر.

إنَّ المَقاديرَ إذا ساعَدَتْ

ألْحَقَتِ النَّائِمَ بِالقائِمِ

(2)

لكنَّ العبدَ مأْمورٌ بالسَّعيِ في اكتسابِ الخيراتِ والاجتهادِ في الأعمالِ الصَّالحاتِ، وكلٌّ ميسَّرٌ لِما خُلِقَ لهُ، أمَّا أهلُ السَّعادةِ؛ فيُيَسَّرونَ لعملِ أهلِ السَّعادةِ، وَأَمَّا أهلُ الشَّقاوةِ؛ فيُيَسَّرونَ لعملِ أهلِ الشَّقاوةِ.

{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10].

فالمبادرةَ المبادرةَ إلى اغتنامِ العملِ فيما بَقِيَ مِن الشَّهرِ، فعسى أنْ يُسْتَدْرَكَ بهِ ما فاتَ مِن ضياعِ العمرِ.

تَوَلَّى العُمْرُ في سَهْوٍ

وَفي لَهْوٍ وَفي خُسْرِ

فيا ضَيْعَةَ ما أنْفَقـ

ــــــتُ في الأيَّامِ مِنْ عُمْري

وَما لي في الذي ضَيَّعـ

ـــتُ مِنْ عُمْرِيَ مِنْ عُذْرِ

= و"المجتبى"(22 - الصيام، 5 - الاختلاف على معمر، 4/ 129/ 2105)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(3600)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(16/ 154)، والرافعي في "التدوين"(2/ 252)؛ من طرق، عن أيّوب، عن أبي قلابة، [عن أبي هريرة]

رفعه. قال المنذري: "لم يسمع أبو قلابة من أبي هريرة فيما أعلم". قلت: كذلك يقال، وسماعه منه محتمل.

وله شاهد من حديث أنس عند ابن ماجه (1644) بسند قوّاه البوصيري.

وآخر من حديث عبادة بن الصامت عند الطبراني في "الكبير"(3/ 145 - مجمع) بسند ضعيف.

فإن سمعه أبو قلابة من أبي هريرة فهو صحيح، وإلّا فهو صحيح شواهده، وقد صحّحه الألباني.

(1)

في م و ط: "ببرّ القلوب"، وأثبتّ ما في خ و ن، وكلاهما حسن.

(2)

في حاشية خ: "ألحقت العاجز بالقائم"، وما أثبتّه من متن خ و م و ط أولى وأقوى.

ص: 442

فَما أغْفَلَنا عَنْ وا

جِباتِ الحَمْدِ وَالشُّكْر

أما قَدْ خَصَّنا اللهُ

بِشَهْرٍ أيِّما شَهْرِ

بِشَهْرٍ أنْزَلَ الرَّحْما

نُ فيهِ أشْرَفَ الذِّكْر

وَهَلْ يُشْبِهُهُ شَهْرٌ

وَفيهِ لَيْلَةُ القَدْرِ

فَكَمْ مِنْ خَبَرٍ صَحَّ

بِما فيها مِنَ الخَيْر

(1)

رَوَيْنا كَنْ ثِقاتٍ أنـ

ـــنَها تُطْلَبُ في الوِتْرِ

فَطوبى لامْرِئ يَطْلُـ

ـــبُها في هذِهِ العَشْرِ

فَفِيها تَنْزِلُ الأمْلا

كُ بِالأنْوارِ وَالبِرِّ

وقَدْ قالَ سَلامٌ هـ

ـــــــيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ

ألا فَادَّخِروها إنـ

ـــــنَها مِنْ أنْفَسِ الذُّخْرِ

فَكَمْ مِنْ مُعْتَقٍ فيها

مِنَ النَّارِ وَلا يَدْري

‌المجلس الخامس في ذكر السبع الأواخر من رمضان

في الصَّحيحينِ

(2)

: عن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما؛ أن رجالًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أُروا ليلةَ القدرِ في المنامِ في السَّبعِ الأواخرِ. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أرى رؤياكُم قد تَواطَأتْ في السَّبعِ الأواخرِ، فمَن كانَ متحرِّيَها فلْيَتَحَرَّها في السَّبعِ الأواخرِ".

وفي "صحيح مسلم"

(3)

: عنهُ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"الْتَمِسوها في العشرِ الأواخرِ، فإنْ ضَعُفَ أحدُكُم أو عَجَزَ؛ فلا يُغْلَبَنَّ على السَّبعِ البواقي".

• قد ذَكَرْنا فيما تَقَدَّمَ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَجْتَهِدُ في شهرِ رمضانَ على طلبِ ليلةِ

(1)

في خ: "فيها من الأجر"، والأولى ما أثبتّه من م و ن و ط.

(2)

البخاري (22 - ليلة القدر، 2 - التماسها في السبع الأواخر، 4/ 256/ 2015)، ومسلم (13 - الصيام، 40 - ليلة القدر، 2/ 822/ 1165).

(3)

(الموضع السابق، 2/ 823/ 1165).

ص: 443

القدرِ، وأنَّهُ اعْتكَفَ مرَّةً العشرَ الأوَّلَ منهُ، ثمَّ طَلَبَها فاعْتكَفَ بعدَ ذلكَ العشرَ الأوسطَ في طلبِها، وأنَّ ذلكَ تَكَرَّرَ منهُ غيرَ مرَّةٍ، ثمَّ اسْتَقَرَّ أمرُهُ على اعتكافِ العشرِ الأواخرِ في طلبِها وأمَرَ بطلبِها فيهِ.

ففي الصَّحيحينِ

(1)

: عن عائِشَةَ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "تَحَرَّوْا ليلةَ القدرِ في العشرِ. الأواخرِ مِن رمضانَ".

وفي روايةٍ للبُخارِيِّ

(2)

: "في الوترِ مِن العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ".

ولهُ

(3)

مِن حديثِ: ابن عَبَّاسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"الْتَمِسوها في العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ".

ولمسلمٍ

(4)

مِن حديثِ: أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"الْتَمِسوها في العشرِ الغوابرِ".

والأحاديثُ في المعنى كثيرةٌ.

• وكانَ يَأْمُرُ بالتماسِها في أوتارِ العشرِ الأواخرِ:

ففي "صحيح البُخارِيِّ"

(5)

: عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ قال:"الْتَمِسوا ليلةَ القدرِ في العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ؛ في تاسعةٍ تَبْقى، في سابعةٍ تَبْقى، في خامسةٍ تَبْقى".

وفي روايةٍ لهُ

(6)

: "هيَ في العشرِ؛ في سبعٍ يَمْضينَ، أو سبعٍ يَبْقَيْنَ".

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائِيِّ والتِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ: أبي بَكْرَةَ؛ قالَ: ما أنا بملتمسِها لشيءٍ سَمِعْتُهُ مِن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا في العشرِ الأواخرِ؛ فإنِّي سَمِعْتُهُ يَقولُ:

(1)

البخاري (22 - ليلة القدر، 3 - تحرّيها في الوتر من العشر، 4/ 259/ 2020)، ومسلم (الموضع السابق، 2/ 828/ 1169).

(2)

(الموضع السابق، 2017).

(3)

(الموضع السابق، 4/ 260/ 2021).

(4)

(الموضع السابق، 2/ 824/ 1167).

(5)

(الموضع السابق، 4/ 260/ 2021).

(6)

(الموضع السابق، 2022). ووقع في "الصحيح": "في تسع يمضين أو في سبع يبقين". ووقع في بعض روايات "الصحيح" باللفظ الذي أورده المصنّف.

ص: 444

"الْتَمِسوها في تسعٍ يَبْقَيْنَ، أو سبعٍ يَبْقَيْنَ

(1)

، أو خمسٍ يَبْقَيْنَ، أو ثلاثٍ يَبْقَيْنَ، أو آخرِ ليلةٍ". وكانَ أبو بَكْرَةَ يُصَلِّي في العشرينَ مِن رمضانَ كصلاتِهِ في سائرِ السَّنةِ، فإذا دَخَلَ العشرُ؛ اجْتَهَدَ

(2)

.

• ثمَّ بعدَ ذلكَ أمَرَ بطلبِها في السَّبعِ الأواخرِ.

وفي "المسند" و "كتاب النَّسائِيِّ": عن أبي ذَرٍّ؛ قالَ: كُنْتُ أسْألُ النَّاسَ عنها (يَعْني: ليلةَ القدرِ)، فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ! أخْبِرْني عن ليلةِ القدرِ؛ أفي رمضانَ هيَ أو في غيرِهِ؟ قالَ: "بل هيَ في رمضانَ". قُلْتُ: تَكونُ معَ الأنبياءِ ما كانوا فإذا قُبِضوا رُفِعَتْ، أم هيَ إلى يومِ القيامةِ؟ قالَ:"بل هيَ إلى يومِ القيامةِ". قُلْتُ: في أيِّ رمضانَ هيَ؟ قالَ: "الْتَمِسوها في العشرِ الأوَّلِ والعشرِ الأواخرِ". قُلْتُ: في أيِّ العَشْرَيْنِ هيَ؟ قالَ: "في العشرِ الأواخرِ، لا تَسْألْني عن شيءٍ بعدَها". ثمَّ حَدَّثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ اهْتَبَلْتُ غفلتَهُ، فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ! أقْسَمْتُ عليكَ بحقِّي لَما أخْبَرْتَني، في أيِّ العشرِ هيَ؟ فغَضِبَ عليَّ غضبًا لم يَغْضَبْ مثلَهُ منذُ صَحِبْتُهُ، وقالَ:"الْتَمِسوها في السَّبعِ الأواخرِ؛ لا تَسْألْني عن شيءٍ بعدَها"

(3)

.

(1)

في خ: "أو في سبع يبقين"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

(صحيح). رواه: الطيالسي (881)، وابن أبي شيبة (8664 و 9532)، وأحمد (5/ 36 و 39 و 40)، والترمذي (6 - الصوم، 72 - ليلة القدر، 3/ 160/ 794)، والبزّار (3681)، والنسائي في "الكبرى"(3403 و 3404)، وابن خزيمة (2175)، وابن حبّان (3686)، والحاكم (1/ 438)، والبيهقي في "الشعب"(3681)؛ من طرق، عن عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن، عن أبيه، عن أبي بكرة

رفعه.

وهذا سند حسن، بل صحيح، رجاله ثقات، وقد قال الترمذي:"حسن صحيح"، وصحّحه ابن خزيمة وابن حبّان، وقال الحاكم والذهبي:"صحيح"، وحسّنه الألباني.

(3)

(ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة في "المصنّف"(8664 و 9513)، وأحمد (5/ 171)، والبزّار (4067 و 4068)، والنسائي في "الكبرى"(3427)، وابن خزيمة (2169 و 2170)، والطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 85)، وابن حبّان (3683)، والحاكم (1/ 437، 2/ 530)، والبيهقي في "السنن"(4/ 307) و"الشعب"(3671)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(2/ 212 و 213)؛ من طريقين، عن مالك بن مرثد (أو: مرثد بن أبي مرثد)، عن أبيه، عن أبي ذرّ

رفعه.

قال الحاكم: "على شرط مسلم"، وقال مرّة:"صحيح"، ووافقه الذهبي. وقال ابن التركماني:"في سنده مرثد، وهو مجهول، كذا في "الضعفاء" للذهبي". وقال الهيثمي (3/ 180): "مرثد هذا لم يرو عنه غير ابنه مالك". قلت: فهو مجهول، فالسند ضعيف، وفي المتن نكارة، وقد ضعّفه الألباني.

ص: 445

وخَرَّجَهُ ابنُ حِبَّانَ في "صحيحه" والحاكمُ. وفي روايةٍ لهُما؛ أنَّهُ قالَ: "ألمْ أنْهَكَ أنْ تَسْألَني

(1)

عنها؟ إنَّ الله لو أذِنَ لي أنْ أُخْبِرَكُم بها لأخْبَرْتُكُم، لا آمَنُ أنْ تَكونَ في السَّبعِ الأواخرِ"

(2)

.

ففي هذهِ الرِّوايةِ أن بيانَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لليلةِ القدرِ انْتَهى إلى أنَّها في السَّبعِ الأواخرِ، ولم يَزِدْ على ذلكَ شيئًا.

وهذا ممَّا يَسْتَدِلُّ بهِ مَن رَجَّحَ ليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ وخمسٍ وعشرينَ على ليلةِ إحدى وعشرينَ؛ فإنَّ ليلةَ إحدى وعشرينَ ليستْ مِن السَّبعِ الأواخرِ بلا تردُّدٍ.

وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن وجوهٍ أُخَرَ أنَّهُ بَيَّنَ أنَّها ليلةُ سبعٍ وعشرينَ، كما سَيَأْتي إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.

• واخْتُلِفَ في أوَّلِ السَّبعِ الأواخرِ:

• فمنهُم مَن قالَ: أوَّلُ السَّبعِ ليلةُ ثلاثٍ وعشرينَ على حسابِ نقصانِ الشَّهرِ دونَ تمامِهِ لأنَّهُ المتيقَّنُ. ورُوِيَ هذا عن ابن عَبَّاسٍ، وسَيَأْتي كلامُهُ فيما بعدُ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.

وفي "صحيح البُخارِيِّ": عن بِلالٍ؛ قالَ: إنَّها أوَّلُ السَّبعِ مِن العشرِ الأواخرِ.

[و] خَرَّجَهُ ابنُ أبي شَيْبَةَ وعندَهُ قالَ: ليلةُ ثلاثٍ وعشرينَ.

وهذا قولُ مالكٍ؛ قالَ: أرى - واللهُ أعلمُ - أن التَّاسعةَ ليلةُ إحدى وعشرينَ، والسابعةَ ليلةُ ثلاثٍ وعشرينَ، والخامسةَ ليلةُ خمسٍ وعشرينَ.

وتَأوَّلَهُ عَبْدُ المَلِكِ بنُ حَبيبٍ على أنَّهُ إنَّما يُحْسَبُ كذلكَ إذا كانَ الشَّهرُ ناقصًا، وليسَ هذا بشيءٍ؛ فإنَّهُ إنَّما أمَرَ بالاجتهادِ في هذهِ الليالي على هذا الحسابِ، وهذا لا يُمْكِنُ أن يَكونَ مراعًى بنقصانِ الشَّهرِ في آخرِهِ.

وكانَ أيُّوبُ السُّخْتِيانِيُّ يَغْتَسِلُ [في] ليلةِ ثلاثٍ وعشرينَ ويَمَسُّ طيبًا وليلةِ أربعٍ وعشرينَ، ويَقولُ: ليلةُ ثلاثٍ وعشرينَ ليلةُ أهلِ المدينةِ، وليلةُ أربعٍ وعشرينَ ليلتُنا؛

(1)

في خ: "أنك عن أن تسألني"، والأولى ما أثبتّه من م و ن و ط.

(2)

(ضعيف). تقدّم تفصيله آنفًا، وقد جاء هذا اللفظ من الطريق نفسها، وله العلّة نفسها.

ص: 446

يَعْني: أهلَ البصرةِ.

وكذلكَ كانَ ثابِتٌ وحُمَيْدٌ يَفْعَلانِ.

• وكانَتْ طائفةٌ يَجْتَهِدونَ ليلةَ أربعٍ وعشرينَ.

رُوِيَ عن أنسٍ والحَسَنِ.

ورُوِيَ عنهُ قالَ: رَقَبْتُ الشَّمسَ عشرينَ سنةً ليلةَ أربعٍ وعشرينَ، فكانَتْ تَطْلُعُ لا شعاعَ لها.

ورُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ. ذَكَرَهُ البُخارِيُّ عنهُ. وقيلَ: إنَّ المحفوظَ عنهُ أنَّها ليلةُ ثلاثٍ وعشرينَ كما سَبَقَ.

وقد تَقَدَّمَ حديثُ إنزالِ القرآنِ في ليلةِ أربعٍ وعشرينَ.

وكذلكَ أبو سَعيدٍ الخُدْرِيُّ وأبو ذَرٍّ حَسَبا الشَّهرَ تامًّا، فيَكونُ عندَهُما أوَّلُ السَّبعِ الأواخرِ ليلةَ أربعٍ وعشرينَ.

وممَّن اخْتارَ هذا القولَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ، واسْتَدَلَّ بأنَّ الأصلَ تمامُ الشَّهرِ، ولهذا أمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بإكمالِهِ إذا غُمَّ معَ احتمالِ نقصِهِ. وكذلكَ رَجَّحَه بعضُ أصحابِنا.

وقد تَقَدَّمَ مِن حديثِ أنسٍ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا كانَ ليلةُ أربعٍ وعشرينَ لم يَذُقْ غمضًا

(1)

. وإسنادُهُ ضعيفٌ.

* وقد رُوِيَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ما يَدُلُّ على أن أوَّلَ السَّبعِ البواقي ليلةُ ثلاثٍ وعشرينَ.

ففي "مسند الإمامِ أحْمَدَ": عن جابرٍ؛ أن عَبْدَ اللهِ بنَ أُنَيْسٍ سَألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ليلةِ القدرِ، وقد خَلَتِ اثنتانِ وعشرونَ ليلةً، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"الْتَمِسوها في هذهِ السَّبعِ الأواخرِ التي بَقِينَ مِن الشَّهرِ"

(2)

.

وفيهِ أيضًا: عن عَبْدِ اللهِ بن أُنَيْسٍ؛ أنَّهُم سَألوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ليلةِ القدرِ، وذلكَ

(1)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 427).

(2)

(صحيح لشواهده). رواه: أحمد (3/ 336)، والطحاوي في "المعاني"(3/ 85)؛ من طريق ابن لهيعة، ثنا أبو الزبير، أني جابر، عن عبد الله بن أنيس

رفعه.

قال الهيثمي (3/ 178): "إسناده حسن". قلت: ابن لهيعة لا يستحقّ أن يحسّن له. نعم؛ هو حسن بل صحيح بحديث ابن عمر المتقدّم في الصحيحين وغيره.

ص: 447

مساءَ ليلةِ ثلاثٍ وعشرينَ، فقالَ:"الْتَمِسوها هذهِ الليلةَ". فقالَ رجلٌ مِن القومِ: فهيَ إذنْ يا رسولَ اللهِ أُولى ثمانٍ. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّها ليست بأُولى ثمانٍ، ولكنَّها أُولى سبعٍ، إنَّ الشَّهرَ لا يَتِمُّ"

(1)

.

وفيهِ أيضًا: عن أبي هُرَيْرَةَ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "كم مَضى مِن الشَّهرِ؟ ". قُلْنا: مَضَتْ ثنتانِ وعشرونَ وبَقِيَ ثمانٌ. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا؛ بل مَضَتْ ثنتانِ وعشرونَ، وبَقِيَ سبعٌ، اطْلُبوها الليلةَ"

(2)

.

وقد يُحْمَل هذا على شهرٍ خاصٍّ اطَّلَعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على نقصانِهِ، وهوَ بعيدٌ. ويَدُلُّ على خلافِهِ أنَّهُ رُوِيَ في تمامِ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ: ثمَّ قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "الشَّهرُ هكذا وهكذا وهكذا، ثمَّ خَنَسَ إبهامَهُ في الثَّالثةِ"

(3)

. فهذا يَدُلُّ على أنَّهُ تشريعٌ عامٌ، وأنَّهُ

(1)

(صحيح لشواهده). رواه: أحمد (3/ 495)، وابن نصر في "قيام رمضان"(ص 254)، وابن خزيمة (2185 و 2186)، والطحاوي في "شرح المعاني"(3/ 85 و 86)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(21/ 213 - 214)؛ من طريق محمّد بن إسحاق، عن معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن أخيه عبد الله بن عبد الله بن خبيب، عن عبد الله بن أنيس

رفعه بهذا السياق.

أصل هذا الحديث عند مسلم (1168)، وله طرق أُخرى صحيحة عند غيره، لكنّ هذا السياق لم يأت إلّا من هذا الوجه. وقد صرّح ابن إسحاق بالتحديث عند أحمد فارتفعت شبهة التدليس. لكن المشكل هنا هو عبد الله بن عبد الله بن خبيب؛ فإنّه مجهول، بيّض له البخاري وأبو حاتم وذكره ابن حبّان في "الثقات" برواية أخيه فقط، وقد قيل: كان في عصر عمر رجلًا، وهذا يعني أنّه صحابيّ، لكنّني لم أر من ذكره في الصحابة، وقد حسّن الألباني هذا السند، فكأنه مال إلى إثبات صحبته، وفي القلب من ذلك أشياء.

ولهذا السياق: شاهد عن أنس عند: أبي يعلى (3712)، والضياء في "المختارة"(7/ 170/ 2601)؛ بسند واه. وآخر من حديث أبي هريرة يأتي بعده. فهو صحيح لشواهده. وقد حسّنه الألباني.

(2)

(صحيح). رواه: ابن أبي شيبة (9602)، وأحمد (2/ 251)، وابن ماجه (7 - الصيام، 8 - تسع وعشرون، 1/ 530/ 1656)، وأبو يعلى في "المعجم"(22)، وابن خزيمة (2179)، وابن حبّان (2548)، والحاكم في "المعرفة"(ص 35)؛ من طريق الأعمش، [عن سهيل]، عن أبي صالح، عن أبي هريرة

رفعه.

قال الحاكم: "لم يسمع هذا الحديث الأعمشُ من أبي صالح، وقد رواه عنه أكثر أصحابه هكذا منقطعًا"، ثمّ ذكر الرواية الأُخرى بزيادة سهيل بن أبي صالح بينهما. والحقّ أنّ هذا الدليل ليس بالحاسم، ولا سيّما أنّ زيادة سهيل تفرّد بها أبو مسلم قائد الأعمش وهو ضعيف، فالأولى - على الأقلّ - أن يقال: سمعه على الوجهين، فإن لم يكن كذلك وكان منقطعًا فعلًا فقد عرفت الواسطة هنا وهي ثقة. وقد صحّح الحديث ابن خزيمة وابن حبّان، وقال البوصيري:"على شرط مسلم"، وقال الألباني:"على شرط البخاري".

(3)

(صحيح). جاءت هذه الزيادة في الحديث السابق بالسند المتقدّم نفسه، فلها حكمه.

ص: 448

حَسَبَ الشَّهرَ على تقديرِ نقصانِهِ أبدًا؛ لأَنَّهُ المتيقَّنُ، كما ذَهَبَ إليهِ أيُّوبُ ومالِكٌ وغيرُهُما، وعلى قولِهِما تَكونُ ليلةُ سابعةٍ تَبْقى ليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ، وليلةُ خامسةٍ تَبْقى ليلةَ خمسٍ وعشرينَ، وليلةُ تاسعةٍ تَبْقى ليلةَ إحدى وعشرينَ

(1)

.

وقد رُوِيَ عن النُّعْمانِ بن بَشيرٍ؛ أنَّهُ أنْكَرَ أنْ تُحْسَبَ ليلةُ القدرِ بما مَضى مِن الشَّهرِ، وأخْبَرَ أن الصَّحابةَ يَحْسِبونَها بما بَقِيَ منهُ

(2)

.

وهذا الاحتمالُ إنَّما يَكونُ في مثلِ قولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "الْتَمِسوها في التَّاسعةِ والسَّابعةِ والخامسةِ". وقد خَرَّجَهُ البُخارِيُّ

(3)

مِن حديثِ عُبادَةَ، ومسلمٌ

(4)

مِن حديثِ أبي سَعيدٍ. فإنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بهِ التَّاسعةُ والسَّابعةُ والخامسةُ ممَّا يَبْقى وممَّا يَمْضي.

وأمَّا حديثُ ابن عَبَّاسٍ وأبي بَكْرَةَ وما في معناهُما

(5)

؛ فإنَّها مقيَّدةٌ بالباقي مِن الشَّهرِ، فلا يُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بهِ الماضي، وحينئذٍ يَتَوَجَّهُ الاختلافُ السَّابقُ في أنَّهُ: هل يُحْسَبُ على تقديرِ تمامِ الشَّهرِ أو نقصانِهِ؟

وحديثُ ابن عَبَّاسٍ قد رُوِيَ بالشَّكِّ فيما مَضى أو يَبْقى. وقد خَرَّجَهُ البُخارِيُّ بالوجهين

(6)

.

وحديثُ أبي ذَرٍّ في قيامِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بهِم أفرادَ العشرِ الأواخرِ قد خَرَّجَهُ أبو داوودَ

(1)

وهذا هو التحقيق السليم الذي دلّ عليه حديث أبي ذرّ الصحيح الذي تقدّم (ص 396 - 397).

(2)

الذي ثبت عنه أنّه قالا: "أنتم تقولون ليلة سابعة ثلاث وعشرين، ونحن نقول سابعة سبع وعشرين، فنحن أصوب أم أنتم؟ ". وهذا يدلّ أوّلًا على أنّ حساب آخر الشهر على تقدير نقصانه كان مألوفًا في عصر التابعين. ويدلّ ثانيًا على أنّ طرائق الناس في الحساب في عصر الصحابة والتابعين كانت متفاوتة - فمنهم من كان يحسب اعتمادًا على أوّل الشهر، ومنهم من كان يحسب اعتمادًا على آخره. ودلّ غيره على أنّ من اعتمد آخر الشهر منهم من كان يحسب على تقدير تمامه ومنهم من كان يحسب على تقدير نقصانه. ومن هنا وقعت الخلافات والإشكالات.

(3)

(22 - ليلة القدر، 4 - رفع معرفة ليلة القدر، 4/ 267/ 2023).

(4)

(13 - الصيام، 40 - فضل ليلة القدر، 2/ 827/ 1167).

(5)

وقد تقدّما (ص 444 و 445).

(6)

وقد تقدّم الوجهان (ص 444).

ص: 449

الطَّيالِسِيُّ بلفظٍ صريحٍ أنَّهُ قامَ بهِم أشفاعَ العشرِ الأواخرِ وحَسَبَها أوتارًا بالنِّسبةِ إلى ما يَبْقى مِن الشَّهرِ وقَدَّرَهُ تامًّا وجَعَلَ الليلةَ التي قامَها حتَّى خَشُوا أنْ يَفوتَهُمُ الفلاحُ ليلةَ ثمانٍ وعشرينَ وهيَ الثَّالثةُ ممَّا يَبْقى

(1)

. وقد قيلَ: إنَّ ذلكَ مِن تصرُّفِ بعضِ الرُّواةِ بما فَهِمَهُ مِن المعنى. واللهُ أعلمُ.

* وعلى قياسِ قولِ مَن حَسَبَ اللياليَ الباقيةَ مِن الشَّهرِ على تقديرِ نقصانِ الشَّهرِ يَنْبَغي أنْ يَكونَ عندَهُ أوَّلُ العشرِ الأواخرِ ليلةَ العشرينَ؛ لاحتمالِ أنْ يَكونَ الشَّهرُ ناقصًا، فلا يَتَحَقَّقُ كونُها عشرَ ليالٍ بدونِ إدخالِ ليلةِ العشرينَ فيها. وقد يُقالُ: بلِ العشرُ الأواخرُ عبارةٌ عمَّا بعدَ انقضاءِ العشرينَ الماضيةِ مِن الشَّهرِ، وسواءٌ كانَتْ تامَّةً أو ناقصةً فهيَ المعبَّرُ عنها بالعشرِ الأواخرِ وقيامُها هوَ قيامُ العشرِ الأواخر

(2)

. وهذا كما يُقالُ: صامَ عشرَ ذي الحجَّةِ، وإنَّما يُصامُ منهُ تسعةُ أيَّامٍ، ولهذا كانَ ابنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ أنْ يُقالَ: صامَ عشرَ ذي الحجَّةِ، وقالَ: إنَّما يُقالُ: صامَ التِّسعَ. ومَن لم يَكْرَهْهُ - وهُمُ الجمهورُ - فقد يَقولونَ: الصِّيامُ المضافُ إلى العشرِ هوَ صيامُ ما يُمْكِنُ منهُ، وهوَ ما عدا يومَ النَّحرِ. ويُطْلَقُ على ذلكَ العشرُ لأنَّهُ أكثرُ العشرِ. واللهُ أعلمُ.

• وقدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ في ليلةِ القدرِ اختلافًا كثيرًا:

* فحُكِيَ عن بعضِهِم أنَّها رُفِعَتْ، وحديثُ أبي ذَرٍّ يَرُدُّ ذلكَ

(3)

.

ورُويَ عن مُحَمَّدِ بن الحَنَفِيَّةِ أنَّها في كل سبعِ سنينَ مرَّةٌ. وفي إسنادِهِ ضعفٌ.

وعن بعضِهِم أنَّها في كلِّ السَّنةِ. حُكِيَ عن ابن مَسْعودٍ

(4)

وطائفةٍ مِن الكوفيِّينَ،

(1)

(شاذّ). تقدّم تفصيل القول في طرقه (ص 396 - 397) وبيان شذوذ هذا اللفظ وأنّه رواية بالمعنى من تصرّف الرواة.

(2)

وهذا عين الصواب، والعشر الأواخر إنّما تكون بعد انقضاء العشرَيْن الأوّل والأوسط، سواء كان الباقي تسعة أيّام فقط أو كان عشرة كاملة.

(3)

تقدّم لك (ص 445) أنّ حديث أبي ذرّ هذا ضعيف لا يصلح حجِّة على أخذ ولا ردّ. وأولى من ذلك أن يقال: على صاحب هذه الدعوى أن يورد الدليل عليها، فإن لم يفعل ولن يفعل؛ فدعواه ساقطة ابتداء.

(4)

يريد قوله رضي الله عنه: "من يقم الحولَ يُصِبْها"، وهذا لا يدلّ على أنّه لا يرى أنّها في رمضان، بل الأمر كما قال أبيّ رضي الله عنه:"يرحمَ الله أبا عبد الرحمن [يعني: ابن مسعود]، لقد علم أنّها في رمضان، ولكنّه عمّى على الناس حتّى لا يتّكلوا". وقد صحّ عن ابن مسعود موقوفًا طلبها ليلة سبع عشرة وليلة=

ص: 450

ورُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ.

• وقالَ الجمهورُ: هيَ في رمضانَ كلَّ سنةٍ.

ثمَّ منهُم مَن قالَ: هيَ في الشَّهرِ كلِّهِ.

وحُكِيَ عن بعضِ المتقدِّمينَ أنَّها أوَّلُ ليلةٍ منهُ.

وقالَتْ طائفةٌ: هيَ في النِّصفِ الثَّاني منهُ. و [قد] حُكِيَ عن أبي يوسُفَ ومُحَمَّدٍ.

وقد تَقَدَّمَ قولُ مَن قالَ: إنَّها ليلةُ بدرٍ؛ على اختلافِهِم هل هيَ ليلةُ سبعَ عشرةَ [أ] و تسعَ عشرةَ.

* وقال الجمهورُ: هيَ منحصرةٌ في العشرِ الأواخرِ، واخْتَلَفوا في أيِّ ليالي العشرِ أرجى:

فحُكِيَ عن الحَسَنِ ومالِكٍ أنَّها تُطْلَبُ في جميعِ ليالي العشرِ؛ أشفاعِهِ وأوتارِهِ، ورَجَّحَهُ بعضُ أصحابِنا [و] قالَ: لأنَّ قولَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم "الْتَمِسوها في تاسعةٍ تَبْقى أو سابعةٍ تَبْقى أو خامسةٍ تَبْقى": إن حَمَلْناهُ على تقديرِ كمالِ الشَّهرِ؛ كانَتْ أشفاعًا، وإنْ حَمَلْناهُ على ما يَبْقى منهُ حقيقةً؛ كانَ الأمرُ موقوفًا على كمالِ الشَّهرِ فلا يُعْلَمُ قبلَهُ، فإنْ كانَ تامًّا؛ كانَتِ الليالي المأْمورُ بطلبِها أشفاعًا، وإنْ كانَ ناقصًا؛ كانَتْ أوتارًا. فيُوجِبُ ذلكَ الاجتهادَ في القيامِ في كلا الليلتينِ؛ الشَّفعِ منها والوترِ

(1)

.

وقالَ الأكثرونَ: بل بعضُ لياليهِ أرجى مِن بعضٍ، وقالوا: الأوتارُ أرجى في الجملةِ.

ثمَّ اخْتَلَفوا: في أيِّ أوتارِهِ أرجى:

* فمنهُم مَن قالَ: ليلةُ إحدى وعشرينَ، وهوَ المشهورُ عن الشَّافِعِيِّ؛ لحديثِ

= تسع عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين من رمضان، وقد تقدّم تفصيل القول فيه (ص 409).

(1)

وهذا أعدل الأقوال وأولاها بالاعتماد؛ لأنّه يجمع كافّة النصوص الصحيحة المرفوعة الواردة في الباب. نعم؛ لا ريب أنّ ليالي الوتر أرجى من ليالي الشفع، لكنّ القلب لا يطمئنّ إلى الجزم بوقوع ليلة القدر فيها دون الشفع لأمرين: أوّلهما: ما ذكره المصنّف ممّا جاء من النصوص باعتماد الحساب على ما بقي من الشهر ونحوها ممّا يحتمل التأويل بالأشفاع وإن كان ضعيفًا. والآخر: آحتمال الخطأ بتقدّم يوم أو تأخّر يوم عن البداية الحقيقيّة لرمضان، وهذا مشهود سنويًّا في اختلاف بلدان المسلمين في إثبات هلال رمضان وشوّال.

ص: 451

أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ، وقد ذَكَرْناهُ فيما سَبَقَ.

وحُكِيَ عنهُ أنَّها تُطْلَبُ ليلةَ إحدى وعشرينَ وثلاثٍ وعشرينَ، قالَ في القديمِ: كأنِّي رَأيْتُ - واللهُ أعلمُ - أقوى الأحاديثِ فيهِ ليلةَ إحدى وعشرينَ وليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ. وقد جاءَ في ليلةِ سبعَ عشرةَ وليلةِ أربعٍ وعشرينَ وليلةِ سبعٍ وعشرينَ. انْتَهى.

ورُوِيَ عن عَلِيٍّ وآبنِ مَسْعودٍ أنَّها تُطْلَبُ ليلةَ إحدى وعشرينَ وثلاثٍ وعشرينَ.

• وحُّكِيَ للشَّافِعِيِّ قولٌ آخرُ؛ أن أرجاها ليلةُ ثلاثٍ وعشرينَ - وهذا قولُ أهلِ المدينةِ. وحَكاهُ سفيانُ الثَّوْرِيُّ عن أهلِ مَكَّةَ والمدينةِ. وممَّن رُوِيَ عنهُ أنَّهُ كانَ يوقِظُ أهلَهُ فيها ابنُ عَبَّاسٍ وعائِشةُ. وهوَ قولُ مَكحولٍ.

ورَوى: رِشدينُ بنُ سَعْدٍ، عن زُهْرَةَ بن مَعْبَدٍ؛ قالَ: أصابَني احتلامٌ في أرضِ العدوِّ وأنا في اليحرِ ليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ - في رمضانَ، فذَهَبْتُ لِأغتَسِلَ، فسَقَطْتُ في الماءِ، فإذا الماءُ عذبٌ، فنادَيْتُ أصحابي أُعلِمُهُم أنِّي في ماءٍ عذبٍ

(1)

.

قالَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ: هذهِ الليلةُ تُعْرَفُ بليلةِ الجُهَنِيِّ بالمدينةِ؛ يَعْني: عَبْدَ اللهِ بنَ أُنَيْسٍ. وقد رُوِيَ عنهُ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَرَهُ بقيامِها

(2)

.

وفي "صحيح مسلم"

(3)

عنهُ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في ليلةِ القدرِ: "أُرِيتُ أنِّي أسْجُدُ صبيحتَها في ماءٍ وطينٍ". فانْصَرَفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن صلاةِ الصُّبح يومَ ثلاثٍ وعشرينَ وعلى جيهتِهِ أثرُ الماءِ والطِّينِ.

وقالَ سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في نفرٍ مِن أصحابِهِ، فقالَ:"ألا أُخْبِرُكُم بليلةِ القدرِ؟ ". قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ! فسَكتَ ساعةً، فقالَ:"لقد قُلْتُ لكُم ما قُلْتُ آنفًا وأنا أعْلَمُها، ثمَّ أُنْسِيتُها، أرَأيْتُم يومًا كنَّا بموضعِ كذا وكذا؛ أيُّ ليلةٍ هيَ (في غزوةٍ غَزاها)؟ ". ققالوا: سِرْنا، ققَفَلْنا

حتَّى اسْتَقامَ ملأُ القومِ على أنَّها ليلةُ ثلاثٍ

(1)

رشدين بن سعد ضعيف. ثمّ لو صحّ هذا؛ فأيّ دليل فيه على أنّها ليلة القدر؟! وهل من أدلّة ليلة القدر أن تصبح البحار عذبة؟! وقد تقدّم قبل صفحات أنّهم وجدوا البحر عذبًا ليلة سبع عشرة!

(2)

وقد تقدّم حديث عبد الله بن أنيس من أكثر من وجه. وانظر ما بعده.

(3)

(13 - الصيام، 40 - فضل ليلة القدر، 2/ 827/ 1168).

ص: 452

وعشرينَ

(1)

. خَرَّجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ في "كتابِهِ".

• ورَجَّحَتْ طائفةٌ ليلةَ أربعٍ وعشرينَ، وهمُ الحَسَنُ وأهلُ البصرةِ. وقد رُوِيَ عن أنَسٍ.

وكانَ حُمَيْدٌ وأيُّوبُ وثابِتٌ يَحْتاطونَ فيَجْمَعونَ بينَ الليلتينِ؛ أعْني: ليلةَ ثلاثٍ وأربعٍ.

• ورَجَّحَتْ طائفةٌ ليلةَ سبعٍ وعشرينَ، وحَكاهُ الثَّوْرِيُّ عن أهلِ الكوفةِ، فقالَ: نحنُ نَقولُ: هيَ ليلةُ سبعٍ وعشرينَ؛ لما جاءَنا عن أُبَيِّ بن كَعْبٍ.

وممَّن قالَ بهذا أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ - وكانَ يَحْلِفُ عليهِ ولا يَسْتَثْني - وزِرُّ بنُ حُبَيْشٍ وعَبْدَةُ بنُ أبي لُبابَةَ.

ورُوِيَ عن قَنانِ بن عَبْدِ اللهِ النَّهْمِيِّ

(2)

؛ قالَ: سَألْتُ زِرًّا عن ليلةِ القدرِ. فقالَ: كانَ عُمَرُ وحُذَيْفَةُ وأُناسٌ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم لا يَشُكُّونَ أنَّها ليلةُ سبعٍ وعشرينَ. خَرَّجَهُ ابنُ أبي شيْبَةَ. وهوَ قولُ أحْمَدَ وإسحاقَ.

وذَهَبَ أبو قِلابَةَ وطائفةٌ إلى أنَّها تَنْتَقِلُ في ليالي العشرِ. ورُوِيَ عنهُ أنَّها تَنْتَقِلُ في أوتارِهِ خاصَّةً. وممَّن قالَ بانتقالِها في ليالي العشرِ المُزَنيُّ وابنُ خُزَيْمَةَ، وحَكاهُ ابنُ عَبْدِ البَرِّ عن مالِكٍ والثَّوْرِيِّ والشَّافِعِيِّ وأحْمَدَ وإسْحاقَ وأبي ثَوْرٍ

(3)

. وفي صحَّةِ ذلكَ عنهُم بعدٌ، وإنَّما قولُ هؤلاءِ أنَّها في العشرِ وتُطْلَبُ في لياليهِ كلِّهِ، واخْتَلَفوا في أرجى لياليهِ كما سَبَقَ.

(1)

(حسن لشواهده). رواه: عبد الرزّاق (7687)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(2/ 202) معلّقًا؛ عن ابن جريج، أني يونس بن يوسف، عن ابن المسيّب

رفعه.

وهذا مرسل صحيح، وقد احتجّ جماعة من أهل العلم بمرسلات ابن المسيّب، وفي كلّ حال فنسيانه صلى الله عليه وسلم لليلة القدر وكونها ليلة ثلاث وعشرين قد جاءا من غير وجه كما تقدّم، فالحديث حسن بهذه الشواهد.

(2)

في خ: "عباد بين عبد الله السهمي"، وفي م:"قنان بن عبد الله السهمي"، وفي ن:"قتادة بن عبد الله السهمي"، والصواب ما أثبتّه من ط. والرجل صدوق من رجال "التهذيب".

(3)

وهذا قول تدعمه الأدلّة المتكاثرة؛ فقد صحّ عند الشيخين أنّ ليلة القدر وقعت مرّة ليلة إحدى وعشرين ومرّة ليلة ثلاث وعشرات. فلو كانت ثابتة؛ لما تغيّرت بين عام وعام أوّلًا، ولاكتفى النبيّ صلى الله عليه وسلم بتحرّيها والأمر بتحرّيها في هاتين الليلتين، ولما أمر بتحرّيها في السبع الأواخر.

ص: 453

واسْتَدَلَّ مَن رَجَّحَ ليلةَ سبعٍ وعشرينَ بأنَّ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ كانَ يَحْلِفُ على ذلكَ ويَقولُ: بالآيةِ أو بالعلامةِ التي أخْبَرَنا بها رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن الشَّمسَ تَطْلُعُ صبيحتَها لا شعاعَ لها. خَرَّجَهُ مسلمٌ

(1)

.

وخَرَّجَهُ أيضًا

(2)

بلفظٍ آخرَ عن أُبَيِّ بن كَعْبٍ؛ قالَ: واللهِ؛ إنِّي لأعلمُ أيَّ ليلةٍ هيَ، هيَ الليلةُ التي أمَرَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بقيامِها، وهيَ ليلةُ سبعٍ وعشرينَ

(3)

.

وفي "مسند [الإمام أحْمَدَ] ": عن ابن عَبَّاسٍ؛ أن رجلًا قالَ: يا رسولَ اللهِ! إنِّي شيخٌ كبيرٌ عليلٌ يَشُقُّ عليَّ القيامُ، فمُرْني بليلةٍ [لعلَ الله]

(4)

يُوَفِّقُني فيها لليلةِ القدرِ. قالَ: "عليكَ بالسَّابعةِ"

(5)

. وإسنادُهُ على شرطِ البُخارِيِّ.

ورَوى الإمامُ أحْمَدُ أيضًا، قالَ: حَدَّثَنا يَزيدُ بنُ هارونَ، أنْبَأنا شُعْبَةُ، عن عَبْدِ اللهِ بن دينارٍ، عن ابن عُمَرَ؛ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن كانَ منكُم متحرِّيَها؛ فلْيَتَحَرَّها ليلةَ سبعٍ وعشرينَ (أو قالَ: تَحَرَّوْها ليلةَ سبعٍ وعشرينَ) "؛ يَعْني: ليلةَ القدرِ. ورَواهُ شَبابَةُ ووَهْبُ بنُ جَريرٍ عنْ شُعْبَةَ مثلَهُ. ورَواهُ أسْوَدُ بنُ عامِرٍ عن شُعْبَةَ مثلَهُ وزادَ: "في السَّبعِ البواقي". قالَ شُعْبَةُ: وأخْبَرَني رجلٌ ثقةٌ عن سُفْيانَ أنَّهُ إنَّما قالَ: "في السَّبعِ البواقي"؛ يَعْني: لم تقُلْ ليلةَ سبعٍ وعشرينَ. قالَ أحْمَدُ في روايةِ ابنِهِ صالحٍ: الثِّقةُ هوَ

(1)

(13 - الصيام، 40 - ليلة القدر، 2/ 828/ 762).

(2)

(الموضع السابق، بعده).

(3)

وهذان الحديثان يدلّان على أنّ أُبيّ بن كعب لم يسمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين بالتحديد، وإنّما استدل عليها استدلالًا بمراقبة الشمس، وليس هذا بالدليل الحاسم، ولم يتبيّن لي المقصود بطلوع الشمس بغير شعاع وكيف يدرك ذلك بصورة دقيقة تقطع الشكّ باليقين، وما رأيت من الناس في هذا الأمر إلّا التخبّط: هذا يقول طلعت بغير شعاع ليلة سبع وعشرين، وهذا يقول ليلة ثلاث وعشرين

(4)

ليست في خ و م و ن، وأضفتها من ط و"المسند" ليستقيم السياق.

(5)

(حسن). رواه: أحمد (1/ 240)، والطبراني (11/ 246/ 11836)، وابن عدي (6/ 2426)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 230)، والبيهقي في "السنن"(4/ 312) و"الشعب"(3688)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(21/ 212)، والخطيب في "التاريخ"(10/ 4701)، ؤالذهبي في "النبلاء"(11/ 356، 14/ 444) و"التذكرة"(2/ 432)؛ من طريق معاذ بن هشام، ثني أبي، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عبّاس

رفعه.

قال الهيثمي (3/ 179): "رجاله رجال الصحيح". قلت: ثقات رجال الشيخين؛ إلّا معاذًا، فصدوق يهم من رجال الشيخين أيضًا، فالسند حسن.

ص: 454

يَحْيى بنُ سَعيدٍ. قالَ شُعْبَةُ: فلا أدري أيَّهما قالَ. ورَواهُ عَمْرٌو عن شُعْبَةَ وقالَ في حديثِهِ: "ليلةَ سبعٍ وعشرينَ (أو قالَ: في السَّبعِ الأواخرِ) "؛ بالشَّكِّ، فرَجَعَ الأمرُ إلى أن شُعْبَةَ شَكَّ في لفظِهِ

(1)

.

ورَواهُ: حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ ج عن أيُّوبَ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَرَ؛ قالَ: كانوا لا يَزالونَ يَقُصُّونَ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّها الليلةُ السابعةُ مِن العشرِ الأواخرِ، فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أرى رؤياكُم أنَّها قد تَواطَأتْ أنَّها ليلةُ السَّابعةِ في العشرِ الأواخرِ، فمَن كانَ متحرِّيَها فلْيَتَحَرَّها ليلةَ

(2)

السَّابعةِ مِن العشرِ الأواخرِ"

(3)

. كذا رَواهُ حَنْبَلُ بنُ إسْحاقَ عنْ عارِمٍ عنْ حَمَّادٍ. وكذا خَرَّجَهُ الطَّحاوِيُّ عنْ إبْراهيمَ بن مَرْزوقٍ عنْ عارِمٍ. ورَواهُ البُخارِيُّ في "صحيحه" عنْ عارِمٍ؛ إلَّا أنَّهُ لم يَذْكُرْ لفظةَ "ليلة السَّابعةِ"، بل قالَ:"مَن كانَ متحرِّيَها؛ فليَتَحَرَّها في العشرِ الأواخرِ".

ورَواهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ في "كتابِهِ" عن: مَعْمَرٍ، عن أيُّوبَ، عن نافعٍ، عن ابن عُمَرَ؛ قالَ: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: يا رسولَ اللهِ! إنِّي رَأيْتُ في النَّومِ ليلةَ القدرِ كأنَّها ليلةُ سابعةٍ. فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي أرى رؤياكُم قد تَواطَأتْ أنَّها ليلةُ سابعةٍ، فمَن كانَ متحرِّيَها [منكُم] فلْيَتَحَرَّها في ليلةِ سابعةٍ". قالَ مَعْمَرٌ: فكانَ أيُّوبُ يَغْتَسِلُ في ليلةِ ثلاثٍ وعشرينَ. يُشيرُ إلى أنَّهُ حَمَلَها على سابعةٍ تَبْقى

(4)

.

وخَرَّجَهُ الثَّعْلَبِيُّ في "تفسيرِهِ" مِن طريقِ: الحَسَنِ بن عَبْدِ الأعْلى، عنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ

بهذا الإسنادِ، وقالَ في حديثِهِ:"ليلةُ سابعةٍ تَبْقى". فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إنِّي أرى رؤياكُم قد تَواطَأتْ على ثلاثٍ وعشرينَ، فمَن كانَ منكُم يُريدُ أنْ يَقومَ مِن الشَّهرِ شيئًا، فلْيَقُمْ ليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ"

(5)

. وهذهِ الألفاظُ غيرُ محفوظةٍ في الحديثِ

(6)

(1)

(رواية شعبة شاذّة). وسيأتيك التفصيل قريبًا. وفي خ: "فيرجع الأمر

" إلخ.

(2)

في خ: "فليتحرّها في ليلة"، والأولى ما أثبتّه من م و ن و ط.

(3)

(شاذ). وسيأتيك التفصيل قريبًا.

(4)

(شاذّ). وسيأتيك التفصيل قريبًا.

(5)

(شاذّ). وانظر ما بعده.

(6)

وهذا كلام طويل لا بدّ لي فيه من بعض التهذيب والترتيب لكي يتّضح الحال وينجلي الإشكال، =

ص: 455

واللهُ أعلمُ.

وفي "سنن أبي داوود" بإسنادٍ رجالُهُ كلُّهُم رجالُ الصَّحيحِ: عن مُعاوِيَةَ، عن النَّبيِّ

= فأقول: روى حديث ابن عمر هذا ستّة واختلفوا فيه على وجوه:

روى أوّلها: مسلم (1165) وغيره من طريق عقبة بن حريث (ثقة)، سمعت ابن عمر، قال صلى الله عليه وسلم:"التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبنّ عن السبع البواقي". وهذا رأس الباب؛ لأنّه يدلّ على أنّ السبع والعشر محفوظين عن ابن عمر.

وروى الثاني والثالث مسلم (1165) وغيره من طريق جبلة ومحارب (ثقتان)، سمعا ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر"، أو قال:"في التسع الأواخر". والتسع هنا محرّفة عن السبع، دلّ على ذلك أنّ شيخ مسلم في هذا الحديث - وهو ابن أبي شيبة - روى هذا الحديث نفسه في "المصنّف" (8863 و 9524) فقال:"السبع الأواخر"، وبهذا التحقيق يتطابق هذا الوجه مع ما قبله.

وروى الرابع: البخاري (6991)، ومسلم (1165)، وغيرهما؛ من طريق الزهريّ، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"التمسوها في (قال البخاري: السبع، وقال مسلم: العشر) الغوابر". وكلا الروايتين تتطابقان مع ما تقدّم.

وروى الخامس: ابن أبي شيبة (8862 و 9542)، وأحمد (2/ 62 و 74)، ومسلم (1165)، والنسائي في "الكبرى"(7147 - تحفة)، والطحاوي (3/ 84 و 87)، وابن حبّان (3681)؛ من طرق خمس قويّة، عن عبد الله بن دينار، سمعت ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ قال:، تحرّوها في السبع (وقال الثوري: العشر) الأواخر". وهذا يطابق الروايات المتقدّمة.

وخالفهم شعبة فيما رواه: الطيالسي (1888)، وأحمد (2/ 27 و 157) وفي "العلل"(5923)، وعبد بن حميد (893)، وعبد الله بن أحمد (2/ 157)، والطحاوي (3/ 91)، والبيهقي (4/ 311)، وابن عبد البرّ (17/ 85)؛ عنه، عن ابن دينار، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:"تحروها ليلة سبع وعشرين". ثمّ شكّ شعبة هل هو ليلة سبع وعشرين أو هو في السبع الأواخر. وهذا شاذّ: خالف فيه شعبة جماعة الرواة عن عبد الله بن دينار وفيهم مالك والثوري، وخالف جماعة الرواة عن ابن عمر، وهو مع ذلك شاكّ متردّد.

وروى السادس: مالك (1/ 321)، وأحمد (2/ 17)، والبخاري (2015)، ومسلم (1165)، والنسائي في "الكبرى"(3398 و 3399 و 7628)، والطحاوي (3/ 85 و 91)، وابن حبّان (3675)، والبيهقي في "السنن"(4/ 310) و"الشعب"(3677)؛ من طرق خمس قويّة، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:"التمسوها في السبع الأواخر". وهذا يطابق ما تقدّم.

ورواه أيّوب من هذا الوجه فاختلف عليه فيه على ثلاثة أوجه: روى أوّلها: أحمد (2/ 5) من طريق إسماعيل، وابن خزيمة (2182) من طريق عبد الوارث؛ كلاهما عن أيّوب، عن نافع، عن ابن عمر

به باللفظ المتقدّم قبله. وروى الثاني: عبد الرزاق (7688)، عن معمر، عن أيّوب

باللفظ الذي ذكره المصنف. وروى الثالث: الثعلبيّ في "التفسير" باللفظ الذي ذكره المصنّف. والراجح هنا هو الوجه الأوّل: لاجتماع إسماعيل بن علية وعبد الوارث بن سعيد الثقتين الثبتين الإمامين عليه ولموافقتهما لرواية الجماعة عن نافع، بخلاف رواية عبد الرزّاق - الذي عمي وتغيّر - عن معمر - الذي تكلّموا في بعض حديثه - التي جاءت مضطربة على وجهين ومخالفة لرواية الثقتين عن أيّوب والجماعة عن نافع وهذا حدّ الشذوذ.

ص: 456

- صلى الله عليه وسلم؛ في ليلةِ القدرِ: "ليلةُ سبعٍ وعشرينَ"

(1)

. وخَرَّجَهُ ابنُ حِبَّانَ في "صحيحِهِ"، وصَحَّحَهُ ابنُ عَبْدِ البَرِّ، ولهُ علَّةٌ، وهيَ وقفُهُ على معاويةَ، وهوَ أصحُّ عندَ الإمامِ أحْمَدَ والدَّارَقُطْنِيِّ. وقدِ اخْتُلِفَ أيضًا عليهِ في لفظِهِ.

وفي "المسند": عن ابن مَسْعودٍ؛ أن رجلًا أتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: متى ليلةُ القدرِ؟ فقالَ: "مَن يَذْكُرُ منكُم ليلةَ الصَّهباواتِ؟ ". قالَ عَبْدُ اللهِ: أنا؛ بأبي أنتَ وأُمِّي، وإنَّ في يدي لتَمراتٍ أتَسَحَّرُ بهنَّ مستترًا بمؤخرةِ رحلي مِن الفجرِ، وذلكَ حينَ طَلَعَ [القمرُ]

(2)

. وخَرَّجَهُ يَعْقوبُ بنُ شَيْبَةَ في "مسندِهِ" وزادَ: "وذلكَ ليلةَ سبعٍ وعشرينَ"

(3)

. وقالَ: صالحُ الإسنادِ. والصَّهباواتُ موضعٌ بقربِ خَيْبَرَ.

وفى "المسند" أيضًا مِن وجهٍ آخرَ: عن أبنِ مَسْعودٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "إنَّ ليلةَ

(1)

(صحيح). رواه شعبة واختلف عليه فيه على وجهين: روى أوّلهما: ابن أبي شيبة (9537) من طريق عفّان، والبيهقي (4/ 312) من طريق أبي داوود الطيالسي؛ كلاهما عن شعبة، عن قتادة، عن مطرّف، عن معاوية

به موقوفا لكن جاء عند ابن أبي شيبة: "ليلة ثلاث وعشرين". وروى الثاني: أبو داوود (2 - الصلاة، 223 - من قال ليلة سبع وعشرين، 1/ 441/ 1386)، وابن نصر في "قيام رمضان"(ص 253)، والطحاوي (3/ 93)، وابن حبّان (3680)، والطبراني (19/ 349/ 813)، والبيهقي (4/ 312)؛ من طريق عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة، عن قتادة، سمع مطرّفا، سمع معاوية

رفعه، وهذا سند رجاله ثقات رجال الشيخين، والرفع فيه زيادة ثقة يتعيّن القبول بها على طريقة المتأخّرين، وترجيح أحمد والدارقطني للوقف بالنظر إلى الأكثر أو الأوثق على طريقة المتقدّمين.

ورواه: ابن نصر في "قيام رمضان"(ص 253)، وابن حبّان (3661)، والطبراني (19/ 349/ 814)؛ من طريق الجريري، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير وأخطأ الراوي عن الجريري عند ابن نصر أو تحرّف يزيد إلى بريدة، [عن مطرّف]، عن معاوية

رفعه. وهذا سند صحيح من جيد حديث الجريري فقد رواه عنه خالد بن عبد الله عند الطبراني وابن حبّان وسماعه منه قديم.

فالطريق الثانية ترفع الإشكال المتقدّم في السند والمتن وتصحّح الحديث، وقد سكت عنه المنذري وصحّحه ابن حبّان وابن عبد البرّ والألباني.

(2)

(ضعيف). رواه: الطيالسي (329)، وأحمد (1/ 376 و 396 و 452)، ويعقوب بن شيبة في "مسنده"(457 - لطائف المعارف)، وأبو يعلى (5393)، والطحاوي في "المعاني"(3/ 93)، والطبراني (10/ 152/ 10289)، والبيهقي (4/ 312)؛ من طرق، عن المسعودي، عن سعيد بن عمرو بن جعدة، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود

رفعه.

قال الهيثمي (3/ 178): "أبو عبيدة لم يسمع من أبيه". قلت: والمسعودي مخلّط.

(3)

(ضعيف). هو قطعة من الحديث المتقدّم قبله فله حكمه.

ص: 457

القدرِ في النِّصفِ مِن السَّبعِ الأواخرِ مِن رمضانَ"

(1)

.

وإذا حَسَبْنا أوَّلَ السَّبعِ الأواخرِ ليلةَ أربعٍ وعشرينَ؛ كانَتْ ليلةُ سبعٍ وعشرينَ نصفَ السَّبعِ؛ لأنَّ قبلَها ثلاثُ ليالٍ وبعدَها ثلاثُ ليالٍ.

وممَّا يُرَجِّحُ أن ليلةَ القدرِ ليلةُ سبعٍ وعشرينَ أنَّها مِن السَّبعِ الأواخرِ التي أمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالتماسِها فيها بالاتِّفاقِ. وفي دخولِ الثَّالثةِ والعشرينَ في السَّبعِ اختلافٌ سَبَقَ ذكرُهُ، ولا خلافَ أنَّها آكَدُ مِن الخامسةِ والعشرينَ.

وممَّا يَدُلُّ على ذلكَ أيضًا حديثُ أبي ذَرٍّ في قيامِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بهِم في أفرادِ السَّبعِ الأواخرِ، وأنَّهُ قامَ بهِم في الثَّالثةِ والعشرينَ إلى ثلثِ الليلِ، وفي الخامسةِ إلى نصفِ الليلِ، وفي السَّابعةِ إلى آخرِ الليلِ حتَّى خَشُوا أنْ يَفوتَهُمُ الفلاحُ، وجَمَعَ أهلَهُ ليلتئذٍ وجَمَعَ النَّاسَ

(2)

.

وهذا كلُّهُ يَدُلُّ على تأكُّدِها على سائرِ أفرادِ السَّبعِ والعشرِ

(3)

.

وممَّا يَدُلُّ على ذلكَ

(4)

ما اسْتَشْهَدَ بهِ ابنُ عَبَّاسٍ بحضرةِ عُمَرَ والصَّحابةُ معَهُ

(1)

(ضعيف). رواه: الطيالسي (394)، وابن أبي شيبة (8665 و 9509)، وأحمد (1/ 406 و 457)، والبخاري في "الكنى"(ص 62)، وبحشل في "التاريخ"(1/ 89) تعليقًا، وأبو يعلى (5371)، وابن أبي حاتم في "العلل"(777) تعليقًا، والشاشي في "المسند"(863)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(2/ 207)؛ من طريقين، عن أبي عقرب الأسدي، عن ابن مسعود

رفعه.

قال الهيثمي (3/ 177): "أبو عقرب لم أجد من ترجمه". قلت: مجهول. والطريقان إليه ضعيفتان: في إحداهما أبو الصلت بيّاع الزاد مجهول، وفي الأخرى أبو خالد الدالاني ليّن مدلّس وقد عنعن.

(2)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 396 - 397).

(3)

فيه نظر من أوجه: أوّلها: أن أدلّة وقوعها ليلة إحدى وثلاث وعشرين أقوى وأصحّ ولذلك خرّجها الشيخان. والثاني: أنّ أكثر أدلّة وقوعها ليلة سبع وعشرين اجتهاديّة من الصحابة والتابعين غير مرفوعة بخلاف ليلة إحدى وثلاث وعشرين. والثالث: أن أقوى ما جاء في ليلة سبع وعشرين مرفوعًا حديث أبي ذرّ ومعاوية: فأمّا حديث أبي، ذرّ؛ فغير صريح في وقوعها ليلة سبع وعشرين فمن الممكن أن تكون في ليلة تسع وعشرين ومن الممكن أن تكون في تلك السنة على الخصوص ليلة سبع وعشرين. وأمّا حديث معاوية؛ فقد تكلّموا في سنده ومتنه، ونصّ ابن حبّان (3661) يدلّ على أنّ معاوية لم يذكر ليلة سبع وعشرين على سبيل التحديد بل على سبيل الإضافة على من خصّ ليلة القدر بإحدى وثلاث وخمس وعشرين.

(4)

وليس فيه دليل حقيقة ولا إشارة إلى أن ليلة القدر هي الليلة السابعة والعشرون كما سيأتيك قريبًا من كلام المصنف نفسه يرحمه الله.

ص: 458

وَاسْتَحْسَنَهُ عُمَرَ

(1)

، وقد رُوِيَ مِن وجوهٍ متعدِّدةٍ:

فرَوى عَبْدُ الرَّزَّاقِ في "كتابِهِ": عن مَعْمَرٍ، عن قَتادَةَ وعاصِمٍ؛ أنَّهُما سَمِعا عِكْرِمَةَ يَقولُ: قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: دَعا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ أصحابَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فسَألَهُم عن ليلةِ القدرِ، فأجْمَعوا على أنَّها في العشرِ الأواخرِ. قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فقُلْتُ لعُمَرَ: إنِّي لأعلمُ (أو: إنِّي لأظُنُّ) أيُّ ليلةٍ هيَ. قالَ عُمَرُ: وأيُّ ليلةٍ هيَ؟ قُلْتُ: سابعةٌ تَمْضي أو سابعةٌ تَبْقى مِن العشرِ الأواخرِ. فقالَ عُمَرُ: ومِن أينَ عَلِمْتَ ذلكَ؟ قالَ: فقُلْتُ: إنَّ الله خَلَقَ سبعَ سماواتٍ، وسبعَ أرضينَ، وسبعةَ أيَّامٍ، وإنَّ الدَّهرَ يَدورُ على سبعٍ، وخَلَقَ اللهُ الإنسانَ مِن سبعٍ، ويَأْكُلُ مِن سبعٍ، ويَسْجُدُ على سبعٍ، والطَّوافُ بالبيتِ سبعٌ، ورميُ الجمارِ سبعٌ

لأشياءَ ذَكَرَها. فقالَ عُمَرُ: لقد فَطِنْتَ لأمرٍ ما فَطِنَّا لهُ.

وكانَ قَتادَةُ يَزيدُ عن ابن عَبَّاسٍ في قولِهِ "يَأْكُلُ مِن سبعٍ"؛ قالَ: هوَ قولُ اللهِ عز وجل: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا

} الآيةَ [عبس: 27 - 31].

ولكنْ في هذهِ الرِّوايةِ أنها في سبعٍ تَمْضي أو تَبْقى بالتَّرديدِ في ذلكَ.

وخَرَّجَهُ ابنُ شاهِينَ مِن روايةِ: عَبْدِ الواحِدِ بن زيادٍ، عن عاصِمٍ الأحْوَلِ، حَدَّثَني لاحِقُ بنُ حُمَيْدٍ وعِكْرِمَةُ؛ قالا: قالَ عُمَرُ: مَن يَعْلَمُ ليلةَ القدرِ؟ فذَكَرَ الحديثَ بنحوِهِ، وزادَ أن أبنَ عَبَّاسٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هيَ في العشرِ، في سبعٍ تَمْضي أو سبعٍ تَبْقى"

(2)

، فخالَفَ في إسنادِهِ وجَعَلَهُ مرسلًا ورَفَعَ آخرَهُ.

رَوى ابنُ عَبْدِ البَرِّ بإسنادٍ صحيح مِن طريقِ سَعيدِ بن جُبَيْرٍ؛ قالَ: كانَ ناسٌ مِن المهاجرينَ وَجَدوا على عُمَرَ في إدنائِهِ ابنَ عَبَّاسٍ، فجَمَعَهُم، ثمَّ سَألَهُم عن ليلةِ القدرِ، فأكْثَروا فيها، فقالَ بعضهُم: كنَّا نَراها في العشرِ الأوسطِ، ثمَّ بَلَغَنا أنَّها في العشرِ الأواخرِ، فأكْثَروا فيها، فقالَ بعضُهُم: ليلةُ إحدى وعشرينَ، وقالَ بعضُهُم: ليلةُ ثلاثٍ وعشرينَ، وقالَ بعضُهُم: ليلةُ سبعٍ وعشرينَ. فقالَ عُمَرُ: يا ابنَ عَبَّاسٍ! تَكَلَّمْ. فقالَ:

(1)

في م و ن: "بمحضر عمر والصحابة معه واستحسنه عمر".

(2)

روى هذا الشقّ المرفوع البخاري (32 - ليلة القدر، 3 - تحرّي ليلة القدر، 4/ 260/ 2022) من هذه الطريق نفسها.

ص: 459

اللهُ أعلمُ. قالَ عُمَرُ: قد نَعْلَمُ أن الله يَعْلَمُ، وإنَّما نَسْألُكَ عن علمِكَ. فقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إنَّ الله وترٌ يُحِبُّ الوترَ، خَلَقَ مِن خلقِهِ سبعَ سماواتٍ فاسْتَوى عليهِنَّ، وخَلَقَ الأرضَ سبعًا، وجَعَلَ عدَّةَ الأيَّامِ سبعًا، ورميَ الجمارِ سبعًا، وخَلَقَ الإنسانَ مِن سبعٍ، وجَعَلَ رزقَهُ مِن سبعٍ. فقالَ عُمَرُ: خَلَقَ الإنسانَ مِن سبعٍ وجَعَلَ رزقَهُ مِن سبعٍ هذا أمرٌ ما فَهِمْتُهُ. فقالَ: إنَّ الله يَقولُ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} حتَّى بَلَغَ آخرَ الآياتِ [المؤمنون: 12 - 14]. وقَرَأ: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا. وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا

} إلى قولهِ: {وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 25 - 32]. ثمَّ قالَ: والأبُّ للدَّوابِّ.

وخَرَّجَهُ ابنُ سَعْدٍ في "طبقاتِهِ" عن: إسْحاقَ الأزْرَقِ، عن عَبْدِ المَلِكِ بن أبي سُلَيْمانَ، عن سَعيدِ بن جُبَيْرٍ

فذَكَرَهُ بمعناهُ، وزادَ في آخرِهِ: قالَ: وأمَّا ليلةُ القدرِ؛ فما نَراها إنْ شاءَ اللهُ إلَّا ليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ يَمْضِينَ [أ] و سبعٍ يَبْقَيْنَ.

والظَّاهرُ أن هذا سَمِعَهُ سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ مِنِ ابن عَبَّاسٍ فيَكونُ متَّصلًا.

ورَوى: عاصِمُ بنُ كُلَيْبٍ، عن أبيهِ، عن ابن عَبَّاسٍ؛ قالَ: دَعا عُمَرُ الأشياخَ مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ذاتَ يومٍ، فقالَ لهُم: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ في ليلةِ القدرِ مما قد عَلِمْتُمُ "الْتَمِسوها في العشرِ الأواخرِ وترًا"

(1)

، ففي أيِّ الوترِ تَرَوْنَها؟ فقالَ رجلٌ برأْيِهِ: إنَّها تاسعةٌ، سابعةٌ، خامسةٌ، ثالثةٌ. فقالَ: يا ابنَ عَبَّاسٍ! تَكَلَّمْ. قالَ: قُلْتُ: أقولُ

(1)

(صحيح). رواه: ابن أبي شيبة (8670 و 9527)، وإسحاق في "مسنده"(4/ 262 - فتح)، وأحمد (1/ 14 و 43)، والبزّار (210)، وابن نصر في "قيام رمضان"(ص 252)، وأبو يعلى (165 و 168)، وابن خزيمة (2172 و 2173) والإسماعيلي في "مسند عمر"(30 - 33)، والحاكم (1/ 437 - 438)، والبيهقي في "السنن"(4/ 313) و"الشعب"(3686)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(2/ 210)، والضياء في "المختارة"(1/ 276/ 166 - 167)؛ من طرق، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عبّاس، عن عمر

رفعه مع القصّة وبدونها. قال الحاكم: "على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي (3/ 177):"رجال أبي يعلى ثقات". قلت: لم يرو مسلم لكليب أبي عاصم شيئًا، وهو صدوق حسن الحديث، فالسند كذلك.

ورواه أيضًا: ابن خزيمة (2174)، والحاكم (1/ 438)؛ من طريق قويّة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس

مثله. وهذا سند قويّ.

والحديث صحيح بمجموع طريقيه، وقد صحّحه الحاكم والذهبي والهيثمي والألباني.

ص: 460

برأْيي؟ قالَ: عن رأْيِكَ أسْألُكَ. قُلْتُ: إنِّي سَمِعْتُ الله أكثرَ مِن ذكرِ السَّبعِ

وذَكَرَ باقيَهُ بمعنى ما تَقَدَّمَ. وفي آخرِهِ: قالَ عُمَرُ: أعَجَزْتُمْ أنْ تَقولوا مثلَ ما قالَ هذا الغلامُ الذي لم تَسْتَوِ شؤونُ رأْسِهِ؟! خَرَّجَهُ الإسْماعيلِيُّ في "مسند عُمَر" والحاكِمُ وقالَ: صحيحُ الإسنادِ.

وخَرَّجَهُ الثَّعْلَبِيُّ في "تفسيرِهِ" وزادَ: قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: فما أراها إلَّا ليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ لسبعٍ يَبْقَيْنَ.

وخَرَّجَ عَلِيُّ بنُ المَدِينِيِّ في كتابِ "العلل" المرفوعَ منهُ وقالَ: هوَ صالحٌ، وليسَ ممَّا يُحْتَجُّ بهِ

(1)

.

ورَوى: مُسْلِمٌ المُلائِيُّ - وهوَ ضعيفٌ -، عن مُجاهِدٍ، عن ابن عَبَّاسٍ؛ أن عُمَرَ قالَ لهُ: أخْبِرْني برأْيِكَ عن ليلةِ القدرِ

فذَكَرَ معنى ما تَقَدَّمَ. وفيهِ أن ابنَ عَبَّاسٍ قالَ: لا أراها إلَّا في سبعٍ يَبْقَيْنَ مِن رمضانَ. فقالَ عُمَرُ: وافَقَ رَأْيي رأْيَكَ.

ورُوِيَ بإسنادٍ فيهِ ضعفٌ عن: مُحَمَّدِ بن كَعْبٍ، عن ابن عَبَّاسٍ: أن عُمَرَ جَلَسَ في رهطٍ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فتَذاكَروا ليلةَ القدرِ

فذَكَرَ معنى ما تَقَدَّمَ، وزادَ فيهِ عن ابن عَبَّاسٍ أنَّهُ قالَ: وأُعْطِيَ مِن المثاني سبعًا، ونَهى في كتابِهِ عن نكاحِ الأقربينَ عن سبعٍ، وقَسَمَ الميراثَ في كتابِهِ على سبعٍ، ونَقَعُ في السُّجودِ مِن أجسادِنا على سبعٍ. وقالَ: فأُراها في السَّبعِ الأواخرِ مِن رمضانَ.

وليسَ في شيءٍ مِن هذهِ الرِّواياتِ أنَّها ليلةُ سبعٍ وعشرينَ جزمًا، بل في بعضِها التَّرديدُ بينَ ثلاثٍ وسبعٍ، وفي بعضِها أنَّها ليلةُ ثلاثٍ وعشرينَ؛ لأنَّها أوَّلُ السَّيعِ الأواخرِ على رأْيِهِ

(2)

.

وقد صَحَّ عن ابن عَبَّاسٍ أنَّهُ كانَ يَنْضَحُ على أهلِهِ الماءَ ليلةَ ثلاثٍ وعشرينَ. خَرَّجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ. وخَرَّجَهُ ابنُ أبي عاصِمٍ مرفوعًا

(3)

، والموقوفُ أصحُّ.

(1)

بالنسبة لسنده في "العلل"، وقد تبيّن لك ممّا تقدّم أنّ له أسانيد صحيحة تصلح للحجّة.

(2)

وفي بعضها أنّها في السبع الأواخر عمومًا.

(3)

(منكر مرفوعًا صحيح موقوفًا). رواه: ابن أبي عاصم (461 - لطائف)، والطبراني (11/ 104=

ص: 461

وقدِ اسْتَنْبَطَ طائفةٌ مِن المتأخِّرينَ مِن القرآنِ أنَّها ليلةُ سبعٍ وعشرينَ مِن موضعينِ:

أحدُهُما: أن الله تَعالى كَرَّرَ ذكرَ ليلةِ القدرِ في سورةِ القدرِ في ثلاثـ[ـــــةِ] مواضعَ منها، وليلةُ القدرِ حروفُها تسعُ حروفٍ، والتِّسعُ إذا ضُرِبَتْ في ثلاثةٍ فهيَ سبعٌ وعشرونَ!

والثَّاني: أنَّهُ قالَ: {سَلَامٌ هِيَ} ، وكلمةُ {هِيَ} هيَ الكلمةُ السَّابعةُ والعشرونَ مِن السُّورةِ؛ فإنَّ كلماتِها كلَّها ثلاثونَ كلمةً.

قالَ ابنُ عَطِيَّةَ: هذا مِن مُلَحِ التَّفسيرِ لا مِن مَتينِ العلمِ. وهوَ كما قالَ

(1)

.

وممَّا استَدَلَّ بهِ مَن رَجَّحَ ليلةَ سبعٍ وعشرينَ بالآياتِ والعلاماتِ التي رُوِيَتْ فيها قديمًا وحديثًا وبما وَقَعَ فيها مِن إجابةِ الدَّعواتِ:

فقد تَقَدَّمَ عن أُبَيِّ بن كَعْبٍ أنَّهُ أستَدَلَّ على ذلكَ بطلوعِ الشَّمسِ في صبيحتِها لا شعاعَ لها.

وكانَ عَبْدَةُ بنُ أبي لُبابَةَ يَقولُ: هيَ ليلةُ سبعٍ وعشرينَ، ويَسْتَدِلُّ على ذلكَ بأنَّهُ قد جَرَّبَ ذلكَ بأشياءَ وبالنُّجومِ

(2)

. خَرَّجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.

ورُوِيَ عن عَبْدَةَ أنَّهُ ذاقَ ماءَ البحرِ ليلةَ سبَعٍ وعشرينَ فإذا هوَ

= / 11259)؛ من طريق أبي بحر، عن ابن جريج، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن ابن عبّاس

رفعه.

وهذا سند ضعيف فيه علّتان: أولاهما: أنّ أبا بحر البكراوي هذا ضعيف. والثانية: أنّه خالف الثقات فقد رواه: عبد الرزّاق (7686)، وابن أبي شيبة (8688 و 9541) من طريق يحيى بن سعيد؛ كلاهما عن ابن جريج

به موقوفًا. وهذا حدّ النكارة.

(1)

أيّ ملح هذه؟! لماذا اعتمد عدد الحروف أوّلًا وعدد الكلمات ثانيًا؟! لماذا وقف عند كلمة {هِيَ} ولم يتابع إلى آخر السورة؟! وغير ذلك كثير ممّا يدلّ على تخبّط أهل الحسابات والأرقام وإتيانهم بالمحالات والضلالات لترويج بضاعتهم الكاسدة! فيومًا يعدّون الأحرف المنقّطة وآخر يعدّون الأحرف الصمّاء وثالثًا يعدّون الأحرف الصوتيّة

وهكذا في سعي محموم لتحصيل تاريخ حوادث 11 أيلول من سورة التوبة وتاريخ سقوط بغداد من سورة محمَّد! والله المستعان على ضلالات أُولئك الجهلة الذين أعرضوا عن تدبّر القرآن وفهم مقاصده والعمل به وجعلوه شريحة رقميَّة يستخرجون منها ما تمليه عليه أهواؤهم من الإشارات على طريقة الباطنيّة من الصوفية والإسماعيليّة والنصيريّة والقاديانيّة.

(2)

بالنجوم لا بالتنجيم! يعني بالنظر إلى أنّه لا يرمى الشياطين ليلتها بالنجوم. لكن كيف تسنّى له أن يجزم بذلك؟!

ص: 462

عذبٌ

(1)

! ذَكَرَهُ الإمامُ أحْمَدُ بإسنادِهِ.

وطافَ بعضُ السَّلفِ ليلةَ سبعٍ وعشرينَ بالبيتِ الحرامِ، فرَأى الملائكةَ في الهواءِ طائفينَ فوقَ رؤوسِ النَّاسِ!

ورَوى أبو موسى المَدِينِيُّ مِن طريقِ أبي الشَّيخِ الأصْبَهانِيِّ بإسنادٍ لهُ عن: حَمَّادِ بن شُعَيْبٍ، عن رجلٍ منهُم؟ قالَ: كُنْتُ بالسَّوادِ، فلمَّا كانَ في العشرِ الأواخرِ؛ جَعَلْتُ انْظُرُ بالليلِ. فقالَ لي رجلٌ منهُم: إلى أيِّ شيءٍ تَنْظُرُ؟ قُلْتُ: إلى ليلةِ القدرِ. قالَ: فنَمْ؛ فإنِّي سَأُخْبِرُكَ. فلمَّا كانَ ليلةُ سبعٍ وعشرينَ؛ جاءَ، فأخَذَ بيدي، فذَهَبَ بي إلى النَّخلِ، فإذا النَّخلُ واضعٌ سعفَهُ في الأرضِ، فقالَ: لسنا نَرى هذا في السَّنةِ كلِّها إلَّا في هذهِ الليلةِ!

وذَكَرَ أبو موسى بأسانيدَ لهُ أن رجلًا مقعدًا دَعا الله ليلةَ سبع وعشرينَ فأطْلَقَهُ.

وعنِ امرأةٍ مقعدةٍ كذلكَ.

وعن رجلٍ بالبصرةِ كانَ أخرسَ ثلاثينَ سنةً، فدَعا الله ليلةَ سبع وعشرينَ، فأطْلَقَ لسانَهُ فتكَلَّمَ.

وذَكَرَ الوزيرُ أبو المُظَفَّرِ بنُ هُبَيْرَةَ أنَّهُ رأى ليلةَ سبعٍ وعشرينَ - وكانَتْ ليلةَ جمعةٍ - بابًا في السَّماءِ مفتوحًا شاميَّ الكعبةِ. قالَ: فظَنَنْتُهُ حيالَ الحجرةِ النَّبويَّةِ المقدَّسةِ. قالَ: ولم يَزَلْ كذلكَ إلى أنِ الْتَفَتُّ إلى المشرقِ لأنْظُرَ طلوعَ الفجرِ، ثمَّ الْتَفَتُّ إليهِ فوَجَدْتُهُ قد غابَ. قالَ: وإنْ وَقَعَ في ليلةٍ مِن أوتارِ العشرِ ليلةُ جمعةٍ؛ فهيَ أرجى مِن غيرِها.

واعْلَمْ أن جميعَ هذهِ العلاماتِ لا توجِبُ القطعَ بليلةِ القدرِ

(2)

.

وقد رَوى سَلَمَةُ بنُ شَبيبٍ في كتابِ "فضائل رمضان": حَدَّثَنا إبْراهيمُ بنُ الحَكَمِ، حَدَّثَني أبي، حَدَّثَني فَرْقَدٌ؛ أن ناسًا مِن الصَّحابةِ كانوا في المسجدِ، فسَمِعوا كلامًا مِن

(1)

وذاقه غيره ليلة سبع عشرة وليلة ثلاث وعشرين فوجده عذبًا!

(2)

بل لا تدلّ عليها أصلًا! بل هي من جنس الدليل الذي يحتاج إلى دليل! وهذا كلّه إن سلمت أسانيدها وصحّت وعرف أصحابها! "فكيف والله أعلم بأسانيدها؟! فكيف وأصحابها "رجل من أهل البصرة" و"رجل منهم" و"بعض السلف"؟!

ص: 463

السَّماءِ ورَاوْا نورًا مِن السَّماءِ وبابًا مِن السَّماءِ، وذلكَ في شهرِ رمضانَ، فأخْبَروا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بما رَأَوْا، فزُعِمَ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:"أمَّا النُّورُ؛ فنورُ ربِّ العزَّةِ تَعالى، وأمَّا البابُ؛ فبابُ السَّماءِ، والكلامُ كلامُ الأنبياءِ، فكلُّ شهرِ رمضانَ على هذهِ الحالِ، ولكنْ هذهِ ليلةٌ كُشِفَ غطاؤُها"

(1)

. وهذا مرسلٌ ضعيفٌ.

• وأمَّا العملُ في ليلةِ القدرِ؛ فقد ثَبَتَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: "مَن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِهِ"

(2)

. وقيامُها إنَّما هوَ إحياؤُها بالتَّهجُّدِ فيها والصَّلاةِ.

وقد أمَرَ عائِشَةَ بالدُّعاءِ فيها أيضًا

(3)

.

قال سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: الدُّعاءُ في تلكَ الليلةِ أحبُّ إليَّ مِن الصَّلاةِ. قالَ: وإذا كانَ يَقْرَأُ وهوَ يَدْعو ويَرْغَبُ إلى اللهِ في الدُّعاءِ والمسألةِ لَعَلَّهُ يُوافِقُ

(4)

. انتهى. ومرادُهُ أنَّ كثرةَ الدُّعاءِ أفضلُ مِن الصَّلاةِ التي لا يَكْثُرُ فيها الدُّعاءُ، وإنْ قَرَأ ودَعا كانَ حسنًا.

وقد كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم تتَهَجَّدُ في ليالي رمضانَ، ويَقْرَأُ قراءةً مرتَّلةً، لا يَمُرُّ بآيةٍ فيها رحمةٌ إلَّا سَألَ ولا بآيةٍ فيها عذابٌ إلَّا تَعَوَّذَ

(5)

، فيَجْمَعُ بينَ الصَّلاةِ والقراءةِ والدُّعاءِ والتَّفكُّرِ. وهذا أفضلُ الأعمالِ وأكملُها في ليالي العشرِ وغيرِها. واللهُ أعلمُ.

وقد قالا الشَّعْبِيُّ في ليلةِ القدرِ: ليلُها كنهارِها.

وقالَ الشَّافِعِيُّ في القديمِ: أسْتحِبُّ أنْ يَكونَ اجتهادُهُ في نهارِها كاجتهادِهِ في ليلِها.

وهذا يَقْتَضي استحبابَ الاجتهادِ في جميعِ زمانِ العشرِ الأواخرِ؛ ليلِهِ ونهارِهِ.

(1)

(موضوع). لم أقف عليه في غير هذا الموضع، لكنّ المصنّف يرحمه الله أورد سنده وفيه: إبراهيم بن الحكم ضعيف. وأبوه الحكم صاحب أوهام. وفرقد هو السبخيّ ضعيف منكر الحديث. ثمّ هو معضل ساقط الصحابيّ والتابعيّ. ثمّ إنّه سيق سياقة القصص لا سياقة الروايات، ودلك واضح في قوله:"فزُعم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال". وفي متته نكارة ظاهرة.

(2)

متفق عليه. سيأتي (ص 468 - 469) من غير ما وجه.

(3)

(صحيح). سيأتي بنصِّه وتخريجه (ص 466).

(4)

في خ: "لعلّه أن يوافق"، والأولى ما أثبته من م و ن و ط.

(5)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 394 - 395).

ص: 464

واللهُ أعلمُ.

المحبُّونَ تَطولُ عليهِمُ الليالي فيَعُدُّونَها عذًا لانتظارِ ليالي العشرِ في كلِّ عامٍ، فإذا ظَفِروا بها؛ نالوا مطلوبَهُم وخَدَموا محبوبَهُم

(1)

.

قَدْ مَزَّقَ الحُبُّ قَميصَ الصَّبْرِ

وَقَدْ غَدَوْتُ حائِرًا في أمْري

آهٍ عَلى تِلْكَ الليالي الغُرِّ

ما كُنَّ إلَّا كَلَيالي القَدْرِ

إنْ عُدْنَ لي مِنْ بَعْدِ هذا الهَجْرِ

وَفَّيْتُ لِلهِ بِكُلِّ نَذْرِ

وَقامَ بالحَمْدِ خَطيبُ شُكْري

رياحُ هذهِ الأسحارِ تَحْمِلُ أنينَ المذنبينَ وأنفاسَ المحبِّينَ وقصصَ التَّائبينَ ثمَّ تَعودُ بردِّ الجوابِ بلا كتابٍ.

أعَلِمْتُمُ أنَّ النَّسيمَ إذا سَرى

حَمَلَ الحديثَ إلى الحَبيبِ كَما جَرى

جَهِلَ العَذولُ بِأنَّني في حُبِّهِمْ

سَهَرُ الدُّجى عِندي ألَذُّ مِن الكَرى

فإذا وَرَدَ بريدُ بردِ السَّحرِ يَحْمِلُ ملطَّفاتِ الألطافِ؛ لمْ يَفْهَمْها غيرُ مَن كُتِبَتْ إليهِ ولا يَعْقِلُها إلَّا كلُّ مشتاقٍ.

نَسيمَ صَبا نَجْدٍ مَتى جِئْتَ حامِلًا

تَحِيَّتَهُمْ فَاطْوِ الحَديثَ عَنِ الرَّكْبِ

وَلا تُذِعِ السِّرَّ المَصونَ فَإنَّني

أغارُ عَلى ذِكْرِ الأحِبَّةِ مِنْ صَحْبي

يا يَعْقوبَ الهجرِ! قد هَبَّتْ ريحُ يوسُفَ الوصلِ، فلوِ اسْتَنْشَقْتَ؛ لَعُدْتَ بعدَ العمى بصيرًا، ولَوَ جَدْتَ ما كُنْتَ لفقدِهِ فقيرًا.

كانَ لي قَلْبٌ أعِيشُ بِهِ

ضاعَ مِنِّي في تَقَلُّبِهِ

رَبِّ فَارْدُدْهُ عَلَيَّ فَقَدْ

عِيلَ صَبْري في تَطَلُّبِهِ

وَأغِثْ ما دامَ بي رَمَقٌ

يا غِياثَ المُسْتَغيثِ بِهِ

لو قامَ المذنبونَ في هذهِ الأسحار، على أقدامِ الانكسار، ورَفَعوا قَصصَ الاعتذار

(2)

، مضمونُها {يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا

(1)

راجع ما تقدّم (ص 425 - 426) في لفظ "الخدمة".

(2)

قصص الاعتذار: قصاصات الورق التي كتب عليها الاعتذار.

ص: 465

الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا} [يوسِف: 88]؛ لَبَرَزَ لهُمُ التَّوقيعُ عليها {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92].

أشْكو إلى اللهِ كَما قَدْ شَكا

أوْلادُ يَعْقوبَ إلى يوسُفِ

قَدْ مسَّنِي الضُّرُّ وأنْتَ الذي

تَعْلَمُ حالي وَتَرى مَوْقِفي

بِضاعَتِي المُزْجاةُ مُحْتاجَةٌ

إلى سَماحٍ مِنْ كَريمٍ وَفِي

فَقَدْ أتى المِسْكينُ مُسْتَمْطِرًا

جودَكَ فَارْحَمْ ذُلَّهُ وَاعْطِفِ

فَأوْفِ كَيْلي وتَصَدَّقْ على

هذا المُقِلِّ البائِسِ الأضْعَفِ

• قالَتْ عائِشَةُ رضي الله عنها للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: أرَأيْتَ إنْ وافَقْتُ ليلةَ القدرِ؛ ما أقولُ فيها؟ قالَ: "قولي: اللهمَّ! إنَّكَ عفوٌّ تُحِبُّ العفوَ فاعْفُ عَنِّي"

(1)

.

العفوُّ مِن أسماءِ اللهِ [تَعالى]، وهوَ المتجاوزُ عن سيِّئاتِ عبادِهِ، الماحي لآثارِها عنهُم.

وهوَ يُحِبُّ العفوَ، ويُحِبُّ أنْ يَعْفوَ عن عبادِهِ، ويُحِبُّ مِن عبادِهِ أنْ يَعْفُوَ بعضُهُم عن بعضٍ، فإذا عَفا بعضُهُم عن بعضٍ؛ عامَلَهُم بعفوِهِ، وعفوُهُ أحبُّ إليهِ مِن عقوبتِهِ. وكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقولُ:"أعوذُ برضاكَ مِن سخطِكَ وعفوِكَ مِن عقوبتِكَ"

(2)

.

قالَ يَحْيى بنُ مُعاذٍ: لو لم يَكُنِ العفوُ أحبَّ الأشياءِ إليهِ؛ لم يَبْتَلِ بالذَّنبِ أكرمَ النَّاسِ عليهِ. يُشيرُ إلى أنَّهُ ابْتَلى كثيرًا مِن أوليائِهِ وأحبابِهِ بشيءٍ مِن الدُّنوبِ؛ لِيُعامِلَهُم

(1)

(صحيح). رواه: إسحاق (3/ 748/ 1361 و 1362)، وأحمد (6/ 171/ 182 و 183 و 208 و 258)، وابن ماجه (24 - الدعاء، 5 - الدعاء بالعفو، 2/ 1265/ 3850)، والترمذي (49 - الدعوات، 85 - باب، 5/ 534/ 3513)، وابن نصر في "قيام رمضان"(ص 259)، والنسائي في "اليوم والليلة"(878 - 883) و"الكبرى"(10708 - 10713)، وأبو يعلى في "المعجم"(43)، والطبراني في "الأوسط"(2521) و "الدعاء"(915 و 916)، وابن السنّي (767)، والحاكم (1/ 530)، والقضاعي (1474 - 1478)، والبيهقي في "الشعب"(3700 و 3701)، و"الصفات"(92)؛ من طرق خمس، عن عائشة

رفعته.

قال الترمذي: "حسن صحيح"، وأقرّه المنذري والنووي وابن كثير. وقال الحاكم "على شرط البخاري ومسلم". وأقرّه النووي والذهبي وابن كثير. قلت: طريق الترمذي صحيحة، وطريق الحاكم صحيحة أيضًا، والحديث صحيح غاية باجتماعهما، فكيف وله طرق أُخرى؟! وقد صحّحه الألباني.

(2)

رواه مسلم (4 - الصلاة، 42 - ما يقال في الركوع، 1/ 352/ 486) عن أبي هريرة عن عائشة.

ص: 466

بالعفوِ؛ فإنَّهُ سبحانَهُ يُحِبُّ العفوَ.

قالَ بعضُ السَّلفِ الصَّالحينَ: لو عَلِمْتُ أحبَّ الأعمالِ إلى اللهِ؛ لأجْهَدْتُ نفسي فيهِ. فرَأى قائلًا يَقولُ لهُ في منامِهِ: إنَّكَ تُريدُ ما لا يَكونُ، إنَّ الله يُحِبُّ أنْ يَعْفُوَ ويَغْفِرَ

(1)

.

وإنَّما أحَبَّ أنْ يَعْفُوَ؛ لِيَكونَ العبادُ كلُّهُم تحتَ عفوِهِ، ولا يُدِلُّ عليهِ أحدٌ منهُم بعملٍ

(2)

.

وقد جاءَ في حديثِ ابن عَبَّاسٍ مرفوعًا: "إنَّ الله يَنْظُرُ ليلةَ القدرِ إلى المؤمنينَ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فيَعْفو عنهُم ويَرْحَمُهُم؛ إلَّا أربعةً: مدمنَ خمرٍ، وعاقًّا، ومشاحنًا، وقاطعَ رحمٍ"

(3)

.

لمَّا عَرَفَ العارفونَ جلالَهُ؛ خَضَعوا، ولمَّا سَمعَ المذنبونَ بعفوِهِ؛ طَمِعوا، ما ثَمَّ إلَّا عفوُ اللهِ أو النَّارُ.

لولا طمعُ المذنبينَ في العفوِ؛ لاحْتَرَقَتْ قلوبُهُم باليأْسِ مِن الرَّحمةِ، ولكنْ إذا ذَكَرَتْ عفوَ اللهِ؛ اسْتَرْوَحَتْ إلى بردِ عفوِهِ.

كانَ بعضُ المتقدِّمينَ يَقولُ في دعائِهِ: اللهمَّ! إنَّ ذنوبي قد عَظُمَتْ وجَلَّتْ عن الصِّفةِ، وإنَّها صغيرةٌ في

(4)

جنبِ عفوِكَ، فاعْفُ عنِّي.

وقالَ آخرُ منهُم: جرمي عظيمٌ، وعفوُكَ كبيرٌ، فاجْمَعْ بينَ جرمي وعفوِكَ يا كريمُ!

يا كَبيرَ الذَّنْبِ عَفْوُ الـ

ــــــــــلهِ مِنْ ذَنْبِكَ أكْبَرْ

أكْبَرُ الأوْزارِ في جَنْـ

ــــــــــبِ عَفْوِ اللهِ يَصْغُرْ

(1)

تقدّم هذا الكلام والتعقيب عليه (ص 61 - 62).

(2)

يدلّ بعمله: يعجبه عمله، ويرى أنّه أهل للكرامة والاستجابة والولاية والتوفيق. وهذا كثير.

(3)

(موضوع). قطعة من حديث ابن عبّاس الطويل في نداء الحور العين أوّل رمضان، وقد تقدّم طرف منه مع تفصيل القول فيه (ص 373).

ولهذه القطعة شاهد عند: العقيلي (3/ 138)، وابن الجوزي في "الواهيات"(879)؛ من طريق أبي معمر عبّاد بن عبد الصمد، عن أنس

رفعه. وأبو معمر متهم هالك، ومتابعته هالكة مثله.

(4)

في خ: "وإنّها صغرت في"، والأولى ما أثبتّه من م و ط.

ص: 467

وإنَّما أمَرَ بسؤالِ العفوِ في ليلةِ القدرِ بعدَ الاجتهادِ في الأعمالِ فيها وفي ليالي العشرِ؛ لأنَّ العارفينَ يَجْتَهِدونَ في الأعمالِ، ثمَّ لا يَرَوْنَ لأنفسِهِم عملًا صالحًا ولا حالًا ولا مقالًا، فيَرْجِعونَ إلى سؤالِ العفوِ كحالِ المذنبِ المقصِّرِ.

قالَ يَحْيى بنُ مُعاذٍ: ليسَ بعارفٍ مَن لم يَكُنْ غايةُ أملِهِ مِن اللهِ العفوَ.

إنْ كُنْتُ لا أصْلُحُ لِلْقُرْبِ

فَشَأْنُكُمْ عَفْوٌ عَنِ الذَّنْبِ

كانَ مُطَرِّفٌ يَقولُ في دعائِهِ: اللهمَّ! ارضَ عنَّا، فإنْ لمْ تَرْضَ عنَّا؛ فاعْفُ عنَّا.

مَن عَظُمَتْ ذنوبُهُ في نفسِهِ؛ لم يَطْمَعْ في الرِّضى وكانَ غايةُ أملِهِ أنْ يَطْمَعَ في العفوِ، ومَن كَمَلَتْ معرفتُهُ؛ لمْ يَرَ نفسَهُ إلَّا في هذهِ المنزلةِ.

يا رَبِّ عَبْدُكَ قَدْ أتا

كَ وَقَدْ أساءَ وَقَدْ هَفا

يَكْفيهِ مِنْكَ حَياؤُهُ

مِنْ سوءِ ما قَدْ أسْلَفا

حَمَلَ الذُّنوبَ عَلى الذُّنو

بِ الموبِقاتِ وَأسْرَفا

وَقَدِ اسْتَجارَ بِذَيْلِ عَفْـ

ـــــــــوِكَ مِنْ عِقابِكَ مُلْحِفا

يا رَبِّ فَاعْفُ

(1)

وَعافِهِ

فَلأنْتَ أوْلى مَن عَفا

‌المجلس السادس في وداع شهر رمضان

في الصَّحيحينِ

(2)

مِن حديثِ: أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"مَن صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِهِ، ومَن قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِهِ".

وفيهِما

(3)

أيضًا مِن حديثِ: أبي هُرَيْرَةَ أيضًا، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "مَن قامَ

(1)

في خ و م: "فاعف عنه"! ولا يستقيم الوزن إلّا بحذف "عنه".

(2)

البخاري (30 - الصوم، 6 - من صام رمضان، 4/ 115/ 1901)، ومسلم (6 - المسافرين، 25 - الترغيب في قيام رمضان، 1/ 523/ 760).

(3)

البخاري (31 - التراويح، 1 - من قام رمضان، 4/ 250/ 2008 و 2009)، ومسلم (6 - المسافرين، 25 - الترغيب في قيام رمضان، 1/ 523/ 759).

ص: 468

رمضانَ إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِهِ".

ولِلنَّسائِيِّ في روايةٍ: "مَن صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِهِ وما تَأخَّرَ"

(1)

.

وقد سَبَقَ في قيامِ ليلةِ القدرِ مثلُ ذلكَ مِن روايةِ عُبادَةَ بن الصَّامتِ

(2)

.

• والتَّكفيرُ بصيامِهِ [قد] وَرَدَ مشروطًا بالتَّحفُّظِ ممَّا يَنْبَغي أنْ يُتَحَفَّظَ منهُ.

(1)

(شاذّ بهذا التمام). رواه النسائي في "الكبرى"(2512): أنبأ قتيبة بن سعيد ومحمّد بن عبد الله بن يزيد قالا: ثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

رفعه. بمثل رواية الشيخين ثمَّ قال: "في حديث قتيبة: وما تأخّر".

وهذا سند رجاله ثقات رجال الشيخين لكنّ له عللًا: أولاها: أن قتيبة نفسه لم يستقرّ على هذه الزيادة. فرواه النسائي (2513): أنبأ قتيبة، ثنا سفيان، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

رفعه دون ذكر "وما تأخّر". والثانية: أنّ جمهور أصحاب سفيان رووا هذا الحديث عنه ولم يذكروا فيه هذه الزيادة. والثالثة: أن جمهور أصحاب الزهري رووا هذا الحديث عنه ولم يذكروا هذه الزيادة. ولذلك جزم ابن عبد البرّ في "التمهيد"(7/ 105) بشذوذها.

تنبيه: قال العسقلاني في "الفتح"(4/ 115): "زاد أحمد من طريق حمّاد بن سلمة عن محمّد بن عمرو عن أبي سلمة "وما تأخّر"، وقد رواه أحمد أيضًا عن يزيد بن هارون عن محمّد بن عمرو بدون هذه الزيادة، ومن طريق يحيى بن سعيد عن أبي سلمة بدونها. ووقعت هذه الزيادة أيضًا في رواية الزهري عن أبي سلمة أخرجها النسائي عن قتيبة عن سفيان عنه، وتابعه حامد بن يحيى عن سفيان أخرجه ابن عبد البرّ في "التمهيد" واستنكره، وليس بمنكر فقد تابعه قتيبة كما ترى، وهشام بن عمّار وهو في "الجزء الثاني عشر من فوائده"، والحسين بن الحسن المروزي أخرجه في "كتاب الصيام" له، ويوسف بن يعقوب النجاحي أخرجه أبو بكر بن المقرئ في "فوائده"؛ كلّهم عن سفيان، والمشهور عن الزهري بدونها. وقد وقعت هذه الزيادة أيضًا في حديث عبادة بن الصامت عند الإمام أحمد من وجهين وإسناده حسن. وقد استوعبت الكلام على طرقه في كتاب "الخصال المكفّرة للذنوب المقدّمة والمؤخّرة"، وهذا محصّله" اهـ. قلت: فبعد هذا التفصيل أقرّ يرحمه الله بأن المشهور عن الزهريّ إسقاط هذه الزيادة، وهذا يقتضي أنّ أثباتها شاذّ، فعاد محصّل الكلام إلى حكم ابن عبد البرّ بشذوذها. وأمّا تتابع جماعة من الرواة على إثبات هذه الزيادة؛ فلا يزيدها قوّة؛ لأن كلًّا منهم لا يخلو أن يكون شاذًّا أو منكرًا في روايته هذه الزيادة عن شيخه، واجتماع الروايات الشاذة والمنكرة لا يقوّيها؛ لأنّه يقابلها من الجهة الأُخرى اجتماع الروايات المشهورة المعروفة، فترجح الأخيرة وتطيش الأولى. وأمّا تحسين حديث عبادة بهذه الزيادة؛ فلا يخلو من نظر تقدّم (ص 441) بيانه. والذي أراه - والله يغفر لي - أنّ هذه الزيادة من نوع العلل التي سمّاها بعض أهل الحديث "لزوم الطريق" حيث يدرج لسان الراوي أو يزلّ قلمه أو تنصرف أذنه عن اللفظ المسموع حقيقة إلى لفظ مشهور يشبهه، ولفظ آية الفتح {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} دارج على لسان الصغير والكبير وأسماعهم. والله أعلم.

(2)

(ضعيف بهذا التمام). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 441).

ص: 469

ففي "المسند" و"صحيح ابن حِبَّانَ" عن: أبي سَعيدٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"مَن صامَ رمضانَ فعَرَفَ حدودَهُ وتَحَفَّظَ ممَّا يَنْبَغي أنْ يَتَحَفَّظَ منهُ؛ كَفَّرَ ذلكَ ما قبلَهُ"

(1)

.

• والجمهورُ على أن ذلكَ إنَّما يُكَفِّرُ الصَّغائرَ.

ويَدُلُّ عليهِ ما خَرَّجَهُ مسلمٌ

(2)

مِن حديثِ: أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"الصَّلواتُ الخمسُ والجمعةُ إلى الجمعةِ ورمضانُ إلى رمضانَ مكفِّراتٌ لما بينَهُنَّ ما اجْتُنِبَتِ الكبائرُ".

وفي تأْويلِهِ قولانِ:

أحدُهُما: أن تكفيرَ هذهِ الأعمالِ مشروطٌ باجتنابِ الكبائرِ، فمَن لم يَجْتَنِبِ الكبائرَ؛ لمْ تُكَفِّرْ لهُ هذهِ الأعمالُ كبيرةً ولا صغيرةً.

والثَّاني: أن المرادَ أن هذهِ الفرائضَ تُكَفِّرُ الصَّغائرَ خاصَّةً بكلِّ حالٍ، وسواءٌ اجْتُنِبَتِ الكبائرُ أو لمْ تُجْتَنَبْ، وأنَّها لا تُكَفِّرُ الكبائرَ بحالٍ.

وقد قالَ ابنُ المُنْذِرِ في قيامِ ليلةِ القدرِ: إنَّهُ يُرْجى بهِ مغفرةُ الذُّنوبِ كبائرِها وصغائرِها. وقالَ غيرُهُ مثلَ ذلكَ في الصَّومِ أيضًا. والجمهورُ على أن الكبائرَ لا بدَّ لها مِن توبةٍ نَصوحٍ.

وهذهِ المسائلُ قد ذَكَرْناها مستوفاةً في مواضعَ أُخرَ.

• فدَلَّ حديثُ أبي هُرَيْرَةَ على أن هذهِ الأسبابَ الثَّلاثةَ كلُّ واحدٍ منها مكفِّرٌ لِما سَلَفَ مِن الذُّنوبِ، وهيَ: صيامُ رمضانَ، وقيامُهُ، وقيامُ ليلةِ القدرِ.

• فقيامُ ليلةِ القدرِ بمجرَّدِهِ يُكَفِّرُ الذُّنوبَ لمَن وَقَعَتْ لهُ، كما في حديثِ عُبادَةَ بن

(1)

(ضعيف). رواه: أحمد (3/ 55)، وأبو يعلى (1058)، وابن حبّان (3433)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 180)، والبيهقي في "السنن"(4/ 304) و"الشعب"(3623)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (8/ 392)؛ من طريق عبد الله بن قرط (أو: قريط)، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد

رفعه.

صحّحه ابن حبّان وأقرّه المنذري والعسقلاني! وقال أبو نعيم: "لم يروه عن عطاء إلّا عبد الله بن قرط". وقال الهيثمي (3/ 147): "ابن قريط ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا". قلت: ولم يرو عنه إلّا رجل واحد، ولذلك قال الحسيني:"مجهول". فهو علّة هذا السند، والسند ضعيف.

(2)

(2 - الطهارة، 5 - الصلوات الخمس، 1/ 209/ 233).

ص: 470

الصَّامِت

(1)

، وقد سَبَقَ ذكرُهُ. وسواءٌ كانَـ[ـــــــتْ] في أوَّلِ العشرِ أو أوسطِهِ أو آخرِهِ، وسواءٌ شَعَرَ بها أو لم يَشْعُرْ. ولا يَتَأخَّرُ تكفيرُ الدُّنوبِ بها إلى انقضاءِ الشَّهرِ.

• وأمَّا صيامُ شهرِ رمضانَ وقيامُهُ؛ فيَتَوَقَّفُ التَّكفيرُ بهِما على تمامِ الشَّهرِ، فإذا تَمَّ الشَّهرُ؛ فقد كَمَلَ للمؤمنِ صيامُهُ وقيامُهُ، فيَتَرَتَّبُ لهُ على ذلكَ مغفرةُ ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِهِ بتمامِ السَّببينِ، وهُما صيامُ رمضانَ وقيامُهُ.

وقد يُقالُ: إنَّهُم يُغْفَرُ لهُم عندَ استكمالِ القيامِ في آخرِ ليلةٍ مِن رمضانَ بقيامِ رمضانَ قبلَ تمامِ نهارِها، وتَتأخَّرُ المغفرةُ بالصِّيامِ إلى إكمالِ النَّهارِ بالصَّومِ، فيُغْفَرُ لهُم بالصَّومِ في ليلةِ الفطرِ.

ويَدُلُّ على ذلكَ ما خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ مِن حديثِ: أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"أُعْطِيَتْ أُمَّتي خمسَ خصالٍ في رمضانَ لمْ يُعْطَها أُمَّةٌ غيرُهُم: خلوفُ فمِ الصَّائمِ أطيبُ عندَ اللهِ مِن ريحِ المسكِ، وتَسْتَغْفِرُ لهُمُ الملائكةُ حتَّى يُفْطِروا، ويُزَيِّنُ اللهُ كلَّ يومٍ جنَّتهُ ويَقولُ: يوشِكُ عبادي أنْ يُلْقُوا عنهُمُ المؤنةَ والأذى ويَصيروا إليكِ، وتُصَفَّدُ فيه مردةُ الشَّياطينِ فلا يَخْلُصونَ فيهِ إلى ما كانوا يَخْلُصونَ إليهِ في غيرِهِ، ويُغْفَرُ لهُم في آخرِ ليلةٍ فيهِ". فقيلَ لهُ: يا رسولَ اللهِ! أهيَ ليلةُ القدرِ؟ قالَ: "لا، ولكنَّ العاملَ إنَّما يُوَفَّى أجرَهُ إذا قَضى عملَهُ"

(2)

.

وقد رُوِيَ أن الصَّائمينَ يَرْجعونَ يومَ الفطرِ مغفورًا لهُم، وأنَّ يومَ الفطرِ يُسَمَّى يومَ الجوائزِ

(3)

، وفيهِ أحاديثُ ضعيفةٌ.

(1)

(ضعيف بتمامه وأكثره صحيح لشواهده). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 441).

(2)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 422).

(3)

(ضعيف جدًّا). وقد جاء من أوجه:

فذكره مسلم في "المقدّمة"(1/ 18) والعسقلاني في "اللسان"(3/ 96) في منكرات سليمان بن الحجّاج - أحد الواهين - ولم أقف على لفظه بطوله.

ورواه: الحسن بن سفيان في "مسنده"(1/ 88 - إصابة) والطبراني (1/ 226/ 618) والمعافى في "الجليس"(1/ 88 - إصابة) من طريق سعيد بن عبد الجبّار عن توبة (أو: أبي توبة)، والطبراني (1/ 226/ 617) وأبو نعيم في "المعرفة"(2/ 361 و 362) والخطيب في "تالي التلخيص"(174) وأبو موسى المديني (1/ 170 - غابة) من طريق عمرو بن شمّر عن جابر الجعفي عن أبي الزبير؛ كلاهما عن سعيد بن أوس =

ص: 471

وقالَ الزُّهْرِيُّ: إذا كانَ يومُ الفطرِ؛ خَرَجَ النَّاسُ إلى الجَبَّانِ

(1)

، اطَّلَعَ اللهُ عليهِم فقالَ: يا عبادي! لي صُمْتُمْ، ولي قُمْتُمْ، ارْجِعوا مغفورًا لكُم.

قالَ مُوَرِّقٌ العِجْلِيُّ لبعضِ إخوانِهِ في المصلَّى يومَ الفطرِ: يَرْجِعُ هذا اليومَ قومٌ كما وَلَدَتْهُمْ أُمَّهاتُهُم.

وفي حديثِ أبي جَعْفَرٍ الباقِرِ المرسلِ: "مَن أتى عليهِ رمضانُ، فصامَ نهارَهُ، وصَلَّى وردًا مِن ليلِهِ، وغَضَّ بصرَهُ، وحَفِظَ فرجَهُ ولسانَهُ ويدَهُ، وحافَظَ على صلاتِهِ في الجماعةِ، وبَكَّرَ إلى جمعِهِ

(2)

؛ فقد صامَ الشَّهرَ واسْتكْمَلَ الأجرَ وأدْرَكَ ليلةَ القدرِ وفازَ بجائزة الرَّبِّ"

(3)

. قالَ أبو جَغفَرٍ: جائزةٌ لا تُشْبِهُ جوائزَ الأُمراءِ.

إذا كَمَّلَ الصَّائمونَ صيامَ رمضانَ وقيامَهُ؛ فقد وَفَوْا ما عليهِم مِن العملِ، وبَقِيَ ما لَهُم مِن الأجرِ، وهوَ المغفرةُ، فإذا خَرَجوا يومَ عيدِ الفطرِ إلى الصَّلاةِ؛ قُسِّمَتْ عليهِم أُجورُهُم، فرَجَعوا إلى منازِلِهِم وقدِ اسْتَوْفَوُا الأجرَ واسْتكمَلُوهُ. كما في حديثِ ابن عَبَّاسٍ المرفوعِ: "إذا كانَ يومُ الفطرِ؛ هَبَطَتِ الملائكةُ إلى الأرضِ، فيَقومونَ على أفواهِ السِّككِ

(4)

يُنادونَ بصوتٍ يَسْمَعُهُ جميعُ مَن خَلَقَ اللهُ إلَّا الجنَّ والإنسَ، يَقولونَ: يا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ! اخْرُجوا إلى ربٍّ كريمٍ يُعْطي الجزيلَ ويَغْفِرُ الذَّنبَ العظيمَ، فإذا بَرَزوا إلى مصلَّاهُم؛ تقولُ اللهُ عز وجل لملائكتِهِ: يا ملائكتي! ما جزاءُ الأجيرِ إذا عَمِلَ عملَهُ؟ فيَقولونَ: إلهَنا وسيِّدَنا! أنْ تُوَفِّيَهُ أجرَهُ. فيَقولُ: إنِّي أُشْهِدُكمْ أنِّي قد جَعَلْتُ ثوابَهُم مِن صيامِهِم وقيامِهِم مرضاتي ومغفرتي، انْصَرِفوا مغفورًا

= الأنصاري، عن أبيه

رفعه. وهذا سند واهٍ: سعيد بن أوس مجهول. والطريقان إليه ساقطتان، في الأولى سعيد بن عبد الجبّار وتوبة لم أقف لهما على ترجمة، وفي الثانية ابن شمّر كذّاب والجعفي متّهم متروك.

ورواه العقيلي (4/ 315) من طريق بحر بن كنيز السقاء، عن الوليد بن عيسى أبي وهب، عن ابن المنكدر، عن جابر

رفعه. وبحر والوليد واهيان شديدا الضعف.

وجاء هذا أيضًا في أحاديث زخرفة الجنّة التي تقدّم بيان أنّها بين الضعيف جدًّا والموضوع.

(1)

الجبّان: الأرض المستوية، والمراد بها هنا المصلّى الذي يصلّي الناس به العيد.

(2)

في خ: "إلى الجمعة"، والأولى ما أثبته من م و ط.

(3)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 428).

(4)

في خ: "فيقفون على أفواه السكك

"، والأولى ما أثبتّه من م و ط.

ص: 472

لكُم"

(1)

. خَرَّجَهُ سَلَمَةُ بنُ شَبِيبٍ في كتابِ "فضائل رمضان" وغيرُهُ. وفي إسنادِهِ مقالٌ.

وقد رُوِيَ مِن وجهٍ آخرَ عن عِكْرِمَةَ عن ابن عَبَّاسٍ موقوفًا بعضُهُ

(2)

.

وقد رُوِيَ معناهُ مرفوعًا مِن وجوهٍ أُخَرَ فيها ضعفٌ

(3)

.

• مَن وَفَّى ما عليهِ مِن العملِ كاملًا؛ وُفِّيَ لهُ الأجرُ كاملًا، ومَن سَلَّمَ ما عليهِ موفَّرًا؛ تَسَلَّمَ ما لهُ نقدًا لا مؤخَّرًا.

ما بِعْتُكُمْ مُهْجَتي إلَّا بِوَصْلِكُمُ

وَلا أُسَلِّمُها إلَّا يَدًا بِيَدِ

[فَإنْ وَفَيْتُمْ بِما قُلْتُمْ وَفَيْتُ أنا

وَإنْ أبَيْتُمْ يكونُ الرَّهْنُ تَحْتَ يَدي]

(4)

ومَن نَقَصَ مِن العملِ الذي عليهِ؛ نُقِصَ مِن الأجرِ بحسبِ نقصِهِ، فلا يَلُمْ إلَّا نفسَهُ.

قالَ سَلْمانُ: الصَّلاةُ مكيالٌ، فمَن وَفَّى؛ وُفِّيَ لهُ، ومَن طَفَّفَ؛ فقد عَلِمْتُمْ ما قيلَ في المطفِّفينَ.

فالصِّيامُ وسائرُ الأعمالِ على هذا المنوالِ: مَن وَفَّاها؛ فهوَ مِن خيارِ عبادِ اللهِ الموفِّينَ، ومَن طَفَّفَ فيها؛ فويلٌ للمطفِّفينَ.

أما يَسْتَحي مَن يَسْتَوْفي مكيالَ شهواتِهِ ويُطَفِّفُ في مكيالِ صيامِهِ وصلاتِهِ؟! ألا بعدًا لِمَدْيَنَ!

في الحديثِ: "أسوأُ النَّاسِ سرقةً الذي يَسْرِقُ صلاتَهُ"

(5)

.

(1)

(موضوع). قطعة من حديث طويل تقدّم (ص 373) أنّه موضوع أوّله "إن الحور العين تنادي في شهر رمضان

" إلخ.

(2)

فهذه علة أُخرى تضاف إلى ما تقدّم من العلل، ووقع في خ:"مرفوعًا بعضه"!

(3)

شديد جدًّا في السند ونكارة في المتن يجزم المرء معها أنّه موضوع كما تقدّم (ص 373).

(4)

ليست في خ و م، وإنّما استفدتها من ط.

(5)

(صحيح). وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا وموصولًا من أوجه:

• فرواه: مالك في "الموطأ"(1/ 167)، وعبد الرزّاق (3740)، والشافعي في "المسند"(ص 163) و"اختلاف الحديث"(ص 211)، وابن عبد البرّ (23/ 409)؛ من طريق يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن النعمان بن مرّة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

به. وهذا سند مرسل قويّ.

• ورواه الحسن واختلفوا عليه فيه على وجهين: روى أوّلهما: الطبراني في "الأوسط"(3416) و"الصغير"(336)، والعسكري في "التصحيفات" (2/ 902)؛ من طريق زيد بن الحرشي (أو: الحريش)، ثنا عثمان بن الهيثم، ثنا عوف، عن الحسن، عن عبد الله بن مغفّل

رفعه. وروى الثاني: ابن أبي شيبة =

ص: 473

إذا كانَ الويلُ لمَن طَفَّفَ مكيالَ الدُّنيا؛ فكيفَ حالُ مَن طَفَّفَ مكيالَ الدِّينِ!

{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5].

غَدًا تُوَفَّى النُّفوسُ ما كَسَبَتْ

وَيَحْصُدُ الزَّارِعونَ ما زَرَعوا

إنْ أحْسَنوا أحْسَنوا لِأنْفُسِهِمْ

وَإنْ أساؤوا فَبِئْسَ ما صَنَعوا

كانَ السَّلفُ الصَّالحُ يَجْتَهِدونَ في إتمامِ العملِ وإكمالِهِ وإتقانِهِ، ثمَّ يَهْتَمُّونَ بعدَ ذلكَ بقبولِهِ ويَخافونَ مِن ردِّهِ، وهؤلاءِ الذينَ {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}

= (2967): ثنا هشيم، أنا يونس، عن الحسن

مرسلًا. وزيد لا يعدو أن يكون مقبولًا في المتابعات، وعثمان تغيّر وصار يتلقّن، فالمعروف هنا الوجه الثاني المرسل، والوصل من مناكير زيد أو عثمان.

• ورواه الأوزاعي واختلف عليه فيه على وجهين: روى أوّلهما: أحمد (5/ 310)، والدارمي (1/ 304)، وأبو يعلى في "المعجم"(150)، وابن خزيمة (663)، وابن أبي حاتم في "العلل"(487)، والطبراني في "الكبير"(3/ 242/ 3283) و"الأوسط"(8175)، والدارقطني في "العلل"(1033)، والحاكم (1/ 229)، والبيهقي (2/ 385 - 386)، والخطيب في "التاريخ"(8/ 227)، وابن عساكر (15/ 53 و 54)؛ من طريق الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه

رفعه. وروى الثاني: ابن حبّان (1888)، والطبراني في "الأوسط"(4662)، والدارقطني في "العلل"(1379)، والحاكم (1/ 229)، والبيهقي (2/ 386)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(23/ 410)، وابن عساكر (15/ 54)؛ من طريق عبد الحميد بن أبي العشرين، عن الأوزاعي، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

رفعه. قال الحاكم: "كلا الإسنادين صحيح"، ووافقه الذهبي، وقوّى الهيثمي الوجه الأوّل وأعلّ الثاني بابن أبي العشرين. قلت: الوليد يدلّس ويسوّي، ولم يصرّح بالتحديث فأخشى أن يكون تلقّاه من أحد الضعفاء ثمّ أسقطه، فرواية ابن أبي العشرين - على لين فيه - أرجح، ولذلك قال أبو حاتم في حديث أبي قتادة:"منكر"، وقال الدارقطني:"يشبه أن يكون حديث أبي هريرة أثبت".

ولحديث أبي هريرة طريق أُخرى رواها: إسحاق في "المسند"(1/ 374/ 391)، والطبراني في "الشاميّين"(2347)؛ من طريق كلثوم بن محمّد بن أبي سدرة، ثنا عطاء بن مسلم الخراساني، عن أبي هريرة

رفعه. وكلثوم ضعيف، وعطاء صالح في المتابعات، وروايته عن أبي هريرة منقطعة.

• ورواه: الطيالسي (2219)، وابن أبي شيبة (2960)، وأحمد (3/ 56)، وعبد بن حميد (990)، والبزّار (536 - كشف)، وأبو يعلى (1311)، وابن عدي (5/ 1843)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 302)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(23/ 409 و 410)؛ من طريق عليّ بن زيد، عن ابن المسيب، عن أبي سعيد

رفعه. قال أبو نعيم: "تفرّد به عليّ بن زيد". وقال الهيثمي (2/ 123): "وهو مختلف في الاحتجاج به". قلت: هو أقرب إلى الضعف، والسند كذلك.

فهاهنا مرسلان قويّان ومرفوع فيه ضعف ومرفوع لا بأس به بطريقيه، فاجتماع هذه يصحّح المتن بلا ريب، وقد مال إلى تقويته ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم والمنذري والذهبي والهيثمي والشوكاني والألباني.

ص: 474

[المؤمنون: 60].

رُوِيَ عن عَلِيٍّ؛ قالَ: كونوا لقبولِ العملِ أشدَّ اهتمامًا منكُم بالعملِ، ألمْ تَسْمَعوا الله عز وجل يَقولُ:{إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].

وعن فَضالَةَ بن عُبَيْدٍ؛ قالَ: لأنْ أكونَ أعْلَمُ أن الله قد تَقَبَّلَ منِّي مثقالَ حبَّةٍ مِن خردلٍ أحبُّ إليَّ مِن الدُّنيا وما فيها؛ لأنَّ الله يَقولُ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} .

وقالَ مالكُ دينارٍ: الخوفُ على العملِ أنْ لا يُتَقَبَّلَ أشدُّ مِن العملِ.

وقالَ عَطاءٌ السَّلِيمِيُّ: الحذرُ الاتِّقاءُ على العملِ أنْ لا يَكونَ للهِ.

وقالَ عَبْدُ العَزيزِ بنُ أبي رَوَّادٍ: أدْرَكْتُهُم يَجْتَهِدونَ في العملِ الصَّالحِ، فإذا فَعَلوهُ؛ وَقَعَ عليهِمُ الهمُّ؛ أتُقُبِّلَ [منهُم] أم لا؟

قالَ بعضُ السَّلفِ: كانوا يَدْعُونَ الله ستَّةَ أشهرٍ أنْ يُبَلِّغَهُم شهرَ رمضانَ، ثمَّ يَدْعُونَ الله ستَّةَ أشهرٍ أنْ يَتَقَبَّلَهُ منهُم.

خَرَجَ عُمَرُ بن عَبْدِ العزيزِ رحمه الله في يومِ عيدِ فطرٍ، فقالَ في خطبتِهِ: أيُّها النَّاسُ! إنَّكُم صُمْتُمْ للهِ ثلاثينَ يومًا، وقُمْتُم ثلاثينَ ليلةً، وخَرَجْتُمُ اليومَ تَطْلُبونَ مِن اللهِ أنْ يَتَقَبَّلَ منكُم.

كانَ بعضُ السَّلفِ يَظْهَرُ عليهِ الحزن يومَ عيدِ الفطرِ. فيُقالُ لهُ: إنَّهُ يومُ فرحٍ وسرورٍ. فيَقولُ: صَدَقْتُمْ، ولكنِّي عبدٌ أمَرَني مولايَ أنْ أعْمَلَ لهُ عملًا، فلا أدْري أيَقْبَلُهُ منِّي أم لا؟

رَأى وُهَيْبُ بنُ الوَرْدِ قومًا يَضْحَكونَ [في] يومِ عيدٍ، فقالَ: إنْ كانَ هؤلاءِ تُقُبِّلَ منهُم صيامُهُم؛ فما هذا فعلَ الشَّاكرينَ، وإنْ كانوا لمْ يُتَقَبَّلْ منهُم صيامُهُم؛ فما هذا فعلَ الخائفينَ

(1)

.

وعنِ الحَسَنِ؛ قالَ: إنَّ الله جَعَلَ شهرَ رمضانَ لخلقِهِ مضمارًا يَسْتَبِقونَ فيهِ بطاعتِهِ إلى مرضاتِهِ، فسَبَقَ قومٌ ففازوا وتَخَلَّفَ آخرونَ فخابوا، فالعجب مِن اللاعبِ

(1)

فماذا يفعل المسلم يوم العيد إذًا؟! يعتزل الناس يبكي حزنًا وأسفًا! هل هذه هي الحنيفيّة السمحة التي جاء بها الإسلام؟! هل هذا هو التبشير والتيسير الذي سنّه النبيّ صلى الله عليه وسلم وسار عليه أصحابه؟!

ص: 475

الضَّاحكِ في اليومِ الذي يَفوزُ فيهِ المحسنونَ ويَخْسَرُ فيهِ المبطلونَ.

لَعَلَّكَ غَضْبانٌ وَقَلْبِيَ غافِلٌ

سَلامٌ عَلى الدَّارَيْنِ إنْ كُنْتَ راضِيا

ورُوِيَ عن عَلِيٍّ؛ أنَّهُ كانَ يُنادي في آخرِ ليلةٍ مِن شهرِ رمضانَ: يا ليتَ شعري! مَن هذا المقبولُ فنُهَنِّيَهُ، ومَن هذا المحرومُ فنُعَزِّيَهُ؟

وعنِ ابن مَسْعودٍ؛ أنَّهُ كانَ يَقولُ: مَن هذا المقبولُ منَّا فنُهَنِّيَهُ، ومَن هذا المحرومُ منَّا فنُعَزِّيَهُ

(1)

؟

أيُّها المقبولُ! هنيئًا لكَ. أيُّها المردودُ! جَبَرَ اللهُ مصيبتَكَ.

لَيْتَ شِعْري مَنْ فيهِ يُقْبَلُ مِنَّا

فَيُهَنَّا [و] يا خَيْبَةَ المَرْدودِ

مَنْ تَوَلَّى عَنْهُ بِغَيْرِ قَبولٍ

أرْغَمَ اللهُ أنْفَهُ بِخِزْيٍ شَديدِ

• ماذا فاتَ مَن فاتَهُ خيرُ رمضان؟! وأيُّ شيءٍ أدْرَكَ مَن أدْرَكَهُ فيهِ الحرمان؟! كم بينَ مَن حظُّهُ فيهِ القبولُ والغفران ومَن كانَ حظُّهُ فيهِ الخيبة والخسران!

ربَّ قائمٍ حظُّهُ مِن قيامِهِ السَّهرُ وصائمٍ حظُّهُ مِن صيامِهِ الجوعُ والعطشُ.

ما أصْنِعُ هكَذا جَرى المَقْدورُ

الجَبْرُ لِغَيْري وَأنا المَكْسورُ

أسيرُ ذَنْبٍ مُقَيَّدٌ مَهْجورُ

هَلْ يُمْكِنُ أنْ يُغَيَّرَ المَقْدورُ

غيرُهُ:

سارَ القَوْمُ وَالشَّقا يُقْعِدُني

حازوا القُرْبَ وَالجَفا يُبْعِدُني

حَسْبِيَ حَسْبِي إلى مَتى تَطْرُدُني

أعدايَ دائي وَكُلُّهُمْ يَقْصِدُني

غيرُهُ:

أسْبابُ هَواكَ أوْهَنَتْ أسْبابي

مِنْ بَعْدِ جَفاكَ فَالضَّنى أوْلى بي

ضاقَتْ حِيَلي وَأنْتَ تَدْري ما بي

إِرْحَمْ فَالعَبْدُ واقِفٌ بِالبابِ

شهرُ رمضانَ تَكْثُرُ فيهِ أسبابُ الغفرانِ. فمِن أسبابِ المغفرةِ فيهِ صيامُهُ وقيامُهُ وقيامُ ليلةِ القدرِ فيهِ، كما سَبَقَ. ومنها تفطيرُ الصُّوَّامِ والتَّخفيفُ عن المملوكِ، وهُما

(1)

تأمّل الفرق بين قول هذين الصحابيّين وما سبق من الأقوال! بين المؤمن العمليّ الذي يمارس نشاطه اليوميّ وقلبه متأرجح بين الخوف والرجاء، وبين المتقوقع المنغلق الذي ملأ قلبَهُ سوءُ الظنّ بالله.

ص: 476

مذكورانِ في حديثِ سلمانَ المرفوعِ

(1)

. ومنها الذِّكرُ، وفي حديثٍ مرفوعٍ:"ذاكرُ اللهِ في رمضانَ مغفورٌ لهُ"

(2)

. ومنها الاستغفارُ، والاستغفارُ طلبُ المغفرةِ، ودعاءُ الصَّائمِ يُسْتَجابُ في صيامِهِ وعندَ فطرِهِ، ولهذا كانَ ابنُ عُمَرَ إذا أفْطَرَ يَقولُ: اللهمَّ! يا واسعَ المغفرةِ! اغْفِرْ لي. وفي حديثِ أبي هُرَيْرَةَ المرفوعِ في فضلِ شهرِ رمضانَ: "ويُغْفَرُ فيهِ إلَّا لمَن أبى". قالوا: يا أبا هُرَيْرَةَ! ومَن يَأْبى؟! قالَ: يَأْبى أنْ يَسْتَغْفِرَ الله

(3)

. ومنها: استغفارُ الملائكةِ للصَّائمينَ حتَّى يُفْطِروا، وقد تَقَدَّمَ ذكرُهُ.

فلمَّا كَثُرَتْ أسبابُ المغفرةِ في رمضانَ؛ كانَ الذي تَفوتُهُ المغفرةُ فيهِ محرومًا غايةَ الحرمانِ.

في "صحيح ابن حِبَّان": عن أبي هُرَيْرَةَ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَعِدَ المنبرَ فقالَ: "آمينَ، آمينَ، آمينَ". قيلَ: يا رسولَ اللهِ! إنَّكَ صَعِدْتَ المنبرَ فقُلْتَ آمينَ آمينَ آمينَ. قالَ: "إنَّ جِبْريلَ أتاني فقالَ: مَن أدْرَكَ شهرَ رمضانَ فلمْ يُغْفَرْ لهُ فدَخَلَ النَّارَ فأبْعَدَهُ اللهُ، قلْ آمينَ، [فـ[ـــــــقُلْتُ آمينَ. ومَن أدْرَكَ أبويهِ أو أحدَهُما فلم يَبَرَّهُما فماتَ فدَخَلَ النَّارَ فأبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ آمينَ، [فـ]ــــــــقُلْتُ آمينَ. ومَن ذُكِرْتَ عندَهُ فلم يُصَلِّ عليكَ فماتَ فدَخَلَ النَّارَ فأبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ آمينَ، فقُلْتُ آمينَ"

(4)

.

(1)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 355).

(2)

(موضوع). رواه: الطبراني في "الأوسط"(6166 و 7337)، وابن عدي (4/ 1601)، والبيهقي في "الشعب"(3627)؛ من طريق عبد الرحمن بن قيس الضبّي، ثنا هلال بن عبد الرحمن، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيّب، عن عمر

رفعه.

قال الهيثمي (3/ 146): "فيه هلال بن عبد الرحمن وهو ضعيف". قلت: بل متروك. وعبد الرحمن بن قيس متّهم متروك. وعلي بن زيد ضعيف. فالسند مظلم، والحديث ساقط، وقال الألباني:"موضوع".

(3)

(ضعيف). رواه الخطيب في "تاريخ بغداد"(5/ 18): ثنا محمّد بن عبد العزيز بن جعفر البردعي، أنا علي بن إبراهيم بن عزّة العطّار، ثنا محمّد بن السريّ القنطري، ثنا محمّد بن بكار بن الريّان، ثنا أبو معشر نجيح السندي، عن سعيد، عن أبي هريرة

رفعه.

وهذا ضعيف: البردعيّ قال الخطيب: "فيه نظر مع أنّه لم يرو كبير شيء". وأبو معشر ضعيف.

(4)

(صحيح). رواه: أحمد (2/ 254)، والبخاري في "الأدب المفرد"(646)، والترمذي (49 - الدعوات، 101 - رغم أنف رجل، 5/ 550/ 3545)، وإسماعيل القاضي في "الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم"(16 - 18)، والبزّار (3169 - كشف)، وأبو يعلى (5922)، وابن خزيمة (1888)، وابن حبّان (907 =

ص: 477

وخَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ حِبَّانَ أيضًا مِن وجهٍ آخرَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه مرفوعًا بلفظِ: "رَغِمَ أنفُهُ"

(1)

. وحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ.

وقالَ سَعيدٌ عن قَتادَةَ: كانَ يُقالُ: مَن لمْ يُغْفَرْ لهُ في رمضانَ؛ فلنْ يُغْفَرَ لهُ فيما سواهُ.

وفي حديثٍ آخرَ: "إذا لم يُغْفَرْ لهُ في رمضانَ فمتى"

(2)

.

متى يُغْفَرُ لمَن لا

(3)

يُغْفَرُ لهُ في هذا الشَّهر؟! متى يُقْبَلُ مَن رُدَّ في ليلةِ القدر؟! متى يَصْلُحُ مَن لا يَصْلُحُ في رمضان؟! متى يَصِحُّ مَن كانَ [بهِ] فيهِ مِن داءِ الجهالةِ والغفلةِ مرضان؟ كلُّ ما لا يُثْمِرُ مِن الأشجارِ في أوانِ الثِّمار؛ فإنَّهُ يُقْطَعُ ثمَّ يُوقَدُ في النَّار. مَن فَرَّطَ في الزَّرعِ في وقتِ البذار؛ لم يَحْصُدْ يومَ الحصادِ غيرَ النَّدمِ والخسار.

تَرَحَّلَ الشَّهْرُ وا لَهْفاهُ وَانْصَرَما

وَاخْتَصَّ بِالفَوْزِ في الجَنَّاتِ مَن خَدَما

وَأصْبَحَ الغافِلُ المِسْكينُ مُنْكَسِرًا

مِثْلي فيا وَيْحَهُ يا عُظْمَ ما حُرِما

مَن فاتَهُ الزَّرْعُ في وَقْتِ البِذارِ فَما

تَراهُ يَحْصُدُ إلَّا الهَمَّ وَالنَّدَما

• شهرُ رمضانَ شهرٌ أوَّلُهُ رحمةٌ وأوسطُهُ مغفرةٌ وآخرُهُ عتقٌ مِن النَّارِ.

رُوِيَ هذا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن حديثِ سَلْمانَ الفارِسِيِّ

(4)

. خَرَّجَهُ ابنُ خُزَيْمَةَ في "صحيحه".

= و 908)، والطبراني في "الأوسط"(8127 و 8989)، والحاكم (1/ 549)، والبيهقي (4/ 304)، والمزّي في "التهذيب"(9/ 53)؛ من طرق ثلاث قويّة، عن أبي هريرة

رفعه.

قال الترمذي: "حسن غريب". قلت: طريق الترمذيّ حسنة، وطريق البخاري حسنة، وطريق أبي يعلى حسنة، واجتماع هذه الطرق الثلاث يصحّح الحديث بلا ريب، وقد قوّاه ابن خزيمة وابن حبّان والترمذي والحاكم والمنذري والهيثمي والألباني، ورواه مسلم (2551) مختصرًا، وشواهده كثيرة.

(1)

(صحيح). انظر ما قبله.

(2)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن أبي شيبة (8871)، والطبراني في "الأوسط"(7623)، من طريق محمّد بن إسحاق، عن الفضل بن عيسى الرقاشي، عن يزيد الرقاشي، عن أنس

رفعه.

سكت عنه المنذري، وقال الهيثمي (3/ 146):"فيه الفضل بن عيسى الرقاشي وهو ضعيف". قلت: هو منكر الحديث، وعمّه يزيد ضعيف منكر الحديث أيضًا، وابن إسحاق عنعن على تدليسه.

(3)

في خ: "فمتى يغفر له متى يغفر لمن لا"، وهذه إضافة ناسخ وليست من متن الحديث.

(4)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 355).

ص: 478

ورُوِيَ عنهُ أيضًا مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ

(1)

. خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا وغيرُهُ.

والشَّهرُ كلُّهُ شهرُ رحمةٍ ومغفرةٍ وعتقٍ، ولهذا في الحديثِ الصَّحيحِ؛ أنَّهُ تُفْتَحُ فيهِ أبوابُ الرَّحمةِ

(2)

.

وفي التِّرْمِذِيِّ وغيرِهِ: "إنَّ للهِ عتقاءَ مِن النَّارِ، وذلكَ كلَّ ليلةٍ"

(3)

.

ولكنَّ الأغلبَ على أوَّلِهِ الرَّحمةُ، وهيَ للمحسنينَ المتَّقينَ: قالَ اللهُ تَعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. وقالَ: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [الأعراف: 156]. فيُفاضُ على المتَّقينَ في أوَّلِ الشَّهرِ خلعُ الرَّحمةِ والرُّضوان، ويُعامَلُ أهلُ الإحسانِ بالفضلِ والإحسان.

وأمَّا أوسطُ الشَّهرِ؛ فالأغلبُ عليهِ المغفرةُ، فيُغْفَرُ فيهِ للصَّائمينَ وإنِ ارْتَكَبوا بعضَ الذُّنوبِ الصَّغائرِ فلا يَمْنَعُهُم ذلكَ مِن المغفرةِ، كما قالَ تَعالى:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرَّعد: 6].

وأمَّا آخرُ الشَّهرِ؛ فيُعْتَقُ فيهِ مِن النَّارِ مَن أوْبَقَتْهُ الأوزار واسْتَوْجَبَ النَّارَ بالذُّنوبِ الكبار.

وفي حديثِ ابن عَبَّاسٍ المرفوعِ: "للهِ في كلِّ ليلةٍ في شهرِ رمضانَ عندَ الإفطارِ ألفُ ألفِ عتيقٍ مِن النَّارِ، كلُّهُم قدِ اسْتَوْجَبوا العذابَ، فإذا كانَ ليلةُ الجمعةِ أو يومُ الجمعةِ؛ أعْتَقَ في كلِّ ساعةٍ فيها ألفَ ألفِ عتيقٍ مِن النَّارِ، كلُّهُم قدِ اسْتَوْجَبـ[ـــــــوا] العذابَ، فإذا كانَ آخرُ ليلةٍ مِن شهرِ رمضانَ أعْتَقَ اللهُ في ذلكَ اليومِ بعددِ ما أعْتَقَ مِن أوَّلِ الشَّهرِ إلى آخرِهِ"

(4)

. خَرَّجَهُ سَلَمَةُ بنُ شَبيبٍ وغيرُهُ.

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن أبي الدنيا (479 - لطائف المعارف)، والعقيلي (2/ 162)، وابن عدي (3/ 1157)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(2/ 147)، وابن الشجري، وابن عساكر، والديلمي؛ من طريق سلام بن سوار، عن مسلمة بن الصلت، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

رفعه.

وهذا سند واه: سلام ضعيف. ومسلمة: منكر الحديث متروك الحديث. وقد استنكر حديثه هذا أبو حاتم وابنه والعقيلي وابن عدي والخطيب والذهبي والعسقلاني والألباني.

(2)

متفق عليه. انظر ما تقدّم (ص 421).

(3)

(صحيح). قطعة من حديث طويل لأبي هريرة تقدّم تفصيل القول فيه (ص 421).

(4)

(موضوع). قطعة من حديث "إن الجنّة لتزيّن وتزخرف" الذي تقدّم (ص 372).

ص: 479

• وإنَّما كانَ يومُ الفطرِ مِن رمضانَ عيدًا لجميعِ الأُمَّةِ؛ لأنَّهُ يُعْتَقُ فيهِ أهلُ الكبائرِ مِن الصَّائمينَ مِن النَّارِ فيَلْتَحِقُ فيهِ المذنبونَ بالأبرارِ، كما أنَّ يومَ النَّحرِ هوَ العيدُ الأكبرُ؛ لأنَّ قبلَهُ يومَ عرفةَ، وهوَ اليومُ الذي لا يُرى في يومٍ مِن الدُّنيا أكثرَ عتقًا مِن النَّارِ منهُ. فمَن أُعْتِقَ مِن النَّارِ في اليومينِ؛ فلهُ يومُ عيدٍ، ومَن فاتَهُ العتقُ في اليومينِ؛ فلهُ يومُ وعيدٍ.

أنْشَدَ الشِّبْلِيُّ:

لَيْسَ عيدُ المُحِبِّ قَصْدَ المُصَلَّى

وَانْتِظارَ الأميرِ وَالسُّلْطانِ

إنَّما العيدُ أنْ تَكونَ لَدى الـ

ــــــــاهِ كَريمًا مُقَرَّبًا في أمانِ

ورُئِيَ بعضُ العارفينَ ليلةَ عيدٍ في فلاةٍ يَبْكي على نفسِهِ ويُنْشِدُ:

بِحُرْمَةِ غُرْبَتي كَم ذا الصُّدودُ

ألا تَعْطِفْ عَلَيَّ ألا تَجودُ

سُرورُ العيدِ قَدْ عَمَّ النَّواحي

وَحُزْني في ازْدِيادٍ لا يَبِيدُ

فَإنْ كُنْتُ اقْتَرَفْتُ خِلالَ سَوْءٍ

فَعُذْري في الهَوى أنْ لا أعودُ

لمَّا كانَتِ المغفرةُ والعتقُ مِن النَّارِ كلٌّ منهُما مرتَّبًا على صيامِ رمضانَ وقيامِهِ؛ أمَرَ اللهُ سبحانه وتعالى عندَ إكمالِ العدَّةِ بتكبيرِهِ وشكرِهِ، فقالَ:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. فشكرُ مَن أنْعَمَ على عبادِهِ بتوفيقِهِم للصِّيامِ وإعانتِهِم عليهِ ومغفرتِهِ لهُم بهِ وعتقِهِم بهِ مِن النَّارِ أنْ يَذْكُروهُ ويَشْكُروهُ ويَتَّقوهُ حقَّ تقاتِهِ. وقد فَسَّرَ ابنُ مَسْعودٍ تقواهُ حقَّ تقاتِهِ بأنْ يُطاعَ فلا يُعْصى ويُذْكَرَ فلا يُنْسى ويُشْكَرَ فلا يُكْفَرَ.

فيا أربابَ الذُّنوبِ العظيمة! الغنيمةَ الغنيمةَ في هذهِ الأيامِ الكريمة؛ فما منها عوضٌ ولا لها قيمة! فكم يُعْتَقُ فيها مِن النَّارِ مِن ذي جريرةٍ وجريمة! فمن أُعْتِقَ فيها مِن النَّارِ فقد فازَ بالجائزةِ العميمةِ والمنحةِ الجسيمة.

يا مَن أعْتَقَهُ مولاهُ مِن النَّار! إيَّاكَ أنْ تَعودَ بعدَ أنْ صِرْتَ حرًّا إلى رقِّ الأوزار. أيُبْعِدُكَ مولاكَ عن النَّارِ وأنتَ تتقَرَّبُ منها، ويُنْقِذُكَ منها وأنتَ توقِعُ نفسَكَ فيها ولا تَحيدُ عنها؟!

وإنَّ امْرَءًا يَنْجو مِنَ النَّارِ بَعْدَما

تَزَوَّدَ مِن أعْمالِها لَسَعيدُ

ص: 480

إنْ كانَتِ الرَّحمةُ للمحسنينَ؛ فالمسيءُ لا يَيْأسُ منها، وإنْ تَكُنِ المغفرةُ مكتوبةً للمتَّقينَ؛ فالظَّالمُ لنفسِهِ غيرُ محجوبٍ عنها.

إنْ كانَ عَفْوُكَ لا يَرْجوهُ ذو خَطإ

فَمَنْ يَجودُ على العاصينَ بِالكَرَمِ

غيرُهُ:

إنْ كانَ لا يَرْجوكَ إلَّا مُحْسِنٌ

فَمَنِ الذي يَرْجو ويَدْعو المُذْنِبُ

{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].

فيا أيُّها العاصي! وكلُّنا ذلك، لا تَقْنَطْ مِن رحمةِ اللهِ لسوءِ أعمالِك، فكم يُعْتَقُ مِن النَّارِ في هذهِ الأيَّامِ مِن أمثالِك! فأحْسِنِ الظَّنَّ بمولاكَ وتُبْ إليهِ؛ فإنَّهُ لا يَهْلِكُ على اللهِ [إلَّا] هالك.

إذا أوْجَعَتْكَ الذُّنوبُ فَداوِها

بِرَفْعِ يَدٍ في اللَيْلِ وَاللَيْلُ مُظْلِمُ

وَلا تَقْنَطَنْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إنَّما

قُنوطُكَ مِنْها مِنْ ذُنوبِكَ أعْظَمُ

فَرَحْمَتُهُ لِلْمُحْسِنينَ كَرامَةٌ

وَرَحْمَتُهُ لِلمُذْنِبينَ تَكَرُّمُ

• يَنْبَغي لمَن يَرْجو العتقَ مِن النَّارِ في شهرِ رمضانَ أنْ يَأْتِيَ بأسبابٍ توجِبُ العتقَ مِن النَّارِ، وهيَ متيسِّرةٌ في هذا الشَّهرِ.

وكانَ أبو قِلابَةَ يُعْتِقُ في آخرِ الشَّهرِ جارية حسناءَ مزيَّنةً يَرْجو بعتقِها العتقَ مِن النَّارِ.

وفي حديثِ سَلْمانَ المرفوعِ الذي في "صحيح ابن خُزَيْمَةَ": "مَن فَطَّرَ فيهِ صائمًا؛ كانَ عتقًا لهُ مِن النَّارِ، ومَن خَفَّفَ فيهِ عن مملوكِهِ؛ كانَ عتقًا لهُ مِن النَّارِ"

(1)

.

وفيهِ أيضًا: "فاسْتكْثِروا فيهِ مِن خصلتينِ تُرْضونَ بهِما ربَّكُم [وخصلتينِ] لا غنى بكُم عنهُما. فأمَّا الخصلتانِ اللتانِ تُرْضونَ بهِما ربَّكُم؛ فشهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ والاستغفارُ. وأمَّا اللتانِ لا غنى بكُم عنهُما؛ فتَسْألونَ الله تَعالى الجنَّةَ وتَعُوذونَ بهِ مِن

(1)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 355).

ص: 481

النَّارِ"

(1)

فهذهِ الخصالُ الأربعُ المذكورةُ في هذا الحديثِ؛ كلٌّ منها سببٌ للعتقِ والمغفرةِ:

• فأمَّا كلمةُ التَّوحيدِ؛ فإنَّها تَهْدِمُ الذُّنوبَ وتَمْحوها محوًّا ولا تُبْقي ذنبًا ولا يَسْبِقُها عملٌ، وهيَ تَعْدِلُ عتقَ الرِّقابِ الذي يوجِبُ العتقَ مِن النَّارِ. ومَن أتى بها أربعَ مرارٍ حينَ يُصْبِحُ وحينَ يُمْسي؛ أعْتَقَهُ اللهُ مِن النَّارِ، ومَن قالَها خالصًا مِن قلبِهِ؛ حَرَّمَهُ اللهُ على النَّارِ.

• وأمَّا كلمةُ الاستغفارِ؛ فمِن أعظمِ أسبابِ المغفرةِ؛ فإنَّ الاستغفارَ دعاءٌ بالمغفرةِ، ودعاءُ الصَّائمِ مستجابٌ في حالِ صيامِهِ وعندَ فطرِهِ. وقد سَبَقَ حديثُ أبي هُرَيْرَةَ المرفوعِ:"ويُغْفَرُ فيهِ (يَعْني: شهرَ رمضانَ) إلَّا لمَن أبى". قالوا: يا أبا هرَيْرَةَ! ومَن أبى؟ قالَ: مَن أبى أنْ يَسْتَغْفِرَ الله عز وجل

(2)

. قالَ الحَسَنُ: أكْثِروا مِن الاستغفارِ؛ فإنَّكُم لا تَدْرونَ متى تَنْزِلُ الرَّحمةُ. وقالَ لُقْمانُ لابنِهِ: يا بنيَّ! عَوِّدْ لسانَكَ الاستغفارَ، فإنَّ للهِ ساعاتٍ لا يَرُدُّ فيهنَّ سائلًا.

وقد جَمَعَ اللهُ بينَ التَّوحيدِ والاستغفارِ في قولِهِ تَعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمَّد: 19]. وفي بعضِ الآثارِ؛ أن إبليسَ قالَ: أهْلَكْتُ النَّاسَ بالذُّنوبِ وأهْلَكوني بلا إلهَ إلَّا اللهُ والاستغفارُ

(3)

.

والاستغفارُ ختامُ الأعمالِ الصَّالحةِ كلِّها: فتُخْتَمُ بهِ الصَّلاةُ والحجُّ وقيامُ الليلِ. ويُخْتَمُ بهِ المجالسُ: فإنْ كانَتْ ذكرًا؛ كانَ كالطَّابعِ عليها، وإنْ كانَتْ لغوًا؛ كانَ كفَّارةً

(1)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 355).

(2)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 477).

(3)

(موضوع). قطعة من حديث رواه: ابن أبي عاصم في "السنّة"(7)، وأبو يعلى (136)، والطبراني (10/ 210 - مجمع)، ومن طريقه الحسن بن أحمد العطّار الهمذاني في "فتياه"(11)، والرافعي في "التدوين"(3/ 39)؛ من طريق عثمان بن مطر، عن عبد الغفور بن عبد العزيز بن سعيد، عن أبي نصيرة، عن أبي رجاء مولى أبي بكر، عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه

رفعه.

قال الهيثمي (10/ 210): "فيه عثمان بن مطر وهو ضعيف". وقال ابن كثير: "عثمان وشيخه ضعيفان". قلت: عثمان ضعيف جدًّا في حدّ الترك بل اتّهمه ابن حبّان، وعبد الغفور متّهم، وأبو رجاء مجهول، والحديث موضوع كما قال الألباني.

ص: 482

لها. فكذلكَ يَنْبَغي أنْ يُخْتَمَ صيامُ رمضانَ بالاستغفارِ.

كَتَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ إلى الأمصارِ يَأْمُرُهُم بختمِ شهرِ رمضانَ بالاستغفارِ والصَّدقةِ؛ صدقةِ الفطرِ؛ فإنَّ صدقةَ الفطرِ طهرةٌ للصَّائمِ مِن اللغوِ والرَّفثِ، والاستغفارُ يَرْقَعُ ما تَخَرَّقَ مِن الصِّيامِ باللغوِ والرَّفثِ.

ولهذا قالَ بعضُ العلماءِ المتقدِّمينَ: إنَّ صدقةَ الفطرِ للصَّائمِ كسجدتيِ السَّهوِ للصَّلاةِ.

وقالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ في كتابِهِ: قولوا كما قالَ أبوكُم آدَمُ: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقولوا كما قالَ نوحٌ:{وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]، وقولوا كما قالَ إبْراهيمُ:{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشُّعراء: 82]، وقولوا كما قالَ موسى:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، وقولوا كما قالَ ذو النُّونِ:{لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].

ويُرْوى عن أبي هُرَيْرَةَ؛ قالَ: الغيبةُ تُخَرِّقُ الصِّيامَ والاستغفارُ يُرَقِّعُهُ، فمَنِ اسْتَطاعَ منكُم أنْ يَجيءَ بصومٍ مرقَّعٍ، فلْيَفْعَلْ.

وعنِ ابن المُنْكَدِرِ معنى ذلكَ.

الصِّيامُ جُنَّةٌ مِن النَّارِ ما لمْ يُخَرِّقْها، والكلامُ السَّيِّئُ يُخَرِّقُ هذهِ الجُنَّةَ، والاستغفارُ يُرَقِّعُ ما تَخَرَّقَ منها.

فصيامُنا هذا يَحْتاجُ إلى استغفارٍ نافع وعملٍ صالحٍ لهُ شافع! كم نُخَرِّقُ صيامَنا بسهام الكلامِ ثمَّ نُرَقِّعُهُ وقدِ اتَّسَعَ الخرقُ على الرَّاقع! كم نَرْفو خروقَهُ بمِخْيَطِ الحسناتِ ثمَّ نَقْطعُهُ بحسامِ السَّيِّئاتِ القاطع!

كانَ بعضُ السَّلفِ إذا صَلَّى صلاةً اسْتَغْفَرَ مِن تقصيرِهِ فيها كما يَسْتَغْفِرُ المذنبُ مِن ذنبِهِ.

إذا كانَ هذا حالَ المحسنينَ في عباداتِهِم؛ فكيف حالُ المسيئينَ مثلِنا في عاداتِهِم؟!

ارْحَموا مَن حسناتُهُ سيِّئاتٌ وطاعاتُهُ كلُّها غفلاتٌ.

ص: 483

أسْتَغْفِرُ الله مِنْ صِيامي

طولَ زَماني وَمِنْ صَلاتي

صِيامُنا كُلُّهُ خُروقُ

صَلاتُنا أيُّما صَلاتي

مُسْتَيْقِظٌ في الدُّجى وَلكِنْ

أحْسَنُ مِنْ يَقْظَتي سُباتي

وقريبٌ مِن هذا أمرُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لعائِشَةَ في ليلةِ القدرِ بسؤالِ العفوِ

(1)

؛ فإنَّ المؤمنَ يَجْتَهِدُ في شهرِ رمضانَ في صيامِهِ وقيامِهِ، فإذا قَرُبَ فراغُهُ وصادَفَ ليلةَ القدرِ، لم يَسْألِ الله إلَّا العفوَ كالمسيءِ المقصِّرِ.

كانَ صِلَةُ بنُ أشْيَمَ يُحْيي الليلَ، ثمَّ يَقولُ في دعائِهِ في السَّحرِ: اللهمَّ! إنِّي أسْألُكَ أنْ تُجيرَني مِن النَّارِ، ومثلي يَجْتَرِئُ أنْ يَسْألَكَ الجنَّةَ؟!

كانَ مُطَرِّف تقولُ في دعائِهِ: اللهمَّ! ارْضَ عنَّا، فإنْ لمْ تَرْضَ عنَّا؛ فاعْفُ عنَّا؛ فإنَّ السَّيِّدَ يَعْفو عن عبدٍ وهوَ عنهُ غيرُ راضٍ.

قالَ يَحْيى بنُ مُعاذٍ: ليسَ بعارفٍ مَن لمْ يَكُنْ غايةُ أملِهِ مِن اللهِ العفوَ.

إنْ كُنْتُ لا أصْلُحُ لِلْقُرْبِ

فَشَأْنُكُمُ عَفْوٌ عَنِ الذَّنْبِ

أنفعُ الاستغفارِ ما قارَنَتْهُ التَّوبةُ، وهيَ حلُّ عقدةِ الإصرارِ. فمَنِ اسْتَغْفَرَ بلسانِهِ وقلبُهُ على المعصيةِ معقود، وعزمُهُ أنْ يَرْجِعَ إلى المعاصي بعدَ الشَّهرِ ويَعود؛ فصومُهُ عليهِ مردود، وبابُ القبولِ عنهُ مسدود.

قالَ كعبٌ: مَن صامَ رمضانَ وهوَ يُحَدِّثُ نفسَهُ أنَّهُ إذا أفْطَرَ [بعدَ]

(2)

رمضانَ أنْ لا يَعْصِيَ الله؛ دَخَلَ الجنَّةَ بغيرِ مسألةٍ ولا حسابٍ، ومَن صامَ رمضانَ وهوَ يُحَدِّثُ نفسَهُ أنَّهُ إذا أفْطَرَ عَصى ربَّهُ؛ فصيامُهُ عليهِ مردودٌ. خَرَّجَهُ سَلَمَةُ بنُ شَبيبٍ.

وَلَوْلا التُّقى ثُمَّ النُّهى خَشْيَةَ الرَّدى

لَعاصَيْتُ في حُبِّ الصِّبا كُلَّ زاجِرِ

قَضى ما قَضى فيما مَضى ثُمَّ لا تُرى

لَهُ عَوْدَةٌ أُخْرى اللَيالي الغَوابِرِ

في "سنن أبي داوود" وغيرِهِ: عن أبي بَكْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"لا يَقولَنَّ أحدُكُم: صُمْتُ رمضانَ كلَّهُ، ولا قُمْتُ رمضانَ كلَّهُ". قالَ أبو بَكْرَةَ: فلا أدري؛ أكَرِهَ

(1)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 466).

(2)

ليست من خ و م، استفدتها من ط ليستقيم السياق.

ص: 484

التَّزكيةَ أم لا بدَّ مِن غفلةٍ

(1)

؟

أين مَن كانَ إذا صامَ صانَ الصِّيامَ وإذا قامَ اسْتَقامَ في القيام؟! أحْسَنوا الإسلامَ ثمَّ رَحَلوا بسلام

(2)

! ما بَقِيَ إلَّا مَن إذا صامَ افْتَخَرَ بصيامِهِ وصال، وإذا قامَ أُعْجِبَ بقيامِهِ وقال! كم بينَ خَلِيٍّ وشَجِيٍّ وواجدٍ وفاقدٍ وكاتمٍ ومبدي!

• وأمَّا سؤالُ الجنَّةِ والاستعاذةُ مِن النَّارِ؛ فمِن أهمِّ الدُّعاءِ، وقد قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"حولَها نُدَنْدِنُ"

(3)

. فالصَّائمُ يُرْجى استجابةُ دعائِهِ، فيَنْبَغي ألَّا يَدْعُوَ إلَّا بأهمِّ الأُمورِ.

قالَ أبو مُسْلِمٍ: ما عَرَضَتْ لي دعوةٌ إلَّا صَرَفْتُها إلى الاستعاذةِ مِن النَّارِ.

وفي الحديثِ: "تَعَرَّضوا لنفحاتِ رحمةِ ربِّكُم؛ فإنَّ للهِ نفحاتٍ مِن رحمتِهِ يُصيبُ بها مَن يَشاءُ مِن عبابٍ، فمَن أصابَتْهُ سَعِدَ سعادةً لا يَشْقى بعدَها أبدًا"

(4)

.

فمِن أعظمِ نفحاتِهِ مصادفةُ ساعةِ إجابةٍ يَسْألُ فيها العبدُ الجنَّةَ والنَّجاةَ مِن النَّارِ فيُجابُ سؤالُهُ فيَفوزُ بسعادةِ الأبدِ.

قالَ اللهُ تَعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185]. وقالَ: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20]. وقالَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ

} إلى قولِهِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي

(1)

(ضعيف). رواه: إسحاق (1/ 404/ 450)، وأحمد (5/ 39 و 40 و 41 و 48 و 52)، وأبو داوود (2415)، والبزّار (9/ 105/ 3645)، وابن حبّان (3439)، والبيهقي في "الشعب"(3281 و 3655)؛ من طريقين تقوّي إحداهما الأخرى، عن الحسن، عن أبي بكرة .. ، رفعه. وهذا سند ضعيف من أجل الحسن؛ فإنّه عنعن على تدليسه والخلاف في سماعه من أبي بكرة. وقد ضعّفه الألباني.

(2)

في خ: "وباب القبول عليه مسدود

دخلوا بسلام"، والصواب ما أثبتّه من م و ط.

(3)

(صحيح). رواه: أحمد (3/ 474)، وابن ماجه (5 - إقامة الصلاة، 26 - ما يقال في التشهّد، 1/ 295/ 910 و 3847)، وأبو داوود (2 - الصلاة، 123 - تخفيف الصلاة، 1/ 270/ 792)، وابن خزيمة (725)، وابن حبّان (868)؛ تارة من طريق زائدة وتارة من طريق جرير، كلاهما عن الأعمش، (قال زائدة: عن رجل من أصحاب النبيّ، وقال جرير: عن أبي هريرة)

رفعه. وهذا سند صحيح رجاله ثقات رجال الستّة، وجهالة الصحابيّ لا تضرّ، على أنّه قد عرف من الطريق الأُخرى.

ثمّ له شاهد مقطع من حديث سليم (رجل من بني سلمة) عند أحمد (5/ 74)، وآخر من حديث جابر عند أبي داوود (الموضع السابق، 793) بسند حسن. وقد صحّحه النووي والبوصيري والسيوطي والألباني.

(4)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 40 - 41).

ص: 485

الْجَنَّةِ} [هود: 106 - 108].

لَيْسَ السَّعيدُ الَّذي دُنْياهُ تُسْعِدُهُ

إنَّ السَّعيدَ الذي يَنْجو مِنَ النَّارِ

• عبادَ اللهِ! [إنَّ] شهرَ رمضانَ قد عَزَمَ على الرَّحيل، ولم يَبْقَ منهُ إلَّا القليل. فمَن منكُم أحْسَنَ فيهِ فعليهِ التَّمام، ومَن كانَ فَرَّطَ فلْيَخْتِمْهُ بالحسنى فالعملُ بالختام. فاسْتَمْتِعوا منهُ بما بَقِيَ مِن الليالي اليسيرةِ والأيَّام، واسْتَوْدِعوهُ عملًا صالحًا يَشْهَدُ لكُم بهِ عندَ الملكِ العلَّام، ووَدِّعوهُ عندَ فراقِهِ بأزكى تحيَّةٍ وسلام.

سَلَامٌ مِنَ الرَّحْمنِ كُلَّ أوانِ

عَلى خَيْرِ شَهْرٍ قَدْ مَضى وَزَمانِ

سَلامٌ عَلى شَهْرِ الصِّيامِ فَإنَّهُ

أمانٌ مِنَ الرَّحْمنِ أيُّ أمانِ

لَئِنْ فَنِيَتْ أيَّامُكَ الغُرُّ بَغْتَةً

فَما الحُزْنُ مِنْ قَلْبي عَلَيْكَ بِفانِ

لقد ذَهَبَتْ أيَّامُهُ وما أطَعْتُم، وكُتِبَتْ عليكُم فيهِ آثامُهُ وما أضَعْتُم، وكأنَّكُم بالمشمِّرينَ فيهِ وقد وَصَلوا وانْقَطَعْتُم، أتُرى ما هذا التَّوبيخُ لكُم أو ما سَمِعْتُم؟!

ما ضاعَ مِن أيَّامِنا هَلْ يُغْرَمُ

هَيْهاتَ وَالأزمانُ كَيْفَ تُقَوَّمُ

يَوْمٌ بِأرْباحٍ يُباعُ وَيُشْتَرى

وَأخوهُ لَيْسَ يُسامُ فيهِ دِرْهَمُ

(1)

قلوبُ المتَّقينَ إلى هذا الشَّهرِ تَحِنُّ ومِن ألمِ فراقِهِ تَئِنُّ.

دَهاكَ الفِراقُ فَما تَصْنَعُ

أتَصبِرُ لِلْبَيْنِ أمْ تَجْزَعُ

إذا كُنْتَ تَبْكي وَهُمْ جِيرَةٌ

فَكَيْفَ تَكونُ إذا وَدَّعوا

كيفَ لا يَجْري للمؤمنِ على فراقِهِ دموعُ، وهوَ لا يَدْري هلْ بَقِيَ لهُ في عمرِهِ إليهِ رجوعُ؟!

تَذَكَّرْتُ أيامًا مَضَتْ وَلَيالِيا

خَلَتْ فَجَرَتْ مِنْ ذِكْرِهِنَّ دُموعُ

ألا هَلْ لَها يَوْمًا مِنَ الدَّهرِ عَوْدَةٌ

وَهَلْ لي إلى وَقْتِ الوِصالِ رُجوعُ

وَهَلْ بعدَ إعْراضِ الحَبيبِ تَواصُلٌ

وَهَلْ لِبُدورٍ قَدْ أفَلْنَ طُلوعُ

أينَ حُرَقُ المجتهدينَ في نهارِه؟! أينَ قلقُ المتهجِّدينَ

(2)

في أسحارِه؟

(1)

في خ: "فقد ذهبت أيّامه

فهيهات

وأخوه بخس لا يساوي درهم"، وأثبت ما في م و ط.

(2)

في خ: "قلق المجتهدين"، والأولى ما أثبتّه من م و ط.

ص: 486

إِسْمَعْ أنينَ العاشِقيـ

ــــــــــــنَ إنِ اسْتَطَعْتَ لَهُ سَماعا

راحَ الحَبيبُ فَشَيَّعَتْـ

ـهُ مَدامِعي تَهْمِي سِراعا

لَوْ كُلِّفَ الجَبَلُ الأصَمْ

مُ فِراقَ إلْفٍ ما اسْتَطاعا

إذا كانَ هذا جزعَ مَن رَبِحَ فيه؛ فكيفَ حالُ مَن خَسِرَ في أيَّامِهِ ولياليه؟! ماذا يَنْفَعُ المفرِّطَ فيهِ بكاؤُه وقد عَظُمَتْ فيهِ مصيبتُهُ وجَلَّ عزاؤُه؟! كم نُصِحَ المسكينُ فما قَبِلَ النُّصح! كم دُعِيَ إلى المصالحةِ فما أجابَ إلى الصُّلح! كم شاهَدَ الواصلينَ وهوَ متباعد! كم مَرَّتْ بهِ زمرُ السَّائرينَ وهوَ قاعد! حتَّى إذا ضاقَ بهِ الوقتُ وحاقَ بهِ المقتُ؛ نَدِمَ على التَّفريطِ حينَ لا يَنْفَعُ النَّدم، وطَلَبَ الاستدراكَ في وقتِ العدم.

أتَتْرُكُ مَنْ تُحِبُّ وَأنْتَ جارُ

وَتَطْلُبُهُمْ إذا بَعُدَ المَزارُ

وَتَبْكي بَعْدَ نَأْيِهِمُ اشْتِياقا

وَتَسْألُ في المَنازِلِ أينَ ساروا

تَرَكْتَ سُؤالَهُمْ وَهُمُ حُضورٌ

وَتَرْجو أنْ تُخَبِّرَكَ الدِّيارُ

فَنَفْسَكَ لُمْ وَلا تَلُمِ المَطايا

وَمُتْ كَمَدًا فَلَيْسَ لَكَ اعْتِذارُ

يا شهرَ رمضانَ! تَرَفَّقْ، دموعُ المحبِّينَ لذهابِكَ تَدَفَّق، قلوبُهُم مِن ألمِ الفراقِ تَشَقَّق، عَسى وقفةٌ للوداعِ تُطْفِئُ مِن نارِ الشَّوقِ ما أحْرَق، عسى ساعةُ توبةٍ وإقلاعٍ تَزفو مِن الصِّيامِ كلَّ ما تَخَرَّق، عَسى منقطِعٌ عن ركبِ المقبولينَ يَلْحَق، عسى مَنِ اسْتَوْجَبَ النَّارَ يُعْتَق، عسى أُسراءُ الأوزارِ تُطْلَق، عسى رحمةُ المولى لها العاصي يُوَفَّق.

عَسى وَعَسى مِنْ قَبْلِ وَقْتِ التَّفَرُّقِ

إلى كُلِّ ما تَرجو مِنَ الخَيْرِ تَرْتَقي

فَيُجْبَرَ مَكْسورٌ

(1)

وَيُقْبَلَ تائِبٌ

وَيُعْتَقَ خَطَّاءٌ وَيَسْعَدَ مَنْ شَقِي

* * *

(1)

في حاشية خ: "خ مردود خ مطرود"؛ يعني أنّه كذلك في بعض النسخ. وفي م: "فيقرب مردود ويقبل تائب ويجبر مكسور

".

ص: 487

‌وظائف شهر شوال

وفيه مجالسُ:

‌المجلس الأول في صيام شوال كله وإتباع رمضان بصيام ستة أيام منه

خَرَّجَ مسلمٌ

(1)

مِن حديثِ: أبي أيُّوبَ الأنْصارِيِّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"مَن صامَ رمضانَ، ثمَّ أتْبَعَهُ ستًّا مِن شوَّالٍ، كانَ كصيامِ الدَّهرِ".

وقدِ اخْتُلِفَ في هذا الحديثِ ثمَّ في العملِ بهِ:

• فمنهُم مَن صَحَّحَهُ. ومنهُم مَن قالَ: هوَ موقوفٌ، قالَهُ ابنُ عُيَيْنَةَ وغيرُهُ، وإليهِ يَميلُ الإمامُ أحْمَدُ. ومنهُم مَن تَكَلَّمَ في إسنادِهِ.

• وأمَّا العملُ بهِ:

* فاسْتَحَبَّ صيامَ ستَّةِ أيَّامٍ مِن شوَّالٍ أكثرُ العلماءِ. رُوِيَ ذلكَ عن: ابن عَبَّاسٍ، وطاووسٍ، والشَّعْبِيِّ، ومَيْمونِ بن مِهْرانَ، وهوَ قولُ ابنِ المُبارَكِ والشَّافِعِيِّ وأحْمَدَ وإسْحاقَ.

* وأنْكَرَ ذلكَ آخرونَ:

رُوِيَ عن الحَسَنِ أنَّهُ كانَ إذا ذُكِرَ عندَهُ صيامُ هذهِ السِّتِّ؛ قالَ: لقد رَضِيَ اللهُ بهذا الشَّهرِ للسَّنةِ كلِّها! ولَعَلَّهُ إنَّما أنْكَرَ على مَنِ اعْتَقَدَ وجوبَ صيامِها وأنَّهُ لا يُكْتَفى بصيامِ رمضانَ عنها في الوجوبِ. وظاهرُ كلامِهِ يَدُلُّ على هذا.

وكَرِهَها الثَّوْرِيُّ وأبو حَنِيفَةَ وأبو يوسُفَ، وعَلَّلَ أصحابُهُما ذلكَ بمشابهةِ أهلِ

(1)

(13 - الصيام، 39 - صوم ستّة من شوّال، 2/ 822/ 1164).

ص: 488

الكتابِ؛ يَعْنونَ: في الزِّيادةِ في صيامِهِمُ المفروضِ عليهِم ما ليسَ منهُ. وأكثرُ المتأخِّرينَ مِن مشايخِهِم قالوا: لا بأْسَ بهِ، وعَلَّلوا بأنَّ الفصلَ قد حَصَلَ بفطرِ يومِ العيدِ، حَكى ذلكَ صاحبُ "الكافي" منهُم. وكانَ ابنُ مَهْدي يَكْرَهُها ولا يَنْهى عنها. وكَرِهَها أيضًا مالِكٌ، وذَكَرَ في "الموطَّأ" أنَّهُ لم يَرَ أحدًا مِن أهلِ العلمِ والفقهِ يَصومُها، قالَ: ولم يَبْلُغْني ذلكَ عن أحدٍ مِن السَّلفِ، وإنَّ أهلَ العلمِ يَكْرَهونَ ذلكَ ويَخافونَ بدعتَهُ وأنْ يُلْحِقَ برمضانَ ما ليسَ منهُ أهلُ الجهالةِ لو رَأَوْا أحدًا مِن أهلِ العلمِ يَفْعَلُ ذلكَ. وقد قيلَ: إنَّهُ كانَ يَصومُها في نفسِهِ، وإنَّما كَرِهَها على وجهٍ يُخْشى منهُ أنْ يُعْتَقَدَ فريضتُها لئلَّا يُزادَ في رمضانَ ما ليسَ منهُ.

• وأمَّا الذينَ اسْتَحَبُّوا صيامَها؛ فاخْتَلَفوا في صفةِ صيامِها على ثلاثةِ أقوالٍ:

أحدُها: أنَّهُ يُسْتَحَبُّ صيامُها مِن أوَّلِ الشَّهرِ متتابعةً. وهوَ قولُ الشَّافِعِيِّ وابنِ المُبارَكِ. وقد رُوِيَ في حديثِ أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: "مَن صامَ ستَّةَ أيَّامٍ بعدَ الفطرِ متتابعةً؛ فكأنَّما صامَ السَّنةَ"

(1)

. خَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ وغيرُهُ مِن طرقٍ ضعيفةٍ. ورُوِيَ موقوفًا. ورُوِيَ عن ابنِ عَبَّاسٍ مِن قولِهِ بمعناهُ بإسنادٍ ضعيفٍ أيضًا.

والثَّاني: أنَّهُ لا فرقَ بينَ أنْ يُتابِعَها أو يُفَرِّقَها مِن الشَّهرِ كلِّهِ، وهُما سواءٌ. وهوَ قولُ وَكيعٍ وأحْمَدَ.

والثَّالثُ: أنَّهُ لا يُصامُ عَقِيبَ يومِ الفطرِ؛ فإنَّها أيَّامُ أكلٍ وشربٍ، ولكنْ يُصامُ ثلاثةُ أيَّامٍ قبلَ أيَّامِ البيضِ أو بعدَها وأيَّامُ البيضِ

(2)

. وهذا قولُ مَعْمَرٍ وعَبْدِ الرَّزَّاقِ ويُرْوى عن

(1)

(ضعيف). رواه الطبراني في "الأوسط"(7603): ثنا محمّد بن إسحاق بن إبراهيم، ثني أبي، ثنا سعيد بن الصلت، ثنا الحسن بن عمرو الفقيمي، عن يزيد بن خصيفة، عن ثوبان، عن أبي هريرة

رفعه.

قال الطبراني: "تفرّد به شاذان [إسحاق بن إبراهيم] وقال: عن يزيد عن ثوبان، وإنّما يزيد عن محمّد بن عبد الرحمن بن ثوبان". وقال المنذري: "إسناد فيه نظر". وقال الهيثمي (3/ 187): "فيه من لم أعرفه". قلت: يزيد عن ثوبان منقطع، إلّا إن كان خطأ صوابه ما ذكر الطبراني. وسعيد بن الصلت ما عرفته، والغالب أنّ صوابه سعد بن الصلت، وهذا صالح الحديث. ومحمّد بن إسحاق ما وقفت له على ترجمة، ولعلّه هو الذي لم يعرفه الهيثمي، وهو علّة السند القادحة. وقد ضعّفه المنذري وابن رجب والهيثمي.

(2)

في خ: "ثلاثة أيّام قبل أيّام البيض وأيّام البيض أو بعدها"، وفي م:"ثلاثة أيّام قبل أيّام البيض أو بعدها"، والأولى ما أثبتّه من ط.

ص: 489

عَطاءٍ، حتَّى رُوِيَ عنهُ أنَّهُ كَرِهَ لمَن عليهِ صيامٌ مِن قضاءِ رمضانَ أنْ يَصومَهُ ثمَّ يَصِلَهُ بصيامِ تطوُّعٍ، وأمَرَ بالفصلِ بينَهُما. وهوَ قولٌ شاذٌّ.

وأكثرُ العلماءِ على أنَّهُ لا يُكْرَهُ صيامُ ثاني يومِ الفطرِ، وقد دَلَّ عليهِ حديثُ: عِمْرانَ بن حُصَيْنٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قالَ لرجلٍ:"إذا أفْطَرْتَ فَصُمْ"

(1)

. وقد ذَكَرْناهُ في صيامِ آخرِ شعبانَ.

وقد سَرَدَ طائفةٌ مِن الصَّحابةِ والتَّابعينَ الصَّومَ إلَّا يومَ فطرٍ وأضحى

(2)

.

وقد رُوِيَ عن أمِّ سَلَمَةَ؛ أنَّها كانَتْ تَقولُ لأهلِها: مَن كانَ عليهِ رمضانُ؛ فلْيَصُمْهُ الغدَ مِن يومِ الفطرِ، فمَن صامَ الغدَ مِن يومِ الفطرِ؛ فكأنَّما صامَ رمضانَ. وفي إسنادِهِ ضعفٌ.

وعنِ الشَّعْبِيِّ؛ قالَ: لأنْ أصومَ يومًا بعدَ رمضانَ أحبُّ إليَّ مِن أنْ أصومَ الدَّهرَ كلَّهُ.

ويُرْوى بإسنادٍ ضعيفٍ عن ابن عُمَرَ مرفوعًا: "مَن صامَ بعدَ الفطرِ يومًا؛ فكأنَّما صامَ السَّنةَ"

(3)

.

وبإسنادٍ ضعيفٍ عن ابن عَبَّاسٍ مرفوعًا: "الصَّائمُ بعدَ رمضانَ كالكارِّ بعدَ الفارِّ"

(4)

.

• وأمَّا صيامُ شوَّالٍ كلِّهِ؛ ففي حديثِ رجلٍ مِن قريشٍ سَمعَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: "مَن صامَ رمضانَ وشوَّالًا والأربعاءَ والخميسَ؛ دَخَلَ الجنَّةَ"

(5)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ

(1)

متّفق عليه. تقدّم تفصيل القول فيه (ص 333 - 334).

(2)

تقدّم (ص 94) ما فيه، ومراده بإيراده هنا جواز صوم ثاني يوم الفطر، وهو كما قال.

(3)

(ضعيف). لم أقف عليه، فحسبي فيه قول من وقف عليه، بل الغالب على ما عهدت من طريقة المصنّف يرحمه الله أنّه دون ذلك. وانظر ما بعده.

(4)

(ضعيف جدًّا). رواه: أبو الشيخ في "الثواب"، والبيهقي في "الشعب"(3737) و"فضائل الأوقات"(200)، والديلمي في "الفردوس"(4/ 231 - فيض)؛ من طريق ابن أبي السريّ، ثنا بقيّة بن الوليد، عن إسماعيل بن بشير، عن عكرمة، عن ابن عبّاس

رفعه.

وهذا سند واه: ابن أبي السريّ كثير الوهم، وبقيّة عنعن على تدليسه، وإسماعيل بن بشير ضعيف، وقال الألباني:"ضعيف جدًّا".

(5)

(ضعيف). رواه: أحمد وابنه (3/ 416)، والحارث (335 - هيثمي)، والنسائي في "الكبرى" =

ص: 490

والنَّسائِيُّ.

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ وأبو داوودَ والنَّسائِيُّ والتِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ: مُسْلِمٍ القُرَشِيِّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ سُئِلَ عن صيامِ الدَّهرِ، فقالَ:"إنَّ لأهلكَ عليكَ حقًّا، فصُم رمضانَ والذي يَليهِ وكلَّ أربعاءٍ وخميسٍ، فإذا أنتَ قد صُمْتَ الدَّهرَ وأفْطَرْتَ"

(1)

.

وخَرَّجَ ابنُ ماجَهْ بإسنادٍ منقطعٍ، أنَّ أُسامةَ بنَ زيدٍ كانَ يَصومُ أشهرَ الحرمِ، فقالَ لهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"صُمْ شوَّالًا"، فتَرَكَ أشهرَ الحرمِ ثمَّ لمْ يَزَلْ يَصومُ شوَّالًا حتَّى ماتَ

(2)

.

وخَرَّجَهُ أبو يَعْلى المَوْصِلِيُّ بإسنادٍ متَّصلٍ: عن أُسامَةَ؛ قالَ: كنتُ أصومُ شهرًا مِن السَّنةِ، فقالَ ليَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أينَ أنتَ مِن شوَّالٍ؟ ". فكانَ أُسامَةُ رضي الله عنه إذا أفْطَرَ

= (2778)، وابن عدي (7/ 2581)، والبيهقي في "الشعب"(3870)، والخطيب في "أوهام الجمع"(2/ 205)؛ من طريق هلال بن خبّاب، عن عكرمة بن خالد، ثني عريف من قريش، ثني أبي

رفعه.

قال الهيثمي (3/ 193): "فيه من لم يسّم". قلت: وهلال كبر وتغيّر. وقد ضعّفه الألباني.

(1)

(ضعيف). رواه: البخاري في "التاريخ"(7/ 253)، وأبو داوود (8 - الصيام، 57 - صوم شوّال، 1/ 739/ 2432)، والترمذي (6 - الصوم، 45 - صوم الأربعاء والخميس، 3/ 123/ 748)، والحارث في "المسند"(336 - زوائد الهيثمي)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(862)، والنسائي في "الكبرى"(2779 و 2780)، وابن قانع في "المعجم"(2/ 179/ 666)، وابن منده في "الصحابة"(3/ 177 - غابة)، وأبو نعيم في "المعرفة"(3/ 177 - غابة)، والبيهقي في "الشعب"(3868 و 3869) و"فضائل الأوقات"(201)، وابن الجوزي في "الواهيات"(907)، وابن الأثير في "الغابة"(4/ 126)؛ من طريق هارون بن سلمان الفرّاء، ثنا عبيد الله بن مسلم (وقال بعضهم: مسلم بن عبيد الله) القرشي، ثني أبي

رفعه.

قال الترمذي: "حديث غريب". وقال المنذري: "رواته ثقات". قلت: عبيد الله بن مسلم مجهول، فالقول قول الترمذي، وقد ضعّفه الألباني.

(2)

(ضعيف). رواه: ابن ماجه (7 - الصيام، 43 - صيام الحرم، 1/ 555/ 1744)، والضياء في "المختارة"(4/ 145/ 1359)؛ من طريق قويّة، عن محمّد بن إبراهيم بن الحارث التيميّ، أنّ أُسامة

فذكره. قال البوصيري: "إسناد رجاله ثقات وفيه مقال. قال العلائي في "المراسيل": ذكر في "التهذيب" أنّ محمّد بن إبراهيم التيميّ أرسل عن أُسامة وأُسيد بن حضير. قال شيخنا أبو زرعة: "لم يذكر في "التهذيب" أنّه أرسل عن أُسامة، وإنّما قال: روى عن أُسامة بن زيد وأُسيد بن حضير مرسل، فتوهّم العلائيّ عوده لهما، وليس كذلك، وإنّما هو عائد إلى أُسيد فقط". قلت: بل إليهما معًا، وهو ما استظهره العسقلاني في "تهذيبه"، ثمّ إنّي لم أقف على رواية لمحمّد التيميّ عن أُسامة غير هذه، وقد ساقها مرسلة، فترجّح أنّ حديثه كلّه عنه مرسل، ولذلك تابع أبو زرعة قائلًا:"نعم؛ الحديث الذي في "سنن ابن ماجه" من رواية التيميّ عن أُسامة لم يسنده إليه فليس بمتّصل". قلت: فقد اتّفقوا إذن على أنّ هذه الرواية معلولة منقطعة. وانظر ما بعده.

ص: 491

رمضانَ؛ أصْبَحَ الغدَ صائمًا مِن شوَّالٍ حتَّى يَأْتِىَ على آخرِهِ

(1)

.

وصيامُ شوَّالٍ كصيامِ شَعْبانَ؛ لأنَّ كلا الشَّهرينِ حريمٌ لشهرِ رمضانَ، وهُما يَلِيانِهِ.

وقد ذَكَرْنا في فضلِ صيامِ شعبانَ أن الأظهرَ أن صيامَهُما أفضلُ مِن صيامِ الأشهرِ الحرمِ، والاختلافَ في ذلكَ.

• وإنَّما كانَ صيامُ رمضانَ وإتباعُهُ بستٍّ مِن شوَّالٍ يَعْدِلُ صيامَ الدَّهرِ؛ لأنَّ الحسنةَ بعشرِ أمثالِها.

وقد جاءَ ذلكَ مفسَّرًا مِن حديثِ ثوبانَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"صيامُ رمضانَ بعشرةِ أشهرٍ، وصيامُ ستَّةِ أيَّامٍ بشهرينِ، فذلكَ صيامُ سنةٍ"

(2)

؛ يَعْني: رمضانَ وستَّةَ أيَّامٍ بعدَهُ. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائِيُّ - وهذا لفظُهُ - وابنُ حِبَّانَ في "صحيحِهِ"، وصَحَّحَهُ أبو حاتِمٍ الرَّازِيُّ. وقالَ الإمامُ أحْمَدُ: ليسَ في أحاديثِ البابِ أصحُّ منهُ. وتَوَقَّفَ فيهِ في روايةٍ أُخرى.

(1)

(ضعيف). لم أقف عليه في مطبوع "مسند أبي يعلى" فلعلّه في "مسنده الكبير"، لكن ساق البوصيريّ رحمة الله عليه طريقه فكفانا مؤنة الحدس والرجم بالغيب فقال:"رواه أبو يعلى في "مسنده" من طريق محمّد بن إسحاق، عن أبي محمّد بن أُسامة، عن جدّه أُسامة

به مرفوعًا". وهذا سند واهٍ وإن سلمت الطريق إلى ابن إسحاق: فابن إسحاق عنعن علي تدليسه. وأبو محمّد بن أُسامة لم أقف له على ذكر، والغالب على الظنّ أنّه تحريف صوابه محمّد بن أسامة بن محمّد بن أسامة، فهذا الذي ذكر أهل التواريخ رواية ابن إسحاق عنه، وهو رجل مجهول، وروايته عن أسامة بن زيد منقطعة، بينه وبينه أبوه وجده، وأبوه مجهول مثله، فالسند واه بمرة بعنعنة مدلس ومجهولين أو بعنعنة مدلس وانقطاع أو إعضال.

فالطريق المتقدّمة آنفًا منقطعة، وهذه واهية راجحة الانقطاع في الموضع نفسه، بل لا يبعد أنّ التيميّ في الطريق الأولى تلقّاه عن أبي محمد في الثانية، فتعود الطريقان واحدة. وإلى تقوية الحديث بطريقيه مال ابن رجب والبوصيري والسيوطي والمناوي، وقد تقدّم لك ما فيهما، وضعّفه الألباني، وهو الأولى بقواعد المصطلح. والله أعلم.

(2)

(صحيح). رواه: أحمد (5/ 280)، والدارمي (2/ 21)، وابن ماجه (7 - الصيام، 33 - صيام ستّة أيّام، 1/ 547/ 1715)، والنسائي في "الكبرى"(2860 و 2861)، وابن خزيمة (2115)، والروياني (134)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(3/ 119)، وابن حبّان (3635)، والطبراني في "المعجم الكبير"(2/ 102/ 1451) و"الشاميين"(485 و 898 و 903)، والبيهقي في "الشعب"(3735 و 3736) و"السنن"(4/ 293)، والخطيب في "التاريخ"(2/ 362)؛ من طرق قويّة، عن يحيى بن الحارث، أني أبو أسماء الرحبي، عن ثوبان

رفعه بهذا اللفظ وبنحوه.

وهذا سند صحيح، صحّحه أحمد وأبو حاتم وابن خزيمة وابن حبّان والمنذري والبوصيري والألباني.

ص: 492

ولا فرقَ في ذلكَ بينَ أنْ يَكونَ شهرُ رمضانَ ثلاثينَ أو تسعًا وعشرينَ. وعلى هذا حَمَلَ بعضُهُم قولَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "شهرا عيدٍ لا يَنْقُصانِ؛ رمضانُ، وذو الحجَّةِ"

(1)

، وقالَ: المرادُ كمالُ أجرِهِ، سواءٌ كانَ ثلاثينَ أو تسعًا وعشرينَ. وأنَّهُ إذا أُتِّبِعَ بستَّةِ أيَّامٍ مِن شوَّالٍ؛ فإنَّهُ يَعْدِلُ صيامَ الدَّهرِ على كلِّ حالٍ. وكَرِهَ إسْحاقُ بنُ راهَوَيْهِ أنْ يُقالَ لشهرِ رمضانَ إنَّهُ ناقصٌ وإنْ كانَ تسعًا وعشرينَ لهذا المعنى.

فإن قالَ قائلٌ: فلو صامَ هذهِ السِّتَّةَ أيَّامٍ مِن غيرِ شوَّالٍ يَحْصُلُ لهُ هذا الفضلُ؛ فكيفَ خُصَّ صيامُها مِن شوَّالٍ؟ قيلَ: صيامُها مِن شوَّالٍ يَلْتَحِيُّ بصيامِ رمضانَ في الفضلِ

(2)

، فيَكونُ لهُ أجرُ صيامِ الدَّهرِ فَرَضًا. ذَكَرَ ذلكَ ابنُ المُبارَكِ، وذَكَرَ أنَّهُ في بعضِ الحديثِ، حَكاهُ عنهُ التِّرْمِذِيُّ في "جامعه". ولعلَّهُ أشارَ إلى ما رُوِيَ عن أُمِّ سَلَمَةَ؛ أنَّ مَن صامَ الغدَ مِن يومِ الفطرِ؛ فكأنَّما صامَ رمضانَ

(3)

.

• وفي معاودةِ الصِّيامِ بعدَ رمضانَ فوائدُ عديدةٌ:

* منها: أن صيامَ ستَّةِ أيَّامٍ مِن شوَّالٍ بعدَ رمضانَ يُسْتكمَلُ بها أجرُ صيامِ الدَّهرِ كلِّهِ كما سَبَقَ.

* ومنها: أن صيامَ شوَّالٍ وشعبانَ كصلاةِ السُّننِ الرَّواتبِ قبلَ الصَّلاةِ المفروضةِ وبعدَها، فيَكْمُلُ بذلكَ ما حَصَلَ في الفرضِ مِن خللٍ ونقصٍ. فإنَّ الفرائضَ تُكْمَلُ بالنَّوافلِ يومَ القيامةِ، كما وَرَدَ ذلكَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن وجوهٍ متعدِّدةٍ

(4)

. وأكثرُ النَّاسِ في صيامِهِ للفرضِ نقصٌ وخللٌ، فيَحْتاجُ إلى ما يَجْبُرُهُ ويُكْمِلُهُ مِن الأعمالِ.

ولهذا نَهى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنْ يَقولَ الرَّجلُ: صُمْتُ رمضانَ كلَّهُ أو قُمْتُهُ كلَّهُ. قالَ الصَّحابيُّ: فلا أدْري؛ أكَرِهَ التَّزكيةَ أم لا بدَّ مِن غفلةٍ

(5)

. وكانَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ رَحِمَهُ

(1)

رواه: البخاري (30 - الصوم، 12 - شهرا عيد لا ينقصان، 4/ 124/ 1912)، ومسلم (13 - الصيام، 7 - معنى قوله شهرا عيد لا ينقصان، 2/ 766/ 1089)؛ من حديث أبي بكرة.

(2)

في خ: "في أجر الفضل"! وقد تقدّم هذا الكلام. وبيان ما فيه (ص 308).

(3)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 490).

(4)

انظر لهذا: "جامع الأصول"(10/ 434/ 7964 - 7966).

(5)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 485).

ص: 493

اللهُ يَقولُ: مَن لم يَجِدْ ما يَتَصَدَّقُ بهِ فلْيَصُمْ

(1)

. يَعْني: مَن لم يَجِدْ ما يُخْرِجُهُ صدقةً [لـ]ـــــلفطرِ في آخرِ رمضانَ فلْيَصُمْ بعدَ الفطرِ؛ فإنَّ الصِّيامَ يَقومُ مقامَ الإطعامِ في التَّكفيرِ للسَّيِّئاتِ كما يَقومُ مقامَهُ في كفَّاراتِ الأيمانِ وغيرِها مِن الكفَّاراتِ مثلِ كفَّارةِ القتلِ والوطءِ في رمضانَ والظِّهارِ.

* ومنها: أن معاودةَ الصِّيامِ بعدَ صيامِ رمضانَ علامةٌ على قبولِ صومِ رمضانَ؛ فإنَّ الله إذا تَقَبَّلَ عملَ عبدٍ وَفَّقَهُ لعملٍ صالحٍ بعدَهُ، كما قالَ بعضُهُم: ثوابُ الحسنةِ الحسنةُ بعدَها، فمَن عَمِلَ حسنةً ثمَّ أتْبَعَها بحسنةٍ بعدَها؛ كانَ ذلكَ علامةً على قبولِ الحسنةِ الأُولى، كما أن مَن عَمِلَ حسنةً ثمَّ أتْبَعَها بسيِّئةٍ؛ كانَ ذلكَ علامةَ ردِّ الحسنةِ وعدمِ قبولِها.

* ومنها: أن صيامَ رمضانَ يُوجِبُ مغفرةَ ما تَقَدَّمَ مِن الذُّنوبِ كما سَبَقَ ذكرُهُ، وأنَّ الصَّائمينَ لرمضانَ يُوَفَّوْنَ أُجورَهُم في يومِ الفطرِ، وهوَ يومُ الجوائزِ. فيَكونُ معاودةُ الصِّيامِ بعدَ الفطرِ شكرًا لهذهِ النِّعمةِ، فلا نعمةَ أعظمُ مِن مغفرةِ الذُّنوبِ.

كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقومُ حتَّى تتوَرَّمَ قدماهُ، فيُقالُ لهُ: أتَفْعَلُ ذلكَ وقد غَفَرَ اللهُ لكَ ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِكَ وما تَأخَّرَ؟ فيَقولُ: "أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟ "

(2)

.

وقد أمَرَ اللهُ سبحانَهُ عبادَهُ بشكرِ نعمةِ صيامِ رمضانَ بإظهارِ ذكرِهِ وغيرِ ذلكَ مِن أنواعِ شكرِهِ، فقالَ تَعالى:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. فمِن جملةِ شكرِ العبدِ لربِّهِ على توفيقِهِ لصيامِ رمضان وإعانتِهِ عليهِ ومغفرةِ ذنوبِهِ أنْ يَصومَ لهُ شكرًا عقيبَ ذلكَ.

كانَ بعضُ السَّلفِ إذا وُفِّقَ لقيامِ ليلةٍ مِن الليالي؛ أصْبَحَ في نهارِها صائمًا، ويَجْعَلُ صيامَهُ شكرًا للتَّوفيقِ للقيامِ.

(1)

إن صحّ هذا عن عمر بن عبد العزيز؛ فإنّما قاله لتطييب قلب من لم يجد ما ينفقه زكاة لفطره وجبر إحساسه بنقص صومه. والأصل أنّ من لم يجد ما ينفقه زكاة لفطره فلا صيام عليه ولا غيره.

(2)

رواه: البخاري (19 - التهجّد، 6 - قيام النبيّ صلى الله عليه وسلم، 3/ 14/ 1139)، ومسلم (50 - المنافقين، 18 - إكثار الأعمال، 4/ 2171/ 2819)؛ من حديث المغيرة بن شعبة.

ص: 494

وكانَ وُهَيْبُ بنُ الوَرْدِ يُسْألُ عن ثوابِ شيءٍ مِن الأعمالِ كالطَّوافِ ونحوِهِ، فيَقولُ: لا تَسْألوا عن ثوابِهِ، ولكنْ سَلُوا ما الذي على مَن وُفِّقَ لهذا العملِ مِن الشُّكرِ للتَّوفيقِ والإعانةِ عليهِ.

إذا أنْتَ لَمْ تَزْدَدْ عَلى كُلِّ نِعْمَةٍ

لِمُولِيكَها شُكْرًا فَلَسْتَ بِشاكِرِ

كلُّ نعمةٍ على العبدِ مِن اللهِ في دينٍ أو دنيا تَحْتاجُ إلى شكرٍ عليها، ثمَّ التَّوفيقُ للشُّكرِ عليها نعمةٌ أُخرى تَحْتاجُ إلى شكرٍ ثانٍ، دمَّ التَّوفيقُ للشُّكرِ الثَّاني نعمةٌ أُخرى تَحْتاجُ إلى شكرٍ آخرَ

وهكذا أبدًا، فلا يَقْدِرُ العبادُ على القيامِ بشكرِ النِّعمِ.

وحقيقةُ الشُّكرِ الاعترافُ بالعجزِ عن الشُّكرِ، كما قيلَ:

إذا كانَ شُكْري نِعْمَةَ اللهِ نِعْمَةً

عَلَيَّ لَهُ في مِثْلِها يَجِبُ الشُّكْرُ

فَكَيْفَ بُلوغُ الشُّكْرِ إلَّا بِفَضْلِهِ

وَإنْ طالَتِ الأيَّامُ وَاتَّصَلَ العُمْرُ

قالَ أبو عَمْرٍو الشَّيْبانِيُّ: قالَ موسى عليه السلام يومَ الطُّورِ: يا ربِّ! إنْ أنا صَلَّيْتُ فمِن قِبَلِكَ، وإنْ أنا تَصَدَّقْتُ فمِنْ قِبَلِكَ، وإنْ بَلَّغْتُ رسالاتِكَ فمِن قِبَلِكَ؛ فكَيْفَ أشْكُرُكَ؟ قالَ: يا موسى! الآنَ شَكَرْتَني.

فأمَّا مقابلةُ نعمةِ التَّوفيقِ لصيامِ رمضانَ بارتكابِ المعاصي بعدَهُ؛ فهوَ مِن فعلِ مَن بَدَّلَ نعمةَ اللهِ كفرًا. فإنْ كانَ قد عَزَمَ في صيامِهِ على معاودةِ المعاصي بعدَ انقضاءِ الصِّيامِ؛ فصيامُهُ عليهِ مردودٌ وبابُ الرَّحمةِ في وجهِهِ مسدودٌ.

قالَ كعبٌ: مَن صامَ رمضانَ وهوَ يُحَدِّثُ نفسَهُ أنَّهُ إذا أفْطَرَ رمضانَ أنْ لا يَعْصِيَ الله؛ دَخَلَ الجنَّةَ بغيرِ مسألةٍ ولا حسابٍ، ومَن صامَ رمضانَ وهوَ يُحَدِّثُ نفسَهُ أنَّهُ إذا أفْطَرَ عَصى الله؛ فصيامُهُ عليهِ مردودٌ.

* ومنها: أن الأعمالَ التي كانَ العبدُ يَتَقَرَّبُ بها إلى ربِّهِ في شهرِ رمضانَ لا تَنْقَطِعُ بانقضاءِ رمضانَ، بل هيَ باقيةٌ بعدَ انقضائِهِ ما دامَ العبدُ حيًّا.

وهذا معنى الحديثِ المتقدِّمِ؛ أن الصَّائمَ بعدَ رمضانَ كالكارِّ بعدَ الفارِّ

(1)

؛ يَعْني:

(1)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 490).

ص: 495

كالذي يَفِرُّ مِن القتالِ في سبيلِ اللهِ ثمَّ يَعودُ إليهِ، وذلكَ لأنَّ كثيرًا مِن النَّاسِ يَفْرَحُ بانقضاءِ شهرِ رمضانَ لاستثقالِ الصِّيامِ ومللِهِ وطولِهِ عليهِ، ومَن كانَ كذلكَ؛ فلا يَكادُ يَعودُ إلى الصِّيامِ سريعًا، فالعائدُ إلى الصِّيامِ بعدَ فطرِهِ يومَ الفطرِ يَدُلُّ عودُهُ على رغبتِهِ في الصِّيامِ وأنَّهُ لم يَمَلَّهُ ولم يَسْتَثْقِلْهُ ولا تَكَرَّهَ بهِ.

وفي حديثِ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مرفوعًا: "أحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ الحالُّ المرتحلُ"

(1)

. وفُسِّرَ بصاحبِ القرآنِ يَضْرِبُ مِن أوَّلِهِ إلى آخرِهِ ومِن آخرِهِ إلى أوَّلِهِ، فكلَّما حَلَّ ارْتَحَلَ

(2)

. والعائدُ إلى الصِّيامِ سريعًا بعدَ فراغِ صيامِهِ شبيهٌ بقارئ القرآنِ إذا فَرَغَ مِن قراءتِهِ ثمَّ عادَ إليهِ في المعنى. واللهُ أعلمُ.

قيلَ لبِشْرٍ: إنَّ قومًا يَتَعَبَّدونَ ويَجْتَهِدونَ في رمضانَ. فقالَ: بئسَ القومُ قومٌ لا يَعْرِفونَ للهِ حقًّا إلَّا في شهرِ رمضانَ، إنَّ الصَّالحَ الذي يَتَعَبَّدُ ويَجْتَهِدُ السَّنةَ كلَّها.

وسُئِلَ الشِّبْلِيُّ: أيُّما أفضلُ؛ رجبٌ أو شعبانُ؟ فقالَ: كُنْ ربَّانيًّا، ولا تَكُنْ

(1)

(ضعيف). رواه: الترمذي (47 - القراءات، 13 - باب، 5/ 197/ 2948)، والطبراني (12/ 130/ 12783)، والرامهرمزي في "الأمثال"(85)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 260، 6/ 174)، والحاكم (1/ 568)، والبيهقي في "الشعب"(2001 و 2069)، والمزّي في "التهذيب"(30/ 385)، والذهبي في "النبلاء"(4/ 516)؛ من طرق، عن صالح المزي، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن ابن عبّاس

رفعه. قال الترمذي والحاكم وأبو نعيم: "تفرّد به صالح المرّي". وقال الذهبي: "صالح متروك". قلت: هذه علّة، وهاهنا علّة أُخرى فقد رواه: الدارمي (2/ 469)، والترمذي (الموضع السابق)؛ عن صالح، عن قتادة، عن زرارة

مرسلًا. قال الترمذي: "هذا عندي أصحّ".

ورواه الحاكم (1/ 569) من طريق مقدام بن داوود الرعيني، عن خالد بن نزار، عن الليث بن سعد، عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن الأعرج، عن أبي هريرة

رفعه. قال الذهبي: "لم يتكلّم عليه الحاكم، وهو موضوع على سند الصحيحين، والمقدام متكلّم فيه، والآفة منه".

ورواه ابن المبارك في "الزهد"(800): أنا إسماعيل بن رافع، عن رجل من الإسكندريّة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وإسماعيل واهٍ، وفيه الرجل المبهم، ثمّ هو مرسل بعد ذلك أو معضل.

وجملة القول أنّ الحديث جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من أوجه ثلاثة شديدة الضعف لا يفيدها اجتماعها قوّة، ولذلك ضعّفه الترمذي والحاكم وأبو نعيم والذهبي والألباني.

(2)

جاء في حاشية خ هنا: "وقال الشيخ محيي الدين النووي في كتابه "آداب حملة القرآن": يستحبّ إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أُخرى عقيب الختمة، فقد استحبّه السلف واحتجّوا فيه بحديث أنس رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير الأعمال الحل والرحلة. قيل: وما هما؟ قال: افتتاح القرآن وختمه".

ص: 496

شعبانيًّا. ثمَّ أنْشَدَ:

إذا كُنْتُ في حَرْبِ الهَوى مُتَجَرِّدًا

فَفي كُلِّ أرْضٍ لِيَ ثَغْرٌ وَطَرْسُوسُ

(1)

• كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عملُهُ ديمةٌ. وسُئِلَتْ عائِشَةُ: هل كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَخُصُّ يومًا مِن الأيَّامِ؟ فقالَتْ: لا؛ كانَ عملُهُ ديمةً

(2)

. وقالَتْ: كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يَزيدُ في رمضانَ ولا غيرِهِ على إحدى عشرةَ ركعةً

(3)

.

وقد كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْضي ما فاتَهُ مِن أورادِهِ في رمضانَ في شوَّالٍ، فتَرَكَ في عامٍ اعتكافَ العشرِ الأواخرِ مِن رمضانَ، ثمَّ قضاهُ في شوَّالٍ، فاعْتكَفَ العشرَ الأوَّلَ منهُ

(4)

.

وسَألَ رجلًا: هل صامَ مِن سررِ شعبانَ شيئًا؟ فقالَ: لا. فأمَرَهُ أنْ يَصومَ إذا أفْطَرَ

(5)

. يَعْني: يَقْضي ما فاتَهُ مِن صيامِ شعبانَ في شوَّالٍ.

وقد تَقَدَّمَ عن أُمِّ سَلَمَةَ أنَّها كانَتْ تَأْمُرُ أهلَها مَن كانَ عليهِ قضاءٌ مِن رمضانَ أنْ يَقْضِيَهِ الغدَ مِن يومِ الفطرِ.

فمَن كانَ عليهِ قضاءٌ مِن شهرِ رمضانَ؛ فلْيَبْدَأْ بقضائِهِ في شوَّالٍ؛ فإنَّهُ أسرعُ لبراءةِ ذمَّتِهِ، وهوَ أولى مِن التَّطوُّعِ بصيامِ ستٍّ مِن شوَّالٍ؛ فإنَّ العلماءَ اخْتَلَفوا فيمَن عليهِ صيامٌ مفروضٌ هل يَجوزُ أنْ يَتَطَوَّعَ قبلَهُ أم لا؟ وعلى قولِ مَن جَوَّزَ التَّطوُّعَ قبلَ القضاءِ؛ فلا يَحْصُلُ مقصودُ صيامِ ستَّةِ أيَّامٍ مِن شوَّالٍ إلَّا لمَن أكْمَلَ صيامَ رمضانَ ثمَّ أتْبَعَهُ ستًّا مِن شوَّالٍ

(6)

، فمَن كانَ عليهِ قضاءٌ مِن رمضانَ ثمَّ بَدَأ بصيامِ ستٍّ مِن شوَّالٍ تطوُّعًا؛ لم

(1)

في خ: "فكلّ أرض لي ثغر وطرسوس"! وفي م: "فكلّ أرضي ثغر لي وطرسوس"! ولا يستقيم الوزن إلّا بما أثبتّه. وطرسوس مدينة اقتتل عليها المسلمون والأرمن مرارًا.

(2)

رواه: البخاري (30 - الصوم، 64 - هل يخصّ شيئًا، 4/ 235/ 1987)، ومسلم (6 - المسافرين، 30 - فضيلة العمل الدائم، 1/ 541/ 783).

(3)

رواه: البخاري (19 - التهجّد، 16 - قيامه صلى الله عليه وسلم، 3/ 33/ 1147)، ومسلم (6 - المسافرين، 17 - صلاة الليل، 1/ 509/ 738).

(4)

رواه: البخاري (33 - الاعتكاف، 6 - اعتكاف النساء، 4/ 275/ 2033)، ومسلم (14 - الاعتكاف، 2 - متى يدخل من أراد الاعتكاف، 2/ 831/ 173)؛ من حديث عائشة.

(5)

متفق عليه. تقدّم بلفظه وتخريجه (ص 333 - 334).

(6)

لأنّه ظاهر الحديث.

ص: 497

يَحْصُلْ لهُ ثوابُ مَن صامَ رمضانَ ثمَّ أتْبَعَهُ بستٍّ مِن شوَّالٍ؛ حيثُ لم يُكْمِلْ عدَّةَ رمضانَ، كما لا يَحْصُلُ لمَن أفْطَرَ رمضانَ لعذرٍ بصيامِ ستَّةِ أيَّامٍ مِن سوَّالٍ أجرُ صيامِ السَّنةِ بغيرِ إشكالٍ

(1)

. ومَن بَدَأ بالقضاءِ في شوَّالٍ، ثمَّ أرادَ أنْ يُتْبعَ ذلكَ بصيامِ ستٍّ مِن شوَّالٍ بعدَ تكملةِ قضاءِ رمضانَ؛ كانَ حسنًا؛ لأنَّهُ يَصيرُ حينئذٍ قد صامَ رمضانَ وأتْبَعَهُ بستٍّ مِن شوَّالٍ. ولا يَحْصُلُ لهُ فضلُ صيامِ ستٍّ مِن شوَّالٍ بصومِ قضاءِ رمضانَ؛ لأنَّ صيامَ السِّتِّ مِن شوَّالٍ إنَّما يَكونُ بعدَ إكمالِ عدَّةِ رمضانَ.

عملُ المؤمنِ لا يَنْقَضي حتَّى يَأْتِيَهُ أجلُهُ.

قالَ الحَسَنُ: إنَّ الله لمْ يَجْعَلْ لعملِ المؤمنِ أجلًا دونَ الموتِ، ثمَّ قَرَأ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

هذهِ الشُّهورُ والأعوام والليالي والأيَّام كلُّها مقاديرُ للآجال ومواقيتُ للأعمال، ثمَّ تَنْقَضي سريعًا وتَمْضي جميعًا. والذي أوْجَدَها وابْتَدَعَها وخَصَّها بالفضائلِ وأوْدَعَها باقٍ لا يَزول ودائمٌ لا يَحول، هوَ في جميعِ الأوقاتِ إلهٌ واحد ولأعمالِ عبادِهِ رقيبٌ مشاهد. فسبحانَ مَن قَلَّبَ عبادَهُ في اختلافِ الأوقاتِ بينَ وظائفِ الخِدَم

(2)

؛ لِيُسْبغَ عليهِم فيها فواضلَ النِّعم، ويُعامِلَهُم بنهايةِ الجودِ والكرم.

لمَّا انْقَضَتِ الأشهرُ الثَّلاثةُ الكرام، التي أوَّلُها الشَّهرُ الحرامُ وآخرُها شهرُ الصِّيام؛ أقْبَلَتْ بعدَها الأشهرُ الثَّلائهُ أشهرُ الحجّ إلى البيتِ الحرام. فكما أن مَن صامَ رمضانَ وقامَهُ غُفِرَ لهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذنبِه، فمَن حَجَّ البيتَ ولمْ يَرْفُثْ ولمْ يَفْسُقْ رَجَعَ مِن ذنوبِهِ كيومَ وَلَدَتْهُ أُمُّه. فما يَمْضي مِن عمرِ المؤمنِ ساعةٌ مِن السَّاعات إلَّا وللهِ عليهِ فيها وظيفةٌ مِن وظائفِ الطَّاعات، فالمؤمنُ يَتَقَلَّبُ بينَ هذهِ الوظائف ويَتَقَرَّبُ بها إلى مولاهُ وهوَ راجٍ خائف.

المحبُّ لا يَمَلُّ مِن التَّقرُّبِ بالنَّوافلِ إلى مولاه، ولا يَأْمَلُ إلَّا قربَهُ ورضاه.

(1)

الأصل أن يوكل مثل هذا إلى الله جلّ وعلا؛ فإنّه أمر بين العبد وربّه، والربّ كريم، فإن صدقت النيّة لحق المعذور بالصائم والنائم بالقائم، وربّما جاوزه درجات، وكم وكم سبق درهم ألف درهم!

(2)

جمع خدمة، وقد تقدّم (ص 425 - 426) الكلام في لفظ "الخدمة".

ص: 498

ما للمُحِبِّ سِوى إرادَةِ حِبِّهِ

(1)

إنَّ المُحِبَّ بِكُلِّ بِرٍّ يَضْرَعُ

كلُّ وقتٍ يُخْليهِ العبدُ مِن طاعةِ مولاهُ فقد خَسِرَه، وكلُّ ساعةٍ يَغْفُلُ فيها عن ذكرِ اللهِ تَكونُ عليهِ يومَ القيامةِ تِرَة. فوا أسفاهُ على زمانٍ ضاعَ في غيرِ طاعتِه! ووا حسرتاهُ على وقتٍ فاتَ في غيرِ خدمتِه

(2)

!

مَنْ فاتَهُ أنْ يَراكَ يَوْمًا

فَكُلُّ أوْقاتِهِ فَواتُ

وَحَيْثُما كُنْت مِنْ بِلادٍ

فلي إلى وَجْهِكَ الْتِفاتُ

مَن عَمِلَ طاعةً مِن الطَّاعاتِ وفَرَغَ منها؛ فعلامةُ قبولِها أنْ يَصِلَها بطاعةٍ أُخرى، وعلامةُ ردِّها أنْ يُعْقِبَ تلكَ الطَّاعةَ بمعصيةٍ.

ما أحْسَنَ الحسنةَ بعدَ السَّيِّئةِ تَمْحُوها! وأحْسَنُ منها الحسنةُ بعدَ الحسنةِ تَتْلوها.

وما أقْبَحَ السَّيِّئةَ بعدَ الحسنةِ تَمْحَقُها وتَعْفوها!

ذنبٌ واحدٌ بعدَ التَّوبةِ أقبحُ مِن سبعينَ ذنبًا قبلَها.

النَّكسةُ أصعبُ مِن المرضِ وربَّما أهْلَكَتْ.

سَلُوا الله الثَّباتَ على الطَّاعاتِ إلى المماتِ، وتَعَوَّذوا بهِ مِن تَقَلُّبِ القلوبِ ومِنَ الحورِ بعدَ الكورِ.

ما أوحشَ ذلَّ المعصيةِ بعدَ عزِّ الطَّاعة، وأفحشَ فقرَ الطَّمعِ بعدَ غنى القناعة!

ارْحَموا عزيزَ قومٍ بالمعاصي ذَلَّ، وغنيَّ قومٍ بالذُّنوبِ افْتَقَرَ.

تَرى الحَيَّ الأُلَى بانوا

(3)

عَلى العَهْدِ كَما كانوا

أمِ الدَّهْرُ بِهِمْ خانَ

وَدَهْرُ المَرْءِ خَوَّانُ

إذا عَزَّ بِغَيْرِ اللـ

ــــــــــــهِ يَوْمًا مَعْشَرٌ هانوا

يا شبابَ التَّوبةِ! لا تَرْجِعوا إلى ارتضاعِ ثدي الهوى [مِن] بعدِ الفطام؛ فالرَّضاعُ إنَّما يَصْلُحُ للأطفالِ لا للرِّجال! ولكنْ لا بدَّ مِن الصَّبرِ على مرارةِ الفطامِ، فإنْ صَبَرْتُمْ؛

(1)

بكسر الحاء؛ أي: محبوبه.

(2)

تقدّم (ص 425 - 426) الكلام فيما في لفظ "الخدمة" هنا من إشكال.

(3)

الأُلى بانوا: الذين بانوا.

ص: 499

تَعَوَّضْتُم عن لذَّةِ الهوى بحلاوةِ الإيمانِ في القلوبِ. مَن تَرَكَ للهِ شيئًا؛ لم يَجِدْ فقدَهُ وعَوَّضَهُ اللهُ خيرًا منهُ. {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70]. وفي الحديثِ: "النَّظرُ سهمٌ مسمومٌ مِن سهامِ إبْليسَ، مَن تَرَكَهُ مِن خوفِ اللهِ؛ أعْطاهُ اللهُ إيمانًا يَجِدُ حلاوتَهُ في قلبِهِ"

(1)

. خرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ.

وهذا الخطابُ للشَّبابِ. فأمَّا الشيخُ إذا عاوَدَ المعاصيَ بعدَ انقضاءِ رمضانَ؛ فهوَ أقبحُ وأقبحُ؛ لأنَّ الشَّبابَ يُؤَمِّلُ معاودةَ التَّوبةِ في آخرِ عمرِهِ، وهوَ مخاطرٌ؛ فإنَّ الموتَ قد يُعاجِلُهُ وقد يَطْرُقُهُ بغتةً. فأمَّا الشَّيخُ؛ فقد شارَفَ مركبُهُ ساحلَ بحرِ المنونِ؛ فماذا

(1)

(ضعيف جدًّا). وقد جاء من حديث جماعة من الصحابة:

• فرواه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي واضطرب فيه على أربعة وجوه: روى أوّلها: الحاكم (4/ 313)، والقضاعي (292)، وابن الجوزي في "ذمّ الهوى"(ص 116)، والذهبي في "الميزان"(1/ 194) تعليقًا؛ عنه، عن محارب بن دثار، عن صلة بن زفر، عن حذيفة

رفعه. قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وأقرّه العراقي، وضعّفه المنذري، وقال الذهبي: في الطريق إليه "إسحاق بن عبد الواحد القرشي واه، وعبد الرحمن هو الواسطي ضعّفوه". وروى الثاني الطبراني (10/ 173/ 10362) عنه، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود

رفعه بنحوه. قال الهيثمي (8/ 66): "فيه عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف". وروى الثالث القضاعي (293) عنه، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر

رفعه. وروى الرابع ابن الجوزي في "ذمّ الهوى"(ص 116) عنه، عن النعمان بن سعد، عن علي

رفعه وجعله قدسيًّا. وما من حاجة هنا إلى دراسة الطرق والترجيح؛ فإنّ الواسطيّ هذا واه منكر الحديث.

• ورواه: أبو نعيم في "الحلية"(6/ 101)، وابن الجوزي في "ذم الهوى"(ص 115 - 116)؛ من طريق أبي مهدي سعيد بن سنان، عن أبي الزاهرية، عن كثير بن مرّة، عن ابن عمر

رفعه. وأبو مهدي هذا متّهم رموه بالوضع.

• ورواه: أحمد (5/ 264)، والطبراني (8/ 208/ 7842)، والبيهقي في "الشعب"(5431)، وابن الجوزي في "ذم الهوى"(ص 115 و 116)؛ من طريق يحيى بن أيّوب، عن عبيد الله بن زحر، عن عليّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أُمامة

رفعه. قال الهيثمي (8/ 66): "فيه عليّ بن يزيد الألهاني وهو متروك".

قلت: ويحيى وعبيد الله والقاسم فيهم ضعف.

• ورواه ابن الجوزي في "ذمّ الهوى"(ص 116 و 117) من طريق عصمة بن محمّد، ثنا موسى بن عقبة، عن القاسم بن محمّد، عن عائشة

رفعته. وعصمة هذا متّهم متروك.

• ورواه ابن الجوزي في "ذم الهوى"(ص 79) من طريق عبد العزيز بن عبد الرحمن القرشي، عن خصيف، عن أنس

رفعه مختصرًا. والقرشيّ متهم متروك، وخصيف ليّن روايته عن أنس منقطعة.

فطرق الحديث شديدة الضعف لا يصلح شيء منها للاعتبار كما ترى، فاجتماعها لا يضيف للحديث قوّة، ولذلك ضعّفه المنذري والذهبي والهيثمي، وقال الألباني:"ضعيف جدًّا".

ص: 500

يُؤَمِّلُ؟!

نَعَى لَكَ ظِلَّ الشَّبابِ المَشِيبُ .... وَنادَتْكَ بِاسْمِ سِواكَ الخُطوبُ

فَكُنْ مُسْتَعِدًّا لِداعي الفَناءِ

فَكُلُّ الَّذي هُوَ آتٍ قَريبُ

ألَسْنا نَرى شَهَواتِ النُّفو

سِ تَفْنى وَتَبْقى عَلَيْنا الذُّنوبُ

يَخافُ على نَفْسِهِ مَنْ يَتوبُ

فَكَيْفَ يَكُنْ حالُ مَن لا يَتوبُ

‌المجلس الثاني في ذكر الحج وفضله والحث عليه

في الصَّحيحينِ

(1)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"أفضلُ الأعمالِ: إيمانٌ باللهِ ورسولِهِ، ثمَّ جهادٌ في سبيلِ اللهِ، ثمَّ حجٌّ مبرورٌ".

• وهذهِ الأعمالُ الثَّلاثةُ تَرْجِعُ في الحقيقةِ إلى عملينِ:

• أحدُهُما: الإيمانُ باللهِ ورسولِهِ، وهوَ التَّصديقُ الجازمُ باللهِ وملائكتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ واليومِ الآخرِ، كما فَسَّرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم الإيمانَ بذلكَ في حديثِ سؤالِ جبْريلَ

(2)

لهُ وفي غيرِهِ مِن الأحاديثِ. وقد ذَكَرَ اللهُ تَعالى الإيمانَ بهذهِ الأُصولِ في مواضعَ كثيرةٍ مِن كتابِهِ كأوَّلِ البقرةِ ووسطِها وآخرِها.

• والعملُ الثَّاني: الجهادُ في سبيلِ اللهِ.

وقد جَمَعَ اللهُ بينَ هذينِ الأصلينِ في مواضعَ مِن كتابِهِ: كقولِهِ تَعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [الصف: 10 - 11]. وفي قولِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ

(1)

البخاري (2 - الإيمان، 18 - الإيمان هو العمل، 1/ 77/ 26)، ومسلم (1 - الإيمان، 36 - الإيمان أفضل الأعمال، 1/ 88/ 83).

(2)

المشهور الذي رواه: البخاري (2 - الإيمان، 37 - سؤال جبريل، 1/ 114/ 50) من حديث أبي هريرة، ومسلم (1 - الإيمان، 1 - الإيمان والإسلام والإحسان، 1/ 36/ 8 - 10) من حديث أبي هريرة وعمر.

ص: 501

اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15].

وقد صَحَّ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن غيرِ وجهٍ أن أفضلَ الأعمالِ الإيمانُ باللهِ والجهادُ في سبيلِهِ.

• فالإيمانُ المجرَّدُ تَدْخُلُ فيهِ أعمالُ الجوارحِ عندَ السَّلفِ وأهلِ الحديثِ، والإيمانُ المقرونُ بالعملِ يُرادُ بهِ التَّصديقُ معَ القولِ، وخصوصًا إنْ قُرِنَ الإيمانُ باللهِ بالإيمانِ برسولهِ، كما في هذا الحديثِ.

فالإيمانُ القائمُ بالقلوبِ أصلُ كلِّ خيرٍ، وهوَ خيرُ ما أُوتِيَهُ العبدُ في الدُّنيا، وبهِ يَحْصُلُ لهُ سعادةُ الدُّنيا والآخرةِ والنَّجاةُ مِن شقاوةِ الدُّنيا والآخرةِ.

ومَتى رَسَخَ الإيمانُ في القلبِ انْبَعَثَتِ الجوارحُ كُلُّها بالأعمالِ الصَّالحةِ واللسانُ بالكلمِ الطَّيِّبِ، كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ألا وإنَّ في الجسدِ مضغةً، إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجسدُ كلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسدُ كلُّهُ، ألا وهيَ القلبُ"

(1)

.

ولا صلاحَ للقلبِ بدونِ الإيمانِ باللهِ وما يَدْخُلُ في مسمَّاهُ مِن معرفةِ اللهِ وتوحيدهِ وخشيتِهِ ومحبَّتِهِ ورجائِهِ والإنابةِ إليهِ والتَّوكُّلِ عليهِ.

قالَ الحَسَنُ: ليسَ الإيمانُ بالتَّمنِّي ولا بالتَّحلِّي، ولكنَّهُ ما وَقَرَ في الصُّدورِ وصَدَّقَتْهُ الأعمالُ.

ويَشْهَدُ لذلكَ قولُهُ تَعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4].

وفي هذا يَقولُ بعضُهُم:

ما كُل مَنْ زَوَّقَ لي قَوْلَهُ

يَغُرُّني يا صاحِ تَزْويقُهُ

مَنْ حَقَّقَ الإيمانَ في قَلْبِهِ

لا بُدَّ أنْ يَظْهَرَ تَحْقيقُهُ

فإذا ذاقَ العبدُ حلاوةَ الإيمانِ ووَجَدَ طعمَهُ وحلاوتَهُ؛ ظَهَرَ ثمرةُ ذلكَ على لسانِهِ

(1)

رواه: البخاري (2 - الإيمان، 39 - من استبرأ لدينه، 1/ 126/ 52)، ومسلم (22 - المساقاة، 20 - أخذ الحلال، 3/ 1219/ 1599)؛ من حديث النعمان بن بشير.

ص: 502

وجوارحِهِ، فاسْتَحْلى اللسانُ ذكرَ اللهِ وما والاهُ وأسْرَعَتِ الجوارحُ إلى طاعةِ اللهِ، فحينئذٍ يَدْخُلُ حبُّ الإيمانِ في القلبِ كما يَدْخُلُ حبُّ الماءِ الباردِ الشَّديدِ بردُهُ في اليومِ الشَّديدِ حرُّهُ للظَّمآنِ الشَّديدِ عطشُهُ، ويَصيرُ الخروجُ مِن الإيمانِ أكرهَ إلى القلوبِ مِن الإلقاءِ في النَّارِ وأمرَّ عليها مِن الصَّبرِ.

ذَكَرَ ابنُ المُبارَكِ عن أبي الدَّرْداءِ؛ أنَّهُ دَخَلَ المدينةَ، فقالَ لهُم: ما لي لا أرى عليكُم يا أهلَ المدينةِ حلاوةَ الإيمانِ؟ والذي نفسي بيدِهِ؛ لو أن دُبَّ الغابةِ وَجَدَ طعمَ الإيمانِ؛ لَرُئِيَ عليهِ حلاوةُ الإيمانِ.

لَوْ ذاقَ طَعْمَ الإيمانِ رَضْوى

لَكادَ مِنْ وَجْدِهِ يَميدُ

قَدْ حَمَّلوني تَكْليفَ عَهْدٍ

يَعْجِزُ عَنْ حَمْلِهِ الحَديدُ

• فالإيمانُ باللهِ ورسولِهِ قد سَبَقَ أنَّهُ وظيفةُ القلبِ واللسانِ، ثمَّ يَتْبَعُهُما عملُ الجوارحِ، وأفضلُها الجهادُ في سبيلِ اللهِ، وهوَ نوعانِ:

* أفضلُهُما جهادُ المؤمنِ لعدوِّهِ الكافرِ وقتالُهُ في سبيلِ اللهِ؛ فإنَّ فيهِ دعوةً لهُ إلى الإيمانِ باللهِ ورسولهِ؛ لِيَدْخُلَ في الإيمانِ.

قالَ تَعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]. قالَ أبو هُرَيْرَةَ في هذهِ الآيةِ: يَجيئونَ بهِم في السَّلاسلِ حتَّى يُدْخِلوهُمُ الجنَّةَ. وفي الحديثِ المرفوعِ: "عَجِبَ ربُّكَ مِن قومٍ يُقادون إلى الجنَّةِ بالسَّلاسلِ"

(1)

.

فالجهادُ في سبيلِ اللهِ دعاءُ الخلقِ إلى الإيمانِ باللهِ ورسولهِ بالسَّيفِ واللسانِ بعدَ دعائِهِم إليهِ بالحجَّةِ والبرهانِ. وقد كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في أوَّلِ الأمرِ لا يُقاتِلُ قومًا حتَّى يَدْعُوَهُم.

فالجهادُ بهِ تَعْلو كلمةُ الإيمانِ، وتَتَّسِعُ رقعةُ الإسلامِ، ويَكْثُرُ الدَّاخلونَ فيهِ، وهوَ وظيفةُ الرُّسلِ وأتباعِهِم، وبهِ تَصيرُ كلمةُ اللهِ هيَ العليا، والمقصودُ منهُ أنْ يَكونَ الدِّينُ

(1)

(56 - الجهاد، 144 - الأسارى في السلاسل، 6/ 145/ 3010) من حديث أبي هريرة.

ص: 503

كلُّهُ للهِ والطَّاعةُ لهُ، كما قالَ تَعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]، والمجاهدُ في سبيلِ اللهِ هوَ المقاتلُ لِتكُونَ كلمةُ اللهِ هيَ العليا خاصَّةً.

* والنَّوعُ الثَّاني مِن الجهادِ جهادُ النَّفسِ في طاعةِ اللهِ: كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم "المجاهدُ مَن جاهَدَ نفسَهُ في اللهِ"

(1)

. وقالَ بعضُ الصَّحابةِ لمَن سَألَهُ عن الغزوِ: ابْدَأْ بنفسِكَ فاغْزُها، وابْدَأْ بنفسِكَ فجاهِدْها.

وأعظمُ مجاهدةِ النَّفسِ على طاعةِ اللهِ عمارةُ بيوتِهِ بالذِّكرِ والطَّاعةِ:

قالَ تَعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 18].

وفي حديثِ أبي سَعيدٍ المرفوعِ: "إذا رَأيْتُمُ الرَّجلَ يَعْتادُ المسجدَ؛ فاشْهَدوا لهُ بالإيمانِ". ثمَّ تَلا هذهِ الآيه

(2)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ ماجَهْ.

(1)

(حسن صحيح). رواه: ابن المبارك في "الزهد"(826) و"الجهاد"(175)، ونعيم في "زوائد الزهد"(141)، وأحمد (6/ 20 - 22)، وابن عبد الحكم في "التاريخ"(ص 277 - 278)، وابن ماجه (39 - الفتن، 2 - حرمة دم المؤمن، 2/ 1298/ 3934) مختصرًا، والفسوي في "المعرفة"(1/ 341)، والترمذي (23 - فضائل الجهاد، 2 - فضل من مات مرابطًا، 4/ 165/ 1621)، وابن أبي عاصم في "الجهاد"(14)، والبزّار (9/ 206/ 3752)، وابن نصر في "تعظيم الصلاة"(640 و 641)، والنسائي في "الكبرى"(11038 - تحفة)، وابن حبّان (4624 و 4706 و 4862 و 6434)، والطبراني (18/ 309/ 796 - 797)، وابن منده في "الإيمان"(315)، والحاكم (1/ 10 - 11)، والسهمي في "التاريخ"(ص 201)، والقضاعي (131 و 183 و 184)، والبيهقي في "الشعب"(11133) و"الزهد"(369)، والبغوي في "السنّة"(14)؛ من طريق أبي هاني الخولاني، عن عمرو بن مالك الجنبي، عن فضالة بن عبيد

رفعه. أبو هاني صدوق من رجال مسلم، وعمرو ثقة، فالسند حسن على الأقلّ، وقد قوّاه الترمذي وابن حبّان والحاكم والمنذري والبوصيري والهيثمي والسيوطي والمناوي والألباني.

وله شاهد عند: عبد بن حميد (336)، وابن نصر في "تعظيم الصلاة"(634)، والعدني في "الإيمان"(27)، والبيهقي في "الزهد"(1149)؛ من حديث ابن عمرو بسند ضعيف.

وآخر عند: ابن نصر في "تعظيم الصلاة"(639)، وأبي نعيم في "الحلية"(2/ 249)؛ من حديث ابن عمر بسند ضعيف.

(2)

(ضعيف). رواه: سعيد بن منصور (1010)، وأحمد (3/ 68 و 76)، وابن أبي عمر العدني في "الإيمان"(3)، وعبد بن حميد (923 - منتخب)، والدارمي (1/ 278)، وابن ماجه (4 - المساجد، 19 - لزوم المساجد، 1/ 263/ 802)، والترمذي (41 - الإيمان، 8 - حرمة الصلاة، 5/ 12/ 2617 و 3093)، وابن نصر =

ص: 504

وقالَ تَعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 36 - 37].

والنَّوعُ الأوَّلُ مِن الجهادِ أفضلُ مِن هذا النَّوعِ الثَّاني.

قالَ تَعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة: 19 - 20].

وفي "صحيح مسلم"

(1)

: عن النُّعْمانِ بن بَشيرٍ؛ قالَ: كُنْتُ عندَ منبرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ رجلٌ: ما أُبالي أنْ لا أعْمَلَ عملًا بعدَ الإسلامِ إلَّا أنْ أسْقِيَ الحاجَّ. وقالَ آخرُ: ما أُبالي أنْ لا أعْمَلَ عملًا بعدَ الإسلامِ إلا أنْ أعْمُرَ المسجدَ الحرامَ. وقالَ آخرُ: الجهادُ في سبيلِ اللهِ أفضلُ ممَّا قُلْتُمْ. فزَجَرَهُمْ عُمَرُ وقالَ: لا تَرْفَعوا أصواتَكُم عندَ منبرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهوَ يومُ الجمعةِ، ولكنْ إذا صُلِّيَتِ الجمعةُ دَخَلْتُ فاسْتَفْتَيْتُهُ فيما اخْتَلَفْتُمْ فيهِ. فأنْزَلَ اللهُ عز وجل:{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى آخرِ الآيةِ.

فهذا الحديثُ الذي فيهِ ذكرُ سببِ نزولِ هذهِ الآيةِ يُبَيِّنُ أن المرادَ أفضلُ ما يُتَقَرَّبُ بهِ إلى اللهِ تَعالى مِن أعمالِ النَّوافلِ والتَّطوُّعِ وأنَّ الآيةَ تَدُلُّ على أن أفضلَ ذلكَ الجهادُ معَ الإيمانِ، فدَلَّ على أن التَّطوُّعَ بالجهادِ أفضلُ مِن التَّطوُّعِ بعمارةِ المسجدِ الحرامِ

= في "تعظيم الصلاة"(336)، وابن خزيمة (1502)، وابن حبّان (1721)، وابن عدي (3/ 981 و 1013)، والحاكم (1/ 212، 2/ 332)، وابن مردويه (التوبة 17 - ابن كثير)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 327)، والبيهقي (3/ 66)، والخطيب في "التاريخ"(5/ 459)، والأصبهاني في "الترغيب"(2164)؛ من طريق درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد

رفعه.

قال الترمذي في الموضعين: "حسن غريب". وصحّحه الحاكم في الموضعين ووافقه الذهبي في الثاني وتعقّبه في الأوّل بقوله: "درّاج كثير المناكير". قلت: درّاج ضعيف في روايته عن أبي الهيثم، وهذا منها. وقال الألباني في تعليقه على ابن خزيمة "إسناده صحيح" على غير عادته في روايات درّاج عن أبي الهيثم، وكأنّه سبق قلم فإنّه أودعه في "ضعيف ابن ماجه". وضعّفه أيضًا مغلطاي والمناوي.

(1)

(33 - الإمارة، 29 - فضل الشهادة، 3/ 1498/ 1878).

ص: 505

وسقايةِ الحاجِّ. وعلى مثلِ هذا يُحْمَلُ حديثُ أبي هُرَيْرَةَ.

• هذا؛ وإنَّ الجهادَ أفضلُ مِن الحجِّ المتطوَّعِ بهِ؛ فإنَّ فرضَ الحجِّ تَأخَّرَ عندَ كثيرٍ مِن العلماءِ إلى السَّنةِ التَّاسعةِ، ولعلَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ هذا الكلامَ قبلَ أنْ يُفْرَضَ الحجُّ بالكلِّيَّةِ، فكانَ حينئذٍ تطوُّعًا.

وقد قيلَ: إنَّ الجهادَ كانَ في أوَّلِ الإسلامِ فرضُ عينٍ، فلا إشكالَ في هذا على تقديمِهِ على الحجِّ قبلَ افتراضِهِ. فأمَّا بعدَ أنْ صارَ الجهادُ فرضَ كفايةٍ والحجُّ فرضَ عينٍ؛ فإنَّ الحجَّ المفروضَ حينئذٍ يَكونُ أفضلَ مِن الجهادِ.

قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بن العاصِ: حجَّة قبلَ الغزوِ أفضلُ مِن عشرِ غزواتٍ، وغزوةٌ بعدَ حجَّةٍ أفضلُ مِن عشرِ حجَّاتٍ. [و] رُوِيَ ذلكَ مرفوعًا مِن وجوهٍ متعدِّدةٍ في أسانيدِها مقالٌ

(1)

.

وقالَ الصُّبَيُّ بنُ مَعْبَدٍ: كُنْتُ نصرانيًّا، فأسْلَمْتُ، فسَألْتُ أصحابَ مُحَمَّدٍ: الجهادُ

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه يحيى بن سعيد الأنصاري واختلف عليه فيه على وجهين: روى الأوّل: الفاكهي (803)، وابن حبّان في "المجروحين"(2/ 41)، والطبراني في "الكبير"(5/ 284 - مجمع) و"الأوسط"(3168)، والبيهقي في "السنن"(4/ 334) و"الشعب"(4221)، والذهبي في "الميزان"(2/ 444) معلّقًا؛ من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث، ثنا يحيى بن أيّوب، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن يسار (وجاء مرّة: عطاء بن يسار)، عن ابن عمرو

رفعه. وأشار إلى الثاني البيهقي بقوله: "ورواه سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد أخبرني مخبر عن عطاء بن يسار عن ابن عمر موقوفًا". فإن صحّت الطريق إلى سفيان؛ فالقول قوله؛ لأنّه جبل الحفظ، بخلاف كاتب الليث ويحيى بن أيّوب المتكلّم فيهما. وممّا يرجّح هذا الوجه الثاني أنّه جاء بنحوه بسند قويّ عن ابن عمر موقوفًا عند ابن أبي شيبة (19352).

ورواه مكحول الشامي واختلف عليه فيه على ثلاثة أوجه: روى أوّلها: أبو نعيم في "الحلية"(5/ 188) من طريق محمّد بن عمر الكلاعي، عنه، عن ابن عمر

رفعه بنحوه. وروى الثاني أبو داوود في "المراسيل"(303 و 304) من وجهين يقوّي أحدهما الآخر، عن مكحول

مرسلًا. وروى الثالث ابن المبارك في "الجهاد"(228): أنا مكحول، ثنا الضحّاك بن عبد الرحمن بن عرزب، عن عبد الرحمن بن غنم

موقوفًا. فالوجه الأوّل ساقط لشدّة نكارة حديث الكلاعي. ورواية ابن المبارك عن مكحول في الوجه الثالث منقطعة، اللهمّ إلّا أن يكون الإشكال في المطبوعة؛ فإنّ ابن المبارك لا يقول: أنا مكحول، وعندئذ يصير الوجه الثالث أرجح وأقوى من الثاني ويكون الصواب هاهنا أيضًا الوقف.

وخلاصة القول أنّ الوقف راجح على الوجهين، والرفع ساقط، والإرسال محتمل. ومثل هذا لا يزحزح الحديث عن الضعف، وقد قال ابن رجب:"في أسانيدها مقال"، وقال الألباني:"ضعيف جدًّا".

ص: 506

أفضلُ أمِ الحجُّ؟ فقالوا: الحجُّ.

والمرادُ - واللهُ أعلمُ - أن الحجَّ أفضلُ لمَن لمْ يَحُجَّ حجَّةَ الإسلامِ مثلِ هذا الذي أسْلَمَ، وقد يَكونُ المرادُ بحديثِ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ جنسَ الجهادِ أشرفُ مِن جنسِ الحجِّ، فإنْ عَرَضَ للحجِّ وصفٌ يَمْتازُ بهِ على الجهادِ - وهوَ كونُهُ فرضَ عينٍ -؛ صارَ ذلكَ الحجُّ المخصوصُ أفضلَ مِن الجهادِ، وإلَّا؛ فالجهادُ أفضلُ. واللهُ أعلمُ.

• وقد دَلَّ حديثُ أبي هُرَيْرَةَ على أن أفضلَ الأعمالِ بعدَ الجهادِ في سبيلِ اللهِ جنسُ عمارةِ المساجدِ بذكرِ اللهِ وطاعتِهِ، فدَخَلَ في ذلكَ الصَّلاةُ والذِّكرُ والتِّلاوةُ والاعتكافُ وتعليمُ العلمِ النَّافعِ واستماعُهُ.

وأفضلُ ذلكَ عمارةُ أفضلِ المساجدِ وأشرفِها - وهوَ المسجدُ الحرامُ - بالزِّيارةِ والطَّوافِ. فلهذا خَصَّهُ بالذِّكرِ وجَعَلَ قصدَهُ للحجِّ أفضلَ الأعمالِ بعدَ الجهادِ. وقد خَرَّجَهُ ابنُ المُنْذِرِ ولفظُهُ: "ثمَّ حجٌّ مبرورٌ أو عمرةٌ"

(1)

.

وقد ذَكَرَ اللهُ تَعالى هذا البيتَ في كتابِهِ بأعظمِ ذكرٍ وأفخمِ تعظيمٍ وثناءٍ: قالَ تَعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} الآياتِ [البقرة: 125]. وقالَ تَعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 96 - 97]. وقالَ تَعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 26 - 27].

فعمارةُ سائرِ المساجدِ سوى المسجدِ الحرامِ وقصدُها للصَّلاةِ فيها وأنواعُ

(1)

(صحيح). رواه: معمر في "الجامع"(20296)، وأبو عوانة (176)، وابن المنذر (507 - لطائف المعارف)؛ من طريق الزهريّ، عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة

رفعه.

وله شاهد عند: معمر في "الجامع"(20107)، وأحمد (4/ 114)، وعبد بن حميد (301)، والفاكهي في "مكّة"(872)، والطبراني (3/ 210 - مجمع)؛ بسند فيه انقطاع عن عمرو بن عبسة مرفوعًا.

ص: 507

العباداتِ مِن الرِّباطِ في سبيلِ اللهِ، كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في إسباغِ الوضوءِ على المكارهِ وكثرةِ الخطا إلى المساجدِ وانتظارِ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ:"فذلكُمُ الرِّباطُ، فذلكُمُ الرِّباطُ، فذلكُمُ الرِّباطُ"

(1)

.

• فأمَّا المسجدُ الحرامُ بخصوصِهِ؛ فقصدهُ لزيارتِهِ وعمارتِهِ بالطَّوافِ الذي خَصَّهُ اللهُ بهِ مِن نوعِ الجهادِ في سبيلِ اللهِ عز وجل.

وفي "صحيح البُخارِيِّ"

(2)

: عن عائشةَ؛ قالَتْ: يا رسولَ اللهِ! نَرى الجهادَ أفضلَ العملِ، أفلا نُجاهِدُ؟ قالَ:"لكِنْ أفضلُ الجهادِ حجٌّ مبرور"؛ يَعْني: أفضلَ جهادِ النِّساءِ. ورواهُ بعضُهُم: "لَكُنَّ أفضلُ الجهادِ حجٌّ مبرورٌ"، فيَكونُ صريحًا في هذا المعنى. وقد خَرَّجَهُ البُخارِيُّ

(3)

بلفظٍ آخرَ، وهوَ:"جهادُكُنَّ الحجُّ". وهوَ كذلكَ.

وفي "المسند" و "سنن ابن ماجَهْ": عن أُمِّ سَلَمَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"الحجُّ جهادُ كلِّ ضعيفٍ"

(4)

.

وخَرَّجَ البَيْهَقِي وغيرُهُ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: "جهادُ الكبيرِ والضَّعيفِ والمرأةِ الحجُّ والعمرةُ"

(5)

.

(1)

رواه مسلم (2 - الطهارة، 14 - إسباغ الوضوء على المكاره، 1/ 219/ 251) عن أبي هريرة.

(2)

(25 - الحجّ، 4 - فضل الحجّ المبرور، 3/ 381/ 1520).

(3)

(56 - الجهاد، 62 - جهاد النساء، 6/ 75/ 2875).

(4)

(حسن لشواهده). رواه: الطيالسي (1599)، وابن أبي شيبة (12654)، وابن الجعد (3505)، وإسحاق (1/ 176/ 150 - 151)، وأحمد (6/ 294 و 303 و 314)، وابن منيع في "المسند"(3/ 185 - مصباح الزجاجة)، وابن ماجه (25 - المناسك، 8 - حجّ النساء، 2/ 968/ 2902)، والفاكهي (794)، وأبو يعلى (6916 و 7029)، والطبراني (23/ 292/ 647)، والقضاعي في "الشهاب"(80)، والرافعي في "التدوين"(2/ 479)، والذهبي في "النبلاء"(4/ 409)؛ من طريق قويّة، عن أبي جعفر محمّد بن علي، عن أمّ سلمة

رفعته. قال البوصيري: "إسناده ضعيف

قال أحمد وأبو حاتم: لم يسمع أبو جعفر من أمّ سلمة". وبهذا أعلّه البخاري والترمذي والمنذري والعلائي والسخاوي والمناوي وغيرهم.

لكن يشهد له الحديث الآتي بعده، ويشهد لمعناه حديث عائشة المتقدّم قبله والمراسيل الآتية بعده، فلا أقلّ من تحسينه هنا، وإلى ذلك مال الألباني.

(5)

(حسن صحيح). رواه: عبد الرزاق (9709 و 9710)، وسعيد بن منصور في "السنن"(2344)، وأحمد (2/ 421)، والنسائي في "السنن الكبرى"(3605) و"المجتبى"(24 - المناسك، 4 - فضل الحجّ، 5/ 113/ 2625)، والطبراني في "الأوسط"(8746)، والبيهقي (4/ 350، 9/ 23)؛ من طرق، عن ابن =

ص: 508

وفي حديثٍ مرسل: "الحجُّ جهادٌ والعمرةُ تطوُّعٌ"

(1)

.

وفي حديثٍ آخرَ مرسلٍ خَرَّجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ؛ أن رجلًا قالَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: إنِّي جبانٌ لا أُطيقُ لقاءَ العدوِّ. قالَ: "أفلا أدُلُّكَ على جهادٍ لا قتالَ فيهِ؟ ". قالَ: بلى. قالَ: "عليكَ بالحجِّ والعمرةِ"

(2)

.

= الهاد، عن محمّد بن إبراهيم، [عن أبي سلمة]، [عن أبي هريرة]

رفعه.

وهذا سند يمكن أن يعلّ بأنّه جاء مرّة عن محمّد بن إبراهيم مرسلًا، ومرّة عن محمّد عن أبي هريرة منقطعًا. والجواب عن هذا أنّ الطريق المسندة المذكورة قد جاءت من وجه قويّ عن ابن الهاد، فلها حكم زيادة الثقة، والأوجه الأُخرى لا تضرّها عندئذ بل تزيدها قوّة، ولذلك قال المنذري:"إسناد حسن"، وقال الهيثمي (3/ 209):"رجاله رجال الصحيح". وضعّفه الألباني في "ضعيف الجامع" ثمّ حسّنه في "صحيح النسائي".

ثمّ يشهد له ما قبله وما بعده، فهو صحيح به.

(1)

(ضعيف جدًّا). وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من أوجه:

• فرواه: الطبراني (11/ 350/ 12252)، والذهبي في "ميزان الاعتدال"(3/ 492) تعليقًا، والبيهقي (4/ 348) تعليقًا؛ من طريق محمّد بن بكّار، ثنا محمّد بن الفضل بن عطية، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس

رفعه. قال ابن حزم: "ابن بكّار وابن الفضل مجهولان". وتعقّبه الذهبي بقوله: "أمّا ابن بكّار؛ فصحيح أنّه مجهول، وأمّا ابن الفضل

فهو ضعيف متروك بالإجماع". قلت: وقال الهيثمي (3/ 208): "فيه محمّد بن الفضل بن عطيّة، وهو كذّاب".

* ورواه: ابن ماجه (25 - المناسك، 44 - العمرة، 2/ 995/ 2989)، وابن أبي حاتم في "العلل"(850) تعليقًا، والطبراني في "الأوسط"(6719)؛ من طريق الحسن بن يحيى الخشني، [عن عمرو بن قيس]، عن طلحة بن موسى، عن عمّه إسحاق بن طلحة، عن طلحة بن عبيد الله

رفعه. قال أبو حاتم: "حديث باطل". وقال البوصيري: "ضعيف. عمر بن قيس المعروف بسندل ضعّفه أحمد وابن معين

والحسن الراوي عنه ضعيف". قلت: سندل متروك. وضعّف حديثه العسقلاني والشوكاني.

• وعلّقه البيهقي (4/ 348) من طريق شعبة، عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح، عن أبي هريرة

رفعه. وهاهنا علّتان: أولاهما: قول البيهقي: "الطريق إلى شعبة ضعيفة". والثانية: أنّه رواه: الشافعي في "الأُمّ"(2/ 132) و"المسند"(ص 112)، وابن أبي شيبة (13645)، وابن جرير (3231)، والبيهقي (4/ 348)؛ من طرق قويّة، عن معاوية، عن أبي صالح الحنفي

مرسلًا. فهذا الوصل قد جمع الضعف إلى المخالفة، وهذا حدّ النكارة.

• ورواه: ابن أبي شيبة (13646)، وابن جرير (3219 و 3220)؛ من طريق أبي معشر، عن إبراهيم، عن ابن مسعود

موقوفًا. فهذا أولى على ضعف أبي معشر.

فطرق الحديث المرفوعة ساقطة فرادى ومجتمعة، وطريقه الموقوفة ضعيفة، وقد ضعّفه الشافعي وأبو حاتم والدارقطني وابن حزم والبيهقي والذهبي والبوصيري والهيثمي والعسقلاني والشوكاني والألباني.

(2)

(ضعيف جدًّا). رواه عبد الرزّاق (8810 و 9273 و 9274) من طريقين، عن عبد الكريم الجزري، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذا معضل سقط منه الصحابيّ والتابعيّ؛ فإنّ الجزري من أتباع التابعين.

ص: 509

وخَرَّجَ أيضًا مِن مراسيلِ عَلِيِّ بن الحُسَيْنِ؛ أن رجلًا سَألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الجهادِ؟ فقالَ: "ألا أدُلُّكَ على جهادٍ لا شوكةَ فيهِ؟ الحجُّ"

(1)

.

وفيهِ: عن عُمَرَ؛ أنَّهُ قالَ: إذا وَضَعْتُمُ السُّروجَ (يَعْني: مِن سفرِ الجهادِ)؛ فشُدُّوا الرِّحالَ إلى الحجِّ والعمرةِ؛ فإنَّهُ أحدُ الجهادينِ. وذَكَرَهُ البُخارِيُّ تعليقًا.

وقالَ ابنُ مَسْعودٍ: إنَّما هوَ سرجٌ ورحلٌ؛ فالسَّرجُ في سبيلِ اللهِ، والرَّحلُ [في] الحجِّ. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ في "مناسكِهِ".

وإنَّما كانَ الحجُّ والعمرةُ جهادًا؛ لأنَّهُ يُجْهِدُ المالَ والنَّفسَ والبدنَ، كما قالَ أبو الشَّعْثاءِ: نَظَرْتُ في أعمالِ البرِّ، فإذا الصَّلاةُ تُجْهِدُ البدنَ دونَ المالِ، والصِّيامُ كذلكَ، والحجُّ يُجْهِدُهُما، فرَأيْتُهُ أفضلَ.

ورَوى عَبْدُ الرَّزَّاقِ بإسنادِهِ: عن أبي موسى الأشْعَرِيِّ؛ أن رجلًا سَألَهُ عن الحجِّ. قالَ: إنَّ الحاجَّ يَشْفَعُ في أربعِ مئةِ بيتٍ مِن قومِهِ، ويُبارَكُ في أربعينَ مِن أُمَّهاتِ البعيرِ الذي حَمَلَهُ، ويَخْرُجُ مِن ذنوبِهِ كيومَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. فقالَ لهُ رجل: يا أبا موسى! إنِّي كُنْتُ أُعالِجُ الحجَّ، وقد كَبِرْتُ وضَعُفْتُ، فهلْ مِن شيءٍ يَعْدِلُ الحجَّ؟ فقالَ لهُ: هل تَسْتَطيعُ أنْ تَعْتِقَ سبعينَ رقبةً مؤمنةً مِن ولدِ إسْماعيلَ؟! فأمَّا الحلُّ والرَّحيلُ؛ فلا أجِدُ لهُ عدلًا (أو قالَ: مثلًا)

(2)

.

وبإسنادِهِ عن طاووسٍ؛ أنَّهُ سُئِلَ: هلِ الحجُّ بعدَ الفريضةِ أفضلُ أمِ الصَّدقةُ؟ قالَ: فأينَ الحلُّ والرَّحيلُ والسَّهرُ والنَّصبُ والطَّوافُ بالبيتِ والصَّلاةُ عندَهُ والوقوفُ بعرفةَ وجمعٍ ورميُ الجمارِ؟! كأنَّهُ يَقولُ: الحجُّ أفضلُ.

• وقدِ اخْتَلَفَ العلماءُ في تفضيلِ الحجِّ تطوُّعًا على الصَّدقةِ:

فمنهُم مَن رَجَّحَ الحجَّ، كما قالَ طاووسٌ وأبو الشَّعثاءِ وقالَهُ الحَسَنُ أيضًا.

ومنهُم مَن رَجَّحَ الصَّدقةَ، وهوَ قولُ النَّخَعِيِّ.

(1)

(ضعيف). رواه: عبد الرزّاق (8809)، وعليّ بن الجعد (2478)؛ من طريق معاوية بن إسحاق، عن عباية بن رفاعة، عن عليّ بن الحسين، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذا سند رجاله ثقات، لكنّه مرسل.

(2)

(ضعيف موقوفا ومرفوعا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 158).

ص: 510

ومنهُم مَن قالَ: إنْ كانَ ثَمَّ رحمٌ محتاجةٌ أو زمنُ مجاعةٍ؛ فالصَّدقةُ أفضلُ، وإلَّا؛ فالحجُّ. وهوَ نصُّ أحْمَدَ. ورُوِيَ عن الحَسَنِ معناهُ وأنَّ صلةَ الرَّحمِ والتَّنفيسَ عن المكروبِ أفضلُ مِن التَّطوُّعِ بالحجِّ

(1)

.

وفي "كتابِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ" بإسنادٍ ضعيفٍ: عن عائِشَةَ؛ أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن رجلٍ حَجَّ فأكْثَرَ، أيَجْعَلُ نفقتَهُ في صلةٍ أو عتقٍ؟ فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"طوافُ سبعٍ لا لغوَ فيهِ يَعْدِلُ رقبةً"

(2)

. وهذا يَدُلُّ على تفضيلِ الحجِّ.

واسْتَدَلَّ مَن رَأى ذلكَ أيضًا بأن النَّفقةَ في الحجِّ مِن النَّفقةِ في سبيلِ اللهِ.

وفي "مسند الإمام أحْمَد": عن بُرَيْدَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"النَّفقةُ في الحجِّ كالنَّفقةِ في سبيلِ اللهِ بسبعِ مئةِ ضعفٍ"

(3)

.

(1)

وهذا قول حسن جدًّا، ويزداد حسنه في حقّ من أكثر من الحجّ والعمرة وفي حقّ من ينفق على حجّه وعمرته المبالغ الطائلة، وفي حقّ من يكثر حوله الفقراء والمحتاجون من أُسرته وأهل بلده

وما أعظم غفلة الناس عن هذه المعاني! ترى الرجل يطوف ويسعى وينفق الأموال الطائلة على رحلات الطائرات والفنادق الفخمة وأخوه ابن أُمّه وأبيه قد آذاه المرض وأقعده وهو لا يملك ثمنًا لجراحة ولا لعلاج!

(2)

(ضعيف جدًّا). رواه عبد الرزّاق (8833): أنا ابن محرّر، سمعت عطاء بن رباح، يحدّث عن عائشة

رفعته. وابن محرّر ساقط الحديث، ولذلك ضعّفه ابن رجب، وقال الألباني:"ضعيف جدًّا".

وقد جاء هذا المعنى عن عبد الله بن عبيد بن عمير مرسلًا عند عبد الرزّاق (8824) لكن بسند ضعيف.

وجاء موقوفًا على ابن عمرو (8825) وعلى كعب الأحبار (8828)، فلعلّ هذا أصله ثمّ رفعه هذا الهالك وجعله من حديث عطاء.

(3)

(حسن لشواهده). رواه: مسدّد في "مسنده"(3/ 63 - 64 تاريخ البخاري)، وأحمد (5/ 354)، والبخاري في "التاريخ"(3/ 63 - 64)، والفاكهي (903)، وابن أبي عاصم في "الجهاد"(75 - 76)، والروياني (65)، وابن الأعرابي في "المعجم"(991)، والطبراني في "الأوسط"(5270)، والبيهقي (4/ 332) وفي "الشعب"(4124 - 4126)، وأبو موسى المديني في "الصحابة"(3/ 132 - إصابة)؛ من طرق، عن عطاء بن السائب، (قال مرّة: عن محمّد بن زهير مرسلًا، ومرّة: عن عبد الله بن زهير مرسلًا، ومرّة: عن حرب بن زهير أبي زهير الضبعي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه مرفوعًا، ومرّة: عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه مرفوعًا، ومرّة: عن زهير عن علقمة عن سليمان بن بريدة عن أبيه مرفوعًا). وهذا سند ضعيف فيه علل: أولاها: أنّ عطاء اختلط، والرواة عنه على كثرتهم ليس فيهم من روى عنه قبل الاختلاط، لكنّه توبع كما سيأتي في الحديث بعده فبريء من عهدة الحديث. والثانية: أنّه اضطرب فيه على الأوجه الملخّصة آنفًا. والثالثة: أنّ زهيرًا هذا أو ابن زهير مجهول، قال الهيثمي (3/ 211):"فيه أبو زهير لم أجد من ذكره". قلت: ترجمه ابن أبي حاتم والعسقلاني في "التعجيل" بما يدلّ على جهالته.

ص: 511

وخَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ مِن حديثِ: أنَسٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"النَّفقةُ في سبيلِ اللهِ؛ الدِّرهمُ فيهِ بسبعِ مئةٍ"

(1)

.

ويَدُلُّ عليهِ قولُهُ تَعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 195 - 196]؛ ففيهِ دليلٌ على أن النَّفقةَ في الحجِّ والعمرةِ تَدْخُلُ في جملةِ النَّفقةِ في سبيلِ اللهِ.

وقد كانَ بعضُ الصَّحابةِ جَعَلَ بعيرَهُ في سبيلِ اللهِ، فأرادَتِ امرأتُهُ أنْ تَحُجَّ عليهِ، فقالَ لها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"حُجِّي عليهِ، فإنَّ الحجَّ في سبيلِ اللهِ"

(2)

. وقد خَرَّجَهُ أهلُ المسانيدِ

= وله شاهد عند ابن أبي شيبة (12658) من طريق قويّة عن محمّد بن عبّاد مرسلًا باللفظ نفسه. ويشهد لمعناه حديث أُمّ معقل الآتي بعد حديث. فهو حسن إن شاء الله بهذه الشواهد وغيرها. والله أعلم.

(1)

(حسن لشواهده). رواه: البخاري في "التاريخ"(3/ 63)، والفاكهي في "مكّة"(904)، والبزّار (1664 - كشف)، والطبراني في "الأوسط"(5690)، والضياء (7/ 284/ 2740)؛ من طريق محمّد بن أبي إسماعيل السلمي، عن حرب بن زهير، [عن يزيد بن زهير الضبعي]، عن أنس

موقوفًا ومرفوعًا.

قال الهيثمي (3/ 211): "فيه من لم أعرفه". قلت: يريد حربًا ويزيد فإنّهما مجهولان، وحرب تقدّم في حديث بريدة قبله ممّا يجعل هذا الحديث وجهًا من أوجه الخلاف المتقدّمة آنفا، ويفيدنا أنّ عطاء بن السائب توبع ويبرّئه من عهدة الحديث. ثمّ الحديث حسن إن شاء الله بالشواهد المذكورة آنفًا.

(2)

(صحيح). رواه: مالك (1/ 346)، والطيالسي (1662)، وابن أبي شيبة (13024)، وابن سعد (8/ 295)، وإسحاق (1/ 260/ 5 - 6)، وأحمد (6/ 375 و 405 - 406)، والدارمي (2/ 51)، والفاكهي (828 و 833 و 862)، وأبو داوود (5 - المناسك، 80 - العمرة، 1/ 608/ 1988 و 1989)، والترمذي (7 - الحجّ، 95 - عمرة في رمضان، 3/ 276/ 939)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(3238 - 3246 و 3248 و 3250 - 3252)، والنسائي في "الكبرى"(4227)، وأبو يعلى (6860)، وابن خزيمة (2376 و 3075)، والطبراني (25/ 151/ 364 - 374)، والحاكم (1/ 482)، والبيهقي (4/ 346)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(22/ 56 - 60)، والخطيب في "التاريخ"(11/ 11) و"الجمع والتفريق"(2/ 411 - 412)، والمزّي في "التهذيب"(23/ 32)، من طرق، عن أمّ معقل

رفعته مطوّلًا ومختصرًا بذكر هذه القطعة وبدونها. قال الترمذي: "حسن غريب"، وأقزه المنذري. وقال الحاكم:"على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي. قلت: أسانيده كثيرة، لكن فيها اختلاف كبير بين اتصال وإرسال وفي بعضها جهالة، على أنّ كثرتها تجبر هذه العلل، فلا يتردّد المرء في أنّ الحديث حسن على الأقل بمجموع طرقه، بل هو صحيح، وقال الألباني:"صحيح".

ورواه: أحمد (4/ 210)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2174)، والنسائي في "الكبرى"(4226)، والروياني (1289)، والطبراني (20/ 234/ 551)؛ من حديث معقل بن أبي معقل.

ورواه: ابن أبي شيبة (13023 و 13025)، وابن ماجه (25 - المناسك، 45 - عمرة رمضان، 2/ 996 / 2993)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(3249)، والنسائي في "الكبرى"(4228)؛ عن أبي معقل.

ص: 512

والسُّننِ مِن وجوهٍ متعدِّدة، وذَكَرَهُ البُخارِقيُ تعليقًا.

وهذا يُسْتَدَلُّ بهِ على أن الحجَّ يُصْرَفُ فيهِ مِن سهمِ سبيلِ اللهِ المذكورِ في آيةِ الزَّكاةِ كما هوَ أحدُ قوليِ العلماءِ، فيُعْطى مِن الزَّكاةِ مَن لمْ يَحُجَّ ما يَحُجُّ بهِ. وفي إعطائِهِ لحجِّ التَّطوُّعِ اختلافٌ بينَهُم أيضًا.

• وفي الحديثِ الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم[أنَّهُ] قالَ: "الحجُّ المبرورُ ليسَ لهُ جزاءٌ إلَّا الجنَّةَ"

(1)

.

وفي "المسند"؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قالَ: "إيمانٌ باللهِ وحدَهُ، ثمَّ الجهادُ، ثمَّ حجَّة برَّةٌ تَفْضُلُ سائرَ الأعمالِ ما بينَ مطلعِ الشَّمسِ إلى مغربِها"

(2)

.

وثَبَتَ عنهُ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: "مَن حَجَّ هذا البيتَ فلمْ يَرْفُثْ ولمْ يَفْسُقْ؛ خَرَجَ مِن ذنوبِهِ كيومَ وَلَدَتْهُ أُمّهُ"

(3)

.

فمغفرةُ الدُّنوبِ بالحجِّ ودخولُ الجنَّةِ [بهِ] مرتَّبٌ على كونِ الحجِّ مبرورًا.

• وإنَّما يَكونُ مبرورًا باجتماعِ أمرينِ فيهِ:

• أحدُهُما: الإتيانُ فيهِ بأعمالِ البرِّ.

والبرُّ يُطْلَقُ بمعنيينِ:

= وله شاهد من حديث ابن عبّاس عند: أحمد (1/ 229)، وأبي داوود (الموضع السابق، 1990)، وابن خزيمة (3077)؛ بسند قويّ.

(1)

رواه: البخاري (26 - العمرة، 1 - وجوب العمرة وفضلها، 3/ 597/ 1773)، ومسلم. (15 - الحجّ، 79 - فضل الحجّ والعمرة، 2/ 983/ 1349)؛ من حديث أبي هريرة.

(2)

(صحيح). رواه: أحمد (4/ 342)، والبخاري في "التاريخ"(8/ 37)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2636) و"الجهاد"(24)، وعبد الله بن أحمد (4/ 342)، والطبراني (20/ 344/ 809 - 811)؛ من طرق، عن الجريري، عن يزيد بن عبد الله بن الشخّير (وقال مرّة: عن حيّان بن عمير)، عن ماعز

رفعه. قال المنذري: "رواة أحمد إلى ماعز رواة الصحيح". وقال الهيثمي (3/ 210): "رجال أحمد رجال الصحيح". قلت: الجريريّ تغيّر، لكن روى عنه عند أحمد شعبة، وهو من قدماء أصحابه. والتردّد بين يزيد وحيّان تردّد بين ثقتين لا يضرّ. فالسند صحيح.

(3)

رواه: البخاري (25 - الحجّ، 4 - فضل الحجّ المبرور، 3/ 382/ 1521)، ومسلم (15 - الحجّ، 79 - فضل الحجّ والعمرة، 2/ 983/ 1350)؛ من حديث أبي هريرة.

ص: 513

أحدُهُما: بمعنى الإحسانِ إلى النَّاسِ، كما يُقالُ: البرُّ الصِّلةُ، وضدُّهُ العقوقُ.

وفي "صحيح مسلم"

(1)

، أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عن البرِّ، فقالَ:"البرُّ حسنُ الخلقِ".

وكانَ ابنُ عُمَرَ تقولُ: إنَّ البرَّ شيءٌ هيِّن؛ وجهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّن.

وهذا يُحْتاجُ إليهِ في الحجِّ كثيرًا؛ أعني: معاملةَ النَّاس بالإحسانِ بالقولِ والفعلِ.

قالَ بعضُهُم: إنَّما سُمِّيَ السَّفرُ سفرًا، لأنَّهُ يُسْفِرُ عن أَخلاقِ الرِّجالِ.

وفي "المسند": عن جابرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:"الحجُّ المبرورُ ليسَ لهُ جزاءٌ إلَّا الجنَّةَ". قالوا: وما برُّ الحجِّ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: "إطعامُ الطَّعامِ، وإفشاءُ السَّلامِ"

(2)

.

وفي حديثٍ آخرَ: "وطيبُ الكلامِ"

(3)

.

وسُئِلَ سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: أيُّ الحاجِّ أفضلُ؟ قالَ: مَن أطْعَمَ الطَّعامَ وكَفَّ لسانَهُ. قالَ الثَّوْرِيُّ: سَمِعْتُ أنَّهُ مِن برِّ الحجِّ.

وفي مراسيلِ: خالِدِ بن مَعْدانَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:"ما يَصْنَعُ مَن يَؤُمُّ هذا البيتَ إذا لمْ يَكُنْ فيهِ خصالٌ ثلاثةٌ: ورعٌ يَحْجُزُهُ عمَّا حَرَّمَ الله، وحلمٌ يَضْبِطُ بهِ جهلَهُ، وحسنُ صحابةٍ لمَن يَصْحَبُ. وإلَّا؛ فلا حاجةَ للهِ بحجِّهِ"

(4)

.

وقالَ أبو جَعْفَرٍ الباقِرُ: ما يَعْبَأُ مَن يَؤُمُّ هذا البيتَ إذا لمْ يَأْتِ بثلاثٍ: ورعٌ يَحْجُزُهُ عن معاصي اللهِ، وحلم يَكُفُّ بهِ غضبَهُ، وحسنُ الصَّحابةِ لمَن يَصْحَبُهُ مِن المسلمينَ.

فهذهِ الثَّلاثةُ يُحْتاجُ إليها في الأسفارِ كلِّها، خصوصًا في سفرِ الحجِّ، فمَن كَمَّلَها؛ فقد كَمَلَ حجُّهُ وبَرَّ.

ومِن أجْمعِ خصالِ البرِّ التي يَحْتاجُ إليها الحاجُّ ما وَصَّى بهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أبا جُرَيٍّ الهُجَيْمِيَّ، فقالَ لهُ: "لا تَحْقِرَنَّ مِن المعروفِ شيئًا، ولو أنْ تُفْرِغَ مِن دلوِكَ في إناءِ المستسقي، ولو أنْ تُعْطِيَ صلةَ الحبلِ، ولو أنْ تُعْطِيَ شسعَ النَّعلِ، ولو أنْ تُنَحِّيَ الشَّيءَ

(1)

(45 - البرّ والصلة، 5 - تفسير البرّ والإثم، 4/ 1980/ 2553) من حديث النوّاس.

(2)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 151).

(3)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 151).

(4)

(ضعيف). إن سلمت الطريق إلى خالد بن معدان فهو مرسل، والمرسل من أنواع الضعيف، ولم أقف عليه في غير هذا الموضع.

ص: 514

مِن طريقِ النَّاسِ يُؤْذيهِم، ولو أنْ تَلْقى أخاكَ ووجهُكَ إليهِ منطلقٌ، ولو أنْ تَلْقى أخاكَ المسلمَ فتُسَلِّمَ عليهِ، ولو أنْ تُؤْنِسَ الوحشانَ في الأرضِ"

(1)

.

وفي الجملةِ؛ فخيرُ النَّاس أنفعُهُم للنَّاسِ وأصبرُهُم على أذى النَّاسِ، كما وَصَفَ اللهُ المتَّقينَ بذلكَ في قولِهِ:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].

والحاجُّ يَحْتاجُ إلى مخالطةِ النَّاسِ، والمؤمنُ الذي يُخالِطُ النَّاسَ ويَصْبِرُ على أذاهُم أفضلُ ممَّن لا يُخالِطُهُم ولا يَصْبِرُ على أذاهُم.

قالَ رَبيعَةُ: المروءةُ في السَّفرِ: بذلُ الزَّادِ، وقلَّةُ الخلافِ على الأصحابِ، وكثرةُ المزاحِ في غيرِ مساخطِ اللهِ عز وجل.

وجاءَ رجلانِ إلى ابن عَوْنٍ يُوَدِّعانِهِ ويَسْألانِهِ أنْ يُوصيَهُما، فقالَ لهُما: عليكُما بكظمِ الغيظِ وبذلِ الزَّادِ، فرَأى أحدُهُما في المنامِ أن ابنَ عَوْنٍ أهْدى إليهِما حُلَّتينِ.

(1)

(صحيح). قطعة من حديث طويل رواه: معمر في "الجامع"(19434، 19982)، وابن المبارك في "الزهد"(1017)، والطيالسي (1208)، وابن أبي شيبة (24812 و 26565 و 25699)، وابن سعد (7/ 43 و 44)، وابن الجعد (3220)، وأحمد (3/ 482، 4/ 65، 5/ 63 و 64 و 377)، والبخاري في "الأدب المفرد"(1182) و"التاريخ الكبير"(2/ 205 - 206) و"التاريخ الصغير"(492 - 496)، وأبو داوود (26 - اللباس، 23 - الهدب، 2/ 452/ 4075 و 4084 و 5209)، والترمذي (43 - الاستئذان، 18 - كراهية عليك السلام، 5/ 71/ 2721 و 2722)، وابن أبي الدنيا في "اصطناع المعروف"(2/ 73 - إصابة)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(1181 - 1186)، وابن نصر في "تعظيم الصلاة"(807)، والنسائي في "الكبرى"(9696 - 9691 و 10149 - 10152) و"اليوم والليلة"(319 - 322)، والدولابي في "الكنى"(135 و 371 - 374)، وابن أبي حاتم في "العلل"(3494) تعليقًا، والمحاملي في "الأمالي"(352)، وابن الأعرابي في "المعجم"(2/ 129 - إصابة)، وابن قانع في "المعجم"(1/ 55 و 142)، وابن حبّان (521 و 522)، والطبراني (7/ 62/ 6383 - 6390)، وابن السنّي (236)، والحاكم (4/ 186)، والقضاعي (935)، والبيهقي في "السنن"(236، 8884 و 8885)، وابن عبد البرّ (1/ 226 - هامش الإصابة)، والبغوي في "السنّة"(3504)، والأصبهاني في "الترغيب"(1138)، وابن الأثير في "الغابة"(1/ 290)، والمزّي في "التهذيب"(19/ 270، 20/ 238)؛ من طرق ثمان، عن أبي جريّ جابر بن سليم

رفعه مطوّلًا ومختصرًا.

وللحديث أكثر من طريق قويّة لذاتها، واجتماع طرقه يجعله صحيحًا دونما ريب، وقد صحّحه الترمذي وابن حبّان والحاكم والمنذري والذهبي والألباني.

ص: 515

والإحسانُ إلى الرِّفقةِ في السَّفرِ أفضلُ مِن العبادةِ القاصرةِ، لا سيَّما إنِ احْتاجَ العابدُ إلى خدمةِ إخوانِهِ.

وقد كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في سفرٍ في حرٍّ شديدٍ، ومعَهُ مَن هوَ صائمٌ ومفطرٌ، فسَقَطَ الصُّوَامُ وقامَ المفطرونَ فضَرَبوا الأبنيةَ وسَقَوُا الرَكابَ، فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"ذَهَبَ المفطرونَ اليومَ بالأجرِ"

(1)

.

ورُوِيَ أنَّهُّ صلى الله عليه وسلم كانَ في سفرٍ، فرَأى رجلًا صائمًا، فقالَ لهُ:"ما حَمَلَكَ على الصَّومِ في السَّفرِ؟ ". فقالَ: معي ابنايَ يَرْحَلانِ بي ويَخْدُماني. فقالَ لهُ: "ما زالَ لهُما الفضلُ عليكَ"

(2)

.

وفي "مراسيل أبي داوود": عن أبي قِلابَةَ؟ قالَ: قَدِمَ ناسٌ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن سفرٍ يُثْنونَ على صاحبٍ لهُم؛ قالوا: ما رَأيْنا مثلَ فلانٍ قطُّ، ما كانَ في مسيرٍ إلَّا كانَ في قراءةٍ، ولا نَزَلْنا منزلًا إلَّا كانَ في صلاةٍ! قالَ: "فمَن كانَ يَكْفيهِ ضَيْعَتَهُ

(حتَّى ذَكَرَ) ومَن كانَ يَعْلِفُ دابَّتَهُ؟ ". قالوا: نحنُ. قالَ: "فكلُّكم خيرٌ منهُ"

(3)

.

وقالَ مُجاهِدٌ: صَحِبْتُ ابنَ عُمَرَ في السَّفرِ لأخْدُمَهُ فكانَ يَخْدُمُني.

وكانَ كثيرٌ مِن السَّلفِ يَشْتَرِطُ على أصحابِهِ في السَّفرِ أنْ يَخْدُمَهُمُ اغتنامًا لأجرِ ذلكَ، منهُم عامِرُ بنُ عَبْدِ قَيْسٍ وعَمْرُو بنُ عُتْبَةَ بن فَرْقَدٍ، معَ اجتهادِهِما في العبادةِ في أنفسِهِما. وكذلكَ كانَ إبْراهيمُ بنُ أدْهَمَ يَشْتَرِطُ على أصحابِهِ في السَّفرِ الخدمةَ والأذانَ

(4)

.

وكانَ رجلٌ مِن الصَّالحينَ يَصْحَبُ إخوانَهُ في سفرِ الجهادِ وغيرِهِ فيَشْتَرِطُ عليهِم

(1)

رواه: البخاري (59 - الجهاد، 71 - فضل الخدمة، 6/ 84/ 2890)، ومسلم (13 - الصيام، 16 - أجر المفطر، 2/ 788/ 1119)؛ من حديث أنس.

(2)

(لم أقف عليه).

(3)

(ضعيف). رواه: سعيد بن منصور في "السنن"(2919)، وأبو داوود في "المراسيل"(306)؛ من طريق أيّوب، عن أبي قلابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا سند رجاله ثقات ولكنّه ضعيف لإرساله.

(4)

وسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه أولى بالاتّباع؛ كانوا يسافرون فيَخدمون ويُخدمون، فلا ينتظرون من الناس أن يخدموهم فضلًا عن أن يسألوهم الخدمة ولا يشترطون على الناس أن يخدموهم طلبًا للأجر فضلًا عن أن يمنعوا أحدًا من خدمة نفسه! كانوا أكمل الناس؛ لا غلوّ ولا تقصير ولا إفراط ولا تفريط.

ص: 516

أنْ يَخْدُمَهُم، فكانَ إذا رَأى رجلًا يُريدُ أنْ يَغْسِلَ ثوبَهُ؛ قالَ لهُ: هذا مِن شرطي، فيَغْسِلُهُ، وإذا رَأى رجلًا يُريدُ أنْ يَغْسِلَ رأْسَهُ؛ قالَ لهُ: هذا مِن شرطي، فيَغْسِلُهُ. فلمَّا ماتَ؛ نَظَروا في يدِهِ، فإذا فيها مكتوبٌ: مِن أهلِ الجنَّةِ، فنَظَروا إليها؛ فإذا هيَ كتابةٌ بينَ الجلدِ واللحمِ

(1)

!

وتَرافَقَ بُهَيْمٌ العِجْلِيُّ - وكانَ مِن العابدينَ البكَّائينَ - ورجلٌ تاجرٌ موسرٌ في الحجِّ، فلمَّا كانَ يومُ خروجِهِم للسَّفرِ؛ بكى بُهَيْمٌ حتَّى قَطَرَتْ دموعُهُ على صدرِهِ ثمَّ قَطَرَتْ على الأرضِ، وقالَ: ذَكَرْتُ بهذهِ الرِّحلةِ الرِّحلةَ إلى اللهِ، ثمَّ عَلا صوتُهُ بالنَّحيبِ. فكَرِهَ رفيقُهُ التَّاجرُ منهُ ذلكَ، وخَشِيَ أنْ يُنَغَّصَ عليهِ سفرَهُ معَهُ بكثرةِ بكائِهِ. فلمَّا قَدِما مِن الحجِّ؛ جاءَ الرَّجلُ الذي رافَقَ بينَهُما [إليهِما] لِيُسَلِّمَ عليهِما، فبَدَأ بالتَّاجرِ فسَلَّمَ عليهِ وسَألَهُ عن حالِهِ معَ بُهَيْمٍ، فقالَ لهُ: واللهِ؛ ما ظَنَنْتُ أن في هذا الخلقِ مثلَهُ! كانَ واللهِ يَتَفَضَّلُ عليَّ في النَّفقةِ وهوَ معسرٌ وأنا موسرٌ، ويَتَفَضَّلُ عليَّ في الخدمةِ وهوَ شيخٌ ضعيفٌ وأنا شابٌّ، ويَطْبُخُ لي وهوَ صائمٌ وأنا مفطرٌ. فسَألَهُ عمَّا كانَ يكْرَهُهُ منهُ مِن كثرةِ بكائِهِ؟ فقالَ: ألِفْتُ واللهِ ذلكَ البكاءَ وأُشْرِبَ حبَّهُ قلبي حتَّى كُنْتُ أُساعِدُهُ عليهِ حتَّى تَأذَّى بنا الرفقةُ ثمَّ ألِفوا ذلكَ فجَعَلوا إذا سَمِعونا نَبْكي بكَوْا، وتقولُ بعضُهُم لبعضٍ: ما الذي جَعَلَهُما أولى بالبكاءِ منَّا والمصيرُ واحدٌ؟! فجَعَلوا واللهِ يَبْكونَ ونَبْكي. ثمَّ خَرَجَ مِن عندِهِ فدَخَلَ على بُهَيْمٍ فسَلَّمَ عليهِ وقالَ لهُ: كيفَ رَأيْتَ صاحبَكَ؟ قالَ: خيرُ صاحبٍ، كثيرُ الذِّكرِ للهِ، طويلُ التِّلاوةِ للقرآنِ، سريعُ الدَّمعةِ، متحمِّلٌ

(2)

لهفواتِ الرَّفيقِ، فجَزاكَ اللهُ عنِّي خيرًا.

(1)

ميزان العلم قسطاس مستقيم، تطيش فيه أحاديث القصّاص وملح المجالس وقيل وقال وحدّثني قلبي عن ربّي وتذهب جفاء، فلا يرجح فيه إلّا العلم الرصين سواء أكان رواية أو دراية. المشكل هنا أنّنا إذا قال الحسن البصريّ: عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، توقّفنا في روايته وقلنا: قد عنعن على تدليسه! فإذا سمعنا قصّة كالقصّة المذكورة، الله أعلم بصاحبها وبنقلتها؛ تلقّفناها وأذعناها وأشعناها! وقد كثر هذا اليوم وأفاض الناس فيه: فهذا يقسم أنّ وليّ الله الفلانيّ مات وبقي قلبه ينبض حتّى جاء طبيب مسلم عاقل (!) فقال: ادفنوه، إن قلبه لا ينبض، إنّه يقول: الله الله، وسيبقى كذلك إلى قيام الساعة! وآخر يقول: بقي إصبعه يتحرّك بالشهادة وهو في الأكفان! وثالث شقّوا عن قلبه فرأوا عليه "الله" أو "لا إله إلا الله" .... إلى آخر هذه الترّهات.

(2)

في خ: "محتمل"، وما أثبتّه من م ون وط أقوى.

ص: 517

وكانَ ابنُ المُبارَكِ يُطعِمُ أصحابَهُ في الأسفارِ أطيبَ الطَّعامِ وهوَ صائمٌ، وكانَ إذا أرادَ الحجَّ مِن بلدِهِ مَرْوَ؛ جَمَعَ أصحابَهُ وقالَ: مَن يُريدُ منكُمُ الحجَّ؟ فيَأْخُذُ منهُم نفقاتِهِم فيَضَعُها عندَهُ في صندوق ويُقْفِلُ عليهِ، ثمَّ يَحْمِلُهُمْ ويُنْفِقُ عليهِم أوسَعَ النَّفقةِ ويُطْعِمُهُم أطيبَ الطَّعامِ، ثمَّ يَشْتَري لهُم مِن مَكَّةَ ما يُريدونَ مِن الهدايا والتُّحفِ، ثمَّ يَرْجِعُ بهِم إلى بلدِهِ، فإذا وَصَلوا؛ صَنَعَ لهُم طعامًا، ثمَّ جَمَعَهُم عليهِ، ودَعا بالصُّندوقِ الذي فيهِ نفقاتُهُم، فرَدَّ إلى كلِّ واحدٍ نفقتَهُ.

المعنى الثَّاني ممَّا يُرادُ بالبرِّ: فعلُ الطَّاعاتِ كلِّها؛ وضدُّهُ الإثمُ.

وقد فَسَّرَ اللهُ تَعالى البرَّ بذلكَ في قولِهِ: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ .... } إلى آخرِ الآيةِ [البقرة: 177].

فتَضَمَّنَتِ الآيةُ أن أنواعَ البرِّ ستَّةُ أنواعٍ، مَنِ اسْتكْمَلَها؛ فقدِ اسْتكمَلَ البرَّ: أوَّلُها: الإيمانُ بأُصولِ الإيمانِ الخمسةِ. وثانيها: إيتاءُ المالِ المحبوبِ لذي القربى واليتامى والمساكينِ وابنِ السَّبيلِ والسَّائلينَ وفي الرِّقابِ. وثالثُها: إقامُ الصَّلاةِ. ورابعُها: إيتاءُ الزَّكاةِ. وخامسُها: الوفاءُ بالعهدِ. وسادسُها: الصَّبرُ على البأْساءِ والضَّرَّاءِ وحينَ البأْسِ. وكلُّها يَحْتاجُ الحاجُّ إليها؛ فإنَّهُ لا يَصِحُّ حجُّهُ بدونِ الإيمانِ، ولا يَكْمُلُ حجُّهُ ويَكونُ مبرورًا بدونِ إقام الصَّلاةِ وإيتاءِ الزَّكاةِ؛ فإن أركانَ الإسلامِ بعضها مرتبطٌ ببعضٍ، فلا يَكْمُلُ الإيمانُ والإسلامُ حتَّى يُؤْتى بها كلِّها، ولا يَكْمُلُ برُّ الحجِّ بدونِ الوفاءِ بالعهودِ

(1)

في المعاقداتِ والمشاركاتِ المحتاجِ إليها في سفرِ الحجِّ وإيتاءِ المالِ المحبوبِ لمَن يُحِبُّ اللهُ إيتاءَهُ، ويَحْتاجُ معَ ذلكَ إلى الصَّبرِ على ما يُصيبُهُ مِن المشاقِّ في السَّفرِ.

فهذهِ خصالُ البرِّ، ومِن أهمِّها للحاجِّ إقامُ الصَّلاةِ، فمَن حَجَّ مِن غيرِ إقامِ الصَّلاةِ - لا سيَّما إنْ كانَ حجُّهُ تطوُّعًا -؛ كانَ بمنزلةِ مَن سَعى في ربح درهمٍ وضَيَعَّ رأْسَ مالِهِ، وهوَ أُلوفٌ كثيرةٌ.

(1)

في خ: "الوفاء بالعهد". والأولى ما أثبته من م ون وط.

ص: 518

وقد كانَ السَّلفُ يُواظِبونَ في الحجِّ على نوافلِ الصَّلاةِ.

وكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُواظِبُ على قيامِ الليلِ على راحلتِهِ في أسفارِهِ كلِّها ويوتِرُ عليها

(1)

.

وحَجَّ مَسْروقٌ فما نامَ إلَّا ساجدًا.

وكانَ مُحَمَّدُ بنُ واسِعٍ يُصَلِّي في طريقِ مَكَّةَ ليلَهُ أجْمَعَ في محملِهِ؛ يُومِيءُ إيماءً، ويَأْمُرُ حاديَهُ أنْ يَرْفَعَ صوتَهُ خلفَهُ حتَّى يُشْتَغَلَ عنهُ بسماعِ صوتِ الحادي فلا يُتَفَطَّنَ لهُ.

وكانَ المُغيرَةُ بنُ حَكيم الصَّنْعانِيُّ يَحُجُّ مِن اليمنِ ماشيًا، وكانَ لهُ وردٌ بالليلِ يَقْرَأُ فيهِ كلَّ ليلةٍ ثلثَ القرآنِ، فيَقِفُ فيُصَلِّي حتَّى يَفْرَغَ مِن وردِهِ ثمَّ يَلْحَقُ بالرَّكبِ متى لَحِقَ، فربَّما لم يَلْحَقْهُم إلَّا في آخرِ النَّهارِ.

سلامُ [اللهِ] على تلكَ الأرواح، رحمةُ اللهِ على تلكَ الأشباح، ما مثلُنا ومثلُهُم إلَّا كما قالَ القائلُ:

نَزَلوا بِمَكَّةَ في قَبائِلِ هاشِمٍ

وَنَزَلْتَ بِالبَيْداءِ أبْعَدَ مَنْزِلِ

فنحنُ ما نَأْمُرُ إلَّا بالمحافظةِ على الصَّلاةِ في أوقاتِها ولو بالجمعِ بينَ الصَّلاتينِ المجموعتينِ في وقتِ إحداهُما بالأرضِ؛ فإنَّهُ لا يُرَخَّصُ لأحدٍ [أنْ] يُصَلِّي صلاةَ الليلِ في النَّهارِ ولا صلاةَ النَّهارِ في الليلِ ولا أنْ يُصَلِّي على ظهرِ راحلتِهِ المكتوبةَ؛ إلَّا مَن خافَ الانقطاعَ عن رفقتِهِ أو نحوَ ذلكَ ممَّن

(2)

يَخافُ على نفسِهِ. فأمَّا المريضُ ومَن كانَ في ماءٍ وطينٍ؛ ففي صلاتِهِ على الرَّاحلةِ اختلافٌ مشهورٌ للعلماءِ، وفيهِ روايتانِ عن الإمامِ أحْمَدَ، وأنْ يَكونَ بالطهارةِ الشَّرعيَّةِ بالوضوءِ بالماءِ معَ القدرةِ عليهِ والتَّيمُّمِ عندَ العجزِ عنهُ حسًّا أو شرعًا. ومتى عَلِمَ اللهُ مِن عبدٍ حرصَهُ على إقامِ الصَّلاةِ على وجهِها؛ أعانَهُ.

قالَ بعضُ العلماءِ: كُنْتُ في طريقِ الحجِّ، وكانَ الأميرُ تقِفُ للنَّاسِ كلَّ يومٍ لصلاةِ

(1)

رواه: البخاري (14 - الوتر، 5 - الوتر على الدابّة، 2/ 488/ 999 و 1000)، ومسلم (6 - المسافرين، 4 - صلاة النافلة على الدابّة، 1/ 486/ 700)؛ من حديث ابن عمر.

(2)

في خ: "الانقطاع عن الرفقة أو نحو ذلك ممّا"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 519

الفجرِ فيَنْزِلُ، فنُصَلِّي ثمَّ نَرْكَبُ، فلمَّا كانَ ذاتُ يومٍ قربَ طلوعِ الشَّمسِ ولم يَقِفوا للنَّاسِ، فنادَيْتُهُم فلم يَلْتَفِتوا إلى ذلكَ، فتَوَضَّأْتُ على المحملِ، ثمَّ نَزَلْتُ للصَّلاةِ على الأرضِ، ووَطَّنْتُ نفسي على المشي إلى وقتِ نزولِهِم للضُّحى، وكانوا لا يَنْزِلونَ إلى قريبِ وقتِ الظُّهرِ، معَ علمي بمشقَّةِ ذلكَ عليَّ وأنِّي لا قدرةَ لي عليهِ، فلمَّا صَلَّيْتُ وقَضَيْتُ صلاتي؛ نَظَرْتُ إلى رفقتي، فإذا هُم وقوفٌ، وقد كانوا لو سُئِلوا ذلكَ لم يَفْعَلوهُ، فسَألْتُهُم عن سببِ وقوفِهِم، فقالوا: لمَّا نَزَلْتَ تَعَرْقَلَتْ مقاوِدُ الجمالِ بعضُها في بعض فنحنُ في تخليصِها إلى الآنَ. قالَ: فجِئْتُ ورَكِبْتُ وحَمِدْتُ الله عز وجل وعَلِمْتُ أنَّهُ ما قَدَّمَ أحدٌ حقَّ اللهِ تَعالى على هوى نفسِهِ وراحتِها إلَّا ورَأى سعادةَ الدُّنيا والآخرةِ، ولا عَكَسَ أحدٌ ذلكَ فقَدَّمَ حظَّ نفسِهِ على حقِّ ربِّهِ إلَّا ورَأى الشَّقاوةَ في الدُّنيا والآخرةِ

(1)

. واسْتَشْهَدَ بقولِ القائلِ:

واللهِ ما جِئْتكُمُ زائِرًا

إلَّا وَجَدْتُ الأرْضَ تُطْوى لي

وَلا ثنَيْتُ العَزْمَ عَنْ بابِكُمْ

إلَّا تَعَثَّرْتُ بِأذْيالي

ومِن أعظمِ أنواعِ برِّ الحجِّ كثرةُ ذكرِ اللهِ تَعالى فيهِ. وقد أمَرَ اللهُ تَعالى بكثرةِ ذكرِهِ في إقامةِ مناسكِ الحجِّ مرَّةً بعدَ أخرى. و [قد] رُوِيَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أيُّ الحاجِّ أفضلُ؟ قالَ: "أكثرُهُم للهِ ذكرًا"

(2)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ، ورُوِيَ مرسلًا مِن وجوهٍ

(1)

أمّا القول؛ فصحيح والله، وأمّا الفعل؛ فلا يخلو من نظر! فإنّ مفارقة الجماعة في الأسفار والقفار مظنّة الأخطار الجسيمة على النفس والمال، وربّما انقطع المرء عن الركب أو ضاع أو هاجمته الوحوش وقطّاع الطرق! فهذه المخاطر وأشباهها من الضرورات التي تبيح الفريضة سائرًا أو راكبًا، ومن بذل وسعه ثمّ ترخص؛ فإنه من المحسنين الذين ما عليهم من سبيل لا من الذين قدّموا هوى أنفسهم وراحتها على حقّ الله تعالى! وليت شعري! إذا كنّا نأبى أن نترخّص في مثل هذه الضرورات؟ فمتى نترخّص؟! متى نتمثّل قوله صلى الله عليه وسلم: لا إن الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه"؟! متى نشعر أنّ هذا الدين دين رحمة، أنزله رحمن رحيم بعباده، وجعله صالحًا لكل زمان ومكان وإنسان؟!

(2)

(ضعيف). رواه: أحمد (3/ 438)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر"(ص 298)، والطبراني (20/ 186 / 407)؛ من طريق ابن لهيعة، عن زبّان بن فائد، عن سهل بن معاذ، عن أبيه

رفعه. قال الهيثمي (10/ 77): "فيه زبّان بن فائد وهو ضعيف وقد وثّق، وكذلك ابن لهيعة". قلت: فهاتان علّتان: أولاهما: تخليط ابن لهيعة، مع كون الرواة عنه هنا من المتأخّرين بعد التخليط. نعم؛ تابعه رشدين بن سعد عند الرافعي في "قزوين"(3/ 372)، لكنّ رشدين ضعيف، والراوي عنه منصور بن مجاهد كذاب يضع،=

ص: 520

متعدِّدةٍ.

وخصوصًا كثرةَ الذِّكرِ في حالِ الإحرامِ بالتَّلبيةِ والتَّكبيرِ. وفي التِّرْمِذِيِّ وغيرِهِ: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "أفضلُ الحجِّ العجُّ والثَّجُّ"

(1)

. وفى حديثِ جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ

= فسقطت المتابعة. والثانية: نكارة حديث زبّان، ولا سيّما هذه النسخة التي يرويها عن سهل.

ورواه الرافعي في "قزوين"(2/ 439) من طريق يزيد الرقاشي، عن أنس

رفعه. ويزيد منكر الحديث، والطريق إليه مظلمة، والحديث ساقط.

ورواه ابن المبارك (1429): أني حيوة، عن زهرة بن معبد، عن أبي سعيد المقبري

مرسلًا.

وسنده قويّ. فلعلّ هذا أصل الحديث، وإسناده عن معاذ بن أنس من تخليطات ابن لهيعة أو مناكير زبّان.

(1)

(حسن). وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من أوجه:

• فرواه: الشافعي في "الأُمّ"(2/ 116) و"المسند"(ص 109)، وابن أبي شيبة (15052 و 15698)، وابن ماجه (25 - المناسك، 6 - ما يوجب الحجّ، 2/ 967/ 2896)، والترمذي (48 - التفسير، 4 - آل عمران، 5/ 225/ 2998)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(5037)، وابن عدي (1/ 226)، والدارقطني في "السنن"(2/ 217)، والبيهقي في "السنن"(4/ 330) و"الشعب"(3974)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(9/ 126)، من طريق إبراهيم بن يزيد، عن محمّد بن عبّاد، عن ابن عمر

رفعه. قال الترمذي: "تكلّم بعض أهل الحديث في إبراهيم بن يزيد من قبل حفظه". قلت: إبراهيم متروك. وقد أشار البيهقي إلى متابعات له لكن ممّن هم دون إبراهيم ضعفًا وسقوطًا.

• ورواه الأصبهاني في "الترغيب"(1025) من طريق ضعيفة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن محمّد بن المنكدر، عن جابر

رفعه. وإسحاق متروك، وحديثه هذا ساقط.

• ورواه محمّد بن المنكدر واختلف عليه فيه على وجوه: روى الأوّل منها أبو بكر بن سعيد القاضي في "مسند أبي بكر"(1500 - صحيحة): ثنا محمّد بن إسحاق البلخي، ثنا ابن أبي فديك، ثنا الضحّاك بن عثمان الحزامي، عن محمّد بن المنكدر، عن ابن عمر، عن أبي بكر

رفعه. والبلخيّ كذّاب ساقط الحديث. وروى الثاني: ابن عديّ (5/ 1857)، والدارقطني في "العلل"(71)، والبيهقي في "الشعب"(7326)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(1/ 18 - 19)؛ من طريق المنكدر بن محمّد بن المنكدر، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن سعيد، عن جبير (أو: جبلة) بن الحارث (أو: الحويرث)، عن أبي بكر

رفعه. وهذا منكر: المنكدر ضعيف خالف الثقات الذين رووه على الوجه التالي. وروى الثالث: الدارمي (2/ 31)، وابن ماجه (25 - المناسك، 16 - رفع الصوت، 2/ 975/ 2924)، والترمذي (7 - الحجّ، 14 - فضل التلبية، 3/ 189/ 827)، والفاكهي (914)، والبزّار (71 و 71 م و 72)، وأبو يعلى (1170)، وابن خزيمة (2631)، والبغوي في "المعجم"(2/ 424 - إصابة)، والطبراني، والدارقطني في "لعلل"(71)، والحاكم (1/ 451)، والبيهقي (5/ 42) وفي "الشعب"(4022 و 7326)، والباوردي (2/ 424 - إصابة)، والضياء (1/ 153/ 65)؛ من طرق، عن ابن أبي فديك، عن الضحّاك، عن محمّد بن المنكدر، عن عبد الرحمن بن يربوع، عن أبي بكر

رفعه. وهذه رواية الجماعة عن ابن أبي فديك فهي المعروفة ورواية البلخي على الوجه الأوّل منكرة، وهي رواية الضحّاك الصدوق عن ابن المنكدر فهي المعروفة ورواية المنكدر على الوجه الثاني منكرة. ومع=

ص: 521

المرفوعِ: "عُجُّوا التَّكبيرَ عجًّا وثُجُّوا الإبلَ ثجًّا"

(1)

. فالعجُّ رفعُ الصَّوتِ بالتكبيرِ والتَّلبيةِ، والثَّجُّ إراقةُ دماءِ الهدايا والنُّسكِ.

والهديُ مِن أفضلِ الأعمالِ: قالَ اللهُ تَعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} الآيةَ [الحج: 36]. وقالَ [تَعالى]: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32]. وأهْدى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في حجَّةِ الوداعِ مئةَ بدنةٍ

(2)

.

وكانَ يَبْعَثُ بالهديِ إلى منى فتُنْحَرُ عنهُ وهوَ مقيمٌ بالمدينةِ

(3)

.

• الأمرُ الثَّاني ممَّا يَكْمُلُ بهِ برُّ الحجِّ: اجتنابُ أفعالِ الإثمِ فيهِ مِن الرَّفثِ والفسوقِ والمعاصي.

قالَ اللهُ تَعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197].

وفي الحديثِ الصَّحيحِ: "مَن حَجَّ هذا البيتَ فلمْ يَرْفُثْ ولمْ يَفْسُقْ؛ رَجَعَ كيومَ وَلَدَتْهُ أمّهُ"

(4)

.

= ذلك فهذا الوجه الثالث منقطع، قال الترمذي:"ابن المنكدر لم يسمع من عبد الرحمن بن يربوع".

قلت: أدخل بعض الضعفاء بينهما سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع، وردّه أحمد والبخاري والترمذي والدارقطني والذهبي والعسقلاني ورجّحوا الوجه المنقطع المذكور.

• ورواه: ابن أبي شيبة (2/ 256 - الحبير)، وأبو يعلى (5086)، وابن المقرئ في "مسند أبي حنيفة"(ص 213)؛ عن أبي حنيفة، عن قيس بن مسلم الجدلي، عن طارق بن شهاب، عن ابن مسعود

رفعه.

وهذا سند لا بأس به في الشواهد.

فالحديث حسن إن شاء الله بهذين الوجهين الأخيرين، وقد مال إلى تقويته ابن خزيمة والحاكم والمنذري والذهبي والعسقلاني والألباني.

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه ابن أبي شيبة (13600) من طريق كلاب بن يعلى، عن منصور بن أبي سليمان، عن ابن أخي جبير، عن جبير

رفعه.

وكلاب بن علي أو يعلى ومنصور بن أبي سليمان أو سلم وابن أخي جبير مجاهيل.

(2)

رواه: البخاري (25 - الحجّ، 122 - يتصدّق بجلال البدن، 1/ 557/ 1716 - 1718)، ومسلم (15 - الحجّ، 61 - الصدقة بلحوم الهدي، 2/ 1317/954)؛ من حديث عليّ.

(3)

رواه: البخاري (25 - الحجّ، 106 - من أشعر وقلّد، 3/ 542/ 1696)، ومسلم (15 - الحجّ، 64 - بعث الهدي إلى الحرم، 2/ 957/ 1321)؛ من حديث عائشة.

(4)

متّفق عليه. تقدّم نصّه وتخريجه (ص 513).

ص: 522

وقد سَبَقَ حديثُ: "مَن لمْ يَكُنْ لهُ ورعٌ يَحْجُزُهُ عن معاصي اللهِ؛ فليسَ للهِ حاجةٌ في حجِّهِ"

(1)

.

- فما تَزَوَّدَ حاجٌّ ولا غيرُهُ أفضلَ مِن زادِ التَّقوى، ولا دُعِيَ للحاجِّ عندَ توديعِهِ بأفضلَ مِن التَّقوى.

وقد رُوِيَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَدَّعَ غلامًا للحجِّ، فقالَ لهُ:"زَوَّدَكَ اللهُ التَّقوى"

(2)

.

قالَ بعضُ السَّلفِ لمَن وَدَّعَهُ: اتَّقِ اللهِ، فمَنِ اتَّقى الله؛ فلا وحشةَ عليهِ.

وقالَ آخرُ لمَن وَدَّعَهُ للحجِّ: أُوصيكَ بما وَصَّى بهِ النَّبي صلى الله عليه وسلم معاذًا حينَ وَدَّعَهُ: "اتَّقِ اللهِ حيثُما كُنْتَ، وأتْبعِ السَّيِّئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالِقِ النَّاسَ بخلقٍ حسنٍ"

(3)

.

(1)

(ضعيف). تقدّم بطوله وتخريجه (ص 514).

(2)

(ضعيف جدًّا). رواه: الطبراني في "المعجم الكبير"(12/ 226/ 13151) و"الأوسط"(4545) و"الدعاء"(819 و 829)، وابن السني في "اليوم والليلة"(506 و 533)؛ من طريق مسلمة بن سالم، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن سالم، عن أبيه

به.

قال الطبراني: "لم يروه عن ابن عمر إلَّا مسلمة بن سالم". قلت: الناظر في ترجمته ومروياته لا يتردّد

في أنّه متّهم أو متروك على الأقل، وهو علّة هذا الحديث، وبه ضعّفه العسقلاني، وهو دون ذلك.

نعم؛ قد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم دعاؤه لمن يريد سفرًا على العموم لا حجًّا على الخصوص من أصحابه بقوله: "زوّدك الله التقوى وغفر ذنبك ويسّر لك الخير حيثما كنت". انظر "الأذكار"(644 - ط. ابن خزيمة).

(3)

(حسن صحيح). رواه: ابن أبي شيبة (25315)، وأحمد في "المسند"(5/ 153 و 158 و 169 و 177 و 228 و 236) و"العلل"(5086)، وهناد في "الزهد"(1089)، والدارمي (2/ 323)، والترمذي (28 - البرّ، 55 - معاشرة الناس، 4/ 355/ 1987)، والبزّار (9/ 416/ 4022)، والخرائطي في "المكارم"(5)، والطبراني في "الكبير"(20/ 144/ 296 - 298) و"الأوسط"(3791) و"الصغير"(531)، والدارقطني في "العلل"(987)، والحاكم (1/ 54)، وابن جميع في "شيوخه"(1/ 136/ 88)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 378)، والقضاعي في "الشهاب"(652)، والبيهقي في "الشعب"(8025 و 8026)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(23/ 84 و 301)، والأصبهاني في "الترغيب"(1184)؛ من طرق، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ميمون بن أبي شبيب، (قال مرّة: عن أبي ذرّ، ومرّة: عن معاذ، وأرسله مرّة)

رفعه. وهذا سند ضعيف فيه علل أربع: أولاها: عنعنة حبيب على تدليسه. والثانية: الانقطاع بين ميمون وأبي ذرّ ومعاذ؛ فإنّه لم يسمع من أحدهما. والثالثة: الاختلاف على صحابيّه، وليس بالقادح؛ فإنه محفوظ عنهما معًا كما سيأتيك. والرابعة: الاختلاف فيه وصلًا وإرسالًا، ورجّح الدارقطني الإرسال، مع أنّ الوصل زيادة جماعة كبيرة من الثقات! وقد جاء حديث أبي ذرّ من وجوه أخرى: فرواه أحمد (5/ 181) من طريق درّاج، عن أبي الهيثم، عن =

ص: 523

وهذهِ وصيَّةٌ جامعةٌ لخصالِ البرِّ كلِّها.

ولأبي الدَّرْداءِ رضي الله عنه:

يُريدُ المَرْءُ أنْ يُؤْتى مُناهُ

وَيَأْبى اللهُ إلَّا ما أرادا

يَقولُ المَرْءُ فائِدَتي ومالي

وَتَقْوى اللهِ أفْضَلُ ما اسْتَفادا

- ومِن أعظمِ ما يَجِبُ على الحاجِّ اتِّقاؤُهُ مِن الحرامِ؛ أنْ يُطَيِّبَ نفقتَهُ في الحجِّ، وأنْ لا يَجْعَلَها مِن كسبٍ حرامٍ.

وقد خَرَّج الطَّبَرانِيُّ وغيرُهُ مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: "إذا خَرَجَ الرَّجلُ حاجًّا بنفقةٍ طيِّبةٍ ووَضعَ رجلَهُ في الغرزِ فنادى: لَبَّيْكَ اللهمَّ لَبَّيْكَ! ناداهُ منادٍ مِن السَّماءِ: لَبَّيْكَ وسعديكَ؛ زادُكَ حلالٌ، وراحلتُكَ حلالٌ، وحجُّكَ مبرورٌ غيرُ مأْزورٍ. وإذا خَرَجَ الرَّجلُ بالنَّفقةِ الخبيثةِ فوَضَعَ رجلَهُ في الغرزِ فنادى: لبَّيْكَ اللهمَّ لبَّيْكَ! ناداهُ منادٍ مِن السَّماءِ: لا لبَّيْكَ ولا سعديكَ؛ زادُكَ حرامٌ، ونفقتُكَ حرامٌ، وحجُّكَ غيرُ مبرورٍ"

(1)

.

= أبي ذرّ

رفعه. وجوّد المنذريّ إسناده، وليس كذلك فرواية درّاج عن أبي الهيثم ضعيفة. وروى القطعة الوسطى منه: أحمد في "المسند"(5/ 169) و"الزهد"(142)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 217 و 218)؛ من طريقين إحداهما قويّة والأُخرى صالحة، عن أبي ذرّ

رفعه.

وكذلك روى حديث معاذ: البزّار (1972 - كشف) من طريق ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ

رفعه بنحوه. وسنده ضعيف لحال ابن لهيعة وعنعنة أبي الزبير.

ويشهد للحديثين معًا ما رواه: الخرائطي في "المكارم"(6)، وابن حبّان (524)، والطبراني في "الأوسط"(8742)، والحاكم (1/ 54، 4/ 244)؛ من حديث ابن عمرو؛ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أوصى معاذًا

فذكره بنحوه. صحّحه الحاكم والذهبي.

وجملة القول أنّ الحديث محفوظ عن أبي ذرّ ومعاذ، وكلاهما حسن بطرقه صحيح بشاهده. وقد قوّى حديث أبي ذرّ الترمذي والحاكم وابن عبد البرّ والمنذري والذهبي والألباني، وقوّى حديث معاذ الحاكم والمنذري والذهبي والألباني. وانظر مزيدًا من التفصيل فيه في "العلوم والحكم"(ح 18).

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: البزّار (1079 - كشف)، والطبراني في "الأوسط"(5224)؛ من طريق سليمان بن داوود اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

رفعه. قال البزّار: "الضعف بيّن على أحاديث سليمان، ولا يتابعه عليها أحد، وهو ليس بالقويّ". وقال الهيثمي (3/ 213، 10/ 295): "فيه سليمان بن داوود اليمامي وهو ضعيف". قلت: بل متروك منكر الحديث.

ورواه: ابن عدي (3/ 973)، وابن مردويه (930 - واهيات)، ومن طريقه الأصبهاني في "الترغيب"(1049)، وابن الجوزي في "الواهيات"(930)، والديلمي في "المسند"(1433 - الضعيفة)؛ من طريق الدجين بن ثابت اليربوعي، عن أسلم مولى عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم

مختصرًا بمعناه. وهذا ساقط: الدجين=

ص: 524

ماتَ رجلٌ في طريقِ مَكَّةَ، فحَفَروا لهُ فدَفَنوهُ ونَسُوا الفأْسَ في لحدِهِ، فكَشَفوا عنهُ التُّرابَ لِيَأْخُذوا الفأْسَ، فإذا رأْسُهُ وعنقُهُ قد جُمِعا في حلقةِ الفأْسِ، فرَدُّوا عليهِ الترابَ ورَجَعوا إلى أهلِهِ فسَألوهُم عنهُ، فقالوا: صَحِبَ رجلًا فأخَذَ مالَهُ فكانَ يَحُجُّ منهُ ويَغْزو!

إذا حَجَجْتَ بمالٍ أصْلُهُ سُحْتُ

فَما حَجَجْتَ ولكِنْ حَجَّتِ العيرُ

لا يَقْبَلُ اللهُ إلَّا كُل طَيِّبَةِ

ما كُلُّ مَنْ حَجَّ بَيْتَ اللهِ مَبْرورُ

- وممَّا يَجِبُ اجتنابُهُ على الحاجِّ

(1)

وبهِ يَتِمُّ برُّ حجِّهِ أنْ لا يَقْصِدَ بحجِّهِ رياءً ولا سمعةً ولا مباهاةَ ولا فخرًا ولا خيلاءَ ولا يَقْصِدَ بهِ إلَّا وجهَ اللهِ ورضوانَهُ ويَتَواضَعَ في حجِّهِ ويَسْتكينَ ويَخْشَعَ لربِّهِ.

رُوِيَ عن أنَسٍ رضي الله عنه؛ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم حَجَّ على رحلٍ رثٍّ وقطيفةٍ ما تُساوي أربعةَ دراهمَ، وقالَ:"اللهمَّ! [اجْعَلْها] حجَّةً لا رياءَ فيها ولا سمعةَ"

(2)

.

= متهم متروك، ورواية أسلم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلة.

فالطريقان ساقطتان، واجتماعهما كذلك، وقد ضعّف حديث الترجمة البزّار والمنذري والهيثمي والسيوطي والمناوي، وقال الألباني:"ضعيف جدًّا".

(1)

في خ: "على المحرم"، وفي ن:"على الحاجّ المحرم"، والصواب ما أثبتّه من م وط.

(2)

(حسن لشواهده). وقد جاء مطوّلًا ومختصرًا من حديث جماعة من الصحابة:

• فرواه: العقيلي (2/ 8)، وابن عدي (3/ 908)؛ من طريق خالد بن عبد الرحمن المخزومي، عن الثوري، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن أنس ومسروق

رفعاه. والمخزومي متّهم متروك.

ورواه: الطيالسي، وابن أبي شيبة (15800)، وابن سعد (2/ 177)، وهنّاد في "الزهد"(832)، ابن منيع (1024 - الزجاجة)، وابن ماجه (25 - المناسك، 4 - الحجّ على الرحل، 2/ 965/ 2890)، والترمذي في "الشمائل"(319)، وأبو يعلى، والعقيلي (2/ 8)، وابن عدي (3/ 992 و 993)، وأبو الشيخ في "الأخلاق"(488)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 54، 6/ 308)، والرافعي في "التدوين"(2/ 297)؛ من طريق الربيع بن صبيح، عن يزيد الرقاشي، عن أنس

رفعه. صدّره المنذري بصيغة التضعيف، وقال البوصيري:"مداره على الرقاشي وهو ضعيف، وكذلك الراوي عنه". قلت: الرقاشي منكر الحديث، والربيع حسن في الشواهد. وقال العسقلاني في "الفتح" (3/ 381):"إسناده ضعيف".

ورواه: الأصبهاني (1029)، والضياء (5/ 79/ 1705)؛ من طريق أحمد بن يزيد بن عليل، عن أسد بن موسى، عن حمّاد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس

رفعه. وأحمد مجهول.

• ورواه: ابن خزيمة (2836)، وابن منده (1/ 154 - إصابة)، والبيهقي (4/ 332)، والباوردي (1/ 154 - إصابة)، والذهبي في "الميزان"(2/ 131)؛ من طريق محمّد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن سعيد بن بشير، عن عبد الله بن حكيم الكناني، عن بشير (أو: بشر) بن قدامة الضبابي

رفعه مختصرًا. وسعيد =

ص: 525

وقالَ عَطاءٌ: صَلَّى رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبحَ بمِنى غداةَ عَرَفَةَ، ثمَّ غَدا إلى عَرَفاتٍ وتحتَهُ قطيفةٌ اشْتُرِيَتْ لهُ بأربعةِ دراهمَ وهوَ يَقولُ:"اللهمَّ! اجْعَلْها حجَّةً مبرورةً متقبَّلةً لا رياءَ فيها ولا سمعةَ"

(1)

.

وقالَ عَبْدُ اللهِ بنُ الحارِثِ: رَكِبَ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم رحلًا، فاهْتَزَّ بهِ، فتَواضَعَ للهِ عز وجل وقالَ:"لَبَّيْكَ! لا عيشَ إلَّا عيشُ الآخرةِ"

(2)

.

قالَ رجلٌ لابنِ عُمَرَ: ما أكثرَ الحاجَّ! فقالَ ابنُ عُمَرَ: ما أقلَّهُم! ثمَّ رَأى رجلًا على بعيرٍ على رحلٍ رثٍّ خطامُهُ حبلٌ، فقالَ: لعلَّ هذا

(3)

.

وقالَ شُرَيْحٌ: الحاجُّ قليلٌ والرُّكبانُ كثيرٌ، ما أكثرَ مَن يَعْمَلُ الخيرَ! ولكنْ ما أقلَّ

الذينَ يُريدونَ وجهَ اللهِ!

خَليلَيَّ قُطَّاعُ الفيافي إلى الحِمى

كَثيرٌ وَأمَّا الواصِلونَ قَليلُ

(4)

كانَ بعضُ المتقدِّمينَ يَحُجُّ ماشيًا على قدميهِ كلَّ عامٍ، فكانَ ليلةً نائمًا في فراشِهِ،

= وشيخه قال أبو حاتم والذهبي: "مجهولان". وقال العسقلاني في "الإصابة"(3/ 130): "لا يعرف عبد الله بن حكيم ولا شيخه إلّا في هذا الحديث". وتعقّبهم الألباني بقوله: "أثنى عليه ابن عبد الحكم فقال: كان يلزم المسجد

وذكر من فضله

وقد أخرج حديثه ابن خزيمة". وما هو بالتوثيق، وإنّما ذكره استئناسًا.

فإذا تركنا الطريق الأولى لحديث أنس، فاجتماع بقيّة الطرق يرشّح هذا المتن للتزحزح عن ضعفه، فإذا أُضيف إليها مرسل عطاء الآتي بعده؛ تبيّن أنّ الحديث حسن. وإلى تقويته مال الألباني.

(1)

(حسن لشواهده). رواه الفاكهي (855)، وابن أبي حاتم في "العلل"(856)، والطبراني في "الأوسط"(1400)، عن أحمد بن محمّد بن القاسم بن أبي بزّة وأبي عمرو الزيّات، عن محمّد بن يزيد بن خنيس، عن ابن جريج، عن عطاء، (قال ابن أبي بزّة: عن ابن عبّاس رفعه، وقال الزيّات: عن عطاء مرسلًا).

قال أبو حاتم: "باطل، ليس هو من حديث ابن جريج". قلت: يعني مرفوعًا والله أعلم. وقال الهيثمي (3/ 224): "فيه أحمد بن محمّد بن القاسم بن أبي بزّة ولم أعرفه". قلت: ضعيف منكر الحديث مشهور بوصل المرسلات، وقد خالفه الزيّات فأرسله، فروايته أولى، وهذا مرسل قويّ يتقوّى ويحسن بما قبله.

(2)

(حسن لشواهده). رواه: ابن أبي شيبة (15801 و 34352)، وأحمد في "الزهد"(150)؛ من طريق أبي سنان، عن عبد الله بن الحارث، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

فذكره. وأبو سنان هو ضرار بن مرّة ثقة، وعبد الله هو الزبيدي ثقة أيضًا، ولكنّ روايته عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلة.

وهاهنا شاهد عند أحمد (3/ 216) من حديث أنس بسند قويّ. فهذا المرسل يتقوّى به.

(3)

يعني: لعلّه من الحجّاج حقًّا وصدقًا.

(4)

زاد في حاشية خ هنا: "وجوه عليها للقبول علامة، وليس على كلّ الوجوه قبول"، وليست في م ون، ومن البيّن أنّها إضافة ناسخ أو قارئ.

ص: 526

فطَلَبَتْ منهُ أُمُّهُ شربةَ ماءِ، فصَعُبَ على نفسِهِ القيامُ مِن فراشِهِ لِيَسْقِيَ أُمَّهُ الماءَ، فتَذَكَّرَ حجَّهُ ماشيًا كلَّ عامٍ وأنَّهُ لا يَشُقُّ عليهِ، فحاسَبَ نفسَهُ، فرَأى أنَّهُ لا يُهَوِّنُهُ عليهِ إلَّا رؤيةُ النَّاسِ لهُ ومدحُهُم إيَّاهُ، فعَلِمَ أنَّهُ كانَ مدخولًا

(1)

.

قالَ بعضُ التَّابعينَ: ربَّ محرمٍ يَقولُ: لبَّيْكَ اللهمَّ لبَّيْكَ! فيَقولُ اللهُ لهُ: لا لبَّيْكَ

ولا سعدَيْكَ، هذا مردودٌ عليكَ. قيلَ لهُ: لمَ؟ قالَ: لعلَّهُ اشْتَرى ناقةً بخمسِ مئةِ درهمٍ ورحلًا بمئتي درهمٍ ومفرشًا بكذا وكذا، ثمَّ رَكِبَ ناقتَهُ ورَجَّلَ رأْسَهُ ونَظَرَ في عِطْفَيْهِ، فذلكَ الذي يُرَدُّ عليهِ.

- ومِن هنا اسْتُحِبَّ للحاجِّ أنْ يَكونَ شعثًا أغبر.

وفي حديثِ المباهاةِ يومَ عَرَفَةَ أن الله تَعالى يَقولُ لملائكتِهِ: "انْظُروا إلى عبادي، أتَوْني شعثًا غبرًا ضاحينَ، اشْهَدوا أنِّي قد غَفَرْتُ لهُم"

(2)

.

(1)

يعني أنّه ليس خالصًا لله.

(2)

(صحيح). وقد جاء عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من أوجه كثيرة:

فرواه: أحمد (2/ 305)، وابن خزيمة (2839)، وابن حبّان (3852)، والطبراني في "الأوسط"(8988)، والحاكم (1/ 465)، واللالكائي في "السنّة"(751)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 305)، والبيهقي في "السنن"(5/ 58) و"الشعب"(4068)، وابن عبد البرّ (1/ 121)؛ من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن أبي هريرة

رفعه بطوله ومقتصرًا على القطعة الأولى منه. وهذا سند قويّ، "صحّحه الحاكم والذهبي على شرطهما، وقوّاه المنذري.

وله شاهد عند: البزّار (1128 - كشف)، وأبي يعلى (2090)، وابن خزيمة (2840)، والطحاوي في "المشكل"(4/ 114)، وابن حبّان (3853)، وابن عدي (7/ 2708)، والإسماعيلي في "المعجم"(1/ 326)، وابن منده في "التوحيد"، واللالكاثي في "الاعتقاد"(751)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(1/ 120)، والبغوي في "السنّة"(1931)؛ من طريق أبي الزبير، عن جابر

رفعه بطوله ومقتصرًا على القطعة الأولى. قال الهيثمي (4/ 20): "إسناده حسن رجاله ثقات". قلت: فيه عنعنة أبي الزبير.

وله شاهد عند: عبد الرزّاق (8830)، والفاكهي (918)، والبزّار (1082 - كشف)، وابن حبّان (1887)، والطبراني (12/ 325/ 13566)، والبيهقي في "الدلائل"(6/ 293 و 294) "من طريقين، عن مجاهد، عن ابن عمر

رفعه بطوله وبالقطعة الأولى منه. قال الهيثمي (3/ 277): "رجال البزّار موثّقون"، قلت: في سنده سنان بن الحارث بن مصرّف روى عنه جماعة وذكره ابن حبّان في "الثقات" فلا بأس بحديثه. وفي الطريق الأُخرى عبد الوهاب بن مجاهد متّهم متروك. فالمعوّل في تقويته على طريق البزّار.

وله شاهد عند: الفاكهي (919)، والبزار (1083)، وأبي يعلى (4106)، والسهمي (484)، والبيهقي في "الدلائل"(6/ 294)؛ من طريقين، عن أنس

رفعه. قال الهيثمي (3/ 279): "فيه إسماعيل بن رافع=

ص: 527

قالَ عُمَرُ يومًا وهوَ بطريقِ مَكَّةَ: يَشْعَثونَ ويَغْبَرُّونَ ويَتْفَلونَ

(1)

ويَضْحَوْنَ لا يُريدونَ بذلكَ شيئًا مِن عرضِ الدُّنيا، ما نَعْلَمُ سفرًا خيرًا مِن هذا (يَعْني: الحجَّ).

وعنهُ قالَ: إنَّما الحاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ.

وقالَ ابنُ عُمَرَ لرجلٍ رَآهُ قدِ اسْتَظَلَّ في إحرامِهِ: اضْحَ لمَن أحْرَمْتَ لهُ. أيِ: ابْرُزْ للضُّحى، وهوَ حرُّ الشَّمسِ.

أتاكَ الوافِدونَ إلَيْكَ شُعْثًا

يَسوقونَ المُقَلَّدَةَ الصَّوافِ

فَكَمْ مِنْ قاصِدٍ لِلرَّبِّ رَغْبًا

وَرَهْبًا بَيْنَ مُنْتَعِلٍ وَحافِ

• سبحانَ مَن جَعَلَ بيتَهُ الحرامَ مثابةً للنَّاسِ وأمنًا يَتَرَدَّدونَ إليهِ ويَرْجِعونَ عنهُ ولا يَرَوْنَ أنَّهُم قَضَوْا منهُ وطرًا!

لمَّا أضافَ تَعالى ذلكَ البيتَ إلى نفسِهِ ونَسَبَهُ إليهِ بقولِهِ عز وجل لخليلِهِ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ} [الحج: 26]؛ تَعَلَّقَتْ قلوبُ المحبِّينَ ببيتِ محبوبِهِم، فكلَّما ذكِرَ لهُم ذلكَ البيتُ الحرامُ؛ حَنُّوا، وكلَّما تَذَكَّروا بعدَهُم عنهُ؛ أنُّوا.

لا يُذْكَرُ الرَّمْلُ إلَّا حَنَّ مُغْتَرِبٌ

لَهُ بِذي الرَّمْلِ أوْطارٌ وَأوْطانُ

تَهْفو إلى البانِ مِنْ قَلْبي نَوازِعُهُ

وَما بِيَ البانُ بَلْ مَنْ دارُهُ البانُ

رَأى بعضُ الصَّالحينَ الحاجَّ في وقتِ خروجِهِم، فوَقَفَ يَبْكي وتقولُ: واضعفاهُ!

= وهو ضعيف". قلت: منكر الحديث. وفي الطريق الأُخرى صالح المرّي ويزيد الرقاشي واهيان.

وله شاهد عند الفاكهي (2746) من طريق قويّة، عن أُمّ سلمة

موقوفًا. وله حكم الرفع.

وله شاهد عند: الفاكهي (2742 و 4750)، وابن عبد البرّ (1/ 124)؛ من طريق قويّة، عن ابن عبّاس

موقوفًا. وله حكم الرفع.

وله شاهد عند عبد الرزّاق (8813) عن القاسم بن أبي بزّة مرسلًا بسند قويّ. وآخر عند الفاكهي (2747) عن المطلب بن حنطب والوليد بن رباح وداوود بن صالح مرسلًا. وثالث عند الفاكهي (2736) عن يحيى بن جعدة مرسلًا. ورابع عند الفاكهي (4749) عن ابن أبي روّاد مرسلًا.

وأصل مباهاته تعالى الملائكة بأهل الموقف عند مسلم (1348) من حديث عائشة. وجاءت المباهاة أيضًا عند: أحمد (2/ 224)، والطبراني في "الأوسط"(8214) و"الصغير"(575)؛ من حديث ابن عمرو. وجاء الإشهاد بالمغفرة عند الطبراني في "الأوسط"(2341) من حديث عبادة.

فهذه الطرق أكثر من كافية لتصحيح هذا الحديث.

(1)

يقال: تَفِل الرجل يَتْفَل إذا تغيرت رائحته.

ص: 528

ويُنْشِدُ على إثرِ ذلكَ:

فَقُلْتُ دَعوني وَاتِّباعِي رِكابِكُمْ

أكُنْ طَوْعَ أيْديكُمْ كَما يَفْعَلُ العَبْدُ ثمَّ تنفَّسَ وقالَ: هذهِ حسرةُ مَنِ انْقَطَعَ عن الوصولِ إلى البيتِ، فكيفَ تكونُ حسرةُ مَنِ انْقَطَعَ عن الوصولِ إلى ربِّ البيتِ؟!

يَحِقُّ لمَن رَأى الواصلينَ وهوَ منقطعٌ أنْ يَقْلَقَ، ولمَن شاهَدَ السَّائرينَ إلى ديارِ الأحبَّةِ وهوَ قاعدٌ أنْ يَحْزَنَ.

يا سائِقَ العيسِ تَرَفَّقْ وَاسْتَمِعْ

مِنِّي وَبَلِّغْ إنْ

(1)

وَصَلْتَ عَنِّي

عَرِّضْ بِذِكْري عِنْدَهُمْ لَعَلَّهُمْ

إنْ [يَ] سْمَعوكَ سائِلوكَ عَنِّي

قُلْ ذلِكَ المحبوسُ عَنْ قَصْدِكُمُ

مُعَذَّبُ القَلْبِ بِكُل فَنِّ

يَقولُ أمَّلْتُ بِأنْ أزُورَكُمْ

في جُمْلَةِ الوَفْدِ فَخابَ ظَنِّي

أقْعَدَني الحِرْمانُ عَنْ قَصْدِكُمُ

وَرُمْتُ أنْ أسْعى فَلَمْ يَدَعْني

• يَنْبَغي للمنقطعينَ طلبُ الدُّعاءِ مِن الواصلينَ لِتَحْصُلَ المشاركةُ، كما رُوِيَ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ لعُمَرَ لمَّا أرادَ العمرةَ:"يا أُخي! أشْرِكْنا في دعائِكَ"

(2)

.

وفي "مسند البزَّار": عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: "اللهمَّ! اغْفِرْ للحاجِّ ولمَنِ اسْتَغْفَرَ لهُ الحاجُّ"

(3)

.

(1)

في خ: "وبلغ السلام إن"! وهذه زيادة ناسخ لا يستقيم الوزن إلّا بحذفها.

(2)

(ضعيف). رواه: الطيالسي (10)، وابن سعد (3/ 273)، وأحمد (1/ 29 و 59)، وعبد بن حميد (740 - منتخب)، والفاكهي في "مكَّة"(875)، وابن ماجه (25 - المناسك، 5 - فضل دعاء الحاجّ، 2/ 966/ 2894)، وأبو داوود (2 - الصلاة، 358 - الدعاء، 1/ 470/ 1498)، والترمذي (49 - الدعوات، 23 - الدعاء، 5/ 559/ 3562)، والبزّار (119 و 120)، وأبو يعلى (5501 و 5550)، وابن حبّان في "المجروحين"(2/ 128)، وابن عدي (5/ 1868)، والبيهقي في "السنن"(5/ 251) و"الشعب"(9059)، والخطيب في "التاريخ"(11/ 396 و 397)، والسمعاني في "الإملاء"(ص 36)، والضياء في "المختارة"(1/ 292/ 184 - 181)؛ من طريق عاصم بن عبيد الله، عن سالم، عن ابن عمر، عن عمر

رفعه.

قال الترمذي: "حسن صحيح". وتعقّبه المنذري في "مختصر السنن"(2/ 146) فقال: "في إسناده عاصم بن عبيد الله، وقد تكلّم فيه غير واحد من الأئمّة". وقال الهيثمي (3/ 214): "فيه كلام كثير لغفلته وقد وثّق". قلت: خلاصة أمره الضعف، وحديثه كذلك، وقد ضغفه الضياء والمنذري والهيثمي والألباني.

(3)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 160).

ص: 529

وفي الطَّبَرانِيِّ: عن ابن عَبَّاسٍ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سَمعَ رجلًا يَقولُ في الطَّوافِ: اللهمَّ! اغْفِرْ لفلانِ ابن فلانٍ. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن هذا؟ ". قالَ: رجلٌ حَمَّلَني أنْ أدْعُوَ لهُ بينَ الرُّكنِ والمقامِ. فقالَ: "قد غُفِرَ لصاحبِكَ"

(1)

.

ألا قُلْ لِزُوَّارِ دارِ الحَبيبِ

هَنيئًا لَكُمْ في الجِنانِ الخُلودُ

أفِيضوا عَلَيْنا مِنَ الماءِ فَيْضًا

فَنَحْنُ عِطاشٌ وَأنْتُمْ ورودُ

لئن سارَ القومُ وقَعَدْنا، وقَرَّبوا وبَعُدْنا؛ فما يُؤْمِنُنا أنْ نكونَ ممَن كَرِهَ اللهُ انبعاثَهُم فثَبَّطَهُمْ وقيلَ اقْعُدوا معَ القاعدينَ؟!

للهِ دَرُّ رَكائِبٍ سارَتْ بِهِمْ

تَطْوي القِفارَ الشَّاسِعاتِ عَلى الدُّجا

رَحَلوا إلى البَيْتِ الحَرامِ وَقَدْ شَجا

(2)

.... قَلْبَ المُتَيَّمِ مِنْهُمُ ما قَدْ شَجا

نَزَلوا بِبابٍ لا يَخيبُ نَزيلُهُ

وَقُلوبُهُمْ بَيْنَ المَخافةِ والرَّجا

على أنَّ المتخلِّفَ لعذرٍ شريكٌ للسَّائرِ، كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لمَّا رَجَعَ مِن غزوةِ تَبُوكَ:"إنَّ بالمدينةِ أقوامًا ما سِرْتُم مسيرًا ولا قَطَعْتُمْ واديًا إلَّا كانوا معَكُم، خَلَّفَهُمُ العذرُ"

(3)

.

يا سائِرينَ إلى البَيْتِ العَتيقِ لَقَدْ

سِرْتُمْ جُسومًا وَسِرْنا نَحْنُ أرْواحًا

إنَّا أقَمْنا عَلى عُذْرٍ وَقَدْ رَحَلوا

وَمَنْ أقامَ عَلى عُذْرٍ كَمَنْ راحا

وربَّما سَبَقَ بعضُ مَن سارَ بقلبِهِ وهمَّتِهِ وعزمِهِ بعضَ السَّائرينَ ببدنِهِ.

رَأى بعضُ الصَّالحينَ في منامِهِ عشيَّةَ عرفةَ بعرفةَ قائلًا يَقولُ لهُ: تَرى هذا الزِّحامَ بالموقفِ؟ قالَ: نعم. قالَ: ما حَجَّ منهُم إلَّا رجلٌ، تَخَلَّفَ عن الموقفِ فحَجَّ بهمَّتِهِ

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: الفاكهي في "مكّة"(268)، والطبراني (2/ 5/ 12299)، والصيداوي في "معجمه"(ص 214)، وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 12)؛ من طريق الحارث بن عمران الجعفري، عن محمّد بن سوقة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس

رفعه.

قال الهيثمي (10/ 155): "فيه الحارث بن عمران الجعفري وهو ضعيف". قلت: أجمعوا على ضعفه، واتّهمه ابن حبّان، وليس بالوجيه، وإنّما هو شديد الضعف.

(2)

في خ: "منهم وما شجا"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(3)

رواه: البخاري (56 - الجهاد، 35 - من حبسه العذر، 6/ 46/ 2838 و 2839) من حديث أنس، ومسلم (33 - الإمارة، 48 - ثواب من حبسه مرض، 3/ 1518/ 1911) من حديث جابر.

ص: 530

فوَهَبَ اللهُ لهُ أهلَ الموقفِ

(1)

!

ما الشَّأْنُ فيمَن سارَ ببدنِهِ، إنَّما الشَّأْنُ فيمَن قَعَدَ بدنُهُ وسارَ بقلبِهِ حتَّى سَبَقَ الرَّكبَ

(2)

!

مَنْ لي بِمِثْلِ سَيْرِكَ المُذَلَّلِ

تَمْشي رُوَيْدًا وَتَجِي في الأوَّلِ

يا سائرينَ إلى ديارِ الأحبابِ! قِفوا للمنقطعينَ، تَحَمَّلوا معَكُم رسائلَ المحصرينَ

(3)

، خُذوا نظرةً منِّي فَلاقوا بها الحمى.

يا سائِرينَ إلى الحَبيبِ تَرَفَّقوا

فَالْقَلْبُ بَيْنَ رِحالِكُمْ خَلَّفْتُهُ

ما لي سِوى قَلْبي وَفيكَ أذَبْتُهُ

ما لي سِوى دَمْعي وَفيكَ سَكَبْتُهُ

كانَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ إذا رَأى مَن يُسافِرُ إلى المدينةِ النَّبويَّةِ؛ يَقولُ لهُ: أقْرِئْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم منِّيَ السَّلامَ.

ورُوِيَ أنَّهُ كانَ يُبْرِدُ عليهِ البريدَ مِن الشَّامِ

(4)

.

هذه الخِيفُ وَهاتيكَ مِنى

فَتَرَفَّقْ أيُّها الحادي بِنا

وَاحْبِسِ الرَّكْبَ عَلَيْنا ساعَةً

نَنْدُبُ الرَّبْعَ وَنَبْكي الدِّمَنا

فَلِذا المَوْقِفِ أعْدَدْنا البُكا

وَلِذا اليَوْمِ الدُّموعُ تُقْتَنى

أتُراكُمْ في النَّقا وَالمُنْحنى

أهلَ سَلْع تَذْكُرونا ذِكْرَنا

إِنْقَطَعْنا وَوَصَلْتُمْ فَاعْلَموا

وَاشْكُروا المُنْعِمَ يا أهْلَ مِنى

قَدْ خَسِرْنا وَرَبِحْتُمْ فَصِلوا

بِفُضولِ الرِّبحِ مَنْ قَدْ غُبِنا

(1)

ملايين وملايين، من حدود الصين شرقًا إلى الأندلس غربًا ومن كلّ فجّ عميق، تقطع البلدان شهورًا وأيّامًا، ومنهم من يقضي نحبه في الطريق ومنهم من يقضيه في طريق الرجوع، لا همّ لهم إلّا زيارة هذا البيت والوقوف في ذلك الموقف؛ وليس فيهم حاجّ واحد! ولا رجل صالح واحد! ولا عبد واحد يقبل الله عمله! ولولا وساطة هذا القطب الغوث وشفاعته وهو نائم في بيته على فراشه لردّهم الله على أعقابهم خائبين! الله أكبر على هذا الصالح المزعوم (1) وهاتفه الشيطانيّ الموهوم (!) ولو فحصت ومحّصت فستجد غالبًا أنّ هذا الوليّ الشفيع هو شيخه أو شيخ طريقته!

(2)

بل فيمن سار ببدنه وقلبه؛ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} .

(3)

رسائل المحصرين لا تحتاج إلى حامل ولا وسيط، {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} .

(4)

يعني: كان يرسل البريد من الشام خصوصًا لإبلاغ سلامه للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وما أراه يصحّ. والعمدة في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: "حيثما كنتم فصلّوا علي فإنّ صلاتكم تبلغني".

ص: 531

سارَ قَلْبي خَلْفَ أحْمالِكُمُ

غَيْرَ أن العُذْرَ عاقَ البَدَنا

ما قَطَعْتُمْ وادِيًا إلَّا وَقَدْ

جُبْتُهُ أسْعى بِأقْدامِ المُنى

آهِ واشَوْقي إلى ذاكَ الحِمى

شَوْقَ مَحْرومٍ وَقَدْ ذاقَ العَنا

سَلِّموا عَنِّي عَلى أرْبابِهِ

أخْبِروهُمْ أنَّني حِلْفُ الضَّنا

أنا مُذْ غِبْتُمْ عَلى تَذْكارِكُمْ

أتُرى عِنْدَكُمُ ما عِنْدَنا

بَيْنَنا يَوْمُ أثَيْلاتِ النَّقا

كانَ عَنْ غَيْرِ تَراضٍ بَيْنَنا

زَمَنًا كانَ وَكُنَّا جِيرَةً

فَأعادَ اللهُ ذاكَ الزَّمَنا

مَنْ شاهَدَ تلكَ الدِّيار، وعايَنَ تلكَ الآثار، ثمَّ انْقَطَعَ عنها؛ لمْ يَمُتْ إلَّا بالأسفِ عليها والحنينِ إليها.

ما أذْكُرُ عَيْشَنا الذي قَدْ سَلَفا

إلَّا وَجَفَ القَلْبُ وَكَمْ قَدْ وَجَفا

واهًا لِزَمانِنا الَّذي كانَ صَفا

وَا أسَفًا لِرَدِّهِ وَا أسَفا

مَن يُرْجِعُ دَهْرَنا بِأرْضِ الجَزْعِ

بَيْنَ الأَثَلاتِ وَالرُّبا في سَلْعِ

قالوا اصْبِرْ

(1)

ولَيْسَ ذا في وُسْعي

يا حُزْنُ أقِمْ وأنْتَ سِرْ يا دَمْعي

يا لَيْتَنا بِزَمْزَمٍ والحِجْرِ

يا جيرَتَنا قُبَيْلَ يَوْمَ النَّفْرِ

هَلْ يَرْجِعُ صافي ما مَضى مِن عُمْري

أدْري ما كانَ لَيْتَني لا أدْري

‌المجلس الثالث فيما يقوم مقام الحج والعمرة عند العجز عنهما يذكر ذلك بعد خروج الحاج

(2)

في "صحيح البُخارِيِّ"

(3)

: عن أبي هُرَيْرَةَ؛ قالَ: جاءَ الفقراءُ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،

(1)

في خ: "قالوا لي اصبر"، وما أثبتّه من ن وط أولى بالوزن.

(2)

يعني: هذا المجلس يقرأ وينتفع بما فيه بعد خروج الحاجّ.

(3)

رواه: البخاري (10 - الأذان، 155 - الذكر بعد الصلاة، 2/ 325/ 843)، ومسلم (5 - المساجد، 26 - الذكر بعد الصلاة، 1/ 416/ 595).

ص: 532

فقالوا: ذَهَبَ أهلُ الدُّثورِ مِن الأموالِ بالدَّرجاتِ العلى والنَّعيمِ المقيمِ؛ يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، ويَصومونَ كما نَصومُ، ولهُم فضلُ أموالٍ يَحُجُّونَ بها ويَعْتَمِرونَ ويُجاهِدون ويَتَصَدَّقونَ. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ألا احَدّثُكُم بما إنْ أخَذْتُم بهِ لَحِقْتُم مَن سَبقَكُم ولم يُدْرِكْكُم أحدٌ بعدَكُم، وكُنْتُم خيرَ مَن أنتُم بينَ ظهرانَيْهِ؛ إلَّا مَن عَمِلَ مثلَهُ؟ تُسَبِّحونَ وتَحْمَدونَ وتُكَبِّرونَ خلفَ كلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثينَ".

وفي "المسند" و "سنن النَّسائِيِّ": عن أبي الدَّرْداءِ؛ قالَ: قُلْنا: يا رسولَ اللهِ! ذَهَبَ الأغنياءُ بالأجرِ؛ يَحُجُّونَ ولا نَحُجُّ، ويُجاهِدونَ ولا نُجاهِدُ، وبكذا وبكذا. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"ألا أدُلُّكُم على شيءٍ إنْ أخَذْتُم بهِ جِئْتُم مِن أفضلِ ما يَجيءُ بهِ أحدٌ منهُم؟ أنْ تُكَبِّروا الله أربعًا وثلاثينَ وتُسَبِّحوهُ ثلاثًا وثلاثينَ وتَحْمَدوهُ ثلاثًا وثلاثينَ في دبرِ كل صلاة"

(1)

.

• المالُ لمَنِ اسْتَعانَ بهِ على طاعةِ اللهِ وأنْفَقَهُ في سبلِ الخيراتِ المقرِّبةِ إلى اللهِ

(1)

(صحيح). رواه: عبد الرزّاق (3187)، وابن أبي شيبة (29258 و 35029)، وعليّ بن الجعد (160)، وأحمد (5/ 196، 6/ 446)، والبخاري في "الكنى"(ص 55 و 56)، والنسائي في "الكبرى، (9976 - 9979) و"اليوم والليلة" (148 - 151)، وابن أبي حاتم في "العلل" (2112)، والطبراني في "الدعاء" (707 و 708 و 710 - 713)، وابن عدي (7/ 2630)، وابن عساكر (47/ 94 - 95)، والمزّي في "التهذيب" (34/ 110)؛ من طرق، عن أبي عمر الصيني، عن أبي الدرداء

رفعه. وهاهنا علّتان: أولاهما: أنّ أبا عمر هذا مستور. والثانية: أن بعضهم زاد بينه وبين أبي الدرداء رجلًا وزاد بعضهم أُمّ الدرداء، وليس هذا بالقادح، فهذه الزيادات جاءت من أوجه واهية، والراجح أنّ الصينيّ تلقّاه عن أبي الدرداء نفسه.

ورواه: ابن المبارك في "الزهد"(1159)، والبخاري في "الكنى"(ص 56)، والطبراني في "الدعاء"(714)؛ من طريق ليث بن أبي سليم، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي الدرداء

رفعه. وهذا منكر: ليث مدلس ضعيف، وقد رواه جماعة الثقات عن الحكم على الوجه الأوّل. ولذلك قال البخاري:"والأوّل أصحّ".

ورواه: الطيالسي (982)، وابن أبي شيبة (35030)، والنسائي في "الكبرى"(9975) و"اليوم والليلة"(147)، وابن أبي حاتم (2112)، والطبراني في "الدعاء"(709)؛ من طريق عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، عن أبي الدرداء

رفعه. وهذا سند قويّ، لولا أنّ الثوري رواه عن عبد العزيز على الوجه الأوّل ورجّحه أبو زرعة، لكن لا يبعد أن يكون عند عبد العزيز على الوجهين، فالذين رووه عنه على هذا الوجه جماعة ثقات.

فإن لم يكن الحديث صحيحًا بهذا الوجه الثالث وحده، فهو صحيح بشاهده المتقدّم قبله من حديث أبي هريرة. وقد قوّاه الهيثمي وغيره.

ص: 533

تَعالى سببٌ موصلٌ لهُ إلى اللهِ عز وجل، وهوَ لمَن أنْفَقَهُ في معاصي اللهِ عز وجل واسْتَعانَ بهِ على نيلِ أغراضِهِ المحرَّمةِ أوِ اشْتَغَلَ بهِ عن طاعةِ اللهِ سببٌ قاطعٌ لهُ عن اللهِ. كما قال أبو سُلَيْمانَ الدَّارانِيُّ: الدُّنيا حجابٌ عن اللهِ لأعدائِهِ، ومطيَّهٌ موصلةٌ إليهِ لأوليائِهِ، فسبحانَ مَن جَعَلَ شيئًا واحدًا [سببًا] للاتِّصال بهِ والانقطاعِ عنهُ!

وقد مَدَحَ اللهُ في كتابِهِ القسمَ الأوَّلَ وذَمَّ القسمَ الثَّانيَ:

فقال في مدحِ الأوَّلينَ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29 - 30].

والآياتُ في المعنى كثيرةٌ جدًّا.

وقالَ في ذمِّ الآخرينَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 9 - 10]. وقد قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: ليسَ أحدٌ لا يُؤْتي زكاةَ مالِهِ إلَّا سألَ الرَّجعةَ عندَ الموتِ، ثمَّ تَلا هذهِ الآيةَ. وأخْبَرَ اللهُ عن أهلِ النَّارِ الَّذينَ يُؤْتى أحدُهُم كتابَهُ بشمالِهِ أنَّهُ يَقولُ:{مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28، 29].

والأحاديثُ في مدحِ مَن أنْفَقَ مالَهُ في سبيلِ الطَّاعاتِ وفي ذمِّ مَن لم يُؤَدِّ حقَّ اللهِ منهُ كثيرة جدًّا:

وقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "نِعْمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجلِ الصَّالحِ"

(1)

.

(1)

(صحيح). رواه: أبو عبيد في "الغريب"(1/ 93)، وابن أبي شيبة (22182)، وأحمد في "المسند"(4/ 197 و 202) و"الفضائل"(1745)، وابن منغ في "المسند"، والبخاري في "الأدب"(299)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر"(ص 250)، وأبو يعلى (7336)، وأبو عوانة (8/ 75 - فتح)، وابن قانع (2/ 213)، وابن حبّان (3210 و 3211)، والطبراني في "الأوسط"(3213)، والحاكم (2/ 2 و 236)، والقضاعي (1315)، والبيهقي في "الشعب"(1248)، وابن عساكر (46/ 142 - 143)؛ من طرق، عن موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عمرو بن العاص

رفعه.

ص: 534

وقالَ: "الأكثرونَ هُمُ الأقلُّونَ يومَ القيامةِ؛ إلَّا مَن قالَ بالمالِ هكذا وهكذا وهكذا (عن يمينِهِ وعن شمالِهِ ومِن خلفِهِ) وقليلٌ ما هُم"

(1)

.

وقالَ: "إنَّ هذا المالَ خضرةٌ حلوةٌ، فمَن أخَذَهُ بحقِّهِ ووَضَعَهُ في حقِّهِ؛ فنِعْمَ المعونةُ هوَ. وإنْ أخَذَهُ بغيرِ حقِّهِ؛ كانَ كالذي يَأْكُلُ ولا يَشْبَعُ"

(2)

.

فالمؤمنُ الذي يَأْخُذُ المالَ مِن حقِّهِ ويَضَعُهُ في حقِّهِ؛ فلهُ أجرُ ذلكَ كلِّهِ، وكلُّ ما أنْفَقَ منهُ يَبْتَغي بهِ وجهَ اللهِ؛ فهوَ لهُ صدقةٌ يُؤْجَرُ عليها، حتَّى ما يُطْعِمُ نفسَهُ فهوَ لهُ صدقةٌ، وما يُطْعِمُ ولدَهُ فهوَ لهُ صدقةٌ، وما يُطْعِمُ أهلَهُ فهوَ لهُ صدقةٌ، وما يُطْعِمُ خادمَهُ فهوَ لهُ صدقةٌ.

• وكانَ عامَّةُ أهلِ الأموالِ مِن أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن هذا القسمِ.

قالَ أبو سُلَيْمانَ: كانَ عُثْمانُ بنُ عَفَّانَ وعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عَوْفٍ خازنينِ مِن خزَّانِ اللهِ في أرضِهِ يُنْفِقانِ في طاعتِهِ، وكانَتْ معاملتُهُما للهِ بقلوبِهِما.

• ورأْسُ المنفقينَ أموالَهُم في سبيلِ اللهِ مِن هذهِ الأُمَّةِ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وفيهِ نَزَلَتْ هذهِ الآيةُ:{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 17 - 21].

وفي "صحيح الحاكم"

(3)

: عن ابن الزُّبَيْرِ؛ قالَ: قالَ أبو قُحافَةَ لأبي بَكْرٍ: أراكَ تُعْتِقُ رقابًا ضعافًا! فلو أنَّكَ إذ فَعَلْتَ ما فَعَلْتَ أعْتَقْتَ رجالًا جلدًا يَمْنَعونَكَ ويَقومونَ

= وهذا سند قويّ، رجاله رجال مسلم، وقد تكلّموا في موسى حتّى انتهى العسقلاني إلى أنّه صدوق ربّما أخطأ، لكن الناظر في ترجمته في "التهذيب" لن يتردّد في أنّه ثقة صحيح الحديث أو قويّه، وقد صحّح حديثه هذا أبو عوانة وابن حبّان والحاكم والذهبي والهيثمي والعسقلاني والألباني.

(1)

رواه البخاري (43 - الاستقراض، 3 - أداء الديون، 5/ 54/ 2388)، ورواه مسلم أيضًا (1 - الإيمان، 40 - من مات لا يشرك، 1/ 94/ 94) مختصرًا؛ كلاهما من حديث أبي ذرّ.

(2)

رواه: البخاري (24 - الزكاة، 47 - الصدقة على اليتامى، 3/ 327/ 1465)، ومسلم (12 - الزكاة، 41 - تخوّف زهرة الدنيا، 2/ 717/ 1052)؛ من حديث أبي سعيد. والبخاري (24 - الزكاة، 50 - الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ 1472)، ومسلم (12 - الزكاة، 32 - اليد العليا خير، 2/ 717/ 1035)؛ من حديث حكيم بن حزام. كلاهما بنحوه.

(3)

تقدَّم (ص 159) ما في وصف "المستدرك" بـ "الصحيح" من التجوّز.

ص: 535

دونَكَ. فقالَ أبو بَكْرٍ: يا أبتِ! إنِّي إنَّما أُريدُ ما أُريدُ. قالَ: وإنَّما نَزَلَتْ هذهِ الآياتُ فيهِ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى

} [الليل: 5] إلى آخرِ السُّورةِ.

ورُوِيَ مِن وجهٍ آخرَ عن ابن الزُّبَيْرِ، وخَرَّجَهُ الإسْماعِيلِيُّ، ولفظُهُ: إنَّ أبا بَكْرٍ كانَ يَبْتاعُ الضَّعفةَ فيُعْتِقُهُم. فقالَ لهُ أبو قُحافَةَ: يا بنيَّ! لوِ ابْتَعْتَ مَن يَمْنَعُ ظهرَكَ. فقالَ: يا أبتِ! منعَ

(1)

ظهري أُريدُ. ونَزَلَتْ فيهِ

(2)

{وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} إلى آخرِ السُّورةِ.

وخَرَّجَ أبو داوودَ والتِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ عُمَرَ؛ قالَ: أمَرَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنْ نتَصَدَّقَ، ووافَقَ ذلكَ عندي مالًا، فقُلْتُ: اليومَ أسْبِقُ أبا بَكْرٍ إنْ سَبَقْتُهُ يومًا. قالَ: فجِئْتُ بنصفِ مالي. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "ما أبْقَيْتَ لأهلِكَ؟ ". قُلْتُ: مثلَهُ. وإنَّ أبا بَكْرٍ أتى بكلِّ ما عندَهُ، فقالَ:"يا أبا بَكْرٍ! ما أبْقَيْتَ لأهلِكَ؟ ". قالَ: أبْقَيْتُ لهُمُ الله ورسولَهُ. فقُلْتُ: لا أسابِقُهُ إلى شيء أبدًا

(3)

.

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائِيُّ وابنُ ماجَهْ مِن حديثِ: أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:"ما نَفَعَني مالٌ قطُّ ما نَفَعَني مالُ أبي بكرِ". فبَكى أبو بكرٍ وقالَ: وهل أنا ومالي إلَّا لكَ يا رسولَ اللهِ؟ وخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ بدونِ هذهِ الزِّيادةِ في آخرِهِ

(4)

.

(1)

في خ: "فقال أما إنّه منع"، والأولى ما أثبته من م ون وط.

(2)

وفي غيره من المنفقين، على المعتمد من أنّ خصوص السبب لا ينفي عموم الحكم.

(3)

(حسن). رواه: عبد بن حميد (14)، والدارمي (1/ 391)، وأبو داوود (3 - الزكاة، 40 - الرخصة في ذلك، 1/ 1678/526)، والترمذي (50 - المناقب، 16 - مناقب أبي بكر وعمر، 5/ 614 / 3675)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(1240)، والبزّار (270)، والحاكم (1/ 414)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 32)، والبيهقي (4/ 180)، والضياء في "المختارة"(1/ 172/ 80 و 81)، والعسقلاني في "تغليق التعليق"(3/ 10)؛ من طريق هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر

رفعه. قال العسقلاني في "التلخيص": "ضعّفه ابن حزم بهشام بن سعد وهو صدوق". وزاد في "الفتح": "هشام صدوق فيه مقال". قلت: حديثه حسن في الشواهد على الأقلّ.

ورواه البزّار (159) من طريق إسحاق بن محمّد الفروي، ثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر

رفعه. والفروي وعبد الله بن عمر العمري لا يعدوان أن يكونا صالحين في الشواهد.

والحديث حسن بطريقيه، وقد قوّاه الترمذي والحاكم والضياء المقدسي والذهبي والعسقلاني والألباني.

(4)

(صحيح). تقدَّمت تفاصيل الباب (ص 252 - 254)، وهذا اللفظ جاء أيضًا بإسناد صحيح.

ص: 536

* وكانَ مِن المنفقينَ أموالَهُم في سبيلِ اللهِ عُثْمانُ بنُ عَفَّانَ:

ففي التِّرْمِذِيِّ عن عَبْدِ الرَّحمنِ بن خَبَّابٍ؛ قال: شَهِدْتُ النَّبي صلى الله عليه وسلم وهوَ يَحُثُّ على جيشِ العسرةِ، فقامَ عُثْمانُ فقال: يا رسول اللهِ! عليَّ مئةُ بعيرٍ بأحلاسِها وأقتابِها في سبيلِ اللهِ. ثمَّ حَضَّ على الجيشِ، فقامَ عُثْمانُ فقال: يا رسول اللهِ! عليَّ مئتا بعيرٍ بأحلاسِها وأقتابِها في سبيلِ اللهِ. ثمَّ حَضَّ على الجيِشِ، فقامَ عُثْمانُ فقال: يا رسول اللهِ! عليَّ ثلاثُ مئةِ بعيرٍ بأحلاسِها وأقتابِها في سبيلِ اللهِ. قال: فرَأيْتُ رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يَنْزِل على المنبرِ وهوَ تقول: "ما على عُثْمانَ ما فَعَلَ بعدَ هذهِ، [ما على عُثْمانَ ما فَعَلَ بعدَ هذهِ] "

(1)

.

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بن سَمُرَةَ؛ أن عُثْمانَ جاءَ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بألفِ دينارٍ حينَ جَهَّزَ جيشَ العسرةِ، فنَثَرَها في حجرِهِ. قال: فرَأيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَلِّبُها في حجرِهِ ويَقول: "ما ضَرَّ عُثْمانَ ما عَمِلَ

(2)

بعدَ هذا اليومِ"؛ مرَّتينِ

(3)

.

(1)

(ضعيف بهذا التمام). رواه: الطيالسي (1189)، وابن سعد (7/ 78)، وأحمد في "الفضائل"(822 و 823)، وعبد بن حميد (311)، والبخاري في "التاريخ"(5/ 246)، والفسوي (1/ 289)، والترمذي (50 - المناقب، 19 - مناقب عثمان، 5/ 625/ 3700)، وابن أبي الدنيا في "المكارم"(418)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(1280) و"الآحاد"(1419 و 1420) و"الجهاد"(77)، وابن أحمد في "المسند"(4/ 75)، والروياني (1541)، وابن قانع (2/ 144/ 617)، والطبراني في "الأوسط"(5911)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 58)، والبيهقي في "الدلائل"(5/ 214)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(2/ 435)، وابن الأثير في "الغابة"(3/ 112)، والمزّي في "التهذيب"(17/ 80)؛ من طريق السكن بن المغيرة، ثنا الوليد بن أبي هشام، عن فرقد أبي طلحة، عن عبد الرحمن بن خبّاب

رفعه. قال الترمذي: "غريب من هذا الوجه".

وقال الطبراني: "تفرّد به سكن". قلت: سكن وشيخه قويّان، والعلّة في فرقد؛ فإنّه مجهول.

وله شاهد عند الطبراني (18/ 231/ 577) بسند ساقط فيه متروكان.

وفي الصحيح ما يشهد لتجهيز عثمان لجيش العسرة أو لعدد كبير منه بالمال والعتاد، لكن هذا التفصيل لم يأت إلّا من هذا الوجه، وقد علمت ما فيه، وقد ضعّفه الترمذي والألباني.

(2)

في خ: "ما فعل"، وما أثبتّه من م ون وط أولى بلفظ "المسند".

(3)

(حسن صحيح). رواه: أحمد في "الفضائل"(738) و"المسند"(5/ 63)، والفسوي (1/ 283)، والترمذي (الموضع السابق، 5/ 626/ 3701)، وابن أبي الدنيا في "المكارم"(417)، وابن أبي عاصم في "السنة"(1279) و"الجهاد"(82)، وعبد الله بن أحمد (5/ 63)، والخلّال في "السنّة"(402 و 403)، والطبراني في "الأوسط"(6277 و 9222) و"الشاميّين"(1274)، والحاكم (3/ 102)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 59، 6/ 133)، والبيهقي في "الدلائل"(5/ 215)، والمزّي في "التهذيب"(15/ 439)؛ من =

ص: 537

• وكانَ منهُم أيضًا عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عَوْفٍ:

وفي "مسند الإمام أحْمَدَ"؛ أنَّهُ قَدِمَ لهُ عِيرٌ إلى المدينةِ، فارْتَجَّتْ لها المدينةُ، فسَألَتْ عائِشَةُ عنها وحَدَّثَتْ حديثا عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فبَلَغَ عَبْدَ الرَّحمنِ، فجَعَلَها كلَّها في سبيلِ اللهِ بأقتابِها وأحلاسِها، وكانَتْ سبعَ مئةِ راحلةٍ

(1)

.

= طريق قويّة، عن كثير بن أبي كثير مولى عبد الرحمن بن سمرة، عن عبد الرحمن بن سمرة

رفعه.

والناظر في ترجمة كثير هذا لن يتردّد في عدّه في زمرة الصدوقين، فالسند حسن، وقد قال الترمذي:"حسن غريب"، وأقرّه الألباني، وصحّحه الحاكم وأقرّه الذهبي والعسقلاني.

وله شاهد قويّ عند: أحمد في "الفضائل"(787)، والخلّال في "السنّة"(417)؛ عن الحسن مرسلًا. ويشهد له جملة حديث عثمان عند البخاري (2778) معلّقًا ووصله جماعة بسند قويّ.

(1)

(منكر باطل). رواه: أحمد (6/ 115)، وعبد بن حميد، والبزّار (2586 - كشف)، والطبراني (1/ 129/ 264، 6/ 27/ 5407)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 98)، وابن عساكر (35/ 267)، وابن الجوزي في "الغابة"(3/ 143)، والذهبي في "النبلاء"(1/ 76)؛ من طريق عمارة بن زاذان الصيدلاني، عن ثابت، عن أنس؛ قال: بينما عائشة في بيتها إذ سمعت صوتًا بالمدينة فقالت: ما هذا؟ قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف

فقالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قد رأيت عبد الرحمن يدخل الجنّة حبوًا". فقال عبد الرحمن: إن استطعت لأدخلنّها قائمًا. ثمّ جعلها في سبيل الله. قال الإمام أحمد: "حديث كذب منكر، وعمارة يروي أحاديث مناكير". وأقرّه ابن الجوزي وابن تيميّة والذهبي وابن القيّم والهيثمي والعراقي والعسقلاني. قال العسقلاني: "الذي أراه عدم التوسّع في الكلام عليه؛ فإنّه يكفينا شهادة الإمام أحمد بأنه كذب". قلت: وأنا يكفيني ما كفى العسقلاني.

ورواه البزّار (2587 - كشف) من طريق حبّان بن أغلب بن تميم، عن أبيه، عن ثابت

به فذكر بعضه. وحبّان ضعيف وأبوه منكر الحديث فالسند ساقط، وقد ضعّفه البزّار والهيثمي.

وله شاهد عند: البزّار، وأبي نعيم في "الحلية"(1/ 99)، وابن عساكر (35/ 266)؛ من حديث عبد الله بن أبي أوفى بسند فيه عمّار بن سيف ضعيف منكر الحديث.

وشاهد آخر عند: ابن سعد (3/ 131)، والبزّار (2585 و 2588 - كشف)، والحاكم (3/ 311)، وأبي نعيم في "الحلية"(1/ 99، 8/ 334)، وابن عساكر (35/ 263 و 264)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 13)؛ من طرق أربع، عن عبد الرحمن بن عوف

بمعناه بألفاظ مختلفة. وفي إحداها الجرّاح بن منهال متّهم متروك، وفي الثانية عبد الله بن شبيب متّهم متروك، وفي الثالثة خالد بن يزيد بن أبي مالك ضعيف منكر الحديث، وفي الرابعة مجهولان على إرسالها.

وشاهد آخر عند الطبراني في "الشاميّين"(705) من حديث حفصة أُمّ المؤمنين، وفيه الجرّاح بن مليح كثير الوهم وحفص بن ثابت لا يعرف.

وشاهد آخر عند: أحمد في "المسند"(5/ 259) وفي "الفضائل"(211)، والطبراني في "المعجم الكبير"(8/ 214/ 7864) و"الأوسط"(6146) و"الصغير"(937)، وابن عدي (7/ 2670)، والخطيب في "التاريخ"(14/ 78)، وابن عساكر (35/ 265)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 14)، والذهبي في =

ص: 538

وخَرَّجَهُ ابنُ سَعْدٍ مِن وجهٍ آخرَ فيهِ انقطاع وعندَهُ أنَّها كانَتْ خمسَ مئةِ راحلةٍ

(1)

.

وخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ: أبي سَلَمَةَ بن عَبْدِ الرَّحْمنِ بن عَوْفٍ، عن عائِشَةَ؛ أن رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم كانَ يَقولُ (تَعْني: لأزواجِهِ): "إنَّ أمْرَكُنَّ لَمِمَّا يُهِمُّني بعدي، ولن يَصبِرَ عليكُنَّ إلَّا الصَّابرونَ". قال: ثمَ تَقول عائِشَةُ لأبي سَلَمَةَ: سَقى اللهُ أباكَ مِن سلسبيلِ الجنَّةِ. وكانَ قد وَصَلَ أزواجَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بحديقةٍ بيعَتْ

(2)

بأربعينَ ألفًا

(3)

. وقال: حسنٌ غريبٌ. وخَرَّجَهُ الحاكِمُ وصحَّحَهُ. وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ أوَّلَهُ.

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ أيضًا والحاكِمُ مِن حديثِ: أُمِّ بَكْرٍ بنتِ المِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ؛

= "السير"(1/ 76)، من طريقين، عن أبي أُمامة

رفعه بمعناه بلفظين مختلفين. وفي الأولى مطّرح بن يزيد عن عبيد الله بن زحر عن علي الألهاني عن القاسم أبي عبد الرحمن، وابن زحر والقاسم لهما مناكير، ومطّرح والألهاني متروكان. وفي الثانية أبو جناب الكلبي وأبو العالية مدلّسان عنعنا وفي أبي جناب ضعف.

فهذه جملة ما وقفت عليه في الباب، ولا يخلو شيء منها من ضعف شديد بمتّهم أو متروك، مع اختلافات في السياقات تحول دون شهادة أحدها للآخر، فتارة هي على ما سيكون يوم القيامة وتارة رؤيا مناميّة وتارة يدخل حبوًا وتارة يتمايل على الصراط وتارة يتأخّر عن فقراء المهاجرين، مع مخالفتها للأحاديث الصحيحة الثابتة في أنّ ابن عوف من العشرة المبشّرين وأنّه من الصدّيقين وأنّه من أهل بدر وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم صلّى خلفه وأنّه صلى الله عليه وسلم قال لخالد في شأنه:"هل أنتم تاركون لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أُحد ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه"؛ فلا جرم عدّ أئمّة الحديث ونقّاده هذا الحديث في جملة الموضوعات أو الواهيات فما رأيت فيهم من قوّاه أو اعتدّ به.

(1)

(منكر باطل). رواه: ابن سعد (3/ 132)، وابن عساكر (35/ 268)؛ من طريق عبد الله بن جعفر الرقّي، قال أبو المليح، عن حبيب بن أبي مرزوق، قالت عائشة

فذكره وفيه المعنى المتقدّم آنفًا - والرقّي مجهول، وحبيب عن عائشة منقطع، وفي المتن النكارة التي تقدّمت الإشارة إليها في الحاشية السابقة، فحقّه أن يلحق بسابقه في الحكم.

(2)

في خ: "بمال بيعت"! وفي ن: "بأرض بيعت". والأولى ما أثبتّه من م وط.

(3)

(صحيح). رواه: ابن سعد (8/ 211)، وأحمد في "المسند"(6/ 77 و 120) و"الفضائل"(1258)، والترمذي (50 - المناقب، 26 - مناقب عبد الرحمن، 5/ 648/ 3749)، وابن حبّان (6995)، والحاكم (3/ 310 و 412)، والطبراني في "الأوسط"(3235)، والذهبي في "النبلاء"(1/ 86) معلّقًا؛ من طرق أربع إحداها حسنة، عن أبي سلمة، عن عائشة

رفعته.

قال الترمذي: "حسن صحيح". وقال الحاكم: "على شرط الشيخين". فتعقّبه الذهبي بقوله: "صخر [بن عبد الله بن حرملة] صدوق لم يخرّجا له". قلت: تابعه جماعة، ويشهد له أيضًا ما بعده.

ص: 539

أنَّ عَبْدَ الرَّحْمنِ بنَ عَوْفٍ باعَ أرضًا لهُ مِن عُثْمانَ بأربعينَ ألفَ دينارٍ، فقَسَمَها في فقراءِ بني زُهْرَةَ وفي المهاجرينَ وأُمَّهاتِ المؤمنينَ. قالَ المِسْوَرُ: فأُتِيَتْ عائِشَةُ بنصيبِها مِن ذلكَ المالِ، فقالَتْ لنا: إنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: "لا يَحْنو عليكُنَّ بعدي إلَّا الصَّابرونَ، سَقى اللهُ ابنَ عَوْفٍ مِن سلسبيلِ الجنَّةِ"

(1)

.

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ والحاكِمُ مِن حديثِ أُمِّ سَلَمَةَ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لأزواجِهِ: "إنَّ الذي يَحْنو عليكُنَّ بعدي هوَ الصَّادقُ البارُّ. اللهمَّ! آسْقِ عَبْدَ الرَّحْمنِ بنَ عَوْفٍ مِن سلسبيلِ الجنَّةِ"

(2)

.

وخَرَّجَهُ ابنُ سَعْدٍ وزادَ: إنَّ إبْراهيمَ بنَ سَعْدٍ قالَ: حَدَّثَني بعضُ أهلي مِن ولدِ عَبْدِ الرَّحمنِ بن عَوْفٍ؛ أن عَبْدَ الرَّحمنِ [بنَ عَوْفٍ] باعَ أموالَهُ مِن كيْدَمَةَ - وهوَ سهمُهُ مِن بني النَّضيرِ - بأربعينَ ألفَ دينارٍ، فقَسَمَها على أزواجِ النَّبي صلى الله عليه وسلم.

وخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ: أبي سَلَمَةَ بن عَبْدِ الرَّحمنِ؛ أن أباهُ عَبْدَ الرَّحمنِ بنَ عَوْفٍ أوْصى بحديقةٍ لأمَّهاتِ المؤمنينَ بيعَتْ بأربعِ مئةِ ألفٍ.

وخَرَّجَهُ الحاكِمُ ولفظُهُ: بيعَتْ بأربعينَ ألفَ دينارٍ.

(1)

(صحيح لشواهده). رواه: ابن سعد (3/ 132 - 133، 8/ 211)، وإسحاق في "المسند"(3/ 1011/ 1755)، وأحمد في "المسند"(6/ 103 و 135) و"الفضائل"(1249 و 1250) و "الزهد"(1097)، والطحاوي في "مشكل الآثار"، والطبراني في "الأوسط"(9111)، والحاكم (3/ 310)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 98)، والذهبي في "النبلاء"(1/ 86) تعليقًا؛ من طرق، عن عبد الله بن جعفر من ولد المسور، عن عمّته أُمّ بكر بنت المسور

فذكرته.

قال الحاكم: "صحيح الإسناد". وتعقّبه الذهبي بقوله: "ليس بمتّصل". قلت: يريد أنّ رواية أُمّ بكر عن ابن عوف مرسلة، لكن جاء في بعض طرق الحديث "عن أُمّ بكر عن أبيها المسور عن ابن عوف"، وسياق الحديث يدعم هذا الوصل جدَّا. وإنّما العلّة في أُمّ بكر نفسها؛ فإنّها مجهولة. لكنّ هذه الطريق تتقوّى وتصحّ بما قبلها وما بعدها، وقد قوّاها الألباني بشواهدها.

(2)

(صحيح لشواهده). رواه: ابن سعد (3/ 132)، وأحمد (6/ 299 و 302)، والحارث بن أبي أُسامة (987 - هيثمي)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(1412 و 1413)، والطبراني (23/ 288/ 636 و 896)، والحاكم (3/ 311)؛ من طريق محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن عبد الرحمن بن حصين، (قال مرّة: عن عوف بن الحارث، ومرّة: عن عوف بن مالك)، عن أُمّ سلمة

رفعته.

قال الحاكم: "صحّ الحديث عن عائشة وأُمّ سلمة"، ووافقه الذهبي. قلت: ابن إسحاق مدلّس عنعن، ومحمّد بن عبد الرحمن مجهول، وبقيّة السند ثقات. لكنّه صحيح بشواهده المتقدّمة.

ص: 540

وأخبارُ الأجوادِ المنفقينَ أموالَهُم في سبيلِ اللهِ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَطولُ ذكرُها جدًّا.

• وكانَ الفقراءُ مِن الصَّحابةِ كلَّما رَأَوْا أصحابَ الأموالِ منهُم يُنْفِقونَ أموالَهُم فيما يُحِبُّهُ اللهُ مِن الحجِّ والاعتمارِ والجهادِ في سبيلِ اللهِ والعتقِ والصَّدقةِ والبرِّ والصِّلةِ وغيرِ ذلكَ مِن أنواعِ البرِّ والطَّاعاتِ والقرباتِ؛ حَزِنوا لِما فاتَهُم مِن مشاركتِهِم في هذهِ الفضائلِ.

وقد ذَكَرَهُمُ اللهُ في كتابِهِ بذلكَ، فقالَ تَعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة: 90 - 91].

نَزَلَتْ هذهِ الآيةُ بسببِ قومٍ مِن فقراءِ المسلمينَ أتَوُا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وهوَ يَتَجَهَّزُ إلى غزوةِ تَبوكَ، فطَلَبوا منهُ أنْ يَحْمِلَهُم، فقالَ لهُم:"لا أجِدُ ما أحْمِلُكُمْ عليهِ". فرَجَعوا وهُم يَبْكونَ حزنًا على ما فاتَهُم مِن الجهادِ معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

قالَ بعضُ العلماءِ: هذا واللهِ بكاءُ الرِّجالِ، بَكَوْا على فقدِهِم رواحلَ يَتَحَمَّلونَ عليها إلى الموتِ في مواطنَ تُراقُ فيها الدِّماءُ في سبيلِ اللهِ وتُنْزعُ فيها رؤوسُ الرِّجالِ عن كواهلِها بالسُّيوفِ. فأمَّا مَن يَبْكي على فقدِ حظِّهِ مِن الدُّنيا وشهواتِهِ العاجلةِ؛ فذلكَ شبيهٌ بـ[ـــبكاءِ] الأطفالِ والنِّساءِ على فقدِ حظوظِهِمُ العاجلةِ:

سَهَرُ العيونِ لِغَيْرِ وَجْهِكَ باطِلٌ

وَبُكاؤُهُن لِغَيْرِ فَقْدِكَ ضائِعُ

(1)

(صحيح). رواه: الطبري (17094)، وابن مردويه (التوبة 92 - الدرّ)؛ من طريق مسلسلة بالعوفيّين، عن ابن عبّاس

رفعه. وهذا ساقط لضعف العوفيين أبّا عن جدّ فما فيهيم صدوق.

ورواه الطبري (17103) من طريق أبي معشر، عن محمّد بن كعب

مرسلًا. وأبو معشر ضعيف.

لكنّ الواقعة حصلت، والآية نزلت فيها وفي أمثالها، دلّ عليه: حديث أبي موسى عند البخاري (57 - الخمس، 15 - الخمس لنوائب المسلمين، 6/ 236/ 3133 و 4385). وجملة من المراسيل التي رواها أهل التفسير في قصّة أُولئك النفر وفي أسمائهم. وانظر تفاصيل ذلك في "الدرّ"(التوبة 92).

ص: 541

إنَّما يَحْسُنُ البكاءُ والأسفُ على فواتِ الدَّرجاتِ العلى والنَّعيمِ المقيمِ.

قالَ بعضُهُم: يُرى رجلٌ في الجنَّةِ يَبْكي، فيُسْألُ عن حالِهِ، فيَقولُ: كانَت لي نفسٌ واحدةٌ فقُتِلَتْ في سبيلِ اللهِ، ووَدِدْتُ أنَّهُ كانَتْ لي نفوسٌ كثيرةٌ تُقْتَلُ كلُّها في سبيلِ اللهِ

(1)

!

غزا قومٌ في سبيلِ اللهِ، فلمَّا صافُّوا عدوَّهُم واقْتَتَلوا؛ رأى كلُّ واحدٍ منهُم زوجتَهُ مِن الحورِ قد فتَحَتْ بابًا مِن السَّماءِ وهيَ تَسْتَدْعي صاحبَها إليها وتَحُثُّهُ على القتالِ، فقُتِلوا كلُّهُم إلَّا واحدًا، وكانَ كلَّما قُتِلَ منهُم واحدٌ، أُغْلِقَ بابٌ وغابَتْ منهُ المرأةُ، فأُفْلِتَ آخرُهُم، فأغْلَقَتْ تلكَ المرأةُ البابَ الباقيَ وقالَتْ: ما فاتَكَ يا شقيُّ! فكانَ يَبْكي على حالِهِ إلى أنْ ماتَ. ولكنَّهُ أوْرَثَهُ ذلكَ طولَ الاجتهادِ والحزنِ والأسف

(2)

.

عَلى مِثْلِ لَيْلى يَقْتُلُ المَرْءُ نَفْسَهُ

وَإنْ كانَ مِنْ لَيْلى عَلى الهَجْرِ طاوِيا

• لمَّا سَمعَ الصَّحابةُ رضي الله عنهم قولَ اللهِ عز وجل: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148، المائدة: 48]، وقولَهُ:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران: 133]؛ فَهِموا مِن ذلكَ أن المرادَ أنْ يَجْتَهِدَ كلُّ واحدٍ منهُم أنْ يَكونَ هوَ السَّابقَ لغيرِهِ إلى هذهِ الكرامةِ والمسارعَ إلى بلوغِ هذهِ الدَّرجةِ العاليةِ، فكانَ أحدُهُم إذا رَأى مَن يَعْمَلُ عملًا يَعْجِزُ عنهُ؛ خَشِيَ أنْ يَكونَ صاحبُ ذلكَ العملِ هوَ السَّابقَ لهُ، فيَحْزَنُ لفواتِ سبقِهِ، فكانَ تنافسُهُمِ في درجاتِ الآخرةِ واستباقُهُم إليها، كما قالَ تَعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]. ثمَّ جاءَ مَن بعدَهُم، فعَكَسَ الأمرَ، فصارَ تنافسُهُم في الدُّنيا الدَّنيَّةِ وحظوظِها الفانيةِ.

قالَ الحَسَنُ: إذا رَأيْتَ الرَّجلَ يُنافِسُكَ في الدُّنيا؛ فنافِسْهُ في الآخرةِ.

وقالَ وُهَيْبُ بنُ الوَرْدِ: إنِ اسْتَطَعْتَ ألَّا يَسْبِقَكَ أحدٌ إلى اللهِ فأفْعَلْ.

(1)

هذا (البعضهم) من أين له هذا الكلام؟! هذا كلام لا ينبغي أن يقوله المرء اجتهادًا من كيسه! رحم الله من قال: لولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.

(2)

ربّما كان هذا الذي أفلت خيرًا عند الله من صاحبيه، وقد تقدّم لك حديث سبق صاحب الفراش للشهيدين بأعمال البرّ التي عملها بعدهما (ص 349) فراجعه فإنّه مهمّ.

ص: 542

وقالَ بعضُ السَّلفِ: لو أنَّ رجلًا سَمعَ بأحدٍ أطوعَ للهِ منهُ؛ كانَ يَنْبَغي لهُ أنْ يَحْزُنَهُ ذلكَ.

وقالَ غيرُهُ: لو أن رجلًا سَمعَ برجلٍ أطوعَ للهِ منهُ فانْصَدَعَ قلبُهُ فماتَ؛ لم يَكُنْ ذلكَ بعجبٍ.

قالَ رجلٌ لمالِكِ بن دينارٍ: رَأيْتُ في النَّومِ مناديًا يُنادي: أيُّها النَّاسُ! الرَّحيلَ الرَّحيلَ، فما رَأيْتُ أحدًا يَرْتَحِلُ إلَّا مُحَمَّدَ بنَ واسِعٍ. فصاحَ مالِكٌ وغُشِيَ عليهِ.

{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10 - 12].

قالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ في حجَّةٍ حَجَّها عندَ دفعِ النَّاسِ مِن عرفهَ: ليسَ السَّابقُ اليومَ مَن سَبَقَ بهِ بعيرُهُ، إنَّما السَّابقُ مَن غُفِرَ لهُ.

كانَ رأْسَ السَّابقينَ إلى الخيراتِ مِن هذهِ الأُمَّةِ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه. قالَ عُمَرُ: ما اسْتبَقْنا إلى شيءٍ مِن الخيرِ إلَّا سَبَقَـ[ــنا] أبو بَكْرٍ، وكانَ سبَّاقًا بالخيراتِ.

ثمَّ كانَ السَّابقُ بعدَهُ إلى الخيراتِ عُمَرُ. وفي آخرِ حجَّةٍ حجَّها عُمَرُ جاءَ رجلٌ لا يُعْرَفُ، كانوا يَرَوْنَهُ مِن الجنِّ، فرَثاهُ بأبياتٍ منها:

فَمَنْ يَسْعَ أوْ يَرْكَبْ جَناحَيْ نَعامَةٍ

لِيُدْرِكَ ما قَدَّمْتَ بِالأمْسِ يُسْبَقِ

(1)

صاحبُ الهمَّةِ العاليةِ والنَّفسِ الشَّريفةِ التَّوَاقةِ لا يَرْضى بالأشياءِ الدَّنيَّةِ الفانيةِ، وإنَّما همَّتُهُ المسابقةُ إلى الدَّرجاتِ الباقيةِ الزَّاكيةِ التي لا تَفْنى، ولا يَرْجِعُ عن مطلوبِهِ ولو تَلِفَتْ نفسُهُ في طلبِهِ. ومَن كانَ في اللهِ تلفُه؛ كانَ على اللهِ خلفُه.

قيلَ لبعضِ المجتهدينَ في الطاعاتِ: لمَ تُعَذِّبُ هذا الجسدَ؟ قالَ: كرامتَهُ أُريدُ.

وَإذا كانَتِ النُّفوسُ كِبارًا

تَعِبَتْ في مُرادِها الأجْسامُ

قالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ: إن لي نفسًا توَّاقةً، ما نالَتْ شيئًا إلَّا تاقَتْ إلى ما هوَ أفضلُ منهُ، وإنَّها لمَّا نالَتْ هذهِ المنزلةَ (يَعْني: الخلافةَ) وليسَ في الدُّنيا منزلةٌ أعلى

(1)

اطّلع الغيب؟! أفكان عنده علم بموته حتّى يرثيه؟!

ص: 543

منها؛ تاقَتْ إلى ما هوَ أعلى مِن الدُّنيا (يَعْني: الآخرةَ).

عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْمِ تَأْتي العَزائِمُ

وَتَأْتي عَلى قَدْرِ الكِرامِ المَكارِمُ

قيمةُ كلِّ إنسانٍ ما يَطْلُبُ، فمَن كانَ يَطْلُبُ الدُّنيا؛ فلا أدنى منهُ؛ فإنَّ الدُّنيا دنيَّةٌ، وأدنى منها مَن يَطْلُبُها، وهيَ خسيسةٌ، وأخسُّ منها مَن يَخْطُبُها.

قالَ بعضُهُم: القلوبُ جوَّالةٌ، فقلبٌ يَجولُ حولَ العرشِ، وقلبٌ يَجولُ حولَ الحُشِّ. الدُّنيا كلُّها حُشٌّ، وكلُّ ما فيها مِن مطعمٍ ومشربٍ يَؤُولُ إلى الحُشِّ، وما فيها مِن أجسامٍ ولباسٍ يَصيرُ ترابًا، كما قيلَ: وكلُّ الذي فوقَ التُّرابِ تُرابُ.

وقالَ بعضُهُم في يومِ عيدٍ لإخوانِهِ: هل تَنْظُرونَ إلَّا خرقًا تَبْلى أو لحمًا يَأْكُلُهُ الدُّودُ غدًا؟!

وأمَّا مَن كانَ يَطْلُبُ الآخرةَ؛ فقدرُهُ خطيرٌ؛ لأنَّ الآخرةَ خطيرةٌ شريفةٌ، ومَن يَطْلُبُها أشرفُ منها، كما قيلَ:

أُثامِنُ بِالنَّفسِ النَّفيسَةِ رَبَّها

وَلَيْسَ لَها في الخَلْقِ كُلِّهِمُ ثَمَنْ

بِها تُدْرَكُ الأُخْرى فَإنْ أنا بِعْتُها

بِشَيْءٍ مِنَ الدُّنْيا فذاكَ هُوَ الغَبَنْ

لَئِنْ ذَهَبَتْ نَفْسي بِدُنْيا أصَبْتُها

لَقَدْ ذَهَبَتْ نَفْسي وَقَدْ ذَهَبَ الثَّمَنْ

وأمَّا مَن كانَ يَطْلُبُ الله؛ فهوَ أكبرُ النَّاسِ عندَهُ، كما أن مطلوبَهُ أكبرُ مِن كلِّ شيءٍ، كما قيلَ:

لَهُ هِمَمٌ لا مُنْتَهى لِكِبارِها

وَهِمَّتُهُ الصُّغْرى أجَلُّ مِنَ الدَّهْرِ

قالَ الشِّبْلِيُّ: مَن رَكَنَ إلى الدُّنيا؛ أحْرَقَتْهُ بنارِها، فصارَ رمادًا تَذْروهُ الرِّياحُ، ومَن رَكَنَ إلى الآخرةِ أحْرَقَتْهُ بنورِها، فصارَ سبيكةَ ذهبٍ يُنْتَفَعُ بهِ، ومَن رَكَنَ إلى اللهِ؛ أحْرَقَهُ بنورِ التَّوحيدِ، فصارَ جوهرًا لا قيمةَ لهُ

(1)

.

العالي الهمَّةِ يَجْتَهِدُ في نيلِ مطلوبِه، ويَبْذُلُ وسعَهُ في الوصولِ إلى رضى

(1)

يعني: لا قيمة تعادله أو تساويه.

ص: 544

محبوبِه. فأمَّا خسيسُ الهمَّةِ؛ فاجتهادُهُ في متابعةِ هواهُ، ويَتَّكِّلُ على مجرَّدِ العفوِ، فيَفوتُهُ - إنْ حَصَلَ لهُ العفوُ - منازلُ السَّابقينَ المقرَّبينَ.

قالَ بعضُ السَّلفِ: هَبْ أن المسيءَ عُفِيَ عنهُ، أليسَ قد فاتَهُ ثوابُ المحسنين؟

فَيا مُذْنِبًا يَرْجو مِنَ اللهِ عَفْوَهُ

أتَرْضى بِسَبْقِ المُتَّقينَ إلى اللهِ

لمَّا تَنافَسَ المتنافسونَ في نيلِ الدَّرجات؛ غَبَطَ بعضُهُم بعضًا بالأعمالِ الصَّالحات.

قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا حسدَ إلَّا في اثنتينِ: رجلٌ آتاهُ اللهُ مالًا فهوَ يُنْفِقُهُ في سبيلِ اللهِ آناءَ الليلِ وآناءَ النَّهارِ، ورجلٌ آتاهُ اللهُ القرآنَ فهوَ تقومُ بهِ آناءَ الليلِ وآناءَ النَّهارِ". وفي روايةٍ: "لا تحاسدَ إلَّا في اثنتينِ: رجلٌ آتاهُ اللهُ القرآنَ فهوَ يَتْلُوهُ آناءَ الليلِ والنَّهارِ، يَقولُ: لو أوتِيتُ مثلَ ما أُوتِيَ هذا لَفَعَلْتُ كما يَفْعَلُ، ورجل آتاهُ اللهُ مالًا فهوَ يُنْفِقُهُ في حقِّهِ، يَقولُ: لو أُوتِيتُ مثلَ ما أوتِيَ هذا لَفَعَلْتُ كما يَفْعَلُ". وهذا الحديثُ في الصَّحيحين

(1)

.

وفي التِّرْمِذِيِّ وغيرِهِ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قالَ:"إنَّما مثلُ هذهِ الأُمَّةِ كأربعةِ نفرٍ: رجلٌ آتاهُ اللهُ مالًا وعلمًا، فهوَ يَعْمَلُ بعلمِهِ في مالِهِ يُنْفِقُهُ في حقِّهِ. ورجلٌ آتاهُ اللهُ علمًا ولم يُؤْتِهِ مالًا، وهوَ يَقولُ: لو كانَ لي مثلُ هذا؛ لعَمِلْتُ فيهِ مثلَ الذي يَعْمَلُ". قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "هما في الأجرِ سواءٌ. ورجلٌ آتاهُ اللهُ مالًا ولم يُؤْتِهِ علمًا، فهوَ يَخْبِطُ في مالِهِ يُنْفِقُهُ في غيرِ حقِّهِ. ورجلٌ لمْ يُؤْتِهِ اللهُ علمًا ولا مالًا، فهوَ يَقولُ: لو كانَ لي مالُ هذا؛ عَمِلْتُ فيهِ مثلَ الذي يَعْمَلُ". قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " [فـ]ـــهُما في الوزرِ سواءٌ"

(2)

.

(1)

البخاري (6 - فضائل القرآن، 20 - اغتباط صاحب القرآن، 9/ 73/ 5025)، ومسلم (6 - المسافرين، 47 - فضل من يقوم بالقرآن، 1/ 558/ 815)؛ من حديث ابن عمر. والرواية الثانية عند البخاري (97 - التوحيد، 45 - قوله صلى الله عليه وسلم رجل آتاه الله القرآن، 13/ 502/ 7528) من حديث أبي هريرة.

(2)

(صحيح). رواه: أحمد (4/ 231)، والفسوي (3/ 191)، والترمذي (37 - الزهد، 17 - مثل الدنيا، 4/ 562/ 2325)، والطبراني (22/ 345/ 868)، والبغوي في "السنّة"(4097)، والمزّي في "التهذيب"(14/ 193)؛ من طريق قويّة، عن يونس بن خبّاب، عن سعيد أبي البختري، عن أبي كبشة

=

ص: 545

ورَوى حُمَيْدُ بنُ زَنْجَوَيْهِ بإسنادِهِ: عن زَيْدِ بن أسْلَمَ؛ قالَ: يُؤْتى يومَ القيامةِ بفقيرٍ وغنيٍّ اصْطَحَبا في اللهِ، فيوجَدُ للغنيِّ فضلُ عملٍ فيما كانَ يَصْنَعُ في مالِهِ، فيُرْفَعُ على صاحبِهِ، فيَقول الفقيرُ: يا ربِّ! لمَ رَفَعْتَهُ؟ وإنَّما اصْطَحَبْنا فيكَ وعَمِلْنا لكَ. فيَقول تَعالى: لهُ فضلُ عملٍ بما صَنَعَ في مالِهِ. فيَقولُ: يا ربِّ! لقد عَلِمْتَ لو أعْطَيْتَني مالًا لَصَنَعْتُ مثلَ ما صَنَعَ. فيَقولُ: صَدَقَ، فارْفَعوهُ إلى منزلةِ صاحبِهِ. ويُؤْتى بمريضٍ وصحيحٍ اصْطَحَبا في اللهِ، فيُرْفَعُ الصَّحيحُ بفضلِ عملِهِ، فيَقول المريضُ: لمَ رَفَعْتَهُ عليَّ؟ فيَقول: بما كانَ يَعْمَلُ في صحَّتِهِ. فيَقولُ: يا ربِّ! لقد عَلِمْتَ لو أصْحَحْتَني لَعَمِلْتُ كما عَمِلَ، فيَقول اللهُ: صَدَقَ، فارْفَعوهُ إلى درجةِ صاحبِهِ. ويُؤْتى بحرٍّ ومملوكٍ

= رفعه. وهذا ضعيف لأجل يونس؛ فإنّه ضعيف الحديث خبيث النحلة.

ورواه الطبراني (22/ 346/ 870) من طريق قويّة، عن أبي كنانة، عن أبي كبشة

رفعه. وأبو كنانة: إن كان القرشي الراوي عن أبي موسى؛ فمجهول، وإن لم يكنه؛ فما عرفته.

ورواه: وكيع في "الزهد"(240)، وأحمد (4/ 230 - 231)، وهنّاد في "الزهد"(598)، وابن ماجه (37 - الزهد، 26 - النيّة، 2/ 1413/ 4228)، والحسين المروزي في "زوائد الزهد"(999)، والفريابي في "فضائل القرآن"(105 - 106)، وأبو عوانة في "الصحيح"(12146 - نكت ظراف)، والطحاوي في "المشكل"(2635)، وابن الأعرابي في "المعجم"(662)، والطبراني في "الكبير"(22/ 343/ 860 - 865 و 867 و 869) و"الأوسط"(4364)، والبيهقي في "المدخل"(365) و "السنن"(4/ 189)، والخطيب في "التاريخ"(6/ 80)؛ من طرق، عن سالم بن أبي الجعد، [عن ابن أبي كبشة]، عن أبيه

رفعه. وهاهنا علّة، وهي أنّهم اختلفوا: فرواه الجماعة عن سالم عن أبي كبشة، وقال منصور بن المعتمر مرّة: عن سالم حُدّثت عن أبي كبشة، وقال مرّة: عن سالم عن ابن أبي كبشة عن أبي كبشة. وهذه الأخيرة أولى الأوجه بالصواب؛ لأنّها زيادة ثقة أوّلًا، ولأن سالمًا كثير الإرسال والتدليس ولم يثبت له سماع من أبي كبشة فلا يؤمن أن تكون رواية الجماعة مدلّسة. وابن أبي كبشة: إن كان محمّدًا؛ فلا بأس بحديثه، وإن كان عبد الله ففيه جهالة.

ورواه: ابن طهمان في "مشيخته"(3)، والطبراني (22/ 344/ 866)؛ من طريق قويّة، عن قتادة، عن سالم، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان أو أبي كبشة

رفعه. وهذا سند قويّ، لولا أنّ الجماعة رووه عن سالم على الوجه المتقدّم قبله.

ورواه ابن قانع في "المعجم"(2/ 222/ 729) من طريق قويّة، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن أبي كبشة

رفعه. وهذا قويّ جدًّا، لولا أنّ المشهور عن منصور عن سالم على الوجه المتقدّم قبل قليل.

وبعد؛ فهذه طرق خمس، لا يخلو شيء منها من أخذ وردّ، لكنّها جميعًا في حدّ الاعتبار، بل بعضها حسن أو مقارب، فلا جرم أن يتقوّى الحديث ويصحّ باجتماعها، وإلى ذلك ذهب الترمذي وأبو عوانة والحاكم والبغوي والمنذري والنووي وابن القيّم والعراقي والألباني.

ص: 546

اصْطَحَبا فيَقولُ مثلَ ذلكَ. ويُؤْتى بحَسَنِ الخلقِ وسيِّئ الخلقِ، فيَقولُ: يا ربِّ! لمَ رَفَعْتَهُ عليَّ، وإنَّما اصْطَحَبْنا فيكَ وعَمِلْنا؟ فيَقولُ: بحسنِ خلقِهِ. فلا يَجِدُ لهُ جوابًا.

العاقلُ يَغْبِطُ مَن أنْفَقَ أموالَهُ في سبيلِ الخيراتِ ونيلِ علوِّ الدَّرجاتِ، والجاهلُ يَغْبِطُ مَن أنْفَقَ مالَهُ في الشَّهواتِ وتَوَصَّلَ بهِ إلى اللذَّاتِ المحرَّماتِ.

قالَ تَعالى حاكيًا عن قارونَ: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا

} [القصص: 79 - 80] إلى قولِهِ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

• فلمَّا رَأى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم تأسُّفَ أصحابِهِ الفقراءِ وحزنَهُم على ما فاتَهُم مِن إنفاقِ إخوانِهِمُ الأغنياءِ أموالَهُم في سبيلِ اللهِ تقرُّبًا إليهِ وابتغاءً لمرضاتِهِ؛ طيَّبَ قلوبَهُم ودَلَّهُم على عملٍ يسيرٍ يُدْرِكونَ بهِ مَن سَبَقَهُم ولا يَلْحَقُهُم معَهُ أحدٌ بعدَهُم ويَكونونَ بهِ خيرًا ممَّن هُم معَهُ؛ إلَّا مَن عَمِلَ مثلَ عملِهِم، وهوَ الذِّكرُ عقيبَ الصَّلواتِ المفروضاتِ.

وقدِ اخْتَلَفَتِ الرِّواياتُ في أنواعِهِ وعددِهِ، والأخذُ بكلِّ ما وَرَدَ مِن ذلكَ حسنٌ ولهُ فضلٌ عظيمٌ.

وفي حديثِ أبي هُرَيْرَةَ هذا أنَّهُم يُسَبِّحونَ ويَحْمَدونَ ويُكَبِّرونَ خلفَ كلِّ صلاةٍ ثلاثًا وثلاثينَ. وقد فَسَّرَهُ أبو صالِح راويهِ عنهُ بالجمع، وهوَ أنْ يَقولَ: سبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ واللهُ أكبرُ ثلاثًا وثلاثينَ مرَّة، فيَكونُ جملةُ ذَلكَ تسعًا وتسعينَ.

وقد يُشْكِلُ على هذا حديثُ أن رجلًا سَألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عمَّا يَعْدِلُ الجهادَ. فقالَ: "هل تَسْتَطيعُ إذا خَرَجَ المجاهدُ أنْ تَصومَ فلا تُفْطِرَ وتَقومَ ولا تَفْتُرَ"

(1)

. وهوَ حديثٌ صحيحٌ ثابتٌ أيضًا. فلم يَجْعَلْ للجهادِ عدلًا سوى الصِّيامِ الدَّائمِ والقيامِ الدَّائمِ. وفي هذا الحديثِ قد جَعَلَ الذِّكرَ عقيبَ الصَّلواتِ عدلًا لهُ.

(1)

رواه: البخاري (56 - الجهاد، 1 - فضل الجهاد، 6/ 4/ 2785)، ومسلم (33 - الإمارة، 29 - فضل الشهادة، 3/ 1498/ 1878)؛ من حديث أبي هريرة. وهذا لفظ البخاري.

ص: 547

والجمعُ بينَ ذلكَ كلِّهِ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يَجْعَلْ للجهادِ في زمانِهِ عملًا يَعْدِلُهُ بحيثُ إذا انْقَضى الجهادُ انْقضى ذلكَ العملُ واسْتَوى العاملُ معَ المجاهدِ في الأجرِ، وإنَّما جَعَلَ الذي يَعْدِلُ الجهادَ الذِّكرَ الكثيرَ المستدامَ في بقيَّةِ عمرِ المؤمنِ مِن غيرِ قطعٍ لهُ حتَّى يَأْتِيَ صاحبَهُ أجلُهُ، فإذا اسْتَمَرَّ على هذا الذِّكرِ في أوقاتِهِ إلى أنْ ماتَ عليهِ عَدَلَ ذكرُهُ هذا الجهادَ

(1)

.

وقد دَلَّ على ذلكَ أيضًا ما خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ: أبي الدَّرْداءِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"ألا أُنَبِّئُكُمْ بخيرِ أعمالِكُم، وأزكاها عندَ مليكِكُم، وأرفعِها في درجاتِكُم، وخيرٍ لكُم مِن إنفاقِ الذَّهبِ والورقِ، وخيرٍ لكُم مِن أنْ تَلْقَوْا عدوَّكُم فتَضْرِبوا أعناقَهُم ويَضْرِبوا أعناقَكُم؟ ". قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ! قالَ: "ذكرُ اللهِ عز وجل"

(2)

. وخَرَّجَهُ مالِكٌ في "الموطَّأ" موقوفًا.

(1)

وربّما زاد عليه. وهذا جمع حسن جدًّا بين النصوص.

(2)

(حسن صحيح). وقد جاء عن أبي الدرداء موقوفًا ومرفوعًا من وجوه:

فرواه: ابن أبي شيبة (34579)، والطبري (27801)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 219)، وابن حجر في "أمالي الأذكار"(1/ 96 - ابن علّان)؛ من طريق صالحة، عن كثير بن مرّة، عن أبي الدرداء

موقوفًا.

ورواه الحسين المروزي في "زوائد الزهد"(1129) من طريق ليث بن أبي سليم، قال أبو الدرداء

موقوفًا. وهذا منقطع على ضعف في ليث.

ورواه زياد بن أبي زياد مولى ابن عيّاش، وقال العسقلاني:"مختلف في رفعه ووقفه وفي إرساله ووصله". قلت: على وجوه: روى أوّلها أحمد (5/ 239) من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة، عن زياد، أنّه بلغه عن معاذ

رفعه. وروى الثاني مالك في "الموطّأ"(1/ 211)، عن زياد، قال أبو الدرداء

موقوفًا. وروى الثالث أحمد (5/ 195، 6/ 447) عن موسى بن عقبة، عن زياد، عن أبي الدرداء

مرفوعًا. وروى الرابع: أحمد (5/ 195)، وابن ماجه (33 - الأدب، 53 - فضل الذكر، 2/ 1245/ 3790)، والترمذي (49 - الدعاء، 6 - باب، 5/ 459/ 3377)، وابن أبي حاتم في "العلل"(2039)، والطبراني في "الدعاء"(1872)، والدارقطني في "العلل"(1082)، والحاكم (1/ 496)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 12)، والبيهقي في "الشعب"(519) و"الدعوات"(20)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(6/ 56 و 58)، والبغوي في "السنّة"(1244)، والمزّي في "التهذيب"(9/ 469)؛ من طريق عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن زياد، عن أبي بحريّة، عن أبي الدرداء

رفعه. وعبد الله بن سعيد بن أبي هند صدوق، فزيادته مقبولة على قاعدة زيادة الثقة، وعندئذ فالحكم هاهنا للرفع والوصل، والسند حسن عن أبي الدرداء مرفوعًا. وذكر معاذ في هذا السند محتمل؛ ففي آخر حديث حديث أبي الدرداء زيادة من قول معاذ، وله طرق عن معاذ عند البزّار والطبراني، فلعلّ زيادًا حمله عن أبي الدرداء رواية وعن معاذ بلاغًا.

ص: 548

وخَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ أيضًا مِن حديثِ: أبي سَعيدٍ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أيُّ العبادِ أفضلُ درجةً عندَ اللهِ يومَ القيامةِ؟ قالَ: "الذَّاكرونَ الله تَعالى كثيرًا". قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ! ومِن الغازي في سبيلِ اللهِ؟ قالَ: "لو ضَرَبَ بسيفِهِ الكفَّارَ والمشركينَ حتَّى يَنْكَسِرَ ويَخْتَضِبَ دمًا؛ لكانَ الذَّاكرونَ الله عز وجل أفضلَ منهُ درجةً"

(1)

.

وقد رُوِيَ هذا المعنى عن مُعاذِ بن جَبَلٍ وطائفةٍ مِن الصَّحابةِ موقوفًا وأنَّ الذِّكرَ للهِ أفضلُ مِن الصَّدقةِ بعدَّتِهِ دراهمَ ودنانيرَ ومِن النَّفقةِ في سبيلِ اللهِ.

وقيلَ لأبي الدَّرداءِ: رجلٌ أعْتَقَ مئةَ نسمةٍ. قالَ: إنَّ مئةَ نسمةٍ مِن مالِ رجلٍ كثيرٌ، وأفضلُ مِن ذلكَ إيمانٌ ملزومٌ بالليلِ والنَّهارِ وأنْ لا يَزالَ لسانُ أحدِكُم رطبًا مِن ذكرِ اللهِ عز وجل.

وعنهُ قالَ: لأنْ أقولَ لا إلهَ إلَّا اللهُ واللهُ أكبرُ مئةَ مرَّةٍ أحبّ إليَّ مِن أنْ أتَصَدَّقَ بمئةِ دينارٍ.

ويُرْوى مرفوعًا وموقوفًا مِن غيرِ وجهٍ: "مَن فاتَهُ الليلُ أنْ يُكابِدَهُ، وبَخِلَ بمالِهِ أنْ يُنْفِقَهُ، وجَبُنَ عن عدوِّهِ أنْ يُقاتِلَهُ؛ فلْيُكْثِرْ مِن سبحانَ اللهِ وبحمدِهِ؛ فإنَّها أحبُّ إلى اللهِ مِن جبلِ ذهبٍ أو فضَّةٍ يُنْفِقُهُ في سبيلِ اللهِ عز وجل"

(2)

.

= ثمّ لهذا المتن شاهد من حديث معاذ بن أنس عند أحمد (3/ 438) بسند ضعيف، وآخر من حديث جابر عند الطبراني في "الصغير"(209) بسند ضعيف.

وقد قوّى هذا الحديث الحاكم والبغوي والمنذري والنووي والذهبي والهيثمي والعسقلاني والألباني.

(1)

(حسن لشواهده). رواه: أحمد (3/ 75)، والترمذي (49 - الدعاء، 5 - باب، 5/ 458/ 3376)، وأبو يعلى (1401)، وابن عدي (3/ 981)، والبيهقي في "الشعب"(589) مختصرًا، والبغوي في "السنّة"(1246)؛ من طريق ابن لهيعة، عن درّاج أبي السمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد

رفعه. قال الترمذي: "غريب، إنّما نعرفه من حديث درّاج". قلت: روايته عن أبي الهيثم ضعيفة، وإعلاله بابن لهيعة ليس بالمتّجه؛ لأنّ الراوي عنه عند الترمذي قتيبة بن سعيد وروايته عنه جيّدة.

وليس هذا من منكرات درّاج عن أبي الهيثم، فما قبله يشهد له بقوّة، ويشهد له إجمالًا حديث مسلم "سبق المفرّدون"، فهو حسن بهذه الشواهد، وقد ضعّفه الترمذي وأقرّه المنذري والألباني.

(2)

(صحيح). مداره على زبيد اليامي واختلف عليه فيه وقفًا ورفعًا: فرواه: ابن أبي شيبة (29716 و 34567)، والطبراني (9/ 203/ 8990)، والدارقطني في "العلل"(872)؛ من طرق ثلاث منها الثوري، عنه، عن مرّة، عن ابن مسعود

موقوفًا. قال الهيثمي (10/ 93): "رجال الصحيح". ورواه: الإسماعيلي=

ص: 549

وذكرُ اللهِ مِن أفضلِ أنواعِ الصَّدقةِ.

وخَرَّجَ الطَّبَرانِيُّ عن ابن عَبَّاسٍ مرفوعًا: "ما صدقةٌ أفضلَ مِن ذكرِ اللهِ عز وجل"

(1)

.

وقد قالَ طائفةٌ مِن السَّلفِ في قولِ اللهِ عز وجل: {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 18]: إنَّ القرضَ الحَسَنَ قولُ سبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلَّا اللهُ واللهُ أكبرُ.

وفي مراسيلِ الحسنِ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "ما أنْفَقَ عبدٌ نفقةً أفضلَ عندَ الله عز وجل مِن قولٍ ليسَ مِن القرآنِ وهوَ مِن القرآنِ؛ سبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلَّا اللهُ

= في "الشيوخ"(3/ 726/ 342)، والدارقطني في "العلل"(872)؛ من طرق ثلاث منها الثوري، عنه، عن مرّة، عن ابن مسعود

مرفوعًا. وتوبع زبيد على رفعه، قال الدارقطني:"ورواه الصباح بن محمّد الهمداني، وهو كوفيّ أحمسيّ ليس بقويّ، عن مرّة عن عبد الله مرفوعًا أيضًا". فهذه خلاصة الخلاف هنا. فمال الدارقطني إلى ترجيح الوقف مع أنّ طرق الوقف والرفع متعادلة في القوّة تقريبًا، وأمّا على طريقة ابن الصلاح وغيره من المتأخّرين فالرفع زيادة ثقة يتعيّن المصير إليها، ولا سيّما أنّ زبيدًا توبع عليها وأنّ هذا المتن جاء أيضًا عن جماعة من الصحابة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.

ورواه الطبراني في "الكبير"(8/ 194/ 7795 و 7800 و 7877) و"الشاميّين"(174)؛ من طرق ثلاث، عن القاسم، عن أبي أُمامة

رفعه. قال الهيثمي (10/ 97): "فيه سليمان بن أحمد الواسطي وثّقه عبدان وضعّفه الجمهور، والغالب على بقيّة رجاله التوثيق". قلت: الواسطي متروك. وفي الطريق الأخرى علي بن يزيد الألهاني واهٍ. وفي الطريق الثالثة العبّاس بن ميمون مجهول. والقاسم صدوق في حديثه بعض المناكير. فالحديث ضعيف عن أبي أُمامة ولو اجتمعت طرقه الثلاث.

ورواه: عبد بن حميد (641)، والبزّار (3058 - كشف)، والطبراني (11/ 70/ 11121)، والبيهقي في "الشعب"(508)؛ من طريق قويّة، عن أبي يحيى القتّات، عن مجاهد، عن ابن عبّاس

رفعه. قال المنذري والهيثمي (10/ 77): "فيه أبو يحيى القتّات، وقد وثّق وضعّفه الجمهور، وبقيّة رجال البزّار رجال الصحيح". قلت: أبو يحيى ليّن، والسند كذلك.

فهذان الشاهدان يصوّبان الرفع في حديث ابن مسعود، وإلى تقويته مال الهيثمي والألباني.

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه الطبراني في "الأوسط"(7410) من طريق محمّد بن الليث الهدادي، ثنا أبو همّام الدلّال، ثنا داوود بن عبد الرحمن، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبّاس

رفعه.

قال المنذري: "رواته حديثهم حسن". وقال الهيثمي (10/ 77): "رجاله وثّقوا". قلت: أبو الصباح الهدادي ذكره ابن حبّان في "الثقات" وقال: "يخطيء ويخالف". وقال العسقلاني في "اللسان": "حدّث حديثًا موضوعًا رواه بسند الصحيح"! فهذه تهمة خطيرة لا يستقيم معها تحسين حديث صاحبها، ولا سيّما أنّ ابن حبّان لم يوثّقه مطلقًا بل قال:"يخطيء ويخالف"! ولذلك قال الألباني: "ضعيف جدًّا".

ص: 550

واللهُ أكبرُ"

(1)

.

ورَوى عَبْدُ الرَّزَّاقِ في كتابِهِ عن: مَعْمَرٍ، عن قَتادَةَ؛ قالَ: قالَ ناسٌ مِن فقراءِ المؤمنينَ: يا رسولَ اللهِ! ذَهَبَ أصحابُ الدُّثورِ بالأُجورِ؛ يَتَصَدَّقونَ ولا نتصَدَّقُ، ويُنْفِقونَ ولا نُنْفِقُ، فقالَ:"أرَأيْتُمْ لو أن مالَ الدُّنيا وُضِعَ بعضُهُ على بعضٍ أكانَ بالغًا السَّماءَ؟ ". قالوا: لا يا رسولَ اللهِ! قالَ: "أفلا أُخْبِرُكُمْ بشيءٍ أصلُهُ في الأرضِ وفرعُهُ في السَّماءِ؟ أنْ تَقولوا في دبرِ كلِّ صلاةٍ: لا إلهَ إلَّا اللهُ واللهُ أكبرُ وسبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ عشرَ مرَّاتٍ؟ فإنَّ أصلَهُنَّ في الأرضِ وفرعَهُنَّ في السَّماءِ"

(2)

.

وقد كانَ بعضُ الصَّحابةِ يَظُنُّ أنْ لا صدقةَ إلَّا بالمالِ، فأخْبَرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أن الصَّدقةَ لا تَخْتَصُّ بالمالِ، وأنَّ الذِّكرَ وسائرَ أعمالِ المعروفِ صدقةٌ، كما في "صحيح مسلم"

(3)

: عن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه؟ أن ناسًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسولَ اللهِ! ذَهَبَ أهلُ الدُّثورِ بالأُجورِ؛ يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، ويَصومونَ كما نَصومُ، ويَتَصَدَّقونَ بفضولِ أموالِهِم. فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أوَلَيْسَ قد جَعَلَ اللهُ لكُم ما تَتَصَدَّقونَ بهِ؟ إنَّهُ بكلِّ تسبيحةٍ صدقةٌ، وكلِّ تكبيرة صدقةٌ، [وكلِّ تحميدةٍ صدقةٌ]، وكلِّ تهليلةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروفِ صدقةٌ، ونهيٌ عن منكرٍ صدقةٌ، وفي بضعِ أحدِكُم صدقةٌ".

وفي "المسند" عنهُ؛ أنَّهُ قالَ: يا رسولَ اللهِ! الأغنياءُ يَتَصَدَّقونَ ولا نتصَدَّقُ. قالَ: "وأنتَ فيكَ صدقةٌ؛ رفعُكَ العظمَ عن الطَّريقِ صدقةٌ، وهدايتُكَ الطَّريقَ صدقةٌ، وعونُكَ الضَّعيفَ بفضلِ قوَّتِكَ صدقةٌ، وبيانُكَ عن الأرتمِ صدقةٌ، ومباضعتُكَ

(4)

امرأتَكَ صدقةٌ"

(5)

.

(1)

(ضعيف). رواه ابن المبارك في "الزهد"(1432): أنا جعفر بن حيّان، عن الحسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

مرسلًا بنحوه. وهذا مرسل قويّ، لكن لم أقف له على ما يشدّه بهذا التمام.

(2)

(ضعيف). رواه: عبد الرزّاق (3188)، وابن أبي حاتم في "التفسير"(إبراهيم 25 - ابن كثير)؛ من طريقين، عن قتادة

مرسلًا. وهذا مرسل قويّ، لكن لم أقف على ما يشدّه بهذا التمام.

(3)

(12 - الزكاة، 16 - اسم الصدقة يقع على كلّ معروف، 2/ 697/ 1006).

(4)

الأرقم: من كان كلامه غمعمة غير بيّن. المباضعة: الجماع.

(5)

(صحيح لشواهده). رواه: إسحاق (4/ 383 - حلية)، وأحمد (5/ 154)، وهنّاد (1097)، وأبو نعيم (4/ 383)، والبيهقي (6/ 82) وفي "الشعب"(8619)؛ من طريق أبي البختري، عن أبي ذرّ

رفعه.

ص: 551

وفي المعنى أحاديثُ كثيرةٌ جدًّا يَطولُ ذكرُها.

• واعْلَمْ أنَّ مَن عَجَزَ عن عملِ خيرٍ وتَأسَّفَ عليهِ وتَمَنَّى حصولَهُ؛ كانَ شريكًا لفاعلِهِ في الأجرِ، كما تَقَدَّمَ في الذي قالَ لو كانَ لي مالٌ لَعَمِلْتُ فيهِ ما عَمِلَ فلانٌ أنَّهُما سواءٌ في الأجرِ والوزرِ. وقد قيلَ: إنَّهُما سواءٌ في أصلِ الأجرِ دونَ المضاعفةِ؛ فإنَّها تَخْتَصُّ بالعاملِ، فمِن ها هنا كانَ أربابُ الهممِ العاليةِ لا يَرْضَوْنَ بمجرَّدِ هذهِ المشاركةِ، ويَطْلُبونَ أنْ يَعْمَلوا أعمالًا تُقاوِمُ الأعمالَ التي عَجَزوا عنها؛ لِيَفوزوا بثوابٍ يُقاوِمُ ثوابَ تلكَ الأعمالِ ويُضاعَفُ لهُم كما يُضاعَفُ لأُولئِكَ فيَسْتَووا هُم وأُولئكَ العمَّالُ في الأجرِ كلِّهِ.

وقد كانَ بعضُ مَن يَقْعُدُ عن الجهادِ مِنِ امرأةٍ وضعيفٍ في عهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْألُهُ عن عملٍ يَعْدِلُ الجهادَ.

وفاتَ بعضَ النِّساءِ الحجُّ معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا قَدِمَ؟ سَألَتْهُ عمَّا يُجْزِئُ مِن تلكَ الحجَّةِ، قالَ:"اعْتَمِري في رمضانَ؛ فإن عمرةً في رمضانَ تَعْدِلُ حجَّةً (أو: حجَّةً معي) "

(1)

.

وقالَتْ عائِشَةُ: يا رسولَ اللهِ! نَرى الجهادَ أفضلَ العملِ، أفلا نُجاهِدُ؟ قالَ:"لكنْ جهادُكُنَّ الحجُّ والعمرةُ"

(2)

.

وكانَ منهُم مَن إذا تَخَلَّفَ عن الغزوِ اجْتَهَدَ في مشاركةِ الغزاةِ في أجرِهِم: فإمَّا أنْ يُخْرِجَ مكانَهُ رجلًا بمالِهِ، وإمَّا أنْ يُعينَ غازيًا، وإمَّا أنْ يَخْلُفَهُ في أهلِهِ بخيرٍ. فإنَّ مَن فَعَلَ هذا كلَّهُ فقد غَزا.

تَصَدَّقَ بعضُ الأغنياءِ بمالٍ كثيرٍ، فبَلَغَ ذلكَ طائفةً مِن الصَّالحينَ، فاجْتَمَعوا في مكانٍ، وحَسَبوا ما تَصَدَّقَ بهِ مِن الدَّراهمِ، وصَلَّوْا بدلَ كل درهمٍ تَصَدَّقَ بهِ [للهِ تَعالى

= وهذا منقطع، أبو البختري لم يسمع أبا ذرّ. لكن يشهد له أحاديث: البخاري (6021 و 6022)، ومسلم (1005 - 1006). فهو صحيح بها. ولا سيّما أنّه لا يعدو أن يكون تفصيلًا لرواية مسلم قبله.

(1)

متّفق عليه. تقدّم تفصيل القول فيه (ص 357).

(2)

متّفق عليه. تقدّم تفصيل القول فيه (ص 508).

ص: 552

ركعةً].

هكذا يَكونُ استباقُ الخيراتِ والتَّنافسُ في علوِّ الدَّرجاتِ.

كَذاكَ الفَخْرُ يا هِمَمَ الرِّجالِ

تَعالَيْ فَانْظُري كَيْفَ التَّغالي

• فسبحانَ مَن فَضَّلَ هذهِ الأمَةَ وفَتَحَ لها على يدي نبيِّها نبيِّ الرَّحمةِ أبوابَ الفضائلِ الجمَّةِ، فما مِن عملٍ عظيمٍ تقومُ بهِ قومٌ ويَعْجِزُ عنهُ آخرونَ إلَّا وقد جَعَلَ اللهُ عملًا ويُقاوِمُهُ أو يَفْضُل عليهِ، فتَتَساوى الأُمَّةُ كلها في القدرةِ عليهِ.

• لمَا كانَ الجهادُ أفضلَ الأعمالِ ولا قدرةَ لكثيرٍ مِن النَّاسِ عليهِ؛ كانَ الذِّكرُ الكثيرُ الدَّائمُ يُساويهِ ويَفْضُلُ عليهِ، وكانَ العملُ في عشرِ ذي الحجَّةِ يَفْضُلُ عليهِ؛ إلَّا مَن خَرَجَ بنفسِهِ ومالِهِ ولم يَرْجِعْ منهُما بشيءٍ.

• لمَّا كانَ الحجُّ مِن أفضلِ الأعمالِ، والنُّفوسُ تَتوقُ إليهِ لِما وَضَعَ اللهُ في القلوبِ مِن الحنينِ إلى ذلكَ البيتِ العظيمِ، وكانَ كثيرٌ مِن النَّاسِ يَعْجِزُ عنهُ، ولا سيما كلَّ عامٍ؛ شَرَعَ اللهُ عز وجل لعبادِهِ أعمالًا يَبْلُغُ أجرُها أجرَ الحجِّ، فيَتَعَوَّضُ بذلكَ العاجزونَ عن التَّطوُّعِ بالحجِّ.

ففي التِّرْمِذِيِّ: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "مَن صَلَّى الصُّبحَ [في جماعةٍ]، ثمَّ جَلَسَ في مصلَّاهُ يَذْكُرُ الله حتَّى تَطْلُعَ الشَمسُ، ثمَّ صَلَى ركعتينِ؛ كانَ لهُ مثلُ أجرِ حجَّةٍ وعمرةٍ تامَّةٍ". قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "تامَّةٍ تامَّةٍ تامَّةٍ"

(1)

.

(1)

(صحيح لشواهده). رواه: الترمذي (2 - الصلاة، 412 - الجلوس في المسجد بعد الصبح، 2/ 481/ 586)، والبغوي في "السنّة"(710)، والأصبهاني في "الترغيب"(1930)؛ من طريق أبي ظلال، عن أنس

رفعه. قال الترمذي: "حسن غريب". وأقرّه البغوي والمنذري. قلت: أمّا أنّه غريب فمن أجل أبي ظلال فإنّه ضعيف صاحب مناكير. وأمّا أنّه حسن بل صحيح فلشواهده الكثيرة.

وله شاهد عند: ابن عدي (1/ 331)، والعسقلاني في "اللسان"(1/ 393)؛ من حديث عائشة بسند فيه أبو حذيفة إسحاق بن بشر متهم ساقط.

وله شاهد عند: ابن قانع في "المعجم"(2/ 267/ 787)، وابن حبّان في "المجروحين"(1/ 176)، والطبراني (8/ 148/ 7649 و 7663)، وابن عدي (1/ 406)، وأبي موسى المديني في "الصحابة"(3/ 464 - إصابة)؛ من طرق، عن الأحوص بن حكيم، (قال مرّة: عن خالد بن معدان عن ابن عمر، ومرّة: عن عبد الله بن غابر الألهاني عن عتبة بن عبد، ومرّة: عن الألهاني عن أبي أُمامة، ومرّة: عن الألهاني عن عتبة وأبي =

ص: 553

وشهودُ الجمعةِ يَعْدِلُ حجَّةَ تطوُّعٍ.

قالَ سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ: هوَ أحَبُّ إليَّ مِن حجَّةٍ نافلةٍ.

وقد جَعَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم المبكِّرَ إليها

(1)

كالمهدي هديًا إلى بيتِ اللهِ الحرامِ

(2)

.

وفي حديثٍ ضعيفٍ: "الجمعةُ حجُّ المساكينِ"

(3)

.

وفي "تاريخِ ابن عَساكِر": عن الأوزاعِيِّ؛ قالَ: مَرَّ يونُسُ بنُ مَيْسَرَةَ بن حَلْبَسَ بمقابرِ باب توما، فقالَ: السَّلامُ عليكُم يا أهلَ القبورِ! أنتُم لنا سلفٌ ونحنُ لكُم تبعٌ، فرَحِمَنا اللهُ وإيَّاكُم وغَفَرَ لنا ولكُم، فكأنْ قد صِرْنا إلى ما صِرْتُم إليهِ. فرَدَّ اللهُ الرُّوحَ إلى رجلٍ منهُم، فأجابَهُ، فقالَ: طوبى لكُم يا أهلَ الدُّنيا حينَ تَحُجُّونَ في الشَّهرِ أربعَ

= أُمامة، ومرّة: عن الألهاني عن منيب بن عبيد السلمي وكان من الصحابة عن أبي أُمامة)

مرفوعًا.

وهذا اضطراب بين جماعة من الثقات لا يضرّ، وإنّما العلّة في الأحوص نفسه فإنّه ضعيف الحفظ.

وآخر عند الطبراني في "الأوسط"(5598) عن ابن عمر بسند فيه الفضل بن موفّق فيه ضعف.

وله شاهد عند الطبراني في "الكبير"(8/ 178/ 7741) و"الشاميّين"(885) من حديث أبي أُمامة بسند قوّاه المنذري والهيثمي وهو كما قالا.

وإلى تقويته مال الترمذي والبغوي والمنذري والنووي والهيثمي والعسقلاني وشاكر والألباني.

(1)

في خ: "التبكير إليها"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

فيما رواه: البخاري (11 - الجمعة، 4 - فضل الجمعة، 2/ 366/ 881)، ومسلم (7 - الجمعة، 2 - الطيب والسواك يوم الجمعة، 2/ 582/ 850)؛ من حديث أبي هريرة.

(3)

(موضوع). رواه: ابن زنجويه في "الترغيب"(3/ 359 - فيض)، والحارث (3/ 359 - فيض)، وأبو نعيم في "أصبهان"(2/ 190)، وابن الأعرابي، والقضاعي (78 و 79)، وابن عساكر؛ من طريق عيسى بن إبراهيم الهاشمي، عن مقاتل، عن الضحّاك، عن ابن عبّاس

رفعه. وهذا ساقط فيه علل: أولاها: الهاشميّ هذا هالك صاحب نسخة موضوعة. والثانية: مقاتل هو ابن سليمان كذّبوه. والثالثة: أنّه رواه الفاكهي (795) من طريقين إحداهما قويّة عن الضحّاك من قوله لم يجاوزاه.

ورواه: ابن حبّان في "المجروحين"(3/ 90)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(3/ 8)، والرافعي في "قزوين"(4/ 204)؛ من حديث ابن عمر بسند فيه محمّد بن يزيد محمش كذّاب يضع.

وقال الزبيدي في "الإتحاف"(9/ 152): رواه "الحارث من حديث أبي موسى بسند ضعيف والطبراني بزيادة "وجهاد المرأة حسن التبعّل! بسند ضعيف". قلت: لم أقف عليها، لكن الزبيدي وكثير من أهل العلم لا يكادون يصرّحون بالوصع بل يستبدلونها بالضعف.

وقد ضعّفه أيضًا ابن رجب والعراقي والسخاوي وابن عراق، وعدّه ابن حبّان والدارقطني وابن الجوزي والذهبي والعسقلاني والسيوطي والألباني في الموضوعات.

ص: 554

مرَّاتٍ. قالَ: وإلى أينَ يَرْحَمُكَ اللهُ؟ قالَ: إلى الجمعةِ، أما تَعْلَمونَ أنَّها حجَّةٌ مبرورةٌ متقبَّلةٌ. قالَ: ما خيرُ ما قَدَّمْتُم؟ قالَ: الاستغفارُ يا أهلَ الدُّنيا! قالَ: فما يَمْنَعُكَ أنْ تَرُدَّ السَّلامَ؟ قالَ: يا أهلَ الدُّنيا! السَّلامُ والحسناتُ قد رُفِعَتْ عنَّا، فلا في حسنةٍ نَزيدُ، ولا في سيِّئةٍ نَنْقُصُ، غَلِقَتْ رهونُنا يا أهلَ الدُّنيا

(1)

!

في "سننِ أبي داوودَ": عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَن تَطَهَّرَ في بيتِهِ، ثمَّ خَرَجَ إلى المسجدِ لأداءِ صلاةٍ مكتوبةٍ؛ فأجرُهُ مثلُ أجرِ الحاجِّ المحرمِ. ومَن خرَجَ لصلاةِ الضُّحى؟ كانَ لهُ مثلُ أجرِ المعتمرِ"

(2)

.

وفي حديثِ أنَسٍ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَصَّى رجلَّا بَبرِّ أُمِّهِ وقالَ لهُ: "أنتَ حاجٌّ ومعتمرٌ ومجاهدٌ"

(3)

؛ يَعْني: إذا بَرَّها.

وقال بعضُ الصَّحابةِ: الخروجُ إلى العيدِ يومَ الفطرِ يَعْدِلُ عمرة ويومَ الأضحى يَعْدِلُ حجَّةً.

(1)

غلق الرهن: فات أوان استرجاعه واستحقّه المرتهِن. وهذا كناية عن إغلاق صحائف الموتى.

(2)

(حسن). رواه: عبد الرزّاق (152)، وأحمد (5/ 263 و 268)، وأبو داوود (2 - صلاة، 49 - فضل المشي إلى الصلاة، 1/ 208/ 558 و 1288)، والروياني في "المسند"(1204)، والطبراني في "الكبير"(8/ 127/ 7734 و 7735 و 7752 - 7755 و 7887 و 7901 و 7905 و 7944 و 7975) و"الأوسط"(3286) و"الشاميّين"(878 و 879)، والبيهقي (3/ 49 و 63)، والبغوي في "السنّة"(472)؛ من طرق، عن القاسم أبي عبد الرحمن، عن أبي أُمامة

رفعه مطوّلًا ومختصرًا. قال المنذري: "رواه أبو داوود من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أُمامة". قلت: يعني أنّ في القاسم كلامًا، وهو كذلك، لكنّ حديثه لا ينحطّ عن رتبة الحسن، وإنّما العلّة في الرواة عنه، وليس الأمر كذلك هنا.

وقد توبع فرواه الطبراني في "الكبير"(8/ 127/ 7578 و 7582) من طريق قويّة، عن مكحول، عن أبي أُمامة

رفعه. ومكحول لم يلق أبا أُمامة.

والحديث حسن بطريقيه، وقد حسّنه الألباني.

(3)

(ضعيف). رواه: أبو يعلى (2760)، والطبراني في "الأوسط"(2936 و 4463) و"الصغير"(218)، وابن مردويه (الإسراء 23 - الدرّ)، والبيهقي في "الشعب"(7835)، والضياء في "المختارة"(5/ 225/ 1855 و 1857)؛ من طريق ميمون بن نجيح، ثنا الحسن، عن أنس

رفعه.

قال المنذري: "إسناده جيّد، ميمون بن نجيح وثّقه ابن حبّان وبقيّة رواته ثقات". وذكر الهيثمي في "المجمع"(8/ 141) نحوه. وقال البوصيري: "إسناده جيّد". قلت: ميمون بن نجيح ذكره ابن حبّان في "الثقات"، لكنّه لم يوثّقه مطلقًا بل قال:"يخطئ"، فمثله لا يقوّى حديثه ولو روى عنه جماعة. والحسن عنعن على تدليسه. فالسند ضعيف. وقد ضعّفه الألباني.

ص: 555

قالَ الحَسَنُ: مشيُكَ في حاجةِ أخيكَ المسلمِ خيرٌ لكَ مِن حجَّةٍ بعدَ حجَّةٍ.

وقالَ عُقْبَةُ بنُ عَبْدِ الغافِرِ: صلاةُ العشاءِ في جماعةٍ تَعْدِلُ حجَّةً، وصلاةُ الغداةِ في جماعةٍ تَعْدِلُ عمرةً.

وقالَ أبو هُرَيْرَةَ لرجلٍ: بكورُكَ إلى المسجدِ أحبُّ إليَّ مِن غزوتِنا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. ذَكَرَهُ الإمامُ أحْمَدُ.

أداءُ الواجباتِ كلِّها أفضلُ مِن التَّنفُّلِ بالحجِّ والعمرةِ وغيرِهِما؛ فإنَّهُ ما تَقَرَّبَ العبادُ إلى اللهِ بأحبَّ إليهِ مِن أداءِ ما افْتَرَضَ عليهِم

(1)

. وكثيرٌ مِن النَّاسِ يَهونُ عليهِ التَّنفُّلُ بالحجِّ والصَّدقةِ ولا يَهونُ عليهِ أداءُ الواجباتِ مِن الدُّيونِ ورَدِّ المظالمِ، وكذلكَ يَثْقُلُ على كثيرٍ مِن النُّفوسِ التَّنرُّهُ عن كسبِ الحرامِ والشُّبهاتِ ويَسْهُلُ عليها إنفاقُ ذلكَ في الحجِّ والصَّدقةِ.

قالَ بعضُ السَّلفِ: تركُ دانقٍ ممَّا يَكْرَهُهُ اللهُ أحبُّ إليَّ مِن خمسِ مئةِ حجَّةٍ.

كفُّ الجوارحِ عن المحرَّماتِ أفضلُ مِن التَّطوُّعِ بالحجِّ وغيرِهِ، وهوَ أشقُّ على النُّفوسِ.

قالَ الفُضَيْلُ بنُ عِياضٍ: ما حجٌّ ولا رباطٌ ولا جهادٌ أشدَّ مِن حبسِ اللسانِ، ولو أصْبَحْتَ يَهُمُّكَ لسانُكَ؛ أصْبَحْتَ في همٍّ شديدٍ.

• ليسَ الاعتبارُ بأعمالِ البرِّ بالجوارحِ، إنَّما الاعتبارُ ببرِّ القلوبِ وتقواها وتطهيرِها عن الآثامِ

(2)

.

سفرُ الدُّنيا يُقْطَعُ بسيرِ الأبدانِ، وسفرُ الآخرةِ يُقْطَعُ بسيرِ القلوبِ

(3)

.

قالَ رجلٌ لبعضِ العارفينَ: قد قَطَعْتُ إليكَ مسافةً. قالَ: ليسَ هذا الأمرُ بقطعِ المسافاتِ، فارِقْ نفسَكَ بخطوةٍ وقد وَصَلْتَ إلى مقصودِكَ.

(1)

في خ: "بأحبّ إليه بأداء ما افترض الله عليهم"، والأولى ما أثبتّه من م ون و ط.

(2)

مراده أنّ عمل الجوارح وحده لا يكفي، بل لا بدّ من حضور القلب ومتابعته للجوارح. وفي أهل الضلالة من لا يعبأ بعمل الجوارح ولا يلتفت له فيترك الجمع والجماعات عكوفًا على تطهير القلب في زعمه. والشيخ بريء من فكر هؤلاء عدوّ لضلالتهم. فاقتضى التنبيه.

(3)

يعني: مع عمل الأبدان كما تقدّم. وفي خ: "ينقطع بسير

ينقطع بسير القلوب".

ص: 556

سيرُ القلوبِ أبلغُ مِن سيرِ الأبدانِ.

كم مِن واصلٍ ببدنِهِ إلى البيتِ وقلبُهُ منقطعٌ عن ربِّ البيتِ، وكم مِن قاعدٍ على فراشِهِ في بيتِهِ وقلبُهُ متَّصلٌ بالمحلِّ الأعلى.

جِسْمي مَعي غَيْرَ أنَّ الرُّوحَ عِنْدَكُمُ

فَالجِسْمُ في غُرْبَةٍ والرُّوحُ في وَطَنٍ

قالَ بعضُ العارفينَ: عجبًا لمَن يَقْطَعُ المفاوزَ والقفارَ لِيَصِلَ إلى البيتِ فيُشاهِدَ فيهِ آثارَ الأنبياءِ كيفَ لا يَقْطَعُ هواهُ لِيَصِلَ إلى قلبِهِ فيَرى فيهِ أثرَ "وَسِعَني قلبُ عبدي المؤمنِ"

(1)

.

أيُّها المؤمنُ! إنَّ للهِ بينَ جنبيكَ بيتًا لو طَهَّرْتَهُ لأشْرَقَ ذلكَ البيتُ بنورِ ربِّهِ وانْشَرَحَ وانْفَسَحَ.

أنْشَدَ الشِّبْلِيُّ:

إنَّ بَيْتًا أنْتَ ساكِنُهُ

غَيْرُ مُحْتاجٍ إلى السُّرُجِ

وَمَريضًا أنْتَ عائِدُهُ

قَدْ أتاهُ اللهُ بالفَرَجِ

وَجْهُكَ المَأْمولُ حُجَّتُنا

يَوْمَ يَأْتي النَّاسُ بِالحُجَجِ

تطهيرُ القلبِ: تفريغُهُ مِن كلِّ ما يَكْرَهُهُ اللهُ مِن أصنامِ النَّفسِ والهوى، ومتى بَقِيَتْ فيهِ مِن ذلكَ بقيَّةٌ؛ فاللهُ أغنى الأغنياءِ عن الشِّركِ، وهوَ لا يَرْضى بمزاحمةِ الأصنامِ.

قالَ سَهْلُ بنُ عَبْدِ اللهِ: حرامٌ على قلبٍ أنْ يَدْخُلَهُ النُّورُ وفيهِ شيءٌ ممَّا يَكْرَهُهُ اللهُ.

أرَدْناكُمُ صِرْفًا فَلَمَّا مَزَجْتُمُ

بَعُدْتُمْ بِمِقْدارِ الْتِفاتِكُمُ عَنَّا

وَقُلْنا لَكُمْ لا تُسْكِنوا القَلْبَ غَيْرَنا

فَأسْكَنْتُمُ الأغْيارَ ما أنْتُمُ مِنَّا

إخواني! إنْ حُبِسْتُمُ العامَ عن الحجِّ؛ فارْجِعوا إلى جهادِ النُّفوسِ فهوَ الجهادُ

(1)

(كذب لا أصل له). ذكره الغزالي في "الإحياء". قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: "هو مذكور في الإسرائيليّات، وليس له إسناد معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم". وقال العراقي في "تخريج الإحياء": "لم أر له أصلًا".

وقال الزركشي: "سمعت بعض أهل العلم يقول هذا حديث باطل، وهو من وضع الملاحدة، وأكثر ما يرويه المتكلّم على رؤوس العوامّ علي بن وفا". قلت: يعني الشاذليّ. وقد دار هذا الحديث على ألسنة الصوفيّة وتلقّته عنهم العوامّ. وانظر للاستزادة: "المقاصد الحسنة"(990)، و"كشف الخفا"(2254).

ص: 557

الأكبر. أو أُحصِرْتُمْ عن أداءِ النُّسكِ؛ فأرِيقوا على تخلُّفِكُم مِن الدُّموع ما تَيَسَّرَ؛ فإنَّ إراقةَ الدِّماءِ لازمةٌ للمحصَر. ولا تَحْلِقوا رؤوسَ أديانِكُم بالذُّنوبِ؛ فإنَّ الذُّنوبَ حالقةُ الدِّينِ ليستْ حالقةَ الشَّعر. وقوموا للهِ باستشعارِ الرَّجاءِ والخوفِ مقامَ القيامِ بأرجاءِ الخيفِ والمشعر. ومَن كانَ قد بَعُدَ عن حرمِ اللهِ؛ فلا يُبْعِدُ نفسَهُ بالذُّنوبِ عن رحمةِ اللهِ؛ فإنَّ رحمةَ اللهِ قريبٌ ممَّن تابَ إليهِ واسْتَغْفَر. ومَن عَجَزَ عن حجِّ البيتِ لأنْ كانَ البيتُ منهُ بعيد؛ فلْتقْصِدْ ربَّ البيتِ؛ فإنَّهُ ممَّن دَعاهُ ورَجاهُ أقربُ مِن حبلِ الوريد.

إلَيْكَ قَصْدِيَ رَبَّ البَيْتِ والحَجَرِ

فَأنْتَ سُؤْلِيَ مِن حَجِّي ومِن عُمَري

وَفيكَ سَعْيي وَتَطْوافي ومُزْدَلِفي

وَالهَدْيُ جِسْمي الذي يُغْني عن الجُزُرِ

وَمَسْجِدُ الخَيْفِ خَوْفي مِن تَباعُدِكُمْ

وَمَشْعَري وَمَقامي دونكُم خَطَري

زادي رَجائي لَكُمْ وَالشَّوْقُ راحِلَتي

وَالماءُ مِنْ عَبَراتي وَالهَوى سَفَري

* * * * *

ص: 558

‌وظيفة شهر ذي القعدة

خَرَّجَ الإمامُ أحمدُ بإسنادِهِ: عن رجلٍ مِن باهِلَةَ، قالَ: أتَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لحاجةٍ مرَّةً. فقالَ: "مَن أنتَ؟ ". قُلْتُ: أما تَعْرِفُني؟ قالَ: "ومَن أنتَ؟ ". قالَ: أنا الباهِلِيُّ الذي أتَيْتُكَ عامَ أوَّلَ. فقالَ: "إنَّكَ أتَيْتَني وجسمُكَ ولونُكَ وهيئتُكَ حسنةٌ، فما بَلَغَ بكَ ما أرى؟ ". قُلْتُ: واللهِ؛ ما أفْطَرْتُ بعدَكَ إلَّا ليلًا. قال: "مَن أمَرَكَ أنْ تُعَذِّبَ نفسَكَ؟ مَن أمَرَكَ أنْ تُعَذِّبَ نفسَكَ؟ (ثلاثَ مرَّاتٍ). صُمْ شهرَ الصَّبرِ (رمضان) ". قُلْتُ: إنِّي أجِدُ قوَّةً، وإنِّي أُحِبُّ أنْ تَزيدَني. قالَ:"صُمْ يومًا مِن الشَّهرِ". قُلْتُ: إنِّي أجِدُ قوَّةً، وإنِّي أُحِبُّ أنْ تَزيدَني. قالَ:"فيومينِ مِن الشَّهرِ". قُلْتُ: إنِّي أجِدُ قوَّةً، وإنِّي أُحِبُّ أنْ تَزيدَني. قالَ:"فثلاثةُ أيَّام مِن الشَهرِ". قالَ: وألَحَّ عندَ الرَّابعةِ فما كادَ. فقُلْتُ: إنِّي أجِدُ قوَّةً، وإنِّي أُحِبُّ أنْ تَزيدَني. قالَ:"فمِن الحُرُمِ وأفْطِرْ"

(1)

. وخَرَّجَهُ أبو داوودَ

(1)

(حسن لشواهده دون ذكر الحرم). رواه: سعيد بن منصور (4/ 173 - إصابة)، وابن سعد (7/ 83)، وأحمد (5/ 28)، وعبد بن حميد (400 - منتخب)، وابن ماجه (7 - الصيام، 43 - صيام الحرم، 1/ 554/ 1741)، وأبو داوود (8 - الصيام، 54 - صوم الحرم، 1/ 738/ 2428)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(1255)، والنسائي في "الكبرى"(2743)، والبغوي في "المعجم"(2318 - مختصر أبي داوود)، وابن قانع (2/ 93/ 538)، والطبراني (22/ 358/ 901)، والبيهقي في "السنن"(4/ 291) و"الشعب"(3738)، والضياء في "المختارة"(9/ 229/ 211 - 212)، والمزّي في "التهذيب"(35/ 303)؛ من طرق، عن الجريري، عن أبي السليل، ثتني مجيبة الباهليّة، عن أبيها أو عمّها

رفعه.

والجريريّ اختلط، لكن في الرواة عنه هنا الثوري، وهو ممّن روى عنه قبل اختلاطه. وأبو السليل ثقة. ومجيبة مجهولة. وقال المنذري بعد ذكر خلاف لهم في سنده:"وقع فيه هذا الاختلاف كما تراه، وأشار بعض شيوخنا إلى تضعيفه لذلك، وهو متوجّه". قلت: تضعيفه بجهالة مجيبة أقوى. وقد ضعّفه الألباني.

لكنْ روى: الطيالسي (3/ 308 - إصابة)، وابن سعد (7/ 46 و 83)، والبخاري في "التاريخ"(7/ 238)، وسمّويه في (الفوائد" (3/ 308 - إصابة)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(1445)، وابن قانع في "المعجم"(2/ 382/ 930)، وابن حبّان في "الثقات"(3/ 356) تعليقا، والطبراني (19/ 194/ 435)، وابن =

ص: 559

والنَّسائِيُّ وابنُ ماجَهْ بمعناهُ، وفي ألفاظِهِم زيادةٌ ونقصٌ.

وفي بعضِ الرِّواياتِ "صُمِ الحُرُمَ وأفْطِرْ"

(1)

.

• في هذا الحديثِ دليلٌ على أن مَن تَكَلَّفَ [مِن] العبادةِ ما يَشُقُّ عليهِ حتَّى تأذَّى بذلكَ جسدُهُ؛ فإنَّهُ غيرُ مأْمورٍ بذلكَ

(2)

، ولذلكَ قالَ لهُ:"مَن أمَرَكَ أنْ تعَذِّبَ نفسَكَ؟ "، وأعادَها عليهِ ثلاثَ مرارٍ.

وهذا كما قالَ لمَن رَآهُ يَمْشي في الحجِّ وقد أجْهَدَ نفسَهُ: "إنَّ الله لغنيٌّ عن تعذيبِ هذا نفسَهُ، فمُروهُ فلْيَرْكَبْ"

(3)

.

وقالَ لعَبْدِ اللهِ بن عَمْرِو بن العاصِ حيثُ كانَ يَصومُ النَّهارَ ويَقومُ الليلَ ويَخْتِمُ القرآنَ في كلِّ ليلةٍ ولا يَنامُ معَ أهلِهِ، فأمَرَهُ أنْ يَصومَ ويُفْطِرَ ويَقْرَأ القرآنَ في كلِّ سبعٍ. وقالَ لهُ:"إنَّ لنفسِكَ عليكَ حقًّا، وإنَّ لأهلِكَ عليكَ حقًّا، فآتِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ"

(4)

.

ولمَّا بَلَغَهُ عن بعض أصحابِهِ أنَّهُ قالَ: أنا أصومُ ولا أُفْطِرُ، وقالَ آخرُ منهُم: أنا أقومُ ولا أنامُ، وقالَ آخرُ منهُم: لا أتَزَوَّجُ النِّساءَ. فخَطَبَ صلى الله عليه وسلم، وقالَ: "ما بالُ رجالٍ يَقولونَ كذا وكذا؟! لكنِّي أصومُ وأُفْطِرُ وأقومُ وأنامُ وآكلُ اللحمَ وأتَزَوَّجُ النِّساءَ، فمَن

= عبد البر في "الاستيعاب"(3/ 321) تعليقًا، وابن الأثير في "الغابة"(3/ 547)؛ من طريق حمّاد بن يزيد المنقري، ثنا معاوية بن قرّة المزني، عن كهمس الهلاليّ

رفعه مختصرًا بمعناه دون ذكر الحرم. قال الهيثمي (3/ 200): "فيه حمّاد بن يزيد المنقري ولم أجد من ذكره". قلت: بيض له البخاري وابن أبي حاتم وذكره ابن حبّان في "الثقات" وروى عنه جماعة فمثله لا بأس بحديثه. فإن كانت الحادثة المذكورة في الطريقين واحدة، وكان ذكر "الباهلية" في الطريق الأولى وهمّا من أبي السليل أو الجريري صوابه الهلاليّة، أو كانت مجيبة هلاليّة الأصل باهليّة الزوج والولد فصحّت نسبتها إلى القبيلتين؛ فهذا المتن قويّ بمجموع طريقيه. وإن كان هاهنا حادثتان متشابهتان؛ فالأولى ضعيفة، والمعوّل على الثانية في تقوية هذا المتن. وعليه؛ فالمتن قويّ على الحالين؛ إلّا ذكر الأشهر الحرم؛ فقد تفرّدت به الطريق الأولى وحدها، وهي ضعيفة كما علمت.

(1)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه في الحاشية السابقة.

(2)

وربّما وصل به الحال إلى أن يكون آثمًا بفعله هذا.

(3)

رواه: البخاري 281 - جزاء الصيد، 27 - من نذر المشي، 4/ 78/ 1865)، ومسلم (26 - النذر، 4 - من نذر أن يمشي، 3/ 1263/ 1642)؛ من حديث أنس.

(4)

متّفق عليه. تقدّم تفصيل القول فيه (ص 295).

ص: 560

رَغِبَ عن سنَّتي؛ فليسَ منِّي"

(1)

.

وسببُ هذا أنَّ اللهَ تَعالى خَلَقَ ابنَ آدَمَ محتاجًا إلى ما يَقومُ بهِ بدنُهُ مِن مأْكلٍ ومشربٍ ومنكحٍ وملبسٍ، وأباحَ لهُ مِن ذلكَ كلِّهِ ما هوَ طيِّبٌ حلالٌ تَقوى بهِ النَّفسُ ويَصِحُّ بهِ الجسدُ ويَتَعاوَنانِ على طاعةِ اللهِ عز وجل، وحَرَّمَ مِن ذلكَ ما هوَ ضارٌّ خبيثٌ يوجِبُ للنَّفسِ طغيانَها وعماها وقسوتَها وغفلتَها وأشرَها وبطرَها، فمَن أطاعَ نفسَهُ في تناولِ ما تَشْتَهيهِ ممَّا حَرَّمَهُ اللهُ عليهِ؛ فقد تَعَدَّى وطَغى وظَلَمَ نفسَهُ، ومَن مَنَعَها حقَّها مِن المباحِ حتَّى تَضَرَّرَتْ بذلكَ؛ فقد ظَلَمَها ومَنَعَها حقَّها، فإنْ كانَ ذلكَ سببًا لضعفِها وعجزِها عن أداءِ شيءٍ مِن فرائضِ اللهِ عليهِ ومِن حقوقِ اللهِ عز وجل أو حقوقِ عبادِهِ؛ كانَ بذلكَ عاصيًا، وإنْ كانَ ذلكَ سببًا للعجزِ عن نوافلَ هيَ أفضلُ ممَّا فَعَلَهُ؛ كانَ بذاكَ مفرِّطًا مغبونًا خاسرًا.

وقد كانَ رجلٌ في زمنِ التَّابعينَ يَصومُ ويُواصِلُ حتَّى يَعْجِزَ عنِ القيامِ، فكانَ يُصَلِّي الفرضَ جالسًا، فأنْكَروا ذلكَ عليهِ، حتَّى قالَ عَمْرُو بنُ مَيْمونٍ: لو أدْرَكَ هذا أصحابُ مُحَمَّدٍ لَرَجَموهُ.

وكانَ ابنُ مَسْعودٍ يُقِلُّ الصِّيامَ ويَقولُ: إنَّهُ يُضْعِفُني عن قراءةِ القرآنِ، وقراءةُ القرآنِ أحبُّ إليَّ.

وأحْرَمَ رجلٌ مِن الكوفةِ، فقَدِمَ مَكَّةَ وقد أصابَهُ الجهدُ، فرَآهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وهوَ سيِّئُ الهيئةِ، فأخَذَ عُمَرُ بيدِهِ وجَعَلَ يَدورُ بهِ الحلقَ ويَقولُ للنَّاسِ: انْظُروا إلى ما يَصْنَعُ هذا بنفسِهِ وقد وَسَّعَ اللهُ عليهِ!

فمَن تَّكَلَّفَ مِن التَّطوُّعِ ما يَتَضَرَّرُ بهِ في جسمِهِ كما فَعَلَ هذا الباهِلِيُّ، أو مَنَعَ بهِ حقًّا واجبًا عليهِ كما فَعَلَ عَبْدُ اللهِ بنُ عَمْرِو بنِ العاصِ وغيرُهُ ممَّن عَزَمَ على تركِ المباحاتِ في عهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّهُ يُنْهى عن ذلكَ. ومنِ احْتَمَلَ بدنُهُ ذلكَ ولم يَمْنَعْهُ مِن حقٍّ واجبٍ عليهِ؛ لم يُنْهَ عن ذلكَ إلَّا أنْ يَمْنَعَهُ عمَّا هوَ أفضلُ مِن ذلكَ مِن النَّوافلِ؛ فإنَّهُ

(1)

متّفق عليه. تقدّم تفصيل القول فيه (ص 295).

ص: 561

يُرْشَدُ إلى عملِ الأفضلِ

(1)

.

وأحوالُ النَّاس تَخْتَلِفُ فيما تَحْمِلُ أبدانُهُم مِن العملِ.

كانَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ يَصومُ ثلاثَةَ أيَّامٍ مِن الشَّهرِ فيُرى أثرُ ذلكَ عليهِ، وكانَ غيرُهُ في زمنِهِ يَصومُ الدَّهرَ فلا يَظْهَرُ عليهِ أثرُهُ

(2)

.

وكانَ كثيرٌ مِن المتقدِّمينَ يَحْمِلونَ على أنفسِهِم مِن الأعمالِ ما يُضِرُّ بأجسادِهِم ويَحْتَسِبونَ أجرَ ذلكَ عندَ اللهِ، وهؤلاءِ قومٌ أهلُ صدقٍ وجدٍّ واجتهادٍ فيُحَيَّوْنَ على ذلكَ

(3)

، ولكنْ لا يُقْتَدى بهِم، وإنَّما يُقْتَدى بسنَّةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ خيرَ الهَدْيِ هديُهُ، ومَن أطاعَهُ فقدِ اهْتَدى، ومنِ اقْتَدى بهِ وسَلَكَ وراءَهُ وَصَلَ إلى اللهِ عز وجل.

• وقد كانَ صلى الله عليه وسلم يَنْهى عنِ التَّعسيرِ ويَأْمُرُ التَّيسِيرِ

(4)

، ودينُهُ الذي بُعِثَ بهِ يُسْرٌ.

وكانَ يَقولُ: "خيرُ دينِكُم أيسرُهُ"

(5)

.

(1)

إن وقع فيما نهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عنه أثم ولو احتمله بدنه: كأن يصوم الدهر مثلًا، أو يداوم على قيام الليل كلّه، أو يقرأ القرآن كلّ يوم أو يومين

(2)

فهذا آثم ولو لم يظهر عليه أثر ولا ضرر.

(3)

قصارى ما يقال في المتعمّقين أنّهم معذورون بجهلهم أو بتأوّلهم، ولا يستحقّ التحيّة والثناء إلّا أهل الاتّباع.

(4)

رواه: البخاري (3 - العلم، 11 - ما كان يتخوّلهم بالموعظة، 1/ 163/ 69)، ومسلم (32 - الجهاد، 3 - الأمر بالتيسير، 3/ 1359/ 1734)؛ عن أنس. وفي الباب عندهما عن جماعة من الصحابة.

(5)

(صحيح). وقد جاء عن جماعة من الصحابة: فرواه: الطيالسي (1296)، وأحمد (4/ 338، 5/ 32)، والبخاري في "الأدب"(341)، وعمر بن شبّة في "المدينة"(1/ 275)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2383)، والطبراني في "الكبير"(18/ 230 / 573، 20/ 296/ 704 - 707) و"الأوسط"(2497)، وابن شاهين (2/ 58 - إصابة)، والقضاعي (1224)، والمزّي في "التهذيب"(9/ 160)؛ من طرق، [عن عبد الله بن شقيق]، [عن رجاء بن أبي رجاء]، (قال مرّة: عن عمران بن حصين، ومرّة: عن محجن بن الأدرع، ومرّة: عن بريدة)

رفعه. وهذا سند ضعيف فيه علل: أولاها: اختلافهم في إثبات ابن شقيق وإسقاطه، والصواب إثباته وإسقاطه وهم، والرجل ثقة، فالعلّة غير قادحة. والثانية: اختلافهم في إثبات رجاء وأسقاطه، وإثباته زيادة ثقة يتعيّن المصير إليها، ورجاء مجهول. والثالثة: اختلافهم على الصحابيّ، ولا يضرّ. فالعلّة الثانية وحدها هي القادحة. ورواه: الطبراني في "الصغير"(1068)، وابن عدي (3/ 1243)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(3/ 214 و 554 و 577)، والقضاعي (1225)، والضياء في "المختارة"(7/ 132/ 2565)؛ من طرق ثلاث، عن=

ص: 562

ورَأى رجلًا يُكْثِرُ الصَّلاةَ، فقالَ:"إنَّكُم أُمَّةٌ أُريدَ بكُمُ اليسرَ"

(1)

.

ولم يَكُنْ أكثرُ تطوُّعِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وخواصِّ أصحابِهِ بكثرةِ الصَّومِ والصَّلاةِ، بل ببرِّ القلوبِ وطهارتِها وسلامتِها وقوَّةِ تعلُّقِها باللهِ خشيةً لهُ ومحبّهً وإجلالًا وتعظيمًا ورغبةً فيما عندَهُ وزهدًا فيما يَفْنى.

وفي "المسند": عن عائِشَةَ؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إنِّي أعلمُكُم باللهِ وأتقاكُم لهُ قلبًا"

(2)

.

قالَ ابنُ مَسْعودٍ لأصحابِهِ: أنتم أكثرُ صلاةً وصيامًا مِن أصحابِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وهُم كانوا خيرًا منكُم. قالوا: ولمَ؟ قالَ: كانوا أزهدَ منكُم في الدُّنيا وأرغبَ في الآخرةِ.

وقال بَكْرٌ المُزنِيُّ: ما سَبَقَهُم أبو بَكْرٍ بكثرةِ صيامٍ ولا صلاةٍ، ولكنْ بشيءٍ وَقَرَ في صدرِهِ. قالَ بعضُ العلماءِ المتقدِّمينَ: الذي وَقَرَ في صدرِهِ هوَ حبُّ اللهِ والنَّصيحةُ لخلقِهِ.

وسُئِلَتْ فاطِمَةُ بنتُ عَبْدِ المَلِكِ زوجةُ عُمَرَ بنِ عَبْدِ العَزيزِ بعدَ وفاتِهِ عن عملِهِ. فقالَتْ: واللهِ، ما كانَ بأكثرَ النَّاسِ صلاةً ولا بأكثرِهِم صيامًا، ولكنْ واللهِ ما رَأيْتُ أحدًا أخوفَ للهِ مِن عُمَرَ، لقد كانَ يَذْكُرُ اللهَ في فراشِهِ فيَنْتَفِضُ انتفاضَ العصفورِ مِن شدَّةِ الخوفِ حتَّى نَقولَ: لَيُصْبِحَنَّ النَّاسُ ولا خليفةَ لهُم.

= أنس

رفعه. والطرق الثلاث ضعيفة، لكنّ اجتماعها يرشّح الحديث للانتفاع بالشواهد. ورواه: مسدّد في "المسند"(2/ 58 - إصابة)، وأحمد بن منيع في "المسند"(2/ 58 - إصابة)، والروياني (58)؛ من طريقين، عن رجل من أسلم

رفعه. وإحدى طريقيه قويّة.

ورواه أحمد (3/ 479) من طريق أبي هلال الراسبي، سمعت حميد بن هلال، عن أبي قتادة، عن أعرابيّ

رفعه. قال العسقلاني: "سند صحيح". قلت: في أبي هلال كلام، وحديثه ليّن.

وهذا اللفظ صحيح بمجموع هذه الطرق، وقد مال إلى تقويته الضياء المقدسيّ والعراقي والهيثمي والعسقلاني والعجلوني والمناوي.

(1)

(حسن بشواهده). هذا أحد ألفاظ حديث عبد الله بن شقيق المتقدّم بيان ضعفه آنفًا. لكن يشهد لهذه القطعة الطرق الأُخرى المتقدّمة وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .

(2)

رواه: أحمد (6/ 61)، والبخاري (2 - الإيمان، 13 - أنا أعلمكم بالله، 1/ 70/ 20)؛ من الطريق نفسها عن عائشة.

ص: 563

قالَ بعضُ السَّلفِ: ما بَلَغَ مَن بَلَغَ عندَنا بكثرةِ صلاةٍ ولا صيامٍ، ولكنْ بسخاوةِ النُّفوسِ وسلامةِ الصُّدورِ والنُّصحِ للأُمَّةِ. وزادَ بعضُهُم: واحتقارِ أنفسِهِم.

وذُكِرَ [لـ]ـبعضِهِم شدَّةُ اجتهادِ بني إسْرائيلَ في العبادةِ، فقالَ: إنَّما يُريدُ اللهُ منكُم صدقَ النِّيِّةِ فيما عندَهُ. فمَن كانَ باللهِ أعرفَ ولهُ أخوفَ وفيما عندَهُ أرغبَ؛ فهوَ أفضلُ ممَّن دونَهُ في ذلكَ وإنْ كَثُرَ صومُهُ وصلاتُهُ.

قالَ أبو الدَّرْداءِ: يا حَبَّذا نومُ الأكياسِ وفطرُهُم كيفَ يَسْبِقُ سَهَرَ الجاهلينَ وصيامَهُم! ولهذا المعنى كانَ فضلُ العلمِ النَّافعِ الدَّالِّ على معرفةِ اللهِ وخشيتِهِ ومحبَّتِهِ ومحبَّةِ ما يُحِبُّهُ وكراهةِ ما يَكْرَهُهُ - لا سيَّما عندَ غلبةِ الجهلِ والتَّعبُّدِ بهِ - أفضلَ مِن التَّطوُّعِ بأعمالِ الجوارحِ.

قالَ ابنُ مَسْعودٍ: أنتُم في زمانٍ العملُ فيهِ أفضلُ مِن العلمِ، وسَيَأْتي زمانٌ العلمُ فيهِ أفضلُ مِن العملِ.

[و] قالَ مُطَرِّفٌ: فضلُ العلمِ أحبُّ إليَّ مِن فضلِ العبادةِ، وخيرُ دينِكُمُ الورعُ. وخَرَّجَهُ الحاكمُ وغيرُهُ مرفوعًا

(1)

.

(1)

(صحيح مرفوعًا). هذا حديث يرويه الأعمش وفيه خلاف أجمله في الأوجه التالية: روى أوّلها ابن الجوزي في "الواهيات"(78) من طريق أبي مطيع، عنه، عن أبي صالح، عن أبي هريرة

رفعه بنحوه. وأبو مطيع هو الحكم بن عبد الله البلخي متّهم متروك. وروى الثاني: البزّار (139 - كشف)، والطبراني في "الأوسط"(3972)، وابن عديّ في "الكامل"(4/ 1514)، والحاكم (1/ 92)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 211)، والبيهقي في "المدخل"(455)، والقاضي في "علل الترمذي"(ص 341/ رقم 633)، وابن الجوزي في "الواهيات"(76)؛ من طريق عبد الله بن عبد القدّوس، عنه، عن مطرّف، عن حذيفة

رفعه. وعبد الله بن عبد القدّوس صاحب مناكير لا يعدو أن يكون صالحًا في الشواهد، وبه أعلّه الهيثمي (1/ 125). وروى الثالث: أبو خيثمة في "العلم"(13)، وابن سعد (7/ 72)، وأحمد في "الزهد"(1338)، والفسوي في"المعرفة"(3/ 397)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 211 و 212)، والبيهقي في "الشعب"(1706) و"المدخل"(457)، وابن عبد البرّ في "العلم"(1/ 28)؛ من طرق، عن الأعمش وقتادة وغيرهما، عن مطرّف

فذكره من قوله. وهذا قويّ بالمتابعات؛ لأنّه منقطع بين الأعمش ومطرّف؛ فقد بيّنت بعض الروايات أنّه بلاغ، وقد قوّاه البزّار والدارقطني والبيهقي.

ص: 564

ونَصَّ كثيرٌ مِن الأئمَّةِ على أنَّ طلبَ العلمِ أفضلُ مِن صلاةِ النَّافلةِ، وكذلكَ الاشتغالُ بتطهيرِ القلوبِ أفضلُ مِن الاستكثارِ مِن الصَّومِ والصَّلاةِ معَ غشِّ القلوبِ ودغلِها. ومثلُ مَن يَسْتكثِرُ مِن الصَّومِ والصَّلاةِ معَ دغلِ القلبِ وغشِّهِ كمثلِ مَن بَذَرَ بذرًا في أرضٍ دغلةٍ كثيرةِ الشَّوكِ فلا يَزْكو ما يَنْبُتُ فيها مِن الزَّرعِ بل يَمْحَقُهُ دغلُ الأرضِ

= وروى الرابع: الشاشي (75)، والإسماعيلي في "المعجم"(1/ 355)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(3/ 276)، والدارقطني في "العلل"(591)، والحاكم (1/ 92)، والبيهقي في "المدخل"(454) و"الزهد"(817)، والضياء في "المختارة"(3/ 264/ 1068)؛ من طريق حمزة بن حبيب الزيّات، عنه، [عن رجل]، عن مصعب بن سعد، عن سعد

رفعه. وحمزة هو القارئ المشهور صدوق، والرجل المبهم صرّح الحاكم والبيهقي أنّه الحكم بن عتيبة الثقة الثبت، فالسند حسن، وقد صحّحه الحاكم والذهبي والألباني.

فالأوّل ساقط. والثاني مرجوح. والثالث أقواها؛ لقوّة الطريق إلى الأعمش، ولأنّه توبع عليه. والرابع دون الثالث قوّة، ولكنّه ليس بالمرجوح؛ لأنّه لا يبعد أن يكون للأعمش - على سعة روايته - إسنادان في حديث واحد، ولأنّ أصل التوفيق بين المرويّات بعد صحّتها لا ضرب بعضها ببعض.

* ثمّ له شاهد يرويه: ابن عدي (6/ 2170)، والبيهقي في "الشعب"(5751)؛ من طريق محمّد بن عبد الملك الأنصاري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة

رفعته. والأنصاريّ متّهم * وآخر يرويه: الطبراني (11/ 32/ 10969)، وابن عدي (3/ 1293)، وأبو الشيخ في "الثواب"، والقضاعي (40 و 1292)، وابن عبد البرّ في "العلم"(1/ 27)، والخطيب في "التاريخ"(4/ 436)، وابن الجوزي في "الواهيات"(77)؛ من طريق سوّار بن مصعب، عن ليث، عن طاووس، عن ابن عبّاس

رفعه. قال الهيثمي (1/ 125): "فيه سوّار بن مصعب، ضعيف جدًّا". قلت: متروك ساقط الحديث.

* وثالث يرويه: وكيع في "الزهد"(222)، وابن أبي شيبة (26106 و 34394)، وابن أبي الدنيا في "الورع"، وابن عبد البرّ في "العلم"(1/ 26)؛ من طريق سفيان، عن عمرو بن قيس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

به. وإسناده قويّ، ولكنّه معضل.

* ورابع رواه هنّاد في "الزهد"(947) من طريق قويّة، عن الحسن وابن سيرين، عن النبي صلى الله عليه وسلم

به. وهذا مرسل جيّد.

* وخامس يرويه ابن عبد البرّ في "العلم"(1/ 27) من طريق صهيب بن محمّد بن عبّاد، ثنا بشر بن إبراهيم، ثنا خليفة بن سليمان، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

رفعه. وهذا ساقط: بشر كذّاب يضع، وصهيب إن كان ابن أخي عبّاد فهالك وإلّا فما عرفته، وخليفة ما عرفته.

* وللقطعة الأخيرة منه شاهد من حديث ابن عمر رواه: الطبراني في "الأوسط"(9260) و"الصغير"(1116)، والقضاعي (1290)، والخطيب في "الفقيه والمتفقّه"(1/ 21)؛ عن ابن عمر

رفعه. وقد ضعّفه الهيثمي والعراقي.

وهذه الأسانيد في الضعف كما ترى، ولكنّ اجتماع مرفوعي سعد وابن عمر مع مراسيل الحسن وابن سيرين وعمرو بن قيس يرجّح أنّ للحديث أصلًا عنه صلى الله عليه وسلم، وقد قوّاه الحاكم والذهبي والألباني.

ص: 565

ويُفْسِدُهُ، فإذا نُظِّفَتِ الأرضُ مِن دغلِها زَكا ما يَنْبُتُ فيها ونَما.

قالَ يَحْيى بنُ مُعاذٍ: كم مِن مُسْتَغْفِرٍ ممقوتٍ وساكتٍ مرحومٍ؛ هذا اسْتَغْفَرَ وقلبُهُ فاجرٌ، وهذا سَكَتَ وقلبُهُ ذاكرٌ

(1)

.

وقالَ غيرُهُ: ليسَ الشَّأْنُ فيمَن يَقومُ الليلَ، إنَّما الشَّأْنُ فيمَن يَنامُ على فراشِهِ ثمَّ يُصْبِحُ وقد سَبَقَ الرَّكبَ.

مَن سارَ على طريقِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم ومنهاجِهِ وإنِ اقْتَصَد فإنَّهُ يَسْبِقُ مَن سارَ على غيرِ طريقِهِ وإنِ اجْتَهَد.

مَنْ لي بِمِثْلِ سَيْرِكَ المُدَلَّلِ

تَمْشي رُوَيْدًا وتَجي في الأوَّلِ

• والمقصودُ أنَّ هذا الباهِلِيَ لمَّا رَآهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وقد أنْهَكَهُ الصَّومُ وغَيَّرَ هيئتَهُ وأضَرَّ بهِ في جسدِهِ؛ أمَرَهُ [أوَّلًا] أنْ يَقْتَصِرَ على صيامِ شهرِ الصَّبرِ، وهوَ شهرُ رمضانَ؛ فإنَّهُ الشَّهرُ الذي افْتَرَضَ اللهُ صيامَهُ على المسلمينَ، واكْتَفى منهُم بصيامِهِ مِن السَّنةِ كلِّها، وصيامُهُ كفَّارةٌ لِما بينَ الرَّمضانينِ إذا اجْتُنِبَتِ الكبائرُ. فطَلَبَ منهُ الباهِلِيُّ أنْ يَزيدَهُ مِن الصِّيامِ ويَأْمُرَهُ بالتَّطوُّعِ وأخْبَرَهُ أنَّهُ يَجِدُ قوَّةً على الصِّيامِ، فقالَ لهُ:"صُمْ يومًا مِن الشَّهرِ". فاسْتَزادَهُ، وقالَ: إنِّي أجِدُ قوَّةً. فقالَ: "صُمْ يومينِ مِن الشَّهرِ". فاسْتَزادَهُ، وقالَ: إنِّي أجِدُ قوَّةً. فقالَ: "صُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ مِن الشَّهرِ". قالَ: وألَحَّ عندَ الثَّالثةِ فما كادَ؛ يَعْني: ما كادَ يَزيدُهُ على الثَّلاثةِ أيَّامٍ مِن الشَّهرِ.

وهكذا قالَ لعَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ أيضًا، ففي "صحيح مسلم"

(2)

عنهُ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لهُ: "صُمْ يومًا (يَعْني: مِن الشَّهرِ) ولكَ أجرُ ما بَقِيَ". قالَ: إنِّي أُطيقُ أكثرَ مِن ذلكَ. قالَ: "صُمْ يومينِ ولكَ أجرُ ما بَقِيَ". قالَ: إنِّي أُطيقُ أكثرَ مِن ذلكَ. قالَ: "صُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ ولكَ أجرُ ما بَقِيَ".

ففي هذا أنَّ صيامَ يومٍ مِن الشَّهرِ يَحْصُلُ بهِ أجرُ صيامِ الشَّهرِ كلِّهِ، وكذلكَ صيامُ

(1)

في خ: "هذا يستغفر وقلبه فاجر وهذا ساكت وقلبه ذاكر".

(2)

(13 - الصيام، 35 - النهي عن صوم الدهر، 2/ 817/ 191). والحديث عند البخاري أيضًا كما تقدّم (ص 295). لكن الكلام هنا في هذا اللفظ بالتحديد.

ص: 566

يومينِ منهُ. ووجهُ ذلكَ أنَّ الصِّيامَ يُضاعَفُ ما لا يُضاعَفُ غيرُهُ مِن الأعمالِ، وقد سَبَقَ ذكرُ ذلكَ عندَ الكلامِ على حديثِ "كلُّ عملِ ابنِ آدَمَ لهُ الحسنةُ بعشرِ أمثالِها إلى سبعِ مئةِ ضعفٍ، قالَ اللهُ عز وجل: إلَّا الصِّيامَ؛ فإنَّهُ لي وأنا أجزي بهِ"

(1)

، فالصِّيامُ لا يَعْلَمُ منتهى مضاعفتِهِ إلَّا اللهُ عز وجل، وكلَّما قَوِيَ الإخلاصُ فيهِ وإخفاؤُهُ وتنزيهُهُ عنِ المحرَّماتِ والمكروهاتِ؛ كَثُرَتْ مضاعفتُهُ. فلا يُسْتَنكرُ أنْ يَصومَ الرَّجلُ يومًا مِن الشَّهرِ فيُضاعَفَ لهُ بثوابِ ثلاثينَ يومًا فيُكْتَبَ لهُ صيامُ الشَّهرِ كلِّهِ. وكذلكَ إذا صامَ يومينِ مِن الشَّهرِ. وأمَّا إذا صامَ منهُ ثلاثةَ أيَّامٍ؛ فهوَ ظاهرٌ؛ لأنَّ الحسنةَ بعشرِ أمثالِها.

وخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ عن أبي ذَرٍّ؛ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَن صامَ مِن كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ؛ كانَ كمَن صامَ الدَّهرَ". فأنْزَلَ اللهُ تَعالى تصديقَ ذلكَ: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 165]؛ اليومُ بعشرةِ أيَّامٍ

(2)

.

وفي الصَّحيحينِ

(3)

: عن عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو؛ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "صُمْ مِن الشَّهرِ ثلاثةَ أيَّامٍ؛ فإنَّ الحسنةَ بعشرِ أمثالِها، وذلكَ مثلُ صيامِ الدَّهرِ".

(1)

متّفق عليه. تقدّم تفصيل القول في شرحه وتخريجه (ص 353).

(2)

(صحيح لشواهده). رواه: أحمد (5/ 145)، وابن ماجه (7 - الصيام، 39 - صيام ثلاثة أيّام، 1/ 545/ 1708)، والترمذي (6 - الصوم، 54 - صوم ثلاثة أيّام، 3/ 135/ 762)، والبزّار (9/ 345/ 3904)، والنسائي في "السنن الكبرى"(2717) و"المجتبى"(22 - الصيام، 82 - الاختلاف على أبي عثمان، 4/ 218/ 2408)، وابن عدي (6/ 2431)، والبغوي (1801)؛ من طرق، عن أبي عثمان النهدي، عن أبي ذرّ

رفعه. قال الترمذي: "حسن صحيح". وأقرّه البغوي والمنذري. وقال الألباني: "على شرط الشيخين". قلت: لم يخرّجا شيئًا من رواية النهديّ عن أبي ذرّ، وقد تكلّموا فيها، على أنّ للسند علّة أشار إليها النسائي في تبويبه والدارقطني في "العلل" (1141) فقال:"يرويه عاصم عن أبي عثمان عن أبي ذرّ، يرويه أصحاب عاصم عنه كذلك، وخالفهم شيبان [ثقة] فرواه عن عاصم وأدخل بين أبي عثمان وبين أبي ذرّ رجلًا لم يسمّ". قلت: وتابعه عبد الله عند النسائي في "الكبرى"(2718) و"المجتبى"(الموضع السابق، 2409). فالرجل المبهم زيادة ثقة يتعيّن الأخذ بها ولا سيّما أنّهم تكلّموا في سماع أبي عثمان من أبي ذرّ.

وللحديث طريق أُخرى عند العقيلي (3/ 158) لكنّها واهية بضعيفين.

وله طرق أُخرى عن أبي ذرّ بنحوه وستأتي ألفاظه قريبًا.

ويشهد له ما بعده، فهو به صحيح.

(3)

البخاري (30 - الصوم، 56 - صوم الدهر، 4/ 220/ 1976)، ومسلم (13 - الصيام، 35 - النهي عن صوم الدهر، 2/ 812/ 1159).

ص: 567

وفي روايةٍ فيهِما أيضًا

(1)

: "إنَّ بحسبِكَ أنْ تَصومَ مِن كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ؛ فإنَّ لكَ بكل حسنةٍ عشرَ أمثالِها، فإذنْ ذلكَ صيامُ الدَّهرِ كلِّهِ".

وفي "المسند": عن قُرَّةَ المُزَنِيِّ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"صيامُ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ صيامُ الدَّهرِ وإفطارُهُ"

(2)

؛ يَعْني: صيامَهُ في مضاعفةِ اللهِ وإفطارَهُ في رخصةِ اللهِ، كما كانَ أبو هُرَيْرَةَ وأبو ذَرٍّ رضي الله عنهما يَقولانِ ذلكَ، وكانا يَصومانِ ثلاثةَ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ ويَقولانِ في سائرِ أيَّامِ الشَّهرِ: نحنُ صيامٌ، ويَتَأوَّلانِ أنَّهُما صيامٌ في مضاعفةِ اللهِ وهُما مفطرانِ في رخصةِ اللهِ.

وقد وَصَّى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جماعةً مِن أصحابِهِ بصيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، منهُم أبو هُرَيْرَةَ وأبو الدَّرْداءِ وأبو ذَرٍّ وغيرُهُم

(3)

.

(1)

البخاري (78 - الأدب، 84 - حقّ الضيف، 10/ 531/ 6134)، ومسلم (الموضع السابق، 2/ 814/ 1159).

(2)

(صحيح). رواه: الطيالسي (1074)، وابن الجعد (1126)، وأحمد (3/ 435 و 436، 4/ 19، 5/ 34 و 35)، والدارمي (2/ 19)، والبخاري في "التاريخ"(7/ 238)، والبزّار (1059 - كشف، 3/ 199 - مجمع)، والروياني (939)، وابن قانع (2/ 358/ 900)، وابن حبّان (3652 و 3653)، والطبراني (19/ 26/ 53)؛ من طريق شعبة، عن معاوية بن قرّة، عن أبيه

رفعه. قال المنذري: "إسناده صحيح". وقال الهيثمي: "رجال أحمد رجال الصحيح". وصحّحه الألباني.

(3)

أمّا حديث أبي هريرة؛ فعند: البخاري (19 - التهجّد، 33 - الضحى في الحضر، 3/ 56/ 1178)، ومسلم (6 - المسافرين، 13 - صلاة الضحى، 1/ 499/ 721). وأمّا حديث أبي الدرداء؛ فتفرّد به مسلم (الموضع السابق، 1/ 499/ 722). وأمّا حديث أبي ذرّ؛ فرواه: أحمد (5/ 173)، والنسائي في "الكبرى"(2712) و"المجتبى"(22 - الصيام، 81 - صوم ثلاثة أيّام، 4/ 217/ 2403)، وابن خزيمة (1083 و 1221 و 2122)، وابن المنذر في "الأوسط"(5/ 170)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(8/ 140)؛ من طريق صحيحة، عن عطاء بن يسار، عن أبي ذرّ

رفعه. وسماع عطاء من أبي ذرّ محتمل جدًّا، فالسند صحيح، وقد صحّحه الألباني. ورواه: بحشل في "واسط"(ص 212) من طريق القاسم بن عثمان البصري عن أنس بن مالك، والطبراني في "الأوسط"(9091) من طريق المطّلب بن عبد الله بن حنطب؛ كلاهما عن أبي ذرّ

رفعه. والقاسم ضعيف، والمطّلب كثير الإرسال، فالوجهان ضعيفان.

وله طريق أُخرى مفصّلة سيأتي تفصيل القول فيها عند ذكر الأيّام البيض.

فإن لم يصحّ الحديث بالطريق الأولى وحدها؛ فهو صحيح بمجموع طرف، وقد قوّاه ابن خزيمة والمنذري والهيثمي والألباني.

ص: 568

وفي "المسند": أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في صيامِ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ: "هوَ صومٌ حسنٌ"

(1)

.

وفيهِ أيضًا: عن أبي ذَرٍّ؛ قالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: "صومُ شهرِ الصَّبرِ وثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ صومُ الدَّهرِ ويُذْهِبُ مغلَّةَ الصَّدرِ". قُلْتُ: وما مغلَّةُ الصَّدرِ؟ قالَ: "رجسُ الشَّيطانِ"

(2)

.

وفيهِ أيضًا: عن رجلٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"صيامُ شهرِ الصَّبرِ وثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ يُذْهِبْنَ كثيرًا مِن وحرِ الصَّدرِ"

(3)

. وفي غيرِ هذهِ الرِّوايةِ: "وغرِ الصَّدرِ". وهُما بمعنًى واحدٍ، يُقالُ: وَحَرَ صدرُهُ ووَغَرَ إذا كانَ فيهِ غلٌّ وغشٌّ، وقيلَ: الوحرُ الغلُّ

(1)

(صحيح). رواه: ابن أبي شيبة (8891)، وأحمد (4/ 22 و 217)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(1542 و 1543)، والنسائي في "الكبرى"(2719) و"المجتبى"(22 - الصيام، 82 - الاختلاف على أبي عثمان، 4/ 219/ 2410 و 2411)، وابن خزيمة (1891 و 2125)، والروياني (1522)، وابن حبّان (3649)، والطبراني في "الكبير"(9/ 51/ 8360 و 8361 و 8364)، والبيهقي في "الشعب"(3573)؛ كلّهم من طريق سعيد بن أبي هند إلّا الطبراني في الموضع الأخير فمن طريق يزيد بن عبد الله بن الشخّير، كلاهما [عن مطرّف]، عن عثمان بن أبي العاص

رفعه. وهذا سند صحيح، وقد صحّحه ابن خزيمة وابن حبّان والمنذري والألباني.

(2)

(صحيح لشواهده). رواه: الطيالسي (482)، وأحمد (5/ 154)، والبيهقي في "الشعب"(3856)؛ من طريق قويّة، عن رجل من تميم، عن أبي ذرّ

رفعه. وهذا ضعيف من أجل الرجل المبهم، لكن يشهد له ما بعده، فمغلّة الصدر ووحره ووغره واحد.

(3)

(صحيح). رواه: عبد الرزّاق (7877)، وأبو عبيد في "الأموال"(30)، وابن أبي شيبة (36624)، وابن سعد (1/ 279)، وأحمد (5/ 77 - 78 و 363)، وابن زنجويه في "الأموال"(80)، والبخاري في "التاريخ"(7/ 238)، وأبو داوود (14 - الخراج، 21 - سهم الصفيّ، 2/ 169/ 2999) مختصرًا، والنسائي (38 - الفيء، 7/ 134/ 4157) مختصرًا، وابن الجارود (1099)، والطحاوي (3/ 302 - 303)، وابن قانع (3/ 165/ 1140)، وابن حبّان (6557)، والطبراني في "الأوسط"(4937)، والبيهقي في "السنن"(6/ 303، 7/ 58) و"الشعب"(3857 و 3858)، وابن عبد البرّ في "الاستيعاب"(3/ 580) معلّقًا، وابن الأثير في "الغابة"(4/ 254، 5/ 205)؛ من طرق، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخّير، عن رجل من الأعراب من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم

رفعه.

قال الهيثمي (3/ 199): "رجال أحمد رجال الصحيح". قلت: جهالة الصحابيّ لا تضرّ، وقد سمّاه ابن حبّان وابن عبد البرّ وابن الأثير والعسقلاني النمر بن تولب. وصحّح حديثه ابن حبّان والمنذري والهيثمي والألباني. وله شواهد عن جماعة من الصحابة.

ص: 569

والوغرُ الغيظُ.

وقد كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى صيامَ ثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ، وكذلكَ كانَ إبْراهيمُ عليه السلام:

كما خَرَّجَهُ ابنُ ماجَهْ مِن حديثِ عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ مرفوعًا؛ قالَ: "صيامُ إبْراهيمَ ثلاثةُ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ؛ صامَ الدَّهرَ وأفْطَرَ الدَّهرَ"

(1)

.

وفي "السنن": عن حَفْصَةَ؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَصومُ العشرَ وعاشوراءَ وثلاثةَ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ

(2)

. وفي إسنادِهِ اختلافٌ.

• وفي "صحيح مسلم"

(3)

: عن عائِشَةَ؛ أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كانَ يَصومُ ثلاثةَ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ. قيلَ لها: مِن أيِّهِ كانَ يَصومُ؟ قالَتْ: كانَ لا يُبالي مِن أيِّهِ صامَ.

* ففي هذا الحديثِ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم لم يَكُنْ يُبالي مِن أيِّ الشَّهرِ صامَ الأيَّامَ الثَّلاثةَ.

وقد رُوِيَ في صفةِ صيامِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للأيَّامِ الثَّلاثةِ مِن الشَّهرِ أنواعٌ أُخرُ:

* أحدُها: ما خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ عائِشةَ؛ قالَتْ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَصومُ مِن الشَّهرِ السَّبتَ والأحدَ والاثنينِ، ومِن الشَّهرِ الآخرِ الثُّلاثاءَ والأربعاءَ والخميسَ

(4)

. وقالَ: حديثٌ حسنٌ. وذَكَرَ أنَّ بعضَهُم رواهُ موقوفًا - يَعْني: مِن فعلِ

(1)

(ضعيف). رواه: ابن ماجه (7 - الصيام، 32 - صيام نوح، 1/ 547/ 1714)، والطبراني في "الكبير"(1/ 188 - بداية، 3/ 198 - مجمع)، والبيهقي في "الشعب"(3846)، والمزّي في "التهذيب"(32/ 121)؛ من طريقين قويّتين، عن ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة (وفي البداية والتهذيب: عن أبي قنان)، عن أبي فراس يزيد بن رباح، عن ابن عمرو

رفعه مطوّلًا ومختصرًا. قال المنذري: "في إسناده أبو فراس، لم أقف فيه على جرح ولا تعديل ولا أراه يعرف". وردّه البوصيري بقوله: "وليس كما زعم". قلت: يعني أنّ أبا فراس هذا رجل ثقة معروف واسمه يزيد بن رباح ولا تعلّ النصوص بأمثاله. وزاد البوصيري: "ضعيف لضعف ابن لهيعة"، وأقرّه الألباني. وقال الهيثمي (3/ 198):"فيه أبو قنان ولم أعرفه". قلت: فهاهنا علّتان قادحتان: ضعف ابن لهيعة، وأنّه اضطرب فيه فقال مرّة جعفر بن ربيعة ومرّة أبو قنان، وأبو قنان هذا لا يعرف.

(2)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 128 - 130).

(3)

(13 - الصيام، 36 - صيام ثلاثة من كل شهر، 2/ 818/ 1160).

(4)

(ضعيف). رواه الترمذي (6 - الصوم، 44 - صوم الاثنين والخميس، 3/ 122/ 746): ثنا ابن غيلان، ثنا أبو أحمد ومعاوية بن هشام، ثنا سفيان، عن منصور، عن خيثمة، عن عائشة

رفعته.

ص: 570

عائِشَةَ - غيرَ مرفوعٍ.

* الثَّاني: ما خَرَّجَهُ أبو داوودَ وغيرُهُ مِن حديثِ حَفْصَةَ؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَصومُ ثلاثةَ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ؛ الاثنينِ والخميسِ والاثنينِ مِن الجمعةِ الأُخرى

(1)

. فعلى هذهِ الرِّوايةِ كانَ صلى الله عليه وسلم يَجْعَلُها مِن أوَّلِ الشَّهرِ ولا يُوالي بينَها، بل كانَ يَتَحَرَّى بها يومَ الاثنينِ مرَّتينِ والخميسِ مرَّةً.

* الثَّالثُ: عكسُ الثَّاني. خَرَّجَهُ النَّسائِيُّ مِن حديثِ حَفْصَةَ أيضًا، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَصومُ مِن كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ؛ أوَّلَ اثنينِ مِن الشَّهرِ ثمَّ الخميسَ ثمَّ الخميسَ الذي يَليهِ

(2)

. وفي روايةٍ لهُ أيضًا: أوَّلَ اثنينِ مِن الشَّهرِ وخميسينِ

(3)

. وخَرَّجَ أبو داوودَ مِن حديثِ أُمِّ سَلَمَةَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم معنى ذلكَ

(4)

.

* وفي روايةٍ في "المسند": "الاثنينِ والجمعةَ والخميسَ"

(5)

. وكأنَّها غيرُ محفوظةٍ، فإنْ كانَـ[ـتْ] محفوظةً؛ فهوَ نوعٌ رابعٌ.

* والنَّوعُ الخامسُ: ما خَرَّجَهُ أبو داوودَ والنَّسائِيُّ والتِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ ابنِ مَسْعودٍ؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَصومُ مِن غرَّةِ كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيَّامٍ

(6)

. وحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وذَكَرَ

= قال الترمذي: "حديث حسن". وأقرّه ابن القيّم والسيوطي وعبد الحقّ والمناوي. قلت: لكن هاهنا علّتان: أشار الترمذي إلى أولاهما بقوله: "وروى عبد الرحمن بن مهدي هذا الحديث عن سفيان ولم يرفعه". قلت: هذه علّة ينبغي الوقوف عندها؛ فإنّ أبا أحمد كثير الخطأ في حديث الثوري ومعاوية صدوق يخطئ، فأين هما من عبد الرحمن بن مهدي جبل الحفظ وأكثر الناس لزومًا للثوري ومعرفة لحديثه؟! وأشار إلى العلّة الثانية ابن القطّان بقوله:"وينبغي البحث عن سماع خيثمة من عائشة فإنّي لا أعرفه". ولذلك قال العسقلاني: "روي موقوفًا وهو أشبه"، وضعّفه الألباني.

(1)

(ضعيف): تقدّم تفصيل القول فيه (ص 128 - 130).

(2)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 128 - 130).

(3)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 128 - 130).

(4)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 128 - 130).

(5)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 128 - 130).

(6)

(حسن). رواه: الطيالسي (359 و 360)، وابن أبي شيبة (9261)، وأحمد (1/ 406)، وابن ماجه (7 - الصيام، 37 - صيام يوم الجمعة، 1/ 549/ 1725)، وأبو داوود (8 - الصيام، 68 - صوم الثلاث من كلّ شهر، 1/ 744/ 2450)، والترمذي (6 - الصوم، 41 - صوم الجمعة، 3/ 118/ 742)، والنسائي في "السنن الكبرى"(2677) و"المجتبى"(22 - الصيام، 70 - صوم النبي، 4/ 204/ 2367)، والبزّار (5/ 215 =

ص: 571

أنَّ بعضَهُم لم يَرْفَعْهُ؛ يَعْني: أنَّهُ وَقَفَهُ على ابنِ مَسْعودٍ. وظاهرُ هذا أنَّهُ كانَ يُوالي بينَ الأيَّامِ الثلاثةِ مِن أوَّلِ كل شهرٍ.

* والنَّوعُ السَّادسُ: أنَّهُ كانَ يَصومُ أيَّامَ البيضِ: فخَرَّجَ النَّسائِيُّ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ؛ أنَّ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم كانَ لا يَدَعُ صيامَ أيَّامِ البيضِ في حضرٍ ولا سفرٍ

(1)

.

وخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ عن أبي ذَرٍّ؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم -أمَرَهُ بصيامِ أيَّامِ البيضِ؛ ثلاثَ عشرة وأربعَ عشرة وخمس عشرةَ

(2)

.

= / 1818)، وأبو يعلى (5305)، وابن خزيمة (2129)، والشاشي (637)، وابن حبّان (3641 و 3645)، والدارقطني في "العلل"(704)، والبيهقي في "السنن"(4/ 294) و"الشعب"(3847)، والبغوي في "السنّة"(1803)؛ من طرق قويّة، عن شيبان بن عبد الرحمن ومحمّد بن ميمون أبي حمزة السكري، عن عاصم بن أبي النجود، عن زرّ، عن عبد الله

رفعه مطوّلًا ومختصرًا.

قال الترمذي: "روى شعبة عن عاصم هذا الحديث ولم يرفعه". قلت: شيبان وأبو حمزة ثقتان، ورفعهما زيادة ثقة يتعيّن المصير إليها. وعاصم صدوق حسن الحديث، فالسند كذلك. وقد قوّاه الترمذي وابن خزيمة وابن حبّان والدارقطني وابن حزم وابن عبد البرّ والمنذري والعراقي والعسقلاني والألباني.

(1)

(لا بأس به). رواه: النسائي في "الكبرى"(2654) و"المجتبى"(22 - الصيام، 70 - صوم النبيّ صلى الله عليه وسلم، 4/ 198/ 2344)، والطبراني (12/ 9/ 12320)، والضياء (10/ 13/ 100)؛ من طريقين إحداهما قويّة، عن يعقوب القمّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس

رفعه. قال الشوكاني: "في إسناده يعقوب بن عبد الله القمّي وجعفر بن أبي المغيرة القمّي، وفيهما مقال". قلت: كلاهما صدوق يهم لا بأس بحديثه، والسند كذلك، وإلى تحسينه مال السيوطي والمناوي والألباني.

(2)

(صحيح). رواه: الطيالسي (475)، وعبد الرزّاق (7873)، وأحمد (5/ 150 و 152 و 162 و 177)، والترمذي (6 - الصوم، 54 - صوم ثلاثة أيّام، 3/ 134/ 761)، والبزّار (9/ 453/ 4064)، والنسائي (22 - الصيام، 84 - الاختلاف على موسى، 4/ 222/ 2421 - 2428)، وابن خزيمة (2128)، والطحاوي (2/ 80 و 81)، وابن حبّان (3655 و 3656)، والرامهرمزي في "المحدّث الفاصل"(ص 485)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 388)، والبيهقي (4/ 394، 9/ 321)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(11/ 120) و"تلخيص المتشابه"(257)، وتمّام في "الفوائد"(587)، والبغوي في "السنّة"(1800)، والرافعي في "التدوين"(3/ 475)، والضياء (1/ 420/ 299)، والمزّي في "التهذيب"(31/ 317)؛ من طرق، عن موسى بن طلحة، [عن ابن الحوتكيّة]، [عن أبي ذرّ]

رفعه. فأرسله موسى مرّة، ورواه عن أبي ذرّ مرّة مباشرة بالعنعنة وبالتصريح بالسماع، ورواه عن ابن الحوتكيّة عن أبي ذرّ مرّة.

ورواه: الطيالسي (44)، والحميدي (136)، وأحمد (5/ 150)، والبيهقي في "الشعب"(3852)، والضياء (1/ 421/ 300)؛ من طريقين، عن موسى، عن ابن الحوتكيّة، عن عمر

رفعه.

ص: 572

وفي السُّننِ الأربعةِ خلا التِّرْمِذِيِّ: عن قَتادَةَ بنِ مِلْحانَ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

نحوُهُ

(1)

.

وخَرَّجَ النَّسائِيُّ مِن حديثِ جريرٍ البَجَلِيِّ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نحوَهُ أيضًا

(2)

.

= ورواه: أحمد (2/ 336 و 346)، والنسائي (الموضع السابق، 4/ 222/ 2420)، وابن حبّان (3651)؛ من طريق صحيحة، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة

رفعه. فقد اختلف الثقات في هذا الحديث على موسى بن طلحة كما ترى، وما هو من الاضطراب أو الاختلاف القادح في صحّة الحديث في شيء إذا أنعمنا النظر في النصوص. فهذه حادثة وقعت في إحدى أسفار النبيّ صلى الله عليه وسلم فحفظها جماعة من الصحابة، ثمّ استذكرها عمر ممّن حفظها - مع أنّه حضرها - على ما عهد عنه من المبالغة في الاستيثاق، ولذلك رويت عن جماعة من الصحابة كأبي ذرّ وأبي الدرداء وعمّار وغيرهم، ولذلك قال ابن حبّان:"سمع هذا الخبر موسى بن طلحة عن أبي هريرة وسمعه من ابن الحوتكيّة عن أبي ذرّ، والطريقان جميعًا محفوظان". قلت: لكنّ ابن الحوتكيّة مجهول، فالمعوّل على حديث ابن هريرة في تقوية الأوجه الثلاثة جميعًا وتصحيح الحادثة، وإلى تقويتها مال الترمذي وابن خزيمة وابن حبّان والبغوي والضياء المقدسيّ والمنذري والعسقلاني والألباني.

(1)

(ضعيف). رواه: الطيالسي (1225)، وابن سعد (7/ 43)، وأحمد (4/ 165، 5/ 27 - 28)، وابن ماجه (7 - الصيام، 29 - صيام ثلاثة أيّام، 1/ 544/ 1707)، وأبو داوود (8 - الصيام، 68 - صوم ثلاث من كلّ شهر، 1/ 743/ 2449)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(1646 و 2310)، والنسائي (الموضع السابق، 4/ 224/ 2429 - 2431)، وابن قانع في "المعجم"(2/ 360/ 904)، وابن حبّان (3651)، والطبراني (19/ 15/ 23 - 24)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 277)، والبيهقي (4/ 294)؛ من طريق همّام تارة وشعبة تارة، كلاهما عن أنس بن سيرين، عن عبد الملك بن قتادة بن ملحان (وقال شعبة: عن عبد الملك بن المنهال، وخطّأه السواد الأعظم من أهل العلم)، عن أبيه

رفعه بلفظ: "كان يأمرنا أن نصوم الأيّام البيض

". وهذا سند ضعيف من أجل عبد الملك بن قتادة فإنّه مجهول، وللحديث شواهد كثيرة منها ما تقدّم وغيره، لكن ليس في شيء منها ذكر للأمر بصيام هذه الأيّام وإنّما هي الوصيّة والندب، فإن أريد بالأمر هنا ذاك المعنى فالحديث قويّ بشواهده، وإن أُريد به أمر الوجوب فالشواهد قاصرة عن هذا المعنى. ومن أجل هذا الملحظ اضطربت فيه أقوال أهل العلم تقوية وتضعيفًا. والله أعلم.

(2)

(صحيح لشواهده). رواه الطبراني في "الكبير"(2/ 333/ 2391) من طريق الحسن بن عمارة البجلي، عن الحكم بن عتيبة، عن إسماعيل بن جرير، عن جرير

رفعه. وهذا سند ساقط: الحسن بن عمارة متروك، وإسماعيل بن جرير لم أقف له على ترجمة. ورواه: النسائي في "السنن الكبرى"(2728)، وأبو يعلى (7504)، وابن أبي حاتم في "العلل"(785) تعليقًا، والطبراني في "الكبير"(2/ 356/ 2499 و 2500) و"الأوسط"(7546) و"الصغير"(914)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(3853)، والخطيب في "تالي التلخيص"(352)؛ من طريق زيد بن أنيسة، عن أبي إسحاق، عن جرير

رفعه.

وهذا سند ضعيف له علّتان: أولاهما: تخليط أبي إسحاق السبيعي مع تأخّر رواية زيد بن أنيسة عنه =

ص: 573

وقد رُوِيَ عنِ الحَسَنِ أنَّهُ كانَ يَصومُ خمسةَ أيَّامٍ مِن أوَّلىِ الشَّهرِ وتقولُ: ما يُدْريني لعلِّي لا أدْرِكُ البيضَ.

وفي كتابِ "مناقب الحسن" لأبي حَيَّانَ التَّوْحيدِيِّ؛ أنَّ رجلًا سَألَ الحَسَنَ: لأيِّ شيءٍ اسْتُحِبَّ صيامُ أيَّامِ البيضِ؟ فلمْ يَدْرِ ما يَقولُ. فقالَ أعرابيٌّ [عندَهُ]: لأنَّ القمرَ يَنكَسِفُ في لياليهنَّ، فيَكونُ النَّاسُ عندَ حدوثِ الآياتِ على عبادةٍ. فقالَ الحسنُ: خُذوها مِن غيرِ فقيهٍ.

• وفي حديثِ الباهِلِيِّ (1) أنَّهُ قالَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بعدَ ذلكَ: إنِّي أجِدُ قوَّةً وإنِّي أُحِبُّ أنْ تَزيدَني. فقالَ لهُ: "فمِن الحرمِ وأفْطِرْ". وفي روايةٍ: "صُمِ الحرمَ وأفْطِرْ". وفي روايةٍ قالَ: "صُمِ الأشهرَ الحرمَ".

فهذا دليلٌ

(2)

على فضلِ صيامِ الأشهرِ الحرمِ الأربعةِ التي ذَكَرَها اللهُ تَعالى في كتابِهِ بقولِهِ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التَّوبة: 36]، وقد فَسَّرَها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديثِ أبي بَكْرَةَ بأنَّها ثلاثةٌ متوالياتٌ؛ ذو القعدةِ وذو الحجَّةِ والمحرَّمُ وشهرُ رجبٍ. وقد ذَكَرْناهُ في وظيفةِ شهرِ رجبٍ

(3)

.

وذَكَرْنا عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ العملَ الصَّالحَ والأجرَ في هذهِ الحرمِ أعظمُ

(4)

.

وذَكَرْنا في وظائفِ المحرَّمِ قولَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أفضلُ الصِّيامِ بعدَ رمضانَ شهرُ اللهِ الذي تَدْعونَهُ المحرَّمَ"

(5)

.

وسيأْتي في وظائفِ ذي الحجَّةِ ذكرُ فضلِ صيامِ عشرِ ذي الحجَّةِ إنْ شاءَ اللهُ

= وعنعنته على تدليسه. والثانية: أنّه خالفه المغيرة بن مسلم فرواه عن أبي إسحاق السبيعي عن جرير موقوفًا، لكن قال أبو زرعة:"المرفوع أصحّ من الموقوف لأنّ زيذًا أحفظ من المغيرة". قلت: فهذه العلّة ليست بالقادحة إذًا بخلاف الأولى.

على أنّ الحديث بطريقه الثانية يترشّح للانتفاع بالشواهد المتقدّمة وغيرها، فهو صحيح بها. (1) الذي تقدّم أوّل المجلس.

(2)

لو كان صحيحًا! ووقع فى خ: "فهذا دليل على أنّ فضل

" إلخ!

(3)

متّفق عليه. تقدم تفصيل القول فيه (ص 272).

(4)

(ص 276).

(5)

رواه مسلم. وقد تقدّم تخريجه (ص 85).

ص: 574

تَعالى

(1)

.

وقد كانَ كثير مِن السَّلفِ يَصومُ الأشهرَ الحرمَ كلَّها، رُوِيَ ذلكَ عنِ ابنِ عُمَرَ والحَسَنِ البَصْرِيِّ وأبي إسْحاقَ السَّبيعِيِّ

(2)

.

وقال سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: الأشهرُ الحرمُ أحبُّ إليَّ أنْ أصومَ منها.

وروى خَلاَّد الصَّفَّارُ عن أبي مُسْلِمٍ؛ قالَ: صيامُ يومٍ مِن أشهرِ الحجِّ (أو قالَ: أشهرِ الحرمِ) يَعْدِلُ شهرًا، وصيامُ يومٍ مِن غيرِ الأشهرِ الحرمِ يَعْدِلُ عشرًا

(3)

.

ورُوِيَ عنِ النَّخَعِيِّ نحوُهُ، لكنَّهُ قالَ: مِن المحرَّمِ. فيُحْتَمَلُ أنَّهُ أرادَ جنسَ الأشهرِ المحرَّمةِ

(4)

.

ورُوِيَ معناهُ مرفوعًا من حديثِ أنَسٍ، وإسنادُهُ ضعيفٌ جدًّا

(5)

.

ويُرْوى بإسنادٍ مجهولٍ عن أنسٍ مرفوعًا: "مَن صامَ مِن شهرٍ حرامٍ الخميسَ والجمعةَ والسَّبتَ؛ كتَبَ اللهُ لهُ عبادةَ تسعِ مئةِ سنةٍ"

(6)

.

(1)

فانظره بالضرورة هناك؛ فالأحاديث الواردة فيه لا تصحّ.

(2)

تقدّم الكلام في هذه الآثار وما فيها من الإشكالات (ص 286).

(3)

أبو مسلم هذا ما عرفته! وقوله - ولو كان إمامًا ثقة - لا يعدو أن يكون دعوى لا تنفق في سوق الأدلّة بغير بيّنة.

(4)

وغيره أكثر احتمالًا منه، ثمّ هو كالذي قبله حذو القذّة بالقذّة.

(5)

(موضوع). روى الطبراني في "الكبير"(11081) و"الصغير"(964) من طريق الهيثم بن حبيب، ثنا سلاّم الطويل، عن حمزة الزيّات، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عبّاس مرفوعًا:"من صام يومًا من شهر حرام فله بكلّ يوم ثلاثون يومًا (وفي الكبير: ثلاثين (!) حسنة) ". قال المنذري: "غريب وإسناده لا بأس به"! وقال الهيثمي (3/ 193): "سلاّم ضعيف، وأمّا الهيثم بن حبيب فلم أر من تكلّم فيه غير الذهبي اتّهمه بخبر رواه وقد وثّقه ابن حبّان". قلت: الهيثم وسلاّم متّهمان، والحديث من افتراء واحد منهما. ورواه الخلّال في "فضائل رجب"(5 و 15) من طريق إبراهيم بن اليسع، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عبّاس

رفعه. وإبراهيم بن اليسع متروك منكر الحديث. والحديث ساقط من وجهيه، وقال الألباني:"موضوع". تنبيه: الذي أشار إليه المصنّف هنا بالمعنى هو من حديث أنس لا من حديث ابن عبّاس، ولم أقف لأنس على شيء مقارب إلّا ما يأتي بعده. فالله أعلم.

(6)

(ضعيف جدًّا). رواه: بحشل في "واسط"(ص 58)، والطبراني في "الأوسط"(1810)، وابن شاهين في "الترغيب"(24173 - كنز)، وتمّام في "الفوائد"(589 و 590)، والخلّال في "فضائل رجب"(14)، والبيهقي في "الفضائل"(308)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(1/ 117)، وابن عساكر، وابن=

ص: 575

وقالَ كَعْبٌ: اخْتارَ اللهُ الزَّمانَ، فأحَبُّهُ إليهِ الأشهرُ الحرمُ.

ويُرْوى مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا ولا يَصِحُّ

(1)

.

وعن قَيْسِ بنِ عُبادٍ؛ قالَ: ليسَ في الأشهرِ الحرمِ شهرٌ إلَّا في اليومِ العاشرِ منهُ خيرٌ. قالَ: ففي ذي الحجَّةِ في العاشرِ النَّحرُ يومُ الحجِّ الأكبرِ، وفي المحرَّمِ العاشرُ عاشوراءُ، وفي العاشرِ مِن رجبٍ {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرَّعد: 39]. قالَ الرَّاوي: ونَسِيتُ ما قالَ في ذي القعدةِ

(2)

.

وقد تَقَدَّمَ في ذكرِ وظيفةِ رجبٍ أنَّهُ رُوِيَ عن عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ أنَّهُ ذَكَرَ مِن عجائبِ الدُّنيا بأرضِ عادٍ عمودً [ا] مِن نحاسٍ عليهِ شجرةٌ مِن نحاسٍ، فإذا كانَ في الأشهرِ الحرمِ؛ قَطَرَ منها الماءُ، فمَلَؤُوا منهُ حياضَهُم وسَقَوْا مواشيَهُم وزروعَهُم، فإذا ذَهَبَتِ الأشهرُ الحرمُ؛ انْقَطَعَ الماءُ

(3)

.

• وذو القَعْدَةِ مِن الأشهرِ الحرمِ بغيرِ خلافٍ، وهوَ أوَّلُ الأشهرِ الحرمِ المتواليةِ. وهل هوَ أوَّلُ الحرمِ مطلقًا أم لا فيهِ اختلافٌ ذَكَرْناهُ في وظيفةِ رجبٍ.

وهوَ أيضًا مِن أشهرِ الحجِّ التي قالَ اللهُ تَعالى فيها: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]. وقيلَ: إنَّ تحريمَ ذي القَعْدَةِ كانَ في الجاهليَّةِ لأجلِ السَّيرِ إلى الحجِّ، وسُمِّيَ ذا القَعْدَةِ لقعودِهِم فيهِ عنِ القتالِ، وتحريمُ المحرَّمِ لرجوعِ النَّاسِ فيهِ

= الجوزي في "الواهيات"(911)؛ من طريق يعقوب بن موسى المدني، عن مسلمة بن راشد، عن أبيه راشد أبي محمّد المدني، عن أنس

رفعه. على خلاف لهم في عدد السنين! ووقع في خ: "سبع مئة".

قال الهيثمي (3/ 194): "مسلمة هو ابن راشد الحمّاني: قال فيه أبو حاتم مضطرب الحديث، وقال الأزدي في "الضعفاء" لا يحتجّ به وأورد له هذا الحديث. وأبوه راشد بن نجيح أبو محمّد الحمّاني: أخرج له ابن ماجه، وقال أبو حاتم صالح الحديث، وذكره ابن حبّان في "الثقات" وقال: ربّما أخطأ". قلت: فاته أنّ يعقوب المدنيّ مجهول. فقد أنصف ابن الجوزي في عدّ الحديث في الواهيات. وضعّفه الألباني.

(1)

(منكر مرفوعًا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 591).

(2)

هذا أثر موضوع على قيس بن عبّاد! رواه الخلّال في "فضائل رجب"(12) بسند فيه عبد العزيز بن أبان المتروك الذي كذّبه جماعة من أهل العلم. وإنّما أشرت إليه دون غيره من الآثار الكثيرة الواهية التي وردت في الكتاب لأنّه قد يظنّ الظانّ أن لهذا الأثر حكم الرفع.

(3)

تقدم هذا (ص 135)، فقارن بين سياقه هناك وهنا، وانظر ما علّقته هناك.

ص: 576

مِن الحجِّ إلى بلادِهِم، وتحريمُ ذي الحجَّةِ لوقوعِ حجِّهِم فيهِ، وتحريمُ رجبٍ كانَ للاعتمارِ فيهِ مِن البلادِ القريبةِ.

ومِن خصائصِ ذي القَعْدَةِ: أنَّ عُمَرَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم -كلَّها كانَتْ في ذي القَعْدَةِ سوى عمرتِهِ التي قَرَنَها بحجَّتِهِ، معَ أنَّهُ صلى الله عليه وسلم أحْرَمَ بها أيضًا في ذي القَعْدَةِ وفَعَلَها في ذي الحجَّةِ معَ حجَّتِهِ.

وكانَتْ عُمَرُهُ صلى الله عليه وسلم أربعًا: عمرةُ الحُدَيْبِيَةِ، ولمْ يُتِمَّها، بل تَحَلَّلَ منها ورَجَعَ. وعمرةُ القضاءِ مِن قابلٍ. وعمرةُ الجِعْرَانَةِ عامَ الفتحِ لمَّا قَسَمَ غنائمَ حُنَيْنٍ، وقيلَ: إنَّها كانَتْ في آخرِ شوَّالٍ، والمشهورُ أنَّها كانَتْ في ذي القَعْدَةِ، وعليهِ الجمهورُ. وعمرتُهُ في حجَّةِ الوداعِ كما دَلَّتْ عليهِ النُّصوصُ الصَّحيحةُ وعليهِ جمهورُ العلماءِ أيضًا

(1)

.

وقد رُوِيَ عن طائفةٍ مِن السَّلفِ - منهُمُ ابنُ عُمَرَ وعائِشَةُ وعَطاءٌ - تفضيلُ عمرةِ ذي القَعْدَةِ وشوَّالٍ على عمرةِ رمضانَ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم اعْتَمَرَ في [ذي] القَعْدَةِ، وفي أشهرِ الحجِّ حيثُ يَجِبُ عليهِ الهديُ إذا حَجَّ مِن عامِهِ؛ لأنَّ الهديَ زيادةُ نسكٍ، فيَجْتَمعُ نسكُ العمرةِ معَ نسكِ الهديِ.

ولذي القَعْدَةِ فضيلةٌ أُخرى، وهيَ أنَّهُ قد قيلَ: إنَّهُ الثَّلاثونَ يومًا الذي واعَدَ اللهُ فيهِ موسى عليه السلام، قالَ لَيْثٌ عن مُجاهِدٍ في قولهِ تَعالى:{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} ؛ قالَ: ذو القَعْدَةِ، {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142]؛ قالَ: عشرُ ذي الحجَّةِ

(2)

.

يا مَن لا يُقْلعُ عنِ ارتكابِ الحرامِ لا في شهرٍ حلالٍ ولا في شهرٍ حرام! يا مَن هوَ في الطَّاعاتِ إلى وراءَ وراءَ وفي المعاصي إلى قدَّام! يا مَن هوَ في كلِّ يومٍ مِن عمرِهِ شرٌّ ممَّا كانَ قبلَهُ مِن الأيَّام! متى تَسْتَفيقُ مِن هذا المنام؟! متى تَتوبُ مِن هذهِ الأجرام؟! يا مَن أنْذَرَهُ الشَّيبُ بالموتِ وهوَ مقيمٌ على الآثام! أما كفاكَ واعظُ الشَّيبِ معَ واعظِ القرآنِ

(1)

انظر تفصيلًا طويلًا لهذا عند ابن القيّم في "زاد المعاد"(2/ 97 وما بعدها).

(2)

(لا أصل له في المرفوع). وإنّما روي عن ابن عبّاس وجماعة من التابعين، وليست أسانيدها بالقويّة، ولا لها حكم رفع أو إرسال.

ص: 577

والإسلام؟! الموتُ خيرٌ لكَ مِن الحياةِ على هذهِ الحالِ والسَّلام.

يا غادِيًا في غَفْلَةٍ وَرائِحا

إلى مَتى تَسْتَحْسِنُ القَبائِحا

وَكَمْ إلى كَمْ لا تَخافُ مَوْقِفًا

يَسْتَنْطِقُ اللهُ بهِ الجَوارِحا

وا عَجَبًا مِنْكَ وَأنْتَ مُبْصِرٌ

كَيْفَ تَجَنَّبْتَ الطَّريقَ الواضحا

وَكَيْفَ تَرْضى أنْ تَكونَ خاسِرًا

يَوْمَ يَفوزُ مَنْ يَكونُ رابِحا

(1)

* * *

(1)

في حاشية خ: "بلغ مقابلة بالبلد الحرام بدار العبّاس عمّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنه في السادس من جمادى الآخرة سنة سبع وخمسين وثمان مئة، علي بن سليمان عفا الله عنه.

ص: 578

‌وظائف شهر ذي الحجة

ويَشْتَمِلُ على مجالسَ:

‌المجلس الأول

في فضل عشر ذي الحجة

خَرَّجَ البُخارِيُّ

(1)

مِن حديثِ: ابنِ عَبَّاسٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ مِن هذهِ الأيَّامِ (يَعْني: أيَّامَ العشرِ) ". قالوا: يا رسولَ اللهِ! ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ. قالَ: ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؛ إلَّا رجلًا خَرَجَ بنفسِهِ ومالِهِ ثمَّ لم يَرْجِعْ مِن ذلكَ بشيءٍ".

الكلامُ في فضلِ عشرِ ذي الحجَّةِ في فصلينِ: في فضلِ العملِ فيهِ، وعليهِ دَلَّ هذا الحديثُ. وفي فضلِهِ في نفسِهِ.

‌الفصل الأول: في فضل العمل فيه

• وقد دَلَّ هذا الحديثُ على أنَّ العملَ في أيَّامِهِ أحبُّ إلى اللهِ مِن العملِ في أيَّامِ الدُّنيا مِن غيرِ استثناءِ شيءٍ منها، وإذا كانَ أحبَّ إلى اللهِ فهوَ أفضلُ عندَهُ. وقد وَرَدَ هذا الحديثُ بلفظِ "ما مِن أيَّامٍ العملُ فيها أفضلُ مِن أيَّامِ العشرِ"، ورُوِيَ بالشَّكِّ في لفظةِ "أحبُّ" و"أفضلُ".

وإذا كانَ العملُ في أيَّامِ العشرِ أفضلَ وأحبَّ إلى اللهِ مِن العملِ في غيرِهِ مِن أيَّامِ

(1)

(13 - العيدين، 11 - العمل في أيّام التشريق، 2/ 457/ 969).

ص: 579

السَّنةِ كلِّها؛ صارَ العملُ فيهِ - وإنْ كانَ مفضولًا - أفضلَ مِن العملِ في غيرِهِ وإنْ كانَ فاضلًا. ولهذا قالوا: يا رسولَ اللهِ! ولا الجهادُ في سبيلِ اللهِ؟ قالَ: "ولا الجهادُ".

ثمَّ اسْتَثْنى جهادًا واحدًا هوَ أفضلُ الجهادِ: فإنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أيُّ الجهادِ أفضلُ؟ قالَ: "مَن عُقِرَ جوادُهُ وأُهْريقَ دمُهُ"

(1)

، وصاحبُهُ أفضلُ النَّاسِ درجةً عندَ اللهِ. سَمعَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلًا يَدْعو يَقولُ: اللهمَّ! أعْطِني أفضلَ ما تُعْطي عبادَكَ الصَّالحينَ. فقالَ لهُ: "إذن يُعْقَرَ جوادُكَ وتُسْتَشْهَدَ"

(2)

. فهذا الجهادُ بخصوصِهِ يَفْضُلُ على العملِ في العشرِ.

(1)

(صحيح). وقد جاء عن جماعة من الصحابة: فرواه: الطيالسي (1777)، والحميدي (1276)، وابن أبي شيبة (19316)، وأحمد (3/ 300 و 302 و 346 و 391)، وعبد بن حميد (1060)، والدارمي (2/ 200)، والحارث (626 - زوائد الهيثمي)، والمروزي في "تعظيم الصلاة"(246)، وأبو يعلى (2081)، وابن حبّان (4639)، والطبراني في "الأوسط"(1247) و"الصغير"(714)، وابن جميع في "شيوخه"(ص 203/ رقم 159)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(1/ 237)؛ من طريقين، عن جابر

رفعه. وإحدى طريقي الحديث صحيحة لذاتها.

ورواه: الطيالسي (2272)، وابن أبي شيبة (19317)، وأحمد (2/ 195 و 159 - 160 و 191، 4/ 114)، وعبد بن حميد (301)، والدارمي (2/ 240)، وابن حبّان (5176)، والحاكم (1/ 11)، والبيهقي في "السنن"(10/ 243) و"الشعب"(10834)؛ من طريق قويّة، عن أبي كثير الزبيدي، عن ابن عمرو

رفعه. وأبو كثير قويّ الحديث وإن اقتصر العسقلاني على وصفه بالمقبول، فالسند قويّ.

ورواه: ابن المبارك في "الجهاد"(51)، وعبد الرزّاق (4844)، وأحمد (3/ 411)، والدارمي (1/ 331)، وأبو داوود (2 - الصلاة، 347 - طول القيام، 1/ 459/ 1449 و 1325)، والحارث (38 - هيثمي)، وابن أبي عاصم في "الجهاد"(26 و 40 و 234) و"الآحاد"(2520)، وابن نصر في "الصلاة"(645 و 882)، والنسائي في "الكبرى"(2305) و"المجتبى"(23 - الزكاة، 49 - جهد المقلّ، 5/ 58/ 2525 و 5001)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 14)، والبيهقي في "السنن"(3/ 9، 4/ 180، 9/ 164) و"الشعب"(9712)، والضياء في "المختارة"(9/ 236/ 214)؛ من طرق، [عن عبيد بن عمير]، [عن عبد الله بن حبشيّ]

رفعه. وفي أسانيده اختلاف في إرسال ووصل وعلى الصحابيّ، لكنّه لا ينحطّ في كلّ حال عن كونه صالحًا في الشواهد، ومن حسّنه فما أبعد.

وقد جاء أيضًا في سياق حديث عمرو بن عبسة الطويل الذي تقدّمت تقويته (ص 115).

وجاء أيضًا في سياق حديث أبي ذرّ الطويل الذي تقدّم توهينه (ص 78).

وجاء من مرسل الحسن عند: معمر في "الجامع"(20297)، وعبد الرزّاق (4843).

والحديث صحيح من وجهه الأوّل وحده، فكيف باجتماع هذه الوجوه، وقد قوّاه ابن حبّان والحاكم والمنذري والذهبي والهيثمي والعسقلاني والألباني.

(2)

(حسن). رواه: البخاري في "التاريخ"(1/ 222)، والبزّار (1112 و 1113)، والنسائي في "الكبرى"(9921) و"اليوم والليلة"(93)، وأبو يعلى (697 و 769)، وابن خزيمة (453)، وابن حبّان =

ص: 580

وأمَّا بقيّةُ أنواعِ الجهادِ؛ فإنَّ العملَ في عشرِ ذي الحجَّةِ أفضلُ وأحبُّ إلى اللهِ عز وجل منها، وكذلكَ سائرُ الأعمالِ.

وهذا يَدُلُّ على أنَّ العملَ المفضولَ في الوقتِ الفاضلِ يَلْتَحِقُ بالعملِ الفاضلِ في غيرِهِ ويَزيدُ عليهِ بمضاعفةِ

(1)

ثوابِهِ وأجرِهِ.

• وقد رُوِيَ في حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ هذا زيادةُ "والعملُ فيهنَّ يُضاعَفُ بسبعِ مئةٍ"

(2)

، وفي إسنادِاها ضعفٌ.

وقد وَرَدَ في قدرِ المضاعفةِ رواياتٌ متعدِّدةٌ مختلفةٌ:

فخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ وابنُ ماجَهْ مِن روايةِ: النَّهَّاسِ بنِ قَهْمٍ، عن قَتادَةَ، عنِ ابنِ المُسَيَّبِ، عن أبي هُرَيْرَةَ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"ما مِن أيَّامٍ أحبُّ إلى اللهِ أنْ يُتَعَبَّدَ لهُ فيها مِن عشرِ ذي الحجِّةِ؛ يَعْدِلُ صيامُ كلِّ يومٍ منها سنةً، وكلُّ ليلةٍ منها بقيامِ ليلةِ القدرِ"

(3)

. والنَّهَّاسُ بنُ قَهْمٍ ضَعَّفوهُ. وذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ عنِ البُخارِيِّ أنَّ الحديثَ يُرْوى عن

= (4640)، والطبراني في "الدعاء"(492)، وابن السنّي (106)، والحاكم (1/ 207، 2/ 74)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(1/ 236)، والضياء (3/ 186/ 978 - 981)؛ من طرق، عن الدراوردي، عن سهيل بن أبي صالح، [عن محمّد بن مسلم بن عائذ]، عن عامر بن سعد، عن سعد

رفعه.

وهذا سند فيه علّتان: أولاهما: أنّ الخطيب رواه في"التاريخ"(9/ 64) من طريق عبد الله بن جعفر، عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة .. رفعه. وليس بالقادح؛ فإنّ عبد الله هذا شديد الضعف، ومخالفته غير معتبرة. والثانية: أنّ محمّد بن مسلم بن عائذ هذا لم يرو عنه إلّا اثنان ولم يوثّقه إلّا ابن حبّان والعجلي، لكنّه تابعيّ، ولذلك قوّى أمره ابن خزيمة والحاكم والذهبي وحسّن له العسقلاني في "أمالي الأذكار". وعلى هذا فالحديث لاحق بمصافّ الحسن، ولا سيّما أنَّ ما قبله يشهد لمعناه. وأمّا الألباني؛ فمال إلى تضعيفه بجهالة ابن عائذ على غير عادته في أمثاله من التابعين إذا وثّقهم ابن حبّان وروى عنهم ثقتان! فالله أعلم.

(1)

في م ون وط: "لمضاعفة"، وكلاهما حسن.

(2)

(ضعيف). رواه البيهقي في "الشعب"(3758) من طريق العبّاس بن الوليد الأزدي، ثنا يحيى بن عيسى الرملي، ثنا يحيى بن أيّوب البجلي، عن عديّ بن ثابت، عن ابن جبير، عن ابن عبّاس

رفعه. قال المنذري: "يحيى الرملي ويحيى البجلي وعدي بن ثابت ثقات مشهورون لم يتكلّم فيهم". قلت: بل تكلّموا في البجلي، ويحيى الرملي ليّن، والعبّاس الأزدي الرملي الراوي عنه لم أقف له على ترجمة. فمثل هؤلاء لا تحتمل منهم هذه الزيادة التي تفرّدوا بها دون الثقات الذين رووا الحديث عن ابن عبّاس، ولذلك ضعّفها ابن رجب والعسقلاني والشوكاني والألباني.

(3)

(ضعيف). رواه: ابن ماجه (7 - الصيام، 39 - صيام العشر، 1/ 551/ 1728)، والترمذي (6 - الصوم، 52 - العمل في العشر، 3/ 131/ 758)، والبيهقي في "الشعب"(3756 و 3757)، والخطيب في =

ص: 581

قَتادَةَ عن سَعيدٍ مرسلًا.

ورَوى ثُوَيْرُ بنُ أبي فاخِتَةَ - وفيهِ ضعفٌ - عن مُجاهِدٍ، عنِ ابنِ عُمَرَ؛ قالَ: ليسَ يومٌ أعظمَ عندَ اللهِ مِن يومِ الجمعةِ؛ ليسَ العشرَ؛ فإنَّ العملَ فيها يَعْدِلُ عملَ سنةٍ

(1)

.

ورَوى أبو عَمْرٍو النَّيْسابورِيُّ في كتابِ "الحكايات" بإسنادِهِ عن حُمَيْدٍ؛ قالَ: سَمِعْتُ ابنَ سِيرِينَ وقَتادَةَ يَقولانِ: صومُ كلِّ يومٍ مِن العشرِ يَعْدِلُ سنةً

(2)

.

وقد رُوِيَ في المضاعفةِ أكثرُ مِن ذلكَ: فرَوى هارونُ بنُ موسى النَّحْوِيُّ؛ قالَ: سَمِعْتُ الحَسَنَ، يُحَدِّثُ عن أنَس بنِ مالِكٍ؛ قالَ: كانَ يُقالُ في أيَّامِ العشرِ: بكلِّ يومٍ ألفُ يومٍ، ويومُ عرفةَ عشرةُ آلافٍ

(3)

. قالَ الحاكِمُ: هذا مِن المسانيدِ التي لا يُذْكَرُ سندُها عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(4)

.

ورُوِيَ في المضاعفةِ أقلُّ مِن سنةٍ: قالَ حُمَيْدُ بنُ زَنْجَوَيْهِ: حَدَّثَنا يَحْيى بنُ عَبْدِ اللهِ

= "التاريخ"(11/ 208)، وابن الجوزي في "الواهيات"(925)، والمزّي في "التهذيب"(27/ 482)، والذهبي في "الميزان"(4/ 100)؛ من طريق مسعود بن واصل، عن النهّاس بن قهم، عن قتادة، عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة

رفعه.

قال البخاري والترمذي واللفظ للأخير: "لا نعرفه إلّا من حديث مسعود بن واصل عن النهّاس". قلت: كلاهما ضعيف، فهاتان علّتان، وأشار الترمذي إلى علّة ثالثة بقوله:"وقد روي عن قتادة عن سعيد بن المسيّب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلًا شيء من هذا". وقد ضعّف الحديث البخاري والترمذي وابن الجوزي والمنذري والذهبي والعسقلاني والسيوطي والمناوي والألباني.

(1)

(منكر). رواه ثوير بن أبي فاختة عن مجاهد عن ابن عمر كما ذكر المصنّف. وثوير اتّفقوا على ضعفه ونكارة حديثه وتركه جماعة. فهذه علّة؛ ثمّ إنّه خالف رواية الثقات عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعًا كما سيأتي قريبًا وأتى بما لم يأتوا به. فظهر أنّه من منكراته.

(2)

(ضعيف). إن صحّ السند إلى حميد - وما إخاله - فقصاراه أن يكون له حكم الإرسال. وإن لم يصحّ؛ فهو أدعى لضعفه.

(3)

(ضعيف). رواه: البيهقي في "الشعب"(3766)، والأصبهاني في "الترغيب"(364)؛ من طريق هارون بن موسى

به.

قال المنذري: "إسناد البيهقي لا بأس به". قلت: له علّتان: أولاهما: أنّ رواية الحسن هنا غير صريحة بالسماع أو التحديث كما قد يتوهّمه بعض الناس بل هي لاحقة بالعنعنة. والأُخرى: أنّ قوله "كان يقال" هنا لا يعدّ من المرفوع؛ لأنّه لم ينسبه إلى عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم بل جاء به بصيغة التمريض التي تدلّ على أنّ راويه نفسه غير متثبّت في أمره.

(4)

فيه نظر تقدّم بيانه في الحاشية السابقة.

ص: 582

الحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنا أبو بَكْرِ بنُ أبي مَرْيَمَ، عن راشِدِ بنِ سَعْدٍ؛ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قالَ:"صيامُ كلِّ يومٍ مِن أيَّامِ العشرِ كصيامِ شهرٍ"

(1)

. وهذا مرسلٌ ضعيفُ الإسنادِ.

ورَوى عَبْدُ الرَّزَّاقِ في "كتابِهِ" عن: جَعْفَرٍ، عن هشامٍ، عنِ الحَسَنِ؛ قالَ: صيامُ يومٍ مِن العشرِ يَعْدِلُ شهرينِ

(2)

.

وقالَ عَبْدُ الكَريمِ عن مُجاهِدٍ: العملُ في العشرِ يُضاعَفُ.

وفي المضاعفةِ أحاديثُ أُخرُ مرفوعةٌ، لكنَّها موضوعةٌ، فلذلكَ أعْرَضْنا عنها وعمَّا أشْبَهَها مِن الموضوعاتِ في فضائلِ العشرِ، وهيَ كثيرةٌ.

وقد دَلَّ حديثُ ابنِ عَبَّاسٍ على مضاعفةِ جميعِ الأعمالِ الصَّالحةِ في العشرِ مِن غيرِ استثناءِ شيءٍ منها.

• وقد رُوِيَ في خصوصِ صيامِ أيَّامِهِ وقيامِ لياليهِ وكثرةِ الذِّكرِ فيهِ ما يُذْكَرُ ممَّا يَحْسُنُ ذكرُهُ دونَ ما لا يَحْسُنُ [ذكرُهُ] لعدمِ صحَّتِهِ.

وقد سَبَقَ حديثُ أبي هُرَيْرَةَ في ذلكَ ومرسلُ راشِدِ بنِ سَعْدٍ وما رُوِيَ عنِ الحَسَنِ وابنِ سِيرينَ وقَتادَةَ في صومِهِ

(3)

.

وفي "المسند" و "السُّنن": عن حَفْصَةَ؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ لا يَدَعُ صيامَ عاشوراءَ والعشرِ وثلاثةِ أيَّامٍ مِن كلِّ شهرٍ

(4)

. وفي إسنادِهِ اختلافٌ.

ورُوِيَ عن بعضِ أزواجِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ لا يَدَعُ صيامَ تسعِ ذي الحجَّةِ

(5)

.

وممَّن كانَ يَصومُ العشرَ عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ. وقد تَقَدَّمَ عنِ الحَسَنِ وابنِ سِيرِينَ

(1)

(ضعيف جدًّا). يحيى الحرّاني ضعيف. وابن أبي مريم ضعيف منكر الحديث. وراشد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسل. فالسند ساقط. وقد ضعّفه ابن رجب.

(2)

(ضعيف). رواه عبد الرزّاق (8126). وفيه علّتان: أولاهما: أنّ رواية هشام بن حسّان عن الحسن فيها مقال. والثانية: الوقف، ويحتمل أن يقال: له حكم الإرسال، لكنّ المرسل لاحق بالضعيف.

(3)

وكلّها ضعيفة الأسانيد كما تقدّم.

(4)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 128 - 130).

(5)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 128 - 130).

ص: 583

وقَتادَةَ ذكرُ فضلِ صيامِهِ، وهوَ قولُ أكثرِ العلماءِ أو كثيرٍ منهُم.

وفي "صحيح مسلم"

(1)

: عن عائِشَةَ؛ قالَتْ: ما رَأيْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم صائمًا العشرَ قطُّ. وفي روايةٍ: في العشرِ قطُّ.

وقدِ اخْتَلَفَ جوابُ الإمامِ أحْمَدَ عن هذا الحديثِ:

فأجابَ مرَّةً بأنَّهُ قد رُوِيَ خلافُهُ، وذَكَرَ حديثَ حَفْصَةَ، وأشارَ إلى أنَّهُ اخْتُلِفَ في إسنادِ حديثِ عائِشَةَ: فأسْنَدَهُ الأعْمَشُ، ورَواهُ مَنْصورٌ عن إبْراهيمَ مرسلًا. وكذلكَ أجابَ غيرُهُ مِن العلماءِ بأنَّهُ إذا اخْتَلَفَتْ عائِشَةُ وحَفْصَةُ رضي الله عنهما في النَّفيِ والإثباتِ؛ أُخِذَ بقولِ المثبِتِ؛ لأنَّ معَهُ علمًا خَفِيَ على النَّافي

(2)

.

وأجابَ أحْمَدُ مرَّةً أُخرى بأنَّ عائِشَةَ أرادَتْ أنَّهُ لم يَصُم العشرَ كاملًا؛ يَعْني: وحَفْصَةُ أرادَتْ أنَّهُ كانَ يَصومُ غالبَهُ. فيَنْبَغي أنْ يُصامَ بعضُهُ ويُفْطرَ بعضُهُ. وهذا الجمعُ يَصِحُّ في روايةِ مَن رَوى "ما رَأيْتُهُ صائمًا العشرَ"، وأمَّا مَن رَوى "ما رَأيْتُهُ صائمًا في العشرِ"؛ فيَبْعُدُ أو يَتَعَذَّرُ هذا الجمعُ فيهِ.

وكانَ ابنُ سِيرِينَ يَكْرَهُ أنْ يُقالَ: صامَ العشرَ؛ لأنَّهُ يوهِمُ دخولَ يومِ النَّحرِ فيهِ، وإنَّما يُقالُ: صامَ التِّسعَ، ولكنَّ الصِّيامَ إذا أُضيفَ إلى العشرِ فالمرادُ صيامُ ما يَجوزُ صومُهُ منهُ، وقد سَبَقَ حديثُ أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كانَ يَصومُ العشرَ

(3)

. ولو نَذَرَ صيامَ العشرِ؛ فيَنْبَغي أنْ يَنْصَرِفَ إلى التِّسعِ أيضًا، فلا يَلْزَمُ بفطرِ يومِ النَّحرِ قضاءٌ ولا كفَّارةٌ؛ فإنَّهُ غَلَبَ استعمالُهُ عرفًا في التِّسعِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُخَرَّجَ في لزومِ القضاءِ والكفَّارةِ خلافٌ؛ فإنَّ أحْمَدَ قالَ فيمَن نَذَرَ صومَ شوَّالٍ فأفْطَرَ يومَ الفطرِ وصامَ باقيَهُ: إنَّهُ يَلْزَمُهُ قضاءُ يومٍ وكفَّارةٌ. وقالَ القاضي أبو يَعْلى: هذا إذا نَوى صومَ جميعِهِ، فأمَّا إنْ أطْلَقَ؛ لمْ يَلْزَمْهُ

(1)

(14 - الاعتكاف، 4 - صوم عشر ذي الحجّة، 2/ 833/ 1176).

(2)

وفي هذا كلّه نظر من أوجه: أوّلها: أنّ حديث حفصة ضعيف كما تقدّم آنفًا، فإعلال حديث عائشة الذي رواه مسلم به غير متّجه. والثاني: أنّ إسناد الأعمش مقدّم على إرسال إبراهيم؛ لأنّه زيادة ثقة ثبت إمام حجّة. وليت شعري! إذا لم تقبل زيادة الأعمش؛ فزيادة من؟! والثالث: أنّ تقديم المثبت على النافي إنّما يكون بعد أن تصحّ الأسانيد بهما معًا، وليست الحال هنا كذلك.

(3)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 128 - 130).

ص: 584

شيءٌ؛ لأنَّ [يومَ] الفطرِ مستثنًى شرعًا. وهذهِ قاعدة مِن قواعدِ الفقهِ، وهيَ أنَّ العمومَ هل يُخَصُّ بالشَّرعِ أم لا؟ ففي المسألةِ خلافٌ مشهورٌ.

• وأمَّا قيامُ ليالي العشرِ؛ فمستحبٌّ، وقد سَبَقَ الحديثُ في ذلكَ

(1)

.

وقد وَرَدَ في خصوصِ إحياءِ ليلتي العيدينِ أحاديثُ لا تَصِحُّ، ووَرَدَ إجابةُ الدُّعاءِ فيهِما، واسْتَحَبَّهُ الشَّافِعِيُّ وغيرُهُ مِن العلماءِ

(2)

.

وكانَ سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ - وهوَ الذي رَوى هذا الحديثَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ

(3)

- إذا دَخَلَ العشرُ؛ اجْتَهَدَ اجتهادًا حتَّى ما يَكادُ يُقدَرُ عليهِ. ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ قالَ: لا تُطْفِئوا سرجَكُم لياليَ العشرِ؛ تُعْجِبُهُ العبادةُ.

• وأمَّا أستحبابُ الإكثارِ مِن الذِّكرِ فيها؛ فقد دَلَّ عليهِ قولُ اللهِ تَعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحجّ: 28]؛ فإنَّ الأيَّامَ المعلوماتِ هيَ أيَّامُ العشرِ عندَ جمهورِ العلماءِ. وسَيَأْتي ذكرُ ذلكَ فيما بعدُ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.

وفي "مسند الإمام أحْمَد": عنِ ابنِ عُمَرَ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"ما مِن أيَّامٍ أعظمُ عندَ اللهِ ولا أحبُّ إليهِ العملُ فيهنَّ مِن هذهِ الأيَّامِ العشرِ؛ فأكْثِروا فيهنَّ مِن التَّهليلِ والتَّكبيرِ والتَّحميدِ"

(4)

.

• فإنْ قيلَ: فإذا كانَ العملُ في أيَّامِ العشرِ أفضلَ مِن العملِ في غيرِها - وإنْ كانَ

(1)

(ضعيف). وهو حديث أبي هريرة الذي تقدّم نصّه وتخريجه (ص 581).

(2)

قيام ليلتي العيد أسوة بسائر ليالي السنة أمر مستحبّ محمود فاعله. واختصاص ليلتي العيد بالقيام أو بمزيد من الاجتهاد فيه استنادًا لما ورد فيهما من النصوص الواهية أمر غير مشروع ولا يأمن فاعله من لوثة ابتداع تزيد أو تنقص بحسب حاله.

(3)

لو صحّ أنّ سعيدًا روى هذا الحديث عن ابن عبّاس لصحّ الحديث! لكنّ الطريق إليه واهية!

(4)

(صحيح). رواه: أحمد (2/ 57)، وعبد بن حميد (807 - منتخب)، وأبو عوانة في "الصيام"، والطحاوي في "المشكل"(4/ 114)، والطبراني في "الكبير"(11/ 68/ 11116) و"الدعاء"(871)، والبيهقي في "الشعب"(3750 و 3751) و"الدعوات"، والأصبهاني في "الترغيب"(360)؛ من طرق ثلاث، عن مجاهد، عن ابن عمر (وفي الطبراني: عن ابن عبّاس)

رفعه.

وإحدى طرق الحديث قويّة، والطريقان الأُخريان تزيدانها قوّة، لكنّ ذكر ابن عبّاس فيه منكر تفرّد به يزيد بن أبي زياد الهاشميّ أحد الضعفاء والمعروف في هذا أنّه من حديث ابن عمر. وقد مال المنذري والهيثمي إلى تقوية هذا المتن لكن من حديث ابن عبّاس، وردّه الألباني، والصواب تقويته من حديث ابن عمر.

ص: 585

ذلكَ العملُ أفضلَ في نفسِهِ ممَّا عُمِلَ في العشرِ لفضيلةِ العشرِ في نفسِهِ فيَصيرُ العملُ المفضولُ فيهِ فاضلًا حتَّى يَفْضُلَ على الجهادِ الذي هوَ أفضلُ الأعمالِ كما دَلَّتْ على ذلكَ النُّصوصُ الكثيرةُ وهوَ قولُ الإمامِ أحْمَدَ وغيرِهِ مِن العلماءِ -؛ فيَنْبَغي أنْ يَكونَ الحجُّ أفضلَ مِن الجهادِ؛ لأنَّ الحجَّ مخصوصٌ بالعشرِ، وهوَ مِن أفضلِ ما عُمِلَ في العشرِ [أ] وأفضلُ ما عُمِلَ فيهِ؛ فكيفَ كانَ الجهادُ أفضلَ مِن الحجِّ؟! فإنَّهُ ثَبَتَ في الصَّحيحينِ

(1)

عن أبي هُرَيْرَةَ أنَّ رجلًا قالَ: يا رسولَ اللهِ! أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قالَ: "إيمانٌ باللهِ ورسولِهِ". قالَ: ثمَّ ماذا؟ قالَ: "جهادٌ في سبيلِ اللهِ". قالَ: ثمَّ ماذا؟ قالَ: "حجٌّ مبرورٌ".

قيلَ: التَّطوُّعُ بالجهادِ أفضلُ مِن التَّطوُّعِ بالحجِّ عندَ جمهورِ العلماءِ، وقد نَصَّ عليهِ الإمامُ أحْمَدُ، وهوَ مرويٌّ عن عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ، ورُوِيَ فيهِ أحاديثُ مرفوعةٌ في أسانيدِها مقالٌ

(2)

، وحديثُ أبي هُرَيْرَةَ هذا صريحٌ في ذلكَ.

ويُمْكِنُ الجمعُ بينَهُ وبينَ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ بوجهينِ:

أحدُهُما: أنَّ حديثَ ابنِ عَبَّاسٍ قد صُرِّحَ فيهِ بأنَّ جهادَ مَن لا يَرْجِعُ مِن نفسِهِ ومالِهِ بشيءٍ يَفْضُلُ على العملِ في العشرِ، فيُمْكِنُ أنْ يُقالَ: الحجُّ أفضلُ مِن الجهادِ؛ إلَّا جهادَ مَن لمْ يَرْجِعْ مِن نفسِهِ ومالِهِ بشيءٍ، ويَكونُ هوَ المراد

(3)

مِن حديثِ أبي هُرَيْرَةَ، ويَجْتَمعُ حينئذٍ الحديثانِ.

والثاني - وهوَ الأظهرُ -: أنَّ العملَ المفضولَ قد يَقْتَرِنُ بهِ ما يَصيرُ أفضلَ مِن الفاضلِ في نفسِهِ كما تَقَدَمَ. وحينئذٍ؛ فقد يَقْتَرِنُ بالحجِّ ما يَصيرُ بهِ أفضلَ مِن الجهادِ، وقد يَتَجَرَّدُ عن ذلكَ فيَكونُ الجهادُ حينئذٍ أفضلَ منهُ: فإنْ كانَ الحجُّ مفروضًا؛ فهوَ أفضلُ مِن التَّطوُّعِ بالجهادِ؛ فإن فروضَ الأعيانِ

(1)

البخاري (2 - الإيمان، 18 - من قال إنّ الإيمان هو العمل، 1/ 77/ 26)، ومسلم (1 - الإيمان، 36 - الإيمان بالله أفضل الأعمال، 1/ 88/ 83).

(2)

يعني أن تفضيل التطوّع بالجهاد على التطوّعِ بالحجّ روي عن جماعة من الأئمّة، وعن عبد الله بن عمرو موقوفًا، وفيه أحاديث مرفوعة لا تصحّ، وانظر شيئًا من هذه المرويّات في "الدرّ المنثور"(التوبة 19).

(3)

في خ وم: "ويكون هذا المراد"، والأولى ما أثبتّه من ن وط.

ص: 586

أفضلُ مِن فروضِ الكفاياتِ عندَ جمهورِ العلماءِ. وقد رُوِيَ هذا في الحجِّ والجهادِ بخصوصِهِما عن عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ، ورُوِيَ مرفوعًا مِن وجوهٍ متعدِّدةٍ في أسانيدِها لينٌ

(1)

. وقد دَلَّ على ذلكَ ما حَكاهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن ربِّهِ عز وجل؛ أنَّهُ قالَ: "ما تَقَرَّبَ إليَّ عبدي بمثلِ أداءِ ما افْتَرَضْتُ عليهِ"

(2)

.

وإنْ كانَ الحاجُّ ليسَ مِن أهلِ الجهادِ؛ فحجُّهُ أفضلُ مِن جهادِهِ، كالمرأةِ. وفي "صحيح البُخارِيِّ"

(3)

: عن عائِشَةَ رضي الله عنها؛ أنَّها قالَتْ: يا رسولَ اللهِ! نَرى الجهادَ أفضلَ العملِ، أفلا نُجاهِدُ؛ فقالَ:"لكن أفضلُ الجهادِ حجٌّ مبرورٌ". وفي روايةٍ لهُ

(4)

: "جهادُكنَّ الحجُّ". وفي روايةٍ لهُ أيضًا

(5)

: "نِعْمَ الجهادُ الحجُّ".

وكذلكَ إذا اسْتَغْرَقَ العشرَ كلَّهُ عملُ الحجِّ، وأُتِيَ بهِ على أكملِ وجوهِ البرِّ مِن أداءِ الواجباتِ واجتنابِ المحرَّماتِ، وانْضَمَّ إلى ذلكَ الإحسانُ إلى النَّاسِ ببذلِ السَّلامِ وإطعامِ الطَّعامِ، وضُمَّ إليهِ كثرةُ ذكرِ اللهِ عز وجل والعجُّ والثَّجُّ - وهوَ رفعُ الصَّوتِ بالتَّلبيةِ وسوقُ الهديِ -؛ فإنَّ هذا الحجِّ على هذا الوجهِ قد يَفْضُلُ على الجهادِ. وإنْ وَقَعَ عملُ الحجِّ في جزءٍ يَسيرٍ مِن العشرِ، ولم يُؤْتَ بهِ على الوجهِ المبرورِ؛ فالجهادُ أفضلُ منهُ.

وقد رُوِيَ عن عُمَرَ [وابنِ عُمَرَ] وأبي موسى الأشْعَرِيِّ ومُجاهِدٍ ما يَدُلُّ على تفضيلِ الحجِّ على الجهادِ وسائرِ الأعمالِ. ويَنْبَغي حملُهُ على الحجِّ المبرورِ الذي كَمَلَ برُّهُ واسْتَوْعَبَ فعلُهُ أيَّامَ العشرِ، واللهُ أعلمُ.

• فإنْ قيلَ: قولُهُ صلى الله عليه وسلم "ما مِن أيَّامٍ العملُ الصَّالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ مِن هذهِ الأيَّامِ" هل يَقْتَضي تفضيلَ كلِّ عملٍ صالحٍ وَقَعَ في شيءٍ مِن أيَّامِ العشرِ على جميعِ ما يَقَعُ في غيرِها وإنْ طالَتْ مدَّتُهُ أم لا؟

(1)

انظر ما تقدّم قبل حاشية.

(2)

رواه البخاري (81 - الرقاق، 38 - التواضع، 11/ 340/ 6502) من حديث أبي هريرة.

(3)

(25 - الحجّ، 4 - فضل الحجّ المبرور، 3/ 381/ 1520).

(4)

(56 - الجهاد، 62 - جهاد النساء، 6/ 75/ 2875).

(5)

(الموضع السابق، 2876).

ص: 587

قيلَ: الظَّاهرُ - واللهُ أعلمُ - أنَّ المرادَ أنَّ العملَ في هذهِ الأيَّامِ العشرِ أفضلُ مِن العملِ في أيَّامٍ عشرٍ غيرِها، فكلُّ عملٍ صالحٍ تقَعُ في هذا العشرِ فهوَ أفضلُ مِن عملٍ في عشرةِ أيَّامٍ سواها مِن أيِّ شهرٍ كانَ، فيَكونُ تفضيلًا للعملِ في كلِّ يومٍ منهُ على العملِ في كلِّ يومٍ مِن أيَّامِ السَّنةِ غيرِهِ.

وقد قيلَ: إنَّما يَفْضُلُ العملُ فيها على الجهادِ إذا كانَ العملُ فيها مستغرقًا لأيَّامِ العشرِ، فيَفْضُلُ على جهادٍ في عددِ تلكَ الأيَّامِ مِن غيرِ العشرِ. وإنْ كانَ العملُ مستغرقًا لبعضِ أيَّامِ العشرِ؛ فهوَ أفضلُ مِن جهادٍ في نظيرِ ذلكَ الزَّمانِ مِن غيرِ العشرِ.

واسْتُدِلَّ على ذلكَ بأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ العملَ الدَّائمَ الذي لا يَفْتُرُ مِن صيامٍ وصلاةٍ معادلًا للجهادِ في أيِّ وقتٍ كانَ، فإذا وَقَعَ ذلكَ العملُ الدَّائمُ في العشرِ؛ كانَ أفضلَ مِن الجهادِ [في سبيلِ اللهِ] في مثلِ أيَّامِهِ؛ لفضلِ العشرِ وشرفِهِ.

ففي الصَّحيحينِ

(1)

: عن أبي هُرَيْرَةَ؛ قالَ: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: دُلَّني على عملٍ يَعْدِلُ الجهادَ. قالَ: "لا أجِدُهُ". قالَ: "هل تَسْتَطيعُ إذا خَرَجَ المجاهدُ أنْ تَدْخُلَ مسجدَكَ فتَقومَ ولا تَفْتُرَ وتَصومَ ولا تُفْطِرَ؟ ". قالَ: ومَن يَسْتَطيعُ ذلكَ؟! ولفظُهُ للبُخارِيِّ. ولمسلمٍ معناهُ، وزادَ: ثمَّ قالَ:"مثلُ المجاهدِ في سبيلِ اللهِ كمثلِ الصَّائمِ القائمِ القانتِ بآياتِ اللهِ الذي لا يَفْتُرُ مِن صلاةٍ ولا صيامٍ حتَّى يَرْجِعَ المجاهدُ في سبيلِ اللهِ". وللبُخارِيِّ

(2)

: "مثلُ المجاهدِ في سبيلِ اللهِ - واللهُ أعلمُ بمَن يُجاهِدُ في سبيلِهِ - كمثلِ الصِّائمِ القائمِ". وللنَّسائِيِّ

(3)

: "كمثلِ الصَّائمِ القائمِ الخاشعِ الرَّاكعِ السَّاجدِ".

ويَدُلُّ على أنَّ المرادَ تفضيلُهُ على جهادٍ في مثلِ أيَّامِهِ خاصَّةً ما [وَرَدَ] في "صحيح ابن حِبَّان": عن جابِرٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "ما مِن أيَّامٍ أفضلُ عندَ اللهِ مِن أيَّامِ عشرِ ذي

(1)

البخاري (56 - الجهاد، 1 - فضل الجهاد، 6/ 4/ 2785)، ومسلم (33 - الإمارة، 29 - فضل الشهادة، 3/ 1498/ 1878).

(2)

(56 - الجهاد، 2 - أفضل الناس، 6/ 6/ 2787).

(3)

في "الكبرى"(4335) و"المجتبى"(25 - الجهاد، 16 - مثل المجاهد، 6/ 18/ 3127) من طريق البخاري الأخيرة نفسها.

ص: 588

الحجَّةِ". فقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللهِ! هوَ أفضلُ أم عدَّتُهُنَّ جهادًا في سبيلِ اللهِ؟ قالَ: "هوَ أفضلُ مِن عدَّتِهنَّ جهادًا في سبيلِ اللهِ"

(1)

. فلم يُفَضِّلِ العملَ في العشرِ إلَّا على الجهادِ في عدَّةِ أيَّامِ العشرِ لا مطلقًا.

وأمَّا ما تَقَدَّمَ مِن أنَّ كلَّ يومٍ منهُ يَعْدِلُ سنةً أو شهرينِ أو ألفَ يومٍ؛ فكلُّها مِن أحاديثِ الفضائلِ ليستْ بقويَّةٍ.

ثمَّ [إنَّ] أكثرَ ما وَرَدَ ذلكَ في صيامِها، والصِّيامُ لهُ خصوصيَّةٌ في المضاعفةِ؛ فإنَّهُ للهِ، واللهُ يَجْزي بهِ.

فإنْ قيلَ: إنَّهُ لا يَخْتَصُّ بالصَّومِ، بل يَعُمُّ سائرَ الأعمالِ. فإنَّما يَدُلُّ على تفضيلِ كلِّ عملٍ في العشرِ على مثلِ ذلكَ في غيرِهِ سنةً، فلا يَدْخُلُ فيهِ إلَّا تفضيلُ مَن جاهَدَ في العشرِ على مَن جاهَدَ في غيرِهِ سنةً

(2)

.

وإذا قيلَ: يَلْزَمُ مِن تفضيلِ العملِ في هذا العشرِ على كلِّ عشرٍ غيرِهِ أنْ يَكونَ صيامُ هذا العشرِ أفضلَ مِن صومِ عشرِ رمضانَ وقيامُ لياليهِ أفضلَ مِن قيامِ لياليهِ. قيلَ: أمَّا صيامُ رمضانَ؛ فأفضلُ مِن صيامِهِ بلا شكٍّ؛ فإنَّ صومَ الفرضِ أفضلُ مِن النَّفلِ بلا تردُّدٍ، وحينئذٍ فيَكونُ المرادُ أنَّ ما فُعِلَ في العشرِ مِن فرضٍ فهوَ أفضلُ ممَّا فُعِلَ في عشرٍ غيرِهِ مِن فرضٍ، فقد تُضاعَفُ صلواتُهُ المكتوبةُ على صلواتِ عشرِ رمضانَ، وما فُعِلَ فيهِ مِن

(1)

(ضعيف بهذا التمام). رواه: البزّار (1128 - كشف)، وأبو يعلى (2090)، وأبو عوانة (2/ 459 - فتح)، وابن حبّان (3853)، والإسماعيلي في "الشيوخ"(1/ 327)، وأبو موسى المديني (466 - لطائف)؛ من طرق، عن أبي الزبير، عن جابر

رفعه.

قال المنذري: "البزّار بإسناد حسن وأبو يعلى بإسناد صحيح". وقال الهيثمي في "المجمع"(3/ 256): "فيه محمّد بن مروان العقيلي وثّقه ابن معين وابن حبّان وفيه بعض كلام". قلت: توبع من وجهين، فإعلاله به غير متوجّه. وقال الهيثمي مرّة (4/ 20):"إسناده حسن رجاله ثقات". قلت: أمّا أنّهم ثقات؛ فنعم، وأمّا أنّه حسن؛ فلا؛ فإنّ فيه عنعنة أبي الزبير على كثرة تدليسه عن جابر رضي الله عنه. فهذه علّة هذا الحديث القادحة. وهاهنا علّة أُخرى أشار إليها ابن رجب (ص 591) بقوله:"وروي مرسلًا وقيل إنّه أصحّ". قلت: لم أقف عليه مرسلًا. وقوّاه الألباني بشواهده، وهو كذلك بلا ريب. لكنّ فيه زيادات لم ترد في شواهده: منها ذكر "عدّتهنّ"، ومنها تسوية لياليهنّ بأيّامهنّ، ومنها زيادة "إلّا من عفّر وجهه بالتراب"، ومنها زيادة "وما من يوم أفضل من يوم عرفة". فالشواهد قاصرة عن تقوية هذه الزيادات الأربع. والله أعلم.

(2)

أوليس ضعف الحديث مغنيًا عن تكلّف التوجيهات له؟!

ص: 589

نفلٍ فهوَ أفضلُ ممَّا فُعِلَ في غيرِهِ مِن نفلٍ

(1)

.

• وقدِ اخْتَلَفَ عُمَرُ وعَلِيٌّ رضي الله عنهما في قضاءِ رمضانَ في عشرِ ذي الحجَّةِ: فكانَ عُمَرُ يَسْتَحِبُّهُ لفضلِ أيَّامِهِ، فيَكونُ قضاءُ رمضانَ فيهِ أفضلَ مِن غيرِهِ، وهذا يَدُلُّ على مضاعفةِ الفرضِ فيهِ على النَّفلِ. وكانَ عَلِيٌّ يَنْهى عنهُ. وعنْ أحْمَدَ في ذلكَ روايتانِ. وقد عُلِّلَ قولُ عَلِيٍّ بأنَّ القضاءَ فيهِ يَفوتُ بهِ فضلُ صيامِهِ تطوُّعًا، وبهذا عَلَّلَهُ الإمامُ أحْمَدُ وغيرُهُ. وقد قيلَ: إنَّهُ يَحْصُلُ بهِ فضيلةُ صيامِ التَّطوُّعِ أيضًا، وهذا على قولِ مَن يَقولُ: إنَّ مَن نَذَرَ صيامَ شهرٍ فصامَ رمضانَ؛ أجْزَأهُ عن نذرِهِ وفرضِهِ متوجِّهٌ. وقد عُلِّلَ بغيرِ ذلكَ.

وأمَّا قيامُ لياليهِ وتفضيلُ قيامِهِ على قيامِ عشرِ رمضانَ، فيَأْتي الكلامُ فيهِ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.

‌الفصل الثاني: في فضل عشر ذي الحجة على غيره من أعشار الشهور

• قد سَبَقَ

(2)

حديثُ ابنِ عُمَرَ المرفوعُ: "ما مِن أيَّامٍ أعظمَ عندَ اللهِ ولا أحبَّ إليهِ العملُ فيهنَّ مِن هذهِ الأيَّامِ العشرِ".

وفي "صحيح ابن حِبَّان": عن جابرٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"ما مِن أيَّامٍ أفضلَ عندَ اللهِ مِن أيَّامِ عشرِ ذي الحجَّةِ"

(3)

. وقد تَقَدَّمَ.

ورُوِّيْناهُ مِن وجهٍ آخرَ بزيادةٍ، وهيَ:"ولا لياليَ أفضلَ مِن لياليهِنَّ". قيلَ: يا رسولَ اللهِ! هنَّ أفضلُ مِن عدَّتهنَّ جهادًا في سبيلِ اللهِ؟ قالَ: "هنَّ أفضلُ مِن عدَّتهِنَّ

(4)

جهادًا في سبيلِ اللهِ؛ إلَّا مَن عُفِّرَ وجهُهُ تعفيرًا. وما مِن يومٍ أفضلَ مِن يومِ عرفةَ"

(5)

.

(1)

في خ: "تضاعف صلاة المكتوبة

من نفل وغيره"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

(صحيح). تقدم تفصيل القول فيه (ص 585).

(3)

(صحيح لشواهده). تقدّم نصّه وبيان ضعفه (ص 589)، لكنّ هذه القطعة بالتحديد صحيحة بشواهدها، ومنها حديث ابن عمر المتفق عليه المتقدّم قبله.

(4)

في خ: "من عدّهنّ جهادًا

من عدّهن"! والصواب ما أثبتّه من م ون وط.

(5)

(ضعيف). تقدّم الكلام في إسناده (ص 589).

ص: 590

خَرَّجَهُ الحافظُ أبو موسى المَدِينِيُّ مِن جهةِ أبي نُعَيْمٍ

(1)

الحافِظِ بالإسنادِ الذي خَرَّجَهُ بهِ ابنُ حِبَّانَ.

وخَرَّجَ البَزَّارُ وغيرُهُ مِن حديثِ: جابِرٍ أيضَّاَ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"أفضلُ أيَّامِ الدُّنيا أيَّامُ العشرِ". قالوا: يا رسولَ اللهِ! ولا مثلُهُنَّ في سبيلِ اللهِ؟ قالَ: "ولا مثلُهُنَّ في سبيلِ اللهِ؛ إلَّا مَن عُفِّرَ وجهُهُ في التُّرابِ"

(2)

. ورُوِيَ مرسلًا وقيلَ: إنَّهُ أصحُّ.

وقد سَبَقَ ما رُوِيَ عنِ ابنِ عُمَرَ؛ قالَ: ليسَ يومٌ أعظمَ عندَ اللهِ مِن يومِ الجمعةِ، ليسَ العشرَ. وهوَ يَدُلُّ على أنَّ أيَّامَ العشرِ أفضلُ مِن يومِ الجمعةِ الذي هوَ أفضلُ الأيَّامِ.

وقال سُهَيْلُ بنُ أبي صالحٍ، عن أبيهِ، عن كَعْبٍ؛ قالَ: اخْتارَ اللهُ الزَّمانَ، فأحبُّ الزَّمانِ إلى اللهِ الشَّهرُ الحرامُ، وأحبُّ الأشهرِ الحرمِ إلى اللهِ ذو الحجَّةِ، وأحبُّ ذي الحجَّةِ إلى اللهِ العشرُ الأوَّلُ

(3)

. ورَواهُ بعضُهُم عن سُهَيْلٍ عن أبيهِ عن أبي هُرَيْرَةَ ورَفَعَهُ، ولا يَصِحُّ ذلكَ.

وقال مَسْروقٌ في قولِهِ تَعالى {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2]: هيَ أفضلُ أيَّامِ السَّنةِ. خَرَّجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وغيرُهُ.

وأيضًا؛ فأيَّامُ هذا العشرِ يَشْتَمِلُ على يومِ عرفةَ، وقد رُوِيَ أنَّهُ أفضلُ أيَّامِ الدُّنيا، كما [جاءَ] في حديثِ جابِرٍ الذي ذَكَرْناهُ

(4)

.

وفيهِ يومُ النَّحرِ. وفي حديثِ: عَبْدِ اللهِ بنِ قُرْطٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قالَ:"أعظمُ الأيَّامِ عندَ اللهِ يومُ النَّحرِ ثمَّ يومُ القرِّ"

(5)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ وأبو داوودَ وغيرُهُما.

(1)

في خ وم: "المدينيّ وخرّجه أبو نعيم"، وما أثبتّه من ن وط أولى بالصواب.

(2)

(ضعيف): تقدّم الكلام في إسناده (ص 589).

(3)

(منكر مرفوعًا). رواه ابن عدي (4/ 1589) من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة

رفعه.

وهذا سند ساقط: عبد الرحمن العمري هذا متّهم متروك، وقد خالف جماعة الثقات الذين رووه عند ابن نصر في "تعظيم الصلاة"(326) وأبي نعيم في "الحلية"(6/ 15) عن سهيل عن أبيه عن السلولي عن كعب موقوفًا. ولذلك استنكره ابن عدي والذهبي وابن رجب.

(4)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 589).

(5)

(صحيح). رواه: أحمد (4/ 350)، والبخاري في "التاريخ"(5/ 34)، وأبو داوود (5 _ =

ص: 591

وهذا كلُّهُ يَدُلُّ على أنَّ عشرَ ذي الحجَّةِ أفضلُ مِن غيرِهِ مِن الأيَّامِ مِن غيرِ استثناءٍ. هذا في أيَّامِهِ.

• فأمَّا لياليهِ؛ فمِن المتأخِّرينَ

(1)

مَن زَعَمَ أنَّ لياليَ عشرِ رمضانَ أفضلُ مِن لياليهِ لاشتمالِها على ليلةِ القدرِ. وهذا بعيدٌ جدًّا

(2)

. ولو صَحَّ حديثُ أبي هُرَيْرَةَ "قيامُ كلِّ ليلةٍ منها بقيامِ ليلةِ القدرِ"؛ لَكانَ صريحًا في تفضيلِ لياليهِ على ليالي عشرِ رمضانَ؛ فإنَّ عشرَ رمضانَ فُضِّلَ بليلةٍ واحدةٍ فيهِ، وهذا جميعُ لياليهِ مساويةٌ لها في القيامِ على هذا الحديثِ

(3)

. ولكنَّ حديثَ جابِرٍ الذي خَرَّجَهُ أبو موسى صريحٌ في تفضيلِ لياليهِ كتفضيلِ أيَّامِهِ أيضًا

(4)

، والأيَّامُ إذا أُطْلِقَتْ دَخَلَتْ فيها الليالي تبعًا، وكذلكَ الليالي تَدْخُلُ أيَّامُها تبعًا.

وقد أقْسَمَ اللهُ تَعالى بلياليهِ فقالَ تَعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2]، وهذا يَدُلُّ على فضيلةِ لياليهِ أيضًا

(5)

.

لكنْ لم يَثْبُتْ أنَّ لياليَهُ ولا شيئًا منها يَعْدِلُ ليلةَ القدرِ.

وقد زَعَمَ طوائفُ مِن أصحابِنا أنَّ ليلةَ الجمعةِ أفضلُ مِن ليلةِ القدرِ،

= المناسك، 19 - الهدي إذا عطب، 1/ 548/ 1765)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2407 و 2408)، والنسائي في "الكبرى"(4098)، وابن خزيمة (2866 و 2917 و 2966)، والطحاوي (3/ 50)، وابن قانع (2/ 103 - 104/ 555)، وابن حبّان (2811)، والطبراني في "الأوسط"(2442) و"الشاميّين"(475)، والحاكم (4/ 221)، والبيهقي (5/ 237 و 241، 7/ 288)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(2/ 189)، وابن عساكر (32/ 5 - 7)، وابن الأثير في "الغابة"(3/ 60)، والمزّي (15/ 445)؛ من طريق ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد، عن عبد الله بن لحيّ، عن عبد الله بن قرط

رفعه.

وهذا إسناد رجاله ثقات، وقد صحّحه ابن خزيمة وابن حبّان والحاكم والبيهقي والذهبي والألباني.

(1)

كأنّه يعني شيخي الإسلام فإنّهما يقولان بهذا القول.

(2)

لست أدري لماذا! مع أنّه قول وجيه جدًّا! ودخول ليالي العشر في أيّامه لا يعني أنّها تساويها تمامًا في الفضل، بل فضل النهار فيها على الليل ظاهر لأنّ معظم أعمال الحجّ تقع في النهار. فأيّ بعد في أن تكون ليالي عشر رمضان خيرًا من ليالي عشر ذي الحجّة وأيّام عشر ذي الحجّة خيرًا من أيّام عشر رمضان؟!

(3)

ولكنّه غير صحيح كما تقدّم.

(4)

ولكنّه غير صحيح كما تقدّم.

(5)

فضل ليالي العشر ليس موضع أخذ وردّ، وإنّما الكلام في فضل لياليه على ليالي عشر رمضان.

ص: 592

ولكنْ لا يَصِحُّ ذلكَ عن أحْمَدَ. فعلى قولِ هؤلاءِ لا يُسْتَبْعَدُ تفضيلُ ليالي هذا العشرِ على ليلةِ القدرِ.

والتَّحقيقُ ما قالَهُ بعضُ أعيانِ المتأخِّرينَ مِن العلماءِ؛ أنْ يُقالَ: مجموعُ هذا العشرِ أفضلُ مِن مجموعِ عشرِ رمضانَ، وإنْ كانَ في عشرِ رمضانَ ليلةٌ لا يَفْضُلُ عليها غيرُها. واللهُ أعلمُ.

• وما تَقَدَّمَ عن كَعْبٍ يَدُلُّ على أنَّ شهرَ ذي الحجَّةِ أفضلُ الأشهرِ الحرمِ الأربعةِ.

وكذا قالَ سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ راوي هذا الحديثِ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ: ما مِن الشُّهورِ شهرٌ أعظمَ حرمةً مِن ذي الحجَّةِ.

وفي "مسند البزَّار": عن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"سيِّدُ الشُّهورِ رمضانُ، وأعظمُها حرمةً ذو الحجَّةِ"

(1)

. وفي إسنادِهِ ضعفٌ.

وفي "مسند الإمام أحْمَد": عن أبي سَعيدٍ أيضًا؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ في حجَّةِ الوداعِ في خطبتِهِ يومَ النَّحرِ: "ألا إنَّ أحرمَ الأيَّامِ يومُكُم هذا، ألا وإنَّ أحرمَ الشُّهورِ شهرُكُم هذا، ألا وإنَّ أحرمَ البلادِ بلدُكُم هذا"

(2)

. ورُوِيَ ذلكَ أيضًا عن جابِرٍ ووابِصَةَ بنِ مَعْبَدٍ ونُبَيْطِ بنِ شَريطٍ وغيرِهِم عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

(3)

.

(1)

(موضوع). رواه: البزّار (960 - كشف)، والبيهقي في "الشعب"(3637 و 3755)؛ من طريق خالد بن يزيد، ثنا يزيد بن عبد الملك، عن صفوان بن سليم، عن عطاء، عن أبي سعيد

رفعه. قال البيهقي وابن رجب: "في إسناده ضعف". وقال الهيثمي (3/ 143): "فيه يزيد بن عبد الملك النوفلي فيه لين وقد روى عنه جماعة". ورمز السيوطي لحسنه فردّه المناوي بإعلال الهيثمي. وقال الألباني: "ضعيف". قلت: ذهلوا جميعًا عن علّة الحديث الكبرى، وهي خالد بن يزيد المكي أبو الهيثم العمري؛ فإنّه كذّاب يضع الحديث، وقد تفرّد بهذا، فهو ممّا افترته يداه.

(2)

(صحيح). رواه: أحمد (3/ 80)، وابن ماجه (36 - الفتن، 2 - حرمة دم المؤمن، 2/ 1297/ 3931)؛ من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد

رفعه. قال البوصيري: "إسناد صحيح رجاله ثقات". وصحّحه الألباني.

(3)

أمّا حديث جابر؛ فرواه: ابن أبي شيبة (37154)، وأحمد (3/ 80 و 313 و 371)، والفاكهي (1894)، وابن أبي عاصم في "الديات"(ص 24)، وأبو يعلى (2113)؛ من أوجه قويّة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن جابر

رفعه. قال الهيثمي (3/ 271): "رجاله رجال الصحيح". قلت: وقع في "مسند أبي يعلى": "عن أبي سفيان وأبي صالح أو أحدهما"، ولا يضرّ؛ لأنّه تردّد بين ثقتين أوّلًا، ولأنّ الطرق الأُخرى =

ص: 593

وهذا كلُهُ يَدُلُّ على أنَّ شهرَ ذي الحجَّةِ أفضلُ الأشهرِ الحرمِ حيثُ كانَ أشدَّها حرمةً

(1)

.

وقد رُوِيَ عنِ الحَسَنِ أنَّ أفضلَها المحرَّمُ، وسَنَذْكُرُهُ عندَ ذكرِ شهرِ المحرَّمِ إنْ شاءَ اللهُ

(2)

.

وأمَّا مَن قالَ: إنَّ أفضلَها رجبٌ؛ فقولُهُ مردودٌ.

• ولعشرِ ذي الحجَّةِ فضائلُ أُخرُ غيرُ ما تَقَدَّمَ:

* فمِن فضائلِهِ أنَّ اللهَ تَعالى أقْسَمَ بهِ جملةً وببعضِهِ خصوصًا: قالَ تَعالى:

{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2]. فأمَّا الفجرُ: فقيلَ: إنَّهُ أرادَ جنسَ الفجرِ.

= بيّنت أنّه أبو صالح لا أبو سفيان فارتفع الخلاف وصحّ السند.

وأمّا حديث وابصة؛ فوقفت له على ثلاثة وجوه: روى أوّلها: الطبراني (22/ 147/ 401) من طريق طلحة بن زيد، عن راشد بن أبي راشد، عن وابصة

رفعه. قال الهيثمي (1/ 144): "طلحة بن زيد اتّهم بوضع الحديث". وروى الثاني: ابن أبي عاصم في "الآحاد"(1052)، والبزّار (145 - كشف)، وأبو يعلى (1589)، والطبراني في "الأوسط"(4168)، وابن عساكر (20/ 83)؛ من طريقين ضعيفتين، عن جعفر بن برقان، عن شدّاد مولى عياض، عن وابصة

رفعه. قال الهيثمي (3/ 273): "رجاله موثّقون"، وأقرّه العسقلاني، قلت: شدّاد لا يعرف. وروى الثالث: ابن أبي عاصم في "الآحاد"(1053)، وأبو يعلى (1590)، وابن عساكر (20/ 83 و 84)؛ من ثلاث طرق إحداها قويّة، عن جعفر بن برقان، ثني سالم بن وابصة، عن أبيه

رفعه. وهذا سند حسن. وختامًا؛ فإمّا أنّ لجعفر في هذا الحديث شيخين، وهو الظاهر الراجح، فيتقوّى وجهه الثالث بالثاني ويصحّ. وإمّا أنّ الرواة أختلفوا عليه، فيسقط الثاني ويسلم الثالث لقوّة موارده، ويكون الحديث صحيحًا لشواهده.

وأمّا حديث نبيط؛ فرواه: ابن سعد (2/ 184، 6/ 29)، وأحمد (4/ 305)، والفاكهي (1894)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(1298)، والنسائي في "الكبرى"(4097)، والبغوي (2/ 148 - إصابة)، وابن السكن (2/ 148 - إصابة)، وابن قانع في "المعجم"(1/ 346/ 434، 3/ 169/ 1144)، وابن حزم في "حجّة الوداع"(150)، والبيهقي (3/ 215)، والضياء (7/ 240/ 2684)، والذهبي في "النبلاء"(12/ 151)؛ من طرق، عن أبي مالك الأشجعي، عن نبيط بن شريط

رفعه. وهذا سند صحيح، لولا أنّهم اختلفوا: فقال بعضهم "عن نبيط عن النبيّ صلى الله عليه وسلم"، وقال بعضهم "عن نبيط عن أبيه شريط بن أنس عن النبيّ"، ولا يضرّ، فكلاهما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، نصّت بعض الروايات على ذلك.

وفي الباب عن جماعة ينظر لهم: "جامع الأُصول"(1/ 258/ 52)، و"مجمع الزوائد"(3/ 268).

(1)

كون ذي الحجّة أشدّ الأشهر حرمة لا يقتضي أنّه أفضلها بالضرورة. ألا ترى أنّه ليس أفضل من رمضان مع أنّ رمضان ليس من الأشهر الحرم؟ ألا ترى أنّ الحسن مال إلى تفضيل المحرّم عليه؟

(2)

هذا يدلّ على أنّ ابن رجب يرحمه الله لم يصنّف كتابه على ترتيب الأشهر ابتداء من المحرّم.

ص: 594

وهلِ: المرادُ طلوعُ الفجرِ أو صلاةُ الفجرِ أوِ النَّهارُ كلُّهُ؟ فيهِ اختلافٌ بينَ المفسِّرينَ. وقيلَ: إنَّهُ أُريدَ بهِ فجرٌ معيَّنٌ. ثمَّ قيلَ: إنَّهُ أُريدَ بهِ فجرُ أوَّلِ يومٍ مِن عشرِ ذي الحجَّةِ. وقيلَ: بل أُريدَ [بهِ] فجرُ آخرِ يومٍ منهُ، وهوَ يومُ النَّحرِ. وعلى جميعِ هذهِ الأقوالِ فالعشرُ يَشْتَمِلُ على الفجرِ الذي أقْسَمَ اللهُ بهِ.

وأمَّا الليالي العشرِ؛ فهيَ عشرُ ذي الحجَّةِ. هذا الصَّحيحُ الذي عليهِ جمهورُ المفسِّرينَ مِن السَّلفِ وغيرِهِم، وهوَ الصَّحيحُ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ، رُوِيَ عنهُ مِن غيرِ وجهٍ، والرِّوايةُ عنهُ أنَّهُ عشرُ رمضانَ إسنادُها ضعيفٌ. وفيهِ حديثٌ مرفوعٌ خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائِيُّ في "التَّفسير" مِن روايةِ: زَيْدِ بنِ الحُبَابِ، حَدَّثَنا عَيَّاشُ بنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنا خَيْرُ بنُ نُعَيْمٍ

(1)

، عن أبي الزُّبَيْرِ، عن جابِرٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"العشرُ عشرُ الأضحى، والوترُ يومُ عرفةَ، والشَّفعُ يومُ النَّحرِ"

(2)

. وهوَ إسنادٌ حسنٌ.

وكذا فَسَّرَ الشَّفعَ والوترَ ابنُ عَبَّاسٍ في روايةِ عِكْرِمَةَ وغيرِهِ، وفَسَّرَهُما أيضًا بذلكَ عِكْرِمَةُ والضَّحَّاكُ وغيرُ واحدٍ. وقد قيلَ في الشَّفعِ والوترِ أقوالٌ كثيرةٌ، وأكثرُها لا يَخْرُجُ عن أنْ يَكونَ العشرُ أو بعضُهُ مشتملًا على الشَّفعِ والوترِ أو أحدِهِما: كقولِ مَن قالَ: هيَ الصَّلاةُ منها شفعٌ ومنها وترٌ، وقد خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ مِن حديثِ عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم"

(3)

. وقولِ مَن قالَ: هيَ المخلوقاتُ منها شفعٌ ومنها وترٌ. يَدْخُلُ

(1)

في خ: "جرير بن نعيم"! وهذا تحريف صوابه ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

(ضعيف). رواه: أحمد (3/ 327)، والبزّار (2286 - كشف)، والنسائي في "الكبرى"(11671 و 11672)، والطبري (37073)، وابن المنذر في "التفسير"(الفجر 2 - الدرّ)، وابن أبي حاتم (الفجر 2 - ابن كثير)، والحاكم (4/ 220)، وابن مردويه؛ من طريق قويّة، عن أبي الزبير، عن جابر

رفعه. قال البزّار: "لا نعلمه يروى عن جابر إلّا بهذا الإسناد". وقال الحاكم: "على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي (7/ 140):"رجال الصحيح غير عيّاش بن عقبة وهو ثقة"، وهذا أدقّ من قول الحاكم والذهبيّ فإنّ مسلمًا لم يخرّج لعيّاش. لكن هاهنا علّة قادحة، وهي أنّ أبا الزبير عنعن على كثرة تدليسه عن جابر، ولذلك - والله أعلم - قال ابن كثير:"رجاله لا بأس بهم، وعندي أنّ المتن في رفعه نكارة".

(3)

(ضعيف). رواه: أحمد (4/ 437 و 438 و 442)، وعبد بن حميد (الفجر 3 - الدرّ المنثور)، والترمذي (48 - التفسير، 79 - سورة الفجر، 5/ 440/ 3342)، والطبري (37097 و 37098 و 37099)، والروياني (124 و 148)، وابن أبي حاتم (سورة الفجر 3 - ابن كثير)، والطبراني (18/ 232/ 578 و 579)، والحاكم (2/ 522)، وابن مردويه (الفجر 3 - الدرّ)، والمزّي في "التهذيب"(22/ 341)؛ من طريق قتادة، عن =

ص: 595

فيها أيَّامُ العشرِ. وقولِ مَن قالَ: الشَّفعُ الخلقُ كلُّهُ والوترُ اللهُ تَعالى؛ فإنَّ أيَّامَ العشرِ مِن جملةِ المخلوقاتِ.

* ومِن فضائلِهِ أيضًا: أنَّهُ مِن جملةِ الأربعينَ التي واعَدَها اللهُ [عز وجل] لموسى عليه السلام

(1)

. قالَ تَعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]. لكنْ هل عشرُ ذي الحجَّةِ خاتمةُ الأربعينَ فيَكونَ هوَ العشرَ الذي أُتِمَّ بهِ الثَّلاثونَ، أم هوَ أوَّلُ الأربعينَ فيَكونَ مِن جملةِ الثَّلاثينَ التي أُتِمَّتْ بعشرٍ. فيهِ اختلافٌ بينَ المفسِّرينَ.

رَوى: عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عن مَعْمَرٍ، عن يَزيدَ بنِ أبي زِيادٍ، عن مُجاهِدٍ؛ قالَ: ما مِن عملٍ في أيَّامِ السَّنةِ أفضلَ منهُ في العشرِ مِن ذي الحجَّةِ، وهيَ العشرُ التي أتَمَّها اللهُ لموسى عليه السلام

(2)

.

* ومِن فضائلِهِ: أنَّهُ خاتمةُ الأشهرِ المعلوماتِ أشهرِ الحجِّ، التي قالَ اللهُ فيها:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وهيَ شوَّالٌ وذو القعدةِ وعشرٌ مِن ذي الحجَّةِ

(3)

. رُوِيَ ذلكَ عن عُمَرَ وابنِهِ عَبْدِ اللهِ وعَلِيٍّ وابنِ مَسْعودٍ وابنِ عَبَّاسٍ وابنِ الزُّبَيْرِ وغيرِهِم، وهوَ قولُ أكثرِ التَّابعينَ ومذهبُ الشَّافِعِيِّ وأحْمَدَ وأبي حَنيفَةَ وأبي يوسُفَ وأبي ثَوْرٍ وغيرِهِم، لكنِ الشَّافِعِيُّ وطائفةٌ أخْرَجوا منهُ يومَ النَّحرِ وأدْخَلَهُ فيهِ الأكثرونَ؛ لأنَّهُ يومُ الحجِّ الأكبرِ، وفيهِ يَقَعُ أكثرُ أفعالِ مناسكِ الحجِّ. وقالَتْ طائفةٌ: ذو الحجَّةِ كلُّهُ

= عمران بن عصام، [عن] شيخ من أهل البصرة، عن عمران بن حصين

رفعه.

وهذا سند ضعيف فيه علل: أولاها: أنّ عمران بن عصام هذا مجهول. والثانية: أنّ شيخه البصري مبهم، ومنهم من أسقط "عن" وجعل عمران هو الشيخ البصري نفسه. والثالثة: أنّه رواه: عبد الرزّاق في "التفسير"(3597)، وعبد بن حميد (الفجر 3 - الدرّ)، وابن جرير (37094 و 37095)؛ عن قتادة، عن عمران

موقوفًا. وقد صحّح الحاكم هذا الحديث ووافقه الذهبي، وردّه العسقلاني في "الفتح" (8/ 702) بقوله:"أخرجه الحاكم من هذا الوجه فسقط من روايته المبهم فاغترّ فصحّحه". وقال ابن كثير: "وعندي أنّ وقفه على عمران بن حصين أشبه". وقال الألباني: "ضعيف الإسناد".

(1)

(لا أصل له في المرفوع). كما تقدّم (ص 577).

(2)

ويزيد بن أبي زياد ضعيف.

(3)

وأيّام التشريق أيضًا! فهذه لا بدَّ أن تكون من أيّام الحجّ وشهوره!

ص: 596

مِن أشهرِ الحجِّ، وهوَ قولُ مالِكِ والشَّافِعِيّ في القديمِ وروايةٌ عنِ ابنِ عُمَرَ أيضًا ورُوِيَ عن طائفةٍ مِن السَّلفِ، وفيهِ حديثٌ مرفوعٌ خَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ لكنَّهُ لا يَصِحُّ

(1)

. والكلامُ في هذهِ المسألةِ يَطولُ، وليسَ هذا موضعَهُ.

* ومِن فضائلِهِ: أنَّهُ الأيَّامُ المعلوماتُ التي شَرَعَ اللهُ تَعالى ذكرَهُ فيها على ما رَزَقَ مِن بهيمةِ الأنعامِ. قالَ تَعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحجّ: 27 - 28].

وجمهورُ العلماءِ على أنَّ هذهِ الأيَّامَ المعلوماتِ هيَ عشرُ ذي الحجَّةِ، منهُمُ ابنُ عُمَرَ وابنُ عَبَّاسٍ والحَسَنُ وعَطاءٌ ومُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ وقَتادَةُ والنَّخَعِيُّ، وهوَ قولُ أبي حَنيفَةَ والشَّافِعِيِّ وأحْمَدَ في المشهورِ عنهُ.

ورُوِيَ عن أبي موسى الأشْعَرِيّ أنَّ الأيَّامَ المعلوماتِ هيَ تسعُ ذي الحجَّةِ غيرَ يومِ النَّحرِ، وأنَّهُ قالَ: لا يُرَدُّ فيهنَّ الدُّعاءُ. خَرَّجَهُ جَعْفَرٌ الفِرْيابِيُّ وغيرُهُ.

وقالَتْ طائفةٌ: هيَ أيَّامُ الذَّبحِ. ورُوِيَ عن طائفةٍ مِن السَّلفِ، وهوَ قولُ مالِكٍ وأبي يوسُفَ، وجَعَلوا ذكرَ اللهِ فيها ذكرَهُ على الذَّبحِ، وهوَ قولُ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما. ونَقَلَ المَرُّوذِيُّ عن أحْمَدَ أنَّهُ اسْتَحْسَنَهُ.

والقولُ الأوَّلُ أظهرُ. وذكرُ اللهِ على بهيمةِ الأنعامِ لا يَخْتَصُّ بحالِ ذبحِها

(2)

: كما

(1)

(ضعيف). وقد جاء عن جماعة من الصحابة: فرواه الطبراني في "المعجم الأوسط"(1607) من حديث أبي أُمامة مرفوعًا بسند فيه حصين بن مخارق وهو ممّن يضع الحديث.

ورواه الطبراني في "الأوسط"(7056) من حديث ابن عمر مرفوعًا بسند فيه: يحيى بن السكن ضعيف، وشريك سيّئ الحفظ، وإبراهيم بن مهاجر ليّن.

ورواه: الطبراني في "الأوسط"(5039)، والخطيب في "التاريخ"؛ من حديث ابن عبّاس مرفوعًا بسند فيه: المفضّل بن صدقة ضعيف، وخصيف ليّن، ومقسم عن ابن عبّاس منقطع.

وحسب مثل هذا أن يكون من تفاسير الصحابة، وأمّا الرفع؛ فواهٍ.

(2)

ولكنّه حال ذبحها أعمّ وأظهر، فاستثناء هذا العامّ الظاهر لا يخلو من نظر! والآية الكريمة لم تقيّد الأيّام المعلومات بعشر بغير زيادة، فما أدري ما الداعي للتضييق باستثناء أيّام منى؟!

ص: 597

قالَ تَعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحجّ: 37]، وقالَ تَعالى:{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحجّ: 34]. وأيضًا فقد قالَ تَعالى بعدَ هذا: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحجّ: 28 - 29]، فجَعَلَ هذا كلَّهُ بعدَ ذكرِهِ في الأيَّامِ المعلوماتِ وقضاءِ التَّفثِ، وهوَ شعثُ الحجِّ وغبارُهُ ونصبُهُ. والطَّوافُ بالبيتِ إنَّما يَكونُ في يومِ النَّحرِ وما بعدَهُ ولا يَكونُ قبلَهُ

(1)

. وقد جَعَلَ اللهُ سبحانَهُ هذا مرتَّبًا على ذكرِهِ في الأيَّامِ المعلوماتِ بلفظةِ {ثُمَّ} ، فدَلَّ على أنَّ المرادَ بالأيَّامِ المعلوماتِ ما قبلَ يومِ النَّحرِ، وهوَ عشرُ ذي الحجَّةِ.

وأمَّا قولُهُ تَعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحجّ: 28]: فقيلَ: إنَّ المرادَ ذكرُهُ عندَ ذبحِها، وهوَ حاصلٌ بذكرِهِ في يومِ النَّحرِ؛ فإنَّهُ أفضلُ أيَّامِ النَّحرِ. والأصحُّ أنَّهُ إنَّما أُريدَ ذكرُهُ شكرًا على نعمتِهِ بتسخيرِ بهيمةِ الأنعامِ لعبادِهِ؛ فإنَّ للهِ تَعالى على عبادِهِ في بهيمةِ الأنعامِ نعمًا كثيرةً قد عَدَّدَ بعضَها في مواضعَ مِن القرآنِ، والحاجُّ لهُم خصوصيَّةٌ في ذلكَ عن غيرِهِم:

فإنَّهُم يَسِيرونَ عليها إلى الحرمِ لقضاءِ نسكِهِم كما قالَ تَعالى: {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحجّ: 27]، وقالَ:{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النحل: 7].

ويَأْكُلونَ مِن لحومِها ويَشْرَبونَ مِن ألبانِها ويَنْتَفِعونَ بأصوافِها وأوبارِها وأشعارِها.

* ويَخْتَصُّ عشرُ ذي الحجَّةِ في حقِّ الحاجِّ بأنَّهُ زمنُ سوقِهِم [لـ]ـلهديِ الذي بهِ يَكْمُلُ فضلُ الحجِّ ويَأْكُلونَ مِن لحومِهِ في آخرِ العشرِ، وهوَ يومُ النَّحرِ. وأفضلُ سوقِ الهديِ مِن الميقاتِ

(2)

، ويُشْعَرُ ويُقَلَّدُ عندَ الإحرامِ، وتُقارِنُهُ التَّلبيةُ، وهيَ مِن الذِّكرِ للهِ

(1)

يعني: الطواف الذي يتمّ به الحجّ أو الطواف الذي يُقضى به التفث.

(2)

بالنسبة لمن رغب بسوق الهدي والقران في حجّه، وذلك لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ساق هديه من ذي الحليفة ميقات أهل المدينة. وأفضل من هذا كلّه التمتّع وشراء الهدي من مكّة.

ص: 598

في الأيَّامِ المعلوماتِ.

وفي الحديثِ: "أفضلُ الحجِّ العجُّ والثَّجُّ"

(1)

.

وفي حديثٍ آخرَ: "عُجُّوا التَّكبيرَ عجًّا، وثُجُّوا الإبلَ ثجًّا"

(2)

.

فيَكونُ كثرةُ ذكرِ اللهِ في أيَّامِ العشرِ شكرًا على هذهِ النِّعمِ المختصَّةِ ببهيمةِ الأنعامِ التي بعضُها يَتَعَلَّقُ بدينِ الحاجِّ وبعضُها يَتَعَلَّقُ بدنياهُم، وأفضلُ الأعمالِ ما كَثُرَ ذكرُ اللهِ تَعالى فيهِ، خصوصًا الحجَّ

(3)

، وقد أمَرَ اللهُ تَعالى بذكرِهِ كثيرًا في الحجِّ: قالَ تَعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198 - 199]، وهذا الذِّكرُ يَكونُ في عشرِ ذي الحجَّةِ. ثمَّ قالَ:{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200]، وهذا يَقَعُ في يومِ النَّحرِ، وهوَ خاتمةُ العشرِ أيضًا. ثمَّ أمَرَ بذكرِهِ بعدَ العشرِ في الأيَّامِ المعدوداتِ، وهيَ أيَّامُ التَّشريقِ.

وفي "السُّنن": عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "إنَّما جُعِلَ الطَّوافُ بالبيتِ والسَّعيُ بينَ الصَّفا والمروةِ ورميُ الجمارِ لإقامةِ ذكرِ اللهِ عز وجل"

(4)

.

(1)

(حسن). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 521).

(2)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 522).

(3)

في خ: "وأفضل الأعمال كثرة ذكر الله فيها خصوضا الحجّ"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(4)

(ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة (15328 و 15329)، وأحمد (6/ 64 و 75 و 139)، والدارمي (2/ 50)، وأبو داوود (5 - المناسك، 50 - الرمل، 1/ 581/ 1888)، والترمذي (7 - الحجّ، 64 - كيف ترمى الجمار، 3/ 246/ 902)، وابن عديّ (4/ 1635)، والحاكم (1/ 459)، والبيهقي في "السنن"(5/ 145) و"الشعب"(4081)؛ من طرق، عن عبيد الله بن أبي زياد، عن القاسم، عن عائشة

رفعته.

قال الترمذي:"حسن صحيح". وأقرّه المنذري والألباني. قلت: لكنّ فيه عللًا: أولاها: أنّ ترجمة ابن أبي زياد ترجّح أنّه لا يحتجّ بما انفرد به، ولذلك قال الذهبي:"ليّن"، وقال العسقلاني:"ليس بالقويّ". والثانية: أنّه اضطرب فيه وقفًا ورفعًا، قال المزّي في "التحفة" (17533):"رواه يحيى بن سعيد عن عبيد الله فجعله من قول عائشة، فأخبره أبو حفص الفلّاس بقول أبي داوود الخريبي وأبي عاصم [وهما ممّن رواه عن عبيد الله مرفوعًا]، فقال يحيى: قد سمعت عبيد الله يحدّثه مرفوعًا ولكنّي أهابه". قال المزّي: "ورواه أبو قتيبة سلم بن قتيبة عن سفيان عن عبيد الله ولم يرفعه". قلت: ورواه وكيع عن سفيان عند الحاكم فرفعه. والثالثة: =

ص: 599

وفي "مسند الإمام أحْمَد": عن مُعاذِ بنِ أنَسٍ؛ أنَّ رجلًا قالَ: يا رسولَ اللهِ! أيُّ الجهادِ أعظمُ أجرًا؟ قالَ: "أكثرُهُم للهِ ذكرًا". قالَ: فأيُّ الصَّائمينَ أعظمُ أجرًا؟ قالَ: "أكثرُهُم للهِ ذكرًا". قالَ: ثمَّ ذَكَرَ الصَّلاةَ والزَّكاةَ والحجَّ والصَّدقةَ؛ كلُّ [ذلكَ] يَقولُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أكثرُهُم للهِ ذكرًا"، فقالَ أبو بكرٍ: يا أبا حَفْصٍ! ذَهَبَ الذَّاكرونَ بكلِّ خيرٍ. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"أجل"

(1)

. وقد خَرَّجَهُ ابنُ المُبارَكِ وابنُ أبي الدُّنْيا مِن وجوهٍ أُخَرَ مرسلةٍ، وفي بعضِها: أيُّ الحجَّاجِ خيرٌ؟ قالَ: "أكثرُهُم ذكرًا للهِ". وفي بعضِها: أيُّ الحاجِّ أعظمُ أجرًا؟ قالَ: "أكثرُهُم للهِ ذكرًا"

وذَكَرَ بقيَّةَ الأعمالِ بمعنى ما تَقَدَّمَ

(2)

.

* فهذا كلُّهُ بالنِّسبةِ إلى الحاجِّ. فأمَّا أهلُ الأمصارِ؛ فإنَّهُم يُشارِكونَ الحاجَّ في عشرِ ذي الحجَّةِ في الذِّكرِ وإعدادِ الهديِ.

فأمَّا إعدادُ الهديِ؛ فإنَّ العشرَ تُعَدُّ فيهِ الأضاحي كما يَسوقُ أهلُ الموسمِ الهديَ، ويُشارِكونَهُم في بعضِ إحرامِهِم؛ فإنَّ مَن دَخَلَ عليهِ العشرُ وأرادَ أنْ يُضَحِّيَ فلا يَأْخُذُ مِن شعرِهِ ولا مِن أظفارِهِ شيئًا كما رَوَتْ ذلكَ أُمُّ سَلَمَةَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. خَرَّجَ حديثَها مسلمٌ

(3)

، وأخَذَ بذلكَ الشَّافِعِيُّ وأحْمَدُ وعامَّةُ فقهاءِ الحديثِ. ومنهُم مَن شَرَطَ أنْ يَكونَ قدِ اشْتَرَى هديَةُ قبلَ العشرِ، وأكثرُهُم لم يَشْتَرِطوا ذلكَ. وخالَفَ فيهِ مالِكٌ وأبو حَنيفَةَ وكثيرٌ مِن الفقهاءِ وقالوا: لا يُكْرَهُ شيءٌ مِن ذلكَ. واسْتَدَلُّوا بحديثِ عائِشَةَ: كُنْتُ أفْتِلُ قلائدَ الهديِ لرسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فلا يَحْرُمُ عليهِ شيءٌ أحَلَّة اللهُ لهُ

(4)

. وأجابَ

= أنّه خولف، قال المزّي:"وكذلك [يعني: موقوفًا] رواه أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن القاسم، وكذلك رواه يزيد بن زريع عن حسين المعلّم عن عطاء عن عائشة قولها".

وعلى هذا؛ فقد اضطرب ابن زياد على لينه في هذا المتن وقفًا ورفعًا، وخولف فرواه من هو أوثق منه بدرجات موقوفًا، فبان أنّ الصواب فيه الوقف وأنّ رفعه منكر. وقد أورده الذهبي في "الميزان" في مناكير الرجل، خلافًا لمتابعته الحاكم على تصحيحه في "التلخيص". والله أعلم.

(1)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 521).

(2)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 521).

(3)

(35 - الأضاحي، 7 - النهي أن يأخذ من شعره، 3/ 1565/ 1977).

(4)

رواه: البخاري (25 - الحجّ، 110 - تقليد الغنم، 3/ 547/ 1702 و 1703)، ومسلم (15 - الحجّ، استحباب بعث الهدي، 2/ 957/ 1321).

ص: 600

كثيرٌ مِن أهلِ القولِ الأوَّلِ بأنَّهُ يُجْمَعُ بينَ الحديثينِ فيُؤْخَذُ بحديثِ أُمِّ سَلَمَةَ فيمَن يُريدُ أنْ يُضَحِّيَ في مصرِهِ وبحديثِ عائِشَةَ فيمَن أرْسَلَ بهديِهِ معَ غيرِهِ وأقامَ في بلدِهِ. وكانَ اْبنُ عُمَرَ إذا ضَحَّى يومَ النَّحرِ حَلَقَ رأْسَهُ. ونَصَّ أحْمَدُ على ذلكَ.

واْخْتَلَفَ العلماءُ في التَّعريفِ بالأمصارِ عشيَّةَ عرفةَ، وكانَ الإمامُ أحْمَدُ لا يَفْعَلُهُ ولا يُنْكِرُ [هُ]، على مَن فَعَلَهُ؛ لأنَّهُ رُوِيَ عنِ اْبنِ عَبَّاسٍ وغيرِهِ مِن الصَّحابةِ.

وأمَّا مشاركتُهُم لهُم في الذِّكرِ في الأيَّامِ المعلوماتِ؛ فإنَّهُ يُشْرَعُ للنَّاسِ كلِّهِم الإكثارُ مِن ذكرِ اللهِ في أيَّامِ العشرِ خصوصًا، وقد سَبَقَ حديثُ اْبنِ عُمَرَ المرفوعُ "فأكْثِروا فيهنَّ مِن التَّهليلِ والتَّكبيرِ والتَّحميدِ"

(1)

.

واخْتَلَفَ العلماءُ: هل يُشْرَعُ إظهارُ التَّكبيرِ والجهرُ بهِ في الأسواقِ في العشرِ: فأنْكَرَهُ طائفةٌ، واْسْتَحَبَّهُ أحْمَدُ والشَّافِعِيُّ، لكنَّ الشَّافِعِيَّ خَصَّهُ بحالِ رؤيةِ بهيمةِ الأنعامِ، وأحْمَدُ يَسْتَحِبُّهُ مطلقًا.

وقد ذَكَرَ البُخارِيُّ في "صحيحه" عنِ اْبنِ عُمَرَ وأبي هُرَيْرَةَ أنَّهُما كانا يَخْرُجانِ إلى السُّوقِ في العشرِ فيُكَبِّرانِ ويُكَبِّرُ النَّاسُ بتكبيرِهِما.

ورَواهُ عَفَّانُ: حَدَّثَنا سَلَّامٌ أبو المُنْذِرِ، عن حُمَيْدٍ الأعْرَجِ، عن مُجاهِدٍ؛ قالَ: كانَ أبو هُرَيْرَةَ واْبنُ عُمَرَ يَأْتِيانِ السُّوقَ أيَّامَ العشرِ فيُكَبِّرانِ ويُكَبِّرُ النَّاسُ معَهُما، ولا يَأْتِيانِ لشيءٍ إلَّا لذلكَ.

ورَوى جَعْفَرٌ الفِرْيابِيُّ في "كتاب العيدين": حَدَّثَنا إسْحاقُ بنُ راهَوَيْهِ، أخْبَرَنا جَريرٌ، عن يَزيدَ بنِ أبي زِيادٍ؛ قالَ: رَأيْت سَعيدَ بنَ جُبَيْرٍ ومُجاهِدًا وعَبْدَ الرَّحْمنِ بنَ أبي لَيْلى أوِ اْثنينِ مِن هؤلاءِ الثَّلاثةِ ومَن رَأيْنا مِن فقهاءِ النَّاسِ يَقولونَ في أيَّامِ العشرِ: اللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، واللهُ أكبرُ اللهُ أكبرُ وللهِ الحمدُ.

• لمَّا كانَ اللهُ سبحانَهُ قد وَضَعَ في نفوس المؤمنينَ حنينًا إلى مشاهدةِ بيتِهِ الحرامِ، وليسَ كلُّ أحدٍ قادرًا على مشاهدتِهِ في كلِّ عامٍ؛ فَرَضَ على المستطيعِ الحجَّ

(1)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 585).

ص: 601

مرَّةً واحدةً في عمرِهِ، وجَعَلَ موسمَ العشرِ مشتركًا بينَ السَّائرينَ والقاعدينَ، فمَن عَجَزَ عنِ الحجِّ في عامٍ؛ قَدَرَ في العشرِ على عملٍ يَعْمَلُهُ في بيتِهِ يَكونُ أفضلَ مِن الجهادِ الذي هوَ أفضلُ مِن الحجِّ.

لَيالي العَشْرِ أوْقاتُ الإجابَهْ

فَبادِرْ رَغْبَةً تَلْحَقْ ثوابَهْ

ألا لا وَقْتَ لِلعُمَّالِ فيهِ

ثَوابُ الخَيْرِ أقْرَبُ لِلإصابَهْ

(1)

مِنَ اوقاتِ الليالي العَشْرِ حَقًّا

فَشَمِّرْ وَاْطلُبَنْ فيها الإنابَهْ

احْذَروا المعاصي؛ فإنَّها تَحْرِمُ المغفرةَ في مواسمِ الرَّحمةِ.

رَوى المَرُّوذِيُّ في كتابِ "الورع" بإسنادِهِ عن: عَبْدِ المَلِكَ بنِ عُمَيْرٍ، عن رجلٍ إمَّا مِن الصَّحابةِ أو مِن التَّابعينَ؛ أنَّ آتيًا أتاهُ في منامِهِ في العشرِ مِن ذي الحجَّةِ، فقالَ: ما مِن مسلمٍ إلَّا يُغْفَرُ لهُ في هذهِ الأيَّامِ كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ؛ إلَّا أصحابَ الشَّاهِ؛ يَقولونَ: ماتَ! ما موتُهُ؟ يَعْني: أصحابَ الشَّطْرَنْجِ

(2)

. فإذا كانَ اللعبُ بالشَّطْرَنْجِ مانعًا مِن المغفرةِ؛ فما الظَّنُّ بالإصرارِ على الكبائرِ المجمعِ عليها؟!

طاعَةُ اللهِ خَيْرُ ما لَزِمَ العَبْ

دُ فَكُنْ طائِعًا ولا تَعْصِيَنْهُ

ما هَلاكُ النُّفوسِ إلَّا المعاصي

فَاْجْتَنِبْ ما نَهاكَ لا تَقْرَبَنْهُ

(3)

إنَّ شَيْئًا هَلاكُ نَفْسِكَ فيهِ

يَنْبَغي أنْ تَصونَ نَفْسَكَ عَنْهُ

المعاصي سببُ البعدِ والطَّردِ كما أنَّ الطَّاعاتِ أسبابُ القربِ والودِّ.

أيَضْمَنُ لي فتًى تَرْكَ المَعاصي

وأرْهَنَهُ الكَفالَةَ بِالخَلاصِ

أطاعَ اللهَ قَوْمٌ فَاْسْتَراحوا

وَلَمْ يَتَجَرَّعوا غُصَصَ المَعاصي

إخوانكُم في هذهِ الأيَّامِ قد عَقَدوا الإحرام، وقَصَدوا البيتَ الحرام، ومَلؤوا الفضاءَ بالتَّلبيةِ والتَّكبيرِ والتَّهليلِ والتَّحميدِ والإعظام. لقد ساروا وقَعَدْنا، وقَرُبوا وبَعُدْنا، فإنْ كانَ لنا معَهُم نصيبٌ سَعِدْنا.

(1)

في خ: "أقرب للإجابة"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

هذا لو كان رواية يقظة لما كان حجّة فكيف وهو منام؟!

(3)

في خ: "طائعًا لله لا تعصينه

نهاك عنه لا تقربنه" ولا يستقيم الوزن إلاّ بما أثبتّه من م ون وط.

ص: 602

أتُراكُمْ في النَّقا وَالمُنْحَنى

أهْلَ سَلْعٍ تَذْكُرونا ذِكْرَنا

إِنْقَطَعْنا وَوَصَلْتُمْ فَاعْلَموا

وَاْشْكُروا المُنْعِمَ يا أهْلَ مِنى

قَدْ خَسِرْنا وَرَبِحْتُمْ فَصِلوا

بِفُضولِ الرِّبْحِ مَنْ قَدْ غُبِنا

سارَ قَلْبي خَلْفَ أحْمالِكُمُ

غَيْرَ أنَّ العُذْرَ عاقَ البَدَنا

ما قَطَعْتُمْ وادِيًا إلَّا وَقَدْ

جِئْتُهُ أسْعى بِأقْدامِ المُنى

أنا مُذْ غِبْتُمْ عَلى تَذْكارِكُمْ

أتُرى عِنْدَكُمُ ما عِنْدَنا

القاعدُ لعذرٍ شريكُ السَّائرِ، وربَّما سَبَقَ السَّائرُ بقلبِهِ السَّائرينَ بأبدانِهِم.

رَأى بعضُهُم في المنامِ عشيَّةَ عرفةَ في الموقفِ [كأنَّ] قائلًا يَقولُ: أتَرى هذا الزِّحامَ على هذا الموقفِ؛ فإنَّهُ لم يَحُجَّ منهُم أحدٌ إلَّا رجلٌ تَخَلَّفَ عنِ الموقفِ فحَجَّ بهمَّتِهِ فوُهِبَ لهُ أهلُ الموقفِ

(1)

.

يا سائِرينَ إلى البَيْتِ العَتيقِ لَقَدْ

سِرْتُمْ جُسومًا وَسِرْنا نَحْنُ أرْواحا

إنَّا أقَمْنا على عُذْرٍ وَقَدْ رَحَلوا

ومَن أقامَ على عُذْرٍ كَمَنْ راحا

الغنيمةَ الغنيمة، بانتهازِ الفرصةِ في هذهِ الأيَّامِ العظيمة، فما منها عوضٌ ولا لها قيمة.

المبادرةَ المبادرةَ بالعمل، والعجلَ العجلَ قبلَ هجومِ الأجل، قبلَ أنْ يَنْدَمَ المفرِّطُ على ما فَعَل، قبلَ أنْ يَسْألَ الرَّجعةَ لِيَعْمَلَ صالحًا فلا يُجابَ إلى ما سَأل، قبلَ أنْ يَحولَ الموتُ بينَ المؤمِّلِ وبلوغِ الأمل، قبلَ أنْ يَصيرَ المرءُ مرتهنًا في حفرتِهِ بما قَدَّمَ مِن عمل.

لَيْسَ لِلْمَيِّتِ في قَبْرِهِ

فِطْرٌ ولا أضْحى وَلا عَشْرُ

ناءٍ عَنِ الأهلِ عَلى قُرْبِهِ

كَذاكَ مَن مَسْكَنُهُ القَبْرُ

يا مَن طَلَعَ فجرُ شيبِهِ بعدَ بلوغِ الأربعين! يا مَن مَضى عليهِ بعدَ ذلكَ ليالي عشرِ سنينَ حتَّى بَلَغَ الخمسين! يا مَن هوَ في معتركِ المنايا ما بينَ الستِّينَ إلى السَّبعين! ما

(1)

تقدّم هذا والتعليق عليه (ص 531).

ص: 603

تَنْتَظِرُ بعدَ هذا الخبرِ إلَّا أنْ يَأْتِيَكَ اليقين. يا مَن ذنوبُهُ بعددِ الشَّفعِ والوترِ! أما تَسْتَحي مِن الكرامِ الكاتبين؟ أم أنتَ ممَّن يُكَذِّبُ بالدِّين؟ يا مَن ظلمةُ قلبِهِ كالليلِ إذا يَسْري! أما آنَ لقلبِكَ أنْ يَسْتَنيرَ أو يَلين؟ تَعَرَّضْ لنفحاتِ مولاكَ في هذا العشر؛ فإنَّ للهِ فيهِ نفحاتٍ يُصيبُ بها مَن يَشاءُ، فمَن أصابَتْهُ سَعِدَ بها آخرَ الدَّهر.

جَنَحَتْ شَمْسُ حَياتي

وَتَدَلَّتْ لِلْغُروبِ

وَتَوَلَّى لَيْلُ رَأْسي

وَبَدا فَجْرُ المَشيبِ

رَبِّ خَلَّصْني فقَدْ لَجْـ

ــجَجْتُ في بَحْرِ الذُّنوبِ

وَأنِلْني العَفْوَ يا أقْـ

ــرَبَ مِنْ كُلِّ قَريبِ

‌المجلس الثاني

في فضل يوم عرفة مع عيد النحر

في الصَّحيحينِ

(1)

: عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه؛ أنَّ رجلًا مِن اليهودِ قالَ لهُ: يا أميرَ المؤمنينَ! آيةٌ في كتابِكُم، لو علينا معشرَ اليهودِ نَزَلَتْ؛ لاتَّخَذْنا ذلكَ اليومَ عيدًا. فقالَ: أيُّ آيةٍ؟ قالَ: {اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} [لمائدة: 3]. فقالَ عُمَرُ: إنِّي لأعلمُ اليومَ الذي نَزَلَتْ فيهِ والمكانَ الذي نَزَلَتْ فيهِ، نَزَلَتْ ورسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قائمٌ بعرفةَ يومَ جمعةٍ

(2)

.

وخَرَّجَ التَّرْمِذِيُّ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ نحوَهُ، وقالَ فيهِ: نَزَلَتْ في يومِ عيدٍ مِن يومِ جمعةٍ

(1)

البخاري (2 - الإيمان، 33 - زيادة الإيمان ونقصانه، 1/ 105/ 45)، ومسلم (54 - التفسير، 4/ 2312 / 3017).

(2)

زاد في حاشية خ في هذا الموضع:"قال البغوي رحمه الله في قوله {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}: نزلت هذه الآية يوم الجمعة يوم عرفة بعد العصر في حجّة الوداع والنبيّ صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء، فكادت عضد الناقة تندقّ من ثقلها وبركت. قال ابن عبّاس: كان ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس، ولم يجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده. وروي أنّه لمّا نزلت هذه الآية بكى عمر، قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك يا عمر؟ ". فقال: أبكاني أنّنا كنّا في زيادة من ديننا، فأمّا إذ كمل فإنّه لم يكمل شيء إلَّا نقص. قال: صدقت. فكانت هذه الآية نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاش بعدها أحدًا وثمانين يومًا. انتهى كلامه". اهـ.

ص: 604

ويومِ عرفةَ

(1)

.

• العيدُ هوَ موسمُ الفرحِ والسُّرورِ، وأفراحُ المؤمنينَ وسرورُهُم في الدُّنيا إنَّما هوَ بمولاهُم إذا فازوا بإكمالِ طاعتِهِ وحازوا ثوابَ أعمالِهِم بوثوقِهِم بوعدِهِ لهُم عليها بفضلِهِ ومغفرتِهِ، كما قالَ تَعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعونَ} [يونس: 58].

قالَ بعضُ العارفينَ: ما فَرِحَ أحدٌ بغيرِ اللهِ إلَّا بغفلتِـ[ـهِ] عنِ اللهِ.

فالغافلُ يَفْرَحُ بلهوِهِ وهواهُ، والعاقلُ يَفْرَحُ بمولاهُ.

وأنْشَدَ سَمْنونُ في هذا المعنى:

وكانَ فُؤادي خالِيًا قَبْلَ حُبِّكُمْ

وَكانَ بِذِكْرِ الخَلْقِ يَلْهو وَيَمْرَحُ

فَلَمَّا دَعا قَلْبي هَواكَ أجابَهُ

فَلَسْتُ أراهُ عَنْ فِنائِكَ يَبْرَحُ

رُمِيتُ بِبُعْدٍ مِنْكَ إنْ كُنْتُ كاذِبًا

وَإنْ كُنْتُ في الدُّنيا بِغَيْرِكَ أفْرَحُ

وَإنْ كانَ شيءٌ في البِلادِ بِأسْرِها

إذا غِبْتَ عَنْ عَيْنِي لِعَيْنِيَ يَمْلُحُ

فَإنْ شِئْتَ واصِلْني وَإنْ شِئْتَ لا تَصِلْ

فَلَسْتُ أرى قَلْبي لِغَيْرِكَ يَصْلُحُ

لمَّا قَدِمَ النَبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ؛ كانَ لهُم يومانِ يَلْعَبونَ فيهِما، فقالَ:"إنَّ اللهَ قد أبْدَلَكُم يومينِ خيرًا منهُما؛ يومَ الفطرِ والأضحى"

(2)

. فأبْدَلَ اللهُ هذهِ الأُمَّةَ بيومي اللعبِ

(1)

(حسن صحيح). رواه: الطيالسي (2709)، وعبد بن حميد (المائدة 3 - الدرّ)، والترمذي (48 - التفسير، 6 - سورة المائدة، 5/ 250/ 3044)، وابن نصر في "تعظيم الصلاة"(354)، والطبري في "التفسير"(11101 - 11103)، والطبراني (12/ 143/ 12835)، والبيهقي في "الدلائل"(5/ 464)؛ من طريق حمّاد بن سلمة، عن عمّار بن أبي عمّار، عن ابن عبّاس

رفعه.

قال الترمذي:"حسن غريب من حديث ابن عبّاس وهو صحيح". وأقرّه السيوطي والألباني. قلت: أمّا أنّه حسن؛ فمن أجل حمّاد وعمّار صدوقان، وأمّا أنّه صحيح؛ فمن أجل شاهده المتقدّم قبله.

(2)

(صحيح). رواه: أحمد (3/ 103 و 178 و 235 و 250)، وعبد بن حميد (1392)، وأبو داوود (2 - الصلاة، 245 - العيدين، 1/ 364/ 1134)، والنسائي في "الكبرى"(1755) و"المجتبى"(5 - العيدين، 1 - باب، 3/ 179/ 1555)، وأبو يعلى (3820 و 3841)، والفريابي في "العيدين"(1)، والطحاوي في "المعاني"(2/ 211)، والحاكم (1/ 294)، والبيهقي في "السنن"(3/ 277) و"الشعب"(3709 و 3710)، والبغوي في "السنّة"(1098)، والضياء في "المختارة"(5/ 274/ 1908 - 1912)، والرافعي في "التدوين"(3/ 137)؛ من طرق، عن حميد، عن أنس

رفعه.

ص: 605

واللهوِ يومي الذِّكرِ والشُّكرِ والمغفرةِ والعفوِ.

• ففي الدُّنيا للمؤمنينَ ثلاثةُ أعيادٍ: عيدٌ يَتكَرَّرُ كلَّ أُسبوعٍ، وعيدانِ يَأْتِيانِ في كلِّ عامٍ مّرَةً مرَّةً مِن غيرِ تكرُّرٍ في السَّنهِ.

* فأمَّا العيدُ المتكرِّرُ؛ فهوَ يومُ الجمعةِ، وهوَ عيدُ الأُسبوعِ، وهوَ مترتِّبٌ على إكمالِ الصَّلواتِ المكتوباتِ؛ فإنَّ اللهَ تَعالى فَرَضَ على المؤمنينَ في كلِّ يومٍ وليلةٍ خمسَ صلواتٍ، وأيَّامُ الدُّنيا تَدورُ على سبعةِ أيَّامٍ، فكلَّما كَمَلَ دورُ أُسبوعٍ مِن أيَّامِ الدُّنيا واسْتكْمَلَ المسلمونَ صلواتِهِم فيهِ؛ شُرِعَ لهُم في يومِ استكمالِهِم - وهوَ اليومُ الذي كَمَلَ فيهِ الخلقُ، وفيهِ خُلِقَ آدَمُ وأُدْخِلَ الجنَّةَ وأُخْرِجَ منها

(1)

، وفيهِ يَنْتَهي أمدُ الدُّنيا فتَزولُ وتَقومُ السَّاعةُ، وسُمِّيَ يومَ الجمعةِ للاجتماعِ على سماعِ الذِّكرِ والموعظةِ وصلاةِ الجمعةِ، وجُعِلَ ذلكَ لهُم عيدًا، ولهذا نُهِيَ عن إفرادِهِ بالصِّيامِ

(2)

.

وفي شهودِ الجمعةِ شبهٌ مِن الحجِّ، ورُوِيَ أنَّها حجُّ المساكينِ

(3)

.

وقالَ سَعيدُ بنُ المُسَيَّبِ: شهودُ الجمعةِ أحبُّ إليَّ مِن حجَّةٍ نافلةٍ.

والتَّبكيرُ إليها يَقومُ مقامَ الهديِ على قدرِ السَّبقِ، فأوَّلُهُم كالمُهدي بدنةً ثمَّ بقرةً ثمَّ

= وهاهنا أكثر من طريق قويّة إلى حميد، وصرّح حميد بسماعه من أنس في بعض الطرق القويّة، فالسند صحيح، وقد صحّحه الحاكم وعبد الحقّ والبغوي والمنذري والذهبي والعسقلاني والألباني.

(1)

في حاشية خ: "في مسلم: عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثّ فيها الدوابّ يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر في يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل". قال البغوي: قال قوم في قوله تعالى {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} : معناه: خلق آدم من تعجّل في خلق الله إيّاه؛ لأنّه خلقه بعد كلّ شيء في آخر النهار يوم الجمعة، فأسرع في خلقه قبل مغيب الشمس. قال مجاهد: فلمّا أحيا الروح رأسه؛ قال: يا ربّ! استعجل بخلقي قبل غروب الشمس. وقيل: بسرعة وتعجيل على غير ترتيب خلق الآدميّين من النطفة والعلقة. وقال خلق: معناه أنّ بنيته وخلقه من عجلة وعليها طبع لقوله {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} . قال سعيد بن جبير والسدّيّ: لمّا خلق الروح في رأس آدم وعينيه؛ نظر إلى ثمار الجنّة، فلمّا دخلت في جوفه؛ اشتهى الطعام، فوثب قبل أن يبلغ الروح إلى رجليه عجلان إلى ثمار الجنّة، فوقع، فقيل: خلق الإنسان من عجل" اهـ.

(2)

وفيه عدّة أحاديث، بعضها من مخرّجات الصحيحين.

(3)

(موضوع). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 554).

ص: 606

كبشًا ثمَّ دجاجةً ثمَّ بيضةً.

وشهودُ الجمعةِ يوجبُ تكفيرَ الذُّنوبِ إلى الجمعةِ الأُخرى إذا سَلِمَ ما بينَ الجمعتينِ مِن الكبائرِ كما أنَّ الحجَّ المبرورَ يُكَفِّرُ ذنوبَ تلكَ السَّنةِ إلى الحجَّةِ الأُخرى. وقد رُوِيَ: "إذا سَلِمَتِ الجمعةُ؛ سَلِمَتِ الأيَّامُ"

(1)

.

ورُوِيَ: "إنَّ اللهَ تَعالى يَغْفِرُ يومَ الجمعةِ لكلِّ مسلمٍ"

(2)

.

وفي الحديثِ الصَّحيحِ: عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قالَ: "ما طَلَعَتِ الشَّمسُ ولا غَرَبَتْ على يومٍ أفضلَ مِن يومِ الجمعةِ"

(3)

.

(1)

(موضوع). رواه: ابن حبّان في "المجروحين"(2/ 140)، وابن عدي (5/ 1926)، والدارقطني في "الأفراد"(1/ 377 - فيض)، وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 140)، والبيهقي في "الشعب"(3708 و 3708 م)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(2/ 235)، وابن الجوزي في "الموضوعات"(2/ 194)؛ من طرق ثلاث، عن الثوري، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة

رفعته.

وفي إحدى طرقه إلى الثوري عبد العزيز بن أبان متّهم متروك، وفي الطريق الثانية الحكم بن عبد الله البلخي متّهم متروك، وفي الثالثة أحمد بن جمهور القرقساني شيخ متّهم بالكذب. ولذلك قال ابن عدي:"الحديث عن الثوريّ باطل ليس له أصل"، ونقله البيهقي وأقرّه، وعدّه الذهبي والعسقلاني في المنكرات، وعدّه ابن الجوزي والفتّني والألباني في الموضوعات. وأمّا السيوطي؛ فتعقّب ابن الجوزي على إيراده في "الموضوعات" بوروده من طرق، قال المناوي:"لا تخلو كلّها عن كذّاب أو متّهم بالوضع".

(2)

(موضوع). وقد جاء من حديث أبي هريرة وأنس: فأمّا حديث أبي هريرة؛ فرواه: الخطيب في "التاريخ"(5/ 180)، والذهبي في "الميزان"(1/ 161) تعليقًا، والعسقلاني في "اللسان"(1/ 348) تعليقًا؛ من طريق أحمد بن نصر بن حمّاد، ثنا أبي، عن شعبة، عن محمّد بن زياد، عن أبي هريرة

رفعه. وهذا سند واهٍ: أحمد هذا مجهول، وأبوه متروك كذّبه ابن معين وغيره، ولذلك قال الذهبي والعسقلاني والمناوي:"خبر منكر جدًّا".

وأمّا حديث أنس؛ فرواه: الطبراني في "الأوسط"(4814)، وابن الأعرابي في "المعجم"(147)، والحاكم في "تاريخه"(6/ 444 - فيض)، والواحدي في "تفسيره"(297 - السلسلة الضعيفة)، وابن عساكر؛ من طرق، عن أبي عمّار، عن أنس

رفعه. قال الطبراني: "أبو عمّار زياد النميري". وتعقبه الألباني بأنّ روايتي ابن الأعرابي والواحدي صرّحتا بأنّه زياد بن ميمون وليس زياد بن عبد الله النميري، وزياد بن ميمون هذا وضّاع مشهور، فسقط السند، وبان وهاء قول المنذري:"إسناد حسن"، ومثله قول الهيثمي (2/ 167):"رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني وهو ثقة".

(3)

(صحيح). رواه: عبد الرزّاق (5563)، وابن الجعد (2954)، وأحمد (2/ 457 و 518)، والبخاري في "التاريخ"(5/ 423)، والنسائي في "الكبرى"(9920) و"اليوم والليلة"(92)، وأبو يعلى (6468)، وابن خزيمة (1726)، وابن أبي حاتم (البروج 3 - ابن كثير)، وابن حبّان (2770)، والطبراني في =

ص: 607

وفي "المسند" عنهُ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قالَ في يومِ الجمعةِ: "هوَ أفضلُ عندَ اللهِ مِن يومِ الفطرِ ويومِ الأضحى"

(1)

.

فهذا عيدُ الأُسبوعِ، وهوَ متعلِّقٌ بإكمالِ الصَّلاةِ المكتوبةِ، وهيَ أعظمُ أركانِ الإسلامِ ومبانيهِ بعدَ الشَّهادتينِ.

* وأمَّا العيدانِ اللذانِ لا يَتكَرَّرانِ في كلِّ عامٍ، وإنَّما يَأْتِي كلُّ واحدٍ منهُما في العامِ مرَّةً واحدةً:

فأحدُهُما: عيدُ الفطرِ مِن صومِ رمضانَ، وهوَ مرتَّبٌ على إكمالِ صيامِ رمضانَ،

= "الأوسط"(1091)، وابن عدي (2/ 476، 6/ 2336)، والبغوي في "السنّة"(1062)، والذهبي في "التذكرة"(2/ 449)؛ من طرق أربع، عن أبي هريرة

رفعه.

وبعض طرقه ثقات رجال الشيخين، وبعضها ثقات رجال مسلم، والحديث صحيح غاية بمجموع طرقه، وقد صحّحه ابن خزيمة وابن حبّان وقال البغوي:"حديث صحيح".

(1)

(ضعيف). قطعة من حديث رواه: ابن أبي شيبة (5515)، وابن سعد في "الطبقات"(1/ 30)، وأحمد (3/ 430)، وابن ماجه (5 - الإقامة، 79 - فضل الجمعة، 1/ 344/ 1084)، والبزّار (615 - كشف)، والطبري في "التاريخ"(1/ 75)، وابن أبي داوود (1/ 400 - إصابة)، والطبراني (5/ 33/ 4511 و 4512)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 366)، والبيهقي في "الشعب"(2973)؛ من طريق عبد الله بن محمّد بن عقيل، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جارية، عن أبي لبابة

رفعه.

وهذا سند ضعيف فيه علّتان: أشار إلى أولاهما المنذري بقوله: "في إسناده عبد الله بن محمّد بن عقيل وهو ممّن احتجّ به أحمد وغيره وبقيّة رواته ثقات مشهورون". قلت: إن أراد باحتجاج الإمام أحمد به روايته له في "المسند"؛ فنعم، وأن أراد أنّه حجّة عنده؛ فلا؛ فقد قال فيه:"منكر الحديث"، والناظر في ترجمته في "التهذيب" لن يتردّد في أنّه كما وصفه ابن حبّان وغيره:"كان رديء الحفظ يحدّث على التوهّم فيجيء بالخبر على غير سننه". والعلّة الثانية: أنّه اضطرب فيه سندًا ومتنًا فرواه: الشافعي في "الأم"(1/ 209)، وأحمد (5/ 284)، والبخاري في "التاريخ"(4/ 44)، والبزّار (9/ 191/ 3738)، والطبري في "التاريخ"(1/ 75)، والطبراني (6/ 19/ 5376)، والبيهقي في "الشعب"(2974)؛ من طريقه نفسه، عن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة، عن أبيه، عن جدّه، عن سعد بن عبادة

رفعه بنحوه دون هذه القطعة. وهذا سند ليّن من أجل شرحبيل ففيه نوع جهالة، وهذا التردّد بين الوجهين يدلّ على سوء حفظه ابن عقيل وصدق كلام ابن حبّان فيه، ولا يقال: لعلّه تلقّاه من شيخين؛ لأنّ تفرّد سيّئ الحفظ برواية هذا المتن عن صحابيّين دون متابع له إنّما يدل على نكارة حديثه.

نعم؛ لأكثر مفردات الحديث شاهد من حديث أبي هريرة عند مسلم (854) تتقوّى به، لكنّه قاصر عن الشهادة لهذه القطعة، فحكمها الضعف وأنّها ممّا رواه ابن عقيل على التخمين فجاء على غير الجادّة وقد مال إلى تقوية هذا الحديث المنذري والهيثمي والبوصيري والألباني، وقد تبيّن لك ما في ذلك.

ص: 608

وهوَ الرُّكنُ الثَّالثُ مِن أركانِ الإسلامِ ومبانيهِ، فإذا اسْتكْمَلَ المسلمونَ صيامَ شهرِهِم المفروضَ عليهِم وأسْتَوْجَبوا مِن اللهِ المغفرةَ والعتقَ مِن النَّارِ - فإنَّ صيامَهُ يوجِبُ مغفرةَ ما تَقَدَّمَ مِن الذُّنوبِ، وآخرُهُ عتقٌ مِن النَّارِ يُعْتَقُ فيهِ مِن النَّارِ مَنِ اسْتَحَقَّها بذنوبِهِ - فشَرَعَ اللهُ تَعالى لهُم عقيبَ إكمالِهِم لصيامِهِم عيدًا يَجْتَمِعونَ فيهِ على شكرِ اللهِ وذكرِهِ وتكبيرِهِ على ما هَداهُم لهُ، وشَرَعَ لهُم في ذلكَ العيدِ الصَّلاةَ والصَّدقةَ، وهوَ يومُ. الجوائزِ يَسْتَوْفي الصَّائمونَ فيهِ أجرَ صيامِهِم ويَرْجِعونَ مِن عيدِهِم بالمغفرةِ.

والعيد الثاني: عيدُ النَّحرِ، وهوَ أكبرُ العيدينِ وأفضلُهُما، وهوَ مترتِّبٌ على إكمالِ الحجِّ، وهوَ الرُّكنُ الرَّابعُ مِن أركانِ الإسلامِ ومبانيهِ. فإذا أكْمَلَ المسلمونَ حجَّهُم؛ غُفِرَ لهُم. وإنَّما يَكْمُلُ الحجُّ بيومِ عرفةَ والوقوفِ فيهِ بعرفةَ؛ فإنَّهُ ركنُ الحجِّ الأعظمُ، كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"الحجُّ عرفةُ"

(1)

. ويومُ عرفةَ هوَ يومُ العتقِ مِن النَّارِ، فيُعْتِقُ اللهُ فيهِ مِن النَّارِ مَن وَقَفَ بعرفةَ ومَن لمْ يَقِفْ بها مِن أهلِ الأمصارِ مِن المسلمينَ، فلذلكَ صارَ اليومُ الذي يَليهِ عيدًا لجميعِ المسلمينَ في جميعِ أمصارِهِم، مَن شَهِدَ الموسمَ منهُم ومَن لم يَشْهَدْهُ؛ لاشتراكِهِم في العتقِ والمغفرةِ يومَ عرفةَ. وإنَّما لم يَشْتَرِكِ المسلمونَ كلُّهُم

(1)

(صحيح). رواه: الطيالسي (1309 و 1310)، والحميدي (899)، وابن أبي شيبة (13681)، وابن سعد (2/ 179، 7/ 367)، وأحمد (4/ 309 و 310 و 335)، وعبد بن حميد (310)، والدارمي (2/ 59)، والبخاري في "التاريخ"(2/ 111، 5/ 243)، وابن ماجه (25 - المناسك، 57 - من أتى عرفة قبل الفجر، 2/ 1003/ 3015)، وأبو داوود (5 - المناسك، 69 - من لم يدرك عرفة، 1/ 599/ 1949)، والترمذي (7 - الحجّ، 57 - من أدرك الإمام بجمع، 3/ 237/ 889 و 2975)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(957)، والنسائي في "الكبرى"(4011 و 4050 و 4180) و"المجتبى"(24 - المناسك، 203 - فرض الوقوف بعرفة، 5/ 256/ 3016 و 3044)، وابن الجارود (468)، وابن خزيمة (2822)، والطحاوي (2/ 208 - 210)، وابن قانع (2/ 165/ 642)، وابن حبّان (3892)، والدارقطني (2/ 240 و 241) وابن منده في "الأرداف"(ص 73)، والحاكم (1/ 463، 2/ 278)، وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 119)، وابن حزم في "المحلّى"(7/ 121) و، "حجّة الوداع"(107 و 119 و 182 و 183 و 541)، والبيهقي في "السنن"(5/ 116 و 152 و 173) و "الشعب"(4066)، والخطيب في "الراوي والسامع"(427)، والبغوي (2001)، والمزّي (18/ 21)؛ من طريق شعبة تارة والثوري تارة، عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر

رفعه.

قال ابن عيينة: "هذا أجود حديث رواه الثوري". وقال محمّد بن يحيى: "ما أرى للثوري أشرف منه". وصحّحه الترمذي وابن خزيمة وابن حبّان والحاكم والبغوي والمنذري والذهبي والعسقلاني والألباني.

ص: 609

في الحجِّ كل عامٍ رحمةً مِن اللهِ وتخفيفًا على عبادِهِ، فإنَّهُ جَعَلَ الحجَّ فريضةَ العمرِ لا فريضةَ كلِّ عامٍ، وإنَّما هوَ في كلِّ عامٍ فرضُ كفايةٍ، بخلافِ الصِّيامِ؛ فإنَّهُ فريضةُ كلِّ عامٍ على كلِّ مسلمٍ. فإذا كَمَلَ يومُ عرفةَ، وأعْتَقَ اللهُ عبادَهُ المؤمنينَ مِن النَّارِ، اشْتَرَكَ المسلمونَ كلُّهُم في العيدِ عقيبَ ذلكَ، وشُرِعَ للجميعِ التَّقرُّبُ إليهِ بالنُّسكِ، وهوَ إراقةُ دماءِ القرابينِ. فأهلُ الموسمِ يَرْمونَ الجمرةَ، فيَشْرَعونَ في التَّحلُّلِ مِن إحرامِهِم بالحجِّ ويَقْضونَ تفثَهُم ويوفونَ نذورَهُم ويُقَرِّبونَ قرابينَهُم مِن الهدايا ثمَّ يَطوفونَ بالبيتِ العتيقِ، وأهلُ الأمصارِ يَجْتَمِعونَ على ذكرِ اللهِ وتكبيرِهِ والصَّلاةِ لهُ. قالَ مِخْنَفُ بنُ سُلَيْمٍ - وهوَ معدودٌ مِن الصَّحابةِ -: الخروجُ يومَ الفطرِ يَعْدِلُ عمرةً، والخروجُ يومَ الأضحى يَعْدِلُ حجَّهً

(1)

. ثمَّ يَنْسِكونَ عقيبَ ذلكَ نسكَهُم ويُقَرِّبونَ قرابينَهُم بإراقةِ دماءِ ضحاياهُم، فيَكونُ ذلكَ شكرًا منهُم لهذهِ النِّعمِ. والصَّلاةُ والنَّحرُ الذي يَجْتَمعُ في عيدِ النَّحرِ أفضلُ مِن الصَّلاةِ والصَّدقةِ الذي في عيدِ الفطرِ، ولهذا أُمِرَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم أنْ يَجْعَلَ شكرَهُ لربِّهِ على إعطائِهِ الكوثرَ أنْ يُصَلِّيَ لربِّهِ ويَنْحَرَ، وقيلَ لهُ:{قُلْ إنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحْيايَ وَمَماتي للهِ رَبِّ العالَمينَ} [الأنعام: 162]. ولهذا وَرَدَ الأمرُ بتلاوةِ هذهِ الآيةِ عندَ ذبحِ الأضاحي

(2)

، والأضاحي سنَّةُ إبْراهيمَ ومُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِما وسَلَّمَ، فإنَّ اللهَ شَرَعَها لإبْراهيمَ حينَ فَدى ولدَهُ الذي أمَرَهُ بذبحِهِ بذِبْحٍ عظيمٍ.

وفي حديثِ زَيْدِ بنِ أرْقَمَ: قيلَ: يا رسولَ اللهِ! ما هذهِ الأضاحي؟ قالَ: "سنَّةُ إبْراهيمَ". قيلَ لهُ: فما لَنا بها؟ قالَ: "بكلِّ شعرةٍ حسنةٌ". قيلَ: فالصُّوفُ؟ قالَ: "بكلِّ شعرةٍ مِن الصُّوفِ حسنةٌ"

(3)

. خَرَّجَهُ ابنُ ماجَهْ وغيرُهُ.

(1)

لم أقف عليه، وما أراه تصحّ نسبته إلى مخنف، فإن صحّت فليس له حكم الرفع.

(2)

رواه الحاكم (4/ 222) من حديث عمران بن حصين وأبي سعيد الخدري بإسنادين ساقطين، فما هو بالمعتمد، والمشروع في الذبائح التسمية والتكبير لا غير.

(3)

(ضعيف جدًّا). رواه: أحمد (4/ 368)، وابن منيع في "المسند"(3/ 223 - مصباح)، وعبد بن حميد (259)، وابن ماجه (21 - الأضاحي، 3 - ثواب الأضحية، 2/ 1045/ 3127)، وأبو يعلى، والعقيلي (3/ 419، 4/ 307)، وابن قانع في "المعجم"(1/ 228/ 254)، وابن حبّان في "المجروحين"(3/ 55)، والطبراني (5/ 197/ 5075)، وابن عدي (5/ 1993)، والحاكم (2/ 389)، والبيهقي في "السنن"(9/ 261) و"الشعب"(7337)، والمزّي في "التهذيب"(14/ 94)؛ من طريق سلاّم بن مسكين، عن عائذ الله بن =

ص: 610

فهذهِ أعيادُ المسلمينَ في الدُّنيا، وكلُّها عندَ إكمالِ طاعةِ مولاهُمُ الملكِ الوهَّاب، وحيازتِهِم لِما وَعَدَهُم مِن الأجرِ والثَّواب.

مَرَّ قومٌ براهبٍ في ديرٍ، فقالوا لهُ: متى عيدُ أهلِ هذا الدَّيرِ؟ قالَ: يومَ يَغْفِرُ اللهُ لأهلِهِ

(1)

.

لسَ العيدُ لمَن لَبِسَ الجديد، إنَّما العيدُ لمَن طاعتُهُ تَزيد.

ليسَ العيدُ لمَن تَجَمَّلَ باللباسِ والمركوب، إنَّما العيدُ لمَن غُفِرَتْ لهُ الذُّنوب.

في ليلةِ العيدِ تُفَرَّقُ خلعُ العتقِ والمغفرةِ على العبيد، فمَن نالَهُ منها شيءٌ فلهُ عيد، وإلَّا فهوَ مطرودٌ بعيد.

كانَ بعضُ العارفينَ يَنوحُ على نفسِهِ ليلةَ العيدِ بهذهِ الأبياتِ:

بِحُرْمَةِ غُرْبَتي كَمْ ذا الصُّدودُ

ألا تَعْطِفْ عَلَيَّ ألا تَجودُ

سُرورُ العيدِ قَدْ عَمَّ النَّواحي

وَحُزْني في ازْدِيادٍ لا يَبِيدُ

فَإنْ كُنْتُ اقْتَرَفْتُ خِلالَ سَوْءٍ

فَعُذْري في الهَوى أنْ لا أعودُ

وأنْشَدَ غيرُهُ:

لِلنَّاسِ عَشْرٌ وَعيدُ

وَأنا فَقيرٌ وَحيدُ

يا غايَتي وَمُنايَ

قَدْ لَذَّ لي ما تُريدُ

(2)

وأنْشَدَ الشِّبْلِيُّ:

لَيْسَ عيدُ المُحِبِّ قَصْدَ المُصَلَّى

وَانْتِظارَ الأميرِ وَالسُّلْطانِ

إنَّما العيدُ أنْ تَكونَ لَدى الحِـ

ــبِ كَريمًا مُقَرَّبًا في أمانِ

= عبد الله المجاشعي، عن أبي داوود السبيعي، عن زيد بن أرقم

رفعه.

قال الحاكم: "صحيح الإسناد". وتعقّبه الذهبي بقوله: "عائذ الله قال أبو حاتم: منكر الحديث". وقال البوصيري: "فيه أبو داوود واسمه نفيع بن الحارث وهو متروك". وقال المنذرى: "واهي الإسناد، عائذ الله هو المجاشعي وأبو داوود نفيع بن الحارث الأعمى وكلاهما ساقط". وقال الألباني: "ضعيف جدًّا".

(1)

يغفر لهم عبادتهم للصليب! أم تسميتهم لله صاحبة وولدا؟! عاملة ناصبة تصلى نارًا حامية.

(2)

نهى النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن مثل هذه العبارات الطويلة العريضة الرنّانة التي لا يثبت لها مدّعوها عند الجدّ وأمر بسؤال العافية. ووقع في خ: "وأنا فريد وحيد"، والأولى ما أثبتّه من م و ن وط.

ص: 611

وأنْشَدَ:

إذا ما كُنْتَ لي عيدًا

فَما أصْنَعُ بِالعيدِ

جَرى حُبُّكَ في قَلْبي

كَجَرْيِ الماءِ في العودِ

وأنْشَدَ:

قالوا غَدَا العيدُ ماذا أنْتَ لابِسُهُ

فَقُلْتُ خِلْعَةَ ساقٍ حُبَّهُ جُرَعا

صَبْرٌ وَفَقْرٌ هُما ثَوْبانِ تَحْتَهُما

قَلْبٌ يَرى إلْفَهُ الأعيادَ وَالجُمُعا

أحْرى المَلابِسِ أنْ تَلْقى الحَبيبَ بهِ

يَوْمَ التَّزاوُرِ في الثَّوْبِ الَّذي خَلَعا

الدَّهْرُ لي مَأْتَمٌ إنْ غِبْتَ يا أمَلي

والعيدُ ما كُنْتَ لي مَرْأًى ومُسْتَمَعا

• وأمَّا أعيادُ المؤمنينَ في الجنَّةِ؛ فهيَ أيَّامُ زيارتِهِم لربِّهِم عز وجل، فيَزورونَهُ ويُكْرِمُهُم غايةَ الكرامةِ ويَتَجَلَّى لهُم فيَنْظُرونَ إليهِ، فما أعْطاهُم شيئًا هوَ أحبَّ إليهِم مِن ذلكَ، وهوَ الزِّيادةُ التي قالَ اللهُ فيها:{لِلَّذينَ أحْسَنوا الحُسْنى وَزِيادَهٌ} [يونس: 26].

ليسَ للمحبِّ عيدٌ سوى قربِ محبوبِهِ.

إنَّ يَوْمًا جامِعًا شَمْلي بِهِمْ

ذاكَ عيدٌ لَيْسَ لي عيدٌ سِواهُ

كلُّ يومٍ كانَ للمسلمينَ عيدًا في الدُّنيا؛ فإنَّهُ عيدٌ لهُم في الجنَّةِ؛ يَجْتَمِعونَ فيهِ على زيارةِ ربِّهِم، ويَتَجَلَّى لهُم فيهِ. ويومُ الجمعةِ يُدْعى في الجنَّةِ يومَ المزيدِ؛ ويومُ الفطرِ والأضحى يَجْتَمعُ أهلُ الجنَّةِ فيهِما للزِّيارةِ، ورُوِيَ أنَّهُ يُشارِكُ النِّساءُ الرِّجالَ فيهِما كما كُنَّ يَشْهَدْنَ العيدينِ معَ الرِّجالِ دونَ الجمعةِ. فهذا لعمومِ أهلِ الجنَّةِ. فأمَّا خواصُّهُم؛ فكلُّ يومٍ لهُم عيدٌ يَزورونَ ربَّهُم كلَّ يومٍ مرَّتينِ؛ بكرةً وعشيًّا

(1)

.

الخواصُّ كانَتْ أيَّامُ الدُّنيا كلُّها لهُم أعيادًا فصارَتْ أيَّامُهُم في الآخرةِ [كلُّها]، أعيادًا.

قالَ الحَسَنُ: كلُّ يومٍ لا يُعْصى اللهُ فيهِ فهوَ عيدٌ، كلُّ يومٍ يَقْطَعُهُ المؤمنُ في طاعةِ مولاهُ وذكرِهِ وشكرِهِ فهوَ لهُ عيدٌ.

• أركانُ الإسلامِ التي بُنِيَ الإسلامُ عليها خمسةٌ: الشَّهادتانِ، والصَّلاةُ،

(1)

أمّا أنّ يوم الجمعة يوم المزيد؛ فنعم. وأمّا ما سوى ذلك؛ فالآثار فيه لا تصحّ.

ص: 612

والزَّكاةُ، وصيامُ رمضانَ، والحجُّ. فأعيادُ عمومِ المسلمينَ في الدُّنيا عندَ إكمالِ دورِ الصَّلاةِ وإكمالِ الصِّيامِ والحجِّ، يَجْتَمِعونَ عندَ ذلكَ اجتماعًا عامًّا. فأمَّا الزَّكاةُ؛ فليسَ لها وقتٌ معيَّنٌ لِيُتَّخَذَ عيدًا، بل كلُّ مَن مَلَكَ نصابًا فحولُهُ بحسبِ ملكِهِ. وأمَّا الشَّهادتانِ؛ فإكمالُهُما يَحْصُلُ بتحقيقِهِما والقيامِ بحقوقِهِما، وخواصُّ المؤمنينَ يَجْتَهِدونَ على ذلكَ في كلِّ وقتٍ، فلذلكَ كانَتْ أوقاتُهُم كلُّها أعيادًا لهُم في الدُّنيا والآخرةِ، كما أنْشَدَ الشِّبْلِي:

عيدي مُقيمٌ وَعيدُ النَّاسِ مُنْصَرِفُ

وَالقَلْبُ مِنِّي عَنِ اللَذَّاتِ مُنْحَرِفُ

وَلي قَرينانِ ما لي مِنْهُما خَلَفٌ

طولُ الحَنينِ وَعَيْنٌ دَمْعُها يَكِفُ

• ولمَّا كانَ عيدُ النَّحرِ أكبرَ العيدينِ وأفضلَهُما، ويَجْتَمعُ فيهِ شرفُ المكانِ والزَّمانِ لأهلِ الموسمِ؛ كانَتْ لهُم فيهِ معَهُ أعيادٌ قبلَهُ وبعدَهُ، فقبلَهُ يومُ عرفةَ وبعدَهُ أيَّامُ التَّشريقِ، وكلُّ هذِهِ الأيَّامِ أعيادٌ لأهلِ الموسمِ، كما في حديثِ عقبةَ بنِ عامرٍ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"يومُ عرفةَ ويومُ النَّحرِ وأيَّامُ التَّشريقِ عيدُنا أهلَ الإسلامِ، وهيَ أيَّامُ أكلٍ وشربٍ"

(1)

. خَرَّجَهُ أهلُ "السُّننِ" وصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.

ولهذا لا يُشْرَعُ لأهلِ الموسمِ صومُ يومِ عرفةَ؛ لأنَّهُ أوَّلُ أعيادِهِم وأكبرُ مجامعِهِم، وقد أفْطَرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعرفةَ والنَّاسُ يَنْطرونَ إليهِ. ورُوِيَ عنة أنَّهُ نَهى عن صومِ يومِ عرفةَ بعرفةَ

(2)

. ورُوِيَ عن سُفيان بنِ عُيَيْنَةَ أنَّهُ سُئِل عنِ النَّهيِ عن صيامِ يومِ عرفةَ

(1)

(صحيح). رواه: ابن أبي شيبة (13385 و 15265)، وأحمد (4/ 152)، والدارمي (2/ 23)، وأبو داوود (8 - الصيام، 49 - صيام أيّام التشريق، 1/ 735/ 2419)، والترمذي (6 - الصوم، 59 - صوم أيّام التشريق، 3/ 143/ 773)، والنسائي في "الكبرى"(2829 و 3995 و 4181) و "المجتبى"(24 - المناسك، 195 - النهي عن صوم عرفة، 5/ 252/ 3004)، والروياني (200 و 203)، وابن خزيمة (2100)، والطحاوي (2/ 71)، وابن حبّان (3603)، والطبراني في "الكبير"(17/ 291/ 803) و"الأوسط"(3209)، والحاكم (1/ 434)، والبيهقي (4/ 298)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(21/ 163، 23/ 69)، والبغوي في "السنّة"(1796)؛ من طرق، عن موسى بن علي بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر

رفعه.

وهذا سند رجاله ثقات رجال مسلم. وقد قال الترمذي: "حسن صحيح"، وأقرّه البغوي وابن رجب.

وقال الحاكم: "على شرط مسلم"، وأقرّه الذهبي. وصحّحه ابن خزيمة وابن حبّان والعسقلاني والألباني.

(2)

(ضعيف). رواه: أحمد (2/ 304 و 446)، والبخاري في "التاريخ"(7/ 424)، وابن ماجه (7 _ =

ص: 613

بعرفةَ، فقالَ: لأنَّهُم زوَّارُ اللهِ وأضيافُهُ، ولا يَنْبَغي للكريمِ أنْ يُجَوِّعَ أضيافَهُ. وهذا المعنى يوجَدُ في العيدينِ وأيَّامِ التَّشريقِ أيضًا؛ فإنَّ النَّاسَ كلَّهُم فيها في ضيافةِ اللهِ عز وجل، لا سيَّما عيدَ النَّحرِ؛ فإنَّ النَّاسَ يَأْكُلونَ مِن لحومِ نسكِهِم؛ أهلَ الموقفِ وغيرَهُم. وأيَّامُ التَّشريقِ الثَّلاثةُ هيَ أيَّامُ عيدٍ أيضًا، ولهذا بَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَن يُنادي بمكَّةَ أنَّها أيَّامُ أكلٍ وشربٍ وذكرِ اللهِ عز وجل، فلا يَصومَنَّ أحدٌ

(1)

.

• وقد يَجْتَمعُ في يومٍ واحدٍ عيدانِ، كما إذا اجْتَمَعَ يومُ الجمعةِ معَ يومِ عرفةَ أو يومِ النَّحرِ، فيَزْدادُ ذلكَ اليومُ حرمةً وفضلًا لاجتماعِ عيدينِ فيهِ.

وقد كانَ ذلكَ؛ اجْتَمَعَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم في حجَّتِهِ يومُ عرفةَ فكانَ يومَ جمعةٍ، وفيهِ نَزَلَتْ هذهِ الآيةُ:{اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دينكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دينًا} [المائدة: 3].

وإكمالُ الدِّينِ في ذلكَ اليومِ حَصَلَ مِن وجوهٍ:

* منها: أنَّ المسلمينَ لم يَكونوا حَجُّوا حجَّةَ الإسلامِ بعدَ فرضِ الحجِّ قبلَ ذلكَ ولا أحدٌ منهُم، هذا قولُ أكثرِ العلماءِ أو كثيرٍ منهُم، فكَمَلَ بذلكَ دينُهُم لاستكمالِهِم عملَ أركانِ الإسلامِ كلِّها

(2)

.

= الصيام، 40 - صيام يوم عرفة، 1/ 551/ 1732)، وأبو داوود (8 - الصيام، 63 - صوم عرفة بعرفة، 1/ 741/ 2440)، والنسائي في "الكبرى"(2830 و 2831)، وابن خزيمة (2101)، والعقيلي (1/ 298)، والطحاوي (2/ 71)، والطبراني في "الأوسط"(2577)، وابن عدي (2/ 854)، والحاكم (1/ 434)، وأبو نعيم في "الحلية"(3/ 347، 9/ 21)، والبيهقي (4/ 284، 5/ 117)، والخطيب في "التاريخ"(9/ 34)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(21/ 160 و 161)، والمزّي في "التهذيب"(28/ 586)؛ من طرق، عن حوشب بن عقيل، عن مهديّ الهجري، عن عكرمة، عن أبي هريرة (ومرّة: عن ابن عبّاس)

رفعه.

قال الطبراني: "لم يروه عن عكرمة إلَّا مهديّ". وقال العقيلي: "لا يتابع عليه". قلت: ذكره ابن حبّان في "الثقات" وروى عنه ثقتان فقط، وقال الذهبي في "الميزان":"مجهول"، وقال العسقلاني:"مقبول". فمثله لا يطمأنّ لتقوية ما انفرد به، وإن صحّحه ابن خزيمة والحاكم والمنذري والذهبي والعسقلاني. وقد مال إلى تضعيفه العقيلي وابن عدي والألباني.

وله شاهد عند الطبراني في "الأوسط"(2348) بسند فيه متّهم.

(1)

(صحيح). سيأتي تفصيل القول فيه (ص 634).

(2)

فيه نظر، فحجّة أبي بكر بالناس في السنة التاسعة هي حجّة إسلام على قول من ذهب إلى تأخّر =

ص: 614

* ومنها: أنَّ اللهَ تَعالى أعادَ الحجَّ على قواعدِ إبْراهيمَ عليه السلام ونَفى الشِّركَ وأهلَهُ فلم يَخْتَلِطْ بالمسلمينَ في ذلكَ الموقفِ منهُم أحدٌ. قالَ الشَّعْبِيُّ: نَزَلَتْ هذهِ الآيةُ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهوَ واقفٌ بعرفةَ حينَ وَقَفَ موقفَ إبْراهيمَ واضْمَحَلَّ الشِّركُ وهُدِّمَتْ منارُ الجاهليَّةِ ولم يَطُفْ بالبيتِ عُريانٌ. وكذا قالَ قَتادَةُ وغيرُهُ. وقد قيلَ: إنَّهُ لم يَنْزِلْ بعدَها تحليلٌ ولا تحريمٌ. قالَهُ أبو بَكْرِ بنُ عَيَّاشٍ.

وأمَّا إتمامُ النِّعمةِ؛ فإنَّما حَصَلَ بالمغفرةِ، فلا تَتِمُّ النِّعمةُ بدونِها، كما قالَ اللهُ لنبيِّهِ صلى الله عليه وسلم:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَما تَأخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطًا مُسْتَقيمًا} [الفتح: 2]، وقالَ في آيةِ الوضوءِ:{وَلكِنْ يُريدُ لِيُطَهَرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6]. ومِن هُنا اسْتَنْبَطَ مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ أنَّ الوضوءَ يُكَفِّرُ الذُّنوبَ، كما وَرَدَتِ السُّنَّةُ بذلكَ صريحًا. ويَشْهَدُ لهُ أيضًا أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سَمعَ رجلًا يَدْعو وَيَقولُ: اللهمَّ! إنِّي أسْألُكَ تمامَ النِّعمةِ. فقالَ لهُ: "تمامُ النِّعمةِ النَّجاةُ مِن النَّارِ ودخولُ الجنَّةِ"(1). فهذهِ الآيةُ تَشْهَدُ لِما رُوِيَ في يومِ عرفةَ أنَّهُ يومُ المغفرةِ والعتقِ مِن النَّارِ

(2)

.

• فيومُ عرفةَ لهُ فضائلُ متعدِّدةٌ:

* منها: أنَّهُ يومُ إكمالِ الدِّينِ وإتمامِ النِّعمةِ.

= فرض الحجّ إلى التاسعة ومن باب أولى على قول من ذهب إلى تقدّم فرض الحجّ قبل ذلك. (1)(حسن). رواه: ابن أبي شيبة (29347)، وأحمد (5/ 231 و 235)، وابن منيع في "مسنده"، وعبد بن حميد (107 - منتخب)، والبخاري في "الأدب"(725)، والترمذي (49 - الدعوات، 94 - باب، 5/ 541/ 3527)، والبزّار (2634 و 2635)، وابن أبي حاتم في "العلل"(2063)، والشاشي (1375 - 1377)، والطبراني في "الكبير"(20/ 55/ 97 - 100) و"الدعاء"(2020 و 2021)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 204)، والبيهقي في "الصفات"(158 و 270)، والخطيب في "التاريخ"(3/ 126)؛ من طرق، عن الجريري، عن أبي الورد، عن اللجلاج، عن معاذ

رفعه.

قال الترمذي: "حديث حسن". وقال أبو نعيم: "حدّث به الأكابر عن الجريري". قلت: منهم الثوري وابن عليّة، فأمنّا بذلك اختلاط الجريري. وأبو الورد: تابعي، روى عنه ثلاثة، وقال ابن سعد:"كان معروفًا قليل الحديث"، وقال أبو حاتم في "علل ابنه" (981):"روى عنه الجريري أحاديث حسان"، ولم يذكره ابن حبّان في "ثقاته"، مع أنّه على شرطه، لكنّ شهادتي ابن سعد وأبي حاتم أقوى من ذكر ابن حبّان، ولذلك قال الذهبي:"شيخ". فالسند حسن. وإلى تقويته مال أبو حاتم والترمذي وأبو نعيم، وضعّفه الألباني.

(2)

سيأتي بعض هذه النصوص قريبًا.

ص: 615

* ومنها: أنَّهُ عيدٌ لأهلِ الإسلامِ، كما قالَهُ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ وابنُ عَبَّاسٍ؛ فإنَّ ابنَ عَبَّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ في يومِ عيدينِ؛ يومِ جمعةٍ ويومِ عرفةَ. ورُوِيَ عن عُمَرَ أنَّهُ قالَ: وكلاهُما بحمدِ اللهِ لنا عيدٌ. خَرَّجَهُ ابنُ جَريرٍ في "تفسيره". ويَشْهَدُ لهُ حديثُ عُقْبَة بنِ عامِرٍ المتقدِّمِ. لكنَّهُ عيدٌ لأهلِ الموقفِ خاصَّةً. ويُشْرَعُ صيامُهُ لأهلِ الأمصارِ عندَ جمهورِ العلماءِ، وإنْ خالَفَ فيهِ بعضُ السَّلفِ.

* ومنها: أنَّهُ قد قيلَ: إنَّهُ الشَفعُ الذي أقْسَمَ اللهُ بهِ في كتابِهِ وإنَّ الوترَ يومُ النَّحرِ. وقد رُوِيَ هذا عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن حديثِ جابرٍ

(1)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والنَّسائيُّ في "تفسيره".

وقيلَ: إنَّهُ الشَّاهدُ الذي أقْسَمَ اللهُ بهِ في كتابِهِ، قالَ تَعالى:{وَشاهِدٍ وَمَشْهودٍ} [البروج: 3] وفي "المسند": عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا وموقوفًا: "الشَّاهدُ يومُ عرفةَ، والمشهودُ يومُ الجمعةِ"

(2)

. وخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مرفوعًا. ورُوِيَ ذلكَ عن عَلِيٍّ مِن قولِهِ. وخَرَجَ الطَّبَرانِيُّ مِن حديثِ أبي مالِكٍ الأشْعَرِيِّ مرفوعًا: "الشَّاهدُ يومُ الجمعةِ،

(1)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 595).

(2)

(حسن موقوفًا ورفعه منكر). اختلف فيه على أبي هريرة على وجوه: روى أوّلها: الترمذي (48 - التفسير، 75 - البروج، 5/ 436/ 3339)، وابن خزيمة (البروج 3 - ابن كثير)، وابن جرير (36832 و 36833 و 36839 و 36848 و 36849 و 36851)، وابن أبي حاتم، والبيهقي (3/ 170)؛ من طريق موسى بن عبيدة، أني أيّوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة

رفعه. قال الترمذي: "حسن غريب" لا نعرفه إلَّا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعّف في الحديث". قلت: موسى ضعيف، وأيّوب ليّن. وروى الثاني: أحمد (2/ 298)، والحاكم (2/ 519)، والبيهقي (3/ 170)؛ من طريق عليّ بن زيد بن جدعان، عن عمّار مولى بني هاشم، عن أبي هريرة

رفعه. سكت عنه الحاكم والذهبي، وابن جدعان ضعيف. وروى الثالث: أحمد (2/ 298)، وابن جرير (36834 و 36838 و 36841)، والحاكم (2/ 519)، والبيهقي في "السنن"(3/ 170) و"الشعب"(2965)؛ من طريق يونس بن عبيد، عن عمّار، عن أبي هريرة

موقوفًا. قال الحاكم: "على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، وعمّار صدوق من رجال مسلم وحده، فالسند حسن.

وهذا الوجه الثالث هنا هو أرجح الوجوه لقوّة مخرجه، ورفع عليّ بن زيد في الوجه الثاني منكر لضعف عليّ ومخالفته يونس الثقة، ورفع موسى بن عبيدة في الوجه الأوّل منكر لمخالفته رواية الثقات عن أبي هريرة مع ضعفه. فرفع هذا المتن عن أبي هريرة ليس من زيادات الثقات التي يتعيّن المصير إليها، بل من منكرات الضعفاء، والمعروف هاهنا الوقف. ولذلك قال ابن كثير:"وقد روي موقوفًا على أبي هريرة وهو أشبه". ومال الألباني إلى تقوية الرفع هنا بحديث أبي مالك الآتي بعده، وسوف يأتيك ما فيه.

ص: 616

والمشهودُ يومُ عَرَفَةَ"

(1)

. وعلى هذا؛ فإذا وَقَعَ يومُ عرفةَ في يومِ الجمعةِ؛ فقدِ اجْتَمَعَ في ذلكَ اليومِ شاهدٌ ومشهودٌ.

* ومنها: أنَّهُ رُوِيَ أنَّهُ أفضلُ الأيَّامِ. خَرَّجَهُ ابنُ حِبَّانَ في "صحيحه" مِن حديثِ: جابرٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"أفضلُ الأيَّامِ يومُ عرفةَ"

(2)

. وذَهَبَ إلى ذلكَ طائفةٌ مِن العلماءِ. ومنهُم مَن قالَ: يومُ النَّحرِ أفضلُ الأيَّامِ لحديثِ: عَبْدِ اللهِ بنِ قُرْطٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"أعظمُ الأيَّامِ عندَ اللهِ يومُ النَّحرِ ثمَّ يومُ القرِّ"

(3)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ وأبو داوودَ والنَّسائِيُّ وابنُ حِبَّانَ في "صحيحه"، ولفظُهُ:"أفضلُ الأيَّامِ".

* ومنها: أنَّهُ رُوِيَ عن أنَسِ بنِ مالِكٍ أنَّهُ قالَ: كانَ يُقالُ: يومُ عرفةَ بعشرةِ آلافِ يومٍ؛ يَعْني: في الفضلِ

(4)

. وقد ذَكَرْناهُ في فضلِ العشرِ. ورُوِيَ عن عَطاءٍ قالَ: مَن صامَ يومَ عرفةَ؛ كانَ لهُ كأجرِ ألفي يومٍ

(5)

.

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن جرير في "التفسير"(36840 و 36852)، والطبراني في "المعجم الكبير"(3/ 298/ 3458) و"الشاميّين"(1680)؛ من طريق محمد بن إسماعيل بن عيّاش، ثني أبي، ثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري

رفعه. قال الهيثمي (7/ 138): "فيه محمّد بن إسماعيل بن عيّاش وهو ضعيف". قلت: ولم يسمع من أبيه. وشريح عن أبي مالك مرسل. ففي السند ضعف وانقطاعان، فهو شديد الضعف.

وهاهنا شاهد عند: ابن عدي (5/ 1728)، وتمّام في "الفوائد"(1369)، وابن عساكر؛ من حديث جبير بن مطعم. لكن فيه عمّار بن مطر هالك.

وشاهد عند: الشافعي في "الأُمّ"(1/ 188)، وابن جرير (36850 و 36853)؛ عن عبد الرحمن بن حرملة، عن ابن المسيّب موقوفًا ومرسلًا. لكنّ المعروف فيه الوقف لأنّه من رواية الثوري، بخلاف الإرسال الذي جاء عن إبراهيم بن محمّد بن أبي يحيى المتّهم وسهل بن موسى الذي لا يعرف. وشاهد عند الشافعي في "الأُمّ"(1/ 188) من حديث نافع بن جبير وعطاء

به مرسلًا. وفي إسناده ابن أبي يحيى المتّهم المتقدّم فيما قبله.

فحديث أبي مالك واه، وحديث جبير ساقط، وحديث ابن المسيّب المعروف فيه الوقف وإرساله منكر، ومرسل عطاء ونافع بن جبير ساقط. فأنّى لهذه الأسانيد أن تكتسب باجتماعها قوّة؟! وأنّى لها أن تنفع حديث أبي هريرة الذي تقدّم لك أنّ الرفع فيه منكر والمعروف الوقف؟!

(2)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 588 - 589).

(3)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 591).

(4)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 582).

(5)

لم أقف عليه، ولا إخاله يصحّ إلى عطاء، وقد روي عن عطاء غير هذا.

ص: 617

* ومنها: أنَّهُ يومُ الحجَّ الأكبرِ عندَ جماعةٍ مِن السَّلفِ، منهُم عُمَرُ وغيرُهُ. وخالَفَهُـ[ـم]، آخرونَ وقالوا: يومُ الحجِّ الأكبرِ يومُ النَّحرِ. ورُوِيَ ذلكَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

* ومنها: أنَّ صيامَهُ كفَّارةُ سنتينِ، وسَنَذْكُرُ الحديثَ في ذلكَ فيما بعدُ إنْ شاءَ اللهُ تَعالى

(2)

.

* ومنها: أنَّهُ يومُ مغفرةِ الذُّنوبِ والتَّجاوزِ عنها والعتقِ مِن النَّارِ والمباهاةِ بأهلِ الموقفِ كما في "صحيح مسلم"

(3)

: عن عائشةَ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"ما مِن يومٍ أكثرَ مِن أنْ يُعْتِقَ اللهُ فيهِ عبيدًا مِن النَّارِ مِن يومِ عرفةَ، وإنَّهُ لَيَدْنو، ثمَّ يُباهي بهِمُ الملائكةَ، فيَقولُ: ما أرادَ هؤلاءِ؟ ".

وفي "المسند" عن: عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قال:"إنَّ اللهَ يُباهي ملائكتَهُ عشيَّةَ عرفةَ بأهلِ عرفةَ، فيَقول: انْظُروا إلى عبادي، أتَوْني شعثًا غبرًا"

(4)

.

(1)

(صحيح). علّقه البخاري (25 - الحجّ، 132 - الخطبة أيّام منى، 3/ 574/ 1742) بصيغة الجزم. ووصله: ابن سعد (2/ 184)، والفاكهي في "مكّة"(2640)، وابن ماجه (25 - المناسك، 76 - الخطبة يوم النحر، 2/ 1016/ 3058)، وأبو داوود (5 - المناسك، 67 - يوم الحجّ الأكبر، 1/ 598/ 1945)، وابن جرير (16461)، وأبو عوانة في "صحيحه"(3/ 105 - تغليق)، وابن أبي حاتم (التوبة 3 - ابن كثير)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(9204) و"الصغير"(1104) و"الشاميّين"(265 و 1533)، وابن عدي (7/ 2602)، والحاكم (2/ 331)، وابن مردويه (التوبة 3 - ابن كثير)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 274) و"المستخرج"(3/ 105 - تغليق)، وابن حزم في "حجّة الوداع"(542)، والبيهقي في "السنن"(5/ 39) و"الشعب"(4086)، والعسقلاني في "التغليق"(3/ 104 - 105)؛ من طرق ثلاث، عن نافع، عن ابن عمر

رفعه. وإحدى طرقه إلى نافع صحيحة، والأُخرى قويّة، والحديث صحيح غاية بمجموع طرقه. وقد صحّحه الحاكم والذهبي والعسقلاني والألباني.

ورواه ابن جرير (16462 و 16463) من طرق، عن شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن مرّة الهمداني، عن رجل من الصحابة

رفعه. قال ابن كثير: "إسناده صحيح". قلت: وجهالة الصحابي لا تضرّ. وفي الباب عن عليّ وابن أبي أوفى وأبي بكرة وغيرهم.

(2)

فانظره (ص 623).

(3)

(15 - الحجّ، 79 - فضل الحجّ والعمرة، 2/ 982/ 1348).

(4)

(حسن صحيح). رواه: إسحاق (8214 - أوسط)، وأحمد (2/ 224)، والطبراني في "الكبير"(3/ 254 - مجمع) و "الأوسط"(8214) و"الصغير"(576)؛ من طريق أزهر بن القاسم، ثنا المثنّى بن سعيد، عن قتادة، عن عبد الله بن باباه، عن ابن عمرو

رفعه. قال المنذري: "إسناد أحمد لا بأس به". وقال الهيثمي: "رجال أحمد موثّقون". قلت: هم ثقات عن آخرهم إلّا أزهر فصدوق، فالسند حسن من أجله.

ص: 618

وفيهِ: عن أبي هُرَيْرَةَ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إنَّ اللهَ يُباهي بأهلِ عرفاتٍ، يَقولُ: انْظُروا إلى عبادي شعثًا غبرًا"

(1)

. وخَرَّجَهُ ابنُ حِبَّانَ في "صحيحهِ".

وخَرَّجَ فيهِ أيضًا مِن حديثِ: جابرٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"ما مِن يوم أفضلَ عندَ اللهِ مِن يومِ عرفةَ، يَنْزِلُ اللهُ تبارك وتعالى إلى سماءِ الدُّنيا فيُباهي بأهلِ الأرضِ أهلَ السَّماءِ فيَقولُ: انْظُروا إلى عبادي شعثًا غبرًا ضاحينَ، جاؤوا مِن كلِّ فجٍّ عميقٍ، يَرْجونَ رحمتي ولم يَرَوا عذابي. فلم يُرَ أكثرَ عتيقًا مِن النَّارِ مِن يومِ عرفةَ"

(2)

.

وخَرَّجَهُ ابنُ مَنْدَه في "كتاب التوحيد" ولفظُهُ: "إذا كانَ يومُ عرفةَ، يَنْزِلُ اللهُ إلى سماءِ الدُّنيا، فيُباهي بهمُ الملائكةَ، فيَقولُ: انْظُروا إلى عبادي، أتَوْني شعثًا غبرًا مِن كلِّ

= ويشهد له حديث عائشة عند مسلم (1348) وحديثا أبي هريرة وجابر الآتيان بعده، فهو صحيح بهما، وقد قوّاه المنذري والهيثمي والألباني.

(1)

(حسن صحيح). رواه: أحمد (2/ 305)، وابن خزيمة (2839)، وابن حبّان (3852)، والطبراني في "الأوسط"(8988)، والحاكم (1/ 465)، وأبو نعيم (3/ 305)، والبيهقي (5/ 58)، وابن عبد البرّ (1/ 121)؛ من طرق، عن يونس بن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن أبي هريرة

رفعه.

قال الطبراني وأبو نعيم واللفظ الأوّل: "لم يروه عن مجاهد إلّا يونس بن أبي إسحاق". وقال الحاكم: "على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي، مع أنّ البخاري لم يخرّج ليونس. وقال الهيثمي (3/ 255):"رجاله رجال الصحيح". قلت: يونس من رجال مسلم، وفيه كلام لا ينحطّ بحديثه عن رتبة الحسن، فالسند كذلك، ثمّ هو صحيح بما قبله وبعده. وقد صحّحه الألباني.

(2)

(ضعيف بهذا التمام). رواه: البزّار (1128 - كشف)، وأبو يعلى (2090)، وابن خزيمة (2840)، والطحاوي في "مشكل الآثار"(4/ 114)، وابن حبّان (3853)، وابن عدي (7/ 2708)، والإسماعيلي في (شيوخه)(1/ 327)، وابن منده في "التوحيد"(885)، واللالكائي في "الاعتقاد"(751)، والبيهقي في "السنن" و"الشعب"(4068)، وابن عبد البرّ (1/ 120)، والبغوي (931)، والأصبهاني في "الترغيب"(1042)؛ من طرق، عن أبي الزبير، عن جابر

رفعه.

قال ابن خزيمة: "أنا أبرأ من عهدة مرزوق" قلت: الراوي عن أبي الزبير عنده، وهو مرزوق الباهلي مولى طلحة بن عبد الرحمن صدوق وقد توبع. وقال الهيثمي (3/ 256):"فيه محمّد بن مروان العقيلي، وثّقه ابن معين وابن حبّان وفيه بعض كلام، وبقيّة رجاله رجال الصحيح". قلت: العقيلي صدوق له أوهام وقد توبع. وقال ابن منده: "متصل حسن من رسم النسائي". وردّه الألباني بقوله: "علّة الحديث أبو الزبير؛ فإنّه مدلّس، وقد عنعنه في جميع الطرق عنه". قلت: لكنّ أكثر الحديث يصحّ بشواهده المتقدّمة والآتية؛ إلَّا قوله "ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة"؛ فإنّ الشواهد قاصرة عن تقويته، ثمّ هو مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن قرط المتقدّم (ص 591):"أعظم الأيّام عند الله يوم النحر ثمّ يوم القرّ".

ص: 619

فجٍّ عميقٍ، أُشْهِدُكُم أنِّي قد غَفَرْتُ لهُم. فتَقولُ الملائكةُ: يا ربِّ! فلان مرهَّقٌ. فيقولُ: قد غَفَرْتُ لهُم. فما مِن يومٍ أكثرَ عتيقًا مِن النَّارِ مِن يومِ عرفةَ"

(1)

. وقالَ: إسنادٌ حسنٌ متَّصلٌ. انتهى.

ورُوِّيْناهُ مِن وجهٍ آخرَ بزيادةٍ فيهِ، وهيَ:"أُشْهِدُكُم يا عبادي أنِّي قد غَفَرْتُ لمحسنِهِم وتَجاوَزْتُ عن مسيئِهِم"

(2)

.

ورُوِّيْناهُ مِن روايةِ: إسْماعيلَ بنِ رافِعٍ - وفيهِ مقالٌ -، عن أنَسٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"يَهْبِطُ اللهُ إلى سماءِ الدُّنيا عشيَّةَ عرفةَ، ثمَّ يُباهي بهمُ الملائكةَ، فيَقولُ: هؤلاءِ عبادي جاؤوني شعثًا مِن كلِّ فجٍّ عميقٍ، يَرْجونَ رحمتي ومغفرتي، فلو كانَتْ ذنوبُهُم بعددِ الرَّملِ لَغَفَرْتُها، أفيضوا عبادي مغفورًا لكُم ولمَن شَفَعْتُم فيهِ"

(3)

.

وخَرَّجَهُ البَزَّارُ في "مسنده" بمعناهُ مِن حديثِ: مجاهدٍ، عن ابنِ عُمَرَ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم

(4)

. وقالَ: لا نَعْلَمُ لهُ طريقًا أحسنَ مِن هذا الطَّريقِ

(5)

.

وخَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ وغيرُهُ مِن حديثِ: عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ مختصرًا

(6)

.

ورُوِّيْنا [هُ]، مِن طريقِ: الوَليدِ بنِ مُسْلِمٍ؛ قالَ: أخْبَرَني أبو بَكْرِ بنُ أبي مَرْيَمَ، عنِ الأشياخِ؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إنَّ اللهَ عز وجل يَدْنو إلى السَّماءِ الدُّنيا عشيَّةَ عرفةَ، فيُقْبِلُ

(1)

(ضعيف بهذا التمام). هذا أحد ألفاظ الحديث المتقدّم قبله، وقد عنعنه أبو الزبير كما رأيت، وتفرّد هنا بذكر العبد المرهّق، ولم أجد له متابعًا ولا شاهدًا.

(2)

(حسن لشواهده). جاءت هذه الزيادة في بعض ألفاظ الحديث المتقدّم قبله، وقد عنعنه أبو الزبير كما رأيت. لكن يشهد له حديث أبي هريرة المتقدّم آنفًا، فقد جاءت فيه زيادة الإشهاد من وجه حسن عند أبي نعيم في "الحلية"(3/ 305)، وجاءت أيضًا من حديث ابن عمر عند ابن عدي (5/ 1921) بسند ساقط، وجاءت أيضًا في أحاديث مغفرته تعالى التبعات لأهل عرفة، وقد تقدّم (ص 162 - 164) أنّها موضوعة. فالعمدة في تقوية هذه الزيادة على حديث أبي هريرة وحده.

(3)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول في هذه الطريق وبيان نكارتها وضعف راويها وسقوط شواهدها (ص 157). وفي م ون وط: "كعدد الرمل

".

(4)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 157).

(5)

وفيها علل أربع بيّنتها (ص 157)! فإذا كانت هذه أحسن الطرق؛ فكيف بما دونها؟!

(6)

(حسن صحيح). تقدّم نصّه وتفصيل القول فيه (ص 618).

ص: 620

على ملائكتِهِ، فيَقولُ: ألا وإنَّ لكلِّ وفدٍ جائزةً، وهؤلاءِ وفدي شعثًا غبرًا، أعْطُوهُم ما سَألوا وأخْلِفوا لهُم ما أنْفَقوا. حتَّى إذا كانَ عندَ غروبِ الشَّمسِ؛ أقْبَلَ عليهِم فقالَ: ألا إنِّي قال وَهَبْتُ مسيئَكُم لمحسنِكُم، وأعْطَيْتُ محسنكُم ما سَألَ، أفيضوا باسمِ اللهِ"

(1)

.

ورَوى: إبْراهيمُ بنُ الحَكَمِ بنِ أبانَ، حَدَّثَنا أبي، حَدَّثَنا فَرْقَدٌ؛ قالَ: إنَّ أبوابَ السَّماءِ تُفْتَحُ كلَّ ليلةٍ ثلاثَ مرَّاتٍ، وفي ليلةِ الجمعةِ سبعَ مرَّاتٍ، وفي ليلةِ عرفةَ تسعَ مرَّاتٍ

(2)

.

ورُوِّيْنا مِن طريقِ

(3)

: نُفَيعٍ أبي داوودَ، عنِ ابنِ عُمَرَ مرفوعًا وموقوفًا:"إذا كانَ عشيَّةُ يومِ عرفةَ؛ لمْ يَبْقَ أحدٌ في قلبِهِ مثقالُ ذرَّةٍ مِن إيمانٍ إلَّا غُفِرَ لهُ". قيلَ لهُ: للمُعَرَّفِ خاصَّةً أم للنَّاسِ عامَةً؟ قالَ: "بل للنَّاسِ عامَّةً"

(4)

.

وخَرَّجَ مالِكٌ في "الموطَّأ" مِن مراسيلِ طَلْحَةَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ بنِ كُرَيْزٍ؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "ما رُئِيَ الشَّيطانُ يومًا هوَ فيهِ أصغرُ ولا أدْحَرُ ولا أحْقَرُ ولا أغيظُ منهُ [في]، يومِ عرفةَ، وما ذاكَ إلَّا لِما يَرى مِن تنزُّلِ الرَّحمةِ

(5)

وتجاوزِ اللهِ عنِ الذُّنوبِ العظامِ؛ إلاَّ ما رَأى يومَ بدرٍ. قيلَ: وما رَأى يومَ بدرٍ؟ قالَ: إنَّهُ قد رَأى جِبْريلَ عليه السلام وهوَ يَزَعُ الملائكةَ"

(6)

.

(1)

(موضوع). فيه علل ثلاث: أولاها: أنّ أبا بكر بن أبي مريم واهٍ منكر الحديث. والثانية: أنّ شيخه رجل مبهم. والثالثة: أنّ أبا بكر لم يلق أحدًا من الصحابة فإن كان شيخه تابعيًّا فالسند مرسل وإن كان من أتباع التابعين فهو معضل. وقد تقدّم تفصيل تخريج هذا المعنى وبيان أنّه موضوع (ص 162 - 164).

(2)

إبراهيم ضعيف، وأبوه له أوهام، وفرقد ضعيف صاحب مناكير عابد يروي المنامات ومقالات الصوفيّة، وهذا لاحق بها في أحسن أحواله.

(3)

في خ: "وروّيناه من طريق"، والأولى حذف الخاء كما في م ون وط لأنّه حديث آخر.

(4)

(موضوع). رواه: عبد بن حميد (842 - منتخب)، والطبراني في "الكبير"(3/ 255 - مجمع)؛ من طريق أبي داوود السبيعي، عن ابن عمر

رفعه.

قال الهيثمي: "فيه أبو داوود الأعمى وهو ضعيف جدًّا". قلت: هو نفيع بن الحارث، متّهم متروك، وهذا ممّا صنعته يداه.

(5)

في خ: "أغيظ منه يوم عرفة

نزول الرحمة" وفي م ون: "أغيظ منه من يوم عرفة

"! والأولى ما أثبتّه من "الموطّأ"!.

(6)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 418).

ص: 621

ورَوى أبو عُثْمانَ الصَّابونِيُّ بإسنادٍ لهُ عن رجلٍ كانَ أسيرًا ببلادِ الرُّومِ فهَرَبَ مِن بعضِ الحصونِ؛ قالَ: فكُنْتُ أسيرُ بالليلِ وأكْمُنُ بالنَّهارِ، فبينا أنا ذاتَ ليلةٍ أمْشي بينَ جبالٍ وأشجارٍ إذا أنا بحسٍّ، فراعَني ذلكَ، فنَظَرْتُ، فإذا راكبُ بعيرٍ، فازْدَدْتُ رعبًا، وذلكَ أنَّهُ لا يَكونُ ببلادِ الرُّومِ بعيرٌ. فقُلْتُ: سُبْحانَ اللهِ! في بلادِ الرُّومِ راكبُ بعيرٍ، إنَّ هذا لعجبٌ! فلمَّا انْتَهى إليَّ؛ قُلْتُ: يا عبدَ اللهِ! مَن أنتَ؟ قالَ: لا تَسْألْ. قُلْتُ: إنِّي أرى عجبًا، فأخْبِرْني. فقالَ: لا تَسْألْ. فأبَيْتُ عليهِ. فقالَ: أنا إبْليسُ، وهذا وجهي مِن عرفاتٍ، وافَقْتُهُم عشيَّةَ اليومِ اطُّلِعَ عليهِم

(1)

فنَزَلَتْ عليهِمُ المغفرةُ والرَّحمةُ ووُهِبَ بعضُهُم لبعضٍ، فداخَلَني الهمُّ والحزنُ والكآبةُ، وهذا وجهي إلى قُسْطَنْطينِيَّةَ أفْرَحُ بما أسْمَعُ مِن الشِّركِ باللهِ وادِّعاءِ أنَّ لهُ ولدًا. فقُلْتُ: أعوذُ باللهِ منكَ. فلمَّا قُلْتُ هذهِ الكلماتِ؛ لم أرَ أحدًا

(2)

.

ويَشْهَدُ لهذهِ الحكايةِ حديثُ عَبَّاسِ بنِ مِرْداسٍ الذي خَرَّجَهُ أحْمَدُ وابنُ ماجَهْ في دعاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأُمَّتِهِ عشيَّةَ عرفةَ ثمَّ بالمزدلفةِ، فأُجيبَ، فضَحِكَ صلى الله عليه وسلم وقالَ:"إنَّ إبْليسَ حينَ عَلِمَ أنَّ اللهَ قد غَفَرَ لأُمَّتي واسْتَجابَ دعائي أهْوى يَحْثي التُّرابَ على رأْسِهِ ويَدْعو بالويلِ والثُّبورِ؛ فضَحِكْتُ مِن الخبيثِ مِن جزعِهِ"

(3)

.

ويُرْوى عن عَلِيِّ بنِ المُوَفَّقِ أنَّهُ وَقَفَ بعرفةَ في بعضِ حجَّاتِهِ، فرَأى كثرةَ النَّاسِ، فقالَ: اللهمَّ! إنْ كُنْتَ لم تَقْبَلْ منهُم أحدًا؛ فقد وَهَبْتُهُ حَجَّتي. فرَأى ربَّ العزَّةِ في منامِهِ، وقالَ لهُ: يا ابنَ المُوَفَّقِ! أتَتَسَخَّى عليَّ؟ قد غَفَرْتُ لأهلِ الموقفِ ولأمثالِهِم، وشَفَّعْتُ كلَّ واحدٍ منهُم في أهلِ بيتِهِ وذرِّيَّتِهِ وعشيرتِهِ، وأنا أهلُ التَّقوى وأهلُ المغفرةِ

(4)

(1)

في خ: "سبحان الله ببلاد الروم

اطّلع الله عليهم"

(2)

بإسناد له عن رجل! فتأمّل هذا التوثيق! وأعجب من ذلك أن يستشهد له بشاهد موضوع!

(3)

(موضوع). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 162 - 164).

(4)

أورد أبو نعيم الأصبهاني هذا الخبر في "حلية الأولياء"(10/ 312) مفصّلًا، وخلاصته أنّ ابن الموفّق هذا حجّ بضعًا وخمسين حجّة فوهب ثوابها كلّها للنبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وأبويه، ثمّ بقيت حجّة فوهبها لمن لم يقبل الله حجّه، فرأى ربّ العزّة في نومه

إلى آخر المذكور.

لا أريد هنا أن أُشير إلى تنكّب السنّة ومخالفة هدي السلف فهذه شنشنة أعرفها من أخزم! ولا إلى ربّ العزّة الذي لا تجد واحدًا من القوم إلّا ورآه في نومه مع أنّ هذا لم يقع للصحابة ولا لتابعيهم ولا لكبار الأئمّة! =

ص: 622

ويُرْوى نحوُهُ عن غيرِهِ أيضًا مِن الشُّيوخِ!!

• فمَن طَمعَ في العتقِ مِن النَّارِ ومغفرةِ ذنوبِهِ في يومِ عرفةَ، فلْيُحافِظْ على الأسبابِ التي يُرْجى بها العتقُ والمغفرةُ.

* فمنها: صيامُ ذلكَ اليومِ. ففي "صحيح مسلم"

(1)

: عن أبي قَتادَةَ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"صيامُ يومِ عرفةَ؛ أحْتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ السَّنةَ التي قبلَهُ والتي بعدَهُ".

* ومنها: حفظُ جوارحِهِ عنِ المحرَّماتِ في ذلكَ اليومِ. ففي "مسند الإمام أحْمَد": عنِ ابنِ عَبَّاسٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، أنَّهُ قالَ يومَ عرفةَ:"هذا يومٌ مَن مَلَكَ فيهِ سمعَهُ وبصرَهُ ولسانَهُ؛ غُفِرَ لهُ"

(2)

.

* ومنها: الإكثارُ مِن شهادةِ التَّوحيدِ بإخلاصٍ وصدقٍ؛ فإنَّها أصلُ دينِ الإسلامِ الذي أكْمَلَهُ اللهُ في ذلكَ اليومِ وأساسُهُ.

وفي "المسند": عن عَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو؛ قالَ: كانَ أكثرُ دعاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يومَ عرفةَ: "لا إلهَ إلأَ اللهُ وحدَهُ، لا شريكَ لهُ، لهُ الملكُ، ولهُ الحمدُ، بيدِهِ الخيرُ، وهوَ على كلِّ

= وإنّما أُريد أن أسأل: من أين لابن الموفّق هذه الثقة التامّة بأنّ حجّته الأخيرة - بل حجّاته كلّها - قد قبلت حتّى يوزّعها يمينًا وشمالًا؟! ومن أين له هذه الضمانة بدخول الجنّة حتّى يستهين بهذه الحسنات العظام ويستغني عنها؟! وما الذي جعله يظنّ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعليّ أحوج إلى الحسنات منه حتّى يتصدّق عليهم بها؟! قصص تساق للموعظة والاعتبار، فإذا أنعمت النظر فيها لم تر إلّا جهلًا أو غرورًا.

(1)

(13 - الصيام، 36 - صيام ثلاثة أيّام، 2/ 818/ 1162).

(2)

(ضعيف). رواه: الطيالسي (2734)، وابن سعد في "الطبقات"(4/ 54)، وأحمد (1/ 329 و 356)، والفاكهي في "مكّة"(2748)، وابن أبي الدنيا في "الصمت"(664)، وأبو يعلى (2441)، وابن خزيمة (2833)، والطبراني في "الكبير"(12/ 179/ 12974، 18/ 288/ 741)، والخطيب في "التاريخ"(1/ 242)؛ من طريق سكين بن عبد العزيز، عن أبيه، عن ابن عبّاس

رفعه.

قال ابن خزيمة: "أنا بريء من عهدة سكين وعهدة أبيه". وقال الهيثمي (3/ 254): "رجاله ثقات". قلت: سكين صدوق، ولكنّه يكثر الرواية عن الضعفاء، فلحق حديثه بعض النكارة لأجل ذلك. وأبوه عبد العزيز: تفرّد ابن حبّان بذكره في "الثقات"، وروى عنه ابنه وآخران ضعيفان، فمثل هذا لا يرفع جهالته، وإنّما ترفع الجهالةَ روايةُ الثقات، ولا سيّما أنّ أبا حاتم قال مجهول وأنّ ابن خزيمة تبّرأ من عهدته. فمثل هذا قصاراه أن يكون صالحًا في المتابعات، ولا متابع، فالسند ضعيف، وقال الألباني:"منكر".

ص: 623

شيءٍ قديرٌ"

(1)

.

وخَرَّجَة التِّرْمِذِيُّ، ولفظُهُ:"خيرُ الدُّعاءِ دعاءُ يومِ عرفةَ، وخيرُ ما قُلْتُ أنا والنَبيُّونَ مِن قبلي: لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ، لا شريكَ لهُ، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ، وهوَ على كلِّ شيءٍ قدير"

(2)

.

وخَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ مِن حديثِ عَلِيٍّ

(3)

وابنِ عُمَرَ

(4)

مرفوعًا أيضًا.

(1)

(حسن لشواهده إلّا قوله: بيده الخير). رواه: أحمد (2/ 210)، والفاكهي في "مكّة"(2759)، والترمذي (49 - الدعوات، 123 - دعاء يوم عرفة، 5/ 572/ 3585)، وأبو نعيم في "الحلية"(7/ 103)، والبيهقي في "الشعب"(3767)، والرافعي في "التدوين" (2/ 168)؛ من طريق محمّد (أو: حمّاد) بن أبي حميد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه

رفعه.

قال الترمذي: "غريب من هذا الوجه، وحمّاد بن أبي حميد ليس بالقويّ". ومال المنذري إلى تقويته. وقال الهيثمي (3/ 255): "رجاله موثّقون". قلت: حمّاد واهٍ. لكن يشهد له ما بعده إلّا قوله: "بيده الخير".

(2)

(حسن لشواهده). تقدّم تفصيل القول فيه في الحاشية السابقة.

(3)

(حسن صحيح). وقد جاء عنه من ثلاثة أوجه: روى أوّلها: البيهقي (5/ 117)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(6/ 38)؛ من طريق موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة، عن عليّ

رفعه بزيادة. قال البيهقي: "تفرّد به موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، ولم يدرك أخوه عليًّا".

وروى الثاني: الطبراني في "الدعاء"(874) و"فضل العشر"(1503 - صحيحة) من طريق قيس بن الربيع، عن الأغرّ بن الصبّاح، عن خليفة بن حصين، عن عليّ

رفعه. وهذا ضعيف، قيس تغيّر وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه.

وأشار إلى الثالث ابن عبد البرّ في "التمهيد"(6/ 39) بقوله: "حديث عليّ يدور على دينار أبي عمرو عن ابن الحنفيّة، وليس دينار ممّن يحتجّ به". فهذا يفيد أنّ هاهنا طريقًا أُخرى غير المذكورتين. ودينار إن لم يكن بالحجّة فلا أقلّ من أن يعتبر به.

والحديث حسن بمجموع هذه الأوجه، صحيح بشواهده المتقدّمة والآتية، وقد قوّاه الألباني.

(4)

(حسن لشواهده). رواه: العقيلي (3/ 462) والطبراني في "الدعاء"(875) من طريق فرج بن فضالة عن يحيى بن سعيد، وابن عدي (3/ 911) من طريق خالد بن الحسين أبي الجنيد الضرير عن عثمان بن مقسم؛ كلاهما عن نافع، عن ابن عمر

رفعه. وفرج ضعيف ولا سيّما فيما رواه عن يحيى بن سعيد، وأبو الجنيد وابن مقسم منكرا الحديث واهيان، فاجتماع الطريقين لا يزحزح السند عن الضعف.

وله شاهد عند ابن عبد البرّ (6/ 38) من طريق قويّة عن ابن أبي حسين مرسلًا.

وآخر عند: مالك (1/ 214 و 422)، وعبد الرزّاق (8125)، والفاكهي في "مكّة"(2760)، والبيهقي (4/ 284، 5/ 117)، بسند قويّ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلًا. قال البيهقي:"وقد روي عن مالك بإسناد آخر موصولًا، ووصله ضعيف". قلت: وصله: ابن عديّ (4/ 1600)، والبيهقي في "الشعب" =

ص: 624

وخَرَّجَ

(1)

الإمامُ أحْمَدُ مِن حديثِ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ، قالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وهوَ بعرفةَ يَقْرَأُ هذهِ الآيةَ: {شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لا إلهَ إلَّا هوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولو العِلْمِ} هو الآيةَ [آل عمران: 18]، ويَقولُ:"وأنا على ذلكَ مِن الشَّاهدينَ يا ربِّ! "

(2)

.

ويُرْوى مِن حديثِ عُبادَةَ بنِ الصَّامِتِ؛ قالَ: شَهِدْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يومَ عرفةَ، فكانَ أكثرَ قولهِ {شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لا إلهَ إلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وأُولو العِلْمِ} الآيةَ. ثُمَّ قالَ:"أي ربِّ! وأنا أشهَدُ"

(3)

.

= (4072)؛ من طريق عبد الرحمن بن يحيى المدني، ثنا مالك، عن سميّ مولى أبي بكر، عن أبي هريرة

رفعه. قال البيهقي: "هكذا رواه أبو عبد الرحمن بن يحيى وغلط فيه، إنّما رواه مالك في "الموطّأ" مرسلًا". قلت: ابن يحيى واه منكر الحديث، والمعروف في هذا الإرسال والوصل منكر.

فهذه الشواهد المرسلة مع حديثي عليّ وابن عمرو المتقدّمين تشدّ حديث ابن عمر وتقوّيه.

(1)

في حاشية خ هنا: "قال في "التبصرة" في مجلس الأمر بالمعروف: عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ الله يستخلص رجلًا من أُمّتي على رؤوس الملأ يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعون سجلًّا، كلّ سجلّ مدّ البصر، ثمّ يقول الله: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا ربّ! فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل فيقول: لا يا ربّ! فيقول: بلى؛ إنّ لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم اليوم عليك! فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلَّا الله وأنّ محمّدا عبده ورسوله. فيقول: أحضروه. فيقول: يا ربّ! ما هذه البطاقة مع هذه السجلّات؟ فيقال: إنّك لا تظلم. فتوضع السجلاّت في كفّة والبطاقة في كفّة، فطاشت السجلاّت وثقلت البطاقة". وذكر هذا الحديث أيضًا في مجلس ذكر الموت، ورواه بسنده من طريق "المسند"، وهو فيه وفي غيره. والله تعالى أعلم. وروى النسائي وابن حبّان والبزّار أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لو أنّ أهل السماوات السبع والأرضين السبع في كفّة ولا إله إلّا الله في كفّة مالت بهم"" اهـ.

(2)

(ضعيف). رواه أحمد (1/ 166) من طريق جبير بن عمرو، عن أبي سعد الأنصاري، عن أبي يحيى مولى آل الزبير، عن الزبير

رفعه. قال الهيثمي (6/ 328): "في إسناده مجاهيل". قلت: جبير وأبو سعد مجهولان. وأبو يحيى الظاهر أنه عمرو بن دينار قهرمان آل الزبير شيخ واه في حدّ الترك. والسند ساقط. ورواه: ابن أبي حاتم في "تفسيره"(آل عمران 20 - ابن كثير)، والطبراني (1/ 124/ 250)، وابن السنّي (435)؛ من طريق محمّد بن أبي السري العسقلاني، ثنا عمر بن حفص بن ثابت بن أسعد بن زرارة، عن عبد الملك بن يحيى بن عبّاد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، عن جدّه، عن الزبير

رفعه. قال الهيثمي (6/ 328): "في إسناده مجاهيل". قلت: عمر بن حفص لم أقف له على ترجمة. وعبدالملك ذكره ابن حبّان في "الثقات" برواية ثقتين وترجمه الخطيب بما يدلّ على فضله فمثله يكون حسنًا في الشواهد على الأقلّ. والعسقلاني كثير الوهم. والسند واهٍ.

قال المناوي: "ورواه الدارقطني عن عائشة، وفيه أحمد بن عبيد بن ناصح له مناكير وزمعة ضعفوه". واجتماع مثل هذه الأسانيد لا يقوّي الحديث، وقد ضعّفه ابن أبي حاتم والعراقي والهيثمي والمناوي.

(3)

(لم أقف عليه). ولا ذكره السيوطي في "الدرّ" مع أنّه جمع فيه فأوعى. والمعتاد في مثل هذه =

ص: 625

فتحقيقُ كلمةِ التَّوحيدِ يوجِبُ العتقَ مِن النَّارِ؛ فإنَّها تَعْدِلُ عتقَ الرِّقابِ، وعتقُ الرِّقابِ يوجِبُ العتقَ مِن النَّارِ:

كما ثَبَتَ في الصَّحيحِ أنَّ مَن قالَها مئةَ مرَّةٍ؛ كانَتْ لهُ عدلَ عشرِ رقابٍ

(1)

.

وثَبَتَ أيضًا أنَّ مَن قالَها عشرَ مرَّاتٍ؛ كانَ كمَن أعْتَقَ أربعةً مِن ولدِ إسْماعيلَ

(2)

.

وفي "سنن أبي داوود" وغيرِهِ: عن أنَسٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"مَن قالَ حينَ يُصْبِحُ أو يُمْسي: اللهمَّ! إنِّي أصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ وأُشْهِدُ حملةَ عرشِكَ وملائكتَكَ وجميعَ خلقِكَ أنَّكَ أنتَ اللهُ لا إلهَ إلاَّ أنتَ وحدَكَ لا شريكَ لكَ وأنَّ مُحَمَّدًا عبدُكَ ورسولُكَ؛ أعْتَقَ اللهُ ربعَهُ مِن النَّارِ، ومَن قالَها مرَّتينِ؛ أعْتَقَ اللهُ نصفَهُ مِن النَّارِ، ومَن قالَها ثلاثَ مرَّاتٍ؛ أعْتَقَ اللهُ ثلاثةَ أرباعِهِ مِن النَّارِ، ومَن قالَها أربعَ مرارٍ؛ أعْتَقَهُ اللهُ مِن النَّارِ"

(3)

.

= الغرائب الضعف إن لم تكن دون ذلك. والله أعلم.

(1)

رواه: البخاري (80 - الدعوات، 64 - فضل التهليل، 11/ 201/ 6403)، ومسلم (48 - الذكر والدعاء،10 - فضل التهليل، 4/ 2071/ 2691)؛ من حديث أبي هريرة.

(2)

رواه: البخاري (الموضع السابق، 6404)، ومسلم (الموضع السابق، 2692)؛ عن أبي أيّوب.

(3)

(حسن صحيح). يرويه بقيّة بن الوليد واختلفوا عليه فيه على لفظين: روى الأوّل منهما: البخاري في "الأدب المفرد"(1201)، والنسائي في "الكبرى"(9837) و"اليوم والليلة"(9)، والطبراني في "الشاميّين"(1542) و"الدعاء"(297)، وابن السنّي (70)، وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 185)، والضياء في "المختارة"(7/ 210/ 2649 و 2650)؛ من طريق إسحاق بن راهويه تارة ولوين تارة، عن بقيّة، ثني مسلم بن زياد، سمعت أنسًا

رفعه بلفظ المصنّف. وهذا سند لا بأس به: بقيّة صرّح بالتحديث، ومسلم روى عنه ثلاثة من الثقات وذكره ابن حبّان في "الثقات" ولم يجرّحه أحد فهو صالح الحديث. وروى الثاني: أبو داوود (35 - الأدب، 11 - ما يقول إذا أصبح، 1/ 741/ 5078)، والترمذي (49 - الدعوات، 79 - باب، 5/ 527/ 3501)، والنسائي في "الكبرى"(9838) و"اليوم والليلة"(10)، والطبراني في "الأوسط"(7201)؛ من طرق أربع صحيحة، عن بقيّة، عن مسلم بن زياد، عن أنس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح: اللهمّ أصبحت أشهدك

غفر له ما أصاب في يومه ذلك، وإن قالها حين يمسي؛ غفر له ما أصاب في تلك الليلة". وقد عنعن بقيّة على تدليسه، فالسند ضعيف. وليست رواية الثقات الأربع لهذا اللفظ أولى بالترجيح من رواية الثقتين على الوجه الأولّ؛ لأنّ أحد الثقتين إسحاق بن راهويه وهو ثقة ثبت إمام.

لكن رواه: أبو داوود (الموضع السابق، 2/ 738/ 5069)، والطبراني في "الشاميّين"(1542) و"الدعاء"(297)، وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 185)، والضياء في "المختارة"(7/ 225/ 2664 و 2665)؛ من طريق ابن أبي فديك، عن عبد الرحمن بن عبد المجيد، عن هشام بن الغاز، عن مكحول، عن أنس

رفعه باللفظ الأوّل الذي ذكره المصنّف. وعبد الرحمن بن عبد المجيد إن كان هو عبد الرحمن بن عبد الحميد =

ص: 626

ويُروى مِن مراسيلِ الزُّهْرِيَّ: "مَن قالَ في يومٍ عشرةَ آلافِ مرَّةٍ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ؛ أعْتَقَهُ اللهُ مِن النَّارِ"

(1)

. كما أنَّهُ لو جاءَ بديةِ مَن قتَلَهُ عشرةِ آلافٍ؛ قُبِلَتْ [منهُ].

* ومنها: أنْ يُعْتِقَ رقبةً إنْ أمْكَنَهُ؛ فإنَّ مَن أعْتَقَ رقبةً مؤمنةً؛ أعْتَقَ اللهُ بكلِّ عضوٍ منها عضوًا منهُ مِن النَّارِ.

كانَ حَكيمُ بنُ حِزامٍ رضي الله عنه يَقِفُ بعرفةَ ومعَهُ مئةُ بدنةٍ مقلَّدةٍ ومئةُ رقيقٍ، فيُعْتِقُ رقيقَهُ، فيَضِجُّ النَّاسُ بالبكاءِ والدُّعاءِ ويَقولونَ: ربَّنا! هذا عبدُكَ قد أعْتَقَ عبيدَهُ، ونحنُ عبيدُكَ فأعْتِقْنا.

وجَرى للنَّاسِ مرَّةً معَ الرَّشيدِ نحوُ هذا.

وكانَ أبو قِلابَةَ يُعْتِقُ جاريةً في عيدِ الفطرِ يَرْجو أنْ يُعْتَقَ بذلكَ مِن النَّارِ.

* ومنها: كثرةُ الدُّعاءِ بالمغفرةِ والعتقِ؛ فإنَّهُ يُرْجى إجابةُ الدُّعاءِ فيهِ.

= نفسه كما مال إليه المزّي والعسقلاني فصدوق، وإن كان غيره فمجهول. ورواية مكحول عن أنس مرسلة. لكنّ هذه الطريق على ضعفها ترجّح لنا الوجه الأوّل عن بقيّة وتقوّيه.

وهاهنا شاهد عند الطبراني في "الدعاء"(298) من حديث أبي سعيد مرفوعًا بلفظ المصنّف، لكنّه واه في سنده ضعيفان.

وشاهد آخر عند: البزّار (6/ 495/ 2531)، والطبراني في "الكبير"(6/ 220/ 6061 و 6062) و"الدعاء"(299 و 300)، وابن عدي (2/ 689)، والحاكم (1/ 523)، والرافعي في "التدوين"(2/ 238)؛ من طريقين، عن عطاء، عن أبي هريرة، عن سلمان

رفعه بلفظ المصنّف لكن قال "ثلثه" بدل "ربعه" ولم يقيّده بصباح ولا مساء. صحّحه الحاكم والذهبي، وليس كذلك: في الطريق الأولى حميد المكّي مجهول، وفي الثانية إبراهيم بن عبد الله بن خالد المصيصي كذّاب.

وبهذه الطرق والشواهد أستطيع أن أقول: تصريح بقيّة بالتحديث في الوجه الأوّل صحيح جاء عن إسحاق بن راهويه من أوجه وتابعه عليه لوين فأمنّا شبهة التدليس. ثمّ الوجه الأوّل عن بقيّة هو المحفوظ، دلّت على ذلك طريق مكحول ثمّ حديثا أبي سعيد وسلمان. وهذا الوجه الأوّل عن بقيّة حسن لذاته أو يكاد صحيح ببقيّة الطرق والشواهد، وقد مال إلى تقويته المنذري والنووي والعسقلاني.

تنبيه: كنت قد خرّجت هذا الحديث في "الأذكار"(231) وضعّفته هناك متأثّرًا بالألباني رحمة الله عليه، ثمّ تبيّن لي بمزيد من الطرق والبحث أنّ الأمر ليس كما قاله الشيخ وأنّ الحديث حسن على الأقلّ، فحرّرت هذا التخريج مبديًا عذري للقارئ الكريم، فليعدّل من أقتنى طبعة ابن خزيمة من "الأذكار" الضعف فيها إلى الصحّة إن شاء. والله يغفر لي خطئي وعمدي وكلّ ذلك عندي.

(1)

(ضعيف). لم أقف عليه بعد طول بحث، لكنّه مرسل، والمرسل من فروع الضعيف.

ص: 627

رَوى ابنُ أبي الدُّنْيا بإسنادِهِ في عَلِيٍّ؛ قالَ: ليسَ في الأرضِ يومٌ إلَّا للهِ فيهِ عتقاءُ مِن النَّارِ، وليسَ يومٌ أكثرَ فيهِ عتقًا للرِّقابِ مِن يومِ عرفةَ، فأكْثِرْ فيهِ أنْ تَقولَ: اللهمَّ! أعْتِقْ رقبتي مِن النَّارِ، وأوْسِعْ لي مِن الرِّزقِ الحلالِ، واصْرِفْ عنِّي فسقةَ الجنِّ والإنسِ؛ فإنَّهُ عامَّةُ دعائي اليومَ.

• ولْيَحْذَرْ مِن الذُّنوبِ التي تَمْنَعُ المغفرةَ [فيهِ]، والعتقَ.

* فمنها: الاختيالُ: رُوِّينا مِن حديثِ: جابِرٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"ما يُرى يومٌ أكثرَ عتيقًا ولا عتيقةً مِن يومِ عرفةَ، لا يَغْفِرُ اللهُ فيهِ لمختالٍ"

(1)

. خَرَّجَهُ البَزَّارُ والطَّبَرانِيُّ وغيرُهُما. والمختالُ: هوَ المتعاظمُ في نفسِهِ المتكبِّرُ. قالَ اللهُ تَعالى: {واللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخورٍ} [الحديد: 23]. وقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ لا يَنْظُرُ إلى مَن جَرَّ ثوبَهُ خُيَلاءَ"

(2)

.

* ومنها: الإصرارُ على الكبائرِ: رَوى جَعْفَرٌ السَّرَّاجُ بإسنادِهِ: عن يونُسَ بنِ عَبْدِ الأعلى؛ أنَّهُ حَجَّ سنةً، فرَأى أميرُ الحاجِّ في منامِهِ أنَّ اللهَ قد غَفَرَ لأهلِ الموسمِ كلِّهِم سوى رجلٍ فَسَقَ بغلامٍ، فأمَرَ بالنِّداءِ بذلكَ في الموسمِ.

ورَوى ابنُ أبي الدُّنيا وغيرُهُ؛ أنَّ رجلًا رَأى في منامِهِ أنَّ اللهَ قد غَفَرَ لأهلِ الموسمِ كلِّهِم إلاَّ رجلًا مِن أهلِ بَلْخَ، فسَألَ عنهُ حتَّى وَقَعَ عليهِ، فسَألَهُ عن حالِهِ، فذَكَرَ أنَّهُ كانَ مدمنًا لشربِ الخمرِ، فجاءَ ليلةً وهوَ سكرانُ، فعاتَبَتْهُ أُمُّهُ وهىَ تَسْجُرُ تنُّورًا، فاحْتَمَلَها فألْقاها فيهِ حتَّى احْتَرَقَتْ.

يا مَن يَطْمَعُ في العتقِ مِن النَّار ثمَّ يَمْنَعُ نفسَهُ الرَّحمةَ بالإصرارِ على كبائرِ الإثمِ والأوزار! تاللهِ؛ ما نَصَحْتَ نفسَك، ولا وَقَفَ في طريقِكَ غيرُك. توبِقُ نفسَكَ

(1)

(حسن لشواهده). قطعة من حديث جابر الذي تقدّمت الإشارة إلى ضعفه (ص 589).

لكن جاءت هذه القطعة أيضًا عند عبد الرزّاق (8813) من طريق صحيحة عن القاسم بن أبي بزّة

فذكره لا أدري رفعه أم لا. وله حكم الإرسال على كلّ حال.

ويشهد له أيضًا عموم ما بعده. فمثل هذا يزحزح هذه القطعة عن ضعفها. والله أعلى وأعلم.

(2)

رواه: البخاري (77 - اللباس، 5 - من جرّ ثوبه، 10/ 257/ 5788 و 5791)، ومسلم (37 - اللباس، 9 - تحريم جرّ الثوب، 3/ 1653/ 2087 و 2085)؛ من حديث أبي هريرة وابن عمر على الترتيب.

ص: 628

بالمعاصي، فإذا حُرِمْتَ المغفرةَ؛ قُلْتَ أنَّى هذا؟ قُلْ هوَ مِن عندِ أنفسِكُم.

فَنَفْسَكَ لُمْ وَلا تَلُمِ المَطايا

وَمُتْ كَمَدًا فَلَيْسَ لَكَ اعْتِذارُ

إنْ كُنْتَ تَطْمَعُ في العتقِ؛ فاشْتَرِ نفسَكَ مِن اللهِ؛ فـ {إنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ المُؤْمِنينَ أنْفُسَهُمْ وَأمْوالَهُمْ بِأنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ} [التَّوبة: 111].

مَن كَرُمَتْ عليهِ نفسُهُ؛ هانَ عليهِ كلُّ ما يَبْذُلُ في افتكاكِها مِن النَّارِ.

اشْتَرى بعضُ السَّلفِ نفسَهُ مِن اللهِ ثلاثَ مرارٍ أو أربعًا؛ يَتَصَدَّقُ كلَّ مرَّةٍ بوزنِ نفسِهِ فضَّةً.

واشْتَرى عامِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ نفسَهُ مِن اللهِ بديتِهِ ستَّ مرَّاتٍ يَتَصَدَّقُ بها.

واشْتَرَى حبيبٌ العَجَمِيُّ نفسَهُ مِن اللهِ بأربعينَ ألفَ درهمٍ تَصَدَّقَ بها.

وكانَ أبو هُرَيْرَةَ يُسَبِّحُ كلَّ يومٍ اثنتي عشرَ ألفَ تسبيحةٍ بقدرِ ديتِهِ يَفْتَكُّ بذلكَ نفسَهُ.

بِدَمِ المُحِبِّ يُباعُ وَصْلُهُمُ

فَمَنِ الذي يَبْتاعُ بالثَّمَنِ

(1)

مَن عَرَفَ ما يَطلُبُ؛ هانَ عليهِ كلُّ ما يَبْذُلُ.

ويحكَ! قد رَضِينا منكَ في فكاكِ نفسِكَ بالنَّدمِ، وقَنِعْنا منكَ في ثمنِها بالتَّوبةِ والحزنِ، وفي هذا الموسمِ قد رَخُصَ السِّعرُ، مَن مَلَكَ سمعَهُ وبصرَهُ ولسانَهُ؛ غُفِرَ لهُ.

مُدَّ إليهِ يدَ الاعتذار، وقُمْ على بابِهِ بالذُّلِّ والانكسار، وارْفَعْ قَصَّةَ ندمِكَ مرقومةً

(2)

على صحيفةِ خدِّكَ بمدادِ الدُّموعِ الغزار، وقُلْ:{رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وَإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنكونَنَّ مِنَ الخاسِرينَ} [الأعراف: 23].

قالَ يَحْيى بنُ مُعاذٍ: العبدُ يُوحِشُ ما بينَهُ وبينَ سيِّدِهِ بالمخالفاتِ ولا يُفارِقُ بابَهُ بحالٍ لعلمِهِ بأنَّ عزَّ العبيدِ في ظلِّ مواليهِم. وأنْشَأ يَقولُ:

(1)

في حاشية خ: "ذكر الحافظ عبد الغني في ترجمة أبي الدرداء عويمر رضي الله عنه أنّه كان يسبّح في اليوم مئة ألف تسبيحة. وذكر أيضًا عن سلمة بن شبيب قال: كان خالد بن معدان يسبّح كلّ يوم أربعين ألف تسبيحة، فلمّا وضع ليغسل؛ جعل بإصبعه يحرّكها كذا؛ يعني: بالتسبيح" اهـ.

(2)

القصّة: ما يرفع إلى المسؤولين من الحاجات، الاستدعاء أو الطلب اليوم. مرقوقة: مكتوبة.

ص: 629

قُرَّةَ عَيْني لا بُدَّ لي مِنْكَ وَإنْ

أوْحَشَ بَيْني وَبَيْنَكَ الزَّلَلُ

قُرَّةَ عَيْني أنا الغَريقُ فَخُذْ

كَفَّ غَريقٍ عَلَيْكَ يَتَّكِلُ

• كانَتْ أحوالُ الصَّادقينَ في الموقفِ بعرفةَ تَتَنَوَّعُ:

* فمنهُم مَن كانَ يَغْلِبُ عليهِ الخوفُ [أ] وِ الحياءُ:

وَقَفَ مُطَرِّفُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ الشِّخِّيرِ وبَكْرٌ المُزَنيُّ بعرفةَ، فقالَ أحدُهُما: اللهمَّ! لا تَرُدَّ أهلَ الموقفِ مِن أجلي. وقالَ الآخرُ: ما أشْرَفَهُ مِن موقفٍ وأرجاهُ لأهلِهِ لولا أنِّي فيهِم

(1)

!

وَقَفَ الفُضَيْلُ بعرفةَ والنَّاسُ يَدْعونَ وهوَ يَبْكي بكاءَ الثَّكلى المحترقةِ قد حالَ البكاءُ بينَهُ وبينَ الدُّعاءِ، فلمَّا كادَتِ الشَّمسُ أنْ تَغْرُبَ؛ رَفَعَ رأْسَهُ إلى السَّماءِ وقالَ: وا سوأتاهُ منكَ وإنْ عَفَوْتَ

(2)

!

وقالَ الفُضَيْلُ أيضًا لشُعَيْبِ بنِ حَرْبٍ وهوَ بالموسمِ: إنْ كُنْتَ تَظُنُّ أنَّهُ شَهِدَ الموسمَ أحدٌ شرًّا منِّي ومنكَ؛ فبِئْسَ ما ظَنَنْتَ.

دَعا بعضُ العارفينَ بعرفةَ فقالَ: اللهمَّ! إنْ كُنْتَ لمْ تَقْبَلْ حجِّي وتعبي ونصبي؛ فلا تَحْرِمْني أجرَ المصيبةِ على تركِكَ القبولَ منِّي

(3)

.

وَقَفَ بعضُ الخائفينَ بعرفةَ إلى [أنْ] قَرُبَ غروبُ الشَّمسِ، فنادى: الأمانَ الأمانَ! قد دَنا الانصرافُ، فلَيْتَ شعري ما صَنَعْتَ في حاجةِ المساكين!

وَإنِّيَ مِنْ خَوْفِكُمْ وَالرَّجا

أرى المَوْتَ وَالعَيْشَ فيكُمْ عِيانا

فَمُنُّوا على تائِبٍ خائِفٍ

أتاكُمْ يُنادي الأمانَ الأمانا

إذا طَلَبَ الأسيرُ الأمانَ مِن الملكِ الكريمِ؛ أمَّنَهُ.

الأمانَ الأمانَ وِزْري ثَقيلُ

وَذُنوبي إذا عُدِدْنَ تَطولُ

أوْبَقَتْني وَأوْثَقَتْني ذُنوبي

فَتَرى لي إلى الخَلاصِ سَبيلُ؟

(1)

وهذا الموقف الأخير أشرف وأحبّ إلى الله من الموقف الأوّل.

(2)

وهذا أيضًا والذي بعده من أشرف المواقف.

(3)

غير هذا خير منه، والأصل أن يعزم العبد في المسالة ويحسن الظنّ بربّه ويوقن بالإجابة.

ص: 630

وَقَفَ بعضُ العارفينَ [الخائفينَ]، بعرفةَ، فمَنَعَهُ الحياءُ مِن الدُّعاءِ، فقيلَ لهُ: لمَ لا تَدْعو؟ فقالَ: ثَمَّ وحشةٌ. فقيلَ لهُ: هذا يومُ العفوِ عنِ الذُّنوبِ. فبَسَطَ يديهِ ووَقَعَ ميتًا.

حَدا بِها الحادي إلى نُعْمانِ

فَاسْتَذْكَرَتْ عَهْدًا لَها بِالبانِ

فَسالَتِ الرُّوحُ مِنَ الأجفانِ

تَشَوُّقًا إلى الزَّمانِ الفاني

[غيرُهُ]:

قَدْ لَجَّ بِيَ الغَرامُ حَتَّى قالوا

قَدْ جُنَّ بِهِـ[ـمْ]، وهكَذا البَلْبالُ

(1)

المَوْتُ إذْ أرْضَيْتُهُ سَلْسالُ

في مِثْلِ هَواكَ تَرْخُصُ الآجالُ

وَقَفَ بعضُ الخائفينَ بعرفاتٍ وقالَ: إلهي! النَّاسُ يَتَقَرَّبونَ إليكَ بالبُدْنِ وأنا أتَقَرَّبُ إليكَ بنفسي، ثمَّ خَرَّ ميتًا

(2)

.

لِلنَّاسِ حَجٌّ وَلي حَجٌّ إلى سَكَني

تُهْدَى الأضاحي وَأُهْدي مُهْجَتي وَدَمي

ما يَرْضى المحبُّونَ لمحبوبِهِم بإراقةِ دماءِ الهدايا، وإنَّما يُهْدونَ لهُ الأرواحَ.

أرى مَوْسِمَ الأعْيادِ أُنْسَ الأجانِبِ

وَما العيدُ عِنْدي غَيْرَ قُرْبِ الحَبائِبِ

إذا قَرَّبوا بُدْنًا فَقُرْبانِيَ الهَوى

فَإنْ قَبِلوا قَلْبي وَإلاَّ فَقالَبي

وَما بِدَمِ الأنْعامِ أقْضي حُقوقَهُمْ

وَلكِنْ بِما بَيْنَ الحَشا وَالتَّرائِبِ

كانَ أبو عُبَيْدَةَ الخَوَّاصُ قد غَلَبَ عليهِ الشَّوقُ والقلقُ حتَّى يَضْرِبَ على صدرِهِ في الطُّرقِ ويَقولَ: واشوقاه إلى مَن يَراني ولا أراه. وكانَ بعدَما كَبُرَ يَأْخُذُ بلحيتِهِ ويَقولُ: يا ربِّ! قد كَبُرْتُ فأعْتِقْني. ورُئِيَ بعرفةَ وقد وَلِعَ بهِ الولهُ وهوَ يَقولُ:

سُبْحانَ مَنْ لَوْ سَجَدْنا بِالعُيونِ لَهُ

عَلى حُمَى الشَّوْكِ

(3)

وَالمُحْمَى مِنَ الإبَرِ

لَمْ نَبْلُغِ العُشْرَ مِنْ مِعْشارِ نِعْمَتِهِ

وَلا العُشَيْرَ وَلا عُشْرًا مِن العُشَرِ

هُوَ الرَّفيعُ فَلا الأبْصارُ تُدْرِكُهُ

سُبْحانَهُ مِنْ مَليكٍ نافِذِ القَدَرِ

(1)

البلبال: شدّة الهمّ وكثرة الوساوس.

(2)

من مات في غير ساحات الجهاد فما تقرّب بنفسه بل انقضى أجله! إنّما يتقرّب العبد بنفسه عندما ينحر شهواتها وأغراضها ويقول: لبّيك لبّيك، سمعت وأطعت، في منشطي ومكرهي وأثرة علي.

(3)

حُمَى الشوك: إبره الحادّة. ووقع في م: "جنى الشوك". وفي ط: "شبا الشوك".

ص: 631

سُبْحانَ مَنْ هُوَ أُنْسي إذْ خَلَوْتُ بهِ

في جَوْفِ لَيْلي وَفي الظَّلْماءِ وَالسَّحَرِ

أنْتَ الحَبيبُ وَأنْتَ الحِبُّ يا أمَلي

مَنْ لي سِواكَ ومَن أرْجوهُ يا ذُخُري

* ومِن العارفينَ مَن كانَ في الموقفِ يَتَعَلَّقُ بأذيالِ الرَّجاءِ:

قالَ ابنُ المُبارَكِ: جِئْتُ إلى سُفْيانَ الثَّوْرِيّ عشيَّةَ عرفةَ، وهوَ جاثٍ على ركبتيهِ، وعيناهُ تَهْمُلانِ، فالْتَفَتَ إليَّ، فقُلْتُ لهُ: مَن أسْوأُ هذا الجمعِ حالًا؟ قالَ: الذي يَظُنُّ أنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ لهُم

(1)

.

ورُوِيَ عنِ الفُضَيْلِ أنَّهُ نَظَرَ إلى نشيجِ النَّاسِ وبكائِهِم عشيَّةَ عرفةَ، فقالَ: أرَأيْتُمْ لو أنَّ هؤلاءِ صاروا إلى رجلٍ فسَألوهُ دانقًا (يَعْني: سدسَ درهمٍ)، أكانَ يَرُدُّهُم؟ قالوا: لا. قالَ: واللهِ؛ للمغفرةُ عندَ اللهِ أهونُ مِن إجابةِ رجلٍ لهُم بدانقٍ.

وَإنِّي لأدْعو اللهَ أسْألُ عَفْوَهُ

وأعْلَمُ أنَّ اللهَ يَعْفو وَيَغْفِرُ

لَئِنْ أعْظَمَ النَّاسُ الذُّنوبَ فَإنَّها

وَإنْ عَظُمَتْ في رَحْمَةِ اللهِ تَصْغُرُ

• وعمَّا قليلٍ يَقِفُ إخوانُكُم بعرفةَ في ذلكَ الموقفِ، فهنيئًا لمَن رُزِقَهُ، يَجْأرونَ إلى اللهِ بقلوبٍ محترقةٍ ودموعٍ مستبقةٍ، فكم فيهِم مِن خائفٍ أزْعَجَهُ الخوفُ وأقْلَقَه، ومحبٍّ ألْهَبَهُ الشَّوقُ وأحْرَقَه، وراجٍ أحْسَنَ الظَّنَّ بوعدِ اللهِ الكريمِ وصَدَّقَه، وتائبٍ نَصَحَ للهِ في التَّوبةِ وصَدَقَه، وهاربٍ لَجَأ إلى بابِ اللهِ وطَرَقَه، فكم هنالِكَ مِن مستوجبٍ للنَّارِ أنْقَذَهُ اللهُ وأعْتَقَه، ومِن أسيرٍ للأوزارِ فَكَّهُ وأطْلَقَه. وحينئذٍ يَطَّلِعُ عليهِم أرْحَمُ الرُّحماء، ويُباهي بجمعِهِم أهلَ السَّماء، ويَدْنو ثمَّ يَقولُ: ما أرادَ هؤلاء؟ لقد قَطَعْنا عندَ وصولِهِمُ الحرمان

(2)

، وأعطاهُم نهايةَ سؤلهِمُ الرَّحمان، هوَ الذي أعْطى ومَنَع ووَصَلَ وقَطَع.

ما أصْنَعُ هكَذا جَرى المَقْدورُ

الجَبْرُ لِغَيْري وَأنا المَكْسورُ

(1)

قارن بين هذا الكلام وبين ما تقدّم قبله يتبيّن لك فضل العلم وأهله، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} .

(2)

في خ: "أهل السماء ويبدو ويقول ماذا أراد هؤلاء لقد قطعنا عند وصولهم الحرمان ومنعنا"! وأثبتّ ما في م ون وط.

ص: 632

أسيرُ ذَنْب مُقَيَّدٌ مَأْسورُ

هَلْ يُمْكِنُ أنْ يُبَدَّلَ المَسْطورُ

مَن فاتَهُ في [هذا] العامِ القيامُ بعرفة؛ فلْيَقُمْ للهِ بحقِّهِ الذي عَرَفَه. مَن عَجَزَ عنِ المبيتِ بمزدلفة؛ فَلْيَبُتَّ عزمَهُ على طاعةِ اللهِ وقد قَرَّبَهُ اللهُ وأزْلَفَه. مَن لم يُمْكِنْهُ القيامُ بأرجاءِ الخَيْفِ؛ فلْيَقُمْ للهِ بحقِّ الرَّجاءِ والخوف. مَن لم يَقْدِرْ على نحرِ هديِهِ بمنى؛ فلْيَذْبَحْ هواهُ هنا وقد بَلَغَ المنى. مَن لمْ يَصِلْ إلى البيتِ لأنَّهُ منهُ بعيد؛ فلْيَقْصِدْ ربَّ البيتِ؛ فإنَّهُ أقربُ إلى مَن دَعاهُ ورَجاهُ مِن حبلِ الوريد.

نَفَحَتْ في هذهِ الأيَّامِ نفحةٌ مِن نفحاتِ الأُنسِ مِن رياضِ القدسِ على كلِّ قلبٍ أجابَ إلى ما دُعِي. يا هممَ العارفينَ! بغيرِ اللهِ لا تَقْنَعي. يا عزائمَ النَّاسكينَ! لجميعِ أنْساكِ السَّالكينَ اجْمَعي، لحبِّ مولاكِ أفْرِدي وبينَ خوفِهِ ورجائِهِ اقْرُني وبذكرِهِ تَمَتَّعي. يا أسرارَ المحبِّينَ! بكعبةِ الحبِّ طوفي وارْكَعي، وبينَ صفاءِ الصَّفا ومروةِ المروةِ اسْعَيْ وأسْرِعي، وفي عرفاتِ العرفانِ قِفي وتَضَرَّعي، ثمَّ إلى مزدلفةِ الزُّلفى فادْفَعي، ثمَّ إلى منى نيلِ المنى

(1)

فارْجِعي. فإذا قَرَّبوا القرابينَ فقَرِّبي الأرواحَ ولا تَمْنَعي. لقد وَضَحَ اليومَ الطريقُ ولكنْ قَلَّ السَّالكُ على التَّحقيقِ وكَثُرَ المدَّعي.

لَئِنْ لَمْ أحُجَّ البَيْتَ إذْ شَطَّ رَبْعُهُ

حَجَجْتُ إلى مَنْ لا يَغيبُ عَنِ الذِّكْرِ

فَأحْرَمْتُ مِنْ وَقْتي بِخَلْعِ شَمائِلي

أطوفُ وَأسْعى في اللَطائِفِ وَالبِرِّ

صَفايَ صَفائي عَنْ صِفاتي ومَرْوَتي

مُروءَةُ قَلْبٍ عَنْ سِوى حُبِّهِ قَفْرِ

وَفي عَرَفاتِ الأُنْسِ بِاللهِ مَوْقِفي

وَمُزْدَلِفي الزُّلْفى لَدَيْهِ إلى الحَشْرِ

وَبَتُّ المُنى مِنِّي مَبيتِيَ في مِنى

وَرَمْيُ جِماري جَمْرُ شَوْقِيَ في صَدْري

وَإشْعارُ هَدْيي ذَبْحُ نَفْسي بِقَهْرِها

وَحَلْقي بِمَحْقِ الكائِناتِ عنِ السِّرِّ

(2)

وَمَنْ رامَ نَفْرًا بَعْدَ نُسْكٍ فَإنَّني

مُقيمٌ عَلى نُسْكِي حَياتي بلا نَفْرِ

(1)

في خ: "منى بنيل المنى"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

محق الكائنات عن السرّ: استصغارها حتّى تصبح كلا شيء وعدم التطلّع إليها بعين الرغبة والرجاء وعدم الانشغال بها. وله معان أُخرى غير طيّبة انظر لمزيد من التفصيل فيها مقدّمتي لـ"مدارج السالكين"(1/ 59 وما بعدها).

ص: 633

‌المجلس الثالث

في أيام التشريق

خَرَّجَ مُسْلِمٌ في "صحيحه"

(1)

مِن حديثِ: نُبَيْشَةَ الهُذَلِيِّ؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "أيَّامُ مِنًى أيَّامُ أكلٍ وشربٍ وذِكْرِ اللهِ عز وجل".

وخَرَّجَهُ أهلُ السُّننِ والمسانيدِ مِن طرقٍ متعدِّدةٍ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:

وفي بعضِها: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعَثَ في أيَّامِ منًى مناديًا يُنادي: "لا تَصوموا هذهِ الأيَّامَ؛ فإنَّها أيَّامُ أكلٍ وشربٍ وذكرِ اللهِ عز وجل"

(2)

.

وفي روايةٍ للنَّسائِيِّ: "أيَّامُ أكلٍ وشربٍ وصلاةٍ"

(3)

.

(1)

(13 - الصيام، 23 - صوم أيّام التشريق، 2/ 800/ 1141).

(2)

(صحيح). رواه: ابن سعد (2/ 187، 4/ 190)، وأحمد (2/ 513 و 535)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(817)، والنسائي في "السنن الكبرى"(2880 - 2884)، وابن جرير (3476)، والطحاوي (2/ 244)، وابن قانع (2/ 98/ 547)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(8213)، وابن عدي (4/ 1536)، والدارقطني (2/ 87 و 213)، والخطيب (14/ 277)، وابن عبد البرّ (12/ 124، 21/ 232)؛ من طرق، عن الزهري، (قال مرّة: إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة، ومرّة: عن ابن المسيّب عن عبد الله بن حذافة، ومرّة: عن ابن المسيّب عن أبي هريرة، ومرّة: عن مسعود بن الحكم الزرقي عن رجل من الصحابة صرّح مرّة بأنّه عبد الله بن حذافة)

رفعه بهذا اللفظ بطوله حينًا ودون قوله "لا تصوموا" حينًا. والإرسال هنا لا يضرّ لأنّ الوصل زيادة جماعة من الثقات. والاختلاف على الزهريّ لا يضرّ لأنّه تردّد بين أوجه صحيحة، وليس بغريب على الزهري أن يكون سمعه من أكثر من وجه، فإن كان لا بدّ من الترجيح؛ فالوجه الأخير.

ورواه: مالك في "الموطّأ"(1/ 376)، وأحمد (3/ 494)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(3445)، والنسائي في "الكبرى"(2875 - 2878)، والطحاوي (2/ 246)، وابن قانع في "المعجم"(2/ 98/ 547)، والطبراني (3/ 157/ 2987)، وأبو الشيخ (2/ 391)، والدارقطني (2/ 212)؛ من طرق، عن سليمان بن يسار، (أرسله مرّة، وقال مرّة: عن حمزة الأسلمي، ومرّة: عن عبد الله بن حذافة، ومرّة: عن مسعود بن الحكم عن أُمّه)

رفعه دون قوله "لا تصوموا". والكلام فيه كالكلام في الذي قبله. ورواه الحاكم (1/ 434) من طريق أُخرى عن مسعود عن أُمّه وصحّحه على شرط مسلم ووافقه الذهبي.

وله شاهد عند الطحاوي (2/ 244) بسند لا بأس به عن عائشة.

وآخر صالح عند: أحمد (2/ 229)، والطحاوي (2/ 245)، وابن حبّان (3602)؛ عن أبي هريرة. وثالث عند: الطبراني في "المعجم الأوسط"(7052)، وأبي الشيخ في "الطبقات"(1/ 263)؛ بسند ضعيف من حديث ابن عبّاس.

ورابع عند الرافعي في "التدوين"(3/ 141) بسند ضعيف عن خالد الزرقي.

(3)

(ضعيف). رواه: البزّار (2/ 209 - التلخيص الحبير)، والنسائي في "الكبرى"(2902)؛ من =

ص: 634

وفي روايةٍ للدَّارَقُطْنِيِّ بإسنادٍ فيهِ ضعفٌ: "أيَّامُ أكلٍ وشربٍ وبعالٍ"

(1)

.

وفي روايةٍ للإمامِ أحْمَدَ: "مَن كانَ صائمًا؛ فلْيُفْطِرْ؛ فإنَّها أيَّامُ أكلٍ وشربٍ"

(2)

= طريق شريك، عن أشعث بن سليم، عن أبيه، عن ابن عمرو

رفعه. وهذا سند رجاله ثقات رجال الشيخين إلّا شريكًا فإنّه كثير الخطأ لا يعدو حديثه أن يكون صالحًا في الشواهد، وقد تفرّد بهذا دونما شاهد، فحقّه التضعيف.

(1)

(صحيح لشواهده). وقد جاء من حديث جماعة من الصحابة: فرواه الدارقطني (4/ 283) من حديث أبي هريرة بسند فيه سعيد بن سلاّم العطّار، وسعيد كذّاب. ورواه (2/ 212) من حديث عبد الله بن حذافة، ثمّ ضعّفه بالواقدي، وحديث الواقدي ساقط. ورواه الطحاوي (2/ 244) من حديث سعد بسند فيه محمّد بن أبي حميد المدني واه منكر الحديث. ورواه الطبراني (11/ 232/ 11587) من طريق إبراهيم بن إسماعيل، ثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داوود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاس

رفعه. وحسّن الهيثمي في "المجمع"(3/ 206) إسناده. وردّه الألباني في "تمام المنّة"(ص 403) بقوله: (إبراهيم ابن أبي حبيبة ضعّفه الجمهور من قبل حفظه". قلت: والراوي عنه إبراهيم اليشكري مجهول الحال. وشيخه داوود بن الحصين منكر الحديث عن عكرمة. فالسند ساقط.

ورواه: ابن أبي شيبة (15260)، وإسحاق (1/ 266/ 1)، وعبد بن حميد (1562)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(3376)، وأبو يعلى (2/ 208 - التلخيص الحبير)، والطحاوي (2/ 245)؛ من طريق موسى بن عبيدة، أني المنذر بن جهم، عن عمرو بن خلدة الزرقي، عن أُمّه

رفعته. قال العسقلاني: "في إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف". قلت: والمنذر بن الجهم مستور.

ورواه: النسائي في "الكبرى"(2885) معلّقًا، والبيهقي (4/ 298)؛ من طريق يوسف بن مسعود بن الحكم الزرقي، عن جدّته

رفعته. ويوسف مجهول.

ورواه الفاكهي في "مكّة"(2563) من طريق قويّة، عن سفيان، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه؛ أنّه صلى الله عليه وسلم بعث بديل بن ورقاء

فذكره. وهذا مرسل قويّ.

ورواه: ابن يونس في "تاريخ مصر"(2/ 208 - التلخيص الحبير)، وابن الأثير في "الغابة"(5/ 477 و 494) معلّقًا، والعسقلاني في "الإصابة"(4/ 481) معلّقًا؛ من طريق يزيد بن عبد الله بن الهاد، [عن عبد الله بن أبي سلمة]، عن عمرو بن سليم الزرقي، عن أُمّه

رفعته. فإن سلمت الطريق إلى يزيد، وما أظنّها إلّا سليمة؛ فالسند صحيح رجاله ثقات محتجّ بهم في "الصحيح".

فإن لم تصحّ زيادة "البعال" من الوجه الأخير وحده؛ فهي صحيحة بمجموع الطرق الأربعة الأخيرة الموصولة والمرسلة، ولذلك قال العسقلاني في "الفتح" (2/ 460):"ثبت أنّها أيّام أكل وشرب وبعال". وأمّا الألباني؛ فضعّفه بالنظر إلى طريق الطبراني لحديث ابن عبّاس وحده، ولو قيّض له يرحمه الله الاطّلاع على سائر طرقه لكان له فيما أظنّ موقف آخر. والله أعلم.

(2)

(صحيح لشواهده). رواه: أحمد (5/ 224)، والبغوي في "الصحابة"(2/ 149 - إصابة)؛ من طريق معمر، عن الزهري، عن مسعود بن الحكم، عن رجل من الصحابة

رفعه بهذا اللفظ. وهذا سند قويّ، لكن وقع فيه خلاف تقدّم بسطه قبل قيل.

ص: 635

وفي روايةٍ: "إنَّها لَيْسَتْ أيَّامُ صيامٍ"

(1)

.

• أيَّامُ منًى هيَ الأيَّامُ المعدوداتُ التي قالَ اللهُ تَعالى فيها: {وَاذْكُرُوا اللهَ في أيَّامٍ مَعْدوداتٍ} [البقرة: 203]. وهيَ ثلاثةُ أيَّامٍ بعدَ يومِ النَّحرِ. وهيَ أيَّامُ التَّشريقِ. هذا قولُ ابنِ عُمَرَ وأكثرِ العلماءِ. ورُوِيَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ وعَطاءٍ أنَّها أربعةُ أيَّامٍ: يومُ النَّحرِ، وثلاثةُ أيَّامٍ بعدَهُ، وسَمَّاها عَطاءٌ أيَّامَ التَّشريقِ، والأوَّلُ أظْهَرُ.

وقد قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أيَّامُ منى ثلاثةٌ، فمَن تَعَجَّلَ في يومينِ فلا إثمَ عليهِ ومَن تَأخَّرَ فلا إثمَ عليهِ"

(2)

. خَرَّجَهُ أهلُ السُّننِ الأربعةِ مِن حديثِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بنِ يَعْمَرَ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم. وهذا صريحٌ في أنَّها أيَّامُ التَّشريقِ.

وأفضلُها أوَّلُها، وهوَ يومُ القَرِّ؛ لأنَّ أهلَ منى يَسْتَقِرُّونَ فيهِ ولا يَجوزُ فيهِ النَّفرُ. وفي حديثِ: عَبْدِ اللهِ بنِ قُرْطٍ، عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"أعظمُ الأيَّامِ عندَ اللهِ يومُ النَّحرِ ويومُ القرِّ"

(3)

.

وقد رُوِيَ عن سَعيدِ بنِ المُسَيَّبِ أنَّ يومَ الحجِّ الأكبرِ هوَ يومُ القرِّ. وهوَ غريبٌ. ثمَّ يومُ النَّفرِ الأوَّلِ وهوَ أوسطُها.

= وله شاهد عند: الطبراني في "الأوسط"(3550)، والحاكم (2/ 250)، والعسقلاني في "الإصابة"(4/ 271)؛ من طريق قويّة، عن عيسى بن مسعود بن الحكم، عن جدّته حبيبة بنت شريق

رفعته بهذا اللفظ. وعيسى بن مسعود حسن في الشواهد على الأقلّ.

وهذا اللفظ لا ينزل عن الحسن بمجموع طريقيه، وهو صحيح بشواهده المتقدّمة والتالية.

(1)

(حسن صحيح). رواه: ابن سعد (2/ 187)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(3446)، والنسائي في "الكبرى"(2886 - 2888)، وأبو يعلى (461)، والحاكم (1/ 434)، وابن الأثير في "الغابة"(5/ 494)؛ من طرق، عن ابن إسحاق، (قال مرّة: عن حكيم بن حكيم بن عبّاد، وقال مرّة: حدّثني من سمع عبد الله بن أبي سلمة ولا أراني إلَّا سمعته منه، وقال مرّة: حدّثني عبد الله بن أبي سلمة)، عن مسعود بن الحكم الزرقي، ثتني أُمّي

رفعته بهذا اللفظ.

قال الحاكم: "على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي. قلت: مسعود ثقة وله رؤية. وعبد الله بن أبي سلمة ثقة، وحكيم صدوق. وابن إسحاق صدوق جزم بالتحديث مرّة وشكّ مرّة، فالعمل على اليقين، وروايته للحديث عن شيخين لا تضرّه، فالراجح أنّه حمله عنهما، والّا فهو تردّد بين ثقتين.

وهذا اللفظ حسن لذاته صحيح لشواهده المتقدّمة.

(2)

(صحيح). قطعة من حديث أوّله "الحجّ عرفة" وقد تقدّم تفصيل القول فيه (ص 609).

(3)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 591).

ص: 636

ثمَّ يومُ النَّفرِ الثَّاني وهوَ آخرُها.

قالَ اللهُ تَعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]. قالَ كثيرٌ مِن السَّلفِ: يُريدُ أنَّ المتعجِّلَ والمتأخِّرَ يُغْفَرُ لهُ ويَذْهَبُ عنهُ الإثمُ الذي كانَ عليهِ قبلَ حجِّهِ إذا حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولمْ يَفْسُقْ ويَرْجِعُ مِن ذنوبِهِ كيومَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. ولهذا قالَ تَعالى: {لِمَنِ اتَّقى} [البقرة: 203]، فتكونُ التَّقوى شرطًا لذهابِ الإثمِ على هذا التَّقديرِ، وتَصيرُ الآيةُ دالَّةً على ما صَرَّحَ بهِ قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَن حَجَّ فلمْ يَرْفُثْ ولمْ يَفْسُقْ؛ رَجَعَ مِن ذنوبِهِ كيومَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"

(1)

.

• وقد أمَرَ اللهُ تَعالى بذكرِهِ في هذهِ الأيَّامِ المعدوداتِ، كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّها أيَّامُ أكلٍ وشربٍ وذكرِ اللهِ تَعالى"

(2)

.

فذكرُ اللهِ المأْمورُ بهِ في أيَّامِ التَّشريقِ أنواعٌ متعدِّدةٌ:

* منها: ذكرُ اللهِ تَعالى عقيبَ الصَّلواتِ المكتوباتِ بالتَّكبيرِ في أدبارِها. وهوَ مشروعٌ إلى آخرِ أيَّامِ التَّشريقِ عندَ جمهورِ العلماءِ، وقد رُوِيَ عن عُمَرَ وعَلِيٍّ وابنِ عَبَّاسٍ، وفيهِ حديثٌ مرفوعٌ في إسنادِهِ ضعفٌ

(3)

.

* ومنها: ذكرُهُ بالتَّسميةِ والتَّكبيرِ عندَ ذبحِ النُّسكِ؛ فإنَّ وقتَ ذبحِ الهدايا والأضاحي يَمْتَدُّ إلى آخرِ أيَّامِ التَّشريقِ عندَ جماعةٍ مِن العلماءِ، وهوَ قولُ الشَّافِعِيِّ

(1)

متّفق عليه. تقدّم تفصيل القول في تخريجه (ص 150).

(2)

رواه مسلم. تقدّم تفصيل القول في تخريجه (ص 634).

(3)

كأنّه يريد ما رواه: الدارقطني (2/ 49 - 50)، والبيهقي (3/ 315)؛ من حديث عمرو بن شمّر، عن جابر الجعفي، (قال مرّة: عن أبي الطفيل عن علي وعمّار، ومرّة: عن أبي جعفر عن عليّ بن الحسين عن جابر، ومرّة: عن محمّد بن علي عن جابر، ومرّة: عن أبي جعفر وعبد الرحمن بن سابط عن جابر)؛ أنّه صلى الله عليه وسلم كان يكبّر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيّام التشريق حين يسلّم من المكتوبات. وعمرو بن شمّر كذّاب خبيث، وجابر الجعفيّ متّهم متروك. والحديث ساقط موضوع.

قال العسقلاني في "الفتح"(2/ 462):"ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم حديث، وأصحّ ما ورد فيه عن الصحابة قول عليّ وابن مسعود: إنّه من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيّام منى". قلت: وهذا النصّ كما ترى لا يدلّ على اختصاص استحباب التكبير أيّام التشريق بوقت دون وقت، بل هو مستحبّ كلّ وقت في تلك الأيّام، عقيب الفرائض والسنن وعند النوم واليقظة وكلّ حين ....

ص: 637

وروايةٌ عنِ [الإمامِ] أحْمَدَ، وفيهِ حديثٌ مرفوعٌ:"كلُّ أيَّامِ منى ذبحٌ"

(1)

، وفي إسنادِهِ مقالٌ، وأكثرُ الصَّحابةِ على أنَّ الذَّبحَ يَخْتَصُّ بيومينِ مِن أيَّامِ التَّشريقِ معَ يومِ النَّحرِ، وهوَ المشهورُ عن أحْمَدَ، وهوَ قولُ مالِكٍ وأبي حَنِيفَةَ والأكثرينَ

(2)

.

(1)

(ضعيف). يرويه سليمان بن موسى واختلف عليه فيه على وجوه: روى أوّلها: أحمد (4/ 82)، والبزّار (8/ 363/ 3443 و 3444)، وابن حبّان (3854)، والطبراني (2/ 138/ 1583)، وابن عدي (3/ 1118)، والدارقطني (4/ 284)، وابن حزم في "المحلّى"(7/ 188)، والبيهقي (5/ 239، 9/ 295 - 296)؛ من طرق ثلاث قويّة، عن سعيد بن عبد العزيز، عن سليمان، [قال مرّة: عن عبد الرحمن بن أبي حسين، وقال مرّة: عن نافع بن جبير، وأسقطه مرّة]، عن جبير بن مطعم

رفعه. وأقوى الروايات هنا رواية من أسقط الواسطة بين سليمان وجبير وهي منقطعة. وزيادة ابن أبي حسين بينهما زيادة ثقة، ولكنّ ابن أبي حسين مجهول لم يلق جبيرًا، فعاد الأمر إلى الضعف والانقطاع. وزيادة نافع بينهما زيادة منكرة تفرّد بها سويد بن سعيد وهو واه شبه المتروك. وروى الوجه الثاني: الطبراني في "الشاميّين"(1556)، والدارقطني (4/ 284)، والبيهقي (9/ 296)؛ من طريق أبي معيد حفص بن غيلان، عنه، (قال مرّة: عن محمّد بن المنكدر، ومرّة: عن عمرو بن دينار)، عن جبير

رفعه. وحفص صدوق مقبول الزيادة، لكنّه تردّد بين ثقتين، كلاهما لم يدرك جبيرًا، فعاد الأمر إلى الانقطاع. وذكر الوجه الثالث ابن عبد البرّ في "التمهيد"(23/ 197) معلّقًا من طريق إسماعيل بن عيّاش، عن سليمان، عن نافع بن جبير، عن أبيه

رفعه. وهذا قويّ إن صحّت الطريق إلى إسماعيل؛ لأنّ روايته عن الشاميّين جيّدة وهذا منها.

وخلاصة القول هنا: أنّنا إن قلنا بالترجيح، فسعيد بن عبد العزيز مقدّم على حفص وإسماعيل لأنّه ثقة وحفص وإسماعيل صدوقان في أحسن الأحوال، فالوجه الأوّل هو الراجح، والحديث منقطع. وإن قبلنا رواية الثلاثة لأنّهم بين ثقة وصدوق، فالحديث مضطرب.

نعم؛ رواه: ابن عدي في "الكامل"(6/ 2396)، والبيهقي (9/ 296) في "السنن"؛ من طريق معاوية بن يحيى الصدفي، عن الزهريّ، [عن ابن المسيّب، عن أبي سعيد] عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

به. لكنّ معاوية هالك، وروايته عن الزهري شبه الموضوعة.

وإلى تضعيف هذا الحديث مال أكثر أهل العلم: فقال البزّار: "حديث ابن أبي حسين هو الصواب، وابن أبي حسين لم يلق جبيرًا". وقال البيهقي: "الصحيح المرسل". وقال ابن القيّم: "منقطع لا يثبت وصله". وقال ابن رجب: "في إسناده مقال". وقال الهيثمي: "رجاله موثّقون". وقال العسقلاني: "في سنده انقطاع، ووصله الدارقطني ورجاله ثقات"، كذا في "الفتح"(10/ 8)، ولكنّه عاد في "التلخيص" (4/ 157) فقال:"ليس بمحفوظ"، وهو الأولى بقواعد علم الحديث. والله أعلم.

(2)

فيه نظر! فقد خصّ بعض الصحابة - ولا أقول أكثرهم - الذبح بالنحر ويومين بعده، وعمّه آخرون على النحر وأيّام التشريق الثلاثة.

والذين عمّموا الذبح: معهم عموم قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} ، والنحر من جملة أعمال هذه الأيّام، فمن تأخّر فيه إلى الثالث فلا إثم عليه. ومعهم أيضًا عموم قوله تعالى:{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} ، وآخر أيّام التشريق داخل في =

ص: 638

* ومنها: ذكرُ اللهِ على الأكلِ والشُّربِ؛ فإنَّ المشروعَ في الأكلِ والشُّربِ أنْ يُسَمِّيَ اللهَ في أوَّلِهِ ويَحْمَدَهُ في آخرِهِ. وفي الحديثِ عنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ اللهَ عز وجل يَرْضى عنِ العبدِ أنْ يَأْكُلَ الأكلةَ فيَحْمَدَهُ عليها ويَشْرَبَ الشَّربةَ فيَحْمَدَهُ عليها"

(1)

. وقد رُوِيَ أنَّ مَن سَمَّى على أوَّلِ طعامِهِ وحَمِدَ اللهَ على آخرِهِ؛ فقد أدَّى ثمنَهُ ولمْ يُسْألْ بعدُ عن شكرِهِ

(2)

.

* ومنها: ذكرُهُ بالتَّكبيرِ عندَ رميِ الجمارِ في أيَّامِ التَّشريقِ. وهذا يَخْتَصُّ بهِ أهلُ الموسمِ.

* ومنها: ذكرُ اللهِ تَعالى المطلقُ؛ فإنَّهُ يُسْتَحَبُّ الإكثارُ منهُ في أيَّامِ التَّشريقِ، وقد كانَ عُمَرُ يُكَبِّرُ بمنى في قبَّتِهِ فيَسْمَعُهُ النَّاسُ فيُكَبِّرونَ فتَرْتَجُّ منى تكبيرًا. وقد قالَ عز وجل: {فَإذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُروا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أوْ أشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ

= هذه الأيّام المعلومات التي يذكر فيها اسم الله بلا ريب، فذكره على بهيمة الأنعام عند ذبحها كذلك. ومعهم أيضًا أنّ "الثلاثة تختصّ بكونها أيّام منى وأيّام الرمي وأيّام التشريق ويحرم صيامها، فهي إخوة في هذه الأحكام، فكيف تفترق في جواز الذبح بغير نصّ ولا إجماع". قاله ابن القيّم في "الهدي"(2/ 319). والذي خصّصوا الذبح إنّما استندوا إلى قول بعض الصحابة، وقد تقدّم لك أنّ بعض الصحابة عمّموه أيضًا، وليس اتّباع أحدهم بأولى من اتّباع الآخر!

ولذلك قال ابن القيّم في "الهدي"(2/ 319) بعد أن أبطل استدلال المخصّصين بنهيه صلى الله عليه وسلم عن ادّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث: "وقد قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: أيّام النحر يوم الأضحى وثلاثة أيّام بعده. وهو مذهب إمام أهل البصرة الحسن وإمام أهل مكّة عطاء بن أبي رباح وإمام أهل الشام الأوزاعي وإمام فقهاء أهل الحديث الشافعي رحمه الله واختاره ابن المنذر". قلت: وإليه مال ابن حزم وابن تيميّة وابن القيّم وابن حجر والشوكاني والصنعاني وصديق حسن وسيّد سابق.

(1)

رواه مسلم (48 - الذكر والدعاء، 24 - حمده تعالى بعد الأكل، 4/ 209/ 2734) عن أنس.

(2)

(ضعيف). روى عبد الله بن أحمد (1/ 153) من طريق الجريريّ، عن أبي الورد، عن ابن أعبد، قال لي عليّ بن أبي طالب: يا ابن أعبد! هل تدري ما حقّ الطعام؟ تقول: بسم الله، اللهمّ بارك لنا فيما رزقتنا. قال: وتدري ما شكره؟ تقول الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا. قال الهيثمي (5/ 25): "ابن أعبد قال ابن المديني ليس بمعروف، وبقيّة رجاله ثقات". قلت: الجريريّ خلّط بأخرة.

وروى ابن السنّي (469) من طريق صحيحة، عن سعيد بن أبي هلال، عمّن حدّثه؛ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من قال حين يفرغ من طعامه: الحمد لله الذي أطعمني فأشبعني وسقاني فأرواني بلا حول منّي ولا قوّة؛ فقد أدّى شكر ذلك الطعام". وشيخ سعيد هذا تابعيّ مبهم، والحديث مرسل على ضعفه.

فإن أراد الأوّل؛ فضعيف موقوف. وإن أراد الثاني؛ فضعيف. وإن أراد غيرهما؛ فما عرفته.

ص: 639

يَقولُ رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا وَما لَهُ في الآخِرَة مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقولُ رَبَّنا آتِنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنهً وَقِنا عَذابَ النَّارِ} [البقرة: 200 - 201]. وقدِ اسْتَحَبَّ كثيرٌ مِن السَّلفِ الدُّعاءَ بهذا في أيَّامِ التَّشريقِ.

قالَ عِكْرِمَةُ: كانَ يُسْتَحَبُّ أنْ يُقالَ في أيَّامِ التَّشريقِ: رَبَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النَّارِ.

وعن عطاءٍ؛ قالَ: يَنْبَغي لكلِّ مَن نَفَرَ أنْ يَقولَ حينَ يَنْفِرُ متوجِّهًا إلى أهلِهِ: رَبَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النَّارِ.

خَرَّجَهُما عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ في "تفسيره".

وهذا الدُّعاءُ مِن أجمعِ الأدعيةِ للخيرِ، وكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يُكْثِرُ منهُ، ورُوِيَ أنَّهُ كانَ أكثرَ دعائِهِ، وكانَ صلى الله عليه وسلم إذا دَعا بدعاءٍ جَعَلَهُ معَهُ؛ فإنَّهُ يَجْمَعُ خيريِ الدُّنيا والآخرةِ

(1)

.

قالَ الحَسَنُ: الحسنةُ في الدُّنيا العلمُ والعبادةُ وفي الآخرةِ الجنَّةُ.

وقالَ سُفْيانُ: الحسنةُ في الدُّنيا العلمُ والرِّزقُ الطَّيِّبُ.

والدُّعاءُ مِن أفضلِ أنواعِ ذكرِ اللهِ عز وجل. وقد رَوى: زيادٌ الجَصَّاصُ، عن أبي كِنانَةَ القُرَشِيِّ؛ أنَّهُ سَمِعَ أبا موسى الأشْعَرِيَّ يَقولُ في خطبتِهِ يومَ النَّحرِ: بعدَ يومِ النَّحرِ ثلاثةُ أيَّامٍ التي ذَكَرَ اللهُ الأيَّامُ المعدوداتُ لا يُرَدُّ فيهنَّ الدُّعاءُ، فارْفَعوا رغبتكُم إلى اللهِ عز وجل.

• وفي الأمرِ بالذِّكرِ عندَ انقضاءِ النُّسكِ معنًى، وهوَ أنَّ سائرَ العباداتِ تَنْقَضي ويُفْرَغُ منها وذكرُ اللهِ باقٍ لا يَنْقَضي ولا يُفْرَغُ منه بل هوَ مستمرٌّ للمؤمنينَ في الدُّنيا وفي الآخرةِ.

وقد أمَرَ اللهُ تَعالى بذكرِهِ عندَ انقضاءِ الصَّلاةِ: قالَ تَعالى: {فَإذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُروا اللهَ قِيامًا وَقُعودًا وَعَلى جُنوبِكُمْ} [النساء: 103]. وقالَ في صلاةِ الجمعةِ: {فَإذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِروا في الأرْضِ وَابْتَغوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأذْكُروا اللهَ كَثيرًا}

(1)

رواه: البخاري (65 - التفسير، 2 - البقرة، 36 - ومنهم من يقول ربّنا آتنا، 8/ 187/ 4522)، ومسلم (48 - الذكر، 9 - الدعاء باللهم آتنا، 4/ 2070/ 2690)؛ من حديث أنس.

ص: 640

[الجمعة:10]. وقالَ: {فَإذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ. وَإلى رَبّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7 - 8]، رُوِيَ عن ابن مَسْعودٍ؛ [قالَ]: فإذا فَرَغْتَ مِن الفرائضِ فَانْصَبْ. وعنهُ في قولِهِ [تَعالى]: {وَإلى رَبِّكَ فَأرْغَبْ} ؛ قالَ: في المسألةِ وأنتَ جالسٌ. وقالَ الحَسَنُ: أمَرَهُ إذا فَرَغَ مِن غزوِهِ أنْ يَجْتَهِدَ في الدُّعاءِ والعبادةِ.

والأعمالُ كلُّها يُفْرَغُ منها، والذِّكرُ لا فراغَ لهُ ولا انقضاءَ، والأعمالُ تَنْقَطِعُ بانقطاعِ الدُّنيا ولا يَبْقى منها شيءٌ في الآخرةِ، والذِّكرُ لا يَنْقَطِعُ. المؤمنُ يَعيشُ على الذِّكرِ، ويَموتُ عليهِ، وعليهِ يُبْعَثُ.

أحَسِبْتُمُ أن اللَيالِيَ غَيَّرَتْ

عَهْدَ الهَوى لا كانَ مَنْ يَتَغَيَّرُ

يَفْنى الزَّمانُ وَلَيْسَ يَفْنى ذِكْرُكُمْ

وَعَلى مَحَبَّتِكُمْ أموتُ وَأُحْشَرُ

قالَ ذو النُّونِ: ما طابَتِ الدُّنيا إلَّا بذكرِهِ، ولا الآخرةُ إلَّا بعفوِهِ، ولا الجنَّةُ إلَّا برؤيتِهِ.

بِذِكْرِ اللهِ تَرْتاحُ القُلوبُ

وَدُنْيانا بذِكْراهُ تَطيبُ

إذا ذُكِرَ المَحْبوبُ عِنْدَ حَبيبِهِ

تَرَنَّحَ نَشْوانٌ وَحَنَّ طَروبُ

(1)

فأيَّامُ التَّشريقِ يَجْتَمعُ فيها للمؤمنينَ نعيمُ أبدانِهِم بالأكلِ والشُّربِ ونعيمُ قلوبِهِم بالذِّكرِ والشُّكرِ، وبذلكَ تَتِمُّ النِّعمةُ، وكلَّما أحْدَثوا شكرًا على النِّعمةِ؛ كانَ شكرُهُم نعمةً أُخرى، فيَحْتاجُ إلى شكرٍ آخرَ، ولا يَنْتَهي الشُّكرُ أبدًا.

إذا كانَ شُكْري نِعمَةَ اللهِ نِعْمَةً

عَلَيَّ لَهُ في مِثْلِها يَجِبُ الشُّكْرُ

فَكَيْفَ بُلوغُ الشُّكْرِ إلَّا بِفَضْلِهِ

وَإنْ طالَتِ الأيَّامُ وَاتَّصَلَ العُمْرُ

• وفي قولِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم "إنَّها أيَّامُ أكلٍ وشربٍ وذكرِ اللهِ عز وجل" إشارةٌ إلى أن الأكلَ في أيَّامِ الأعيادِ والشُّربَ إنَّما يُسْتَعانُ بهِ على ذكرِ اللهِ وطاعتِهِ، وذلكَ مِن تمامِ شكرِ النِّعمةِ أنْ يُسْتَعانَ بها على الطَّاعاتِ.

وقد أمَرَ اللهُ في كتابِهِ بالأكلِ مِن الطَّيِّباتِ والشُّكرِ لهُ، فمَنِ اسْتَعانَ بنعمِ اللهِ على

(1)

هذا بيت مفرد، لا يتبع ما قبله، فالأوّل من البحر الوافر وهذا من الطويل.

ص: 641

معاصيهِ؛ فقد كَفَرَ نعمةَ اللهِ وبَدَّلَها كفرًا، وهوَ جديرٌ أنْ يُسْلَبَها، كما قيلَ:

إذا كُنْتَ في نِعْمَةٍ فَارْعَها

فَإنَّ المَعاصي تُزيلُ النِّعَمْ

وَداوِمْ عَلَيْها بِشُكْرِ الإلهِ

فَشُكْرُ الإلهِ يُزيلُ النِّقَمْ

وخصوصًا نعمةَ الأكلِ مِن لحومِ بهيمةِ الأنعامِ، كما في أيَّامِ التَّشريقِ؛ فإنَّ هذهِ البهائمَ مطيعةٌ للهِ لا تَعْصيهِ، وهيَ مسبِّحةٌ لهُ قانتةٌ، كما قالَ تَعالى:{وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]، وإنَّها تَسْجُدُ لهُ، كما أخْبَرَ اللهُ بذلكَ في سورةِ النَّحلِ [49] وسورةِ الحجِّ [18]. وربَّما كانَتْ أكثرَ ذكرًا للهِ مِن بعضِ بني آدَمَ. وفي "المسند" مرفوعًا:"ربَّ بهيمةٍ خيرٌ مِن راكبِها وأكثرُ للهِ منهُ ذكرًا"

(1)

. وقد أخْبَرَ اللهُ في كتابِهِ أن كثيرًا مِن الجنِّ والإنسِ كالأنعامِ بل هم أضلُّ سبيلًا.

فأباحَ اللهُ تَعالى [ذبحَ] هذهِ البهائمِ المطيعةِ الذَّاكرةِ لهُ لعبادِهِ المؤمنينَ حتَّى تَتَقَوَّى بها أبدانُهُم وتَكْمُلَ لذَّاتُهُم في أكلِهِمُ اللحومَ؛ فإنَّهـ[ــــا]، مِن أجلِّ الأغذيةِ وألذِّها، معَ أن الأبدانَ تَقومُ بغيرِ اللحمِ مِن النَّباتاتِ وغيرِها، لكنْ لا تَكْمُلُ القوَّةُ والعقلُ واللذَّةُ إلَّا باللحمِ، فأباحَ للمؤمنينَ قتلَ هذهِ البهائمِ والأكلَ مِن لحومِها، لِيُكْمِلَ بذلكَ قوَّةَ عبادِهِ وعقولَهُم، فيَكونَ ذلكَ عونًا لهُم على علومٍ نافعةٍ وأعمالٍ صالحةٍ يَمْتازُ بها بنو آدَمَ على البهائمِ وعلى ذكرِ اللهِ عز وجل وهوَ أكبرُ مِن ذكرِ البهائمِ، فلا يَليقُ بالمؤمنِ معَ هذا إلَّا مقابلةُ هذهِ النِّعمِ بالشُّكرِ عليها والاستعانةِ بها على طاعةِ اللهِ تَعالى وذكرِهِ حيثُ فَضَّلَ ابنَ آدَمَ على كثيرٍ مِن المخلوقاتِ وسَخَّرَ لهُ هذهِ الحيواناتِ. قالَ تَعالى:{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج: 36].

(1)

(ضعيف). رواه: أحمد (3/ 439 و 440 و 441) من طريق حسن عن ابن لهيعة، والطبراني (20/ 193/ 431) من طريق رشدين؛ كلاهما عن زبّان بن فائد (وقال ابن لهيعة مرّة: يزيد بن أبي حبيب)، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه

رفعه.

قال الهيثمي (10/ 143): "إسناده حسن". وقال مرّة (8/ 110): "رجال الصحيح غير سهل بن معاذ بن أنس وثّقه ابن حبّان وفيه ضعف". قلت: سهل لا بأس بحديثه، وإنّما العلّة في رواية زبّان عنه، وهذا منها، وزبّان ضعيف صاحب منكرات، وذكر يزيد بن أبي حبيب في هذا السند ليس بالمتابعة وإنّما هو من تخليط ابن لهيعة. ثمّ الطريقان إلى زبّان ضعيفتان؛ ابن لهيعة ورشدين! فأنّى يقال في مثل هذا: إسناد حسن؟!

ص: 642

فأمَّا مَن قَتَلَ هذهِ البهائمَ المطيعةَ الذَّاكرةَ للهِ تَعالى، ثمَّ اسْتَعانَ بأكلِ لحومِها على معاصي اللهِ تَعالى ونَسِيَ ذكرَ اللهِ؛ فقد قَلَبَ الأمرَ وكَفَرَ النِّعمةَ، فلا كانَ مَن كانَتِ البهائمُ خيرًا منهُ وأطوعَ.

نَهارُكَ يا مَغْرورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ

وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدى لَكَ لازِمُ

وَتَتْعَبُ فيما سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ

كَذلِكَ في الدُّنْيا تَعيشُ البَهائِمُ

• وإنَّما نُهِيَ عن صيامِ أيَّامِ التَّشريقِ؛ لأنَّها أعيادٌ للمسلمينَ معَ يومِ النَّحرِ، فلا تُصامُ بمنى ولا غيرِها عندَ جمهورِ العلماءِ، خلافًا لعطاء في قولِهِ: إنَّ النَّهيَ مختصٌّ بأهلِ منى.

وإنَّما نُهِيَ عن التَّطوُّعِ بصيامِها سواءٌ وافَقَ عادةً أو لمْ يوافِقْ. فأمَّا صيامُها عن قضاءِ فرضٍ أو نَذْرٍ أو صيامُها بمنى للمتمتِّعِ إذا لم يَجِدِ الهديَ؛ ففيهِ اختلافٌ مشهورٌ بينَ العلماءَ، ولا فرَقَ بينَ يومٍ منها ويومٍ عندَ الأكثرينَ؛ إلَّا عندَ مالكٍ؛ فإنَّهُ قالَ في اليومِ الثَّالثِ منها: يَجوزُ صيامُهُ عن نذرٍ خاصَّةً

(1)

.

وفي النَّهيِ عن صيامِ هذهِ الأيَّامِ والأمرِ بالأكلِ فيها والشُربِ سرٌّ حسنٌ، وهوَ أن الله تَعالى لمَّا عَلِمَ ما يُلاقي الوافدونَ إلى بيتِهِ مِن مشاقِّ السَّفرِ وتعبِ الإحرامِ وجهادِ النُّفوسِ على قضاءِ المناسكِ؛ شَرَعَ لهُمُ الاستراحةَ عقيبَ ذلكَ بالإقامةِ بمنى يومَ النَّحرِ وثلاثةَ أيَّامِ التَّشريقِ بعدَهُ، وأمَرَهُم بالأكلِ فيها مِن لحومِ نسكِهِم، فهُم في ضيافةِ اللهِ عز وجل فيها؛ لطفًا مِن اللهِ بهِم ورأْفةً ورحمةً. وشارَكَهُم أيضًا أهلُ الأمصارِ في ذلكَ؛ لأنَّ أهلَ الأمصارِ شارَكوهُم في النَّصبِ للهِ

(2)

والاجتهادِ في عشرِ ذي الحجَّةِ بالصَّومِ والذِّكرِ والاجتهادِ في العباداتِ، وشارَكوهُم في حصولِ المغفرةِ وفي التَّقرُّبِ إلى اللهِ تَعالى بإراقةِ دماءِ الأضاحي، فشارَكوهُم في أعيادِهِم، واشْتَرَكَ الجميعُ في الرَّاحةِ في أيَّامِ الأعيادِ بالأكلِ والشُّربِ كما اشْتَرَكوا جميعًا في أيَّامِ العشرِ في الاجتهادِ في الطَّاعةِ والنَّصبِ، وصارَ المسلمونَ كلُّهُم في ضيافةِ اللهِ تَعالى في هذهِ الأيَّامِ، يَأْكُلونَ مِن رزقِهِ

(1)

وقد تقدّم ما فيه (ص 638).

(2)

في خ: "شاركوهم في التعب لله"، وفي م ون:"شاركوهم في حصول المغفرة والنصب لله".

ص: 643

ويَشْكُرونَهُ على فضلِهِ. ونُهُوا عن صيامِها؛ لأنَّ الكريمَ لا يَليقُ بهِ أنْ يُجيعَ أضيافَهُ، فكأنَّهُ قيلَ للمؤمنينَ في هذهِ الأيَّامِ: قد فَرَغَ عملُكُمُ الذي عَمِلْتُموهُ، فما بَقِيَ لكُم إلَّا الرَّاحةُ، فهذهِ الرَّاحةُ بذلكَ التَّعبِ، كما أُريحَ الصَّائمونَ للهِ شهرَ رمضانَ بأمرِهِم بإفطارِ يومِ عيدِ الفطرِ.

• ويُؤْخَذُ مِن هذا إشارةٌ إلى حالِ المؤمنِ في الدُّنيا؛ فإن الدُّنيا كلَّها أيَّامُ سفرٍ كأيامِ الحجِّ، وهيَ زمانُ إحرامِ المؤمنينَ عمَّا حَرَّمَ اللهُ عليهِم مِن الشَّهواتِ، فمَن صَبَرَ في مدَّةِ سفرِهِ على إحرامِهِ وكَفَّ عن الهوى، فإذا انْتَهى سفرُ عمرِهِ ووَصَلَ إلى منى المُنى فقد قَضى تفثَهُ ووَفَّى نذرَهُ، فصارَتْ أيَّامُهُ كلُّها كأيَّامِ منى أيَّامَ أكلٍ وشربٍ وذكرِ اللهِ عز وجل، وصارَ في ضيافةِ اللهِ في جوارِهِ أبدَ الأبدِ. ولهذا يُقالُ لأهلِ الجنَّةِ:{كُلوا وَاشْرَبوا هَنيئًا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلونَ} [الطور: 19]، {كُلوا وَاشْرَبوا هَنيئًا بِما أسْلَفْتُمْ في الأيَّامِ الخالِيةِ} [الحاقَّة: 24]. وقد قيلَ: إنَّها نَزَلَتْ في الصُّوَّامِ في الدُّنيا.

وَقَدْ صُمْتُ عَنْ لَذَّاتِ دَهْرِيَ كُلِّها

وَيَوْمَ لِقاكُمْ ذاكَ فِطْرُ صِيامي

قالَ بعضُ السَّلفِ: صُمِ الدُّنيا ولْيَكُنْ فطرُكَ الموتَ.

فَصُمْ يَوْمَكَ الأدْنى لَعَلَّكَ في غَدٍ

تَفوزُ بِعيدِ الفِطْرِ وَالنَّاسُ صُوَّمُ

مَن صامَ اليومَ عن شهواتِه؛ أفْطَرَ عليها غدًا بعدَ وفاتِه، ومَن تَعَجَّلَ ما حُرِّمَ عليهِ مِن لذَّاتِه؛ عوقِبَ بحرمانِ نصيبِهِ مِن الجنَّةِ وفواتِه. شاهدُ ذلكَ:"مَن شَرِبَ الخمرَ في الدُّنيا لمْ يَشْرَبْها في الآخرةِ"

(1)

، و"مَن لَبِسَ الحريرَ في الدُّنيا لمْ يَلْبَسْهُ في الآخرةِ"

(2)

.

أنْتَ في دارِ شَتاتٍ

فَتَأهَّبْ لِشَتاتِكْ

وَاجْعَلِ الدُّنْيا كَيَوْمٍ

صُمْتَهُ عَنْ شَهَواتِكْ

وَلْيَكُنْ فِطْرُكَ عِنْدَ الـ

ـــــلهِ فسي يَوْمِ وَفاتِكْ

(1)

رواه: البخاري (74 - الأشربة، 1 - قوله تعالى إنّما الخمر والميسر، 10/ 30/ 5575)، ومسلم (36 - الأشربة، 7 - كل مسكر خمر، 3/ 1587/ 2003) من حديث ابن عمر.

(2)

رواه: البخاري (77 - اللباس، 25 - لبس الحرير، 10/ 284/ 5830)، ومسلم (37 - اللباس، 2 - تحريم استعمال إناء الذهب، 3/ 2069/1641)؛ من حديث عمر.

ص: 644

قالَ اللهُ تَعالى: {وَاللهُ يَدْعو إلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدي مَنْ يَشاءُ إلى صِراطٍ مُسْتَقيمٍ} [يونس: 25].

الجنَّةُ ضيافةُ اللهِ أعَدَّها لعباده المؤمنينَ نزلًا، فيها ما لا عينٌ رَأتْ ولا أذنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ. وبُعِثَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعو إليها بالإيمانِ والإسلامِ والإحسانِ، فمَن أجابَهُ؛ دَخَلَ الجنَّةَ وأكَلَ مِن تلكَ الضِّيافةِ، ومَن لمْ يُجِبْ؛ حُرِمَ.

خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ عن جابِرٍ؛ قالَ: خَرَجَ علينا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يومًا، فقالَ:"رَأيْتُ في المنامِ كأنَّ جِبْريلَ عندَ رأْسي وميكائيلَ عندَ رجليَّ. فقالَ أحدُهُما لصاحبِهِ: اضْرِبْ لهُ مثلًا. فقالَ: اسْمَعْ سَمِعَتْ أُذُنُكَ واعْقِلْ عَقَلَ قلبُكَ. إنَّما مثلُكَ ومثلُ أُمَّتِكَ كمثلِ ملكٍ اتَّخَذَ دارًا، ثمَّ بَنى فيها بناءً، وجَعَلَ فيها مائدةً، ثمَّ بَعَثَ رسولًا يَدْعو النَّاسَ إلى طعامِهِ، فمنهُم مَن أجابَ الرَّسولَ، ومنهُم مَن تَرَكَهُ. فاللهُ هوَ الملكُ، والدَّارُ هيَ الإسلامُ، والبيتُ الجنَّةُ، وأنتَ يا مُحَمَّدُ رسولٌ، مَن أجابَكَ دَخَلَ الإسلامَ، ومَن دَخَلَ الإسلامَ دَخَلَ الجنَّةَ، ومَن دَخَلَ الجنَّةَ أكَلَ ممَّا فيها"

(1)

.

(1)

(حسن). رواه: ابن سعد في "الطبقات"(1/ 82)، والترمذي (45 - الأمثال، 1 - مثل الله لعباده، 5/ 145/ 2860)، والطبري (17624)، والحاكم (2/ 338 و 393)، وابن مردويه (3/ 546 - درّ)، والبيهقي في "الدلائل"(1/ 370)، والعسقلاني في "التغليق"(5/ 320)؛ من طرق ثلاث، عن الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، [قال مرّة: عن محمّد بن عليّ بن الحسين، ومرّة: عن عطاء، وأسقطه مرّة]، عن جابر

رفعه في سياق طويل. قال الحاكم: "صحيح"، ووافقه الذهبي. قلت: هو كذلك لولا اختلافهم على الليث فيه، فرواه ثبتان عنه فقالا: عن سعيد عن جابر، ورواه عبد الله بن صالح كاتبه فزاد بين سعد وجابر مرّة محمّد بن عليّ ومرّة عطاء، وعبد الله بن صالح صالح في الشواهد، وقد خالف الثبتين، فزيادته بين الشذوذ والنكارة، ولذلك قال الترمذي:"مرسل، سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابرًا".

ورواه: الدارمي (1/ 7)، والطبري (17621)، والطبراني (5/ 65/ 4597)، وأبو نعيم في "الجنّة"(1)؛ من طريقين، عن أيّوب، عن أبي قلابة. ولكنّهم اختلفوا: فقال معمر عند الطبري: عن أيّوب عن أبي قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا. وقال عبّاد بن منصور عند البقيّة: عن أيّوب عن أبي قلابة عن عطيّة عن ربيعة الجرشيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وعبّاد ليّن خالف معمرًا الثبت، فوصله بين الشذوذ والنكارة، والمحفوظ الإرسال.

فهاهنا طريق منقطعة وأُخرى مرسلة، واجتماعهما يرجّح أنّ لهذا التفصيل أصلا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا سيّما أنّ أصل الحديث عند البخاري كما سيأتيك بعده، وقد قوّاه الحاكم والذهبي والهيثمي والعسقلاني، واكتفى الألباني في "ضعيف الترمذي" بقوله:"ضعيف الإسناد" على طريقته فيما لم يتفرّغ لدراسته من الأحاديث، ولعلّه لو تفرّغ لدراسته كان له موقف آخر. والله أعلم.

ص: 645

وخَرَّجَهُ البُخارِيُّ

(1)

بمعناهُ، ولفظُهُ:"مثلُهُ كمثلِ رجلٍ بنى دارًا، وجَعَلَ فيها مأْدبةً، وبَعَثَ داعيًا، فمَن أجابَ الدَّاعيَ دَخَلَ الدَّارَ وأكَلَ مِن المأْدبةِ، ومَن لمْ يُجِبِ الدَّاعيَ لمْ يَدْخُلِ الدَّارَ ولمْ يَأْكُلْ مِن المأْدبةِ؛ فالدَّارُ الجنَّةُ، والدَّاعي مُحَمَّدٌ".

في بعضِ الآثارِ الإسرائيليّةِ: يَقولُ اللهُ: ابنَ ادَمَ! ما أنْصَفْتَني، أذْكُرُكَ وتَنْساني، وأدْعوكَ إليَّ فتَفِرُّ منِّي إلى غيري، وأُذْهِبُ عنكَ البلايا وأنتَ معتكفٌ على الخطايا. ابنَ آدَمَ! ما يَكونُ اعتذارُكَ غدًا إذا جِئْتَني؟!

طوبى لمَن أجابَ دعوةَ مولاه، {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31].

يا نَفْسُ وَيْحَكِ قَدْ أتاكِ هُداكِ

أجيبي فَداعي الحَقِّ قَدْ ناداكِ

كَمْ قَدْ دُعِيتِ إلى الرَّشادِ فتُعْرِضي

وَأجَبْتِ داعي الغَيِّ حينَ دَعاكِ

كلُّ ما في الدُّنيا يُذَكِّرُ بالآخرةِ، فمواسمُها وأعيادُها وأفراحُها تُذَكِّرُ بمواسمِ الآخرةِ وأعيادِها وأفراحِها.

صَنَعَ عَبْدُ الواحِدِ بنُ زَيْدٍ طعامًا لإخوانِهِ، فقامَ عُتْبَةُ الغلامُ على رؤوسِ الجماعةِ يَخْدُمُهُم وهوَ صائمٌ، فجَعَلَ عَبْدُ الواحِدِ يَنْظُرُ إليهِ ويُسارِقُهُ النَّظرَ ودموعُ عُتْبَةَ تَجْري، فسَألَهُ بعدَ ذلكَ عن بكائِهِ، فقالَ: ذَكَرْتُ موائدَ الجنَّةِ والولدانُ قائمونَ على رؤوسِهِم، فصُعِقَ عَبْدُ الواحِدِ

(2)

!

أبدانُ العارفينَ في الدُّنيا وقلوبُهُم في الآخرةِ.

جِسْمي مَعي غَيْرَ أن الرُّوحَ عِنْدَكُمُ

فَالجِسْمُ في غُرْبَةٍ وَالرُّوحُ في وَطَنِ

أعيادُ النَّاسِ تَنْقَضي، فأمَّا أعيادُ العارفينَ فدائمةٌ.

قالَ الحَسَنُ: كلُّ يومٍ لا تَعْصي الله فيهِ فهوَ لكَ عيدٌ.

جاءَ بعضُهُم إلى بعضِ العارفينَ فسَلَّمَ عليهِ وقالَ لهُ: أريدُ أنْ أكَلِّمَكَ. قالَ: اليومَ

(1)

(96 - الاعتصام، 2 - الاقتداء بالسنن، 13/ 249/ 7281).

(2)

الناظر في تراجم هذه الشخصيّات وأخبارهم سيجدهم أقرب إلى الخيال والنسيج القصصي منهم إلى الواقع والحقيقة! لا تراهم إلَّا باكين أو مصعوقين أو ميّتين صعقًا أو مع جماعة من هذا الصنف! هذه أخبار لا ترى لها في سيرة الصحابة وتابعيهم بإحسان ووارثيهم من أهل العلم كالأوزاعيّ والزهري وشعبة والسفيانين والأئمّة الأربعة وأئمّة الحديث الستّة

لا ترى لها عينًا ولا أثرًا! والله المستعان على أهل البهتان.

ص: 646

لنا عيدٌ. فتَرَكَهُ، ثمَّ جاءَهُ يومًا آخرَ، فقالَ لهُ مثلَ ذلكَ. ثمَّ يومًا آخرَ، فقال لهُ مثلَ ذلكَ. فقالَ لهُ: ما أكثرَ أعيادَكَ! قالَ: يا بطَّالُ! أما عَلِمْتَ أن كلَّ يومٍ لا نَعْصي الله فيهِ فهوَ لنا عيدٌ

(1)

.

أوقاتُ العارفينَ كلُّها فرحٌ وسرورٌ بمناجاةِ مولاهُم وذكرِهِ، فهيَ أعيادٌ.

وكانَ الشِّبْلِيُّ يُنْشِدُ:

إذا ما كُنْتَ لي عيدًا

فَما أصْنَعُ بِالعيدِ

جَرى حُبُّكَ في قَلْبي

كَجَرْيِ الماءِ في العودِ

وأنْشَدَ أيضًا:

عيدي مُقيمٌ وَعيدُ النَّاسِ مُنْصَرِفُ

وَالقَلْبُ مِنِّي عن اللَذَّاتِ مُنْحَرِفُ

وَلي قَرينانِ ما لي مِنْهُما خَلَفٌ

طولُ الحَنينِ وَعَيْنٌ دَمْعُها يَكِفُ

‌المجلس الرابع في ذكر ختام العام

خَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ مِن حديثِ: جابرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"لا تتمَنَّوُا الموتَ؛ فإنَّ هولَ المطَّلَعِ شديدٌ، وإنَّ مِن السَّعادةِ أنْ يَطول عمرُ العبدِ ويَرْزُقَهُ اللهُ الإنابةَ"

(2)

.

(1)

وهذه والله عجيبة لا تجدها إلّا عند عارفي (!) القوم! إذا كان هذا العارف (!) في يوم عيد؛ فأيّ مانع يمنعه من تكليم من جاءه وقضاء حاجته؟! وهل من سنن العيد عندهم عدم الكلام مع الخلق وقضاء حاجاتهم؟! وإذا كان السائل لا يعرف شيئًا عن هذا العيد المزعوم ولا عن سنّة أصحابه فيه؛ فهل يكون بطّالًا؟! أوليس نبذ هذا الرجل بأّنه بطّال معصية مفسدة للعيد المزعوم؟!

(2)

(لا بأس به). يرويه كثير بن زيد واختلف عليه فيه على وجوه: روى أوّلها الذهبي في "الميزان"(3/ 404) تعليقًا من طريق هشام بن عبيد الله، ثنا سليمان بن بلال، عنه، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة

رفعه. وروى الثاني: عبد بن حميد (1155)، والبخاري في "التاريخ"(2/ 285)؛ من طريق وكيع، عنه، عن سلمة بن أبي يزيد، عن جابر

رفعه. وروى الثالث: أحمد في "المسند"(3/ 332) و"الزهد"(116)، والبخاري في "التاريخ"(2/ 285)، والبزّار (3240 و 3422 - كشف)، والحاكم (4/ 240)، والبيهقي في "الشعب"(10589) و"الزهد"(619)؛ من طريق وكيع وجماعة من الثقات، عنه، عن الحارث بن أبي يزيد، عن جابر

رفعه. فالوجه الثالث هنا هو رواية جماعة الثقات المحفوظة. والثاني تفرّد به وكيع مع أنّه رواه على الجادّة مرّة كما رواه غيره، فبان أنّ الرواية التي تفرّد بها شاذّة، ولذلك قال البخاري: "سلمة هنا لا =

ص: 647

• تمنِّي الموتِ يَقَعُ على وجوهٍ:

• منها: تمنِّيهِ لضرٍّ دنيويٍّ يَنْزِلُ بالعبدِ، فيُنْهى حينئذٍ عن تمنِّي الموتِ.

وفي الصَّحيحين

(1)

: عن أنسٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"لا يَتَمَنَّيَنَ أحدُكُمُ الموتَ لضرٍّ نَزَلَ بهِ، فإنْ كانَ لا بدَّ فاعلًا؛ فلْيَقُلِ: اللهمَّ! أحْيِني ما كانَتِ الحياةُ خيرًا لي، وتَوَفَّني إذا كانَ الوفاةُ خيرًا لي".

[و] وجهُ كراهتِهِ في هذهِ الحالِ أنَّ المتمنِّيَ للموتِ لضرٍّ نَزَلَ بهِ، إنَّما يَتَمَنَّا [هُ]، تعجيلًا للاستراحةِ مِن ضرِّهِ، وهوَ لا يَدْري إلى ما يَصيرُ بعدَ الموتِ، فلَعَلَّهُ يَصيرُ إلى ضرٍّ أعظمَ مِن ضرِّهِ، فيَكونُ كالمستجيرِ مِن الرَّمضاءِ بالنَّارِ. وفي الحديثِ: عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "إنَّما يَسْتَريحُ مَن غُفِرَ له"

(2)

. فلهذا لا يَنْبَغي لهُ أنْ يَدْعُوَ بالموتِ إلَّا أنْ

= يصحّ". والوجه الأوّل تفرّد به هشام وله أوهام وخالف رواية الجماعة عن كثير فروايته أيضًا شاذّة.

فإذا تبيّن لنا أنّ الوجه الثالث هو المحفوظ هنا فإنّ: كثير بن زيد صدوق لا بأس بحديثه. والحارث بن أبي يزيد: تابعيّ، روى عنه ثقتان، وذكره ابن حبّان في "الثقات"، وقوّى حديثه الحاكم والمنذري والهيثمي، فحديثه لا بأس به، ولا سيّما أنّه لم يأت بمعنى منكر، بل هو معنى لا تعوزه الشواهد كما سيأتي. ولذلك قوّى هذا الحديث الحاكم والمنذري والذهبي مرّة والهيثمي والمناوي وقال الذهبيّ مرّة:"مع نكارته له علّة".

(1)

البخاري (75 - المرضى، 19 - تمنّي المريض الموت، 10/ 127/ 5671)، ومسلم (48 - الذكر والدعاء، 4 - تمني الموت، 4/ 2064/ 2680).

(2)

(حسن صحيح). رواه: أحمد (6/ 69 و 102)، والطبراني في "الأوسط"(9375)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 290) من طرق، عن ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة

رفعته. وابن لهيعة خلّط، لكن في الرواة عنه هنا قتيبة بن سعيد ويحيى بن إسحاق السيلحيني وحديثهما عنه جيّد.

وله طريق أُخرى يرويها محمّد بن عروة واختلف عليه فيها على وجوه: روى أوّلها ابن المبارك (251)، عن يونس بن يزيد، عن أبي مقرّن، عن محمّد بن عروة

مرسلًا. وروى الثاني: الحارث (257 - زوائد الهيثمي) من طريق عثمان بن عمر، وأبو داوود في "المراسيل"(519) من طريق ابن وهب؛ كلاهما عن يونس، عن الزهري، عن محمّد بن عروة، عن أبيه

مرسلًا. وروى الثالث البزّار (789 - كشف)، عن عثمان بن عمر، عن يونس، عن الزهري، عن محمّد بن عروة، عن أبيه، عن عاشة

مرفوعًا. فالوجه الأوّل هنا أضعف الوجوه لجهالة أبي مقرّن هذا فإنّي لم أقف له على ترجمة. والوجه الثاني أرجحها لاجتماع الثقتين عليه ولأن فيه زيادة على الوجه الأوّل لعيّن المصير إليها. والوجه الثالث قويّ السند، والوصل فيه زيادة ثقة فله حكمها، ولا سيّما أنّ الحديث جاء موصولًا من الطريق الأولى.

وذكر الألباني أن للحديث شاهدًا عند ابن عساكر من حديث بلال لكنّه لم يذكر سنده ولم أقف عليه وأخشى أنّه راجع إلى هذه الطريق نفسها.

ص: 648

يَشْتَرِطَ أنْ يَكونَ خيرًا لهُ عندَ اللهِ عز وجل، وكذلكَ كلُّ ما لا يَعْلَمُ العبدُ فيهِ الخيرةَ لهُ، كالغنى والفقرِ وغيرِهِما، كما يُشْرَعُ لهُ استخارةُ اللهِ فيما يُريدُ أنْ يَعْمَلَهُ ممَّا لا يَعْلَمُ وجهَ الخيرةِ فيهِ، وإنَّما يُسْألُ اللهُ على وجهِ الجزمِ والقطعِ ما يُعْلَمُ

(1)

أنَّهُ خيرٌ محضٌ، كالمغفرةِ والرَّحمةِ والعفوِ والعافيةِ والهدى والتَّقوى ونحوِ ذلكَ

(2)

.

• ومنها: تمنِّيهِ خوفَ الفتنةِ في الدِّينِ، فيَجوزُ حينئذٍ، وقد تَمَنَّاهُ ودَعا بهِ خشيةَ الفتنةِ في الدِّينِ خلقٌ مِن الصَّحابةِ وأئمَّةِ الإسلامِ. وفي حديثِ المنامِ:"وإذا أرَدْتَ بقومٍ فتنةً؛ فأقْبِضْني إليكَ غيرَ مفتونٍ"

(3)

.

• ومنها: تمنِّي الموتِ عندَ حضورِ أسبابِ الشَّهادةِ اغتنامًا لحصولِها، فيَجوزُ ذلكَ أيضًا. وسؤالُ الصَّحابةِ الشَّهادةَ وتعرُّضُهُم لها عندَ حضورِ الجهادِ كثيرٌ مشهورٌ، وكذلكَ سؤالُ معاذٍ لنفسِهِ وأهلِ بيتِهِ الطَّاعونَ لمَّا وَقَعَ بالشَّامِ.

• ومنها: تمنِّي الموتِ لمَن وَثِقَ بعملِهِ شوقًا إلى لقاءِ اللهِ عز وجل، فهذا يَجوزُ أيضًا، وقد فَعَلَهُ كثير مِن السَّلفِ. قالَ أبو الدَّرْداءِ: أُحِبُّ الموتَ اشتياقًا إلى ربِّي

(4)

. وقالَ أبو عِنَبَةَ الخَوْلانِيُّ: كانَ مَن قبلَكُم لقاءُ اللهِ أحبُّ إليهِم مِن الشَّهدِ. وقالَ

= وله شاهد من حديث أبي قتادة مرفوعًا بلفظ: "مستريح ومستراح منه"؛ قاله صلى الله عليه وسلم للجنازة. رواه: البخاري (6512)، ومسلم (950).

فإن لم يكن الحديث صحيحًا بمجموع طريقيه المرفوعين فهو صحيح بشاهديه، وقد رجّح الدارقطني فيه الإرسال، وصحّح الألباني وصله.

(1)

في خ: "فيما يعلم"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

في حاشية خ هنا: "قال في "الآداب الكبرى": فصل: قال جعفر بن محمّد الصائغ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كلّ شيء من الخير فبادر به. وقال محمّد بن نصر العابد: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كلّ شيء من الخير بادر فيه. قال: وشاورته في الخروج إلى الثغر فقال لي: بادر بادر. وهذا يحتمل أنّه لا الاستخارة فيه كما قاله بعض الفقهاء لظهور المصلحة، ويحتمل أنّ مراده بعد فعل ما ينبغي فعله من صلاة الاستخارة وغيرها، وهو ظاهر كلام الأصحاب؛ لظاهر حديث الاستخارة وغيره وقول جابر: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلّها. وقد استخارت زينب لمّا أراد النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتزوّجها. قال في "شرح مسلم": فيه استحباب صلاة الاستخارة لمن همّ بأمر، سواء كان الأمر ظاهر الخير أم لا. قال: ولعلّها استخارت من خوفها من تقصيرها في حقّه عليه السلام" اهـ.

(3)

(صحيح لشواهده). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 104 - 108).

(4)

الشوق إلى لقاء الله تعالى والنظر إلى وجهه الكريم أمر مستحبّ، ومحبّة الموت لذلك أمر لا =

ص: 649

بعضُ العارفينَ: طالَتْ عليَّ الأيَّامُ والليالي بالشَّوقِ إلى لقاءِ اللهِ. وقالَ بعضُهُم: طالَ شوقي إليكَ فعَجِّلْ قدومي عليكَ. وقالَ بعضُهُم: لا تَطيبُ نفسي بالموتِ إلَّا إذا ذَكَرْتُ لقاءَ اللهِ؛ فإنَّني أشْتاقُ حينئذٍ إلى الموتِ، كشوقِ الظَّمآنِ الشَّديدِ ظمؤُهُ في اليومِ الحارِّ الشَّديدِ حرُّهُ إلى الماءِ الباردِ الشَّديدِ بردُهُ.

وفي هذا يَقولُ بعضُهُم:

أشْتاقُ إليْكَ يا قَريبًا نائي

شَوْقَ الظَّامي إلى زُلالِ الماءِ

وقد دَلَّ على جوازِ ذلكَ قولُ اللهِ عز وجل: {قُلْ إنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دونِ النَّاسِ فتَمَنَّوُا المَوْتَ إنْ كُنْتُمْ صادِقينَ} [البقرة: 94]، وقولُهُ تَعالى:{قُلْ يا أيُّها الَّذينَ هادوا إنْ زَعَمْتُمْ أنَّكمْ أوْلِياءُ لِلهِ مِنْ دونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا المَوْتَ} [الجمعة: 6]، فدَلَّ ذلكَ على أن أولياءَ اللهِ لا يَكْرَهونَ الموتَ بل يَتَمَنَّوْنَهُ، ثمَّ أخْبَرَ أنَّهُم {لا يَتَمَنَّوْنَهُ أبَدًا بِما قَدَّمَتْ أيْديهِمْ} [الجمعة: 7]، فدَلَّ على أنَّهُ إنَّما يَكْرَهُ المَوْتَ مَن له ذنوبٌ يَخافُ القدومَ عليها، كما قالَ بعضُ السَّلفِ: ما يَكْرَهُ الموتَ إلَّا مريبٌ

(1)

.

= بأس على فاعله، ومن أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه. لكن هذا شيء وتمنّي الموت واستعجاله شيء آخر، وهذا الأخير هو الذي نهى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم نهيًا عامًّا للمحسن والمسيء. وليت شعري! إذا كان سعد بن أبي وقّاص وأصحابه قد نُهوا عن تمنّي الموت؛ فمن ذا السفيه الذي يرى عمله أوثق من أعمالهم ويحلّ لنفسه ما حرّم عليهم؟! فتنبّه لهذا الفرق الدقيق وقس عليه ما بعده من الأقوال يتبيّن لك صوابها من خطئها.

(1)

في هذا الاستدلال نظر من وجوه: أوّلها: أنّ تفسير تمنّي اليهود للموت بقول أحدهم "يا ليتني أموت الآن" ليس بالمسلّم، بل هذه الآيات دعوة لليهود إلى المباهلة بالدعاء بالموت على الكاذبين كما قيل للنصارى {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61]، كما حقّقه شيخ الإسلام ثمّ قرّره ابن القيّم أحسن تقرير. والثاني: سلّمنا أنّ الآية على التفسير المذكور وأنّ أولياء الله يتمنّون الموت في بعض الظروف إقامة للحقّ ودرءًا للباطل، فأين فيها أنّهم يتمنّون الموت كلّ حين على الإطلاق؟! والثالث: أنّه قد يكون شرعًا لمن قبلنا ثمّ جاء شرعنا بالنهي عنه. والرابع: قصر كراهية الموت على صاحب الذنوب لا يخلو من نظر، فمن الناس من كره الموت حبًّا بظمأ النهار وقيام الأسحار وصحبة الأخيار وجهاد الكفّار ونشر العلم في الأمصار، ومنهم من كرهه من أجل أطفاله الصغار

إلخ. والخامس: من ذا الذي سلم من ذنوب كثيرة يتمنّى أن يعمّر ليحدث لها مزيدًا من التوبة والاستغفار!؟ والسادس: وقول من قال "ما يكره الموت إلَّا مريب" هو المريب! وقد قال تعالى في الحديث القدسيّ: "وما ترددت عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس عبدي المؤمن؛ يكره الموت وأكره مساءته ولا بدّ له =

ص: 650

وفي حديثِ: عَمَّارِ بن ياسِرٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:"أسْألُكَ لذَّةَ النَّظرِ إلى وجهِكَ وشوقًا إلى لقائِكَ في غيرِ ضرَّاءَ مضرَّةٍ ولا فتنةٍ مضلَّةٍ"

(1)

. فالشَّوقُ إلى لقاءِ اللهِ إنَّما يَكونُ بمحبَّةِ الموتِ. وذلكَ

(2)

لا يَقَعُ غالبًا إلَّا عندَ [خوفِ] ضرَّاءَ مضرَّةٍ في الدُّنيا أو فتنةٍ مضلَّةٍ في الدِّينِ. وأمَّا إذا خَلا عن ذلكَ؛ كانَ شوقًا إلى لقاءِ اللهِ، وهوَ المسؤولُ في هذا الحديثِ

(3)

.

وفي "المسند": عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"لا يَتَمَنَّيَنَّ الموتَ إلَّا مَن وَثِقَ بعملِهِ"

(4)

.

فالمطيعُ للهِ مستأْنسٌ بربِّهِ، فهوَ يُحِبُّ لقاءَهُ، واللهُ يُحِبُّ لقاءَهُ. والعاصي

= منه". وقالت أُمّ المؤمنين عائشة للنبيّ صلى الله عليه وسلم - عندما قال: "من كره لقاء الله كره الله لقاءه" -: أكراهية الموت؟! فكلّنا يكره الموت! وكلاهما من مخرّجات الصحيح.

(1)

(صحيح). وقد جاء من طرق عن عمّار:

فرواه: ابن أبي شيبة (29237)، وأحمد (4/ 264)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(128 و 378) و"الآحاد"(276)، والبزّار (4/ 228/ 1392)، وعبد الله بن أحمد في "السنّة"(276)، والنسائي في "الكبرى"(1229) و"المجتبى"(13 - السهو، 62 - نوع آخر، 3/ 55/ 1305)، والطبراني في "الدعاء"(625)، والدارقطني في "الرؤية"(159 أو 174 - ط. مصريّة)، والأصبهاني في "الترغيب"(1285)؛ من طريق شريك، عن أبي هاشم، عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد، عن عمّار

رفعه. وهذا سند صالح في الشواهد من أجل شريك؛ فإنّه سيّء الحفظ.

ورواه: الدارمي في "الردّ على الجهميّة"(51)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(129 و 425)، والبزّار (4/ 229/ 1393)، والنسائي في "الكبرى"(1228) و"المجتبى"(قبله، 3/ 54/ 1304)، وابن خزيمة في "التوحيد"(ص 12)، وابن حبّان (1971)، والطبراني في "الدعاء"(624)، والدارقطني في "الرؤية"(158)، وابن منده في "الردّ على الجهميّة"(86)، والحاكم (1/ 524)، واللالكائي في "الاعتقاد"(844 و 845)، والبيهقي في "الصفات"(244 و 247)؛ من طرق، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عمّار

رفعه.

وعطاء اختلط، لكن في الرواة عنه هنا حمّاد بن زيد، وروايته عنه صحيحة.

وله أوجه أُخرى موقوفة عند ابن فضيل في "الدعاء"(82) وابن أبي شيبة (29339) وأبي يعلى (1624)، ولا تضرّه بعد أن صحّ مرفوعًا. ولذلك صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي والألباني.

(2)

يعني: محبّة الموت.

(3)

لكن أوّل الحديث يدفع هذا الاستنتاج؛ فإنّ فيه: "اللهم أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي". فبان أنّ سؤال لذّة النظر إلى وجه الرحمن والشوق إلى لقائه لا يقتضي حبّ الموت واستعجاله بالضرورة.

(4)

(ضعيف بهذا التمام). سيأتي تفصيل القول فيه (ص 655 - 656).

ص: 651

مستوحشٌ، بينَهُ وبينَ مولاهُ وحشةُ الذُّنوبِ، فهوَ يَكْرَهُ لقاءَ ربِّهِ، ولا بدَّ لهُ منهُ.

قالَ ذو النُّونِ: كلُّ مطيعٍ مستأْنسٌ، وكلُّ عاصٍ مستوحشٌ.

وفي هذا يَقولُ بعضُهُم:

أمُسْتَوْحِشٌ أنْتَ مِمَّا جَنَيْتَ

فَأحْسِنْ إذا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ

قالَ أبو بَكْرٍ الصَدِّيقُ لِعُمَرَ رضي الله عنهما في وصيَّتِهِ لهُ عندَ موتِهِ: إنْ حَفِظْتَ وصيَّتي؛ لمْ يكُنْ غائبٌ أحبَّ إليكَ مِن الموتِ ولا بدَّ لكَ منهُ، وإنْ ضَيَّعْتَها؛ لم يَكُنْ غائبٌ أكرَهَ إليكَ مِن الموتِ ولنْ تُعْجِزَهُ

(1)

.

قالَ أبو حازِمٍ: كلُّ عملٍ تَكْرَهُ الموتَ مِن أجلِهِ فاتْرُكْهُ ثمَّ لا يَضُرُّكَ متى مُتَّ.

العاصي يَفِرُّ مِن الموتِ لكراهيةِ لقاءِ اللهِ، وأينَ يَفِرُّ مَن هوَ في قبضةِ مَن يَطْلُبُهُ؟!

أيْنَ المَفَرُّ وَالإلهُ الطَّالِبُ

وَالمُجْرِمُ المَغْلوبُ لَيْسَ الغالِبُ

سُئِلَ أبو حازِمٍ: كيفَ القدومُ على اللهِ؟ قالَ: أمَّا الطَّائعُ؛ فكقدومِ الغائبِ على أهلِهِ المشتاقينَ إليهِ، وأمَّا العاصي؛ فكقدومِ الآبقِ على سيِّدهِ الغضبانِ.

رُئِيَ بعضُ الصَّالحينَ في النَّومِ، فقيلَ لهُ: ما فَعَلَ اللهُ بكَ؟ قالَ: خيرًا، لمْ يُرَ مثلُ الكريمِ إذا حَلَّ بهِ المطيعُ.

الدُّنيا كلُّها شهرُ صيامِ المتَّقينَ، وعيدُ فطرِهِم يومَ لقاءِ ربِّهِم. كما قيلَ:

وَقَدْ صُمْتُ عَنْ لَذَّاتِ دَهْرِيَ كُلِّها

وَيَوْمَ لِقاكُمْ ذاكَ فِطْرُ صِيامي

• ومنها: تمنِّي الموتِ على غيرِ الوجوهِ المتقدِّمةِ. فقدِ اخْتَلَفَ العلماءُ في كراهتِهِ

(1)

زاد في حاشية خ هنا: "قال في "الآداب الكبرى": لما احتضر أبو بكر أرسل إلى عمر رضي الله عنهما فقال: يا عمر! إن وليت على الناس؛ فاتّق الله والزم الحقّ؛ فإنّما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتّباعهم الحقّ في الدنيا وثقله عليهم، وحقّ لميزان إذا وضع فيه الحقّ غدًا أن يكون ثقيلًا، وإنّما خفّت موازين من خفّت موازينه يوم القيامة باتّباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم، وحقّ لميزان وضع فيه الباطل أن يكون خفيفًا. واعلم أنّ لله عملًا بالليل لا يقبله بالنهار وعملًا بالنهار لا يقبله بالليل، وأنّه لا يقبل نافلة حتّى تؤدّى الفريضة. وإن الله عز وجل ذكر أهل الجنّة بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيّئاتهم فإذا ذكرتهم قلت إنّي لخائف أن لا ألحق بهم، وإنّ الله ذكر أهل النار بأسوأ أعمالهم وردّ عليهم حسنها فإذا ذكرتهم قلت إنّي لخائف أن أكون مع هؤلاء، وإن الله عز وجل ذكر آية الرحمة مع آية العذاب ليكون المؤمن راهبًا راغبًا لا يتمنّى على الله ولا يقنط من رحمته. فإن أنت حفظت وصيّتي

إلى آخر ما ذكره في الأصل" اهـ.

ص: 652

واستحبابِهِ، وقد رَخَّصَ فيهِ جماعةٌ مِن السَّلفِ وكَرِهَهُ آخرونَ، وحَكى بعضُ أصحابِنا عن أحْمَدَ في ذلكَ روايتينِ، ولا يَصِحُّ؛ فإنَّ أحْمَدَ إنَّما نَصَّ على كراهةِ تمنِّي الموتِ لضررِ الدُّنيا وعلى جوازِ تمنِّيهِ خشيةَ الفتنةِ في الدِّينِ. وربَّما أدْخَلَ بعضُهُم في هذا الاختلافِ القسمَ الذي قبلَهُ، وفي ذلكَ نظرٌ.

واسْتَدَلَّ مَن كَرِهَهُ بعمومِ النَّهيِ عنهُ، كما في حديثِ جابرٍ الذي ذَكَرْناهُ، وفي معناهُ أحاديثُ أُخرُ يَأْتي بعضُها إنْ شاءَ اللهُ تَعالى.

• وقد عُلِّلَ النَّهيُ عن تمنِّي الموتِ في حديثِ جابرٍ بعلَّتينِ:

• إحداهُما: أنَّ هولَ المطَّلَعِ شديدٌ، وهولُ المطَّلعِ هوَ ما يُكْشَفُ للميِّتِ عندَ حضورِ الموتِ مِن الأهوالِ التي لا عهدَ لهُ بشيءٍ منها في الدُّنيا مِن رؤيةِ الملائكةِ ورؤيةِ أعمالِهِ مِن خيرٍ أو شرِّ وما يُبَشَّرُ بهِ عندَ ذلكَ مِن الجنَّةِ والنَّارِ، هذا مع ما يَلْقاهُ مِن شدَّةِ الموتِ وكربِهِ وغصصِهِ.

وفي الحديثِ الصَّحيحِ: "إذا حُمِلَتِ الجنازةُ وكانَتْ صالحةً؛ قالَتْ: قَدِّموني قَدِّموني، وإنْ كانَتْ غيرَ ذلكَ؛ قالَتْ: يا ويلَها! أينَ تَذْهَبونَ بها؟ يَسْمَعُ صوتَها كلُّ شيءٍ إلَّا الإنسانَ، ولو سَمِعَها الإنسانُ لَصَعِقَ"

(1)

.

قالَ الحَسَنُ: لو عَلِمَ ابنُ ادَمَ أن لهُ في الموتِ راحةً وفرحًا؛ لَشَقَّ عليهِ أنْ يَأْتِيَهُ الموتُ؛ لِما يَعْلَمُ مِن فظاعتِهِ وشدَّتِهِ وهولهِ، فكيفَ وهوَ لا يَعْلَمُ ما لهُ في الموتِ مِن نعيمٍ دائمٍ أو عذابٍ مقيمٍ

(2)

؟!

بَكى النَّخَعِيُّ عندَ احتضارِهِ وقالَ: أنْتَظِرُ ملكَ الموتِ لا أدْري يُبَشِّرُني بالجنَّةِ أوِ النَّارِ.

فالمتمنِّي للموتِ كأنَّهُ يَسْتَعْجِلُ حلولَ البلاءِ، وإنَّما أُمِرْنا بسؤالِ العافيةِ.

وسَمعَ ابنُ عُمَرَ رجلًا يَتَمَنَّى الموتَ، فقالَ: لا تَتَمَنَّ الموتَ؛ فإنَّكَ ميِّتٌ، ولكنْ

(1)

رواه البخاري (23 - الجنائز، 50 - حمل الرجال الجنازة، 3/ 181/ 1314) عن أبي سعيد.

(2)

وهذا والله قول ورثة الأنبياء، وبه وبما بعده يتبيّن لك بطلان دعوى من قال "ما يكره الموت إلّا مريب"، كما بيّنته (ص 650).

ص: 653

سَلِ الله العافيةَ.

قالَ إبْراهيمُ بنُ أدْهَمَ: إنَّ للموتِ كأْسًا لا يَقْوى عليها إلَّا خائفٌ وَجِلٌ مطيعٌ للهِ كانَ يَتَوَقَّعُها.

وقالَ أبو العَتاهِيَةِ:

ألا لِلْمَوْتِ كَأْسٌ أيُّ كَاسِ

وَأنْتَ لِكَأْسِهِ لا بُدَّ حاسي

إلى كَمْ وَالمَماتُ إلى قَريبٍ

تُذَكَّرُ بِالمَماتِ وأنْتَ ناسي

جَزِعَ الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ عليهما السلام عندَ موتِهِ وقالَ: إنِّي أُريدُ أنْ أُشْرِفَ على ما لمْ أُشْرِفْ عليهِ قطُّ.

وبَكَى الحَسَنُ البَصْرِيُّ عندَ موتِهِ وقالَ: نُفَيْسَةٌ ضعيفةٌ وأمرٌ مهولٌ عظيمٌ، وإنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ.

وكانَ حَبيبٌ العَجَمِيُّ عندَ موتِهِ يَبْكي ويَقولُ: إنِّي أُريدُ أنْ أُسافِرَ سفرًا ما سافَرْتُهُ قطُّ، وأسْلُكَ طريقًا ما سَلَكْتُهُ قطُّ، وأزورَ سيِّدي ومولايَ وما رَأيْتُهُ قطُّ، وأُشْرِفَ على أهوالٍ ما شاهَدْتُها قطُّ.

فهذا كلُّهُ مِن هولِ المطَّلعِ الذي قَطَعَ قلوبَ الخائفينَ، حتَّى قالَ عُمَرُ عندَ موتِهِ: لو أن لي ما في الأرضِ لافْتَدَيْتُ بهِ مِن هولِ المطَّلعِ.

ومِن هولِ المطَّلعِ: ما يُكْشَفُ للميِّتِ عندَ نزولِهِ قبرَهُ مِن فتنةِ القبرِ؛ فإنَّ الموتى يُفْتَنونَ بالمسألةِ في قبورِهِم مثلَ أو قريبًا مِن فتنةِ المسيحِ الدَّجَّالِ، وما يُكْشَفُ لهُم في قبورِهِم عن منازلِهِم مِن الجنَّةِ والنَّارِ، وما يَلْقَوْنَ مِن ضمَّةِ القبرِ وضيقِهِ وهولِهِ وعذابِهِ إنْ لمْ يُعافِ اللهُ مِن ذلكَ.

ولأبي العَتاهِيَةِ يَبْكي نفسَهُ:

لأَبْكِيَنَّ عَلى نَفْسي وَحُقَّ لِيَهْ

يا عَيْنُ لا تَبْخَلي عَنِّي بِعَبْرَتِيَهْ

يا هَوْلَ مُطَّلَعي يا ضيقَ مُضْطَجَعي

يا نَأْيَ مُنْتَجَعي يا بُعْدَ شُقَّتِيَهْ

رُئِيَ بعضُ الصَّالحينَ في المنامِ بعدَ موتِهِ، فسُئِلَ عن حالِهِ، فأنْشَدَ:

وَلَيْسَ يَعْلَمُ ما في القَبْرِ داخِلُهُ

إِلَّا الإلهُ وساكِنُ الأجْداثِ

ص: 654

كانَ سُفْيانُ يُنْشِدُ:

إنَّ امْرَءًا يَصْفو لَهُ عَيْشُهُ

لَغافِلٌ عَمَّا تُجِنُّ القُبورُ

نَحْنُ بَنو الأرْضِ وَسُكَّانُها

مِنْها خُلِقْنا وَإلَيْها نَصيرُ

• والعلَّةُ الثَّانيةُ: أن المؤمنَ لا يَزيدُهُ عمرُهُ إلَّا خيرًا، فمِن سعادتِهِ أنْ يَطولَ عمرُهُ ويَرْزُقَهُ اللهُ الإنابةَ إليهِ والتَّوبةَ مِن ذنوبِهِ السَّالفةِ والاجتهادَ في العملِ الصَّالحِ، فإذا تَمَنَّى الموتَ؛ فقد تَمَنَّى انقطاعَ عملِهِ الصَّالحِ، فلا يَنْبَغي لهُ ذلكَ.

ورَوى إبْراهيمُ الحَرْبِيُّ مِن روايةِ: ابن لَهِيعَةَ، عن ابن الهادِ، عن ابنِ المُطَّلِبِ، عن أبيهِ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:"السَّعادةُ كلُّ السَّعادةِ طولُ العمرِ في طاعةِ اللهِ عز وجل"

(1)

.

وقد رُوِيَ هذا المعنى عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن وجوهٍ متعدِّدةٍ:

ففي "صحيح البُخارِيِّ"

(2)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"لا يَتَمَنَّيَنَّ أحدُكُمُ الموتَ: إمَّا محسنًا فلَعَلَّهُ أنْ يَزْدادَ خيرًا، وإمَّا مسيئًا فلَعَلَّهُ أنْ يُسْتَعْتَبَ".

وفي "صحيح مُسْلِم"

(3)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"لا يَتَمَنَّيَنَّ أحدُكُمُ الموتَ ولا يَدْعُ بهِ مِن قبلِ أنْ يَأْتِيَهُ، إنَّهُ إذا ماتَ أحدُكُمُ انْقَطَعَ عملُهُ، وإنَّهُ لا يَزيدُ المؤمنَ عمرُهُ إلَّا خيرًا".

وفي "مسند الإمام أحْمَد": عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "لا يَتَمَنَّيَنَّ أحدُكُمُ الموتَ ولا يَدْعُ بهِ مِن قبلِ أنْ يَأْتِيَهُ؛ إلَّا أنْ يَكونَ قد وَثِقَ بعملِهِ؛ فإنَّهُ إنْ ماتَ

(1)

(حسن لغيره). رواه: ابن زنجويه (1093 - البيان والتعريف)، والحربي (655 - لطائف المعارف)، والخطيب في "التاريخ"(6/ 16)؛ من طريق ابن لهيعة، عن ابن الهاد، عن [ابن] المطّلب، عن أبيه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

فذكره. وابن لهيعة قد عرف حاله، لكن في الرواة عنه قتيبة بن سعيد، وروايته عنه جيّدة. وابن المطّلب اثنان صدوقان عبد العزيز والحكم. ورواية المطّلب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرسلة.

وله شاهد ضعيف من حديث ابن عمر عند القضاعي في "الشهاب"(312).

وشاهد من حديث جابر تقدّم أوّل المجلس.

والحديث ضعّفه العراقي، وقال العجلوني:"حسن لغيره"، وهو أولى بالصواب إن شاء الله.

(2)

(75 - المرضى، 19 - تمنّي المريض الموت، 10/ 127/ 5673).

(3)

(48 - الذكر والدعاء، 4 - تمنّي الموت، 4/ 2065/ 2682).

ص: 655

أحدُكُمُ انْقَطَعَ عنهُ عملُهُ، [و] إنَّهُ لا يَزيدُ المؤمنَ عمرُهُ إلَّا خيرًا"

(1)

.

وفيهِ: عن أُمِّ الفَضْلِ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ العَبَّاسَ وهوَ يَشْتكي يَتَمَنَّى الموتَ، فقالَ:"لا تَتَمَنَّ الموتَ؛ فإنَّكَ إنْ كنْتَ محسنًا تَزْدادُ إحسانًا إلى إحسانِكَ، وإنْ كُنْتَ مسيئًا فأنْ تُؤَخَّرَ تَسْتَعْتِبُ مِن إساءتِكَ خيرٌ لكَ"

(2)

.

وفيهِ أيضًا: عن أبي أُمَامَةَ؛ قالَ: جَلَسْنا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فذَكَّرَنا ورَقَّقَنا. فبَكى سَعْدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ فأكْثَرَ البكاءَ وقالَ: يا لَيْتَني مُتُّ. فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يا سَعْدُ! إنْ كُنْتَ خُلِقْتَ للجنَّةِ؛ فما طالَ مِن عمرِكَ وحَسُنَ مِن عملِكَ، فهوَ خيرٌ لكَ"

(3)

.

وفي المعنى أحاديثُ أُخرُ كثيرةٌ، كلُّها تَدُلُّ على النَّهيِ عن تمنِّي الموتِ بكلِّ حالٍ وأنَّ طولَ عمرِ المؤمنِ خيرٌ لهُ؛ فإنَّهُ يَزْدادُ فيهِ خيرًا.

(1)

(صحيح لشواهده دون قوله "إلّا أن يكون وثق بعمله" فإنّه ضعيف). رواه أحمد (2/ 350): ثنا حسن، ثنا ابن لهيعة، ثنا أبو يونس، عن أبي هريرة

رفعه. قال الهيثمي (10/ 209): "فيه ابن لهيعة، وهو مدلّس وفيه ضعف وقد وثّق، وبقية رجاله رجال الصحيح". قلت: إعلاله بتدليس ابن لهيعة غير متّجه؛ فقد صرّح بالتحديث، إنّما العلّة في اختلاط ابن لهيعة ورواية حسن عنه بعد اختلاطه.

ولقوله "إلّا أن يكون وثق بعمله" شاهد عند الطبراني في "الكبير"(10/ 209 - مجمع)، لكنّه واه، قال الهيثمي:"فيه جماعة لم أعرفهم". ولباقي الحديث شواهد كثيرة منها ما تقدّم وما يأتي، فهو بها صحيح.

(2)

(صحيح لشواهده). رواه: ابن سعد (4/ 23)، وأحمد (6/ 339)، والحارث (1082 و 1083 - زوائد الهيثمي)، وأبو يعلى (7076)، والطبراني (25/ 28/ 44)، والحاكم (1/ 339)؛ من طرق، عن يزيد بن الهاد، عن هند بنت الحارث، عن أُمّ الفضل

رفعته.

قال الحاكم: "على شرط الشيخين"، ووافقه المنذري والذهبي! وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 205):"رجال الصحيح، غير هند بنت الحارث، فإن كانت هي القرشيّة أو الفارسيّة فقد احتجّ بها في الصحيح، وإن كانت الخثعميّة فلم أعرفها". قلت: هي الخثعميّة، مجهولة، لم يوثّقها إلّا ابن حبّان ولم يرو عنها إلّا يزيد، والسند ضعيف من أجلها، وإنّما صحّحه الحاكم والمنذري والذهبي لظنّهم أنّها القرشيّة.

لكنّ القسم المرفوع من هذا الحديث صحيح بما قبله وبعده.

(3)

(ضعيف جدًّا). رواه: أحمد (5/ 266)، والعقيلي (3/ 476)، والطبراني (8/ 217/ 1870)، وابن عساكر في "التاريخ"(20/ 337)، وابن الجوزي في "الواهيات"(1369)؛ من طريق عليّ بن يزيد الألهاني، عن القاسم، عن أبي أُمامة

رفعه.

عدّه العقيلي والذهبي في منكرات القاسم. وقال ابن الجوزي: "لا يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعرف إلّا بالقاسم". قلت: نعم؛ للقاسم مناكير، لكن الأولى هنا ما قاله الهيثمي (10/ 206):"فيه عليّ بن يزيد الألهاني وهو ضعيف". قلت: جدًّا في حدّ الترك. وقال العسقلاني: "سند ليّن".

ص: 656

وهذا، قد قيلَ: إنَّهُ يَدْخُلُ فيهِ تمنِّيه للشَّوقِ إلى لقاءِ اللهِ، وفيهِ نظرٌ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قد تَمَنَّاهُ في تلكَ الحالِ

(1)

.

• واخْتَلَفَ السَّالكونَ: أيُّما أفضلُ؛ مَن تَمَنَّى الموتَ شوقًا إلى لقاءِ اللهِ، أو مَن تَمَنَّى الحياةَ رغبةً في طاعةِ اللهِ، أو مَن فَوَّضَ الأمرَ إلى اللهِ ورَضِيَ باختيارِهِ لهُ ولم يَخْتَرْ لنفسِهِ شيئًا؟

واسْتَدَلَّ طائفةٌ مِن الصَّحابةِ على تفضيلِ الموتِ على الحياةِ بقولِ اللهِ عز وجل: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [آل عمران: 198]

(2)

.

ولكنَّ الأحاديثَ الصَّحيحةَ تَدُلُّ على أنَّ عمرَ المؤمنِ كلَّما طالَ ازْدادَ بذلكَ ما لَهُ عندَ اللهِ مِن الخيرِ، فلا يَنْبَغي لهُ أنْ يَتَمَنَّى انقطاعَ ذلكَ، اللهمَّ! إلَّا أنْ يَخْشى الفتنةَ على دينِهِ؛ فإنَّهُ إذا خَشِيَ الفتنةَ على دينِهِ؛ فقد خَشِيَ أنْ يَفوتَهُ ما عندَ اللهِ مِن الخيرِ ويَتَبَدَّلَ ذلكَ بالشَّرِّ، عياذًا باللهِ مِن ذلكَ، والموتُ خيرٌ مِن الحياةِ على هذهِ الحالِ.

قالَ مَيْمونُ بنُ مِهْرانَ: لا خيرَ في الحياةِ إلَّا لتائبٍ أو رجلٍ يَعْمَلُ في الدَّرجاتِ. يَعْني: أن التَّائبَ يَمْحو بالتَّوبةِ ما سَلَفَ مِن السَّيِّئاتِ، والعاملُ يَجْتَهِدُ في علوِّ الدَّرجاتِ، ومَن عداهُما فهوَ خاسرٌ.

كما قالَ تَعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]. فأقْسَمَ اللهُ تَعالى أن كلَّ الإنسانِ خاسرٌ إلَّا مَنِ اتَّصَفَ بهذهِ الأوصافِ الأربعةِ: الإيمانِ، والعملِ الصَّالحِ، والتَّواصي بالحقِّ، والتَّواصي بالصَّبرِ على الحقِّ. فهذهِ السُّورةُ ميزانٌ [لـ]ـلأعمالِ، يَزِنُ المؤمنُ بها نفسَهُ فيَتَبَيَّنُ لهُ بها ربحُهُ مِن خسرانِهِ، ولهذا قالَ الشَّافِعِيُّ: لو فَكَّرَ النَّاسُ

(1)

أين تمنّي الموت في قوله صلى الله عليه وسلم: "أسألك لذّة النظر إلى وجهك وشوقًا إلى لقائك"؟! وإن قال الرجل: اللهمّ! أسألك الجنّة؛ فهل يعدّ هذا تمنّيًا للموت؟! كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم في الدعاء نفسه: "اللهمّ! أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي"؟!

(2)

لا ريب أنّ ما عند الله خير للعبد المؤمن ممّا له في الدنيا مهما عظم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"ما من نفس مسلمة، لها عند الله خير، يقبضها ربّها، ثمّ تحبّ أن ترجع إليكم"، لكنّ هذا شيء وتمنّي الموت شيء آخر. فتنبّه ولا تخلط بين الأمرين.

ص: 657

كلُّهُم فيها؛ لكَفَتْهُم.

رَأى بعضُ المتقدِّمينَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في منامِهِ. فقالَ لهُ: أوْصِني. فقالَ لهُ: مَنِ اسْتَوى يوماهُ فهوَ مغبونٌ، ومَن كانَ يومُهُ شرًّا مِن أمسِهِ فهوَ ملعونٌ، ومَن لمْ يَتَفَقَّدِ الزِّيادةَ في عملِهِ فهوَ في نقصانٍ، ومَن كانَ في نقصانٍ فالموتُ خيرٌ لهُ

(1)

.

قالَ بعضُهُم: كانَ الصِّدِّيقونَ يَسْتَحْيونَ مِن اللهِ أنْ يَكونوا اليومَ على مثلِ حالِهِمِ بالأمسِ. يُشيرُ إلى أنَّهُم كانوا لا يَرْضَوْنَ كلَّ يومٍ إلَّا بالزِّيادةِ مِن عملِ الخيرِ، ويَسْتَحْيون مِن فقدِ ذلكَ ويَعُدُّونَهُ خسرانًا

(2)

، [كما قيلَ]:

ألَيْسَ مِنَ الخُسْرانِ أنَّ لَيالِيًا

تَمُرُّ بِلا نَفْعٍ وَتُحْسَبُ مِنْ عُمْري

• فالمؤمنُ القائمُ بشروطِ الإيمانِ لا يَزْدادُ بطولِ عمرِهِ إلَّا خيرًا، ومَن كانَ كذلكَ فالحياةُ خيرٌ لهُ مِن الموتِ.

وفي دعاءِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ! اجْعَلِ الحياةَ زيادةً لي في كلِّ خيرٍ، والموتَ راحةً لي مِن كلِّ شرٍّ". خَرَّجَهُ مسلمٌ

(3)

.

وفي "التِّرْمِذِيِّ" عنهُ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ سُئِلَ: أيُّ النَّاسِ خيرٌ؟ قالَ: "مَن طالَ عمرُهُ وحَسُنَ عملُهُ". قيلَ: فأيُّ النَّاسِ شرٌّ؟ قالَ: "مَن طالَ عمرُهُ وساءَ عملُهُ"

(4)

.

وفي "المسند" وغيرِهِ: أن نفرًا ثلاثةً قَدِموا على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فأسْلَموا، فكانوا عندَ

(1)

هذا المتقدّم هو واحد من مشايخ القوم على الأغلب! وكلامه هذا منكر جدًّا من منكرات كلامهم! ثمّ إنّه تجرّأ ونسبه للنبيّ صلى الله عليه وسلم وهمًا أو بهتانًا! وإذا كان العبد على عمل صالح، ثمّ داوم عليه اتّباعًا لسنّة النبيّ صلى الله عليه وسلم في المداومة على الصالحات، ثمّ لم يزد على ذلك في اليوم التالي اتّباعًا لسنّته صلى الله عليه وسلم في عدم الغلوّ ومشادّة الدين وخشية الانقطاع؛ فأيّ غبن في هذا؟! هذا الغبن المزعوم كان حال الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم! وإذا أقبل العبد على ربّه مدّة واسترسل في النوافل، ثمّ مرّت به أيّام أدبر فيها قلبه فارتدّ إلى الفرائض ولم يقصّر فيها؛ فهل يستحقّ اللعنة؟! أما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"ولكن ساعة وساعة"؟! وقوله: "ومن كان في نقصان فالموت خير له" معارضة صريحة لنهيه صلى الله عليه وسلم المسيء عن تمنّي الموت لعلّه يستعتب؛ أي: يتوب ويستغفر! فهذه عيّنة من عبارات القوم ووصاياهم، يظنّها المرء للوهلة الأولى من أحسن الكلام وأطيبه، فإذا تفكّر فيها ووزنها بميزان العلم الذي لا يخيب حامله؛ ظهر له ما فيها من الهجنة والنكارة.

(2)

وألحق هذا بالذي قبله. والله المستعان.

(3)

(48 - الذكر والدعاء، 18 - التعوّذ من شرّ ما عمل، 4/ 2087/ 2720) من حديث أبي هريرة.

(4)

(صحيح بشواهده). تقدّم تفصيل القول في هذا (ص 222).

ص: 658

طَلْحَةَ. فبَعَثَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بعثًا، فخَرَجَ فيهِ أحدُهُم فاسْتُشْهِدَ. ثمَّ بَعَثَ بعثًا آخرَ، فخَرَجَ آخرُ منهُم فاسْتُشْهِدَ. ثمَّ ماتَ الثَّالثُ على فراشِهِ. قالَ طَلْحَةُ: فرَأيْتُهُم في الجنَّةِ، ورَأيْتُ الميِّتَ على فراشِهِ أمامَهُم، ورَأيْتُ الذي اسْتُشْهِدَ آخرًا يَليهِ، ورَأيْتُ الذي اسْتُشْهِدَ أوَّلَهُم آخرَهُم. فأتَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذَكَرْتُ ذلكَ لهُ، فقالَ:"وما أنْكَرْتَ مِن ذلكَ؟ ليس أفضلَ عندَ اللهِ عز وجل مِن مؤمنٍ يُعَمَّرُ في الإسلامِ لتسبيحِهِ وتكبيرِهِ وتهليلِهِ"

(1)

. وفي روايةٍ؛ قالَ: "ألَيْسَ قد مَكَثَ هذا بعدَهُ سنةً؟ ". قالوا: بلى. قالَ: "وأدْرَكَ رمضانَ فصامَهُ؟ ". قالوا: بلى. قالَ: "وصَلَّى كذا وكذا سجدةً في السَّنةِ؟ ". قالوا: بلى. قالَ: "فلَما بينَهُما أبعدُ ممَّا بينَ السَّماءِ والأرضِ"

(2)

.

قيلَ لبعضِ السَّلفِ: طابَ الموتُ. قالَ: لا تَفْعَلْ، لساعةٌ تَعيشُ فيها تَسْتَغْفِرُ الله عز وجل خيرٌ لكَ مِن موتِ الدَّهرِ.

وقيلَ لشيخٍ كبيرٍ منهُم: تُحِبُّ الموتَ؟ قالَ: لا. قيلَ: ولمَ؟ قالَ: ذَهَبَ الشَّبابُ وشرُّهُ، وجاءَ الكبرُ وخيرُهُ، فإذا قُمْتُ قُلْتُ: بسمِ اللهِ، وإذا قَعَدْتُ قُلْتُ: الحمدُ للهِ، فأنا أُحِبُّ أنْ يَبْقى لي هذا.

وقيلَ لشيخٍ آخرَ منهُم: ما بَقِيَ ممَّا تُحِبُّ لهُ الحياةَ؟ قالَ: البكاءُ على الذُّنوبِ.

ولهذا كانَ السَّلفُ الصَّالحونَ يَتَأسَّفونَ عندَ موتِهِم على انقطاعِ أعمالِهِم عنهُم بالموتِ.

وبَكى مُعاذٌ عندَ موتِهِ وقالَ: إنَّما أبْكي على ظَمَأ الهواجرِ وقيامِ ليلِ الشِّتاءِ ومزاحمةِ العلماءِ بالرُّكبِ عندَ حلقِ الذِّكرِ.

وبَكى عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الأسْوَدِ عندَ موتِهِ وقالَ: وا أسفاهُ على الصَّومِ والصَّلاةِ! ولم يَزَلْ يَتْلو القرآنَ حتَّى ماتَ.

وبَكى يَزيدُ الرِّقاشِيُّ عندَ موتِهِ وقالَ: أبْكي على ما يَفوتُني مِن قيامِ الليلِ وصيامِ النَّهارِ. ثمَّ بَكى وقالَ: مَن يُصَلِّي لكَ يا يَزيدُ بعدَكَ؟ ومَن يَصومُ؟ ومَن يَتَقَرَّبُ لكَ

(1)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول في هذا (ص 349).

(2)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول في هذا (ص 349).

ص: 659

بالأعمالِ الصَّالحةِ؟ ومَن يَتوبُ لكَ مِن الذُّنوبِ السَّالفةِ؟

وجَزِعَ بعضُهُم عندَ موتِهِ وقالَ: إنَّما أبْكي على أنْ يَصومَ الصَّائمونَ للهِ ولَسْتُ فيهِم ويُصَلِّيَ المصلُّونَ ولَسْتُ فيهِم ويَذْكُرَ الذَّاكرونَ ولَسْتُ فيهِم، فذلكَ الذي أبْكاني.

تَحَمَّلَ أصْحابي وَلَمْ يَجِدوا وَجْدي

وَلِلنَّاسِ أشْجانٌ وَلي شَجَنٌ وَحْدي

أُحِبُّكُمُ ما دُمْتُ حَيًّا فَإنْ أمُتْ

فَوا أَسَفا مِمَّنْ يُحِبُّكُمُ بَعْدي

في "التِّرْمِذِيِّ": عن أبي هُرَيْرَةَ مرفوعًا: "ما مِن ميِّتٍ ماتَ إلَّا نَدِمَ: إنْ كانَ محسنًا نَدِمَ أنْ لا يَكونَ ازْدادَ، وإنْ كانَ مسيئًا نَدِمَ أنْ لا يَكونَ اسْتَعْتَبَ"

(1)

.

إذا كانَ المحسنُ يَنْدَمُ على تركِ الزِّيادةِ؛ فكيفَ يَكونُ حالُ المسيءِ؟!

رَأى بعضُ المتقدِّمينَ في المنامِ قائلًا يَقولُ لهُ: قُلْ:

يا خَدُّ إنَّكَ إنْ تُوَسَّدْ لَيِّنا

وُسِّدْتَ بَعْدَ المَوْتِ صُمَّ الجَنْدَلِ

فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ في حَياتِكَ صالِحًا

فَلَتَنْدَمَنَّ غَدًا إذا لَمْ تَفْعَلِ

ورَأى آخرُ في المنامِ قائلًا يَقولُ لهُ:

إنْ كُنْتَ لا تَرْتابُ أنَّكَ مَيِّتٌ

وَلَسْتَ لِبَعْدِ المَوْتِ ما أنْتَ تَعْمَلُ

فَعُمْرُكَ ما يُغْني وَأنْتَ مُفَرِّطٌ

وَإسْمُكَ في المَوْتى مُعَدٌّ مُحَصَّلُ

رُئِيَ بعضُ الموتى في المنامِ، فقالَ: ما عندَنا أكثرُ مِن النَّدامةِ، وما عندَكُم أكثرُ مِن الغفلةِ.

وُجِدَ على قبرٍ مكتوبٌ:

نَدِمْتُ عَلى ما كانَ منِّي نَدامَةً

وَمَنْ يَتَّبِعْ ما تَشْتَهي

(2)

النَّفْسُ يَنْدَمُ

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن المبارك في "الزهد"(33)، والترمذي (37 - الزهد، 58 - باب، 4/ 603/ 2403)، وابن عدي (7/ 2660)، وأبو نعيم (8/ 178)، والبيهقي في "الزهد"(710)، والذهبي في "الميزان"(4/ 395)؛ من طريق يحيى بن عبيد الله بن موهب، سمعت أبي، سمعت أبا هريرة

رفعه.

قال الترمذي: "يحيى بن عبيد الله قد تكلّم فيه شعبة". وقال أبو نعيم: "غريب من حديث يحيى".

ورمز السيوطي له بالصحّة وردّه المناوي بقوله: "ضعّفه المنذري، وقال الذهبي: يحيى ضعّفوه، ووالده قال أحمد: له مناكير". وقال الألباني: "ضعيف". قلت: يحيى متروك، وأبوه مجهول، والسند واه.

(2)

في خ: "ما تطلب"، وما أثبتّه من م و ن و ط أقوى.

ص: 660

ألَمْ تَعْلَموا أنَّ الحِسابَ أمامَكُمْ

وَأنَّ وَراكُمْ طالِبًا لَيْسَ يَسْأمُ

فَخافُوا لِكَيْما تَأْمَنوا بَعْدَ مَوْتِكُمْ

سَتَلْقَوْنَ ربًّا عادِلًا لَيْسَ يَظْلِمُ

فَلَيْسَ لِمَغْرورٍ بِدُنْياهُ راحَةٌ

سَيَنْدَمُ إنْ زَلَّتْ بهِ النَّعْلُ فَاعْلَموا

الموتى في قبورِهِم يَتَحَسَّرونَ على زيادةٍ في أعمالِهِم بتسبيحةٍ أو بركعةٍ، ومنهُم مَن يَسْألُ الرَّجعةَ إلى الدُّنيا لذلكَ فلا يَقْدِرونَ على ذلكَ قد حيلَ بينَهُم وبينَ العملِ وغَلِقَتْ منهُمُ الرُّهونُ.

ورُئِيَ بعضُهُم في المنامِ فقالَ: قَدِمْنا على أمرٍ عظيمٍ، نَعْلَمُ ولا نَعْمَلُ، وأنتُم تَعْمَلونَ ولا تَعْلَمونَ! واللهِ؛ لتسبيحةٌ أو تسبيحتانِ أو ركعةٌ أو ركعتانِ في صحيفةِ أحدِنا أحبُّ إليهِ مِن الدُّنيا وما فيها.

قالَ بعضُ السَّلفِ: كلُّ يومٍ يَعيشُ فيهِ المؤمنُ غنيمةٌ.

وقالَ بعضُهُم: بقيَّةُ عمرِ المؤمنِ لا قيمةَ لهُ. يَعْني: أنَّهُ يُمْكِنُهُ أنْ يَمْحُوَ فيهِ ما سَلَفَ مهنهُ مِن الذُّنوبِ بالتَّوبةِ، وأنْ يَجْتَهِدَ فيهِ في بلوغِ الدَّرجاتِ العاليةِ بالعملِ الصَّالحِ. فأمَّا مَن فَرَّطَ في بقيَّةِ عمرِهِ؛ فإنَّهُ خاسرٌ، فإنِ ازْدادَ فيهِ مِن الذُّنوبِ؛ فذلكَ هوَ الخسرانُ المبينُ.

الأعمالُ بالخواتيمِ: مَن أصْلَحَ فيما بَقِيَ غُفِرَ لهُ ما مَضى، ومَن أساءَ فيما بَقِيَ أُخِذَ بما بَقِيَ وما مَضى

(1)

.

يا بائِعَ عُمْرِهِ مُطيعًا أمَلَهْ

في مَعْصِيَةِ اللهِ كَفِعْلِ الجَهَلَهْ

إنْ ساوَمَكَ الجَهْلُ بِباقيهِ فَقُلْ

باقي عُمُرِ المُؤْمِنِ لا قيمَةَ لَهْ

• ما مَضى مِن العمرِ وإنْ طالَتْ أوقاتُه فقد ذَهَبَتْ لذَّاتُهُ وبَقِيَتْ تبعاتُه، وكأنَّهُ لم يَكُنْ إذا جاءَ الموتُ وميقاتُه.

قالَ اللهُ تَعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207].

(1)

في خ: "أخذ بما أخذ وما مضى"، وهذا سبق قلم صوابه ما أثبتّه من م و ن و ط.

ص: 661

تلا بعضُ السَّلفِ هذهِ الآيةَ وبَكى وقالَ: إذا جاءَ الموتُ؛ لمْ يُغْنِ عن المرءِ ما كانَ فيهِ مِن اللذَّةِ والنَّعيمِ.

وفي هذا المعنى ما أنْشَدَهُ أبو العَتَاهِيَةِ للرَّشيدِ حينَ بَنى قصرَهُ واسْتَدْعى إليهِ ندماءَهُ.

عِشْ ما بَدا لَكَ سالِمًا

في ظِلِّ شاهِقَةِ القُصورِ

يُسْعى عَلَيْكَ بِما اشْتَهَيْـ

ـتَ لَدى الرَّواحِ وفي البُكورِ

فَإذا النُّفوسُ تَقَعْقَعَتْ

في ضيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدورِ

فَهُناكَ تَعْلَمُ موقِنًا

ما كُنْتَ إلَّا في غُرورِ

في "صحيح البُخارِي"

(1)

: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "أعْذَرَ اللهُ إلى مَن بَلَّغَـ[ـهُ] ستِّينَ مِن عمرِهِ".

وفي "التِّرْمِذِيِّ": "أعمارُ أُمَّتي ما بينَ السِّتِّينَ إلى السَّبعينَ، وأقلُّهُم مَن يَجوزُ ذلكَ"

(2)

. وفي روايةٍ: "حصادُ أُمَّتي"

(3)

.

مَن بَلَغَ الخمسينَ؛ فقد تنصَّفَ المئةَ، فماذا يَنْتَظِرُ؟!

لَهْفي عَلى خَمْسينَ عامًا [قَدْ] مَضَتْ

كانَتْ أمامي ثُمَّ خَلَّفْتُها

لَوْ كانَ عُمْري مئةً هَدَّني

تَذَكُّري أنِّي تَنَصَّفْتُها

في بعضِ الكتبِ السَّالفةِ: إنَّ للهِ مناديًا يُنادي كلَّ يومٍ: أبناءَ الخمسينَ! زرعٌ دَنا حصادُهُ. أبناءَ السِّتِّينَ! هَلُمُّوا إلى الحسابِ. أبناءَ السَّبعينَ! ماذا قَدَّمْتُمْ وماذا أخَّرْتم؟ أبناءَ الثَّمانينَ! لا عذرَ لكُم.

لَيْتَ الخلقَ لم يُخْلَقوا! ولَيْتَهُم إذ خُلِقوا عَلِموا لماذا خُلِقوا وتَجالَسوا بينَهُم فتذاكَروا ما عَمِلوا! ألا أتَتْكُمُ السَّاعةُ فخُذوا حذرَكُم.

وقالَ وهبٌ

(4)

: إنَّ للهِ مناديًا يُنادي في السَّماءِ الرَّابعةِ كلَّ صباحٍ: أبناءَ الأربعين!

(1)

(81 - الرقاق، 5 - من بلغ الستّين، 11/ 238/ 6419) من حديث أبي هريرة.

(2)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 248).

(3)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 249).

(4)

رواه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 158) من حديث وهيب بن الورد عن وهب بن منبّه، فنسبته صحيحة إلى الاثنين.

ص: 662

زرعٌ دَنا حصادُهُ، أبناءَ الخمسينَ! ماذا قَدَّمْتُمْ وماذا أخَّرْتُم؟ أبناءَ السِّتِّينَ! لا عذرَ لكُم.

وفي حديثٍ: "إنَّ الله تَعالى يَقولُ للحفظةِ: ارْفُقوا بالعبدِ ما دامَ في حداثةٍ، فإذا بَلَغَ الأربعينَ؛ حَقِّقا وتَحَفَّظا"

(1)

. فكانَ بعضُ رواتِهِ يَبْكي عندَ روايتِهِ ويَقولُ: حينَ كَبِرَتِ السِّنُّ ورَقَّ العظمُ وَقَعَ التَّحفُّظُ.

قالَ مَسْروقٌ: إذا أتَتْكَ الأربعونَ؛ فخُذْ حذرَكَ.

وقالَ النَّخَعِيُّ: كانَ يُقالُ لصاحبِ الأربعينَ: احْتَفِظْ بنفسِكَ.

وكانَ كثيرٌ مِن السَّلفِ إذا بَلَغَ الأربعينَ تَفَرَّغَ للعبادةِ.

وقالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ: تَمَّتْ حجَّةُ اللهِ على ابن الأربعينَ. فماتَ لها.

ورَأى في منامِهِ قائلًا يَقولُ لهُ:

إذا [ما] أتَتْكَ الأرْبَعونَ فَعِنْدَها

فَاخْشَ الإلهَ وَكُنْ لِلْمَوْتِ حَذَّارا

(2)

يا أبناءَ العشرينَ! كم ماتَ مِن أقرانِكُم وتَخَلَّفْتُم. يا أبناءَ الثَّلاثينَ! أُصِبْتُمْ بالشَّبابِ على قربٍ مِن العهدِ فما تأسَّفْتُم. يا أبناءَ الأربعينَ! ذَهَبَ الصِّبا وأنتُم على اللهوِ قد عَكَفْتُم. يا أبناءَ الخمسينَ! [قد] تنصَّفْتُمُ المئةَ وما أنْصَفْتُم. يا أبناءَ السِّتِّينَ! أنتُم على معتركِ المنايا قد أشْرَفْتُم، أتَلْهُونَ وتَلْعَبونَ؟! لقد أسْرَفْتُم!

وَإذا تَكامَلَ لِلْفَتى مِنْ عُمْرِهِ

خَمْسونَ وَهْوَ إلى التُّقى لا يَجْنَحُ

عَكَفَتْ عَلَيْهِ المُخْزِياتُ فَما لَهُ

مُتَأخَّرٌ عَنْها ولا مُتَزَحْزَحُ

وَإذا رَأى الشَّيْطانُ غُرَّةَ وَجْهِهِ

حَيَّا وقالَ فَدَيْتُ مَنْ لا يُفْلِحُ

قالَ الفُضَيْلُ لرجلٍ: كم أتى عليكَ؟ قالَ: ستُّونَ سنةً. قالَ لهُ: [أنتَ] منذُ ستِّينَ سنةً تَسيرُ إلى ربِّكَ يوشِكُ أنْ تَصِلَ.

وَإنَّ امْرَأً قَدْ سارَ سِتِّينَ حِجَّةً

إلى مَنْهَلٍ مِنْ وِرْدِهِ لَقَريبُ

• يا مَن يَفْرَحُ بكثرةِ مرورِ السِّنينَ عليهِ! إنَّما تَفْرَحُ بنقصِ عمرِكَ.

(1)

(لم أقف عليه).

(2)

الشطر الأوّل من البحر الطويل والشطر الثاني من البسيط!

ص: 663

قالَ أبو الدَّرْداءِ والحَسَنُ

(1)

: إنَّما أنتَ أيَّامٌ، كلَّما مَضى منكَ يومٌ؛ مَضى بعضُكَ.

[وأنْشَدَ بعضُهُم]:

إنَّا لَنَفْرَحُ بِالأيَّامِ نَقْطَعُها

وَكُلُّ يَوْمٍ مَضى يُدْني مِنَ الأجَلِ

فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ المَوْتِ مُجْتَهِدًا

فَإنَّما الرِّبْحُ وَالخُسْرانُ في العَمَلِ

قالَ بعضُ الحكماءِ: كيفَ يَفْرَحُ بالدُّنيا مَن يومُهُ يَهْدِمُ شهرَهُ، وشهرُهُ يَهْدِمُ سنتَهُ، وسنتُهُ تَهْدِمُ عمرَهُ؟! كيفَ يَفْرَحُ مَن يَقودُهُ عمرُهُ إلى أجلِهِ وحياتُهُ إلى موتِهِ؟!

تَزيدُ سُرورًا

(2)

بِالهِلالِ إذا بَدا

وَما هُوَ إلَّا السَّيْفُ لِلْحَتْفِ يُنْتَضَى

إذا قيلَ تَمَّ العامُ فَهْوَ كِنايَةٌ

وَتَرْجَمَةٌ عَنْ شَطْرِ عُمْرٍ قَدِ انْقَضى

قالَ الحَسَنُ: الموتُ معقودٌ بنواصيكُم، والدُّنيا تُطْوى مِن ورائِكُم.

نَسيرُ إلى الآجالِ في كُلِّ لَحْظَةٍ

وَأعْمارُنا تُطْوى وَهُنَّ مَراحِلُ

تَرَحَّلْ مِن الدُّنْيا بِزادٍ مِنَ التُّقى

فَعُمْرُكَ أيَّامٌ وَهُنَّ قَلائِلُ

قالَ بعضُ الحكماءِ: مَن كانَتِ الليالي والأيَّامُ مطاياهُ؛ سارَتْ بهِ وإنْ لمْ يَسِرْ.

وما هذهِ الأيَّامُ إلَّا مَراحِلٌ

يَحُثُّ بِها حادٍ إلى المَوْتِ قاصِدُ

وَأعْجَبُ شَيْءٍ لَوْ تَأمَّلْتَ أنَّها

مَنازِلُ تُطْوى وَالمُسافِرُ قاعِدُ

قالَ بعضُ الحكماءِ: قدِ اعْتَوَرَكَ الليلُ والنَّهارُ، فالليلُ يَدْفَعُكَ إلى النَّهارِ والنَّهارُ يَدْفَعُكَ إلى الليلِ، حتَّى يَأْتِيَكَ الموتُ.

أيا وَيْحَ نَفْسي مِنْ نَهارٍ يَقودُها

إلى عَسْكَرِ المَوْتى وَلَيْلٍ يَذودُها

• يا مَن كلَّما طالَ عمرُهُ زادَ ذنبُه! يا مَن كلَّما أبْيَضَّ شعرُهُ بمرورِ الأيَّامِ اسْوَدَّ بالآثامِ قلبُه!

شَيْخٌ كَبيرٌ لَهُ ذُنوبُ

تَعْجِزُ عَنْ حَمْلِها المَطايا

قَدْ بَيَّضَتْ شَعْرَهُ الليالي

وَسَوَّدَتْ قَلْبَهُ الخَطايا

يا مَن تَمُرُّ عليهِ سنةٌ بعدَ سنة وهوَ مستثقلٌ في نومِ الغفلةِ والسِّنة! يا مَن يَأْتي عليهِ

(1)

كذا في خ و ن و ط، وفي م:"قال الحسن عن أبي الدرداء".

(2)

في خ: "تجدد سرورًا"! وفي ن: "نجد سرورًا"! والصواب ما أثبتّه من م.

ص: 664

عامٌ بعدَ عام وقد غَرِقَ في بحرِ الخطايا فهامَ

(1)

! يا مَن يُشاهِدُ الآياتِ والعبرَ كلَّما توالَتْ عليهِ الأعوامُ والشُّهور، ويَسْمَعُ الآياتِ والسُّورَ ولا يَنْتَفِعُ بما يَسْمَعُ ولا بما يَرى مِن عظائمِ الأُمور! ما الحيلةُ فيمَن سَبَقَ عليهِ الشَّقاءُ في الكتابِ المسطور؟! {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]! {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].

خَليلَيَّ كَمْ مِنْ مَيِّتٍ قَدْ حَضَرْتُهُ

وَلكِنَّني لَمْ أنْتَفِعْ بِحُضوري

وَكَمْ مِنْ لَيالي قَدْ أرَتْني عَجائِبًا

لَهُن وَأيَّامٍ خَلَتْ وَشُهورِ

وَكَمْ مِنْ سِنينٍ قَدْ طَوَتْني كَثيرَةٍ

وَكَمْ مِنْ أُمورٍ قَدْ جَرَتْ وَأُمورِ

وَمَنْ لَمْ يَزِدْهُ السِّنُّ ما عاشَ عِبْرَةً

فَذاكَ الَّذي لا يَسْتَنيرُ بِنورِ

* * * * *

(1)

في خ و ن: "فعام"، وله وجه، والأولى ما أثبتّه من م و ط.

ص: 665

‌فصل ويلتحق بوظائف شهور السنة الهلالية وظائف فصول السنة الشمسية

وفيهِ ثلاثةُ مجالسَ:

‌المجلس الأول في ذكر فصل الربيع

خَرَّجا في الصَّحيحينِ

(1)

من حديثِ: أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكُم ما يُخْرِجُ اللهُ لكُم مِن بركاتِ الأرضِ". قيلَ: ما بركاتُ الأرضِ؟ قالَ: "زهرةُ الدُّنيا". فقالَ لهُ رجلٌ: "هل يَأْتي الخيرُ بالشَّرِّ؟ ". فصَمَتَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُنْزَلُ عليهِ. ثمَّ جَعَلَ يَمْسَحُ عن جبينِهِ. قالَ: "أينَ السَّائلُ؟ ". قالَ: أنا. قالَ: "لا يَأْتي الخيرُ إلَّا بالخيرِ، إنَّ هذا المالَ خضرةٌ حلوةٌ، وإنَّ كلَّ ما أنْبَتَ الرَّبيعُ تقْتُلُ حبطًا أو يُلِمُّ، إلَّا آكلةَ الخضرِ، أكَلَتْ، حتَّى إذا امْتَدَّتْ خاصرتاها؛ اسْتَقْبَلَتِ الشَّمسَ، فاجْتَرَّتْ وثَلَطَتْ وبالَتْ، ثمَّ عادَتْ فأكَلَتْ. وإنَّ هذا المالَ خضرةٌ حلوةٌ، مَن أخَذَهُ بحقِّهِ ووَضَعَهُ في حقِّهِ؛ فنِعْمَ المعونةُ هوَ، وإنْ أخَذَهُ بغيرِ حقِّهِ؛ كانَ كالذي يَأْكُلُ ولا يَشْبَعُ".

• كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّفُ على أُمَّتِهِ مِن فتحِ الدُّنيا عليهِم، فيَخافُ عليهِمُ الافتتانَ بها.

ففي الصَّحيحين

(2)

: عن عَمْرِو بن عَوْفٍ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ للأنصارِ لمَّا جاءَهُ مالُ

(1)

البخاري (81 - الرقاق، 7 - ما يحذر من زهرة الدنيا، 11/ 244/ 6427)، ومسلم (12 - الزكاة، 41 - تخوّف ما يخرج من زهرة الدنيا، 2/ 727/ 1052).

(2)

البخاري (الموضع السابق، 11/ 243/ 6425)، ومسلم (53 - الزهد، 4/ 2273/ 2961).

ص: 666

البحرينِ: "أبْشِروا وأمِّلوا ما يَسُرُّكُم، فواللهِ؛ ما الفقرَ أخْشى عليكُم، ولكنْ أخْشى عليكُم أنْ تُبْسَطَ الدُّنيا عليكُم كما بُسِطَتْ على مَن كانَ قبلَكُم، فتَنافَسوها كما تَنافَسوها، فتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُم".

وكانَ آخرَ خطبةٍ خَطَبَها على المنبرِ حَذَّرَ [فيها] مِن زهرةِ الدُّنيا. ففي الصَّحيحين

(1)

: عن عُقْبَةَ بن عامِرٍ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم صَعِدَ المنبرَ، فقالَ:"إنِّي لَسْتُ أخشى عليكُم أنْ تُشْرِكوا بعدي، ولكنِّي أخشى عليكُمُ الدُّنيا أنْ تَنافَسوا فيها فتَقْتَتِلوا فتَهْلِكوا كما هَلَكَ مَن كانَ قبلَكُم". قالَ عُقْبَةُ: فكانَ آخرَ ما رَأيْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم على المنبرِ.

وفي "صحيح مسلم"

(2)

: عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرٍو؛ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "إذا فُتِحَتْ عليكُم خزائنُ فارسَ والرُّومِ؛ أيُّ قومٍ أنتُم؟ ". فقالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عَوْفٍ: نَقولُ كما أمَرَنا اللهُ. فقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أو غيرَ ذلكَ! تَتَنافَسونَ، ثمَّ تَتَحاسَدونَ، ثمَّ تَتَدابَرونَ، ثمَّ تَتَباغَضونَ".

وفي "المسند": عن عُمَرَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"لا تُفْتَحُ الدُّنيا على أحدٍ إلَّا ألْقى اللهُ بينَهُمُ العداوةَ والبغضاءَ إلى يومِ القيامةِ". قالَ عُمَرُ: وأنا أشْفِقُ مِن ذلكَ

(3)

.

وفيهِ أيضًا: عن أبي ذَرٍّ؛ أنَّ أعرابيًّا قالَ: يا رسولَ اللهِ! أكَلَتْنا الضَّبُعُ (يَعْني: السَّنةَ والجدبَ). فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "غيرُ ذلكَ أخوفُ منِّي عليكُم، حينَ تُصَبُّ عليكُمُ الدُّنيا صبًّا، فليتَ أُمَّتي لا يَلْبَسونَ الذَّهبَ (وفي روايةٍ: الدِّيباجَ) "

(4)

.

(1)

البخاري (الموضع السابق، 11/ 243/ 6426)، ومسلم (43 - الفضائل، 9 - إثبات الحوض، 4/ 1795/ 2296).

(2)

(53 - الزهد، 4/ 2274/ 2962).

(3)

(ضعيف). رواه: أحمد (1/ 16)، وعبد بن حميد (44)، وابن أبي عاصم في "الزهد"(276)، والبزّار (311)، وأبو يعلى في "الكبير"(3/ 125، 10/ 239 - مجمع)؛ من طريق الحسن بن موسى، ثنا ابن لهيعة، ثنا أبو الأسود، ثنا محمّد بن عبد الرحمن بن لبيبة، عن أبي سنان الدئلي، عن عمر

رفعه.

قال المنذري والهيثمي مرّة: "إسناده حسن". وقال الهيثمي مرّة: "فيه ابن لهيعة وفيه كلام"، قلت: خلّط، ورواية الحسن بن موسى عنه بعد اختلاطه. وابن أبي لبيبة لا يعدو أن يكون حسنًا في الشواهد بل هو ضعيف. فالسند ضعيف، وقد ضعّفه الألباني.

(4)

(حسن لشواهده). رواه: الطيالسي (447)، وابن أبي شيبة (34374)، وأحمد (5/ 152 و 154 =

ص: 667

وفيهِ أيضًا: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"ما أخشى عليكُمُ الفقرَ، ولكنْ أخْشى عليكُمُ التَّكاثرَ"

(1)

.

ويُروى مِن حديثِ: عَوْفِ بن مالِكٍ وأبي الدَّرْداءِ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"الفقرَ تَخافونَ؟ والذي نفسي بيدِهِ؛ لَتُصَبَّنَّ عليكُمُ الدُّنيا صبًّا حتَّى لا يُزيغَ قلبَ أحدِكُم إنْ أزاغَهُ إلَّا هيَ"

(2)

.

= و 178 و 368)، والحارث (586 - هيثمي)، والبزّار (3984 - 3986)، والطبراني في "الأوسط"(3976)، والبيهقي في "الشعب"(10315)، من طرق، عن يزيد بن أبي زياد (وفي الأوسط: الحارث بن أبي زياد، وسقط عند ابن أبي شيبة)، عن زيد بن وهب، عن أبي ذرّ

رفعه. قال البزّار: "لا نعلم له طريقًا غير هذه". وقال المنذري والهيثمي (10/ 240): "رجال الصحيح". قلت: يزيد ضعيف كبر فصار يتلقّن.

ورواه الطبراني في "الأوسط"(9433) من طريق هشيم، عن عبيدة بن معتب، عن ربعيّ بن حراش، عن حذيفة

رفعه. قال الهيثمي (5/ 146): "فيه عبيدة بن معتب وهو متروك". قلت: إنّما تكلّموا فيه من جهة سوء حفظه وتخليطه، نعم؛ هو واه وليس بالمتروك الساقط.

ورواه الطبراني في "الكبير"(5/ 146 - مجمع). قال الهيثمي: "فيه راو لم يسمّ والمسعوديّ اختلط". فهذه ثلاثة أوجه يفيد اجتماعها أنّ لهذا الحديث أصلًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأحاديث الصحيحين المتقدّمة آنفًا تزيدنا ثقة بقوّة هذا الأصل، وإلى تقويته مال المنذري والهيثمي.

(1)

(صحيح). رواه: أحمد (2/ 308 و 539)، والحارث بن أبي أُسامة، وابن حبّان (3222)، والحاكم (2/ 534)، وأبو نعيم في "الحلية"(4/ 99)، والبيهقي في "الشعب"(10314)؛ من طرق، عن جعفر بن برقان، سمعت يزيد بن الأصمّ، عن أبي هريرة

رفعه.

قال الحاكم: "على شرط مسلم"، ووافقه المنذري والذهبي والمناوي والألباني. وقال المنذري والهيثمي (3/ 124، 10/ 239): "رجال الصحيح".

(2)

(صحيح لشواهده). رواه: أحمد (6/ 24)، وابن أبي عاصم في "الزهد"(210)، والبزّار (7/ 189/ 2758)، والطبراني في "الكبير"(18/ 52/ 93) و"الشاميّين"(1150)، وابن عساكر؛ من طرق، عن بقيّة، ثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، [عن جبير بن نفير]، عن عوف بن مالك

رفعه. قال المنذري: "في إسناده بقيّة". وقال الهيثمي (10/ 248): "رجاله وثقوا؛ إلّا أنّ بقيّة مدلّس وإن كان عن ثقة".

قلت: صرّح بالتحديث، والسند ثقات مشهورون برواية أحدهم عن الآخر.

ورواه: ابن ماجه (المقدّمة، 1 - اتّباع السنّة، 1/ 4/ 5)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(47) مختصرًا؛ من طريق هشام بن عمّار، ثنا محمّد بن عيسى بن سميع، ثنا إبراهيم بن سليمان الأفطس، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء

رفعه. وهذا سند لا بأس به، رجاله ثقات، وفي هشام ومحمّد كلام يسير.

وبمجموع هذين الحديثين يرتقي هذا المتن إلى رتبة الحسن بلا ريب، بل هو فوق ذلك، ثمّ يصحّ بشواهد له كثيرة بعضها من مخرجات الصحيحين، وقد قوّاه الألباني.

ص: 668

وفي روايةِ عَوْفٍ

(1)

: "فإنَّ الله فاتحٌ عليكُم فارسَ والرُّومَ".

وفي المعنى أحاديثُ أُخرُ.

وفي "التِّرْمِذِيِّ": أنَّهُ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لكلِّ أُمَّةٍ فتنةٌ، وإنَّ فتنةَ أُمَّتي المالُ"

(2)

.

• فقولُهُ صلى الله عليه وسلم في حديثِ أبي سَعيدٍ: "إنَّ أخوفَ ما أخافُ عليكُم ما يُخْرِجُ اللهُ لكُم مِن بركاتِ الأرضِ"، ثمَّ فسَّرَهُ بزهرةِ الدُّنيا، ومرادُهُ: ما يُفْتَحُ على أُمَّتِهِ منها مِن ملكِ فارِسَ والرُّومِ وغيرِهِم مِن الكفَّارِ الذينَ وَرِثَتْ هذهِ الأُمَّةُ ديارَهُم وأموالَهُم وأراضيَهُم التي تَخْرُجُ منها زروعُهُم وثمارُهُم وأنهارُهُم ومعادنُهُم، وغيرُ ذلكَ ممَّا يَخْرُجُ مِن بركاتِ الأرضِ. وهذا مِن أعظمِ المعجزاتِ، وهوَ إخبارُهُ صلى الله عليه وسلم بظهورِ أُمَّتِهِ على كنوزِ فارسَ والرُّومِ وأموالِهِم وديارِهِم، ووَقَعَ [على] ما أخْبَرَ بهِ.

ولكنَّهُ لمَّا سَمَّى ذلكَ بركاتِ الأرضِ، وأخْبَرَ أنَّهُ أخوفُ ما يَخافُـ[ـهُ] عليهِم؛ أشْكَلَ ذلكَ على بعضِ مَن سَمِعَهُ، حيثُ سَمَّاهُ بركةً ثمَّ خافَ منهُ أشدَّ الخوفِ؛ فإنَّ البركةَ إنَّما هيَ خيرٌ ورحمةٌ.

وقد سَمَّى اللهُ تَعالى المالَ خيرًا في مواضعَ كثيرةٍ مِن القرآنِ: فقالَ: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]. وقالَ: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]. وقالَ عن سُلَيْمانَ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص:

(1)

(صحيح لشواهده). قطعة من حديث عوف بن مالك المتقدّم في الحاشية السابقة. فلها حكمه. ثمّ لها شواهد كثيرة من مخرّجات الشيخين وغيرهما. فهي صحيحة بشواهدها.

(2)

(صحيح). رواه: ابن سعد (7/ 414) معلّقًا، وأحمد (4/ 160)، والبخاري في "التاريخ"(7/ 222)، والترمذي (37 - الزهد، 26 - فتنة هذه الأُمّة المال، 4/ 569/ 2336)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2516)، والنسائي في "الكبرى"(11129 - تحفة)، والطحاوي في "المشكل"، وابن قانع في "المعجم"(2/ 374/ 920)، وابن حبّان (3223)، والطبراني في "الكبير"(19/ 179/ 404) و"الأوسط"(3319) و"الشاميين"(2027)، والحاكم (4/ 318)، والقضاعي في "المسند"(1022 و 1023)، والبيهقي في "الشعب"(10309)، والمزّي في "التهذيب"(24/ 187 و 188 و 198)؛ من طرق، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن كعب بن عياض

رفعه.

قال الترمذي: "حسن صحيح"، وأقرّه المنذري. وقال الحاكم:"صحيح"، وأقرّه المنذري والذهبي.

وصحّحه أيضًا ابن حبّان وابن عبدالبرّ والألباني. ومعاوية بن صالح صدوق قويّ الحديث. ثمّ له شاهدان من حديث عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي أوفى يصحّ بهما.

ص: 669

32].

• فلمَّا سَألَهُ السَّائلُ: هل يَأْتي الخيرُ بالشَّرِّ؟ صَمَتَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم حتَّى ظَنُّوا أنَّهُ أُوحِيَ إليهِ. والظَّاهرُ أن الأمرَ كانَ كذلكَ، ويَدُلُّ عليهِ أنَّهُ وَرَدَ في روايةٍ لمُسْلِمٍ

(1)

في هذا الحديثِ: "فأفاقَ يَمْسَحُ عنهُ الرُّحَضاءَ"، وهوَ العرقُ، وكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا أُوحِيَ إليهِ يَتَحَدَّرُ منهُ مثلُ الجُمانِ مِن العرقِ مِن شدَّةِ الوحيِ وثقلِهِ عليهِ

(2)

. وفي هذا دليلٌ على أنَّهُ كانَ صلى الله عليه وسلم إذا سُئِلَ عن شيءٍ لمْ يَكُنْ أُوحِيَ إليهِ فيهِ شيءٌ؛ انْتَظَرَ الوحيَ فيهِ، ولمْ يَتكَلَّمْ فيهِ بشيءٍ حتَّى يُوحى إليهِ فيهِ.

• فلمَّا نَزَلَ عليهِ جوابُ ما سُئِلَ عنهُ؛ قالَ: "أينَ السَّائلُ؟ ". قالَ: ها أنا. فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ الخيرَ لا يَأْتي إلَّا بالخيرِ". وفي روايةٍ لمسلمٍ

(3)

: فقالَ: "أوَ خيرٌ هوَ؟ ". وفي ذلكَ دليلٌ على أن المالَ ليسَ بخيرٍ على الإطلاقِ، بل منهُ خيرٌ ومنهُ شرٌّ.

ثمَّ ضَرَبَ مثلَ المالِ ومثلَ مَن يَأْخُذُهُ بحقِّهِ ويَصْرِفُهُ في حقِّهِ ومَن يَأْخُذُهُ مِن غيرِ حقِّهِ ويَصْرِفُهُ في غيرِ حقِّهِ. فالمالُ في حقِّ الأوَّلِ خيرٌ، وفي حقِّ الثَّاني شرٌّ. فتَبَيَّنَ بهذا أن المالَ ليسَ بخيرٍ مطلقٍ، بل هوَ خيرٌ مقيَّدٌ: فإنِ اسْتَعانَ بهِ المؤمنُ على ما يَنْفَعُهُ في آخرتِهِ؛ كانَ خيرًا لهُ، وإلَّا؛ كانَ شرًّا لهُ.

• فأمَّا المالُ؛ فقالَ: إنَّهُ "خضرةٌ حلوة"، وقد وُصِفَ المالُ والدُّنيا بهذا الوصفِ في أحاديثَ كثيرةٍ:

ففي الصَّحيحينِ

(4)

: عن حَكيمِ بن حِزامٍ؛ أنَّهُ سَألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأعْطاهُ، ثمَّ سَألَهُ فأعْطاهُ، ثمَّ سَألَهُ فأعْطاهُ، [ثمَّ] سَألَهُ فقالَ لهُ صلى الله عليه وسلم: "يا حَكيمُ! إنَّ هذا المالَ خضرةٌ حلوةٌ، فمَن أخَذَهُ بسخاوةِ نفسٍ؛ بورِكَ لهُ فيهِ، ومَن أخَذَهُ بإشرافِ نفسٍ؛ لمْ يُبارَكْ لهُ

(1)

(12 - الزكاة، 41 - تخوّف ما يخرج من زهرة الدنيا، 2/ 728/ 1052).

(2)

رواه: البخاري (1 - بدء الوحي، 2 - باب، 1/ 18/ 2)، ومسلم (43 - الفضائل، 23 - عرقه صلى الله عليه وسلم، 4/ 1816/ 2333)؛ من حديث عائشة.

(3)

(12 - الزكاة، 41 - تخوّف ما يخرج من زهرة الدنيا، 2/ 727/ 1052).

(4)

البخاري (24 - الزكاة، 50 - الاستعفاف عن المسألة، 3/ 335/ 1472)، ومسلم (12 - الزكاة، 32 - اليد العليا خير من السفلى، 2/ 717/ 1035).

ص: 670

فيهِ، وكانَ كالذي يَأْكُلُ ولا يَشْبَعُ".

وفي "صحيح مُسْلِمٍ"

(1)

: عن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إنَّ الدُّنيا خضرةٌ حلوةٌ، وإنَّ الله مستخلفُكُم فيها فناظرٌ كيفَ تَعْمَلونَ. فاتَّقوا الدُّنيا، واتَّقوا النِّساءَ؛ فإنَّ أوَّلَ فتنةِ بني إسرائيلَ كانَتْ في النِّساءِ".

واستخلافُهُم فيها هوَ ما أوْرَثَهُمُ اللهُ منها ممَّا كانَ في أيدي الأُممِ مِن قبلِهِم كفارِسَ والرُّومِ. وحَذَّرَهُم مِن فتنةِ الدُّنيا وفتنةِ النِّساءِ خصوصًا؛ فإنَّ النِّساءَ أوَّلُ ما ذَكَرَهُ اللهُ مِن شهواتِ الدُّنيا ومتاعِها في قولِهِ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران: 14].

وفي "المسند" و"التِّرْمِذِيِّ": عن خَوْلَةَ بنتِ قَيْسٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "إنَّ هذا المالَ خضرةٌ حلوةٌ، فمَن أصابَهُ بحقِّهِ بورِكَ لهُ فيهِ، وربَّ متخوِّضٍ فيما شاءَتْ نفسُهُ مِن مالِ اللهِ ورسولِهِ ليسَ لهُ يومَ القيامةِ

(2)

إلَّا النَّارُ"

(3)

.

(1)

(48 - الذكر والدعاء، 26 - أكثر أهل الجنّة، 4/ 2098/ 2742).

(2)

في خ: "له في يوم القيامة"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(3)

(صحيح). رواه: عبد الرزّاق (6962)، والحميدي (353)، وابن أبي شيبة (34371)، وإسحاق (1/ 268/ 3)، وأحمد (4/ 364 و 410)، وعبد بن حميد (1587)، والبخاري في "التاريخ"(5/ 450 و 451)، والترمذي (37 - الزهد، 41 - أخذ المال، 4/ 587/ 2374)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(3259 - 3262) و"الزهد"(152)، وابن أبي حاتم في "العلل"(616)، وابن الأعرابي (96 - 99)، والطحاوي في "مشكل الآثار"، وابن حبّان (2892 و 4512)، والطبراني في "الكبير"(24/ 577 - 587) و"الأوسط"(5314)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 64، 7/ 311) و"المعرفة"(4/ 293 - إصابة)، والقضاعي (1143)، والبيهقي في "الشعب"(10304)، والخطيب (5/ 191)، والمزّي (19/ 251)؛ من طريق أبي الوليد عبيد سنوطا؛ قال: دخلت على خولة بنت قيس وكانت تحت حمزة

رفعته. وهذا سند لا بأس به، جاء عن سنوطا من وجهين قويّين، وسنوطا تابعيّ روى عنه آثنان وذكره ابن حبّان في "الثقات" ووثّقه العجلي وحسّن له الترمذي وقوّى أمره الذهبي والعسقلاني، فحديث أمثاله لا بأس به، ولا سيّما أنّه توبع.

فرواه: البخاري في "التاريخ"(5/ 450)، والطبراني (24/ 231/ 588)، وابن منده (4/ 293 - إصابة)، والبيهقي في "الشعب"(5913) مختصرًا، والخطيب في "الجمع والتفريق"(1/ 143، 2/ 73)؛ من طريق عيسى بن النعمان من ولد رافع، ثني معاذ بن رفاعة بن رافع، عن خولة بنت قيس

رفعته. وعيسى ذكره ابن حبّان في "الثقات" وروى عنه جماعة فحديثه لا بأس به والسند كذلك.

ص: 671

وفي "المسند" أيضًا: عن خَوْلَةَ بنتِ تامِرٍ الأنْصارِيَّةِ

(1)

، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إنَّ هذهِ الدُّنيا خضرةٌ حلوةٌ، وإنَّ رجالًا يَتَخَوَّضونَ في مالِ اللهِ بغيرِ حقٍّ لهُمُ النَّارُ يومَ القيامةِ"

(2)

.

وخَرَّجَ البُخارِيُّ

(3)

مِن قولِهِ "إنَّ رجالًا" إلى آخرِهِ.

وفي "المسند" أيضًا: عن عائِشَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إن هذهِ الدُّنيا خضرة حلوةٌ، فمَن آتَيْناهُ منها شيئًا بطيبِ نفسٍ أو طيبِ طعمةٍ ولا إشرافٍ؛ بورِكَ لهُ فيهِ، ومَن آتيْناهُ منها شيئًا بغيرِ طيبِ نفسٍ منَّا وغيرِ طيبِ طعمةٍ وإشرافٍ منهُ؛ لمْ يُبارَكْ لهُ فيهِ"

(4)

.

وفي المعنى أحاديثُ أُخرُ.

• وقولُهُ صلى الله عليه وسلم "إنَّ ممَّا يُنْبِتُ

(5)

الرَّبيعُ يَقْتُلُ حَبَطًا أو يُلِمُّ؛ إلَّا آكلةَ الخضرِ" مثلٌ آخرُ

= ورواه البخاري في "التاريخ"(5/ 450) من طريق قويّة، عن عثمان بن محمّد، عن حنظلة بن قيس الزرقي، عن امرأة حمزة

رفعته. وقد تكلّموا في عثمان، وحديثه حسن في الشواهد على الأقلّ.

فالحديث صحيح بهذه الطرق وغيرها ممَّا سيأتي بعده. وقد قوّاه الترمذي والعسقلاني والألباني.

(1)

قال العسقلاني في "الفتح"(6/ 219): "فرّق غير واحد بين خولة بنت ثامر وبين خولة بنت قيس، وقيل: إنّ قيس بن فهد لقبه ثامر، وبذلك جزم عليّ بن المديني، فعلى هذا فهي واحدة" اهـ. قلت: وبذلك جزم جماعة من أهل العلم، واتّفاق لفظي الحديثين دليل قويّ على صحّة هذا المذهب، وصنيع البخاري في "تاريخه" يدلّ على أنّه يميل إلى ما ذهب إليه شيخه عليّ بن المديني. والله أعلم.

(2)

(صحيح). رواه: أحمد (6/ 410)، وعبد بن حميد (1586)، والبخاري في "التاريخ"(5/ 450)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(3272) و"الزهد"(153)، والطبراني (24/ 242/ 617)، والمزّي في "التهذيب"(35/ 165)؛ من طريقين قويّتين، عن محمّد بن عبد الرحمن أبي الأسود، عن النعمان بن أبي عيّاش، عن خولة بنت ثامر

رفعته.

وهؤلاء ثقات رجال الشيخين، وأبو الأسود هو يتيم عروة، فالسند صحيح، وحسبك به صحّة أنّ البخاري رواه مختصرًا من هذه الطريق نفسها. وانظر ما بعده.

(3)

(57 - الخمس، 7 - فأنّ لله خمسه، 6/ 217/ 3118).

(4)

(صحيح لشواهده). رواه: أحمد (6/ 68)، والبزّار (920 - كشف)، وابن حبّان (3215)؛ من طريق شريك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة

رفعته.

قال المنذري في "الترغيب"(1231): "إسناد حسن". وقال الهيثمي (3/ 103): "رجال الصحيح".

قلت: شريك سيّئ الحفظ، وحديثه لا يعدو أن يكون صالحًا في الشواهد، ومسلم إنّما روى له في المتابعات.

نعم؛ يشهد له حديث حكيم بن حزام المتّفق عليه الذي تقدّم آنفًا فهو به صحيح.

(5)

في خ: "إنّ ممّا أنبت"، وأثبتّ ما في م و ن و ط لموافقته متن الحديث.

ص: 672

ضَرَبَهُ صلى الله عليه وسلم لزهرةِ الدُّنيا وبهجةِ منظرِها وطيبِ نعيمِها وحلاوتِهِ في النُّفوسِ. فمثلُهُ كمثلِ نباتِ الرَّبيعِ، وهوَ المرعى الخضرُ الذي يَنْبُتُ في زمانِ الرَّبيعِ؛ فإنَّهُ يُعْجِبُ الدَّوابَّ التي تَرْعى فيهِ وتَسْتَطيبُهُ وتكْثِرُ [مِن] الأكلِ منهُ أكثرَ مِن قدرِ حاجتِها لاستحلائِها لهُ: فإمَّا أنْ يَقْتُلَها فتَهْلِكَ وتَموتَ حَبَطًا - والحَبَطُ: انتفاخُ البطنِ مِن كثرةِ الأكلِ - أو يُقارِبَ قتلَها ويُلِمَّ بهِ فتَمْرَضَ منهُ مرضًا مخوفًا مقاربًا للموتِ.

فهذا مثلُ مَن يَأْخُذُ مِن الدُّنيا بشرهٍ وجوعِ نفسٍ مِن حيثُ لاحَتْ لهُ؛ لا بقليلٍ يَقْنَعُ، ولا بكثيرٍ يَشْبَعُ، ولا يُحَلِّلُ ولا يُحَرِّمُ، بل الحلالُ [عندَهُ] ما حَلَّ بيدهِ وقَدَرَ عليهِ، والحرامُ عندَهُ ما مُنعَ منهُ وعَجَزَ عنهُ.

فهذا هوَ المتخوِّضُ في مالِ اللهِ ورسولِهِ فيما شاءَتْ نفسُهُ وليسَ لهُ إلَّا النَّارُ يومَ القيامةِ، كما في حديثِ خَوْلَةَ المتقدِّمِ.

والمرادُ بمالِ اللهِ ومالِ رسولِهِ: الأموالُ التي يَجِبُ على ولاةِ الأُمورِ حفظُها وصرفُها في طاعةِ اللهِ ورسولِهِ مِن أموالِ الفيءِ والغنائمِ، ويَتْبَعُ ذلكَ مالُ الخراجِ والجزيةِ، وكذلكَ أموالُ الصَّدقاتِ التي تُصْرَفُ للفقراءِ والمساكينِ كمالِ الزَّكاةِ والوقفِ ونحوِ ذلكَ.

وفي هذا تنبيهٌ على أنَّ مَن تَخَوَّضَ مِن الدُّنيا في الأموالِ المحرَّمِ أكلُها - كمالِ الرِّبا ومالِ الأيتامِ الذي مَن أكَلَهُ أكَلَ نارًا والمغصوبِ والسَّرقةِ والغشِّ في البيوعِ والخداعِ والمكرِ وجحدِ الأماناتِ والدَّعاوى الباطلةِ ونحوِها مِن الحيلِ المحرَّمةِ - أولى أنْ يَتَخَوَّضَ صاحبُها في نارِ جهنَّمَ غدًا. فكلُّ هذهِ الأموالِ وما أشْبَهَها يَتَوَسَّعُ بها أهلُها في الدُّنيا ويَتَلَذَّذونَ بها ويَتَوَصَّلون بها إلى لذَّاتِ الدُّنيا وشهواتِها، ثمَّ يَنْقَلِبُ ذلكَ بعدَ موتِهِم فيَصيرُ جمرًا مِن جمرِ جهنَّمَ في بطونهِم، فما تَفي لذَّتُها بتبعتِها، كما قيلَ:

تَفْنى اللَذاذَةُ مِمَّنْ نالَ لَذَّتَها

مِنَ الحَرامِ وَيَبْقى الإثْمُ وَالعارُ

تَبْقى عَواقِبُ سَوْءٍ مِنْ مَغَبَّتِها

لا خَيْرَ في لَذَّة مِنْ بَعْدِها النَّارُ

فلهذا شَبَّهَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَن يَأْخُذُ الدُّنيا بغيرِ حقِّها ويَضَعُها في غيرِ حقِّها بالبهائمِ الرَّاعيةِ مِن خضرِ الرَّبيعِ حتَّى تَنْتَفِخَ بطونُها مِن أكلِهِ فإمَّا أنْ يَقْتُلَها وإمَّا أنْ يُقارِبَ قتلَها.

ص: 673

فكذلكَ مَن أخَذَ الدُّنيا مِن غيرِ حقِّها ووَضَعَها في غيرِ وجهِها

(1)

: إمَّا أنْ يَقْتُلَهُ ذلكَ فيَموتَ بهِ قلبُهُ ودينُهُ - وهوَ مَن ماتَ على ذلكَ مِن غيرِ توبةٍ منهُ وإصلاحِ حالٍ - فيَسْتَحِقَّ النَّارَ بعملِهِ. قالَ تَعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12]. وهذا هوَ الميِّتُ حقيقةً؛ فإنَّ الميتَ مَن ماتَ قلبُهُ، كما قيلَ:

لَيْسَ مَنْ ماتَ فَاسْتَراحَ بِمَيْتٍ

إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأحْياءِ

وإمَّا أنْ يُقارِبَ موتُهُ ثمَّ يُعافى، وهوَ مَن أفاقَ مِن هذهِ السَّكرةِ وتابَ وأصْلَحَ عملَهُ قبلَ موتِهِ.

وقد قالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه في كلامِهِ المشهورِ في أقسامِ حملةِ العلمِ: أو منهومٌ باللذَّاتِ سلسُ القيادِ للشَّهواتِ، أو مغرًى بجمعِ الأموالِ والادِّخارِ، ولَيْسا مِن رعاةِ الدِّينِ، أقربُ شبهًا بهِمُ الأنعامُ السَّارحةُ.

وفي الأبياتِ المشهورةِ التي كانَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ يُنْشِدُها كثيرًا

(2)

:

نَهارُكَ يا مَغْرورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ

وَلَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدى لَكَ لازِمُ

[تُسَرُّ بِما يَفْنى وَتَفْرَحُ بِالمنى

كَما سُرَّ بِاللَّذاتِ في النَّومِ حالِمُ]

(3)

وَتَتْعَبُ فيما سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ

كَذلِكَ في الدُّنْيا تَعيشُ البَهائِمُ

• وأمَّا استثناؤهُ صلى الله عليه وسلم مِن ذلكَ آكلةَ الخضرِ؛ فمرادُهُ بذلكَ مثلُ المقتصدِ الذي يَأْخُذُ مِن الدُّنيا بحقِّها مقدارَ حاجتِهِ، فإذا نَفِدَ واحْتاجَ

(4)

؛ عادَ إلى الأخذِ منها قدرَ الحاجةِ بحقِّهِ.

وآكلةُ الخضرِ دُوَيْبَّةٌ، تَأْكُلُ مِن الخضرِ بقدرِ حاجتِها إذا احْتاجَتْ إلى الأكلِ ثمَّ تَصْرِفُهُ عنها، فتَسْتَقْبِلُ عينَ الشَّمسِ فتَصْرِفُ بذلكَ ما في بطنِها وتُخْرِجُ منهُ

(5)

ما يُؤْذيها مِن الفضلاتِ.

(1)

في خ و م: "ووضعها في غير حقّها"، والأولى ما أثبتّه من ن و ط.

(2)

في خ: "التي كان ينشدها عمر بن عبد العزيز كثيرًا"، والأولى ما أثبتّه من م و ن و ط.

(3)

ليس في خ و م و ن، استفدته من ط استكمالًا للشاهد.

(4)

في خ: "فإذا فقد واحتاج"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(5)

في خ: "وتخرج منها"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

ص: 674

وقد قيلَ: إنَّ الخضرَ ليسَ مِن نباتِ الرَّبيعِ عندَ العربِ، إنَّما هوَ مِن كلإ الصَّيفِ بعدَ يبسِ العشبِ وهيجِهِ واصفرارِهِ، والماشيةُ مِن الإبلِ لا تَسْتكْثِرُ منهُ، بل تَأْخُذُ منهُ قليلًا قليلًا، ولا تَحْبَطُ بطونُها عنهُ.

فهذا مثلُ المؤمنِ المقتصدِ مِن الدُّنيا؛ يَأْخُذُ مِن حلالِها - وهوَ قليلٌ بالنِّسبةِ إلى حرامِها - قدرَ بلغتِهِ وحاجتِهِ، ويَجْتَزِئُ مِن متاعِها بأدونِهِ وأخشنِهِ، ولا يَعودُ إلى الأخذِ منها إلَّا إذا نَفِدَ ما عندَهُ وخَرَجَتْ فضلاتُهُ، فلا يوجِبُ لهُ هذا الأخذُ ضررًا ولا مرضًا ولا هلاكًا، بل يَكونُ ذلكَ بلاغًا لهُ يَتَبَلَّغُ بهِ مدَّةَ حياتِهِ ويُعينُهُ على التَّزوُّدِ لآخرتهِ. وفي هذا إشارةٌ إلى مدحِ مَن أخَذَ مِن حلالِ الدُّنيا بقدرِ بلغتِهِ وقَنِعَ بذلكَ:

كما قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "قد أفْلَحَ مَن هَداهُ اللهُ إلى الإسلامِ وكانَ عيشُهُ كفافًا فقَنِعَ بهِ"

(1)

.

وقالَ صلى الله عليه وسلم: "خيرُ الرِّزقِ ما يَكْفي "

(2)

.

(1)

رواه مسلم (12 - الزكاة، 43 - الكفاف، 2/ 730/ 1054) من حديث ابن عمرو.

(2)

(حسن لشواهده). رواه: وكيع في "الزهد"(118 و 339)، ونعيم في "الفتن"(402)، وابن أبي شيبة (34366)، وأحمد في "المسند"(1/ 172 و 180 و 181) و"الزهد"(53)، والدورقي في "مسند سعد"(74)، وعبد بن حميد (137)، وأبو يعلى (731)، وأبو عوانة في "الصحيح"(2545 و 4704 - ترغيب)، والشاشي (183)، وابن الأعرابي في "الزهد"(95)، وابن حبّان (809)، والطبراني في "الدعاء"(883)، والعسكري في "الأمثال"(458 - مقاصد)، والقضاعي في "الشهاب"(1218 - 1220)، والبيهقي في "الشعب"(552 و 553 و 554 و 10369)، والأصبهاني في "الترغيب"(1328)؛ من طرق، عن أُسامة بن زيد، عن محمّد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة، عن سعد

رفعه. قال الهيثمي (10/ 84): "فيه عبد الرحمن بن [أبي] لبيبة وقد وثّقه ابن حبّان وقال: روى عن سعد بن أبي وقّاص. قلت: وضعّفه ابن معين، وبقيّة رجاله رجال الصحيح". قلت: عبد الرحمن ليّن الحديث، وروايته عن سعد مرسلة، ولذلك قال النووي:"ليس بثابت".

ورواه: ابن حبّان في "المجروحين"(1/ 155)، وابن عدي (3/ 1098)، والذهبي في "الميزان"(1/ 148) تعليقًا، والعسقلاني في "اللسان"(1/ 316) تعليقًا؛ من حديث أنس

رفعه بنحوه. وفي طريق ابن حبّان محمّد بن أحمد بن الفضل القيسي كذّاب يضع، وفي طريق ابن عدي أبو داوود النخعي سليمان بن عمرو متّهم، ولذلك عدّه ابن حبّان وابن عدي والذهبي والعسقلاني والألباني في الموضوعات.

ورواه وكيع في "الزهد"(115): ثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ قال:"خير الرزق الكفاف". وهذا مرسل ضعيف من أجل عنعنة مبارك.

ورواه أحمد في "الزهد"(1252 - كشف الخفاء) عن زياد بن جبير، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ قال:"خير الرزق الكفاف". فإن صحّت الطريق إلى زياد فهو مرسل قويّ، ولكنّي لم أقف عليه في "الزهد" بعد طول بحث.

ص: 675

وقالَ: "اللهمَّ! اجْعَلْ رزقَ آلِ مُحَمَّدٍ قوتًا"

(1)

.

خُذْ مِنَ الرِّزْقِ ما كَفى

وَمِنَ العَيْشِ ما صَفا

كُلُّ هذا سَيَنْقَضي

كَسِراجٍ إذا انْطَفا

• ثمَّ قالَ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هذا المالَ خضرةٌ حلوةٌ". فأعادَ مرَّةَّ ثَانيةً تحذيرًا مِن الاغترارِ بهِ. فخضرتُهُ بهجةُ منظرِهِ، وحلاوتُهُ طيبُ طعمِهِ. فلذلكَ تَشْتَهيهِ النُّفوسُ وتُسارِعُ إلى طلبِهِ، ولكنْ لو فَكَّرَتْ في عواقبِهِ لَهَرَبَتْ منهُ.

الدُّنيا في الحالِ حلوةٌ خضرةٌ وفي المآلِ مرَّةٌ كدرةٌ، نِعْمَتِ المرضعةُ وبِئْسَتِ الفاطمةُ!

إنَّما الدُّنْيا نَهارُ

ضَوْؤُهُ ضَوْءٌ مُعارُ

بَيْنَما عَيْشُكَ غَضٌّ

ناعِمٌ فيهِ اخْضِرارُ

إذْ رَماهُ زَمَناهُ

فَإذا فيهِ اصْفِرارُ

وَكَذاكَ اللَيْلُ يَأْتي

ثُمَّ يَمْحوهُ النَّهارُ

مثلُ حرامِ الدُّنيا كشجرةِ الدِّفلى؛ تُعْجِبُ مَن رَآها، وتَقْتُلُ مَن أكَلَها.

تَرى الدُّنْيا وَزَهْرَتَها فَتَصْبو

وَما يَخْلو مِنَ الشَّهَواتِ قَلْبُ

فُضولُ العَيْشِ أكْثَرُهُ هُمومٌ

وَأكْثَرُ ما يَضُرُّكَ ما تُحِبُّ

إذا اتَّفَقَ القَليلُ وَفيهِ سِلْمٌ

فَلا تُرِدِ الكَثيرَ وَفيهِ حَرْبُ

الذي بَشَّرَ أُمَّتَهُ بفتحِ الدُّنيا عليهِم حَذَّرَهُم مِن الاغترارِ بزهرتِها وخَوَّفَهُم مِن خضرتِها وحلاوتِها وأخْبَرَهُم بخرابِها وفنائِها وأنَّ بينَ أيديهِم دارًا لا تَنْقَطِعُ خضرتُها وحلاوتُها. فمَن وَقَفَ معَ زهرةِ هذهِ العاجلةِ انْقَطَعَ وهَلَكَ، ومَن لم يَقِفْ معَها وسارَ إلى تلكَ [الآجلةِ] وَصَلَ ونَجا.

= وأرجو أنّ الطريقين المرسلتين صالحتان لتقوية حديث سعد وانتشاله من ضعفه، وإلى تقويته مال أبو عوانة وابن حبّان والمنذري والهيثمي والألباني.

(1)

رواه: البخاري (81 - الرقاق، 17 - كيف كان عيشه صلى الله عليه وسلم، 11/ 283/ 6460)، ومسلم (12 - الزكاة، 43 - الكفاف والقناعة، 2/ 730/ 1055)؛ من حديث أبي هريرة.

ص: 676

في "المسند": عن ابن عَبَّاسٍ، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أتاهُ فيما يَرى النَّائمُ ملكانِ، فقَعَدَ أحدُهُما عندَ رأْسِهِ والآخرُ عندَ رجليهِ، فقالَ أحدُهُما للآخرِ: اضْرِبْ لهُ مثلًا. فقالَ: إنَّ مثلَهُ ومثلَ أُمَّتِهِ كمثلِ قومٍ سَفْرٍ، انْتَهَوْا إلى رأْسِ مفازةٍ، فلمْ يَكُنْ معَهُم مِن الزَّادِ ما يَقْطَعونَ بهِ المفازةَ ولا ما يَرْجِعونَ بهِ، فبينَما هُم كذلكَ إذْ أتاهُم رجلٌ في حلَّةٍ حبرةٍ فقالَ: أرَأيْتُمْ إنْ وَرَدْتُ بكُم رياضًا معشبةً وحياضًا رواءً؛ أتَتْبَعوني؟ قالوا: نعم. قالَ: فانْطَلَقَ بهِم فأوْرَدَهُم رياضًا معشبةً وحياضًا رواءً، فأكَلوا وشَرِبوا وسَمِنوا. فقالَ لهُم: ألَمْ ألْقَكُمْ على تلكَ الحالِ فجَعَلْتُمْ لي إنْ وَرَدْتُ بكُم رياضًا معشبةً وحياضًا رواءً أنْ تَتْبَعوني؟ قالوا: بلى. قالَ: فإنَّ بينَ أيديكُم رياضًا هيَ أعشبُ مِن هذهِ وحياضًا هيَ أروى مِن هذهِ، فاتْبَعوني. قالَ: فقالَتْ طائفةٌ: صَدَقَ واللهِ، لنَتْبَعَنَّهُ. وقالَتْ طائفةٌ: قد رَضِينا بهذا نُقيمُ عليهِ

(1)

.

وقد خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنْيا وغيرُهُ عن الحَسَنِ مرسلًا بسياقٍ أبْسَطَ مِن هذا، وفيهِ أنَّهُم لمَّا رَتَعوا وسَمِنوا وأعْجَبَهُمُ المنزلُ؛ صاحَ بهِم فقالَ: ارْتَحِلوا؟ فإنَّ هذهِ الرَّوضةَ ذاهبةٌ، وإنَّ هذا الماءَ غائرٌ ذاهبٌ، وإنَّ أمامَكُم روضةً أعشبَ مِن هذهِ وماءً أرْوى مِن هذا الماءِ. فكَرِهَ ذلكَ عامَّةُ النَّاسِ وقالوا: ما نُريدُ بهذا بدلًا. وهُم أكثرُ النَّاسِ. وقالَ آخرونَ: واللهِ؛ إنَّ آخرَ قولِهِ كأوَّلِهِ، ارْتَحِلوا. فأبَوْا، فارْتَحَلَ قومٌ فنَجَوْا، ولمْ يَشْعُرِ الذينَ أقاموا حتَّى طَرَقَهُمُ العدوُّ ليلًا، فأصْبَحوا مِن بين قتيلٍ وأسيرٍ

(2)

.

الدُّنيا خضراءُ الدِّمنِ. ومعنى ذلكَ أن خضرتَها نابتةٌ على مزبلةٍ منتنةٍ. يا دنيَّ

(1)

(صحيح لشواهده). رواه: أحمد (1/ 267)، وعبد بن حميد (667)، والبزّار (2407 - كشف)، والطبراني (12/ 169/ 12940)؛ من طريق عليّ بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عبّاس

رفعه. قال الهيثمي (8/ 263): "إسناده حسن". وضعّفه العسقلاني بابن جدعان. قلت: وابن مهران فيه جهالة وحديثه لا يعدو أن يكون صالحًا في الشواهد.

وله شاهد من حديث الحسن مرسلًا مختصرًا عند ابن أبي الدنيا وغيره يأتي بعده.

وله شاهد عند الحاكم (4/ 397) من حديث سمرة بن جندب مرفوعًا باللفظ نفسه بسند رجاله ثقات رجال البخاري وصحّحه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين.

وحديث ابن عبّاس صحيح بهذا الشاهد. وإلى تقويته مال الهيثمي.

(2)

(صحيح لشواهده). انظر الحاشية السابقة.

ص: 677

الهمَّةِ! قَنِعْتَ بروضةٍ على مزبلةٍ والملكُ يَدْعوكَ إلى فردوسِهِ الأعلى؟! {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]؟! أرَضِيتُم بخراباتِ البِلى مِن الفردوسِ؟! يا لها صفقةُ غبنٍ ما أخسرَها! أتَقْنَعُ بخسائسِ الحشائشِ والرِّياضُ معشبةٌ بينَ يديكَ؟!

فَإنْ حَنَنْتَ لِلْحِمى وَرَوْضِهِ

فَبِالْغَضى ماءٌ وَرَوْضاتٌ أُخَرْ

• وقولُهُ صلى الله عليه وسلم "مَن أخَذَهُ بحقِّهِ ووَضَعَهُ في حقِّهِ؛ فنِعْمَ المعونةُ هوَ، ومَن أخَذَهُ بغيرِ حقِّهِ؛ كانَ كالذي يَأْكُلُ ولا يَشْبَعُ" تقسيم لمَن يَأْخُذُ المالَ إلى قسمينِ:

• فأحدُهُما: يُشْبِهُ حالَ آكلةِ الخضرِ، وهوَ مَن أخَذَهُ بحقِّهِ ووَضَعَهُ في حقِّهِ. وذَكَرَ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ نِعْمَ المعونةُ هوَ؛ فإنَّهُ نعمَ العونُ لمَن هذهِ صفتُهُ على الآخرةِ، كما في حديثِ عَمْرِو بن العاصِ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قالَ:"نعمَ المالُ الصَّالحُ للرَّجلِ الصَّالحِ"

(1)

، وهوَ الذي يَأْخُذُهُ بحقِّهِ ويَضَعُهُ في حقِّهِ، فهذا يوصِلُهُ مالُهُ إلى اللهِ تَعالى، فمَن أخَذَ مِن المالِ بحقِّهِ ما يُقَوِّيهِ على طاعةِ اللهِ ويَسْتَعينُ بهِ عليها؛ كانَ أخذُهُ طاعةً ونفقتُهُ طاعةً.

وفي الحديثِ الصَّحيحِ: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "إنَّكَ لنْ تُنْفِقَ نفقةً تَبْتَغي بها وجهَ اللهِ إلَّا أُجِرْتَ عليها، حتَّى اللقمةَ تَرْفَعُها إلى في امرأتِكَ"

(2)

.

وفي حديثٍ آخرَ: "ما أطْعَمْتَ نفسَكَ فهوَ لكَ صدقةٌ، وما أطْعَمْتَ أهلَكَ فهوَ لكَ صدقةٌ، وما أطْعَمْتَ ولدَكَ فهوَ لكَ صدقةٌ، وما أطْعَمْتَ خادمَكَ فهوَ لكَ صدقةٌ"

(3)

.

(1)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 534).

(2)

رواه: البخاري (2 - الإيمان، 41 - الأعمال بالنيّة والحسبة، 1/ 136/ 56)، ومسلم (25 - الوصيّة، 1 - الوصيّة بالثلث، 3/ 1250/ 1628)؛ من حديث سعد.

(3)

(صحيح). رواه: أحمد (4/ 131 و 132)، والبخاري في "الأدب المفرد"(82 و 195)، وابن ماجه (12 - التجارات، 1 - الحثّ على المكاسب، 2/ 723/ 2138)، والنسائي في "السنن الكبرى"(9185 و 9204)، والطبراني في "الكبير"(20/ 268/ 634) و"الشاميين"(1124)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 309) و "أخبار أصبهان"(2/ 76)، والبيهقي (4/ 179)؛ من طريقين قويّتين، عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن المقدام بن معديكرب

رفعه.

قال البوصيري: "في إسناده إسماعيل بن عيّاش". قلت: روايته عن الشاميّين جيّدة، وهذا منها، وتابعه بقيّة بن الوليد مصرّحًا بالسماع من بحير، وبقيّة السند ثقات أثبات. نعم؛ تكلّموا في سماع ابن معدان =

ص: 678

فما أُخِذَ مِن الدُّنيا بنيَّةِ التَّقوِّي بهِ على طلبِ الآخرةِ فهوَ داخلٌ في قسمِ إرادةِ الآخرةِ والسَّعيِ لها لا في إرادةِ الدُّنيا والسَّعيِ لها.

قالَ الحَسَنُ: ليسَ مِن حبِّ الدُّنيا طلبُكَ ما يُصْلِحُكَ فيها، ومِن زهدِكَ فيها تركُ الحاجةِ يَسُدُّها عنكَ تركُها. ومَن أحَبَّ الدُّنيا وسَرَّتْهُ ذَهَبَ خوفُ الآخرةِ مِن قلبِهِ.

وقالَ سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: متاعُ الغرورِ ما يُلْهيكَ عن طلبِ الآخرةِ، وما لمْ يُلْهِكَ فليسَ بمتاعِ الغرورِ، ولكنَّهُ بلاغٌ إلى ما هوَ خيرٌ منهُ.

وقالَ بعضُ العارفينَ: كلُّ ما أصَبْتَ مِن الدُّنيا تُريدُ بهِ الدُّنيا فهوَ مذمومٌ، وكلُّ ما أصَبْتَ منها تُريدُ [بهِ] الآخرةَ فليسَ مِن الدُّنيا.

وقالَ أبو سُلَيْمانَ: الدُّنيا حجابٌ عن اللهِ لأعدائِهِ ومطيَّةٌ موصلةٌ إليهِ لأوليائِهِ، فسُبْحانَ مَن جَعَلَ شيئًا واحدًا سببًا للاتِّصالِ بهِ والانقطاعِ عنهُ.

• والقسمُ الثَّاني: يُشْبِهُ حالُهُ حالَ البهائمِ التي تَرْعى ممَّا يُنْبِتُ الرَّبيعُ فيَقْتُلُها حَبَطًا أو يُلِمُّ، وهوَ مَن يَأْخُذُ المالَ بغيرِ حقِّهِ، فيَأْخُذُهُ مِن الوجوهِ المحرَّمةِ، فلا يَقْنَعُ منهُ بقليلٍ ولا بكثيرٍ ولا تَشْبَعُ نفسُهُ منهُ. ولهذا قالَ:"وكانَ كالذي يَأْكُلُ ولا يَشْبَعُ".

وكانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَعَوَّذُ مِن نفسٍ لا تَشْبَعُ

(1)

.

وفي حديثِ: زَيْدِ بن ثابتٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَن كانَتِ الدُّنيا همَّهُ؛ فَرَّقَ اللهُ عليهِ أمرَهُ، وجَعَلَ فقرَهُ بينَ عينيهِ، ولمْ يَأْتِهِ مِن الدُّنيا إلَّا ما كُتِبَ لهُ"

(2)

، فمَن كانَ فقرُهُ بينَ

= من المقدام، فقال الإسماعيلي:"بينه وبين المقدام جبير بن نفير"، وردّه العسقلاني بقوله:"حديثه عن المقدام في "صحيح البخاري"". قلت: لو سلّمنا بأنّه لم يسمع منه فقد عرفت الواسطة بينهما وهي ثقة ثبت، فعاد السند صحيحًا متّصلًا. وقد صحّحه المنذري وابن كثير والهيثمي والسيوطي والمناوي والألباني.

(1)

رواه مسلم (48 - الذكر، 18 - التعوّذ من شرّ ما عمل، 4/ 2088/ 2722) عن زيد بن أرقم.

(2)

(صحيح). قطعة من حديث "نضّر الله امرأ

" المشهور الذي رواه: أحمد في "المسند" (5/ 183) و"الزهد" (180)، والدارمي (1/ 75)، وابن ماجه (37 - الزهد، 12 - الهمّ بالدنيا، 2/ 1375/ 4105)، وأبو داوود (19 - العلم، 10 - فضل نشر العلم، 2/ 346/ 3660)، والترمذي (42 - العلم، 17 - الحثّ على التبليغ، 5/ 33/ 2656)، وابن أبي عاصم في "السنّة" (94) و"الزهد" (163)، والنسائي في "السنن الكبرى" (3694 - تحفة)، وابن أبي حاتم في "الجرح" (2/ 10)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2/ 232)، وابن حبّان (67 و 680)، والطبراني (5/ 143/ 4890 و 4891)، والرامهرمزي في "المحدّث" =

ص: 679

عينيهِ؛ لمْ يَزَلْ خائفًا مِن الفقرِ، لا يَسْتَغْني قلبُهُ بشيءٍ ولا يَشْبَعُ مِن الدُّنيا؛ فإنَّ الغنى غنى القلبِ والفقرَ فقرُ النَّفسِ.

وفي حديثٍ خَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ مرفوعًا: "الغنى في القلبِ، والفقرُ في القلبِ. ومَن كانَ الغنى في قلبِهِ فلا يَضُرُّهُ ما لَقِيَ مِن الدُّنيا، ومَن كانَ الفقرُ في قلبِهِ فلا يُغْنيهِ ما أُكْثِرَ لهُ منها، وإنَّما يَضُرُّ نفسَهُ [شحُّها]

(1)

"

(2)

.

وعن عيسى عليه السلام؛ قالَ: مثلُ طالبِ الدُّنيا كشاربِ ماءِ البحرِ، كلَّما زادَ شربًا منهُ؛ زادَ عطشًا، حتَّى تقْتُلَهُ.

= (3 و 4)، والحاكم في "المدخل"(ص 84)، وأبو نعيم في "المستخرج"(10)، والبيهقي في "الشعب"(1736 و 1737 و 10338) و"الاعتقاد"(ص 245)، وابن عبدالبرّ في "التمهيد"(21/ 275) و"العلم"(1/ 46)، والخطيب في "الفقيه"(2/ 71) و"الشرف"(24)، والمزّي (16/ 494)؛ من طرق، عن شعبة، عن عمر بن سليمان، عن عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، عن أبيه، عن زيد

رفعه مطوّلًا ومختصرًا. قال الترمذي: "حسن". وقال البوصيري: "صحيح رجاله ثقات". وقوّاه ابن حبّان والمنذري والألباني.

ورواه: ابن ماجه (المقدّمة، 18 - من بلّغ علمًا، 1/ 84/ 230)، والطبراني في "الكبير"(5/ 154 / 4924 و 4925) و"الأوسط"(7267)؛ من طريق ليث بن أبي سليم، (قال مرّة: عن يحيى بن عبّاد عن أبيه، ومرّة: عن محمّد بن وهب عن أبيه)، عن زيد

رفعه مطوّلًا ومختصرًا. قال الهيثمي (10/ 250): "وثّقوا". قلت: ليث اختلط، وقد تردّد بين وجهين، ومحمّد بن وهب وأبوه ما وقفت لهما على ترجمة.

والحديث صحيح غاية بطريقه الأولى وحدها، فكيف وله طريق أخرى؟! فكيف وله شواهد من حديث ابن عمر وأبي الدرداء وأبي هريرة وأنس وغيرهم؟!

(1)

ليست في خ و م و ن وط، أضفتها من "معجم الطبراني الكبير".

(2)

(ضعيف جدًّا بهذا التمام). رواه الطبراني (2/ 154/ 1643) من طريق إسماعيل بن أبي أويس، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم، عن أبيه، عن جدّه، عن نعيم بن عبد الله مولى عمر، سمع أبا زينب مولى حازم الغفاري، سمع أبا ذرّ

رفعه. قال الهيثمي (10/ 240): "فيه من لم أعرفه". قلت: لعلّه يعني إسماعيل بن عبد الله وأبا زينب فإنّهما مجهولان، وابن أبي أويس وعبد الله بن خالد وأبوه لا يعدو أن يكونوا صالحين في الشواهد، فالسند واه.

وروى: النسائي في "الكبرى"(11905 - تحفة)، وابن حبّان (685)، والحاكم (4/ 327)، وابن عساكر؛ من طرق، عن معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن أبي ذرّ

رفعه في سياق مقتصرًا على القطعة الأولى. قال الحاكم: "على شرط البخاري"، ووافقه الذهبي، مع أنّ البخاري لم يخرّج لمعاوية ولا لعبد الرحمن. نعم؛ هم ثقات رجال مسلم، وفي معاوية كلام يسير، وحديثه حسن.

فقوله صلى الله عليه وسلم "الغنى في القلب والفقر في القلب" صحيح بهذه الطريق الثانية وبشواهدها المخرّجة في الصحاح، وقد قوّاها ابن حبّان والمنذري والألباني. والحديث بطوله واهٍ، وقد ضعّفه الهيثمي.

ص: 680

قالَ يَحْيى بنُ مُعاذٍ: مَن كانَ غناهُ في قلبِهِ؛ لمْ يَزَلْ غنيًّا، ومَن كانَ غناهُ في كسبِهِ؛ لمْ يَزَلْ فقيرًا، ومَن قَصَدَ المخلوقينَ بحوائجِهِ؛ لمْ يَزَلْ محرومًا.

ويَشْهَدُ لذلكَ كلِّهِ الحديثُ الصَّحيحُ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "لو كانَ لابنِ آدَمَ واديانِ مِن ذهبٍ؛ لابْتَغى لهُما ثالثًا، ولا يَمْلأُ جوفَ ابن آدَمَ إلَّا التُّرابُ، ويَتوبُ اللهُ على مَن تابَ"

(1)

.

لو فَكَّرَ الطَّامعُ في عاقبةِ الدُّنيا لَقَنعَ، ولو تَذَكَّرَ الجائعُ إلى فضولٍ مآلَها لَشَبِعَ.

هَبَ انَّكَ قَدْ مَلَكْتَ الأرْضَ طُرًّا

ودانَ لَكَ العِبادُ فَكانَ ماذا

ألَيْسَ مَصيرُ جِسْمِكَ جَوْفَ قَبْرٍ

(2)

وَيَحْثِي التُّرْبَ هذا ثمَّ هذا

• وقد ضَرَبَ اللهُ في كتابِهِ مثلَ الدُّنيا وخضرتها ونضرتِها وبهجتِها وسرعةِ تقلُّبِها وزوالِها، وجعلَ مثلَها كمثلِ نباتِ الأرضِ النابتِ مِن قطرِ السَّماءِ في تقلُّبِ أحوالِهِ ومآلِهِ: قالَ اللهُ تَعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45]. وقالَ اللهُ تَعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس: 24]. وقالَ تَعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} [الحديد: 20]. وقالَ تَعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ

(1)

رواه: البخاري (81 - الرقاق، 10 - ما يتّقى من فتنة المال، 11/ 253/ 6436 - 6440) من حديث ابن عبّاس وابن الزبير وأنس وأبيّ، ومسلم (12 - الزكاة، 39 - لو أن لابن آدم واديين، 2/ 725/ 1048 - 1050) من حديث أنس وابن عبّاس وأبي موسى الأشعريّ.

(2)

في خ: "جوف ترب"، وفي ن:"أليس مصيرك جوف قبر"، وما أثبتّه أولى.

ص: 681

يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21].

فالدُّنيا وجميعُ ما فيها مِن الخضرةِ والبهجةِ والنَّضرةِ تتقَلَّبُ أحوالُهُ وتَتبَدَّلُ ثمَّ تَصيرُ حطامًا يابسًا.

وقد عَدَّدَ سبحانَهُ زينةَ الدُّنيا ومتاعَها المبهجَ في قولِهِ: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ

} الآيةَ [آل عمران: 14]. وهذا كلُّهُ يَصيرُ ترابًا، ما خلا الذَّهبَ والفضَّةَ، ولا يُنْتَفَعُ بأعيانِهِما، بل هُما قيمُ الأشياءِ، فلا يَنْتَفِعُ صاحبُهُما بإمساكِهِما، وإنَّما يَنْتَفعُ بإنفاقِهِما. ولهذا قالَ الحَسَنُ: بِئْسَ الرَّفيقُ الدِّرهمُ والدِّينارُ؛ لا يَنْفعانِكَ حتَّى يُفارِقانِكَ

(1)

.

وأجسامُ بني آدَمَ - بل وسائرِ الحيواناتِ - كنباتِ الأرضِ تَتَقَلَّبُ مِن حالٍ إلى حالٍ ثمَّ تَجِفُّ وتَصيرُ ترابًا. قالَ تَعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح: 17، 18].

وَما المَرْءُ إلَّا كَالنَّباتِ وَزَهْرِهِ

يَعودُ رُفاتًا بَعْدَما هُوَ ساطِعُ

فيَنْتَقِلُ ابنُ آدَمَ مِن الشَّبابِ إلى الهرمِ ومِن الصِّحَّةِ إلى السَّقمِ ومِن الوجودِ إلى العدمِ، كما قيلَ:

وَما حالاتُنا إلَّا ثلاثُ

شَبابٌ ثُمَّ شَيْبٌ ثُمَّ مَوْتُ

وَآخِرُ ما يُسَمَّى المَرْءُ شَيْخًا

وَيَتْلوهُ مِنَ الأسْماءِ مَيْتُ

مدَّةُ الشَّبابِ قصيرةٌ كمدَّةِ زهرِ الرَّبيعِ وبهجتِهِ ونضارتِهِ، فإذا يَبِسَ وابْيَضَّ فقد آنَ ارتحالُهُ كما أن الزَّرعَ إذا ابْيَضَّ فقد آنَ حصادُهُ. وأجلُّ زهورِ الرَّبيعِ الوردُ، ومتى كَثُرَ فيهِ البياضُ فقد قَرُبَ زمنُ انتقالِهِ.

قالَ وُهَيْبُ بنُ الوَرْدِ: إنَّ للهِ ملكًا يُنادي في السَّماءِ كلَّ يومٍ: أبناءَ الخمسينَ! زرعٌ دَنا حصادُهُ.

وفي حديثٍ مرفوعٍ: "إنَّ لكلِّ شيءٍ حصادًا، وحصادُ أُمَّتي ما بينَ السِّتِّينَ إلى

(1)

رحمة الله على الحسن، ما كان أعظم كلامه! حتّى قال بعضهم: كأنّما هو كلام الأنبياء.

ص: 682

السَّبعينَ"

(1)

.

قَدْ يَبْلُغُ الزَّرْعُ مُنْتَهاهُ

(2)

لا بُدَّ لِلزَّرْعِ مِنْ حَصادِ

وقد يُدْرِكُ الزَّرعَ آفةٌ قبلَ بلوغِ حصادِهِ فيَهْلِكُ، كما أُشِيرَ إليهِ في قولِهِ تَعالى:{حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} الآية [يونس: 24].

قالَ مَيْمونُ بنُ مِهْرانَ لجلسائِهِ: يا معشرَ الشُّيوخِ! ما يُنْتَظَرُ بالزَّرعِ إذا ابْيَضَّ؟ قالوا: الحصادُ. فنَظَرَ إلى الشَّبابِ، فقالَ: يا معشرَ الشَّبابِ! إنَّ الزَّرعَ قد تُدْرِكُهُ الآفةُ قبلَ أنْ يَسْتَحْصِدَ.

وقالَ بعضُهُم: أكثرُ مَن يَموتُ الشَّبابُ، وآيةُ ذلكَ أن الشُّيوخَ في النَّاسِ قليلٌ.

أيا ابْنَ آدَمَ لا تَغْرُرْكَ عافِيَةٌ

عَلَيْكَ ضافِيَةٌ فَالْعُمْرُ مَعْدودُ

ما أنْتَ إلَّا كَزَرْعٍ عِنْدَ خُضْرَتِهِ

بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الآفاتِ مَقْصودُ

فَإنْ سَلِمْتَ مِنَ الآفاتِ أجْمَعِها

فَأنْتَ عِنْدَ كَمالِ الأمْرِ مَحْصودُ

• كلُّ ما في الدُّنيا فهوَ مذكِّرٌ بالآخرةِ ودليلٌ عليهِ:

• فنباتُ الأرضِ واخضرارُها في الرَّبيعِ بعدَ قحولها ويبسِها في الشِّتاءِ وإيناعُ الأشجارِ وزهوُها

(3)

بعدَ كونِها خشبًا يابسًا يَدُلُّ على بعثِ الموتى مِن الأرضِ. وقد ذَكَرَ اللهُ تَعالى ذلكَ في كتابِهِ في مواضعَ كثيرةٍ: قالَ تَعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5 - 7]. وقالَ تَعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا

(1)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 249).

(2)

في خ وم ون: "قد بلغ الزرع منتهاه"! وأثبتّ ما في ط لموافقته للوزن.

(3)

في خ: "بعد قحولتها

"، وفي م: "بعد قحولتها

وزهورها"، وفي ن: "بعد قحولها

واخضرارها".

ص: 683

كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9 - 11]. وقالَ تَعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57].

قالَ أبو رَزِينٍ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: كيفَ يُحْيي اللهُ الموتى؟ وما آيةُ ذلكَ في خلقِهِ؟ قالَ: "هل مَرَرْتَ بوادٍ أُهْلِكَ محلًا ثمَّ مَرَرْتَ بهِ يَهْتَزُّ خضرًا؟ ". قالَ: نعم. قالَ: "كذلكَ يُخْرِجُ اللهُ الموتى، وذلكَ آيتُهُ في خلقِهِ"

(1)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ.

• وقصرُ مدَّةِ الزَّرعِ والثِّمارِ وعودُ الأرضِ بعدَ ذلكَ إلى يبسِها والشَّجرِ إلى حالِها الأوَّلِ كعودِ ابن آدَمَ بعدَ كونهِ حيًّا إلى التُّرابِ الذي خُلِقَ منهُ.

• وفصولُ السَّنةِ تُذَكِّرُ بالآخرةِ: فشدَّةُ حرِّ الصَّيفِ يُذَكِّرُ بحرِّ جهنَّمَ وهوَ مِن سمومِها. وشدَّةُ بردِ الشِّتاءِ يُذَكِّرُ بزمهريرِ جهنَّمَ وهوَ مِن زمهريرِها. والخريفُ يَكْمُلُ فيهِ اجتناءُ الثَّمراتِ التي تَبْقى وتُدَّخَرُ في البيوتِ، فهوَ منبِّهٌ على اجتناءِ ثمراتِ الأعمالِ في الآخرةِ. وأمَّا الرَّبيعُ؛ فهوَ أطيبُ فصولِ السَّنةِ، وهوَ يُذَكِّرُ بنعيمِ الجنَّةِ وطيبِ عيشِها، فيَنْبَغي أنْ يَحُثَّ المؤمنَ على الاستعدادِ لطلبِ الجنَّةِ بالأعمالِ الصَّالحةِ.

كانَ بعضُ السَّلفِ يَخْرُجُ في أيَّامِ الرَّياحينِ والفواكهِ إلى السُّوقِ فيَقِفُ ويَنْظُرُ ويَعْتَبِرُ ويَسْألُ الله الجنَّةَ.

(1)

(ضعيف). رواه: الطيالسي (1089)، وأحمد (4/ 11 و 12)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(639)، والطبراني (19/ 208/ 470)، والحاكم (4/ 560)، والبيهقي في "الصفات"(1069 و 1070) و "الاعتقاد"(ص 217)؛ من طريق يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن أبي رزين العقيلي

رفعه. صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي وليس كذلك من أجل وكيع فإنه مجهول.

ورواه: أحمد (4/ 11)، والطبراني في "الشاميّين"(395)؛ من طريقين، عن سليمان بن موسى الأشدق، عن أبي رزين

رفعه. قال الهيثمي (1/ 59): "في إسناده سليمان بن موسى وقد وثّقه ابن معين وأبو حاتم وضعّفه آخرون". قلت: فيه لين واختلط بآخره وروايته عن أبي رزين منقطعة. وقد رواه عبد الغني بن سعيد المصري (1/ 195 - تفسير القرطبي) عنه عن مجاهد عن ابن عبّاس عن أبي رزين مرفوعًا، وفي إسناده محمّد بن سعيد الشاميّ المصلوب الكذّاب، فما هو بالمعتبر.

ولا ينبغي أن تتقوّى إحدى الطريقين بالأُخرى؛ لأنّه لا يبعد أن يكون الأشدق تلقّاه عن وكيع مباشرة أو بواسطة فيعود الأمر إلى الضعف لجهالة وكيع. وقد ضعّفه الهيثمي والألباني.

ص: 684

• ومَرَّ سَعيدُ بنُ جُبَيْرٍ بشبابٍ مِن أبناءِ الملوكِ جلوسٍ في مجالسِهِم في زينتِهِم، فسَلَّموا عليهِ، فلمَّا بَعُدَ عنهُم؛ بَكى واشْتَدَّ بكاؤُهُ وقالَ: ذَكَّرَني هؤلاءِ بشبابِ أهلِ الجنَّةِ.

• تزَوَّجَ صِلَةُ بنُ أشْيَمَ بمُعاذَةَ العَدَوِيَّةِ، وكانا مِن كبارِ الصَّالحينَ، فأدْخَلَهُ ابنُ أخيهِ الحمَّامَ ثمَّ أدْخَلَهُ على زوجتِهِ في بيتٍ مطيَّبٍ منجَّدٍ، فقاما يُصَلِّيانِ إلى الصَّباحِ، فسَألَهُ ابنُ أخيهِ عن حالِهِ، فقالَ: أدْخَلْتَني بالأمسِ بيتًا أذْكَرْتَني بهِ النَّارَ (يَعْني: الحمَّامَ)، وأدْخَلْتَني الليلةَ بيتًا أذْكَرْتَني بهِ الجنَّةَ، فلم يَزَلْ فكري في الجنَّةِ والنَّارِ إلى الصَّباحِ.

• دَعا عَبْدُ الواحِدِ بنُ زَيْدٍ إخوانَهُ إلى طعامٍ صَنَعَهُ لهُم، فقامَ على رؤوسِهِم عُتْبَةُ الغلامُ يَخْدُمُهُم وهوَ صائمٌ وهُم يَأْكُلونَ، فجَعَلَتْ عيناهُ تَهْمُلانِ، فسَألَهُ عَبْدُ الواحِدِ بعدُ عن سببِ بكائِهِ، فقالَ: ذَكَرْتُ موائدَ أهلِ الجنَّةِ إذا أكَلوا وقامَ الولدانُ على رؤوسِهِم.

إنَّما جُعِلَتِ الدُّنيا مرآةً لِيُنْظَرَ بها إلى الآخرةِ لا لِيُنْظَرَ إليها ويُوقَفَ معَها.

كَفى حَزَنًا أنْ لا أُعايِنَ بُقْعَةً

مِنَ الأرْضِ إلَّا ازْدَدْتُ شَوْقًا إلَيْكُمُ

وَأنِّي مَتى ما طابَ لي خَفْضُ عِيشَةٍ

تَذَكَّرْتُ أيَّامًا مَضَتْ لي لَدَيْكُمُ

• تدقيقُ النَّظرِ والفكرِ في حالِ النَّباتِ يَسْتَدِلُّ بهِ المؤمنُ على عظمةِ خالقِهِ وكمالِ قدرتِهِ ورحمتِهِ فتَزْدادُ القلوبُ هيمانًا في محبَّتِهِ. وإلى ذلكَ الإشارةُ بقولِهِ تَعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)} [الأنعام: 99].

• زمانُ الرَّبيعِ كلُّهُ واعظٌ يُذَكِّرُ بعظمةِ موجدِهِ وكمالِ قدرتِهِ ويُشَوِّقُ إلى طيبِ مجاورتِهِ في دارِ كرامتِهِ:

كما قالَ ابنُ سَمْعونَ في وصفِ الرَّبيعِ: أرضُهُ حريرٌ، وأنفاسُهُ عبيرٌ، وأوقاتُهُ كلُّها وعظٌ وتذكيرٌ.

وقالَ غيرُهُ: الأرضُ فيهِ زمرُّدةٌ، والأشجارُ حللٌ، والهواءُ مسكٌ، والنَّسيمُ عنبرٌ، والماءُ راحٌ، والطَّيرُ قيانٌ، والكلُّ دالٌّ على كمالِ الصَّانعِ شاهدٌ لهُ بالوحدانيَّةِ.

ص: 685

أنْشَدَ بعضُهُم في وصفِ زمانِ الرَّبيعِ:

يا قَوْمَنا فاحَ الرَّبيـ

ـعُ وَلاحَ لِلأْحْبابِ نَجْدُ

الزَّهْرُ مِسْكٌ وَالرِّيا

ضُ أريضَةٌ وَالماءُ جَعْدُ

(1)

وَالظِّلُّ مَنْثورٌ وَفي

جيدِ الشَّقائِقِ مِنْهُ عِقْدُ

هذا النَّسيمُ مُعَنْبَرٌ

وَضَبابُ هذا النَّوْءِ نَدُّ

وَالغُصْنُ يَرْقُصُ وَالغَديـ

ـرُ مُصَفِّق وَالوُرْقُ تَشْدو

(2)

وَالجَوُّ بَعْضٌ مِنْهُ يا

قوتٌ وَبَعْضٌ لازَوَرْدُ

(3)

وَالكُلُّ يَشْهَدُ أن صا

نِعَهُ قَديرٌ وَهْوَ فَرْدُ

وأنْشَدَ آخرُ:

الطَّلُّ في سِلْكِ الغُصونِ كَلُؤْلُؤٍ

رَطْبٍ يُصافِحُهُ النَّسيمُ فَيَسْقُطُ

(4)

وَالطَّيْرُ يَقْرَأُ وَالغَديرُ صَحيفَةٌ

وَالرِّيحُ يَكْتُبُ وَالغَمامُ يُنَقِّطُ

رُئِيَ بعضُ الشُّعراءِ المتقدِّمينَ في المنامِ بعدَ موتِهِ، فسُئِلَ عن حالِهِ، فقالَ: غُفِرَ لي بأبياتٍ قلتُها في النَّرجسِ، وهيَ:

تَفَكَّرْ في نَباتِ الأرْضِ وَانْظُرْ

إلى آثارِ ما صَنَعَ المَليكُ

عُيونٌ مِنْ لجَيْنٍ ناظِراتٌ

بِأحْداقٍ هِيَ الذَّهَبُ السَّبيكُ

(5)

عَلى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شاهِداتٌ

بِأنَّ الله لَيْسَ لَهُ شَريكُ

سبحانَ مَن سَبَّحَتِ المخلوقاتُ بحمدِهِ فمَلأ الأكوانَ تحميدُه، وأفْصَحَتِ الكائناتُ بالشَّهادةِ بوحدانيَّتِهِ فوَضَحَ توحيدُه، يُسَبِّحُهُ النَّباتُ جمعُهُ وفريدُه، والشَّجرُ عتيقُهُ وجديدُه، ويُمَجِّدُهُ رهبانُ الأطيارِ في صوامعِ الأشجارِ فيُطْرِبُ السَّامعَ تمجيدُه، كلَّما دَرَّسَ الهزارُ دَرْسَ شكرِهِ فالبلبلُ بالحمدِ معيدُه، وكلَّما أقامَ خطيبُ

(1)

أريضة: زكيّة، غنيّة بالخير.

(2)

ندّ: طيّب الريح، أو نديّ منعش. الورق: الحمائم.

(3)

اللازورد: أزرق سماويّ اللون من الأحجار الكريمة.

(4)

الطلّ: الندى.

(5)

اللجين: الفضّة. يشير إلى الزهر الأبيض الذي وسطه أصفر.

ص: 686

الحمامِ النَّوحَ على منابرِ الدَّوحِ هَيَّجَ المستهامَ نوحُهُ وتغريدُه، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت: 19].

• وا عجبًا للمتقلِّبِ بينَ مشاهدةِ حِكَمِهِ وتناولِ نعمِهِ ثمَّ لا يَشْكُرُ نعمَهُ ولا يُبْصِرُ حِكَمَهُ! وأعجبُ مِن ذلكَ مَن تَراكَمَ عليهِ الجهلُ بظلمتِهِ فعَصى المنعمَ بنعمتِهِ.

هذا عودُ شجرِ الكرمِ يَكونُ يابسًا طولَ الشِّتاءِ، ثمَّ إذا جاءَ الرَّبيعُ دَبَّ فيهِ الماءُ واخْضَرَّ، ثمَّ يُخْرِجُ الحصرمَ فيَنْتَفعُ النَّاسُ بهِ حامضًا ويَتَناوَلونَ منهُ طبخًا واعتصارًا، ثمَّ يَنْقَلِبُ حلوًا فيَنْتَفعُ النَّاسُ بهِ حلوًا رطبًا ويابسًا ويَسْتَخْرِجونَ منهُ ما يَنْتَفِعونَ بحلاوتِهِ طولَ العامِ وما يَأْتَدِمونَ بحمضِهِ وهوَ نعمَ الإدامُ. فهذهِ التَّنقُلاتُ توجِبُ للعاقلِ الدَّهشَ والتَّعجُّبَ مِن صنعِ صانعِهِ وقدرةِ خالقِهِ، فيَنْبَغي لهُ أنْ يُفَرِّغَ عقلَهُ للتَّفكُّرِ في هذهِ النِّعمِ والشِّكرِ عليها. وأمَّا الجاهلُ؛ فيَأْخُذُ العنبَ فيَجْعَلُهُ خمرًا فيُغَطِّي بهِ العقلَ الذي يَنْبَغي أنْ يُسْتَعْمَلَ في التَّفكُّرِ والشُّكرِ حتَّى يَنْسى خالقَهُ المنعمَ عليهِ بهذهِ النِّعمِ كلِّها، فلا يَسْتَطيعُ بعدَ سكرِهِ أنْ يَقومَ لهُ بذكرِهِ ولا بشكرِهِ، بل يَنْسى في سكرِهِ مَن خَلَقَهُ ورَزَقَهُ فلا يَعْرِفُهُ بالكلِّيَّة، وهذا نهايةُ كفرانِ النِّعمِ الوقوعُ في هذهِ البليَّة.

فَوا عَجَبًا كَيْفَ يَعْصي الإلـ

ـهَ أمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الجاحِدُ

وَلِلهِ في كُلِّ تَحْريكَةٍ

وَفي كُلِّ تَسْكينَةٍ شاهِدُ

وَفي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ

تَدُلُّ عَلى أنَّهُ واحِدُ

• ومِن وجوهِ الاعتبارِ في النَّظرِ إلى الأرضِ التي أحْياها اللهُ بعدَ موتِها في فصلِ الرَّبيعِ بما ساقَ إليها مِن قطرِ السَّماءِ أنَّهُ يُرْجى مِن كرمِهِ أنْ يُحْيِيَ القلوبَ الميتةَ بالذُّنوبِ وطولِ الغفلةِ بسماعِ الذِّكرِ النَّازلِ مِن السَّماءِ. وإلى ذلكَ الإشارةُ بقولهِ تَعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} إلى قولِهِ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 16، 17]. ففيهِ إشارةٌ إلى أن مَن قَدَرَ على إحياءِ الأرضِ بعدَ موتها بوابلِ القطرِ فهوَ قادرٌ على إحياءِ القلوبِ الميتةِ القاسيةِ بالذِّكرِ. عَسى لمحةٌ مِن لمحاتِ عطفِهِ، ونفحةٌ مِن نفحاتِ لطفِهِ، وقد صَلَحَ مِن القلوبِ كلُّ ما فَسَدَ، فهوَ اللطيفُ الكريمُ.

ص: 687

عَسى فَرَجٌ يَأْتي بهِ اللهُ إنَّهُ

لَهُ كُلَّ يَوْمٍ في خَليقَتِهِ أمْرُ

إذا اشْتَدَّ عُسْرٌ فَارْجُ يُسْرًا فَإنَّهُ

قَضى اللهُ أنَّ العُسْرَ يَتْبَعُهُ اليُسْرُ

عَسى مَن أحْيا الأرضَ الميتةَ بالقطرِ أنْ يُحْيِيَ القلوبَ الميتةَ بالذِّكرِ.

عسى نفحةٌ مِن نفحاتِ رحمتِهِ تَهُبُّ، فمَن أصابَتْهُ سَعِدَ سعادةً لا يَشْقى بعدَها أبدًا، فهوَ المنَّانُ الرَّحيمُ.

إذا ما تَجَدَّدَ فَصْل الرَّبيعِ

تَجَدَّدَ لِلْقَلْبِ فَضْلُ الرَّجاءِ

عَسى الحال يَصْلُحُ بعدَ الذُّنوبِ

كَما الأرْضُ تَهْتَزُّ بَعْدَ الشِّتاءِ

وَمَنْ ذا الذي لَيْسَ يَرْجُوكَ رَبِّ

وَرَبْعُ عَطائِكَ رَحْبُ الفِناءِ

‌المجلس الثاني في [ذكر] فصل الصيف

خَرَّجا في الصَّحيحينِ

(1)

مِن حديثِ: أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"اشْتكتِ النَّارُ إلى ربِّها فقالَتْ: يا ربِّ! أكَلَ بعضي بعضًا، فأذِنَ لها بنَفَسَيْنِ؛ نفسٍ في الشِّتاءِ، ونفسٍ في الصَّيفِ، فأشدُّ ما تَجِدونَ مِن الحرِّ مِن سمومِ جهنَّمَ، وأشدُّ ما تَجِدونَ مِن البردِ مِن زمهريرِ جهنَّمَ".

• لا شك أن الله تَعالى خَلَقَ لعبادِهِ دارينِ يَجْزيهِم فيهِما بأعمالِهِم معَ البقاءِ في الدَّارينِ مِن غيرِ موتٍ. وخَلَقَ دارًا معجَّلةً للأعمالِ، وجَعَلَ فيها موتًا وحياةً، وابْتَلى عبادَهُ فيها بما أمَرَهُم بهِ ونَهاهُم عنهُ، وكَلَّفَهُم فيها الإيمانَ بالغيبِ، ومنهُ الإيمانُ بالجزاءِ والدَّارينِ المخلوقتينِ لهُ، وأنْزَل بذلكَ الكتبَ وأرْسَلَ بهِ الرُّسلَ وأقامَ الأدلَّةَ الواضحةَ على الغيبِ الذي أمَرَ بالإيمانِ بهِ، وأقامَ علاماتٍ وأماراتٍ تَدُلُّ على وجودِ داريِ الجزاءِ؛ فإنَّ إحدى الدَّارينِ المخلوقتينِ للجزاءِ دارُ نعيمٍ محضٍ لا يَشوبُهُ ألمٌ، والأُخرى دارُ عذابٍ محضٍ لا يَشوبُهُ راحةٌ، وهذهِ الدَّارُ الفانيةُ ممزوجةٌ بالنَّعيمِ والألمِ،

(1)

البخاري (9 - المواقيت، 9 - الإبراد بالظهر، 2/ 18/ 537)، ومسلم (5 - المساجد، 32 - الإبراد بالظهر، 1/ 431/ 617).

ص: 688

فما فيها مِن النَّعيمِ يُذَكِّرُ بنعيمِ الجنَّةِ، وما فيها مِن الألمِ يُذَكِّرُ بألمِ النَّارِ.

• وجَعَلَ اللهُ تَعالى في هذهِ الدَّارِ أشياءَ كثيرةً تُذَكِّرُ بدارِ الغيبِ المؤجَّلةِ الباقيةِ:

• فمنها ما يُذَكِّرُ بنعيمِ الجنَّةِ مِن زمانٍ ومكانٍ:

- أمَّا الأماكنُ؛ فخَلَقَ اللهُ بعضَ البلدانِ - كالشَّامِ وغيرِها - فيها مِن المطاعمِ والمشاربِ والملابسِ وغيرِ ذلكَ مِن نعيمِ الدُّنيا ما يُذَكِّرُ بنعيمِ الجنَّةِ.

- وأمَّا الأزمانُ: فكزمنِ الرَّبيعِ؛ فإنَّهُ يُذَكِّرُ طيبُهُ بنعيمِ الجنَّةِ وطيبِها، وكأوقاتِ الأسحارِ؛ فإنَّ بردَها يُذَكِّرُ ببردِ الجنَّةِ.

وفي الحديثِ الذي خَرَّجَهُ الطَّبَرانِيُّ: "إنَّ الجنَّةَ تُفْتَحُ كلَّ ليلةٍ في السَّحرِ، فيَنْظُرُ اللهُ إليها، فيَقولُ لها: ازْدادي طيبًا لأهلِكِ، فتَزْدادُ طيبًا، فذلكَ بردُ السَّحرِ الذي يَجِدُهُ النَّاسُ"

(1)

.

ورَوى: سَعيدٌ الجُرَيْرِيُّ، عن سَعيدِ بن أبي الحَسَنِ؛ أن داوودَ عليه السلام قالَ: يا جِبْريلُ! أيُّ الليلِ أفضلُ؟ قالَ: ما أدري، غيرَ أن العرشَ يَهْتَزُّ إذا كانَ وقتُ السَّحرِ، ألا تَرى أنَّهُ يَفوحُ ريحُ كلِّ الشَّجرِ

(2)

.

• ومنها: ما يُذَكِّرُ بالنَّارِ؛ فإنَّ الله جَعَلَ في الدُّنيا أشياءَ كثيرةً تُذَكِّرُ بالنَّارِ [المعدَّةِ لمَن عَصاهُ وبما فيها]

(3)

مِن الآلامِ والعقوباتِ مِن أماكنَ وأزمانٍ وأجسامٍ وغيرِ ذلكَ:

- أمَّا الأماكنُ؛ فكثيرٌ مِن البلدانِ مفرطةُ الحرِّ أوِ البردِ: فبردُها يُذَكِّرُ بزمهريرِ جهنَّمَ، وحرُّها يُذَكِّرُ بحرِّ جهنَّمَ وسمومِها.

- وبعضُ البقاعِ يَذَكِّرُ بالنَّارِ كالحمَّامِ:

قالَ أبو هُرَيْرَةَ: نعمَ البيتُ الحمَّامُ؛ يَدْخُلُهُ المؤمنُ فيُزيلُ بهِ الدَّرنَ ويَسْتَعيذُ باللهِ فيهِ مِن النَّارِ.

كانَ السَّلفُ يَذْكُرونَ النَّارَ بدخولِ الحمَّامِ، فيُحْدِثُ ذلكَ لهُم عبادةً.

(1)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 147 - 148).

(2)

هذا من مرويّات أهل الكتاب، وما هو بالمسلّم، وروائح الشجر لا تفوح ساعة السحر.

(3)

ليست في خ و م و ن، استفدتها من ط.

ص: 689

دَخَلَ ابنُ وَهْبٍ الحمَّامَ، فسَمعَ تاليًا يَتْلو:{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر: 47]، فغُشِيَ عليهِ.

وتَزَوَّجَ صِلَةُ بنُ أشْيَمَ، فدَخَلَ الحمَّامَ، ثمَّ دَخَلَ على زوجتِهِ تلكَ الليلةَ، فقامَ يُصَلِّي حتَّى أصبحَ، وقالَ: دَخَلْتُ بالأمسِ بيتًا أذْكَرَنِيَ النَّارَ، ودَخَلْتُ الليلةَ بيتًا ذَكَرْتُ بهِ الجنَّةَ، فلم يَزَلْ فكري فيهِما حتَّى أصْبَحْتُ.

كانَ بعضُ السَّلفِ إذا أصابَهُ كربُ الحمَّامِ يَقولُ: يا برُّ! يا رحيمُ! مُنَّ علينا وقِنا عذابَ السَّمومِ.

صَبَّ بعضُ الصَّالحينَ على رأْسهِ ماءً مِن الحمَّامِ، فوَجَدَهُ حارًّا، فبَكى وقالَ: ذَكَرْتُ قولَهُ تَعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج: 19].

كلُّ ما في الدُّنيا دليلٌ على صانعِهِ يُذَكِّرُ بهِ ويَدُلُّ على صفاتِهِ، فما فيها مِن نعيمٍ وراحةٍ يَدُلُّ على كرمِ خالقِهِ وفضلِهِ وإحسانِهِ وجودِهِ ولطفِهِ، وما فيها مِن نقمةٍ وشدَّةٍ وعذابٍ يَدُلُّ على شدَّةِ بأْسِهِ وبطشِهِ وقهرِهِ وانتقامِهِ، واختلافُ أحوالِ الدُّنيا مِن حرٍّ وبردٍ وليلٍ ونهارٍ وغيرِ ذلكَ يَدُلُّ على انقضائِها وزوالِها.

قالَ الحَسَنُ: كانَ الصَّحابةُ رضي الله عنهم يَقولونَ: الحمدُ للهِ الرَّفيقِ الذي لو جَعَلَ هذا الخلقَ خلقًا دائمًا لا يَتَصَرَّفُ؛ لقالَ الشَّاكُّ في اللهِ: لو كانَ لهذا الخلقِ ربٌّ لَحادَثَهُ

(1)

، وإنَّ الله قد حادَثَ بما تَرَوْنَ مِن الآياتِ، إنَّهُ جاءَ بضوءٍ طَبَّقَ ما بينَ الخافقينِ وجَعَلَ فيها معاشًا وسراجًا وهَّاجًا، ثمَّ إذا شاءَ ذَهَبَ بذلكَ الخلقِ وجاءَ بظلمةٍ طَبَّقَتْ ما بينَ الخافقينِ وجَعَلَ فيها سكنًا ونجومًا وقمرًا منيرًا، وإذا شاءَ بَنى بناءً جَعَلَ فيهِ المطرَ والبرقَ والرَّعدَ والصَّواعقَ ما شاءَ، وإذا شاءَ صرفَ ذلكَ الخلقَ، وإذا شاءَ جاءَ ببردٍ يُقَرْقِفُ النَّاسَ، وإذا شاءَ أذْهَبَ ذلكَ وجاءَ بحرٍّ يَأْخُذُ بأنفاسِ النَّاسِ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أن لهذا الخلقِ ربًّا هوَ يُحادِثُهُ بما تَرَوْنَ مِن الَاياتِ، كذلكَ وإذا شاءَ ذَهَبَ بالدُّنيا وجاءَ بالآخرةِ.

(1)

لحادثه: لأجرى عليه المتغيّرات وقلّبه، وما هي من عبارات الصحابة الكرام ولا من مصطلحات عصرهم، ولا يصحّ إسناد هذا الكلام إلى الحسن في غالب الظنّ. والله أعلم.

ص: 690

وقالَ خَليفَةُ العَبْدِيُّ: لو أن الله لمْ يُعْبَدْ إلَّا عن رؤيةٍ ما عَبَدَهُ أحدٌ، ولكنَّ المؤمنينَ تَفَكَّروا في مجيءِ هذا الليلِ إذا جاءَ فطَبَّقَ كلَّ شيءٍ ومَلأ كلَّ شيءٍ ومَحا سلطانَ النَّهارِ، وتَفَكَّروا في مجيءِ النَّهارِ إذا جاءَ فمَلأ كلَّ شيءٍ وطَبَّقَ كلَّ شيءٍ ومَحا سلطانَ الليلِ، وتَفَكَّروا في السَّحابِ المسخَّرِ بينَ السَّماءِ والأرضِ، وتَفَكَّروا في الفلكِ التي تَجْري في البحرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ، وتَفَكَّروا في مجيءِ الشِّتاءِ والصَّيفِ، فواللهِ؛ ما زالَ المؤمنونَ يَتَفَكَّرونَ فيما خَلَقَ لهُم ربُّهُم حتَّى أيْقَنَتْ قلوبُهُم وحتَّى كأنَّما عَبَدوا الله عن رؤيتِهِ.

يُذَكِّرُنيكَ الحَرُّ وَالبَرْدُ وَالَّذي

أخافُ وَأرْجو وَالَّذي أتَوَقَّعُ

ما رَأى العارفونَ شيئًا مِن الدُّنيا إلَّا تَذَكَّروا بهِ ما وَعَدَهُمُ اللهُ بهِ مِن جنسِهِ في الآخرةِ.

قُلوبُ العارِفينَ لَها عُيونٌ

تَرى ما لا يَراهُ النَّاظِرونا

- وأمَّا الأزمانُ؛ فشدَّةُ الحرِّ والبردِ تُذَكِّرُ بما في جهنَّمَ مِن الحرِّ والزَّمهريرِ.

وقد دَلَّ هذا الحديثُ الصَّحيحُ على أن ذلكَ مِن تنفُّسِ النَّارِ في ذلكَ الوقتِ: قالَ الحَسَنُ: كلُّ بردٍ أهْلَكَ شيئًا فهوَ مِن نَفَسِ جهنَّمَ، وكلُّ حرٍّ أهْلَكَ شيئًا فهوَ مِن نَفَسِ جهنَّمَ.

وفي الحديثِ الصَّحيحِ: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "إذا اشْتَدَّ الحرُّ؛ فأبْرِدوا بالصَّلاةِ؛ فإنَّ شدَّةَ الحرِّ مِن فيحِ جهنَّمَ"

(1)

.

وفي حديثٍ مرفوعٍ خَرَّجَهُ عُثْمانُ الدَّارِمِيُّ وغيرُهُ: "إذا كانَ يومٌ شديدُ الحرِّ، فقالَ العبدُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ما أشدَّ حرَّ هذا اليومِ! اللهمَّ! أجِرْني مِن حرِّ جهنَّمَ. قالَ اللهُ لجهنَّمَ: إنَّ عبدًا مِن عبادي قدِ اسْتَجارَ بي منكِ، وقد أجَرْتُهُ. وإذا كانَ يومٌ شديدُ البردِ، فقالَ العبدُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ما أشدَّ بردَ هذا اليومِ! اللهمَّ! أجِرْني مِن زمهريرِ جهنَّمَ. قالَ اللهُ لجهنَّمَ: إنَّ عبدًا مِن عبادي قدِ اسْتَجارَ بي مِن زمهريرِكِ، وإنِّي

(1)

رواه: البخاري (9 - المواقيت، 9 - الإبراد بالظهر، 2/ 15/ 533 - 536 و 538)، ومسلم (5 - المساجد، 32 - استحباب الإبراد، 1/ 430/ 615 - 617)؛ عن أبي هريرة وأبي ذرّ وأبي سعيد وابن عمر.

ص: 691

أُشْهِدُكِ أنِّي قد أجَرْتُهُ". قالوا: وما زمهريرُ جهنَّمَ؟ قالَ: "بيتٌ يُلْقى فيهِ الكافرُ فيَتَمَيَّزُ مِن شدَّةِ بربٍ"

(1)

.

أبوابُ النَّارِ مغلَّقةٌ وتُفْتحُ أحيانًا، فتُفْتَحُ أبوابُها كلُّها عندَ الظَّهيرةِ، فلذلكَ يَشْتَدُّ الحرُّ حينئذٍ فيَكونُ في ذلكَ تذكرةٌ بنارِ جهنَّمَ.

- وأمَّا الأجسامُ المشاهدةُ في الدُّنيا المذكِّرةُ بالنَّارِ؛ فكثيرةٌ:

[1]

منها: الشَّمسُ عندَ اشتدادِ حرِّها، وقد رُوِيَ أنَّها خُلِقَتْ مِن النَّارِ وتَعودُ إليها

(2)

.

وخَرَّجَ الطَّبَرانِيُّ بإسنادِهِ: أن رجلًا في عهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم نَزَعَ ثيابَهُ ثمَّ تَمَرَّغَ في الرَّمضاءِ وهوَ تقولُ لنفسِهِ: ذوقي! نارُ جهنَّمَ أشدُّ حرًّا، جيفةٌ بالليلِ، بطَّالٌ بالنَّهارِ. فرَآهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: يا رسولَ اللهِ! غَلَبَتْني نفسي. فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لقد فُتِحَتْ لكَ أبوابُ السَّماءِ، وباهى اللهُ بكَ الملائكةَ"

(3)

.

(1)

(ضعيف). رواه: عثمان الدارمي في "الردّ على المريسي"(ص 48)، وابن السنّي في "اليوم والليلة"(306)، وأبو نعيم في "اليوم والليلة"(2981 - كشف الخفاء)، والبيهقي في "الصفات"(387)؛ من طريق عبد الله بن سليمان، عن درّاج، (عن أبي الهيثم عن أبي سعيد أو عن ابن حجيرة الأكبر عن أبي هريرة)

رفعه. وهذا سند ضعيف: عبد الله بن سليمان يخطئ. ودرّاج فيه ضعف عمومًا وروايته عن أبي الهيثم خصوصًا ضعيفة، وقد تردد فيه على وجهين.

ورواه السهمي في "جرجان"(ص 486) من حديث أبي موسى الأشعري بسند فيه: لاحق بن حسين كذّاب قليل الحياء، وضرار بن علي ويزيد بن أوس وثابت بن قيس مجاهيل.

فالحديث ضعيف بطريقه الأولى موضوع بطريقه الثانية، وقد ضعّفه العجلوني وغيره.

(2)

(لم أقف عليه بهذا السياق). لكن ساق أبو الشيخ في "العظمة" روايات عدّة موقوفة على كعب الأحبار وجماعة من الصحابة والتابعين تفيد أنّ بدء خلق الشمس كان من النار. والواقف على هذه المرويّات لن يتردّد في أنّها ممّا تلقّاه الصحابة عن كعب وغيره من علماء أهل الكتاب. وأمّا عود الشمس إلى النار يوم القيامة؛ فقد جاء مرفوعًا بسند قويّ: "إنّ الشمس والقمر ثوران مكوّران في النار يوم القيامة". فلعلّ المصنّف يرحمه الله أراد هذه المرويّات.

(3)

(ضعيف). رواه: الروياني (1)، والطبراني (2/ 22/ 1159)؛ من طريق أبي عبد الله صاحب الصدقة، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه

رفعه. قال الهيثمي (10/ 188): "أبو عبد الله صاحب الصدقة لم أعرفه، وبقيّة رجاله ثقات".

ورواه ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس"(57) من طريق ليث عن طلحة

به. قال العراقي: لا منقطع أو مرسل، ولا أدري من طلحة هذا". قلت: وليث هذا هو ابن أبي سليم مخلّط.

ص: 692

وأمَّا البروزُ للشَّمسِ تعبُّدًا بذلكَ مطلقًا؛ فغيرُ مشروعٍ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ لأبي إسْرائيلَ لمَّا رَآهُ قائمًا في الشَّمسِ، فأمَرَهُ أنْ يَجْلِسَ ويَسْتَظِلَّ، وكانَ نَذَرَ أنْ يَقومَ في الشَّمسِ معَ الصَّومِ، فأمَرَهُ أنْ يُتِمَّ صومَهُ فقطْ

(1)

.

وإنَّما يُشْرَعُ البروزُ للشَّمسِ للمحرمِ، كما قالَ ابنُ عُمَرَ لمحرمٍ رَآهُ قدِ اسْتَظَلَّ: اضْحَ لمَن أحْرَمْتَ لهُ. أي: ابْرُزْ إلى الضُّحَى، وهوَ حرُّ الشَّمسِ

(2)

.

كانَ بعضُهُم لا يَسْتَظِلُّ في إحرامِهِ، فقيلَ لهُ: لو أخَذْتَ بالرُّخصةِ، فأنْشَدَ:

ضَحَيْتُ لَهُ كَيْ أسْتَظِلَّ بظِلِّهِ

إذا الظِّلُّ أضْحى في القِيامَةِ قالِصا

فوا أسَفا إنْ كانَ سَعْيُكَ خائِبًا

ووا أسَفا إنْ كانَ حظُّكَ ناقِصا

(3)

وممَّا يُؤْمَرُ بالصَّبرِ فيهِ على حرِّ الشَّمسِ: النَّفيرُ للجهادِ في الصَّيفِ، كما قالَ تَعالى عن المنافقينَ:{وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81]. وكذلكَ المشيُ إلى المساجدِ للجمعِ والجماعاتِ وشهودِ الجنائزِ ونحوِها مِن الطَّاعاتِ. والجلوسُ في الشَّمسِ لانتظارِ ذلكَ حيثُ لا يوجَدُ ظلٌّ.

خَرَجَ رجلٌ مِن السَّلفِ إلى الجمعةِ، فوَجَدَ النَّاسَ قد سَبَقوهُ إلى الظِّلِّ، فقَعَدَ في الشَّمسِ، فناداهُ رجلٌ مِن الظِّلِّ أنْ يَدْخُلَ إليهِ، فأبى أنْ يَتَخَطَّى النَّاسَ لذلكَ، ثمَّ تَلا:{وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]

(4)

.

= فالأوّل ضعيف، والآخر شديد الضعف، واجتماعهما لا يكسب هذه الحادثة قوّة، ولفظة "بطّال" بهذا المعنى من محدثات الصوفيّة. والله أعلم.

(1)

رواه البخاري (83 - الأيمان، 31 - النذر فيما لا يملك، 11/ 586/ 6704) من حديث ابن عبّاس.

(2)

البروز للشمس: الخروج من الخيام ونحوها. فيستحبّ لأهل الموقف أن يخرجوا من الخيام ويخلصوا التوجّه إلى الله ويرفعوا أيديهم ويجاروا بالدعاء. ولا بأس على المحرم أن يستظل في ذلك الموقف بفيء شجرة أو بمظلّة أو منديل يلقيه على غصن شجرة أو نحو ذلك. فالضّحاء للشمس والبروز لها لا يستلزمان الوقوف تحت أشعّتها المباشرة ولا ينافيان طلب الفيء. فتنبّه.

(3)

إن كان معتادًا على طول الوقوف تحت أشعّة الشمس المباشرة ويعلم من نفسه القدرة والتحمّل؛ فلا بأس عليه، وإن كان يعلم أنّه سينهار تحت وطأة هذا الحرّ؛ فإنّه لا يأمن أن يناله بعض إثم لفعله. وقد قال صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه:"من أمرك أن تعذّب نفسك".

(4)

وهذا كالذي قبله سواء.

ص: 693

كانَ بعضُهُم إذا رَجَعَ مِن الجمعةِ في حرِّ الطهيرةِ تَذَكَّرَ أنصرافَ النَّاسِ مِن موقفِ الحسابِ إلى الجنَّةِ أوِ النَّارِ. فإنَّ السَّاعةَ تَقومُ يومَ الجمعةِ، ولا يَنْتَصِفُ ذلكَ النَّهارُ حتَّى يَقيلَ أهلُ الجنَّةِ في الجنَّةِ وأهلُ النَّارِ في النَّارِ. قالَهُ ابنُ مَسْعودٍ، وتَلا قولَهُ تَعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24].

ويَنْبَغي لمَن كانَ في حرِّ الشَّمسِ أنْ يَتَذَكَّرَ حرَّها في الموقفِ؛ فإنَّ الشَّمسَ تَدْنو مِن رؤوسِ العبادِ يومَ القيامةِ ويُزادُ في حرِّها.

وكذا يَنْبَغي لمَن لا يَصْبِرُ على حرِّ الشَّمسِ في الدُّنيا أنْ يَجْتَنِبَ مِن الأعمالِ ما يَسْتَوْجِبُ صاحبُهُ بهِ دخولَ النَّارِ، فإنَّهُ لا قوَّةَ لأحدٍ عليها ولا صبرَ.

قالَ قَتادَةُ وقد ذَكَرَ شرابَ أهلِ جهنَّمَ، وهوَ ما يَسيلُ مِن صديدِهِم مِن الجلدِ

(1)

واللحمِ، فقالَ: هل لكُم بهذا يَدانِ أم لكُم عليهِ صبرٌ؟ طاعةُ اللهِ أهونُ عليكُم يا قومِ! فأطيعوا الله ورسولَهُ.

نَسِيتَ لَظًى عِنْدَ ارْتِكابِكَ لِلْهَوى

وَأنْتَ تَوَقَّى حَرَّ شَمْسِ الهواجِرِ

كَأنَّكَ لَمْ تَدْفِنْ حَميمًا وَلَمْ تَكُنْ

لَهُ في سِياقِ المَوْتِ يَوْمًا بِحاضِرِ

رَأى عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ قومًا في جنازةٍ، وقد هَرَبوا مِن الشَّمسِ إلى الظِّلِّ، وتَوَقَّوُا الغبارَ، [فبَكى ثمَّ] أنْشَدَ:

مَن كانَ حينَ تُصيبُ الشَمْسُ جَبْهَتَهُ

أوِ الغُبارُ يَخافُ الشَّيْنَ وَالشَّعَثا

وَيَأْلَفُ الظِّل كَيْ تَبْقى بَشاشَتُهُ

فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا راغِمًا جَدَثا

في ظِلِّ مُقْفِرَةٍ غَبْراءَ مُظْلِمَةٍ

يُطيلُ تَحْتَ الثَّرى في غَمِّهِ اللَبَثا

تَجَهَّزي بِجَهازٍ تَبْلُغينَ بِهِ

يا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدى لَمْ تُخْلَقي عَبَثا

وممَّا يُضاعَفُ ثوابُهُ في شدَّةِ الحرِّ الصِّيامُ؛ لما فيهِ مِن ظمإ الهواجرِ.

ولهذا كانَ مُعاذُ بنُ جَبَلٍ يَتَأسَّفُ عندَ موتهِ على ما يَفوتُهُ مِن ظمإ الهواجرِ. وكذلكَ غيرُهُ مِن السَّلفِ.

(1)

في خ و ن: "بين الجلد"! والصواب ما أثبتّه من من و ط.

ص: 694

ورُوِيَ عن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أنَّهُ كانَ يَصومُ في الصَّيفِ ويُفْطِرُ في الشِّتاءِ

(1)

.

ووَصَّى عُمَرُ رضي الله عنه عندَ موتهِ ابنَهُ عَبْدَ اللهِ رضي الله عنه فقالَ لهُ: عليكَ بخصالِ الإيمانِ، وسَمَّى أوَّلَها الصَّومَ في شدَّةِ الحرِّ في الصَّيفِ

(2)

.

قالَ القاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ: كانَتْ عائِشَةُ رضي الله عنها تَصومُ في الحرِّ الشَّديدِ. قيلَ لهُ: ما حَمَلَها على ذلكَ؟ قالَ: كانَتْ تُبادِرُ الموتَ

(3)

.

وكانَ مُجَمِّعٌ التَّيْمِيُّ يَصومُ في الصَّيفِ حتَّى يَسْقُطَ.

كانَتْ بعضُ الصَّالحاتِ تَتَوَخَّى أشدَّ الأيَّامِ حرًّا فتَصومُهُ، فيُقالُ لها في ذلكَ، فتَقولُ: إنَّ السِّعرَ إذا رَخُصَ اشْتَراهُ كلُّ أحدٍ. تُشيرُ إلى أنَّها لا تُؤْثِرُ إلَّا العملَ الذي لا يَقْدِرُ عليهِ إلَّا القليلُ مِن النَّاسِ لشدَّتِهِ عليهِم. وهذا مِن علوِّ الهمَّةِ

(4)

.

كانَ أبو موسى الأشْعَرِيُّ رضي الله عنه في سفينةٍ، فسَمعَ هاتفًا يَهْتِفُ: يا أهلَ المركبِ! قِفوا! يَقولُها ثلاثًا. فقالَ أبو موسى: يا هذا! كيفَ نَقِفُ؟ أما تَرى ما نحنُ فيهِ؟ كيفَ نَسْتَطيعُ وقوفًا؟ فقالَ الهاتفُ: ألا أُخْبِرُكُمْ بقضاءٍ قَضاهُ اللهُ على نفسِهِ؟ قالَ: بلى؛ أخْبِرْنا. قالَ: فإنَّ الله قَضى على نفسِهِ أنَّهُ مَن عَطَّشَ نفسَهُ للهِ في يومٍ حارٍّ كانَ حقًّا على اللهِ أنْ يُرْوِيَهُ يومَ القيامةِ. فكانَ أبو موسى يَتَوَخَّى ذلكَ اليومَ الحارَّ الشَّديدَ الحرِّ الذي

(1)

(موقوف واه). رواه أحمد في "الزهد"(585) عن أبي بكر بن حفص، ذكر لي أنّ أبا بكر

إلخ. وهذا منقطع أو معضل! وأبو بكر رضي الله عنه فأتبع هذه الأُمّة للسنّة وأبعدها عن التعمّق.

(2)

(موقوف ضعيف). سيأتي بطوله وتفصيل القول فيه (ص 707).

(3)

فتأمّل الفرق العظيم بين هذا وبين ما قبله وبعده! فالسيّدة عائشة رضي الله عنها كانت تصوم في الشتاء، فإذا جاء الصيف حافظت على ما اعتادته من الصيام ولم تقطعه خشية أن يأتيها الموت قبل مجيء الشتاء التالي، فحريّ أن يضاعف أجرها في مثل هذه الحال؛ لأنّ الأجر على قدر المشقّة. وأمّا من اختصّ أشدّ أيّام الصيف حرارة بالصوم تعمّقًا وتشديدًا؛ فإنّه بعيد عن هذا المعنى، وحريّ أن يقال له:"ومن أمرك أن تعذّب نفسك"، أو يقال له ما قاله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي أنهكه الصوم في السفر:"ليس من البرّ الصيام في السفر".

(4)

إن كان لها ولمن قبلها عادة في صوم مؤقّت مشروع كصوم الاثنين والخميس ونحوه فحافظا عليه في الصيف على شدّة الحرّ وطول النهار؛ فهو من علوّ الهمّة

وإن توخّيا التشديد في الصيف على الخصوص؛ فلا يخلو هذا من تنطّع ومخالفة للحنيفيّة السمحة وسيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام.

ص: 695

يَكادُ الإنسانُ يَنْسَلِخُ منهُ فيَصومُهُ

(1)

.

وقالَ كَعْبٌ: إنَّ الله عز وجل قالَ لموسى عليه السلام: إنِّي آلَيْتُ على نفسي أنَّهُ مَن عَطَّشَ نفسَهُ لي أنْ أُرْوِيَهُ يومَ القيامةِ.

وقالَ غيرُهُ: مكتوبٌ في التَّوراةِ: طوبى لمَن جَوَّعَ نفسَهُ ليومِ الشِّبعِ الأكبرِ، طوبى لمَن عَطَّشَ نفسَهُ ليومِ الرِّيِّ الأكبرِ.

وقالَ الحَسَنُ: تَقولُ الحوراءُ لوليِّ اللهِ وهوَ متَّكئ معَها على نهرِ الخمرِ في الجنَّةِ تُعاطيهِ الكأْسَ في أنعمِ عيشةٍ: أتَدْري في أيِّ يومٍ زَوَّجَنيكَ اللهُ؟ إنَّهُ نَظَرَ إليكَ في يومٍ صائفٍ بعيدِ ما بينَ الطَّرفينِ، وأنتَ في ظمإ هاجرةٍ مِن جهدِ العطشِ، فباهى بكَ الملائكةَ وقالَ: انْظُروا إلى عبدي، تَرَكَ زوجتَهُ ولذَّتَهُ وطعامَهُ وشرابَهُ مِن أجلي؛ رغبةً فيما عندي، اشْهَدوا أنِّي قد غَفَرْتُ لهُ. فغَفَرَ لكَ يومئذٍ وزَوَّجَنيكَ

(2)

.

لمَّا سارَ عامِرُ بنُ عَبْدِ قَيْسٍ مِن البصرةِ إلى الشَّامِ كانَ مُعاوِيَةُ يَسْألُهُ أنْ يَرْفَعَ إليهِ حوائجَهُ فَيَأْبى، فلمَّا أكْثَرَ عليهِ؛ قالَ: حاجتي أنْ تَرُدَّ عليَّ مِن حرِّ البصرةِ، لَعَلَّ الصَّومَ أنْ يَشْتَدَّ علي شيئًا؛ فإنَّهُ يَخِفُّ عليَّ في بلادِكُم.

نَزَلَ الحجَّاجُ في بعضِ أسفارِهِ بماءٍ بينَ مَكَّةَ والمَدينَةِ، فدَعا بغدائِهِ، ورَأى أعرابيًّا، فدَعاهُ إلى الغداءِ معَهُ، فقالَ لهُ: دَعاني مَن هوَ خيرٌ منكَ فأجَبْتُهُ. قالَ: ومَن هوَ؟ قالَ: اللهُ عز وجل، دَعاني إلى الصِّيامِ فصُمْتُ. قالَ: في هذا الحرِّ الشَّديدِ؟ قالَ: نعم؟ صُمْتُ ليومٍ هوَ أشدُّ منهُ حرًّا. قالَ: فأفْطِرْ وصُمْ غدًا. قالَ: إنْ ضَمِنْتَ ليَ البقاءَ

(1)

(موقوف ضعيف). رواه: ابن أبي الدنيا في "الهواتف"(13)، وابن الجوزي في "صفة الصفوة"(1/ 560)؛ من طريق لقيط، عن أبي بردة، عن موسى

به. وهذا سند واه من أجل لقيط هذا فإنّه مجهول لا يعرف إلّا بهذا الخبر الغريب وقد ضعّف.

ورواه البزّار (1039 - كشف) من طريق عبد الله بن المؤمّل، عن عطاء، عن ابن عبّاس؛ أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث أبا موسى

فذكره. قال البزّار: "لا نعلمه عن ابن عبّاس إلّا من هذا الوجه". قال المنذري: "إسناد حسن". وقال الهثمي: "رجاله موثّقون". وردّه العسقلاني بقوله: "بل عبد الله بن المؤمّل ضعيف جدًّا".

فهذه أسانيد هذا الخبر الغريب! فلا تغترّ به ولا بحسن سياقته.

(2)

مثل هذا الكلام لا ينبغي أن يقال إلّا بتوقيف! فإن صحّ سنده إلى الحسن؛ فليس له حكم الإرسال؛ لأنّه ربّما يكون من أقاصيص أهل الكتاب.

ص: 696

إلى غدٍ أفْطَرْتُ. قالَ: ليسَ ذلكَ إليَّ. قال: فكيفَ تَسْألُني عاجلًا بآجلٍ لا تَقْدِرُ عليهِ؟!

خَرَجَ ابنُ عُمَرَ في سفرٍ ومعَهُ أصحابُهُ، فوَضَعوا سفرةً لهُم، فمَرَّ بهِم راعٍ، فدَعَوْهُ إلى الأكلِ معَهُم. فقال: إنِّي صائمٌ. فقالَ ابنُ عُمَرَ: في مثلِ هذا اليومِ الشَّديدِ حرُّهُ وأنتَ بينَ هذهِ الشِّعابِ في آثارِ هذهِ الغنمِ وأنتَ صائمٌ؟! فقالَ: أُبادِرُ أيَّامي هذهِ الخاليةَ. فعَجِبَ منهُ ابنُ عُمَرَ وقالَ لهُ: هل لكَ أنْ تَبيعَنا شاةً مِن غنمِكَ ونُطْعِمَكَ مِن لحمِها ما تُفْطِرُ عليهِ ونُعْطِيَكَ ثمنَها؟ قالَ: إنَّها ليستْ لي إنَّها لمولايَ. قالَ: فما عَسَيْتَ أنْ يَقولَ لكَ مولاكَ إنْ قُلْتَ: أكَلَها الذِّئبُ. فمَضى الرَّاعي وهوَ رافعٌ إصبعَهُ إلى السَّماءِ وهوَ يَقول: فأينَ اللهُ؟! فلمْ يَزَلِ ابنُ عُمَرَ يُرَدِّدُ كلمتَهُ هذهِ. فلمَّا قَدِمَ المدينةَ؛ بَعَثَ إلى سيِّدِ الرَّاعي، فاشْتَرَى منهُ الرَّاعيَ والغنمَ، فأعْتَقَ الرَّاعيَ ووَهَبَ لهُ الغنمَ.

ونَزَل رَوْحُ بنُ زِنْباعٍ منزلًا بينَ مَكَّةَ والمدينةِ في حرٍّ شديدٍ، فانْقَضَّ عليهِ راعٍ مِن جبلٍ، فقالَ لهُ: يا راعي! هَلُمَّ إلى الغداءِ. قالَ: إنِّي صائمٌ. قال: أتَصومُ في هذا الحرِّ؟ قالَ: أفَأدَعُ أيَّامي تَذْهَبُ باطلًا؟! فقالَ رَوْحٌ: لقد ضَنِنْتَ بأيَّامِكَ يا راعي إذْ جادَ بها رَوْحُ بنُ زِنْباعٍ.

كانَ ابنُ عُمَرَ يَصومُ تطوُّعًا ويُغْشى عليهِ فلا يُفْطِرُ.

وكانَ الإمامُ أحْمَدُ يَصومُ، حتَّى يَكادُ يُغْمى عليهِ، فيَمْسَحُ على وجهِهِ بالماءِ. وسُئِلَ عمَّن يَصومُ ويَشْتَدُّ عليهِ الحرُّ، قالَ: لا بأْسَ أنْ يَبُلَّ ثوبًا يَتَبَرَّدُ بهِ ويَصُبَّ عليهِ الماءَ، كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بالعرجِ يَصُبُّ على رأْسِهِ الماءَ وهوَ صائمٌ

(1)

.

(1)

(صحيح). رواه: مالك في "الموطّأ"(1/ 294)، وعبد الرزّاق (7508 و 7509)، والشافعي في "المسند"(ص 157) و"السنن"(316) و "اختلاف الحديث"(ص 83)، وأحمد (3/ 475، 4/ 63، 5/ 376 و 380 و 408 و 430)، وأبو داوود (8 - الصيام، 27 - الصائم يصبّ عليه الماء، 1/ 721/ 2365)، والنسائي في "السنن الكبرى"(3029)، والفريابي في "الصيام"(90)، والطحاوي في "المعاني"(2/ 66)، والحاكم (1/ 432)، والبيهقي (4/ 242 و 263)؛ من طريق [سميّ مولى أبي بكر]، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، [عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم]

رفعه. رجاله ثقات رجال الشيخين، وقد أسقط ابن جريج سميًّا من السند وأثبته ابن عيينة ومالك فالقول قولهما، وأرسله ابن جريج وابن عيينة ووصله مالك فوصله زيادة ثقة. ولذلك قال ابن عبد البرّ (22/ 47):"حديث مسند صحيح، ولا فرق بين أن يسمّي التابع الصاحب الذي حدّثه أو لا يسمّيه في وجوب العمل بحديثه؛ لأنّ الصحابة كلهم عدول مرضيّون ثقات أثبات". وقال العسقلاني: =

ص: 697

وكانَ أبو الدَّرْداءِ يَقولُ: صوموا يومًا شديدًا حرُّهُ لحرِّ يومِ النُّشور، وصَلُّوا ركعتينِ في ظلمةِ الليلِ لظلمةِ القبور.

وفي الصَّحيحِ

(1)

: عن أبي الدَّرْداءِ؛ قالَ: لقد رَأيْتُنا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في بعضِ أسفارِهِ في اليومِ الحارِّ الشَّديدِ الحرِّ، وإنَّ الرَّجلَ لَيَضَعُ يدَهُ على رأْسِهِ مِن شدَّةِ الحرِّ، وما في القومِ أحدٌ صائمٌ إلَّا رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وعَبْدَ اللهِ بنَ رَوَاحَةَ. وفي روايةٍ أن ذلكَ كانَ في شهرِ رمضانَ.

لمَّا صَبَرَ الصَّائمونَ للهِ في الحرِّ على شدَّةِ العطشِ والظَّمأ؛ أفْرَدَ لهُم بابًا مِن أبوابِ الجنَّةِ، وهوَ بابُ الرَّيَّانِ، مَن دَخَلَهُ شَرِبَ، ومَن شَرِبَ منهُ لمْ يَظْمَأْ بعدَها أبدًا، فإذا دَخَلوا أُغْلِقَ ذلكَ البابُ على مَن بعدَهُم فلا يَدْخُلُ منهُ غيرُهُم.

[2]

وقد تَحْدُثُ أحيانًا حوادثُ غيرُ معتادةٍ تُذَكِّرُ بالنَّارِ كالصَّواعقِ والرِّيحِ الحارَّةِ المحرقةِ للزَّرعِ:

قالَ اللهُ تَعالى: {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 13].

وقد رُوِيَ أن الصَّواعقَ قطعةٌ مِن نارٍ تَطيرُ مِن في الملكِ الذي يَزْجُرُ السَّحابَ عندَ اشتدادِ غضبِهِ

(2)

.

وقالَ تَعالى: {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة: 266]. والإعصارُ: الرِّيحُ الشَّديدةُ العاصفُ التي فيها نارٌ، والصِّرُّ: الرِّيحُ الشَّديدةُ البردِ.

= "إسناد صحيح". وصحّحه الألباني.

على أنّه رواه: الدارقطني (1/ 419 - لسان الميزان)، والحاكم (1/ 432)؛ من طريق محمّد بن نعيم السعدي، عن مالك، عن سميّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة

رفعه. قال الحاكم: "إن كان محمّد بن نعيم السعدي حفظه هكذا فإنّه صحيح على شرط الشيخين". ووافقه الذهبي. فهذه الطريق إن لم تنفع الطريق السابقة وتقوّيها فلن تضرّها. والله أعلم.

(1)

البخاري (30 - الصوم، 35 - باب 3/ 182/ 1945)، ومسلم (13 - الصيام، 17 - التخيير في الصوم في السفر، 2/ 790/ 1122).

(2)

(موقوف ضعيف). رواه عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ في "العظمة" من قول شهر بن حوشب موقوفًا عليه فيما ذكره السيوطي في "الدرّ"(الرعد 13)، وشهر ضعيف، وليس لقوله هذا حكم الإرسال لأنّه لا يبعد أن يكون من أخبار أهل الكتاب، بل هو منها غالبًا.

ص: 698

[3]

وقد عَذَّبَ اللهُ قومَ شُعَيْبٍ بالظُّلَّةِ، رُوِيَ أنَّهُ أصابَهُم حرٌّ أخَذَ بأنفاسِهِم، فخَرجوا مِن البيوتِ إلى الصَّحراءِ، فأظَلَّتْهُم سحابةٌ، فوَجَدوا لها بردًا، فاجْتَمَعوا تحتَها كلُّهُم، فأمْطَرَتْ عليهِم نارًا، فأحْرَقَتْهُم كلَّهُم

(1)

.

فكلُّ هذهِ العقوباتِ بسببِ المعاصي، وهىَ مِن مقدِّماتِ عقوباتِ جهنَّمَ وأنموذجِها.

[4]

وممَّا يَدُلُّ على الجنَّةِ والنَّارِ أيضًا ما يُعَجِّلُهُ اللهُ في الدُّنيا لأهلِ طاعتِهِ وأهلِ معصيتِهِ.

فإنَّ الله يُعَجِّلُ لأوليائِهِ وأهلِ طاعتِهِ مِن نفحاتِ نعيمِ الجنَّةِ ورَوْحِها ما يَجِدونَهُ ويَشْهَدونَهُ بقلوبِهم ممَّا لا تُحيطُ بهِ عبارةٌ ولا تَحْصُرُهُ إشارةٌ:

حتَّى قالَ بعضُهُم: إنَّهُ لتَمُرُّ بي أوقاتٌ أقولُ: إنْ كانَ أهلُ الجنَّةِ في مثلِ ما أنا فيهِ؛ فإنَّهُم في عيشٍ طيِّبٍ.

وقالَ أبو سُلَيْمانَ: أهلُ الليلِ في ليلِهِم ألذُّ مِن أهلِ اللهوِ في لهوِهِم.

وقالَ بعضُهُم: الرِّضى بابُ اللهِ الأعظمُ وجنَّةُ الدُّنيا ومستراحُ العابدينَ.

قالَ تَعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]. قال الحَسَنُ: يَعْني: نَرْزُقُهُ طاعةً يَجِدُ لذَّتَها في قلبِهِ.

أهلُ التَّقوى في نعيمٍ حيثُ كانوا في الدُّنيا وفي البرزخِ وفي الآخرةِ.

العَيْشُ عَيْشُهُمُ وَالمُلْكُ مُلْكُهُمُ

ما النَّاسُ إلَّا هُمُ بانوا أوِ اقْتَرَبوا

وأمَّا أهلُ المعاصي والمعرضونَ عن اللهِ؛ فإنَّ الله يُعَجِّلُ لهُم في الدُّنيا مِن أنموذجِ عقوباتِ جهنَّمَ ما يُعْرَفُ أيضًا بالتَّجربةِ والذَّوقِ، فلا تَسْألْ عمَّا هُم فيهِ مِن ضيقِ الصَّدرِ والحرجِ والنَّكدِ، وعمَّا يُعَجَّلُ لهُم مِن عقوباتِ المعاصي في الدُّنيا ولو بعدَ حينٍ مِن زمنِ العصيانِ. وهذا مِن نفحاتِ الجحيمِ المعجَّلةِ لهُم. ثمَّ يَنْتَقِلونَ بعدَ هذهِ الدَّارِ إلى أشدَّ مِن ذلكَ وأضيقَ، ولذلكَ يَضيقُ على أحدِهِم قبرُهُ حتَّى تَخْتَلِفَ فيهِ أضلاعُهُ

(1)

انظر تفاصيل القصّة في "الدرّ المنثور"(الشعراء: 189).

ص: 699

ويُفْتَحُ لهُ بابٌ إلى النَّارِ فيَأْتيهِ مِن سَمومِها. قالَ اللهُ تَعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]. وَرَدَ في الحديثِ المرفوعِ تفسيرُها بعذابِ القبرِ

(1)

. ثمَّ بعدَ ذلكَ يَصيرونَ إلى جهنَّمَ وضيقِها. قالَ تَعالى: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 13، 14].

[5]

وممَّا يَدُلُّ أيضًا في الدُّنيا على وجودِ النَّارِ ويُذَكِّرُ بها الحمَّى التي تُصيبُ بني آدَمَ، وهيَ نارٌ باطنةٌ. فمنها نفحةٌ مِن نفحاتِ سمومِ جهنَّمَ، ومنها لفحةٌ مِن لفحاتِ زمهريرِها.

وقد رُوِيَ في حديثٍ خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ وابنُ ماجَهْ أنَّها حظُّ المؤمنِ مِن النَّارِ

(2)

.

(1)

(صحيح). رواه: عبد الرزّاق (6703)، وابن أبي شيبة (12061)، وهنّاد في "الزهد"(345)، والبزّار (طه 124 - ابن كثير)، وابن جرير (20760 و 20761) مختصرًا، وابن حبّان (3113 و 3119)، والطبراني في "الأوسط"(2651)، والحاكم (1/ 379 - 381)، والبيهقي في "عذاب القبر"(57 و 58 و 67)؛ من طريق محمّد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة

رفعه في سياق طويل. قال الهيثمي (3/ 55): "إسناده حسن". قلت: من أجل محمّد بن عمرو؛ ففيه كلام لا ينزل به عن رتبة الحسن، لكن المشكل أنّهم اختلفوا عليه وقفًا ورفعًا، وقد جاء الرفع من أوجه قويّة، فهو زيادة ثقة يتعيّن المصير إليها، ولا سيّما أنّ أكثر المتن ممّا لا يقال اجتهادًا.

ورواه: أحمد (3/ 38)، وابن أبي الدنيا (طه 124 - درّ)، وأبو يعلى (6644)، وابن جرير (24426)، وابن أبي حاتم (طه 124 - درّ)، وابن المنذر (طه 124 - درّ)، وابن حبّان (3122)، والآجرّي في "الشريعة"(854)، وابن مردويه (طه 124 - درّ)؛ من طريقين تقوّي إحداهما الأخرى، عن درّاج، عن ابن حجيرة، عن أبي هريرة

رفعه. وفي درّاج ضعف.

وللحديث شواهد عدّة موقوفة عن جماعة من الصحابة، وجابر مرفوعًا عن أبي سعيد عند الحاكم (2/ 381) بسند صحّحه الحاكم والذهبي على شرط مسلم، وإن كان المشهور عن أبي سعيد الوقف.

وحديث أبي هريرة صحيح بطريقيه، ويزداد صحّة بشواهده، وقد قوّاه ابن حبّان والحاكم والمنذري والذهبي والهيثمي والعسقلاني.

(2)

(حسن صحيح). يرويه أبو صالح الأشعري واختلف عليه فيه على وجهين: روى الأوّل: ابن أبي شيبة (10802)، وأحمد (2/ 440)، وابن ماجه (31 - الطبّ، 18 - الحمّى، 2/ 1149/ 3470)، والترمذي (29 - الطبّ، 35 - باب، 4/ 414/ 2088)، وابن أبي الدنيا في "المرض"، وابن جرير (23851)، والطبراني في "الأوسط"(10) و"الشاميّين"(561)، والحاكم (1/ 345)، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 86)، والبيهقي في "السنن"(3/ 381) و "الشعب"(9844)، وابن عبد البرّ (6/ 359)، من طريق قويّة، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن أبي صالح، عن أبي هريرة

رفعه. وروى الثاني: أحمد (5/ 252)، وابن منيع، وابن أبي الدنيا في "المرض"، والروياني (1269)، والطحاوي في "المشكل"(3/ 68)، والطبراني (8/ 93/ 7468)، =

ص: 700

والمرادُ أنَّ الحمَّى تُكَفِّرُ ذنوبَ المؤمنِ وتُنَقِّيهِ منها كما يُنَقِّي الكيرُ خبثَ الحديدِ.

وإذا طُهِّرَ المؤمنُ مِن ذنوبِهِ في الدُّنيا؛ لم يَجِدْ حرَّ النَّارِ إذا مَرَّ عليها يومَ القيامةِ؛ لأنَّ وجدانَ النَّاسِ لحرِّها عندَ المرور عليها بحسبِ ذنوبِهِم، فمَن طُهِّرَ مِن الذُّنوبِ ونُقِّيَ منها في الدُّنيا؛ جازَ على الصِّراطِ كالبرقِ الخاطفِ والرِّيحِ ولم يَجِدْ شيئًا مِن حرِّ النَّارِ ولم يُحِسَّ بها.

تَقولُ النَّارُ للمؤمنِ: جُزْ يا مؤمنُ! فقد أطْفَأ نورُكَ لهبي.

وفي حديثِ جابرٍ المرفوعِ في "مسند الإمام أحْمَد": أنَّهُم يَدْخُلونَها فتكونُ عليهِم بردًا وسلامًا كما كانَتْ على إبْراهيمَ، حتَّى إنَّ للنَّارِ ضجيجًا مِن بردِهِم

(1)

.

= والبيهقي في "الشعب"(9843)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(6/ 359، 23/ 171)، وابن عساكر، والمزّي في "التهذيب"(33/ 414)؛ من طريق أبي الحصين الشامي أو الفلسطيني، عن أبي صالح، عن أبي أُمامة

رفعه. وإسماعيل بن عبيد الله ثقة، وأبو الحصين إن كان هو مروان بن رؤبة فحديثه لا بأس به ما لم يخالف وإن كان غيره فمجهول. وعليه؛ فالمعروف في هذا المتن أنّه من حديث أبي صالح عن أبي هريرة وذكر أبي أُمامة فيه شاذّ أو منكر، ومع ذلك فأحد الوجهين هنا يقوّي الآخر لأنّ الاختلاف على الصحابي لا يضرّ صحّة المتن. وأبو صالح الأشعري صدوق حسن الحديث، فالسند كذلك.

وله طريق أُخرى عند الدارقطني في "حديث مالك"(4/ 387 - لسان الميزان) عن أبي هريرة، لكنّها ساقطة تفرّد بها عمر بن يحيى عن مالك.

وله شاهد عند القضاعي (62) من حديث ابن مسعود بسند ساقط.

وله شاهد عند: أبي يعلى (3457)، والطبراني في "الأوسط"(7536)، وابن منده (1/ 480 - إصابة)، وأبو نعيم (1/ 480 - إصابة)؛ من طريقين عن أنس. ولكنّه شديد الضعف ولو اجتمعت طريقاه.

وله شاهد عند العقيلي (2/ 287، 3/ 488) من حديث عثمان بسند شديد الضعف.

وآخر عند: البزّار (765 - كشف)، والطبراني في "الأوسط"(3342) و "الصغير"(315)، والدارقطني، وابن الجوزي في "الواهيات"(1450)؛ من طريقين عن عائشة. لكنّه ضعيف ولو اجتمعت طريقاه.

وله شاهد عند: البخاري في "التاريخ"(7/ 63)، والطحاوي في "المشكل"(3/ 68)، وابن قانع في "المعجم"(1/ 345/ 433)، والبيهقي في "الشعب"(9846)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(6/ 360)، وابن عساكر؛ من حديث أبي ريحانة بسند يسير الضعف.

وله شاهد عند ابن سعد (3/ 421) من وجه قويّ عن أبي المتوكّل الناجي مرسلًا.

فحديث أبي صالح حسن، والشواهد الأخيرة عن عائشة وأبي ريحانة وأبي المتوكّل تزيده قوّة وتصحّحه، وقد قوّى بعض أسانيده العقيلي والمنذري والهيثمي والعسقلاني والألباني.

(1)

(ضعيف). رواه: أحمد (3/ 328)، وعبد بن حميد (1106)، والحارث (1127 - هيثمي)، والبخاري في "التاريخ"(33/ 385 - تهذيب الكمال)، وابن ماجه في "التفسير"(21/ 321 - تهذيب التهذيب)، =

ص: 701

[4]

ومِن أعظمِ ما يُذَكِّرُ بنارِ جهنَّمَ النَّارُ التي في الدُّنيا. قالَ اللهُ تَعالى: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [الواقعة: 73]؛ يَعْني: أن نارَ الدُّنيا جَعَلَها اللهُ تذكرةً تُذَكِّرُ بنارِ الآخرةِ.

مَرَّ ابنُ مَسْعودٍ بالحدَّادينَ وقد أخْرَجوا حديدًا مِن النَّارِ فوَقَفَ يَنْظُرُ إليهِ ويَبْكي.

ورُوِيَ عنهُ أنَّهُ مَرَّ على الذينَ يَنْفُخونَ الكيرَ فسَقَطَ.

وكانَ أُوَيْسٌ يَقِفُ على الحدَّادينَ فيَنْظُرُ إليهِم كيفَ يَنْفُخونَ الكيرَ ويَسْمَعُ صوتَ النَّارِ فيَصْرُخُ ثمَّ يَسْقُطُ.

وكذلكَ الرَّبيعُ بنُ خُثَيْمٍ.

وكانَ كثيرٌ مِن السَّلفِ يَخْرُجونَ إلى الحدَّادينَ يَنْظُرونَ [إلى] ما يَصْنَعونَ بالحديدِ، فيَبْكونَ ويَتَعَوَّذونَ باللهِ مِن النَّارِ.

ورَأى عَطاءٌ السَّليمِيُّ

(1)

امرأةً قد سَجَرَتْ تنَّورًا فغُشِيَ عليهِ.

وقالَ الحَسَنُ: كانَ عُمَرُ ربَّما توقَدُ لهُ نارٌ، ثمَّ يُدْني يدَهُ منها، ثمَّ يَقولُ: يا ابنَ الخَطَّابِ! هل لكَ على هذا صبرٌ؟

كانَ الأحْنَفُ بنُ قَيْسٍ يَجيءُ إلى المصباحِ فيَضَعُ أصبعَهُ فيهِ ويَقولُ: حَسَّ

(2)

! ثمَّ يُعاتِبُ نفسَهُ على ذنوبِهِ.

وأجَّجَ بعضُ العبَّادِ نارًا بينَ يديهِ وعاتَبَ نفسَهُ فلمْ يَزَلْ يُعاتِبُها حتَّى ماتَ.

نارُ الدُّنيا جزءٌ مِن سبعينَ جزءًا مِن نارِ جهنَّمَ، وغُسِلَتْ بالبحرِ مرَّتينِ حتَّى أشْرَقَتْ وخَفَّ حرُّها، ولولا ذلكَ ما انْتَفَعَ بها أهلُ الدُّنيا، وهيَ تَدْعو الله ألَّا يُعيدَها إليها.

= والنسائي (3/ 124 - فتح الباري)، وابن المنذر (مريم 71 - الدرّ)، والحكيم الترمذي (الدرّ)، وابن أبي حاتم (الدرّ)، والحاكم (4/ 578)، وابن مردويه (الدرّ)، والبيهقي في "الشعب"(370)، وابن عبد البرّ (6/ 355)، والمزي (33/ 385)؛ من طريق قويّة، عن أبي سميّة، عن جابر

رفعه.

وصحّحه الحاكم ووافقه الذهبي. وحسّنه البيهقي وأقرّه المنذري. وقال المنذري والهيثمي (7/ 58، 10/ 363): "رجاله ثقات". قلت: أبو سميّة مجهول، تفرّد كثير بن زياد بالرواية عنه، فلا يرفع ذكر ابن حبّان له في "الثقات" جهالته. ولذلك قال ابن كثير:"غريب"، وضعّفه الألباني.

(1)

في خ ون: "عطاء السلميّ"، وفي حاشية ن:"لعلّه السليمي"، وقد جاء على الجادّة في م وط.

(2)

حسّ: كلمة تقال عند الألم.

ص: 702

قالَ بعضُ السَّلفِ: لو أُخْرِجَ أهلُ النَّارِ منها إلى نارِ الدُّنيا؟ لَقالوا

(1)

فيها ألفي عامٍ. يَعْني: أنَّهُم كانوا يَنامونَ فيها ويَرَوْنَها بردًا.

كانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَقولُ: أكْثِروا ذكرَ النَّارِ؛ فإنَّ حرَّها شديد، وإنَّ قعرَها بعيد، وإنَّ مقامعَها حديد.

كانَ ابنُ عُمَرَ وغيرُهُ مِن السَّلفِ إذا شَرِبوا ماءً باردًا بَكَوْا وذَكَروا أُمنيةَ أهلِ النَّارِ وأنَّهُم يَشْتَهونَ الماءَ الباردَ - وقد حيلَ بينَهُم وبينَ ما يَشْتَهونَ - وتقولونَ لأهلِ الجنَّةِ: {أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50]، فيَقولونَ [لهُم]: إنَّ الله حَرَّمَهُما على الكافرينَ.

والمصيبةُ العظمى حينَ تُطْبِقُ النَّارُ على أهلِها ويَيْأسونَ مِن الفرجِ، وهوَ الفزعُ الأكبرُ الذي يَأْمَنُهُ أهلُ الجنَّةِ الذينَ سَبَقَتْ لهُم منَّا الحسنى أُولئكَ عنها مبعَدونَ.

لَوْ أبْصَرَتْ عَيْناكَ أهْلَ الشَّقا

سِيقُوا إلى النَّارِ وَقَدْ أُحْرِقوا

شَرابُهُمُ المُهْلُ في قَعْرِها

إذْ خَالَفوا الرُّسْلَ وَما صَدَّقوا

تَقولُ أُخْراهُمْ لأُولاهُمُ

في لُجَجِ المُهْلِ وَقَدْ أُغْرِقوا

قَدْ كُنْتُمُ خُوِّفْتُمُ حَرَّها

لكِنْ مِنَ النِّيرانِ لَمْ تَفْرَقوا

وَجِيءَ بِالنِّيرانِ مَزْمومَةً

شَرارُها مِنْ حَوْلِها مُحْدِقُ

وَقيلَ لِلنِّيرانِ أنْ أحْرِقي

وَقيلَ لِلْخُزَّانِ أنْ أطْبِقوا

‌المجلس الثالث في ذكر فصل الشِّتاء

خَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ مِن حديثِ: أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"الشِّتاءُ ربيعُ المؤمنِ"

(2)

.

(1)

من القيلولة.

(2)

(ضعيف). رواه أحمد (3/ 75)، وأبو يعلى (1061 و 1386)، وابن عدي (3/ 981)، والعسكري (1533 - كشف الخفاء)، والدارقطني في "الأفراد"(501 - واهيات)، وأبو نعيم في "الحلية" =

ص: 703

وخَرَّجَهُ البَيْهَقِيُّ وغيرُهُ وزادَ فيهِ: "طالَ ليلُهُ فقامَه، وقَصُرَ نهارُهُ فصامَه"

(1)

.

• إنَّما كانَ الشِّتاءُ ربيعَ المؤمنِ لأنَّهُ يَرْتَعُ فيهِ في بساتينِ الطَّاعاتِ ويَسْرَحُ في ميادينِ العباداتِ ويُنَزِّهُ قلبَهُ في رياضِ الأعمالِ الميسَّرةِ فيهِ كما تَرْتَعُ البهائمُ في مرعى الرَّبيعِ فتَسْمَنُ وتَصْلُحُ أجسادُها، فكذلكَ يَصْلُحُ دينُ المؤمنِ في الشِّتاءِ بما يَسَّرَ اللهُ تَعالى فيهِ مِن الطَّاعاتِ:

• فإنَّ المؤمنَ يَقْدِرُ في الشِّتاءِ على صيامِ نهارِهِ مِن غيرِ مشقَّةٍ ولا كلفةٍ تَحْصُلُ لهُ مِن جوعٍ ولا عطشٍ؛ فإنَّ نهارَهُ قصيرٌ باردٌ، فلا يُحِسُّ فيهِ بمشقَّةِ الصِّيامِ.

وفي "المسند" و"التِّرْمِذِيِّ": عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "الصِّيامُ في الشِّتاءِ الغنيمةُ الباردةُ"

(2)

.

= (8/ 325)، والقضاعي في "المسند"(141 و 142)، والبيهقي في "السنن"(4/ 297) و"الشعب"(3940)، وابن الجوزي في "الواهيات"(501)، والذهبي في "الميزان"(2/ 25) تعليقًا، والعسقلاني في "اللسان"(3/ 517) تعليقًا؛ من طريق درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد

رفعه.

حسّنه الهيثمي والسيوطي والمناوي، وعدّه ابن عدي وأبو نعيم وابن الجوزي والمزّي والذهبي والعسقلاني والألباني فيما يستنكر من أحاديث درّاج، ودرّاج ضعيف ولا سيّما روايته عن أبي الهيثم.

(1)

(ضعيف). جاءت هذه الزيادة عند البيهقي وغيره بالسند السابق نفسه، فلها حكم أصلها.

(2)

(ضعيف). رواه: ابن أبي شيبة (9741)، وأحمد (4/ 335)، والفسوي (3/ 127)، والترمذي (6 - الصوم، 74 - الصوم في الشتاء، 3/ 162/ 797)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2875)، وأبو يعلى (244 - مختارة)، وابن خزيمة، وابن قانع (2/ 242/ 752)، والطبراني (246 و 247 - مختارة)، والصيداوي في "الشيوخ"(1/ 357/ 342)، والقضاعي في "المسند"(231)، والبيهقي في "السنن"(4/ 296) و"الشعب"(3941)، والضياء في "المختارة"(8/ 208/ 244 - 247)، والرافعي في "التدوين"(2/ 78)، والمزّي في "التهذيب"(14/ 76)؛ من طريق أبي إسحاق، عن نمير بن عريب، عن عامر بن مسعود

رفعه. وهذا سند ضعيف: نمير مجهول، وعامر بن مسعود لا تثبت له صحبة بل هو تابعي فيه جهالة، ولذلك قال البخاري والفسوي والترمذي والبغوي وابن حبّان وابن عدي والبيهقي والضياء:"مرسل".

ورواه قتادة واختلف عليه فيه على وجهين: روى أوّلهما: عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد"(986) من طريق هدبة بن خالد، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 381) والبيهقي (4/ 297) من طريق همّام؛ كلاهما عن قتادة، عن أنس، عن أبي هريرة

موقوفًا. وروى الثاني: الطبراني في "الصغير"(717)، وابن عدي (3/ 1210)، والبيهقي في "الشعب"(3942)؛ من طريق الوليد بن مسلم، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس

رفعه. وهمّام وهدبة ثبتان بخلاف ابن بشير الضعيف في قتادة خصوصًا مع ضعف الطريق إليه لعنعنة الوليد على تدليسه، فالمعروف هنا الوجه الأوّل الموقوف، والرفع منكر.

ص: 704

وكانَ أبو هُرَيْرَةَ يَقولُ: ألا أدُلُّكُمْ على الغنيمةِ الباردةِ؟ قالوا: بلى. فيَقولُ: الصِّيامُ في الشِّتاءِ

(1)

.

ومعنى كونِها غنيمةً باردةً أنَّها غنيمةٌ حَصَلَتْ بغيرِ قتالٍ ولا تعبٍ ولا مشقَّةٍ، فصاحبُها يَحوزُ هذهِ الغنيمةَ عفوًا صفوًا بغيرِ كلفةٍ.

• وأمَّا قيامُ ليلِ الشِّتاءِ؛ فلطولِهِ يُمْكِنُ أنْ تَأْخُذَ النَّفسُ حظَّها مِن النَّومِ ثمَّ تَقومَ بعدَ ذلكَ إلى الصَّلاةِ، فيَقْرَأُ المصلِّي وردَهُ كلَّهُ مِن القرآنِ وقد أخَذَتْ نفسُهُ حظَّها مِن النَّومِ، فيَجْتَمعُ لهُ فيهِ نومُهُ المحتاجُ إليهِ معَ إدراكِ وردِهِ مِن القرآنِ، فيَكْمُلُ لهُ مصلحةُ دينِهِ وراحةُ بدنِهِ. ومِن كلامِ يَحْيى بن مُعاذٍ: الليلُ طويلٌ؛ فلا تُقَصِّرْهُ بمنامِك، والإسلامُ نقيٌّ فلا تُدَنِّسْهُ بآثامِك. بخلافِ ليلِ الصَّيفِ؛ فإنَّهُ لقصرِهِ وحرِّهِ يَغْلِبُ النَّومُ فيهِ فلا تكادُ تَأْخُذُ النَّفسُ حظَّها بدونِ نومِهِ كلِّهِ، فيَحْتاجُ القيامُ فيهِ إلى مجاهدةٍ، وقد لا يَتَمَكَّنُ فيهِ لقصرِهِ مِن الفراغِ مِن وردِهِ مِن القرآنِ.

ورُوِيَ عن ابن مَسْعودٍ؛ قالَ: مرحبًا بالشِّتاءِ؛ تَنْزِلُ فيهِ البركةُ، ويَطولُ فيهِ الليلُ للقيامِ، ويَقْصُرُ فيهِ النَّهارُ للصِّيامِ. ورُوِيَ عنهُ مرفوعًا ولا يَصِحُّ رفعُهُ

(2)

.

= ورواه: ابن عدي (3/ 1075)، والبيهقي في "الشعب"(3942)؛ من طريق عبد الوهّاب بن الضحّاك، عن الوليد بن مسلم، عن زهير بن محمّد، عن ابن المنكدر، عن جابر

رفعه. وعبد الوهّاب بن الضحّاك متّهم، والوليد بن مسلم عنعن علي تدليسه.

وأخلص ممّا تقدّم إلى أنّ حديث عامر بن مسعود مرسل ضعيف، وحديث أنس المعروف فيه الوقف على أبي هريرة ورفعه منكر، وحديث جابر ساقط. واجتماع مثل هذه الواهيات لا يكسب الحديث قوّة. وقد مال إلى تضعيف مفرداته أكثر أهل العلم، وضعّفه الألباني.

(1)

وهذا موقوف صحيح كما تقدّم آنفًا، ولعلّه أصل هذه العبارة، ثمّ رفعها الضعفاء والمتروكون.

(2)

(ضعيف جدًّا). رواه: الساجي (3/ 1297، 7/ 2481 - ابن عدي)، وابن عدي في "الكامل"(3/ 1297، 7/ 2481)، والمزّي في "التهذيب"(10/ 230) تعليقًا، والذهبي في "الميزان"(4/ 270) تعليقًا، والعسقلاني في "اللسان"(6/ 203) تعليقًا؛ من طريق نعيم بن عبد الحميد الواسطي، عن السريّ بن إسماعيل، عن الشعبيّ، عن مسروق، عن ابن مسعود

رفعه.

قال ابن عديّ في ترجمة نعيم: "ليس بذاك في الحديث، ولم يروه عن السريّ غيره". وتعقّبه الذهبي بقوله: "الآفة من السريّ". قلت: وهذا أقرب، وقد أورده ابن عديّ في ترجمته وقال:"لا يتابعه عليه أحد، أحاديثه عن الشعبيّ منكرات لا يرويها غيره". وبالجملة؛ فنعيم ضعيف، والسري متروك متّهم، والسند ساقط، وقد عدّه الساجي وابن عدي والذهبي والعسقلاني في المنكرات.

ص: 705

وعنِ الحَسَنِ قالَ: نِعْمَ زمانُ المؤمنِ الشِّتاءُ؛ ليلُهُ طويلٌ يَقومُه، ونهارُهُ قصيرٌ يَصومُه.

وعن عُبَيْدِ بن عُمَيْرٍ؛ أنَّهُ كانَ إذا جاءَ الشِّتاءُ قالَ: يا أهلَ القرآنِ! طالَ ليلُكُم لقراءتِكُم، وقَصُرَ النَّهارُ لصيامِكُم، فصوموا وقوموا.

لمَّا طالَ ليلُ الشِّتاءِ؛ كانَ قيامُهُ يَعْدِلُ صيامَ نهارِ الصَّيفِ. ولهذا بَكى مُعاذٌ رضي الله عنه عندَ موتِهِ وقالَ: إنَّما أبْكي على ظمإ الهواجرِ، وقيامِ ليلِ الشِّتاءِ، ومزاحمةِ العلماءِ بالرُّكبِ عندَ حلقِ الذِّكرِ. وقالَ مِعْضَدٌ: لولا ثلاثٌ؛ ظمأُ الهواجرِ، وقيامُ ليلِ الشِّتاءِ، ولذاذةُ التَّهجُّدِ بكتابِ اللهِ؛ ما بالَيْتُ أنْ أكونَ يعسوبًا.

• القيامُ في ليلِ الشِّتاءِ يَشُقُّ على النُّفوسِ مِن وجهينِ:

• أحدُهُما: مِن جهةِ تألُّمِ النَّفسِ بالقيامِ مِن الفراشِ في شدَّةِ البردِ. قالَ داوودُ بنُ رُشَيْدٍ: قامَ بعضُ إخواني إلى وردِهِ بالليلِ في ليلةٍ شديدةِ البردِ، وكانَ عليهِ خُلْقانٌ، فضَرَبَهُ البردُ، فبَكى، فهَتَفَ بهِ هاتفٌ: أقَمْناكَ وأنَمْناهُم ثمَّ تَبْكي علينا! خَرَّجَهُ أبو نُعَيْمٍ.

• والثَّاني: بما يَحْصُلُ بإسباغِ الوضوءِ في شدَّةِ البردِ مِن التَّألُّمِ.

وإسباغُ الوضوءِ في شدَّةِ البردِ مِن أفضلِ الأعمالِ

(1)

.

وفي "صحيح مُسْلِم"

(2)

: عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"ألا أدُلُّكُم على ما يَمْحو اللهُ بهِ الخطايا ويَرْفَعُ بهِ الدَّرجاتِ؟ ". قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ! قالّ: "إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ، وكثرةُ الخطا إلى المساجدِ، وانتظارُ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ. فذلكُمُ الرِّباطُ، فذلكُمُ الرِّباطُ".

وفي حديثِ مُعاذِ بن جَبَلٍ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ رَأى ربَّهُ عز وجل (يَعْني: في المنامِ)، فقالَ لهُ: يا مُحَمَّدُ! فيمَ يَخْتَصِمُ الملأُ الأعلى؟ قالَ: "في الدَّرجاتِ والكفَّاراتِ". قالَ: "والكفَّاراتُ: إسباغُ الوضوءِ في الكريهاتِ

(3)

، ونقلُ الأقدامِ إلى

(1)

في خ: "من التألّم وذلك من أفضل الأعمال"، وما أثبتّه من ن وط أوضح.

(2)

(2 - الطهارة، 14 - إسباغ الوضوء على المكاره، 1/ 219/ 251).

(3)

في خ: "في المكروهات"، وما أثبتّه من م ون وط أولى بلفظ الحديث.

ص: 706

الجمعاتِ (وفي روايةٍ: الجماعاتِ)، وانتظارُ الصَّلاةِ بعدَ الصَّلاةِ. مَن فَعَلَ ذلكَ عاشَ بخيرٍ وماتَ بخيرٍ وكانَ مِن خطيئتِهِ كيومَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. والدَّرجاتُ: إطعامُ الطَّعامِ، وإفشاءُ السَّلامِ، والصَّلاةُ بالليلِ والنَّاسُ نيامٌ

" [وذَكَرَ] الحديثَ

(1)

. خَرَّجَهُ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ. وفي بعضِ الرِّواياتِ: "إسباغُ الوضوءِ في السَّبراتِ". والسَّبرةُ: شدَّةُ البردِ.

فإسباغُ الوضوءِ في شدَّةِ البردِ مِن أعلى خصالِ الإيمانِ.

رَوى ابنُ سَعْدٍ بإسنادِهِ؛ أن عُمَرَ رضي الله عنه وَصَّى ابنَهُ عَبْدَ اللهِ عندَ موتِهِ فقالَ لهُ: يا بنيَّ! عليكَ بخصالِ الإيمانِ. قالَ: وما هيَ؟ قالَ: الصَّومُ في شدَّةِ الحرِّ أيَّامَ الصَّيفِ، وقتلُ الأعداءِ بالسَّيفِ، والصَّبرُ على المصيبةِ، وإسباغُ الوضوءِ في اليومِ الشَّاتي، وتعجيل الصَّلاةِ في يومِ الغيمِ، وتركُ ردغةِ الخبالِ. قالَ: فقالَ: وما ردغةُ الخبالِ؟ قالَ: شربُ الخمرِ

(2)

.

ورَوى الأوْزاعِيُّ عن يَحْيى بن أبي كَثيرٍ؛ قالَ: ستٌّ مَن كُنَّ فيهِ فقدِ اسْتكْمَلَ الإيمانَ: قتالُ أعداءِ اللهِ بالسَّيفِ، والصِّيامُ في الصَّيفِ، وإسباغُ الوضوءِ في اليومِ الشَّاتي، والتَّبكيرُ بالصَّلاةِ في اليومِ الغيمِ، وتركُ الجدالِ والمراءِ وأنتَ تَعْلَمُ أنَّكَ صادقٌ، والصَّبرُ على المصيبةِ.

و [قد] رُوِيَ هذا مرفوعًا، خَرَّجَهُ مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ المَرْوَزِيُّ في كتابِ "الصَّلاة" لهُ بإسنادٍ فيهِ ضعفٌ عن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ مرفوعًا:"ستٌّ مَن كنَّ فيهِ بَلَغَ حقيقةَ الإيمانِ: ضربُ أعداءِ اللهِ بالسَّيفِ، وابتدارُ الصَّلاةِ في اليومِ الدَّجنِ، وإسباغُ الوضوءِ عندَ المكارِهِ، والصِّيامُ في الحرِّ، وصبرٌ عندَ المصائبِ، وتركُ المراءِ وأنتَ صادقٌ"

(3)

.

(1)

(صحيح لشواهده). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 104 - 108).

(2)

(موقوف ضعيف). رواه ابن سعد (3/ 359) من طريق ليث، عن رجل من أهل المدينة؛ قال: أوصى عمر

فذكره. وهذا واه: ليث مخلّط، وشيخه مبهم، وظاهره أنّ رواية هذا المبهم عن عمر منقطعة.

(3)

(ضعيف جدًّا). رواه ابن نصر في "الصلاة"(443) من طريق منصور بن بشير، ثنا أبو معشر المدني، عن يعقوب بن أبي زينب، عن عمر بن شبّه، دخلوا على أبي سعيد

فذكره.

وهذه ظلمات بعضها فوق بعض: أبو معشر ضعيف. ويعقوب مجهول. وعمر بن شبّه صوابه عمر بن شيبة، وهو مجهول أو شبه مجهول يروي المقاطيع والمناكير وروايته عن أبي سعيد منقطعة. والمتن شبه الموضوع. وقال الألباني:"ضعيف جدًّا". ووقع في بعض الأصول الخطّيّة: "ترك المراء وأنت محقّ".

ص: 707

وفي كتابِ "الزُّهد" للإمام أحْمَدَ: عن عَطاءِ بن يَسارٍ؛ قالَ: قالَ موسى عليه السلام: يا ربِّ! مَن هُم أهلُكَ الذينَ هُم أهلُكَ، تُظِلُّهُم في ظلِّ عرشِكَ؟ قالَ: همُ البريَّةُ أيديهِم، الطَّاهرةُ قلوبُهُمُ، الذينَ يَتَحابُّونَ بجلالي، الذين إذا ذُكِرْتُ ذُكِروا بي وإذا ذُكِروا ذُكِرْتُ بذكرِهِم، الذينَ يُسْبِغونَ الوضوءَ في المكارهِ، ويُنيبونَ إلى ذكري كما تُنيبُ النُّسورُ إلى أوكارِها، ويَكْلَفونَ بحبِّي كما يَكْلَفُ الصَّبيُّ بحبِّ النَّاسِ، ويَغْضَبونَ لمحارمي إذا استُحِلَّتْ كما يَغْضَبُ النَّمرُ إذا حَرِبَ.

و [قد] رُوِيَ عن داوودَ بن رُشَيْدٍ؟ قالَ: قامَ رجلٌ ليلةً باردةً لِيَتَوَضَّأ للصَّلاةِ، فأصابَ الماءَ باردًا، فبَكى، فنودِيَ: أما تَرْضى أنَّا أنَمْناهُم وأقَمْناكَ حتَّى تَبْكِيَ علينا؟ خَرَّجَهُ ابنُ السَّمْعانِيِّ.

• معالجةُ الوضوءِ في جوفِ الليلِ للتهجُّدِ موجبٌ لرضى الرَّبِّ ومباهاةِ الملائكةِ، ففي شدَّةِ البردِ يَتَأكَّدُ ذلكَ.

ففي "المسند" و"صحيح ابن حِبَّان": عن عُقْبَةَ بن عامِرٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"رجلانِ مِن أُمَّتي، يَقومُ أحدُهُما مِن الليلِ [فـ]ــيعالجُ نفسَهُ إلى الطَّهورِ وعليهِ عقدٌ، فيَتَوَضَّأُ، فإذا وَضَّأ يديهِ انْحَلَّتْ عقدةٌ، وإذا وَضَّأ وجهَهُ انْحَلَّتْ عقدةٌ، وإذا مَسَحَ رأْسَهُ انْحَلَّتْ عقدةٌ، وإذا وَضَّأ رجليهِ انْحَلَّتْ عقدةٌ، فيَقولُ الرَّبُّ عز وجل للذيـ[ــن] وراءَ الحجابِ: انْظُروا إلى عبدي هذا يُعالجُ نفسَهُ، ما سَألَني عبدي هذا فهوَ لهُ"

(1)

.

وفي حديثِ: عَطِيَّةَ، عن أبي سَعيدٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "إنَّ الله لَيَضْحَكُ إلى ثلاثةِ نفرٍ: رجلٌ قامَ مِن جوفِ الليلِ فأحْسَنَ الطُّهورَ ثمَّ صَلَّى

"

(2)

.

قالَ أبو سُلَيْمانَ الدَّارانِيُّ: كنتُ ليلةً باردةً في المحرابِ، فأقْلَقَنِيَ البردُ، فخَبَّأْتُ إحدى يديَّ مِن البردِ وبَقِيَتِ الأُخرى ممدودةً، فغَلَبَتْني عيني، فهَتَفَ بي هاتفٌ

(3)

: يا أبا

(1)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 113).

(2)

(حسن لشواهده). تقدّمت نكارة الحديث (ص 110 - 112) لكن هذه القطعة حسنة بشواهدها.

(3)

ما أكثر هواتفهم! لعلّك لا ترى رجلًا من القوم إلّا وقد رأى الله في يقظته أو في منامه أو سمع نداءه أو هتفت به ملائكته

يسمّون كلّ خاطر يرد في بالهم وفكرة تلتمع في ذهنهم هاتفًا!

ص: 708

سُلَيْمانَ! قد وَضَعْنا في هذهِ ما أصابَها، ولو كانَتِ الأُخرى؛ لَوَضَعْنا فيها. [قالَ]: فآلَيْتُ على نفسي ألَّا أدْعُوَ إلَّا ويدايَ خارجتانِ حرًّا كانَ أو بردًا.

وقالَ مالِكٌ: كانَ صَفْوانُ بنُ سُلَيْمٍ يُصَلِّي (يَعْني: بالليلِ) في الشِّتاءِ في السَّطحِ وفي الصَّيفِ في بطنِ البيتِ؛ يَتيَقَّظُ بالحرِّ والبردِ حتَّى يُصْبِحَ، ثمَّ يَقولُ: هذا الجهدُ مِن صفوانَ، وأنتَ أعلمُ بهِ! وإنَّهُ لَتَرِمُ رجلاهُ حتَّى يَعودَ مثلَ السِّقطِ مِن قيامِ الليلِ ويَظْهَرُ فيهِما عروقٌ خضرٌ.

وكانَ صفوانُ وغيرُهُ مِن العبَّادِ يُصَلُّونَ في الشِّتاءِ بالليلِ في ثوبٍ واحدٍ لِيَمْنَعَهُمُ البردُ مِن النَّومِ.

ومنهُم مَن كانَ إذا نَعَسَ ألْقى نفسَهُ في الماءِ ويَقولُ: هذا أهونُ مِن صديدِ جهنَّمَ

(1)

.

كانَ عَطاءٌ الخُراسانِيُّ يُنادي أصحابَهُ بالليلِ: يا فلانُ! يا فلانُ! يا فلانُ! قوموا تَوَضَّؤوا وصَلُّوا، فقيامُ هذا الليلِ وصيامُ هذا النَّهارِ أهونُ مِن شربِ الصَّديدِ ومقطَّعاتِ الحديدِ غدًا في النَّارِ. الوَحا الوَحا

(2)

! النَّجاءَ النَّجاءَ!

وكانَ قومٌ مِن العبَّادِ يَبيتونَ في مسجدٍ، [وكانوا] يَتَهَجَّدونَ بالليلِ، فاسْتَيْقَظَ واحدٌ منهُم ليلةً، فوَجَدَ إخوانَهُ نيامًا، فسَمعَ هاتفًا يَهْتِفُ مِن جانبِ المسجدِ:

أيا عَجَبًا لِلنَّاسِ قَرَّتْ عُيونَهُمْ

مَطاعِمُ غَمْضٍ بَعْدَها المَوْتُ مُنْتَصِبْ

وطولُ قيامِ الليلِ أيْسَرُ مُؤْنَةً

وَأهْوَنُ مِن نارٍ تَفورُ وتَلْتَهِبْ

وفي الحديثِ الصَّحيحِ: أن ابنَ عُمَرَ رَأى في منامِهِ كأنَّ آتيًا أتاهُ فانْطَلَقَ بهِ إلى النَّارِ حتَّى رَآها، ورَأى فيها رجالًا يَعْرِفُهُم معلَّقينَ بالسَّلاسلِ، فأتاهُ ملكٌ فقالَ لهُ: لمْ تُرَعْ، لستَ مِن أهلِها. فقَصَّ ذلكَ على أُختِهِ حَفْصَةَ. فقَصَّتْهُ حَفْصَةُ على رسولِ اللهِ

(1)

دخل صلى الله عليه وسلم، فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال:"ما هذا الحبل؟ ". قالوا: لزينب، فإذا فترت (يعني: عن صلاة الليل) تعلّقت به. فقال صلى الله عليه وسلم "حلّوه، ليصلّ أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد". رواه: البخاري (1150)، ومسلم (784). وقال في حديث عائشة عند مسلم (786):"إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد". والأحاديث نحوه كثيرة، وسنّته صلى الله عليه وسلم أولى بالاتّباع من تعمّق المتعمّقين وتنطّع المتنطّعين.

(2)

الوحا الوحا: أسرعوا أسرعوا.

ص: 709

- صلى الله عليه وسلم، فقالَ:"نِعْمَ الرَّجلُ عَبْدُ اللهِ لو كانَ يُصَلِّي مِن الليلِ". فكانَ ابنُ عُمَرَ بعدَ ذلكَ لا يَنامُ مِن الليلِ إلَّا قليلًا

(1)

.

قالَ الحَسَنُ: أفضلُ العبادةِ الصَّلاةُ في جوفِ الليلِ.

وقالَ: هوَ أقربُ ما يُتَقَرَّبُ بهِ إلى اللهِ تَعالى، وما وَجَدْتُ في العبادةِ أشدَّ منها.

ورُئِيَ سَلَمَةُ بنُ كُهَيْلٍ في النَّومِ فقالَ: وَجَدْتُ أفضلَ الأعمالِ قيامَ الليلِ، ما عندَهُم أشرفُ منهُ.

ورَأى بعضُ السَّلفِ خيامًا ضُرِبَتْ، فسَألَ: لمَن هيَ؟ فقيلَ: للمتهجِّدينَ بالقرآنِ، فكانَ بعدَ ذلكَ لا يَنامُ.

فَما لي بَعيدَ الدَّارِ لا أقْرَبُ الحِمى

وَقَدْ نُصِبَتْ لِلسَّائِرينَ خِيامُ

عَلامَةُ طَرْدي طولُ لَيْلِيَ نائِمٌ

وَغَيْري يَرى أن المَنامَ حَرامُ

• ومِن الصَّالحينَ مَن كانَ يُلْطَفُ بهِ في الحرِّ والبردِ.

كما دَعا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لعَلِيٍّ رضي الله عنه أنْ يُذْهِبَ [الله] عنهُ الحرَّ والبردَ، فكانَ يَلْبَسُ في الشِّتاءِ ثيابَ الصَّيفِ وفي الصَّيفِ ثيابَ الشِّتاءِ ولا يَجِدُ حرًّا ولا بردًا

(2)

.

(1)

رواه: البخاري (19 - التهجّد، 2 - فضل قيام الليل، 3/ 6/ 1121 و 1122)، ومسلم (44 - الصحابة، 31 - فضائل ابن عمر، 4/ 1927/ 2479). ووقع في حاشية خ: "لن تراع".

(2)

(حسن). رواه: ابن أبي شيبة (36872)، وأحمد في "المسند"(1/ 99 و 133) و"فضائل الصحابة"(950)، وابن ماجه (المقدّمة، 11 - فضائل أصحابه صلى الله عليه وسلم، 1/ 43/ 117)، والبزّار (496 - كشف)، والنسائي في "الخصائص"(14)، والدارقطني في "العلل"(404)، والضياء في "المختارة"(2/ 274/ 655)؛ من طريق ابن أبي ليلى، عن الحكم والمنهال وعيسى بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عليّ

رفعه. قال البوصيري: "ابن أبي ليلى هو محمّد، وهو ضعيف الحفظ لا يحتجّ بما ينفرد به". قلت: لم ينفرد بهذا كما سيأتي.

فرواه: النسائي في "الكبرى"(8536) و"الخصائص"(15)، والطبراني في "الأوسط"(2307)؛ من طريق قويّة، عن أيّوب بن إبراهيم الثقفي، عن إبراهيم الصائغ، عن أبي إسحاق الهمداني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عليّ

رفعه. قال الهيثمي (9/ 125): "إسناده حسن". قلت: أيّوب لم يرو عنه إلّا رجل واحد فحقّه التجهيل ولو ذكره ابن حبّان في "الثقات" وقال العسقلاني: "صدوق".

ورواه الطبراني في "الأوسط"(3808): ثنا علي بن سعيد بن بشير الرازي، ثني الحسن بن عبد الواحد =

ص: 710

وكانَ بعضُ التَّابعينَ يَشْتَدُّ عليهِ الطُّهورُ في الشِّتاءِ، فدَعا الله عز وجل، فكانَ يُؤْتى بالماءِ في الشِّتاءِ ولهُ بخارٌ مِن حرِّهِ.

رَأى أبو سُلَيْمانَ في طريقِ الحجِّ في شدَّةِ البردِ شيخًا عليهِ أخلاقٌ وهوَ يَرْشَحُ عرقًا، فعَجِبَ منهُ وسَألَهُ عن حالِهِ، فقالَ: إنَّما الحرُّ والبردُ خلقانِ للهِ؛ فإنْ أمَرَهُما أنْ يَغْشَياني أصاباني، وإنْ أمَرَهُما أنْ يَتْرُكاني تَرَكاني. وقالَ: أنا في هذهِ [البرِّيَّةِ] مِن ثلاثينَ سنةً؛ يُلْبِسُني في البردِ فيحًا مِن محبَّتِهِ، ويُلْبِسُني في الصَّيفِ بردًا مِن محبَّتِهِ.

وقيلَ لآخرَ وعليهِ خرقتانِ في يومِ بردٍ شديدٍ: لوِ اسْتَتَرْتَ في موضعٍ يُكِنُّكَ مِن البردِ. فأنْشَدَ:

وَيَحْسُنُ ظَنِّي أنَّني في فِنائِهِ

وَهَلْ أحَدٌ كِنِّهِ يَجِدُ البَرْدا

(1)

• وأمَّا مَن يَجِدُ البردَ - وهُم عامَّةُ الخلقِ -؛ فإنَّهُ يُشْرَعُ لهُم دفعُ أذاهُ بما يَدْفَعُهُ مِن لباسٍ وغيرِهِ.

وقدِ امْتَنَّ اللهُ على عبادِهِ بأنْ خَلَقَ لهُم مِن أصوافِ بهيمةِ الأنعامِ وأوبارِها وأشعارِها ما فيهِ دفءٌ لا لهُم:

قالَ تَعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5].

وقال تَعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80].

رَوى: ابنُ المُبارَكِ، عن صَفْوانَ بن عَمْرٍو، عن سُلَيْمِ بن عامِرٍ

(2)

؛ قالَ: كانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ إذا حَضَرَ الشِّتاءُ تَعاهَدَهُم وكتَبَ إليهِم بالوصيَّةِ: إنَّ الشِّتاءَ قد حَضَرَ، وهوَ عدوٌّ، فتَأَهَّبوا لهُ أُهْبَتَهُ مِن الصُّوفِ والخفافِ والجواربِ، واتَّخِذوا الصُّوفَ شعارًا

= الخزّاز، ثني سعّاد بن سليمان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن الجعد مولى سويد بن غفلة، عن سويد

رفعه. وعليّ فيه ضعف، والحسن وسعّاد والجعد مجاهيل.

فاجتماع الطريقين الأوليين يقوّي هذا الأصل، وإلى تقويته مال الهيثمي والألباني.

(1)

قد وجده النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتوقّوا منه ومن المطر ومن الحرّ واستظلّوا وهم أولى بحسن الظنّ بربّهم! وانظر ما يأتي بعد سطور من تحذير عمر رضي الله عنه الصحابة من البرد وحياطته لهم منه.

(2)

في خ وم: "عن سليمان بن عامر"! وهذا تحريف صوابه ما أثبتّه من ن وط.

ص: 711

ودثارًا؛ فإنَّ البردَ عدوٌّ، سريعٌ دخولُهُ، بعيدٌ خروجُهُ.

وإنَّما كانَ يَكْتُبُ بذلكَ عُمَرُ إلى أهلِ الشَّامِ لمَّا فُتِحَتْ في زمنِهِ، فكانَ يَخْشى على مَن بها مِن الصَّحابةِ وغيرِهِم ممَّن لمْ يَكُنْ لهُ عهدٌ بالبردِ أنْ يَتَأذَّى ببردِ الشَّامِ، وذلكَ مِن تمامِ نصيحتِهِ وحسنِ نظرِهِ وشفقتِهِ وحياطتِهِ لرعيَّتِهِ رضي الله عنه.

ورُوِيَ عن كَعْبٍ؛ قالَ: أوْحى اللهُ إلى داوودَ عليه السلام: أنْ تأهَّبْ لعدوٍّ قد أظَلَّكَ. قالَ: يا ربِّ! مَن عدوِّي، وليسَ بحضرتي عدوٌّ؟ قالَ: بلى؛ الشِّتاءُ.

وليس المشروعُ أنْ

(1)

يَتَّقِيَ البردَ حتَّى لا يُصيبَهُ [منهُ]

(2)

شيءٌ بالكلِّيَّةِ؛ فإنَّ ذلكَ يَضرُّ أيضًا. وقد كانَ بعضُ الأُمراءِ يَصونُ نفسَهُ من البردِ والحرِّ بالكلِّيَّةِ حتَّى لا يُحِسَّ بهِما بدنُهُ، فتَلِفَ باطنُهُ وتُعُجِّلَ موتُهُ. فإنَّ الله بحكمتِهِ جَعَلَ الحرَّ والبردَ في الدُّنيا لمصالحِ عبادِهِ، فالحرُّ لتحلُّلِ الأخلاطِ والبردُ لجمودِها، فمتى لم يُصِبِ الأبدانَ شيءٌ مِن الحرِّ والبردِ؛ تَعَجَّلَ فسادُها، ولكنِ المأْمورُ بهِ اتِّقاءُ ما يُؤْذي البدنَ مِن ذلكَ؛ فإنَّ الحرَّ المؤذيَ والبردَ المؤذيَ معدودانِ مِن جملةِ أعداءِ بني آدَمَ.

قيلَ لأبي حازِمٍ الزَّاهدِ: إنَّكَ لَتُشَدِّدُ (يَعْني: في العبادةِ)! فقالَ: وكيفَ لا أُشَدِّدُ وقد تَرَصَّدَ لي أربعةَ عشرَ عدوًّا؟! قيلَ: لكَ خاصَّةً؟ قالَ: بل لجميعِ مَن يَعْقِلُ. قيلَ لهُ: وما هذهِ الأعداءُ؟ قالَ: أمَّا أربعةٌ؛ فمؤمنٌ يَحْسُدُني ومنافقٌ يُبْغِضُني وكافرٌ يُقاتِلُني وشيطانٌ يُغْويني ويُضِلُّني، وأمَّا العشرةُ؛ فالجوعُ والعطشُ والحرُّ والبردُ والعريُ والمرضُ والفاقةُ والهرمُ والموتُ والنَّارُ، ولا أُطيقُهُنَّ إلَّا بسلاحٍ تامٍّ، ولا أجِدُ لهنَّ سلاحًا أفضلَ مِن التَّقوى. فعَدَّ الحرَّ والبردَ مِن جملةِ أعدائِهِ.

وقالَ الأصْمَعِيُّ: كانتِ العربُ تُسَمِّي الشِّتاءَ الفاضحَ. فقيلَ لامرأةٍ منهُم: أيُّما أشدُّ عليكُـ[ــمُ]؛ القيظُ أمِ القرُّ؟ قالَـ[ــتْ]: سبحانَ اللهِ! مَن جَعَلَ البأْسَ كالأذى؟! فجَعَلْتِ الشِّتاءَ بأْسًا والقيظ أذًى

(3)

.

(1)

في ن وط: "وليس المأمور أن".

(2)

ليست في خ وم ون، استفدتها من ط ليستقيم بها السياق.

(3)

البأس: العذاب والشدّة والضرّ.

ص: 712

قالَ بعضُ السَّلفِ: إنَّ الله وَصَفَ الجنَّةَ بصفةِ الصَّيفِ لا بصفةِ الشِّتاءِ، ققالَ تَعالى:{فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ. وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} [الواقعة: 28 - 32].

وقالَ اللهُ تَعالى في صفةِ أهلِ الجنَّةِ: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13]؛ فنَفى عنهُم شدَّةَ الحرِّ والبردِ. قالَ قَتادَةُ: عَلِمَ اللهُ أن شدَّةَ الحرِّ تُؤْذي وشدَّةَ البردِ تُؤْذي، فوَقاهُم أذاهُما جميعًا.

وقالَ أبو عَمْرِو بنُ العَلاءِ: إنِّي لأُبْغِضُ الشِّتاءَ لنقصِ الفروضِ وذهابِ الحقوقِ وزيادةِ الكلفةِ على الفقراءِ.

وقد رُوِيَ في حديثٍ مرفوعٍ: "إنَّ الملائكةَ تَفْرَحُ بذهابِ الشِّتاءِ لِما يَدْخُلُ فيهِ على فقراءِ المؤمنينَ مِن الشِّدَّةِ"

(1)

. ولكنْ لا يَصِحُّ إسنادُهُ.

ورُوِيَ أيضًا مرفوعًا: "خيرُ صيفِكُم أشدُّهُ حرًّا، وخيرُ شتائِكُم أشدُّهُ بردًا، وإنَّ الملائكةَ لَتَبْكي في الشِّتاءِ رحمةً لبني آدمَ"

(2)

. وإسنادُهُ أيضًا باطلٌ.

وقالَ بعضُ السَّلفِ: البردُ عدوُّ الدِّينِ. يُشيرُ إلى أنَّهُ يُفَتِّرُ عن كثيرٍ مِن الأعمالِ ويُثَبِّطُ عنها، فتَكْسَلُ النُّفوسُ بذلكَ.

وقالَ بعضُهُم: خُلِقَتِ القلوبُ مِن طينٍ، فهيَ تَلينُ في الشِّتاءِ كما يَلينُ الطِّينُ فيهِ.

(1)

(منكر). رواه: العقيلي (4/ 216)، والطبراني (11/ 82/ 11171)، وابن عدي (6/ 2368)، والذهبي في "الميزان"(4/ 152) تعليقًا، والعسقلاني في "اللسان"(6/ 77) تعليقًا؛ من طريق معلّى بن ميمون، ثنا مطر الورّاق، عن مجاهد، عن ابن عبّاس

رفعه. ومعلّى ضحيف جدَّا منكر الحديث، ومطر لا يعدو أن يكون صالحًا في الشواهد. وقد عدّ العقيلي وابن عدي والذهبي وابن رجب والهيثمي والعسقلاني والمناوي والألباني هذا الحديث في المنكرات.

ورواه: العقيلي (2/ 104)، والذهبي في "الميزان"(2/ 134) تعليقًا، والعسقلاني في "اللسان"(3/ 33) تعليقًا؛ من طريق نعيم بن حمّاد، عن سعيد بن دهثم، عن عبد الله بن نمير الرحبي، عن مجاهد، عن ابن عبَّاس

رفعه مختصرًا. ونعيم يخطى كثيرًا، وسعيد والرحبيّ مجهولان لا يعرفان بنقل وأتيا بهذا الخبر المنكر. ولذلك قال العقيلي:"غير محفوظ".

(2)

(باطل). رواه المقريزي (2/ 394 - فيض القدير) من حديث ابن عمر مرفوعًا. ولم أقف على سنده، فحسبي فيه شهادة ابن رجب الذي وقف على سنده.

ص: 713

قالَ الحَسَنُ: الشِّتاءُ ذكرٌ فيهِ اللقاحُ، والصَّيفُ أُنثى فيهِ النَّتاجُ. يُشيرُ إلى أن الصَّيفَ تُنْتَجُ فيهِ المواشي والشَّجرُ.

والصَّيفُ عندَ العرب هوَ الرَّبيعُ، وأمَّا الذي تُسَمِّيهِ النَّاسُ الصَّيفَ؛ فالعربُ تُسَمِّيهِ القيظَ. ففي الشِّتاءِ تَغورُ

(1)

الحرارةُ إلى باطنِ الشَّجرِ فتَنْعَقِدُ موادُّ الثَّمرِ فتَظْهَرُ في الرَّبيعِ مباديها فتُزْهِرُ الشَّجرُ ثمَّ تورِقُ، ثمَّ إذا ظَهَرَتِ الثِّمارُ قَوِيَ حرُّ الشَّمسِ لإنضاجِها.

• الإيثارُ في الشِّتاءِ للفقراءِ

(2)

بما يَدْفَعُ عنهُمُ البردَ لهُ فضلٌ عظيمٌ.

خَرَجَ صَفْوانُ بنُ سُلَيْمٍ في ليلةٍ باردةٍ بالمدينةِ مِن المسجدِ، فرَأي رجلًا عاريًا، فنَزَعَ ثوبَهُ وكَساهُ إيَّاهُ، فرَأى بعضُ أهلِ الشَّامِ في منامِهِ أن صَفْوانَ بنَ سُلَيْمٍ دَخَلَ الجنَّةَ بقميصٍ كَساهُ، فقَدِمَ المدينةَ فقالَ: دُلُّوني على صَفْوانَ، فأتاهُ فقَصَّ عليهِ ما رَأى.

رأى مِسْعَرٌ أعرابيًّا يَتَشَرَّقُ

(3)

في الشَّمسِ وهوَ يَقولُ:

جاءَ الشِّتاءُ وَلَيْسَ عِنْدِيَ دِرْهَمٌ

وَلَقَدْ يُخَصُّ بِمِثْلِ ذاكَ المُسْلِمُ

قَدْ قَطَّعَ النَّاسُ الجِبابَ وَغَيْرَها

وَكَأنَّني بِفِناءِ مَكَّةَ مُحْرِمُ

فنَزَعَ مِسْعَرٌ جبَّتَهُ فألْبَسَهُ إيَّاها.

رُفعَ إلى بعضِ الوزراءِ الصَّالحينَ أن امرأةً معَها أربعةُ أطفالٍ أيتامٍ وهُم عراةٌ جياعٌ، فأمَرَ رجلًا أنْ يَمْضِيَ إليهِم ويَحْمِلَ معَهُ ما يُصْلِحُهُم مِن كسوةٍ وطعامٍ، ثمَّ نَزَعَ ثيابَهُ وحَلَفَ: لا لَبِسْتُها ولا دَفِيتُ حتَّى تَعودَ وتُخْبِرَني أنَّكَ كَسَوْتَهُم وأشْبَعْتَهُم. فمَضى وعادَ وأخْبَرَهُ أنَّهُمُ اكْتَسَوْا وشَبِعوا وهوَ يَرْعُدُ مِن البردِ، فلَبِسَ حينئذٍ ثيابَهُ.

خَرَّجَ التَرْمِذِيُّ مِن حديثِ أبي سَعيدٍ مرفوعًا: "مَن أطْعَمَ مؤمنًا على جوعٍ؛ أطْعَمَهُ اللهُ يومَ القيامةِ مِن ثمارِ الجنَّةِ، ومَن سَقاهُ على ظمإ؛ سَقاهُ اللهُ يومَ القيامةِ مِن الرَّحيقِ

(1)

في خ وم: "الصيف تسمّيه العرب القيظ ففي الشتاء تعود"، وفي ن: "

تعود"، وفي ط: "

يسمّونه اليقظ ففي الشتاء تغور"، وأرجو أنّني أثبتّ أولاها بالصواب.

(2)

في خ وم: "فإذا ظهرت الثمار

الإيثار للفقراء في الشتاء"، والأولى ما أثبتّه من ن وط.

(3)

في خ وم: "يشّرق". والمعنى: يتدفّأ بحرارة الشمس.

ص: 714

المختومِ، ومَن كَساهُ على عريٍ؛ كَساهُ اللهُ مِن خضرِ الجنَّةِ"

(1)

.

ورَوى ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادِهِ عن ابن مَسْعودٍ؛ قالَ: يُحْشَرُ النَّاسُ يومَ القيامةِ أعرى ما كانوا قطُّ وأجوعَ ما كانوا قطُّ وأظمأ ما كانوا قطُّ: فمَن كَسا للهِ عز وجل كَساهُ اللهُ، ومَن أطْعَمَ للهِ أطْعَمَهُ اللهُ، ومَن سَقى للهِ سَقاهُ اللهُ، ومَن عَفا للهِ عفا اللهُ عنهُ"

(2)

.

(1)

(حسن لشواهده). يرويه عطيّة العوفي واختلف عليه فيه على وجهين: روى أوّلهما: الترمذي (38 - القيامة، 18 - باب، 4/ 633/ 2449)، وابن أبي الدنيا في "الحوائج"(31)، وأبو يعلى (1111)، وابن أبي حاتم في "العلل"(2007)؛ من طريق أبي الجارود زياد بن المنذر، عن عطيّة، عن أبي سعيد

رفعه. وأبو الجارود متّهم متروك. وروى الثاني: ابن أبي شيبة (34344)، وأحمد (3/ 13)، وهنّاد (670)، وابن أبي حاتم في "العلل"(2007)، والبيهقي في "الشعب"(3370 و 3371)؛ من طريق سعد بن مجاهد الطائي، [عن عطيّة، عن أبي سعيد]

مرفوعًا وموقوفًا ومرسلًا. فكأنّ عطيّة هو الذي اضطرب فيه رفعًا ووقفا فإنّه ضعيف سمى التدليس جدّا. لكنّه جاء عند ابن أبي شيبة وهنّاد من وجه قويّ عن سعد الطائي مرسلًا ممّا يرجّح جانب الرفع. لكن يبقى السند ضعيفًا من أجل عطيّة.

ورواه: أبو داوود (3 - الزكاة، 41 - فضل سقي الماء، 1/ 526/ 1682)، والبيهقي (4/ 185)؛ من طريق قويّة، عن أبي خالد الدالاني، عن نبيح العنزي، عن أبي سعيد

رفعه. قال المنذري: "في إسناده الدالاني". قلت: هو غير مدفوع عن صدق، لكنّه يخطئ ويأتي بمناكير ويدلّس، فلا يطمئنّ القلب لتقوية حديثه. ونبيح صدوق حسن الحديث قصّر العسقلاني وعدّه من المقبولين فقط!

ورواه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 134) من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد

رفعه مختصرًا. وأبو هارون متّهم متروك.

ورواه البيهقي في "الشعب"(3370) من طريق قويّة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وهذا مرسل قويّ.

ورواه تمّام في "الفوائد"(1295) من طريق مسلسلة بالمجاهيل، عن رجاء بن حيوة، عن معاذ

رفعه مختصرًا. ورواية رجاء عن معاذ مرسلة.

فخير هذه الطرق طريق نبيح العنزي فإنّها يسيرة الضعف، يليها مرسل الشعبيّ القويّ، فطريق عطيّة الضعيفة. فاجتماع هذه الثلاث يفيد أنّ للحديث أصلًا، وحديث معاذ على شدّة ضعفه يزيدنا ثقة بذلك، ثمّ يضاف إليه حديث ابن مسعود الآتي بعده؛ فإنّ له حكم الرفع. وضعّفه أبو حاتم والترمذي والألباني.

(2)

(حسن لشواهده). رواه: ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج"(30) و"المعروف"، وابن حبّان في "الثقات"(8/ 18)؛ من طريق قويّة، عن شريك، عن هلال، عن ابن عكيم، عن ابن مسعود

موقوفًا.

وشريك سيّئ الحفظ، وهلال هو ابن أبي حميد ثقة، وابن عكيم هو عبد الله ثقة، فالسند صالح في الشواهد، وله حكم الرفع لأنّه لا يقال اجتهادًا، بل قال المنذري (1392):"وروي مرفوعًا بهذا اللفظ"، ولم أقف عليه، ويشهد له ما قبله فهو به حسن. والله أعلم.

ص: 715

• ومِن فضائلِ الشِّتاءِ أنَّهُ يُذَكِّرُ بزمهريرِ جهنَّمَ ويوجِبُ الاستعاذةَ منها.

وفي حديثِ أبي هُرَيْرَةَ وأبي سَعيدٍ: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ: "إذا [كانَ] يومٌ شديدُ البردِ، فإذا قالَ العبدُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، ما أشدَّ بردَ هذا اليومِ! اللهمَّ أجِرْني مِن زمهريرِ جهنَّمَ. قالَ اللهُ تَعالى لجهنَّمَ: إنَّ عبدًا مِن عبادي اسْتَجارَ بي مِن زمهريرِكِ، وإنِّي أُشْهِدُكِ أنِّي قد أجَرْتُهُ". قالوا: وما زمهريرُ جهنَّمَ؟ قالَ: "بيتٌ يُلْقى فيهِ الكافرُ فيَتَمَيَّزُ مِن شدَّةِ بردِهِ"

(1)

.

قامَ زُبَيْدٌ اليامِيُّ ذاتَ ليلةٍ للتَّهجُّدِ، فعَمَدَ إلى مطهرةٍ لهُ كانَ يَتَوَضَّأُ منها، فغَمَسَ يدَهُ في المطهرةِ، فوَجَدَ الماءَ باردًا شديدًا كادَ أنْ يَجْمُدَ مِن شدَّةِ البردِ، فذَكَرَ الزَّمهريرَ ويدُهُ في المطهرةِ، فلمْ يُخْرِجْها حتَّى أصبحَ. فجاءَتْ جاريتُهُ وهوَ على تلكَ الحالِ، فقالَتْ: ما شأْنُك يا سيِّدي لم تُصَلِّ الليلةَ كما كُنْتَ تُصَلِّي وأنتَ قاعدٌ هنا على هذهِ الحالةِ؟ قالَ: ويحكِ! إنِّي أدْخَلْتُ يدي في هذهِ المطهرةِ، فاشْتَدَّ عليَّ بردُ الماءِ، فذَكَرْتُ بهِ الزَّمهريرَ، فواللهِ؟ ما شَعَرْتُ بشدَّةِ بردِهِ حتَّى وَقَفْتِ عليَّ، فانْظُري لا تُحَدِّثي بهذا أحدًا ما دمتُ حيًّا. فما عَلِمَ بذلكَ أحدٌ حتَّى ماتَ.

وفي الحديثِ الصَّحيحِ: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إن لجهنَّمَ نفسينِ؛ نفسًا في الشِّتاءِ ونفسًا في الصَّيفِ. فأشدُّ ما تَجِدونَ مِن البردِ مِن زمهريرِها، وأشدُّ ما تَجِدونَ مِن الحرِّ مِن سمومِها"

(2)

.

[و] رُوِيَ عن أبنِ عَبَّاسٍ؛ قالَ: يَسْتَغيثُ أهلُ النَّارِ مِن الحرِّ، فيُغاثونَ بريحٍ باردةٍ يُصَدِّعُ العظامَ بردُها، فيَسْألونَ الحرَّ.

وعن مُجاهِدٍ؛ قالَ: يَهْرُبونَ إلى الزَّمهريرِ، فإذا وَقَعوا فيهِ؛ حَطَمَ عظامَهُم حتَّى يُسْمَعَ لها نقيصٌ.

وعن كَعْبٍ قالَ: إنَّ في جهنَّمَ بردًا هوَ الزَّمهريرُ، يُسْقِط اللحمَ، حتَّى يَسْتَغيثوا بحرِّ جهنَّمَ.

(1)

(ضعيف). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 691 - 692).

(2)

متّفق عليه. تقدم تفصيل القول فيه (ص 688).

ص: 716

وعن عَبْدِ المَلِكِ بن عُمَيْرٍ؛ قالَ: بَلَغَني أن أهلَ النَّارِ سَألوا خازِنَها أنْ يُخْرِجَهُم إلى جنباتِها، فأُخرِجوا، فقَتَلَهُمُ البردُ والزَّمهريرُ، حتَّى رَجَعوا إليها فدَخَلوها ممَّا وَجَدوا مِن البردِ.

وقد قالَ اللهُ تَعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا. إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 24 - 25]. وقالَ تَعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص: 57]. قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الغَسَّاقُ: الزَّمهريرُ الباردُ الذي يُحْرِقُ مِن بردِهِ. وقالَ مُجاهِدٌ: هوَ الذي لا يَسْتَطيعونَ أنْ يَذوقوهُ مِن بردِهِ. وقيلَ: إنَّ الغسَّاقَ الباردُ المنتنُ.

أجارَنا اللهُ تَعالى مِنها.

يا مَن تُتْلى عليهِ أوصافُ جهنَّم، ويُشاهِدُ نفسَها كلَّ عامٍ حتَّى يُحِسَّ بهِ ويَتَألَّم، وهوَ مصرٌّ على ما يُقْتَضي دخولَها معَ أنَّهُ يَعْلَم، سَتَعْلَمُ إذا جِيءَ بها تُقادُ بسبعينَ ألفِ زمامٍ مَن يَنْدَم، ألكَ صبرٌ على سعيرِها وزمهريرِها؟ قُلْ وتَكَلَّمْ، ما كانَ صلاحُكَ يُرْجى واللهُ أعلم.

كَمْ يَكونُ الشِّتاءُ ثُمَّ المَصيفُ

وَرَبيعُ يَمْضي وَيَأْتي الخَريفُ

وَارْتِحالٌ مِنَ الحَرورِ إلى البَرْ

دِ وَسَيْفُ الرَّدى عَلَيْكَ مُنِيفُ

يا قَليلَ المُقامِ في هذهِ الدُّنْـ

ـــيا إلى كَمْ يَغُرُّكَ التَّسْويفُ

(1)

عَجَبًا لامْرِئ يَذِلُّ لِذي الدُّنْـ

ــــيا وَيَكْفيهِ كُلَّ يَوْمٍ رَغيفُ

* * * * *

(1)

زاد في ن وط وحاشية خ هنا: "يا طالب الزائل حتّى متى، قلبك بالزائل مشغوف"، وهذه زيادة ناسخ وجدت طريقها إلى المتن، ولا يستقيم مع سائر الأبيات وزنًا؛ فإنّه من الرجز والأبيات من الخفيف.

ص: 717

‌مجلس في ذكر التوبة والحث عليها قبل الموت وختم العمر بها

فإنَّ التَّوبةَ وظيفةُ العمرِ. وهيَ خاتمةُ مجالسِ الكتابِ.

خَرَّجَ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ وابنُ حِبَّانَ في "صحيحه" مِن حديثِ: ابن عُمَرَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إنَّ الله عز وجل يَقْبَلُ توبةَ العبدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ"

(1)

. قالَ التِّرْمِذِيُّ: حديثٌ حسنٌ.

• دَلَّ هذا الحديثُ على قبولِ اللهِ توبةَ عبدِهِ ما دامَتْ روحُهُ في جسدِهِ لمْ تَبْلُغِ

(1)

(حسن صحيح). رواه: ابن الجعد (3529)، وأحمد (2/ 132 و 153)، وعبد بن حميد (847)، وابن ماجه (37 - الزهد، 30 - التوبة، 2/ 1420/ 4253)، والترمذي (49 - الدعو ات، 99 - التوبة والاستغفار، 5/ 547/ 3537)، وأبو يعلى (5609 و 5717)، وابن حبّان (628)، والطبراني في "الشاميّين"(194)، وابن عدي (4/ 1592)، والحاكم (4/ 257)، وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 190)، والبيهقي في "الشعب"(7063 و 7064)، والبغوي في "السنّة"(1306)، والذهبي في "النبلاء"(5/ 160)؛ من طريق ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن جبير بن نفير، عن ابن عمر

رفعه. قال البوصيري: "إسناد ضعيف لتدليس الوليد ومكحول". قلت: الوليد توبع، ورواية مكحول عن التابعي يستبعد فيها التدليس، وإنّما كان يرسل عن الصحابة. ولذلك قال الترمذي:"حسن غريب"، وأقرّه المنذري والنووي وابن كثير ابن رجب والعجلوني والألباني. وصحّحه ابن حبّان والحاكم والذهبي. وقال الذهبيّ في "النبلاء":"حديث عال صالح الإسناد". قلت: إنّما اكتفوا بتحسينه لحال ابن ثوبان فحديثه لا يرقى إلى الصحّة.

وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن البيلماني عن رجل من الصحابة سيأتي الكلام فيه (ص 731).

وشاهد عند: القضاعي (1085)، والخطيب (8/ 317)؛ من وجهين، عن عبادة

رفعه.

وشاهد عند: أبي الشيخ في "الطبقات"(3/ 124)، وابن مردويه (النساء 17 - ابن كثير)؛ من طريق لا بأس بها، عن أبي هريرة

رفعه.

وشاهد عند: ابن أبي شيبة (35067)، والطبري (8857)؛ من طريق قويّة، عن الحسن

مرسلًا.

وشاهد عند ابن جرير (8858) من طريق قويّة، عن أيّوب بن بشير

مرسلًا.

فالحديث صحيح بهذه الشواهد بلا ريب، وإلى تقويته مال أكثر أهل العلم كما تقدّم.

ص: 718

الحلقومَ والتَّراقيَ.

وقد دَلَّ القرآنُ على مثلِ ذلكَ [أيضًا]: قالَ اللهُ عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 17]. وعملُ السُّوءِ إذا أُفْرِدَ؛ دَخَلَ فيهِ

(1)

جميعُ السَّيِّئاتِ صغيرُها وكبيرُها.

• والمرادُ بالجهالةِ الإقدامُ على عملِ السُّوءِ، وإنْ عَلِمَ صاحبُهُ أنَّهُ سوءٌ؛ فإنَّ كلَّ مَن عَصى الله فهوَ جاهلٌ وكلَّ مَن أطاعَهُ فهوَ عالمٌ، وبيانُهُ مِن وجهينِ:

• أحدُهُما: أن مَن كانَ عالمًا باللهِ وعظمتِهِ وكبريائِهِ وجلالِهِ؛ فإنَّهُ يَهابُهُ ويَخْشاهُ، فلا يَقَعُ منهُ معَ استحضارِ ذلكَ عصيانُهُ. كما قالَ بعضُهُم: لو تَفَكَّرَ النَّاسُ في عظمةِ اللهِ؛ ما عَصَوْهُ. وقالَ آخرُ: كَفى بخشيةِ اللهِ علمًا وكَفى بالاغترارِ باللهِ جهلًا.

• والثاني: أن مَن آثَرَ المعصيةَ على الطَّاعةِ؛ فإنَّما حَمَلَهُ على ذلكَ: جهلُهُ وظنُّهُ أنَّها تَنْفَعُهُ عاجلًا باستعجالِ لذَّتِها، وإنْ كانَ عندَهُ إيمانٌ؟ فهوَ يَرْجو التَّخلُّصَ مِن سوءِ عاقبتِها بالتَّوبةِ في آخرِ عمرِهِ. وهذا جهلٌ محضٌ؛ فإنَّهُ يَتَعَجَّلُ الإثمَ والخزيَ ويَفوتُهُ عزُّ التَّقوى وثوابُها ولذَّةُ الطَّاعةِ، وقد يَتَمَكَّنُ مِن التَّوبةِ بعدَ ذلكَ وقد يُعاجِلُهُ الموتُ بغتةً، فهوَ كجائعٍ أكَلَ طعامًا مسمومًا لدفعِ جوعِهِ الحاضرِ ورَجا أنْ يَتَخَلَّصَ مِن ضررِهِ بشربِ الدِّرياقِ

(2)

بعدَهُ، وهذا لا يَفْعَلُهُ إلَّا جاهلٌ.

وقد قالَ اللهُ تَعالى في حقِّ الذينَ يُؤْثِرونَ السِّحرَ: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ. وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102 - 103]. والمرادُ أنَّهُم آثَروا السِّحرَ على التَّقوى والإيمانِ لِما رَجَوْا فيهِ مِن منافعِ الدُّنيا المعجَّلةِ معَ علمِهِم أنَّهُم يَفوتُهُم بذلكَ ثوابُ الآخرةِ، وهذا جهلٌ منهُم؛ فإنَّهُم لو عَلِموا؛ لآثَروا الإيمانَ والتَّقوى على ما عَداهُما، فكانوا يُحْرِزونَ أجرَ الآخرةِ ويَأْمَنونَ عقابَها ويَتَعَجَّلونَ عزَّ التَّقوى في الدُّنيا، وربَّما وَصَلوا إلى ما يَأْمُلونَهُ في الدُّنيا

(1)

في خ: "يدخل فيه"، والأولى ما أثبتّه من م ون وط.

(2)

الدرياق والترياق: ما يشرب لتعديل أثر السمّ.

ص: 719

[أ] وإلى خيرٍ منهُ [وأنفعَ]؛ فإن أكثرَ ما يُطْلَبُ بالسِّحرِ قضاءُ حوائجَ محرَّمةٍ أو مكروهةٍ عندَ اللهِ، والمؤمنُ المتَّقي يُعَوِّضُهُ اللهُ في الدُّنيا خيرًّا ممَّا يَطْلُبُهُ السَّاحرُ ويُؤْثِرُهُ معَ تعجيلِهِ عزَّ التَّقوى وشرفَها وثوابَ الآخرةِ وعلوَّ درجاتِها، فتبَيَّنَ بهذا أن إيثارَ المعصيةِ على الطَّاعةِ إنَّما يَحْمِلُ عليهِ الجهلُ، فلذلكَ كانَ كلُّ مَن عَصى الله جاهلًا وكلُّ مَن أطاعَهُ عالمًا، وكَفى بخشيةِ اللهِ علمًا وبالاغترارِ بهِ جهلًا.

• فأمَّا التَّوبةُ مِن قريبٌ؛ فالجمهورُ على أن المرادَ بها التَّوبةُ قبلَ الموتِ. والعمرُ كلُّهُ قريبٌ، والدُّنيا كلُّها قريبٌ، فمَن تابَ قبلَ الموتِ؛ فقد تابَ مِن قريبٍ، ومَن ماتَ ولمْ يَتُبْ؛ فقد بَعُدَ كلَّ البعدِ. كما قيلَ:

فَهُمْ جِيرَةُ الأحْياءِ أمَّا مَزارُهُمْ

فَدانٍ وَأمَّا المُلْتَقى فَبَعيدُ

فالحيُّ قريبٌ، والميِّتُ بعيدٌ مِن الدُّنيا على قربِهِ منها؛ فإنَّ جسمَهُ في الأرضِ يَبْلى، وروحَهُ عندَ اللهِ تُنَعَّمُ أو تُعَذَّبُ، ولقاؤُهُ لا يُرْجى في الدُّنيا، كما قيلَ:

مُقيمٌ إلى أنْ يَبْعَثَ اللهُ خَلْقَهُ

لِقاؤُكَ لا يُرْجى وَأنْتَ قَريبُ

تَزيدُ بِلًى في كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ

وَتُنْسى كَما تَبْلى وَأنْتَ حَبيبُ

وهذانِ البيتانِ سَمِعَهُما داوودُ الطَّائِيُّ رحمه الله مِنِ امرأةٍ في مقبرةٍ تَنْدُبُ بهِما ميِّتًا لها، فوَقَعا مِن قلبِهِ موقعًا، فاسْتَيْقَظَ بهِما ورَجَعَ زاهدًا في الدُّنيا راغبًا في الآخرةِ وانْقَطَعَ إلى العبادةِ إلى أنْ ماتَ.

فمَن تابَ قبلَ أنْ يُغَرْغِرَ؛ فقد تابَ مِن قريبٍ، فتُقْبَلُ توبتُهُ.

ورُوِيَ عن ابن عَبَّاسٍ في قولِهِ تَعالى: {يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17]؛ قالَ: قبلَ المرضِ والموتِ.

وهذا إشارةٌ إلى أنَّ أفضلَ أوقاتِ التَّوبةِ هوَ أنْ يُبادِرَ الإنسانُ بالتَّوبةِ في صحَّتِهِ قبلَ نُزولِ المرضِ بهِ حتَّى يَتَمَكَّنَ حينئذٍ مِن العملِ الصَّالحِ. ولذلكَ قَرَنَ اللهُ التَّوبةَ بالعملِ الصَّالحِ في مواضعَ كثيرةٍ مِن القرآنِ.

وأيضًا؛ فالتَّوبةُ في الصِّحَّةِ ورجاءِ الحياةِ تُشبِهُ الصَّدقةَ بالمالِ في الصِّحَّةِ ورجاءِ البقاءِ، والتَّوبةُ في المرضِ عندَ حضورِ أماراتِ الموتِ تُشْبِهُ الصَّدقةَ بالمالِ عندَ الموتِ،

ص: 720

فكأنَّ مَن لا يَتوبُ إلَّا في مرضِهِ قدِ اسْتَفْرَغَ صحَّتَهُ وقوَّتَهُ في شهواتِ نفسِهِ وهواهُ ولذَّاتِ دنياهُ، فإذا أيِسَ مِن الدُّنيا والحياةِ فيها؛ تابَ حينئذٍ وتَرَكَ ما كانَ عليهِ. فأينَ توبةُ هذا مِن توبةِ مَن يَتوبُ مِن قريب وهوَ صحيحٌ قويٌّ قادرٌ على عملِ المعاصي تاركٌ لها خوفًا مِن اللهِ عز وجل ورجاءً لثوابِهِ وإيثارًا لطاعتِهِ على معصيتِهِ؟!

دَخَلَ قومٌ على بِشْرٍ الحافي وهوَ مريضٌ، فقالوا لهُ: على ماذا عَزَمْتَ؟ قالَ: عَزَمْتُ على أنِّي إذا عوفِيتُ تُبْتُ. فقالَ لهُ رجلٌ منهُم: فهلَّا تُبْتَ السَّاعةَ! فقالَ: يا أخي! أما عَلِمْتَ أن الملوكَ لا تَقْبَلُ الأمانَ ممَّن في رجلِهِ القيدُ وفي رقبتِهِ الغلُّ، إنَّما يُقْبَلُ الأمانُ ممَّن هوَ راكبٌ الفرسَ والسَّيفُ مجرَّدٌ بيدِهِ؟! فبَكى القومُ جميعًا

(1)

.

ومعنى هذا أن التَّائبَ في صحَتِهِ بمنزلةِ مَن هوَ راكبٌ على متنِ جوادِهِ وبيدِهِ سيفٌ مشهورٌ، فهوَ يَقْدِرُ على الكرِّ والفرِّ والقتالِ وعلى الهربِ مِن الملكِ وعصيانِهِ، فإذا جاءَ على هذهِ الحالِ إلى بينَ يديِ الملكِ ذليلًا لهُ طالبًا لأمانِهِ؛ فقد صارَ بذلكَ مِن خواصِّ الملكِ وأحبابِهِ؛ لأنَّهُ جاءَهُ طائعًا مختارًا لهُ راغبًا في [قربِهِ وخدمتِهِ. وأمَّا مَن هوَ في أسرِ الملكِ وفي رجلِهِ قيدٌ وفي رقبتِهِ غلٌّ؛ فإنَّهُ إذا طَلَبَ] الأمان مِن الملكِ؛ فإنَّما طَلَبَهُ خوفًا على نفسِهِ مِن الهلاكِ، وقد لا يَكونُ محبًّا للملكِ ولا مؤثرًا لرضاهُ. فهذا مثلُ مَن لا يَتوبُ إلَّا في مرضِهِ عندَ موتِهِ، والأوَّل بمنزلةِ مَن يَتوبُ في صحَّتِهِ وقوَّتِهِ وشبيبتِهِ.

لكنَّ ملكَ الملوكِ أكرمُ الأكرمينَ وأرحمُ الرَّاحمينَ، وكلُّ خلقِهِ أسيرٌ في قبضتِهِ،

(1)

أسعد الخلق بهذه النصيحة هو إبليس! ولا تخلو عبارة منها من نظر من وجوه: أوّلها: أنّه إن عزم على التوبة وهو مقيم على المعصية؛ فهذا تلعّب من الشيطان به كما سيأتي. وإن عزم على التوبة من معاص كان يفعلها أيّام صحّته؛ فهذا العزم توبة إن ندم صاحبه. والثاني: أنّ قياس الله تعالى بملوك الدنيا في هذه القضيّة من أفسد القياس وأبعده عن الصواب! أين الغنيّ الرحيم الكريم الحليم الصبور من ملوك الدنيا؟! أليس من العجب أن يقاس الجهلة الذين لا يعرفون خفايا النوايا بالذي يعلم السرّ وأخفى ويعلم من تاب حقًّا ومن يقول بلسانه ما ليس في قلبه؟! والثالث: أن قياس راكب الفرس بالصحيح المعافى في هذا الباب قياس فاسد أيضًا؛ لأنّ راكب الفرس حامل السيف قد يخرج عن سلطان الملك وينجو من سطوته، بخلاف الصحيح المعافى الذي هو في قبضة الله وتحت قهره وسلطانه كالمريض سواء والرابع: وليت شعري! إذا أجّل المريض توبته انتظارًا للعافية ثمّ قبضه الله في مرضه ذاك؛ فأيّ مصيبة أعظم من مصيبته؟! وأيّ نفع سيجنيه من تلك الشقشقة؟! لا أظنّه والله إلّا فيمن يعضّ على يديه ويقول: يا ويلتا! ليتني لم أتّخذ فلانًا خليلًا!

ص: 721

لا يُعْجِزُهُ منهُم أحدٌ، لا يُعْجِزُهُ هاربٌ ولا يَفوتُهُ ذاهبٌ، كما قيلَ: لا أقْدَرَ ممَّن طَلِبَتُهُ في يدِهِ، ولا أعْجَزَ ممَّن هوَ في يدِ طالبِهِ. ومع هذا؛ فكلُّ مَن طَلَبَ الأمانَ مِن عذابِهِ مِن عبابٍ أمَّنَهُ على أيِّ حالٍ كانَ إذا عَلِمَ منهُ الصِّدقَ في طلبِهِ

(1)

.

أنْشَدَ بعضُ العارفينَ:

الأمانَ الأمانَ وِزْري ثَقيلُ

وَذُنوبي إذا عَدَدْتُ تَطولُ

أوْبَقَتْني وَأوْثَقَتْني ذُنوبي

فَتُرى لي إلى الخَلاصِ سَبيلُ

• وقولُهُ عز وجل: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18]: فسَوَّى بينَ مَن تابَ عندَ الموتِ ومَن ماتَ مِن غيرِ توبةٍ.

والمرادُ بالتَّوبةِ عندَ الموتِ التَّوبةُ عندَ انكشافِ الغطاءِ ومعاينةِ المحتضَرِ أُمورَ الآخرةِ ومشاهدةِ الملائكةِ؛ فإنَّ الإيمانَ والتَّوبةَ وسائرَ الأعمالِ إنَّما تَنْفَعُ بالغيبِ، فإذا كُشِفَ الغطاءُ وصارَ الغيبُ شهادةً؛ لمْ يَنْفَعِ الإيمانُ ولا التَّوبةُ في تلكَ الحالِ.

ورَوى ابنُ أبي الدُّنْيا بإسنادِهِ عن عَلِيٍّ؛ قالَ: لا يَزالُ العبدُ في مهلةٍ مِن التَّوبةِ ما لمْ يَأْتِهِ ملكُ الموتِ يَقْبِضُ روحَهُ، فإذا نَزَلَ ملكُ الموتِ؛ فلا توبةَ حينئذٍ.

وبإسنادِهِ عن الثَّوْريِّ؛ قالَ: قالَ ابنُ عُمَرَ: التَّوبةُ مبسوطةٌ ما لمْ يَنْزِلْ سلطانُ الموتِ.

وعنِ الحَسَنِ؛ قالَ: التَّوبةُ معروضةٌ لابنِ آدَمَ ما لمْ بَأْخْذِ الموتُ بكظمِهِ.

وعن بكْرٍ المُزَنيِّ؛ قالَ: لا تَزالُ التَّوبةُ للعبدِ مبسوطةً ما لمْ تَأْتِهِ الرُّسلُ، فإذا عايَنَهُمُ؛ انْقَطَعَتِ المعرفةُ.

وعن أبي مِجْلَزٍ؛ قالَ: لا يَزالُ العبدُ في توبةٍ ما لم يُعايِنِ الملائكةَ.

ورَوى في "كتاب الموت" بإسنادِهِ: عن أبي موسى الأشْعَرِيِّ" قالَ: إذا عايَنَ الميِّتُ الملَكَ؛ ذَهَبَتِ المعرفةُ.

وعن مجاهِدٍ نحوَهُ.

(1)

فهذا - إن أنعمت فيه النظر - يدلّ على أن المصنّف لم يسلّم للحافي قالته وردّها عليه.

ص: 722

وعن حُصَيْنٍ؛ قالَ: بَلَغَني أن ملكَ الموتِ إذا غَمَزَ وريدَ الإنسانِ حينئذٍ يَشْخَصُ بصرُهُ ويَذْهَلُ عن النَّاسِ.

وخَرَّجَ ابنُ ماجَهْ حديثَ أبي موسى مرفوعًا؛ [قالَ]: سَألْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: متى تَنْقَطِعُ معرفةُ العبدِ مِن النَّاسِ؟ قالَ: "إذا عايَنَ"

(1)

. وفي إسنادِهِ مقالٌ، والموقوفُ أشبهُ.

وقد قيلَ: إنَّهُ مُنِعَ مِن

(2)

التَّوبةِ حينئذٍ؛ لأنَّهُ إذا انْقَطَعَتْ معرفتُهُ وذَهِلَ عقلُهُ؛ لم يُتَصَوَّرْ منهُ ندمٌ ولا عزمٌ؛ فإنَّ النَّدمَ والعزمَ إنَّما يَصِحُّ معَ حضورِ العقلِ، وهذا

(3)

ملازمٌ لمعاينةِ الملائكةِ، كما دَلَّتْ عليهِ هذهِ الأخبارُ

(4)

.

• وقولُهُ صلى الله عليه وسلم في حديثِ ابن عُمَرَ: "ما لمْ يُغَرْغِرْ"؛ يَعْني: ما لمْ تَبْلُغْ روحُهُ عندَ خروجِها منهُ إلى حلقِهِ. فشَبَّهَ تردُّدَها في حلقِ المحتضَرِ بما يَتَغَرْغَرُ بهِ الإنسانُ مِن الماءِ وغيرِهِ ويُرَدِّدُهُ في حلقِهِ.

وإلى ذلكَ الإشارةُ في القرآنِ: بقولِهِ عز وجل: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} . [الوقعة: 83] وبقولهِ عز وجل: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} [القيامة: 26].

ورَوى ابنُ أبي الدُّنيا بإسنادِهِ عن الحَسَنِ؛ قالَ: أشدُّ ما يَكونُ الموتُ على العبدِ إذا بَلَغَتِ الرُّوحُ التَّراقيَ. قالَ: فعندَ ذلكَ يَضْطَرِبُ ويَعْلو نفسُهُ. ثمَّ بَكى الحَسَنُ رحمه الله.

عِشْ ما بَدَا لَكَ سالِمًا

في ظِلِّ شاهِقَةِ القُصورِ

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن ماجه (6 - الجنائز، 5 - المؤمن يؤجر في النزع، 1/ 467/ 1453)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(8/ 408)؛ من طريق نصر بن حمّاد، ثنا موسى بن كردم، عن محمّد بن قيس، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبي موسى

رفعه.

قال البوصيري: "ضعيف، نصر بن حمّاد كذّبه ابن معين وغيره وأتّهم بالوضع". قلت: وأتى بموسى بن كردم لا يعرف من هو! فالسند ساقط، وقال الألباني:"ضعيف جدّا".

(2)

في خ: "وقد قيل إنّ ذلك سبب المنع من"، والأولى ما أثبتّه من ن وط.

(3)

يعني: الذهول وانقطاع المعرفة.

(4)

وأولى من ذلك أن يقال: إنّ الله تعالى إنّما أراد من عباده أن يؤمنوا به وبما عنده بالغيب، فإذا أصبح هذا الغيب مشهودًا للعبد عند المعاين؛ لم يعد للإيمان معنى؛ لأنّ جميع الخلق جنّهم وإنسهم كافرهم ومؤمنهم يؤمنون في تلك اللحظة ويقولون:{رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} !

ص: 723

يُسْعى عَلَيْكَ بِما اشْتَهَيْـ

ــتَ لَدى الرَّواحِ وفي البُكورِ

فَإذا النُّفوسُ تَقَعْقَعَتْ

في ضيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدورِ

فَهُناكَ تَعْلَمُ موقِنًا

ما كُنْتَ إلَّا في غُرورِ

• واعْلَمْ أنَّ الإنسانَ ما دامَ يُؤَمِّلُ الحياةَ فإنَّهُ لا يَقْطَعُ أملَهُ مِن الدُّنيا، وقد لا تَسْمَحُ نفسُهُ بالإقلاعِ عن لذَّاتِها وشهواتِها مِن المعاصي وغيرِها، ويُرَجِّيهِ الشَّيطانُ التَّوبةَ في آخرِ عمرِهِ، فإذا تَيَقَّنَ الموتَ وأيِسَ مِن الحياةِ؛ أفاقَ مِن سكرتِهِ بشهواتِ الدُّنيا، فنَدِمَ

(1)

حينئذٍ على تفريطِهِ ندامةً يَكادُ يَقْتُلُ نفسَهُ، وطَلَبَ الرَّجعةَ إلى الدُّنيا لِيَتوبَ ويَعْمَلَ صالحًا، فلا يُجابُ إلى شيءٍ مِن ذلكَ، فيَجْتَمعُ عليهِ سكرة الموتِ معَ حسرةِ الفوتِ.

وقد حَذَّرَ اللهُ تَعالى عبادَهُ مِن ذلكَ في كتابِهِ لِيَسْتَعِدُّوا للموتِ قبلَ نزولِهِ بالتَّوبةِ والعملِ الصَّالحِ:

قالَ تَعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ. أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 54 - 56].

وقد سُمعَ بعضُ المحتضَرينَ عندَ احتضارِهِ يَلْطِمُ على وجهِهِ وتقولُ: يا حَسْرَتا عَلى ما فَرَّطْتُ في جنبِ اللهِ.

وسُمِعَ من آخرَ: سَخِرَتْ بيَ الدُّنيا حتَّى ذَهَبَتْ أيَّامي.

وقالَ آخرُ عندَ موتِهِ: لا تَغُرَّنَكُمُ الدُّنيا كما غَرَّتْني

(2)

.

(1)

في خ: "فيندم"، والأولى ما أثبته من ن وط.

(2)

وهؤلاء يرجى لهم القبول؛ فإن الندم توبة، والتوبة مقبولة ما لم يغرغر صاحبها! وفي الناس من هم شرّ حالًا من أُولئك! تراهم في لحظات النزع لا شغل لهم إلّا مظاهر الدنيا؛ هل جاء فلان؟! وماذا أحضر فلان من الهدايا؟! ولقد رأيت أحدهم في حال يرثى لها، فجاءه أنّ الوزير فلانًا في طريقه إليه، فشدّ نفسه ووضعت له الوسائد ووجم في الحاضرين حتّى ينصرفوا قبل حضور الضيف الكبير، ثمّ مات من ليلته! وقلت لمصاب بجلطة دماغيّة: عليك بالتوبة! فقال لي بصوت متلعثم: ما بقي ما يستحقّ التوبة! فتعجّبت من هذا الجواب الفظيع، ثمّ حضرني قوله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .

ص: 724

وقالَ اللهُ سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُون لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ. كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون: 99 - 100].

وقالَ تَعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10].

وقالَ تَعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54]. وفَسَّرَهُ طائفةٌ مِن السَّلفِ - منهُم عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ - بأَنَّهُم طَلَبوا التَّوبةَ حينَ حيلَ بينَهُم وبينَها.

قالَ الحَسَنُ: اتَّقِ الله يا أبنَ آدَمَ! لا يَجْتَمعُ عليكَ خصلتانِ؛ سكرةُ الموتِ، وحسرةُ الفوتِ.

وقالَ ابنُ السَّمَّاكِ: احْذَرِ السَّكرةَ والحسرةَ؛ أنْ يَفْجَأكَ الموتُ وأنتَ على الغرَّةِ، فلا يَصِفُ واصفٌ قدرَ ما تَلْقى ولا قدرَ ما ترى.

وقالَ الفُضَيْلُ: يَقولُ اللهُ عز وجل: ابنَ آدَمَ! إذا كُنْتَ تتقَلَّبُ في نعمتي وأنتَ تتقَلَّبُ في معصيتي؛ فاحْذَرْني لا أصْرَعُكَ بينَ معاصِيَّ.

وفي بعضِ الإسرائيليَّاتِ: ابنَ آدَمَ! احْذَرْ لا يَأْخُذُكَ اللهُ على ذنبٍ فتَلْقاهُ لا حجَّةَ لكَ.

• ماتَ كثيرٌ مِن المصرِّينَ على المعاصي على أقبحِ أحوالِهِم وهُم مباشرونَ للمعاصي، فكانَ ذلكَ خزيًا لهُم في الدُّنيا مع ما صاروا إليهِ مِن عذابِ الآخرةِ. وكثيرًا ما يَقَعُ هذا للمصرِّينَ على الخمرِ المدمنينَ لشربِها، كما قالَ القائلُ

(1)

:

(1)

في حاشية خ هنا: "ذكر المصنف رحمه الله في مجلس يوم عرفة قال: روي ابن أبي الدنيا وغيره أن رجلًا رأى في منامه أن الله غفر لأهل الموسم كلّهم إلا رجل من بلخ فسأل عنه حتى وقع عليه، فسأله عن حاله، فذكر أنّه كان مدمنًا لشرب الخمر، فجاء ليله وهو سكران، فعاتبته أُمّه وهي تسجر تنورًا فاحتملها فألقاها فيه حتى احترقت.

قال أبو نصر القصّار: حضر رجل من الصالحين بين يدي ابن عقيل؛ قال: بينما أنا ذات ليلة من الليل وقد أشرق القمر، إذا بعشرة سكاري قد أقبلوا حتّى دنوا من المسجد، فنزلوا نهر عيسى، فتقيّأ بعضهم وغسل بعضهم فمه، فقال بعضهم لبعض: ألا نصلّي؟ فقلت من نفسي: هؤلاء يذكرون الصلاة! فقال أحدهم من يصلّي بنا؟ فتقدم أحدهم واصطف التسعة وراءه على حالهم بلا وضوء، فالتفت عن يمينه فقال استووا لا رضي الله عنكم. ثم التفت عن يساره فقال استوا لا رحمكم الله. ثم كبّر وكبّروا، ثم قرأ: {{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ =

ص: 725

أتَأْمَنُ أيُّها السَّكْرانُ جَهْلًا

بِأنْ تَفْجَاكَ في السُّكرِ المَنِيَّهْ

فَتَضْحى عِبْرَةً لِلنَّاسِ طُرًّا

وَتَلْقى الله مِن شَرِّ البَرِيَّهْ

سَكِرَ بعضُ المتقدِّمينَ ليلةً، فعاتَبَتْهُ زوجتُهُ على تركِ الصَّلاةِ، فحَلَفَ بطلاقِهما ثلاثًا لا يُصَلِّي ثلاثةَ أيَّامٍ، فاشْتَدَّ عليهِ فراقُ زوجتِهِ، فاسْتَمَرَّ على تركِ الصَّلاةِ مدَّةَ الأيَّامِ الثَّلاثةِ، فماتَ فيها على حالِهِ وهوَ مصرٌّ على الخمرِ تاركٌ للصَّلاةِ.

كانَ بعضُ المصرِّينَ على الخمرِ يُكْنى أبا عمرٍو، فنامَ ليلةً وهوَ سكرانُ، فرَأى في منامِهِ قائلًا يَقولُ لهُ:

جَدَّ بِكَ الأمْرُ أبا عَمْرِو

وَأنْتَ مَعْكوفٌ عَلى الخَمْرِ

تَشْرَبُ صَهْباءَ صُراحِيَّةً

سالَ بِكَ السَّيْلُ وَلاتَدْري

فاسْتَيْقَظَ منزعجًا وأخْبَرَ مَن عندَهُ بما رَأى، ثمَّ غَلَبَهُ سكرُهُ فنامَ، فلمَّا كانَ وقتُ الصُّبحِ؛ ماتَ فجأةً.

قالَ يَحْيى بنُ مُعاذٍ: الدُّنيا خمرُ الشَّيطانِ، مَن سَكِرَ منها لمْ يُفِقْ إلَّا في عسكرِ الموتى نادمًا معَ الخاسرينَ.

= اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ}. قال: فرأيت الأرض وقد ساخت بالكلّ حتّى لم يبق لهم أثر. فقال ابن عقيل: آلله يشهد عليك أنّك رأيت هذا؟! قال: إي والله، والله يطالبني يوم القيامة بهذا؛ فإنّي رأيته بعيني. قال: فكتبها ابن عقيل في "الفنون".

وفي المسند" عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من ترك الصلاة سكرًا مرّة واحدة؛ فكأنّما كانت له الدنيا وما عليها ثمّ سلبها، ومن ترك الصلاة سكرًا أربع مرّات؛ كان حقًّا على الله أن يسقيه من طينة الخبال". قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: "عصارة أهل جهنّم". وفي "المسند" مرفوعًا: "من شرب الخمر شربة لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب؛ تاب الله عليه، فإن عاد؛ لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحًا، فإن تاب؟ تاب الله عليه". ولا أدري في الثالثة أو الرابعة: "فإن عاد؛ كان حقًّا على الله أن يسقيه من ردغة الخبال يوم القيامة".

وفي "المسند" من حديث أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات مدمنًا للخمر سقاه الله من نهر الغوطة". قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: "نهر يجري من فروج المومسات، يؤذي أهل النار ريح فروجهنّ".

ثمّ زاد في رأس: "ذكر ابن الجوزيّ رحمه الله في "التبصرة": عن عبد العزيز بن أبي روّاد؛ قال: حضرت رجلًا في النزع، فجعلت أقول له: قل لا إله إلَّا الله. فكان يقول: فلمّا كان آخر ذلك؛ قلت له: قل لا إله إلَّا الله. فقال: كم تقول؟ إنّي كافر بما تقول! وقبض على ذلك، فلم أحضره، وسألت أمرأته عن أمره، فقالت: كان مدمن خمر. فكان عبد العزيز يقول: أتّقوا الذنوب فهي أوقعته".

ص: 726

وفي حديثٍ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مرفوعًا: "ما مِن أحدٍ يَموتُ إلَّا نَدِمَ". قالوا: وما ندامتُهُ؟ قالَ: "إنْ كانَ محسنًا نَدِمَ أنْ لا يَكونَ ازْدادَ، وإنْ كانَ مسيئًا نَدِمَ أنْ لا يَكونَ اسْتَعْتَبَ"

(1)

.

إذا نَدِمَ المحسنُ عندَ الموتِ؛ فكيفَ يَكونُ حالُ المسيءِ؟!

غايةُ أُمنيةِ الموتى في قبورِهِم حياةُ ساعةٍ يَسْتَدْرِكونَ فيها ما فاتَهُم مِن توبةٍ وعملٍ صالحٍ، وأهلُ الدُّنيا يُفَرِّطونَ في حياتِهِم فتَذْهَبُ أعمارُهُم في الغفلةِ ضياعًا، ومنهُم مَن يَقْطَعُها بالمعاصي.

قالَ بعضُ السَّلفِ: أصْبَحْتُم في أُمنيةِ ناسٍ كثيرٍ؛ يَعْني: أن الموتى كلَّهُم يَتَمَنَّوْنَ حياةَ ساعةٍ لِيَتوبوا [فيها] ويَجْتَهِدوا في الطَّاعةِ، ولا سبيلَ لهُم إلى ذلكَ.

وقد أنْشَدَ بعضُهُم:

لَوْ قيلَ لِلْقَوْمِ مُناكُمْ

(2)

طَلَبوا

حَياةَ يَوْمٍ لِيَتوبوا فَاعْلَمِ

وَيْحَكِ يا نَفْسُ ألا تَيَقُّظٌ

يَنْفَعُ قَبْلَ أنْ تَزِلَّ قَدَمي

مَضى الزَّمانُ في تَوانٍ وَهوى

فَاسْتَدْرِكي ما قَدْ بَقِيَ وَاغْتَنِمي

• الناسُ في التَّوبةِ على أقسامٍ:

* فمنهُم: مَن لا يُوَفَّقُ لتوبةٍ نصوحٍ، بل يُيَسَّرُ له عملُ السَّيِّئاتِ مِن أوَّلِ عمرِهِ إلى آخرِهِ حتَّى يَموتَ مصرًّا عليها، وهذهِ حالةُ الأشقياءِ.

• وأقبحُ مِن ذلكَ: مَن يُسِّرَ لهُ في أوَّلِ عمرِهِ عملُ الطَّاعاتِ، ثمَّ خُتِمَ لهُ بعملِ سوءٍ حتَّى ماتَ عليهِ: كما في الحديثِ الصَّحيحِ: "إنَّ أحدَكُم لَيَعْمَلُ بعملِ أهلِ الجنَّةِ، حتَّى ما يَكونُ بينَهُ وبينَها إلَّا ذراعٌ، فيَسْبِقُ عليهِ الكتابُ، فيَعْمَلُ بعملِ أهلِ النَّارِ، فيَدْخُلُها"

(3)

. وفي الحديثِ الذي خَرَّجَهُ أهلُ "السُّنن": "إنَّ العبدَ لَيَعْمَلُ بعملِ أهلِ الجنَّةِ سبعينَ عامًا، ثمَّ يَحْضُرُهُ الموتُ، فيَجورُ في وصيَّتِهِ، فيَدْخُلُ

(1)

(ضعيف جدًّا). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 660).

(2)

يعني: اذكروا مناكم ورجاءكم. وفي خ وم ون وط: "لو قيل للقوم ما مناكم"! ولا يستقيم الوزن إلَّا بحذف "ما"، والأبيات من الرجز.

(3)

رواه: البخاري (59 - الخلق، 6 - ذكر الملائكة، 6/ 303/ 3208)، ومسلم (46 - القدر، 1 - كيفيّة الخلق، 4/ 2036/ 2643)؛ من حديث ابن مسعود.

ص: 727

النَّارَ"

(1)

.

ما أصعبَ الانتقالَ مِن البصرِ إلى العمى! وأصعبُ منهُ الضَّلالةُ بعدَ الهدى والمعصيةُ بعدَ التُّقى.

كم مِن وجوهٍ خاشعةٍ وُقِّعَ على قصصِ أعمالِها: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ. تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 3 - 4]! كم مَن شارَفَ مركبُهُ ساحلَ النَّجاةِ، فلمَّا هَمَّ أنْ يَرْتَقِيَ؛ لَعِبَ بهِ موجُ الهوى فغَرِقَ. الخلقُ كلُّهُم تحتَ هذا الخطرِ. قلوبُ العبادِ بينَ أُصبعينِ مِن أصابعِ الرَّحمنِ يقَلِّبُها كيفَ يَشاءُ.

قالَ بعضُهُم: ما العجبُ ممَّن هَلَكَ كيفَ هَلَكَ، إنَّما العجبُ ممَّن نَجا كيفَ نَجا! وأنْشَدَ:

يا قَلْبُ إلامَ تُطالِبُني

بِلِقا الأحْبابِ وَقَدْ رَحَلوا

أرْسَلْتُكَ في طَلَبي لَهُمُ

لِتَعودَ فَضِعْتَ وَما حَصَلوا

سَلِّمْ وَأصْبِرْ وَأخْضَعْ لَهُمُ

كَمْ قَبْلَكَ مِثْلَكَ قَدْ قَتَلوا

ما أحْسَنَ ماعَلَّقْتَ بِهِ

آمالَكَ مِنْهُمْ لَوْ فَعَلوا

• وقسمٌ: يُفْني عمرَهُ في الغفلةِ والبطالةِ، ثمَّ يُوَفَّقُ لعملٍ صالحٍ فيَموتُ عليهِ. وهذهِ حالُ مَن عَمِلَ بعملِ أهلِ النَّارِ حتَّى ما يَكونُ بينَهُ وبينَها إلَّا ذراعٌ، فيَسْبِقُ عليهِ الكتابُ، فيَعْمَلُ بعملِ أهلِ الجنَّةِ، فيَدْخُلُها

(2)

.

الأعمالُ بالخواتيمِ.

(1)

(ضعيف). رواه: عبد الرزّاق (16455)، وإسحاق (1/ 194/ 147)، وأحمد (2/ 278)، وعبد بن حميد (النساء 14 - الدرّ)، وابن ماجه (22 - الوصايا، 3 - الحيف في الوصيّة، 2/ 902/ 2704)، وأبو داوود (12 - الوصايا، 3 - كراهية الإضرار، 2/ 126/ 2867)، والترمذي (31 - الوصايا، 3 - الضرار في الوصية، 4/ 431/ 2117)، والطبراني في "الأوسط"(3026)، والبيهقي (6/ 271)، وابن عبد البرّ في "التمهيد"(14/ 306)، والخطيب في "الجمع والتفريق"(1/ 239)؛ من طريق قويّة، عن شهر بن حوشب، عن أبي هريرة

رفعه. قال الترمذي: "حسن صحيح غريب"، وأقرّه المنذري. وشهر لا يحسّن ما أنفرد به فضلًا عن أن يصحّح، وبه أعلّه المناوي والألباني.

ورواه الحاكم في "المعرفة"(ص 36) عن مسلمة بن عليّ

مرسلًا. ومسلمة ساقط.

(2)

كما تقدّم في الحديث المتّفق عليه.

ص: 728

وفي الحديثِ: "إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا؛ عَسَلهُ". قالوا: وما عَسَلَهُ؟ قالَ: "وَفَّقَهُ لعملٍ صالحٍ ثمَّ يَقْبِضُهُ عليهِ"

(1)

.

وهؤلاءِ: منهُم مَن يوقَظُ قبلَ موتِهِ بمدَّةٍ يَتَمَكَّنُ فيها مِن التَّزوُّدِ بعملٍ صالحٍ يَخْتِمُ بهِ عمرَهُ. ومنهُم مَن يوقَظُ عندَ حضورِ الموتِ فيُوَفَّقُ لتوبةٍ نصوحٍ يَموتُ عليها.

قالَتْ عائشةُ رضي الله عنها: إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا؛ قَيَّضَ لهُ ملكًا قبلَ موتهِ بعامٍ فيُسَدِّدُهُ ويُيَسِّرُهُ حتَّى يَموتَ وهوَ خيرٌ ممَّا كانَ، فيَقولُ النَّاسُ: ماتَ فلانٌ خيرَ ما كانَ.

وخَرَّجَهُ البَزَّارُ عنها مرفوعًا، ولفظُهُ: "إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا؛ بَعَثَ إليهِ ملكًا مِن

(1)

(صحيح). وقد جاء عن جماعة من الصحابة:

فرواه: أحمد (4/ 200)، وابن أبي عاصم في "السنّة"(400)، والدولابي في "الكنى"(1165)، والطبراني في "الشاميّين"(839)، والعسكري في "التصحيفات"(2/ 718)، والقضاعي في "المسند، (1389)، وابن الأثير في "الغابة" (5/ 57)؛ من طرق، عن بقيّة، ثنا محمَّد بن زياد الألهاني، عن أبي عنبة الخولاني

رفعه. وهذا سند يمكن أن يعلّ من أوجه: أحدها: تدليس بقية، ولكنّه صرّح بالتحديث من غيرما وجه. والثاني: أنّ العسكريّ زاد بين الألهاني والخولاني عبد الله بن أبي قيس. فإن كانت هذه الزيادة محفوظة؛ فلا يبعد أن يكون الألهاني سمعه من أبي عنبة مباشرة وبالواسطة، وإلّا؛ فقد علمت الواسطة، وهي ثقة ثبت. والثالث: أنهم اختلفوا في صحبة أبي عنبة، على قولين، وليس الجزم بأحدهما بالسهل، فإن ثبتت صحبته؛ فالحديث قويّ من هذا الوجه، وإلّا؛ فهو مرسل قويّ.

ورواه: الطبراني في "الكبير"(8/ 110/ 7522 و 7725) و"الشاميّين"(819 و 1585)، والقضاعي في "المسند"(1388)؛ من طرق ثلاث، عن أبي أُمامة

رفعه. ولا يخلو شيء من طرقه من ضعف، ولكنّ اجتماعها يفيد أنّ للحديث أصلًا عن أبي أُمامة.

ورواه: أحمد (4/ 135، 5/ 224)، وعبد بن حميد (481)، والبخاري في "التاريخ"(8/ 302)، وابن قتيبة في "غريب الحديث"(1/ 301)، وابن أبي عاصم في "الآحاد"(2340 - 2342)، والبزّار (6/ 286 / 2310)، والطحاوي في "المشكل"(3/ 261)، وابن قانع (2/ 225/ 734)، وابن حبّان (342 و 343)، والطبراني في "الأوسط"(3322) و"الشاميّين"(183)، والعسكري في "التصحيفات"(1/ 200)، والحاكم (1/ 340)، والبيهقي في "الزهد"(818)، والخطيب في "التاريخ"(11/ 433)، والرافعي في "قزوين"(4/ 101)، والذهبي في "النبلاء"(19/ 105)؛ من طرق، عن جبير بن نفير، عن عمرو بن الحمق

رفعه. وله أكثر من طريق قويّة عن جبير، وجبير ثقة، فالسند صحيح، وقد صحّحه الحاكم والذهبي والألباني. وله طريق أُخرى عند البزّار (6/ 286/ 2310) حسنة أو حسنة في الشواهد على الأقلّ.

وحديث عمرو بن الحمق صحيح لذاته، فكيف إذا أضيف له حديثا أبي عنبة وأبي أُمامة؟! فكيف وله شواهد صحيحة بمعناه لكن بلفظ "استعمله" بدل "عسله"؟! وقد صحّحه ابن حبّان والحاكم والمنذري والذهبي والهيثمي والسيوطي والمناوي والألباني.

ص: 729

عامِهِ الذي يَموتُ فيهِ، فيُسَدِّدُهُ ويُيَسِّرُهُ، فإذا كانَ عندَ موتِهِ؛ أتاهُ ملكُ الموتِ، فقَعَدَ عندَ رأْسِهِ، فقالَ: أيَّتُها النَّفسُ المطمئنَّةُ! اخْرُجي إلى مغفرةٍ مِن اللهِ ورضوانٍ. فذلكَ حينَ يُحِبُّ لقاءَ اللهِ ويُحِبُّ اللهُ لقاءَهُ. وإذا أرادَ اللهُ بعبدٍ شرًّا؛ بَعَثَ إليهِ شيطانًا مِن عامِهِ الذي يَموتُ فيهِ، فأغواهُ، فإذا كانَ عندَ موتِهِ؛ أتاهُ ملكُ الموتِ، فقَعَدَ عندَ رأْسِهِ، فقالَ

(1)

: أيَّتُها النَّفسُ الخبيثةُ! اخْرُجي إلى سخطٍ مِن اللهِ وغضبٍ، فتَتَفَرَّقُ في جسدِهِ، فذلكَ حينَ يُبْغِضُ لقاءَ اللهِ ويُبْغِضُ اللهُ لقاءَهُ"

(2)

.

وفي الدُّعاءِ المأْثورِ: "اللهمَّ! اجْعَلْ خيرَ عملي خاتمتَهُ وخيرَ عمري آخرَهُ"

(3)

.

وفي "المسند": عن عَبْدِ اللهِ بن عَمْرِو بن العاص؛ قالَ: "مَن تابَ قبلَ موتهِ عامًا؛ تيبَ عليهِ، ومَن تابَ قبلَ موتِهِ شهرًا؛ تيبَ عليهِ". حتَّى قالَ: "يومًا". حتَّى قالَ:

(1)

في خ وم ون: "فيقول"! والصواب ما أثبتّه من ط.

(2)

(صحيح). رواه: عبد الرزّاق (6749)، وإسحاق بن راهويه (3/ 905/ 1591)، وعبد بن حميد (11/ 359 - فتح)، والحسين المروزي في "زوائد الزهد"(972)، وابن أبي الدنيا في "ذكر الموت"(10/ 273 - إتحاف السادة)، والبزّار في "مسنده"(729 - لطائف المعارف)، وأبو منصور البغدادي في "ما استدركته عائشة"(2356 - كشف الخفاء)؛ من طريق الأعمش، [عن خيثمة بن عبد الرحمن]، عن أبي عطيّة، عن عائشة

صرّحت برفعه حينًا ولم تصرّح به حينا.

وهذا سند قويّ، رجاله ثقات رجال الشيخين، ومنهم من أسقط خيثمة من السند، ولا يبعد أنّ الأعمش سمعه من أبي عطيّة مباشرة وبواسطة، وإن كان الأرجح إثبات الواسطة، وهي ثقة من رجال الشيخين. والتصريح بالرفع حينًا والسكوت عنه حينًا لا يضرّ السند شيئًا؛ لأنّ ظاهر الحديث الرفع؛ لأنّ السيدة عائشة إنّما جاءت به إتمامًا لحديث ابن مسعود المرفوع، ثمّ له حكم الرفع على كلّ حال لأنّه ممّا لا يقال اجتهادًا ..

(3)

(ضعيف موقوفًا ومرفوعًا). رواه: الطبراني "الأوسط"(9407)، وابن السنّي في "اليوم والليلة"(121)؛ من طريق عبد الملك بن الحسين أبي مالك النخعي، (قال مرّة: عن أبي المحجل عن ابن أخي أنس، ومرّة: عن ابن جدعان)، عن أنس

رفعه. قال الهيثمي (10/ 113): "فيه أبو مالك النخعي وهو ضعيف". قلت: متروك، وقد اضطرب فيه على وجهين أحدهما ضعيف كما ترى!

ورواه: الطبراني في "الأوسط"(9444) من طريق هشيم، عن حميد، عن أنس؛ انّ أعرابيًّا دعا بهذا الدعاء فوهبه النبيّ صلى الله عليه وسلم ذهبًا جزاء لحسن ثنائه على ربّه. قال الهيثمي (10/ 161):"رجال الصحيح غير الأذرمي وهو ثقة". قلت: هشيم كثير التدليس وقد عنعن.

ورواه ابن أبي شيبة (29501) من طريق قويّة، عن المطّلب بن عبد الله بن حنطب، عن أبي بكر

موقوفًا عليه. وسنده ضعيف، المطّلب لم يسمع أبا بكر وما أراه أدركه.

فالمرفوع في هذا ساقط، وتقريره صلى الله عليه وسلم للأعرابي ضعيف، والموقوف على أبي بكر كذلك.

ص: 730

"ساعةً". حتَّى قالَ: "فواقًا". فقالَ لهُ إنسانٌ: أرَأيْتَ إنْ كانَ مشركًا فأسْلَمَ؟ قالَ: إنَّما أُحَدِّثُكُم ما سَمِعْتُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وفيهِ أيضًا: عن عَبْدِ الرَّحمنِ البَيْلَمانِيِّ؛ قالَ: اجْتَمَعَ أربعةٌ مِن أصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: فقالَ أحدُهُم: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: "إنَّ الله عز وجل يَقْبَلُ توبةَ العبدِ قبلَ أنْ يَموتَ بيومٍ". قالَ الآخرُ: أنتَ سَمِعْتَ هذا مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: نعم. قالَ: وأنا سَمِعْتُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: "إن الله عز وجل يَقْبَلُ توبةَ العبدِ قبل أنْ يَموتَ بنصفِ يومٍ". فقالَ الثَّالثُ: أنتَ سَمِعْتَ هذا مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: نعم. قالَ: وأنا سَمِعْتُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: "إنَّ الله تقْبَلُ توبةَ العبدِ قبلَ أنْ يَموتَ بضحوةٍ". قالَ الرَّابعُ: أنتَ سَمِعْتَ هذا مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قالَ: نعم. قالَ: وأنا سَمِعْتُ مِن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقولُ: "إنَّ الله يَقْبَلُ توبةَ العبدِ ما لمْ يُغَرْغِرْ بنفسِهِ"

(2)

.

(1)

(ضعيف بهذا التمام). رواه: الطيالسي (2284)، وأحمد (2/ 206)، والبخاري في "التاريخ"(1/ 427)، والطبري (8864)، والبيهقي في "الشعب"(7067)؛ من طريق شعبة، عن إبراهيم بن ميمون، [عن رجل من بني الحارث بن كعب]، عن رجل منّا يقال له أيّوب، سمعت ابن عمرو

رفعه. قال الهيثمي (10/ 200): "فيه راو لم يسمّ، وبقيّة رجاله ثقات". قلت: أيّوب مجهول.

ورواه الحاكم (4/ 258) من طريق عمير بن مدراس، ثنا عبد الله بن نافع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن البيلماني، سمعت ابن عمرو

رفعه. وعمير مجهول، وعبد الله بن نافع هو الصائغ ليّن، وهشام حسن في الشواهد، وقد خالفوا رواية الثقات عن زيد بن أسلم عن ابن البيلماني عن جماعة من الصحابة كما سيأتي في الحاشية التالية، فروايتهم منكرة.

وله شاهد عند الخطيب في "التاريخ"(8/ 317) من حديث عبادة بن الصامت بنحوه. وفي سنده محمّد بن مروان السدّي متّهم.

وشاهد عند: الطبراني (12/ 338/ 13608)، وابن مردويه (النساء 18 - ابن كثير)؛ من حديث ابن عمر مرفوعًا بنحوه. وفي سنده: يحيى بن عبد الله البابلتّي ضعيف، وأيّوب بن نهيك واه شبه المتروك.

وشاهد من حديث ابن البيلماني يأتي بعده.

فالطريق الأولى لحديث ابن عمرو واهية والثانية منكرة، وحديثا عبادة وابن عمر ساقطان، وحديث ابن البيلماني واه سيأتيك الكلام فيه، ومثل هذه الأسانيد لا تكتسب باجتماعها قوّة. والله أعلى وأعلم.

(2)

(ضعيف بهذا التمام). رواه: سعيد بن منصور (597)، وأحمد (3/ 425، 5/ 362)، وابن أبي الدنيا في "التوبة"(150)، والحاكم (4/ 257 و 258)، والبيهقي في "الشعب"(7068 و 7069)؛ من طرق ثلاث قويّة، عن زيد بن أسلم، عن عبد الرحمن بن البيلماني

به. وهذا سند واه فيه علل: أولاها: ضعف ابن البيلماني هذا ونكارة حديثه. والثانية: قول صالح جزرة: "لا يعرف أنّه سمع من أحد من الصحابة إلّا =

ص: 731

وفيهِ أيضًا: عن أبي سَعيدٍ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"إنَّ الشَّيطانَ قالَ: وعزَّتِكَ يا ربِّ! لا أبْرَحُ أُغْوي عبادَكَ ما دامَتْ أرواحُهُم في أجسادِهِم. فقالَ الرَّبُّ عز وجل: وعزَّتي وجلالي؛ لا أزالُ أغْفِرُ لهُم ما اسْتَغْفَروني"

(1)

.

ذَكَرَ ابنُ أبي الدُّنْيا بإسنادٍ لهُ: أن رجلًا مِن ملوكِ البصرةِ كانَ قد تَنَسَّكَ، ثمَّ مالَ إلى الدُّنيا والسُّلطانِ، فبَنى دارًا وشَيدَها وأمَرَ بها ففُرِشَتْ لهُ ونُجِّدَتْ، واتَّخَذَ مأْدبةً وصَنَعَ طعامًا ودَعا النَّاسَ، فجَعَلوا يَدْخُلونَ فيَأْكُلونَ ويَشْرَبونَ ويَنْطرونَ إلى بنائِهِ ويَتَعَجَّبون منهُ ويَدْعونَ لهُ ويَتَفَرَّقونَ. فمَكَثَ بذلكَ أيَّامًا حتَّى فَرَغَ مِن [أمرِ] النَّاسِ، ثُمَّ جَلَسَ في نفرٍ مِن خاصَّةِ إخوانِهِ فقالَ: قد تَرَوْنَ سروري بداري هذهِ، وقد حَدَّثْتُ نفسي أنْ أتَّخِذَ لكلِّ واحدٍ مِن ولدي مثلَها، فأقيموا عندي أيَّامًا أسْتَمْتعُ بحديثِكُم وأُشاوِرُكُم فيما أُريدُ مِن هذا البناءِ لولدي. فأقاموا عندَهُ أيَّامًا يَلْهُونَ ويَلْعَبونَ ويُشاوِرُهُم كيفَ يَبْني لولد وكيفَ يُريدُ أنْ يَصْنَعَ. فبينَما هُم ذاتَ ليلةٍ في لهوِهِم؛ إذْ سَمِعوا قائلًا

= سوق"، فعلى هذا فحديثه مرسل. والثالثة: أنّه لا يحتمل من أمثاله أن يتفرّدوا عن أربعة من الصحابة بمتون لا يتابعهم عليها أحد!

ورواه الحاكم (4/ 258) من طريق مؤمّل بن إسماعيل، ثنا سفيان الثوري، كتبت إلى [محمّد بن] عبد الرحمن بن البيلماني فكتب إليّ أنّ أباه جلس إلى نفر

إلخ. ومؤمّل حسن في الشواهد، وقد أسقط محمّدًا من السند، ولا بدّ منه؛ لأنّ سفيان لم يلحق ابن البيلماني، ولم يتنبّه الحاكم يرحمه الله لذلك فراح يردّ رواية الثوري ويرجّح غيرها عليها. ومحمّد بن عبد الرحمن ساقط لا يفرح بروايته.

وقد أوردت في الحاشية السابقة جملة من شواهد هذا الحديث وبيّنت ضعفها وأنّها لا تقوم بهذا المتن ولا تزحزحه عن ضعفه. والله أعلم.

(1)

(حسن). رواه: أحمد (3/ 29 و 76)، وأبو يعلى (1399)، والحاكم (4/ 261)، والبيهقي في "الصفات"(265)، والبغوي في "السنّة"(1293)؛ كلّهم من طريق ابن لهيعة إلّا الحاكم فمن طريق عمرو بن الحارث كلاهما عن درّاجٍ، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد

رفعه. قال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وأقرّه المنذري والذهبي، خلافًا لقوله في "العلوّ":"درّاج واه"، وهو الأولى بالصواب، فدرّاج لا يعدو أن يكون حسنًا في الشواهد، وروايته عن أبي الهيثم ضعيفة، وهذا منها.

ورواه: أحمد (3/ 29 و 41)، وأبو يعلى (1273)، والطبراني في "الأوسط"(8783) و"الدعاء"(1779)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 332)؛ من طريق قويّة، عن عمرو بن أبي عمرو، عن أبي سعيد

رفعه. قال الهيثمي (10/ 210): "رجاله رجال الصحيح". قلت: ولكنّه منقطع؛ فإنّهم لم يذكروا لعمرو رواية عن أبي سعيد، وعلم التاريخ لا يدعم هذه الرواية.

على أنّ الحديث حسن بطريقيه، وقد قوّاه الحاكم والمنذري والذهبي والهيثمي والمناوي والألباني.

ص: 732

يَقولُ مِن أقاصي الدَّارِ:

يا أيُّها الباني النَّاسي مَنِيَّتَهُ

لا تَأْمَنَنَّ فَإن المَوْتَ مَكْتوبُ

عَلى الخَلائِقِ إنْ سُرُّوا وَإنْ فَرِحوا

فَالمَوْتُ حَتْفٌ لِذي الآمالِ مَنْصوبُ

لا تَبْنِيَنَّ دِيارًا لَسْتَ تَسْكُنُها

وَراجِعِ النُّسْكَ كَيْما يُغْفَرَ الحُوبُ

قالَ: ففَزِعَ مِن ذلكَ، وفَزِعَ أصحابُهُ فزعًا شديدًا وراعَهُم ما سَمِعوا مِن ذلكَ، فقالَ لأصحابِهِ: هل سَمِعْتُمْ ما سَمِعْتُ؟ قالوا: نعم. قالَ: فهل تَجِدونَ ما أجِدُ؟ قالوا: وما تَجِدُ؟ قالَ: أجِدُ واللهِ مسكةً على فؤادي ما أراها إلَّا علَّةَ الموتِ. قالوا: كلَّا؛ بل البقاءُ والعافيةُ. قالَ: فبَكى وقالَ: أنتُم أخلَّائي وإخواني، فما لي عندَكُم؟ قالوا: مُرْنا بما أحْبَبْتَ. قالَ: فأمَرَ بالشَّرابِ فأُهْريقَ وبالملاهي فأُخْرِجَتْ. ثمَّ قالَ: اللهمَّ! إنِّي أُشْهِدُكَ ومَن حَضَرَ مِن عبادِكَ أنِّي تائبٌ إليكَ مِن جميعِ ذنوبي، نادمٌ على ما فَرَّطْتُ أيَّامَ مهلتي، وإياكَ أسْألُ إنْ أقَلْتَني أنْ تُتِمَّ عليَّ نعمتَكَ بالإنابةِ إلى طاعتِكَ وإنْ أنتَ قَبَضْتَني إليكَ أنْ تَغْفِرَ لي ذنوبي تفضُّلًا منكَ علي. واشْتَدَّ بهِ الأمرُ فلمْ يَزَلْ تقولُ: الموتُ واللهِ! الموتُ واللهِ! حتَّى خَرَجَتْ نفسُهُ. فكانَ الفقهاءُ يَرَوْنَ أنَّهُ ماتَ على توبةٍ.

ورَوى عَبْدُ الواحدِ في كتابِ "قتلى القرآنِ" بإسنادِهِ: أن رجلًا مِن أشرافِ أهلِ البصرةِ كانَ منحدرًا إليها في سفينةٍ ومعَهُ جاريةٌ لهُ، فشَرِبَ يومًا وغَنَّتْهُ جاريتُهُ بعودٍ [لها]، وكانَ معَهُم في السَّفينةِ رجلٌ صالحٌ. فقالَ لهُ: يا فتى! هل تُحْسِنُ مثلَ هذا؟ قالَ: أُحْسِنُ ما هوَ أحسنُ مِن هذا. وكانَ الفقيرُ حسنَ الصَّوتِ، فاسْتَفتَحَ ثمَّ قَرَأ:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا. أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 77 - 178]. فرَمى الرَّجلُ ما بيدِهِ مِن الشَّرابِ في الماءِ، وقالَ: أشْهَدُ أن هذا أحسنُ ممَّا سَمِعْتُ، فهل غيرَ هذا؟ قالَ: نعم. وتَلا عليهِ: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]. فوَقَعَتْ مِن قلبِهِ موقعًا، ورَمى الشَّرابَ في الماءِ، وكَسَرَ العودَ، ثمَّ قالَ: يا فتى! هل هنا فرجٌ؟ قالَ: نعم. {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ

ص: 733

الرَّحِيمُ} الآيةَ [الزمر: 53]. فصاحَ صيحةً عظيمةً، فنَظَروا إليهِ، فإذا هوَ قد ماتَ.

ورَوى ابنُ أبي الدُّنْيا بإسنادِهِ: أن صالِحًا المُرِّيَّ رحمه الله كانَ يومًا جالسًا في مجلسِهِ يَقُصُّ على النَّاسِ، فقَرَأ عندَهُ قارئ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، فذَكَرَ صالحٌ النَّارَ وحالَ العصاةِ فيها وصفةَ سياقِهِم إليها وبالَغَ في ذلكَ، وبَكى النَّاسُ، فقامَ فتًى كانَ حاضرًا في مجلسِهِ وكانَ مسرفًا على نفسِهِ، فقالَ: أكلُّ هذا في القيامةِ؟ قالَ صالحٌ: نعم، وما هوَ أكبرُ منهُ، لقد بَلَغَني أنَّهُم يَصْرُخونَ في النَّارِ حتَّى تَنْقَطعَ أصواتُهُم فلا يَبْقى منهُم إلَّا كهيئةِ الأنينِ مِن المريضِ المدنفِ. فصاحَ الفتى: إنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعونَ! وا غفلتاهُ عن نفسي أيَّامَ الحياةِ! ووا أسفاهُ على تفريطي في طاعتِكَ يا سيِّداه! ووا أسفاهُ على تضييعِ عمري في دارِ الدُّنيا! ثمَّ اسْتَقْبَلَ القبلةَ، وعاهَدَ الله على توبةٍ نصوحٍ، ودَعا الله أنْ يَتَقَبَّلَ منهُ، وبَكى حتَّى غُشِيَ عليهِ، فحُمِلَ مِن المجلسِ صريعًا، فمَكَثَ صالحٌ وأصحابُهُ يَعودونَهُ أيَّامًا، ثمَّ ماتَ، فحَضَرَهُ خلقٌ كثيرٌ، فكانَ صالِحٌ يَذْكُرُهُ كثيرًا في مجلسِهِ [ويَقولُ]: بأبي قتيلُ القرآن! وبأمِّي قتيلُ المواعظِ والأحزان! فرَآهُ رجلٌ في منامِهِ فقالَ: ما صَنَعْتَ؟ قالَ: عَمَّتْني بركةُ مجلسِ صالِحٌ فدَخَلْتُ في سعةِ رحمةِ اللهِ التي {وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156].

مَن آلَمَتْهُ سياطُ المواعظِ فصاحَ فلا جناح، ومَن زادَ ألمُهُ فماتَ فدمُهُ مباح

(1)

.

قَضى اللهُ في القَتْلى قِصاصَ دِمائِهِمْ

وَلكِنْ دِماءُ العاشِقينَ جُبارُ

• وبَقِيَ هاهُنا قسمٌ آخرُ، وهوَ أشرفُ الأقسامِ وأرفعُها، وهوَ مَن يُفْني عمرَهُ في الطَّاعةِ، ثمَّ يُنَبَّهُ على قربِ الأجلِ لِيَجِدَّ في التَّزوُّدِ ويَتَهَيَّأ للرَّحيلِ بعملٍ يَصْلُحُ للِّقاءِ ويَكونُ خاتمةً للعملِ.

قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لمَّا نَزَلَتْ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [سورة النصر]؛ نُعِيَتْ لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نفسُهُ، فأخَذَ في أشدِّ ما كانَ اجتهادًا في أمرِ

(1)

كان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، خير البريّة بعد الأنبياء، يسمعون مواعظ خير الخلق وأعلمهم بالله وأدلّهم عليه، فتوجل قلوبهم وتذرف أعينهم ويسمع خنينهم، ثمّ لا يصيحون ولا يرقصون ولا يموتون!

ص: 734

الآخرةِ

(1)

.

قالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: كانَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في آخرِ أمرِهِ لا يَقومُ ولا يَقْعُدُ ولا يَذْهَبُ ولا يَجيءُ إلَّا قالَ: "سبحانَ اللهِ وبحمدِه". فذَكَرْتُ ذلكَ لهُ، فقالَ:"إنِّي أُمرْتُ بذلكَ"، وتَلا هذهِ السُّورةَ

(2)

.

وكانَ مِن عادتِهِ صلى الله عليه وسلم أنْ يَعْتكِفَ في كلِّ عامٍ في رمضانَ عشرًا ويَعْرِضَ القرآنَ على جِبْريلَ مرَّةً، فاعْتكَفَ في ذلكَ العامِ عشرينَ يومًا وعَرَضَ القرآنَ مرَّتينِ

(3)

. وكانَ يَقولُ: "ما أرى ذلكَ إلَّا لاقترابِ أجلي"

(4)

.

ثمَّ حَجَّ حجَّةَ الوداعِ وقالَ للنَّاسِ: "خُذوا عنِّي مناسكَكُم، فلعلِّي لا ألْقاكُمْ بعدَ عامي هذا"، وطَفِقَ يُوَدِّعُ النَّاسَ. فقالوا: هذهِ حجَّةُ الوداعِ

(5)

.

ثمَّ رَجَعَ إلى المدينةِ، فخَطَبَ قبلَ وصولِهِ إليها وقالَ:"أيُّها النَّاسُ! إنَّما أنا بشرٌ، يُوشِكُ أنْ يَأْتِيَني رسولُ ربِّي فأُجيبَ"، ثمَّ أمَرَ بالتَّمسُّكِ بكتابِ اللهِ

(6)

.

ثمَّ تُوُفِّيَ بعدَ وصولهِ إلى المدينةِ بيسيرٍ صلى الله عليه وسلم.

إذا كانَ سيِّدُ المحسنينَ يُؤْمَرُ أنْ يَخْتِمَ عمرَهُ بالزِّيادةِ في الإحسان؛ فكيفَ حالُ المسيءِ المفرِّطِ في عمرِهِ بالأماني والنِّسيانِ.

خُذْ في جِدٍّ فَقَدْ تَوَلَّى العُمُرُ

كَمْ ذا التَّفْريطُ قَدْ تَدانى الأمْرُ

أقْبِلْ فَعَسى يُقْبَلُ مِنْكَ العُذْرُ

كَمْ تَبْني كَمْ تَنْقُضُ كَمْ ذا الغَدْرُ

مَرِضَ بعضُ العابدينَ، فوُصِفَ لهُ داوءٌ يَشْرَبُهُ، فأُتِيَ في منامِهِ فقيلَ لهُ: أتَشْرَبُ الدَّواءَ والحورُ العينُ لكَ تُهَيَّأُ؟! فانْتَبَهَ فزعًا، فصَلَّى في ثلاثةِ أيَّامٍ حتَّى انْحَنى صلبُهُ، ثمَّ ماتَ في اليومِ الثَّالثِ.

(1)

(حسن صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 246).

(2)

(صحيح). تقدّم تفصيل القول فيه (ص 247).

(3)

متفق عليه. تقدّم تفصيل القول فيه (ص 247).

(4)

جاء هذا في بعض ألفاظ حديث مسارّته صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة المتّفق عليه الذي تقدّم (ص 260).

(5)

رواه مسلم. تقدّم تفصيل القول فيه (ص 250).

(6)

رواه مسلم. تقدّم تفصيل القول فيه (ص 250).

ص: 735

وكانَ رجلٌ قدِ اعْتَزَلَ وتَعَبَّدَ، فرَأى في منامِهِ قائلًا يَقولُ لهُ: يا فلانُ! ربُّكَ يَدْعوكَ فتَجَهَّزْ واخْرُجْ إلى الحجِّ ولَسْتَ عائدًا، فخَرَجَ إلى الحجِّ، فماتَ في الطَّريقِ.

ورَأى بعضُ الصَّالحينَ في منامِهِ مَن يُنْشِدُهُ:

تَأهَّبْ لِلَّذي لا بُدَّ مِنْهُ

مِنَ المَوْتِ المُوَكَّلِ بِالعِبادِ

• وخَرَّجَ ابنُ ماجَهْ مِن حديثِ: جابِرٍ؛ أن النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ، فقالَ في خطبتِهِ:"أيُّها النَّاسُ! توبوا إلى ربِّكُم قبلَ أنْ تَموتوا، وبادِروا بالأعمالِ الصَّالحةِ قبلَ أنْ تُشْغَلوا"

(1)

. فأمَرَ بالمبادرةِ بالتَّوبةِ قبلَ الموتِ. وكلُّ ساعةٍ تَمُرُّ على أبنِ آدَمَ فإنَّهُ يُمْكِنُ

(1)

(ضعيف). رواه: ابن ماجه (5 - الإقامة، 78 - فرض الجمعة، 1/ 343/ 1081)، وأبو يعلى (1856)، وابن أبي حاتم في "العلل"(2/ 128)، والعقيلي (2/ 298)، وابن عدي (4/ 1498)، والقضاعي في "المسند"(723)، والبيهقي في "السنن"(3/ 171) و"الشعب"(3014)، والواحدي في "التفسير"، والأصبهاني في "الترغيب"(916 و 917)، والمزّي في "تهذيب الكمال"(16/ 103)؛ من طريق الوليد بن بكير أبي جناب، ثني عبد الله بن محمّد العدوي (إلّا أبا يعلى وإحدى روايتي ابن أبي حاتم فقال: ثني محمّد بن عليّ)، عن عليّ بن زيد بن جدعان، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة

رفعه. قال البيهقي: "عبد الله بن محمّد هو العدوي منكر الحديث لا يتابع في حديثه".

وقال ابن عبد البرّ: "جماعة أهل العلم بالحديث يقولون: إنّ هذا الحديث من وضع عبد الله بن محمّد العدوي، وهو عندهم موسوم بالكذب". قلت: ومن هنا تعلم تقصير المنذري بقوله عن سند أبي يعلى: "ليّن"، وسكوته عن سند ابن ماجه مع أنّه واحد! وقال البوصيري:"ضعيف لضعف عليّ بن زيد وعبد الله بن محمّد العدوي". قلت: وقد اضطرب العدويّ فيه فرواه مرّة عن عمر بن عبد العزيز عن عبادة بن عبد الله عن طلحة مرفوعًا. رواه: الباغندي في "مسند عمر بن عبد العزيز"(88)، وأبو ظاهر الأنباري في "مشيخته"(591 - إرواء)، والضياء المقدسي (591 - إرواء).

وقد توبع هذا العدوي فرواه: عبد بن حميد (1136) والبزّار والقضاعي في "المسند"(724) وابن عساكر من طريق بقيّة عن حمزة بن حسّان، والضياء المقدسي (591 - إرواء)؛ من طريق فروة الحنّاط عن أبي فاطمة؛ كلاهما عن علي بن زيد، عن سعيد، عن أبي هريرة

رفعه. وهذا من شرّ حديث بقيّة؛ فإنّه عنعن وأتى بمجهول لا يعرف، وفي الطريق الأُخرى فروة وأبو فاطمة لا يعرفان، فالمتابعة واهية.

قال البيهقي (3/ 171): "وروى كاتب الليث عن نافع بن يزيد، وأبو يحيى الوقّار عن خالد بن عبد الدائم عن نافعٍ بن يزيد؛ عن زهرة بن معبد، عن سعيد، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم معنى هذا في الجمعة، وهو أيضًا ضعيف". قلت: لم يبيّن يرحمه الله لفظ هذه الطريق لنتعرّف إلى قيمتها كشاهد، وهل فيها ما يشهد للمذكور أو هي مختصّة بالجمعة، لكنّه أحسن ببيان ضعفها حتّى لا نأسى على ما فاتنا منها.

ورواه: ابن خزيمة، وعنه ابن حبّان في "المجروحين"(2/ 305)، والضياء في "المنتقى"(591 - إرواء)؛ من ثلاث طرق أُخرى، عن جابر

رفعه. وفي طريقي ابن خزيمة وابن حبّان محمّد بن عبد الرحمن =

ص: 736

أنْ يَكونَ ساعةَ موتِهِ، بل كلُّ نَفَسٍ:

لا تَأْمَنِ المَوْتَ في طَرْفٍ وَلا نَفَسِ

وَلَوْ تَمَنَّعْتَ بِالحُجَّابِ وَالحَرَسِ

قالَ لُقْمانُ لابنِهِ: يا بنيَّ! لا تُؤَخِّرِ التَّوبةَ؛ فإنَّ الموتَ يَأْتي بغتةً.

وقالَ بعضُ الحكماءِ: لا تَكُنْ ممَّن يَرْجو الآخرةَ بغيرِ عمل ويُؤَخِّرُ التَّوبةَ لطولِ الأمل.

إلى اللهِ تُبْ قَبْلَ انْقِضائِكَ لِلْعُمْرِ

أُخَيَّ وَلا تَأْمَنْ مُفاجَأةَ الأمْرِ

وَلا تَتَّهِمْني في دُعائِي فَإنَّما

دَعَوْتُكَ إشْفاقًا عَلَيْكَ مِنَ الوِزْرِ

فَقَدْ حَذَّرَتْكَ الحادِثاتُ نُزولَها

وَنادَتْكَ إلَّا أنَّ سَمْعَكَ ذو وَقْرِ

تَنوحُ وَتَبْكي لِلأحِبةِ إنْ مَضَوْا

وَنَفْسَكَ لا تَبْكي وَأنْتَ عَلى الإثْرِ

قالَ بعضُ السَّلفِ: أصْبِحوا تائبينَ وأمْسُوا تائبينَ. يُشيرُ إلى أن المؤمنَ لا يَنْبَغي أنْ يُصْبِحَ ويُمْسِيَ إلَّا على توبةٍ؛ فإنَّهُ لا يَدْري متى يَفْجَؤُهُ الموتُ صباحًا أو مساءً. فمَن أصْبَحَ أو أمْسى على غيرِ توبةٍ، فهوَ على خطرٍ؛ لأنَّهُ يُخْشى أنْ يَلْقى الله غيرَ تائبٍ فيُحْشَرَ في زمرةِ الظَّالمينَ، قالَ تَعالى:{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].

تُبْ مِنْ خَطاياكَ وَابْكِ خَشْيَةَ ما

أُثْبِتَ مِنْها عَلَيْكَ في الكُتُبِ

أيَّةَ حالٍ تَكونُ حالُ فَتًى

صارَ إلى رَبِّهِ وَلَمْ يَتُبِ

تأْخيرُ التَّوبةِ في حالِ الشَّبابِ قبيحٌ، ففي حالِ المشيبِ أقبحُ وأقبحُ. اللهمَّ! ألْهِمْنا رُشْدَنا.

نَعى لَكَ ظِلَّ الشَّبابِ المَشيبُ

وَنادَتْكَ بِاسْمِ سِواكَ الخُطوبُ

فَكُنْ مُسْتَعِدًّا لِداعِي الفَناءِ

فَكُلُّ الذي هُوَ آتٍ قَريبُ

= بن غزوان وضّاع وقح، وفي طريق الضياء نصر بن حمّاد متّهم.

فالحديث جاء عن ابن جدعان من ثلاث أوجه ساقطة كما رأيت، وابن جدعان نفسه ضعيف. وتوبع ابن جدعان متابعة ضعيفة بشهادة البيهقي وما أراها إلّا ساقطة على ما ألفته من عادة البيهقي في التراخي في التضعيف. وله شاهد جاء عن جابر من أوجه ثلاث ساقطة. فالحديث ضعيف بجملة طرقه وتفصيلها، وإلى تضعيفه مال البخاري وأبو حاتم وابن خزيمة وابن حبَّان والعقيلي وابن عدي والدارقطني وابن عبد البرّ والبيهقي والمنذري والبوصيري والعسقلاني والألباني.

ص: 737

ألَسْنا نَرى شَهَواتِ النُّفو

سِ تَفْنى وَتَبْقى عَلَيْنا الذُّنوبُ

يَخافُ عَلى نَفْسِهِ مَنْ يَتوبُ

فَكَيْفَ يَكُنْ حالُ مَنْ لا يَتوبُ

(1)

فأَمَّا إذا نَزَلَ المرضُ بالعبدِ؛ فتأخيرُهُ للتَّوبةِ حينئذٍ أقبحُ مِن كلِّ قبيحٍ؛ فإنَّ المرضَ نذيز الموتِ.

ويَنْبَغي لمَن عادَ مريضًا أنْ يُذَكِّرَهُ التَّوبةَ والاستغفارَ، فلا أحْسَنَ مِن ختامِ العملِ بالتَّوبةِ والاستغفارِ: فإنْ كانَ العملُ سيِّئًا؛ كانَ كفَّارةً لهُ، وإنْ كانَ حسنًا؛ كانَ كالطَّابعِ عليه.

وفي حديثِ سيِّدِ الاستغفارِ المخرَّجِ في الصَّحيحِ

(2)

: أن مَن قالَهُ إذا أصْبَحَ وإذا أمْسى ثمَّ ماتَ مِن يومِهِ أو ليلتِهِ؛ كانَ مِن أهلِ الجنَّةِ.

ولْيُكْثِرْ في مرضِهِ مِن ذكرِ اللهِ، خصوصًا مِن كلمةِ التَّوحيدِ؛ فإنَّهُ مَن كانَتْ آخرَ كلامِهِ دَخَلَ الجنَّةَ.

وفي حديثِ أبي سَعيدٍ وأبي هُرَيْرَةَ: عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قالَ: "مَن قالَ في مرضِهِ: لا إلهَ إلَّا اللهُ واللهُ أكبرُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ، لا إلهَ إلَّا اللهُ ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ؛ فإنْ ماتَ في مرضِهِ؛ لمْ تَطْعَمْهُ النَّارُ"

(3)

. خَرَّجَهُ النَّسائِيُّ وابنُ ماجَهْ والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ.

(1)

في خ وم: "فكيف بحال من لا يتوب"! وفي ط: "فكيف يكون الذي لا يتوب"، والأوّل فاسد عروضيًّا، والثاني سليم لغويًّا وعروضيًّا، لكن أخشى أن يكون لقلم المحقّق فيه دور، وأثبتّ ما في ن لأنّه سليم عروضيًّا وله وجه لغة.

(2)

البخاري (80 - الدعوات، 2 - أفضل الاستغفار، 11/ 97/ 6306) من حديث شدّاد بن أوس.

(3)

(صحيح). رواه: عبد بن حميد (943 و 944)، وابن ماجه (33 - الأدب، 54 - لا إله إلّا الله، 2/ 1246/ 3794)، والترمذي (49 - الدعوات، 37 - ما يقول إذا مرض، 5/ 492/ 3430)، والنسائي في "الكبرى"(9858 و 9859) و "اليوم والليلة"(31 و 32)، وأبو يعلى (1258 و 6153 و 6154 و 6163)، وابن حبّان (851)، والطبراني في "الأوسط"(2982) و"الصغير"(234)، والدارقطني في "العلل"(1603)، والحاكم (1/ 5)، والبيهقي في "الشعب"(663) و"الصفات"(187)، والرافعي (3/ 442)؛ من طريق أبي إسحاق، عن الأغرّ أبي مسلم، عن أبي هريرة وأبي سعيد

رفعه مطوّلًا ومختصرًا بهذا السياق وبنحوه.

وهذا سند يمكن أن يعلّ بعلل: أولاها تخليط أبي إسحاق، وليس بالقادح، فقد رواه عنه جماعة منهم إسرائيل، وروايته عنه في "صحيح البخاري"، فالظاهر أنّها قديمة. ومنهم أيضًا شعبة، وروايته عنه أمان من =

ص: 738

وفي روايةٍ للنَّسائِيِّ: "مَن قالَهُنَّ في يومٍ أو في ليلةٍ أو في شهرٍ، ثمَّ ماتَ في ذلكَ اليومِ أو في تلكَ الليلةِ أو في ذلكَ الشَّهرِ؛ غُفِرَ لهُ ذنبُهُ"

(1)

.

ويُرْوى مِن حديثِ: حُذَيْفَةَ، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ قالَ:"مَن خُتِمَ لهُ بقولِ لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ دَخَلَ الجنَّةَ، ومَن خُتِمَ لهُ بصيامِ يوم أرادَ بهِ وجهَ اللهِ؛ أدْخَلَهُ اللهُ الجنَّةَ، ومَن خُتِمَ لهُ بإطعامِ مسكينٍ أرادَ بهِ وجهَ اللهِ؛ أدْخَلَهُ اللهُ الجنَّةَ"

(2)

.

= التخليط والتدليس، لكنّها جاءت مختصرة جدًّا، فالعمدة في تقوية هذا السياق على رواية إسرائيل ومن تابعه. والعلّة الثانية الوقف: فقد رواه: الترمذي (الموضع السابق)، والنسائي في "الكبرى"(9860) و"اليوم والليلة"(32)، والدارقطي في "العلل"(1603)؛ من طريق قويّة، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأغرّ، في أبي هريرة وأبي سعيد

موقوفًا. وبه أعلّه الترمذي، وقال الدارقطني:"وهو الصحيح". قلت: لا ريب أنّ رواية شعبة عن أبي إسحاق متينة وراجحة، لكنّها لا تضرّ الرفع لأمور: أوّلها: أن الرفع جاء عن شعبة من وجه قويّ كما تقدّم. والثَّاني: أن رفع إسرائيل زيادة ثقة يتعيّن المصير إليها. والثالث: أن من المستبعد أن يتّفق أبو هريرة وأبو سعيد على مقالة كهذه دون أن يكون أصلها مرفوعًا. والرابع: أنّ لهذا المتن حكم الرفع لأنّه لا يقال اجتهادًا. فهذه العلّة غير قادحة أيضًا. والعلّة الثالثة الاضطراب: عن أبي إسحاق، عن أبي صالح، عن أبي هريرة

رفعه. وأبو بشر هو عبد الله بن بشر الرقي ليس بذاك القويّ، فروايته شاذّة، ولو سلّمنا أنّها محفوظة؛ فلا تضرّ الحديث؛ لأنه تردّد بين وجهين قويّين.

ويدفع هذه العلل الثلاث ما رواه: عبد بن حميد (945)، والرافعي في "التدوين"(3/ 442)؛ من طريقين، عن إسرائيل، عن أبي جعفر الفرّاء، عن الأغرّ، عن أبي سعيد وأبي هريرة

رفعاه مطوّلًا ومختصرًا. فهذه متابعة من أبي جعفر الفرّاء الثقة لأبي إسحاق تقوّي حديثه وتنفي علله.

وإلى تقوية هذا الحديث مال الترمذي وابن حبّان والحاكم والنووي والمنذري والعسقلاني والألباني.

(1)

(شاذّ). رواه: النسائي في "الكبرى"(9857) و"اليوم والليلة"(29)، والإسماعيلي في "شيوخه"(390)؛ من طريق جعفر بن برقان، عن أبي بشر عبد الله بن بشر الرقي وغيره، عن أبي إسحاق، عن أبي صالح، عن أبي هريرة

رفعه.

وهذا سند ضعيف: أبو بشر، ليس بالقويّ، وروايته عن أبي إسحاق متأخّرة، وقد خالف في السند والمتن معًا، فروايته بين الشذوذ والنكارة. والمحفوظ في هذا الحديث اللفظ المتقدّم بالسند المتقدّم.

(2)

(ضعيف بهذا التمام). يرويه نعيم بن أبي هند واختلف عليه فيه على ثلاثة وجوه: روى أوّلها: البزّار (7/ 270/ 2854)، وابن بشران في "الأمالي"(1645 - صحيحة)، والبيهقي في "الصفات"(652)؛ من طريق الحسن بن أبي جعفر، عن محمّد بن جحادة، عن نعيم، عن ربعيّ، عن حذيفة

رفعه. والحسن هذا هو الجفري ضعيف. وروى الثاني: الطبراني في "الشاميّين"(2449) وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 208) من طريق عطاء الخراساني، والأصبهاني في "الترغيب"(104) من طريق عديّ بن الفضل عن عثمان البتّي؛ كلاهما عن نعيم، عن أبي مسهر (وفي الحلية: أبي سهل)، عن حذيفة

رفعه. وعطاء حسن في الشواهد لكنه عنعن علي تدليسه، وعديّ متروك، فاجتماع الطريقين لا يزحزح هذا الوجه عن الضعف، زد على ذلك أن =

ص: 739

• كانَ السَّلفُ يَرَوْنَ أنَّ مَن ماتَ عقيبَ عملٍ صالحٍ كصيامِ رمضانَ أو عقيبَ حجٍّ أو عمرةٍ؛ أنَّهُ يُرْجى لهُ أنْ يَدْخُلَ الجنَّةَ.

وكانوا معَ اجتهادِهِم في الصِّحَّةِ في الأعمالِ الصَّالحةِ يُجَدِّدونَ التَّوبةَ والاستغفارَ عندَ الموتِ ويَخْتِمونَ أعمالَهُم بالاستغفارِ وكلمةِ التَّوحيدِ.

لمَّا احْتُضِرَ العَلاءُ بنُ زِيادٍ؛ بَكى. فقيلَ لهُ: ما يُبْكيكَ؟ قالَ: كُنْتُ واللهِ أُحِبُّ أنْ أسْتَقْبِلَ الموتَ بتوبةٍ. قالوا: فافْعَلْ رَحِمَكَ اللهُ. فدَعا بطهورٍ فتَطَهَّرَ، ثمَّ دَعا بثوبٍ لهُ جديدٍ فلَبِسَهُ، ثمَّ اسْتَقْبَلَ القبلةَ، فأوْمَأ برأْسِهِ مرَّتينِ أو نحوَ ذلكَ، ثمَّ اضْطَجَعَ فماتَ.

ولمَّا احْتُضِرَ عامِرُ بنُ عَبْدِ اللهِ؛ بَكى وقالَ: لمثلِ هذا المصرعِ فلْيَعْمَلِ العاملونَ. اللهمَّ! إنِّي أسْتَغْفِرُكَ مِن تقصيري وتفريطي، وأتوبُ إليكَ مِن جميعِ ذنوبي، لا إلهَ إلَّا اللهُ. ثمَّ لمْ يَزَلْ يُرَدِّدُها حتَّى ماتَ رحمه الله.

وقالَ عَمْرُو بنُ العاصِ عندَ موتهِ: اللهمَّ! أمَرْتَنا فعَصَيْنا، ونَهَيْتَنا فرَكِبْنا، ولا يَسَعُنا إلَّا عفوُكَ، لا إلهَ إلَّا اللهُ. ثمَّ رَدَّدها حتَّى ماتَ.

وقالَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزيزِ عندَ موتِهِ: أجْلِسوني. فأجْلَسوهُ. فقالَ: أنا الذي أمَرْتَني

= أبا مسهر هذا لا يعرف. وقد تابع أبو خالد الواسطي نعيمًا عن أبي مسهر عند بحشل في "التاريخ"(ص 108)، لكنّ أبا خالد كذّاب والراوي عنه الجرّاح بن منهال متّهم. فسقطت هذه المتابعة. وروى الثالث: أحمد (5/ 391) والبيهقي في "الصفات"(651) من وجه قويّ عن عثمان البتّي، وابن حبَّان في "الثقات"(7/ 570) وأبو الشيخ في "الطبقات"(4/ 357) وابن شاهين في "الأفراد"(1645 - صحيحة) والمخلّص في "الفوائد"(1645 - صحيحة) وأبو نعيم في "أصبهان"(1/ 218) من طريق هشام بن القاسم؛ كلاهما عن نعيم، عن حذيفة

رفعه. قال المنذري: "إسناد لا بأس به"، وقال الهيثمي (3/ 186، 7/ 218): "رجال الصحيح غير عثمان بن مسلم البتّي وهو ثقة"، وتعقّب الألباني قول المنذري فقال:"الصواب ما قلته"؛ يعني: أنّ الإسناد صحيح وليس كما وصفه المنذري! قلت: فاتهم يرحمهم الله أنّ نعيمًا هذا لم يلحق حذيفة وروايته عنه منقطعة، فبين وفاتيهما 74 سنة، وما ذكروا له عنه رواية، ولو لحقه للحق جلّ الصحابة!

وللقطعتين الأوليين شاهد من حديث عليّ عند الخطيب في "الجمع والتفريق"(1/ 80) بسند ساقط مسلسل بالضعفاء والمجاهيل.

وخلاصة القول: أنّ الوجهين الأوّلين في حديث حذيفة منكرين جمعا الضعف إلى المخالفة فالمعروف عن حذيفة الثالث، وهو ضعيف لانقطاعه. ولم أقف على شاهد للحديث بطوله. بلى هاهنا شواهد مجملة لا تقوم بهذه التفاصيل. وشاهد للقطعتين الأوليين فقط من حديث علي، ولكنّه على قصوره شديد الضعف. وأما القطعة الأولى فشواهدها كثيرة مخرجة في الصحاح وغيرها عن جماعة من الصحابة فهي صحيحة بلا ريب.

ص: 740

فقَصَّرْتُ ونَهَيْتَني فعَصَيْتُ، ولكنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ. ثمَّ رَفَعَ راسَهُ فأحَدَّ النَّظرَ. فقالوا لهُ: إنَّكَ تَنْظُرُ نظرًا شديدًا يا أميرَ المؤمنينَ! قالَ: إنِّي أرى حضرةً ما هُم بإنسٍ ولا جنٍّ. ثمَّ قُبِضَ رحمةُ اللهِ عليهِ. وسَمِعوا تاليًا يَتْلو: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

يا غافِلَ القَلْبِ عَنْ ذِكْرِ المَنِيَّاتِ

عَمَّا قَليلٍ سَتَثْوي بَيْنَ أمْواتِ

فَاذْكُرْ مَحَلَّكَ مِنْ قَبْلِ الحُلولِ بِهِ

وَتُبْ إلى اللهِ مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ

إنَّ الحِمامَ لَهُ وَقْتٌ إلى أجَلٍ

فَاذْكُرْ مَصائِبَ أيَّامٍ وَساعاتِ

لا تَطْمَئِنَّ إلى الدُّنْيا وَزينَتِها

قَدْ حانَ لِلْمَوْتِ يا ذا اللُبِّ أنْ يَاتي

• التَّوبةَ التَّوبة، قبلَ أنْ يَصِلَ إليكُم مِن الموتِ النَّوبة، فيَحْصُلَ المفرِّطُ على النَّدمِ والخيبة. الإنابةَ الإنابة، قبلَ غلقِ بابِ الإجابة. الإفاقةَ الإفاقة؛ فقد قَرُبَ وقتُ الفاقة.

ما أحسنَ قلقَ التُّوَّاب! ما أحلى قدومَ الغيَّاب! ما أجملَ وقوفَهُم بالباب!

أسَأْتُ وَلَمْ أُحْسِنْ وَجِئْتُكَ تائِبًا

وَأنَّى لِعَبْدٍ مِنْ مَواليهِ مَهْرَبُ

يُؤَمِّلُ غُفْرانًا فَإنْ خابَ ظَنُّهُ

فَما أحَدٌ مِنْهُ عَلى الأرْضِ أخْيَبُ

مَن نَزَلَ بهِ الشَّيبُ فهوَ بمنزلةِ الحاملِ التي تَمَّتْ شهورُ حملِها فما تَنْتَظِرُ إلَّا الولادةَ، كذلكَ صاحبُ الشَّيبِ لا يَنْتَظِرُ غيرَ الموتِ، فقبيحٌ منهُ الإصرارُ على الذَّنبِ حينئذٍ.

أيَّ شَيْءٍ تُريدُ مِنِّي الذُّنوبُ

شُغِفَتْ بي فَلَيْس عَنِّي تَغيبُ

ما يَضُرُّ الذُّنوبَ لَوْ أعْتَقَتْني

رَحْمَةً بي فَقَدْ عَلاني المَشيبُ

ولكنْ توبةُ الشَّبابِ أحسنُ وأفضل.

في حديثٍ مرفوعٍ خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنيا: "إن الله يُحِبُّ الشَّابَّ التَّائبَ"

(1)

.

(1)

(ضعيف جدًّا). رواه: ابن أبي الدنيا في "التوبة"(184)، وابن عديّ (6/ 2037)، وأبو الشيخ في "الثواب"، والذهبي في "الميزان"(3/ 335) تعليقًا، والعسقلاني في "اللسان"(4/ 486) تعليقًا؛ من طريق غسّان بن عبيد، عن طريف بن سليمان أبي عاتكة، عن أنس

رفعه.

وغسّان بن عبيد هذا هو الموصلي ضعيف، وأبو عاتكة واه ذاهب الحديث، ولذلك قال العراقي:"سنده ضعيف"، وأقرّه المناوي والعجلوني والألباني، والسند دون ذلك.

ص: 741

قالَ عُمَيْرُ بنُ هانئ: تَقولُ التَّوبةُ للشَّابِّ: أهلًا ومرحبًا، وتَقولُ للشَّيخِ: نَقْبَلُكَ على ما كانَ منكَ.

الشَّابُّ تَرَكَ المعصيةَ معَ قوَّةِ الدَّاعي إليها، والشَّيخُ قد ضَعُفَتْ شهوتُهُ وقَلَّ داعيهِ، فلا يَسْتَوِيانِ.

وفي بعضِ الآثارِ: يَقولُ اللهُ تَعالى: أيُّها الشَّابُّ التَّاركُ شهوتَهُ المبتذلُ شبابَهُ لأجلي! أنتَ عندي كبعضِ ملائكتي

(1)

.

قالَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه في قولهِ تَعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3]: همُ الذينَ يَشْتَهونَ المعاصيَ ولا يَعْمَلونَ بِها

(2)

.

كم بينَ حالِ الذي قالَ معاذَ اللهِ إنَّهُ ربِّي أحْسَنَ مثوايَ وبينَ شيخٍ عِنِّينٍ يُدْعى لمثلِ ذلكَ!

(1)

(خبر إسرائيلي موضوع مرفوعًا). رواه: ابن عدي (3/ 358)، والسهمي في "التاريخ"(ص 377)، والذهبي في "الميزان"(2/ 121) تعليقًا، والعسقلاني في "اللسان"(3/ 21) تعليقًا؛ من طريق سعد بن سعيد الجرجاني، عن الثوري، عن منصور، عن أبي الضحى ومسروق، عن علقمة، عن ابن مسعود

رفعه. قال ابن عدي: "لا يتابع عليه (يعني: سعدًا) ". وقال: "دخلته غفلة الصالحين، ولم أر للمتقدّمين فيه كلامًا، وهو من أهل بلدنا، ونحن أعلم به". قلت: يعني أنّه ليس بالكذاب الوضّاع المتعمّد، وإنّما هو رجل من الصالحين الذين لا يفرّقون بين قصّة وخبر إسرائيليّ ومرفوع بل ينسبونها كلّها إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم جهلًا. وقال الذهبي:"موضوع على الثوري"، وأقرّه العسقلاني.

ورواه أبو نعيم في "الحلية"(4/ 138) من طريق يحيى بن أيّوب، ثنا عبد الجبّار بن وهب، ثنا محمّد بن عبد الله السلمي، عن شريح، حدّثني البدريّون ومنهم عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم

رفعه. وعبد الجبّار لا يعرف، والسلمي ما عرفته، وما أرى البلاء إلّا من أحدهما.

ورواه: ابن المبارك في "الزهد"(346)، وأبو نعيم في "الحلية"(5/ 237)؛ من طريق قويّة، عن يزيد بن ميسرة بن حلبس: إنّ الله تعالى يقول

فذكره. وهذا موقوف قويّ، وأصله إسرائيليّ كما هو واضح؛ فإنّ ابن حلبس هذا مشهور برواية الإسرائيليّات.

فبان بهذا أنّه أثر إسرائيليّ تناقله بعض الصالحين والوعّاظ، ثمّ رفعوه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم عمدًا أو جهلًا، وقد أحسن ابن رجب إذ لم يرفعه، ولكنّه قصّر بالاكتفاء بقوله "في بعض الآثار"؛ فإنّها حمالة لأوجه.

(2)

كذا في خ وم. وفي ن وط: "قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إنّ الذين يشتهون المعاصي ولا يعملون بها {أُولَئِكَ الَّذِينَ

} " فأتمّ الآية ولم يذكر ما بعدها.

ص: 742

كانَ عُمَرُ رضي الله عنه يَعُسُّ بالمدينةِ، فسَمعَ امرأةً غابَ عنها زوجُها تُنْشِدُ:

تَطاوَلَ هذا اللَّيْلُ تَسْري كَواكِبُهْ

وَأرَّقَني أنْ لا خَليلٌ أُلاعِبُهْ

فوَاللهِ لَوْلا اللهُ لا رَبَّ غَيْرُهُ

لَحُرِّكَ مِنْ هذا السَّريرِ جَوانِبُهْ

وَلكِنَّني أخْشى رَقيبًا مُوَكَّلًا

بِأنْفُسِنا لا يَفْتُرُ الدَّهْرَ كاتِبُهْ

فقالَ لها عُمَرُ: يَرْحَمُكِ اللهُ! يَرْحَمُكِ اللهُ! ثمَّ بَعَثَ إلى زوجِها فأمَرَهُ أنْ يَقْدُمَ عليها، وأمَرَ أنْ لا يَغيبَ أحدٌ عن امرأتِهِ أكثرَ مِن ستَّةِ أشهرٍ.

الشَّيخُ قد تَرَكَتْهُ الذُّنوبُ فلا حمدَ لهُ على تركِها، كما قيلَ:

تارَكَكَ الذَّنْبُ فَتارَكْتَهُ

بِالفِعْلِ وَالشَّهْوَةُ في القَلْبِ

فَالحَمْدُ لِلذَّنْبِ عَلى تَرْكِهِ

لا لَكَ في تَرْكِكَ لِلذَّنْبِ

أما تَسْتَحي منَّا؟! لمَّا أعْرَضَتْ لذَّاتُ الدُّنيا عنكَ فلمْ يَبْقَ لها فيكَ رغبةٌ وصِرْتَ مِن سَقَطِ المتاع لا حاجةَ لأحدٍ فيكَ؛ جِئْتَ إلى بابِنا فقُلْتَ: أنا تائبٌ! ومعَ هذا؛ فكلُّ مَن أوى إلينا آوَيْناه، وكلُّ مَنِ اسْتَجارَ بنا أجَرْناه، ومَن تابَ إلينا أحْبَبْناه. أبْشِرْ؛ فربَّما يَكونُ الشَّيبُ شافعًا لصاحبِهِ في العفوِ.

ماتَ شيخٌ كانَ مفرِّطًا، فرُّئِيَ في المنامِ، فقيلَ لهُ: ما فَعَلَ اللهُ بكَ؟ قالَ: قالَ لي: لولا أنَّكَ شيخٌ لَعَذَّبْتُكَ.

وَقَفَ شيخٌ بعرفةَ، والنَّاسُ يَضِجُّونَ بالدُّعاءِ وهوَ ساكتٌ، ثمَّ قَبَضَ على لحيتِهِ وقالَ: يا ربِّ! شيخٌ! شيخٌ يَرْجو رحمتَكَ.

لَمَّا أتَوْا وَالشَّيْبُ شافِعُهُمْ

وَقَدْ تَوالى عَلَيْهِمُ الخَجَلُ

قُلْنا لِسودِ الصَّحائِفِ انْقَلِبي

بيضًا فَإنَّ الشُيوخَ قَدْ قُبِلوا

كانَ بعضُ الصَّالحينَ يَقولُ: إن الملوكَ إذا شابَتْ عبيدُهُم في رقِّهِم عَتَقوهُم، وقد شِبْتُ في رقِّكَ فأعْتِقْني.

إنَّ المُلوكَ إذا شابَتْ عَبيدُهُمُ

في رِقِّهِمْ عَتَقوهُمْ عِتْقَ أبْرارِ

وَأنْتَ يا خالِقي أوْلى بِذا كَرَمًا

قَدْ شِبْتُ في الرِّقِّ فَأعْتِقْني مِنَ النَّارِ

• أيُّها العاصي! ما يَقْطَعُ مِن صلاحِكَ الطَّمَع، ما نَصَبْنا شركَ المواعظِ إلَّا لِتَقَع.

ص: 743

إذا خَرَجْتَ مِنَ المجلسِ وأنتَ عازمٌ على التَّوبةِ؛ قالَتْ لكَ ملائكةُ الرَّحمةِ: مرحبًا وأهلًا، فإنْ قالَ لكَ رفاقُ المعصيةِ: هلمَّ إلينا؛ فقُلْ لهُم: كلَّا، ذاكَ خمرُ الهوى الذي عَهِدْتُموهُ قدِ اسْتَحالَ خَلًّا.

يا مَن سَوَّدَ كتابَهُ بالسِّيِّئاتِ! قد آنَ لكَ بالتَّوبةِ أنْ تَمْحو. يا سكرانَ القلبِ بالشَّهوات! أما آنَ لفؤادِكَ أنْ يَصْحو.

يا نَدامايَ صَحا القَلْبُ صَحا

فَاطْرُدوا عَنِّي الصِّبا وَالمَرَحا

زَجَرَ الوَعْظُ فُؤادي فَارْعَوى

وَأفاقَ القَلْبُ مِنِّي وَصَحا

هَزَمَ العَزْمُ جُنودًا لِلْهَوى

فاسِدي لا تَعْجَبُوا إنْ صَلَحا

بادِروا التَّوْبَةَ مِنْ قَبْلِ الرَّدى

فَمُناديهِ يُنادينا الوَحا

آخرُها، أحْسَنَ اللهُ خاتمتَها، وكانَ الفراغُ منها على يدِ أفقرِ عبادِ اللهِ وأحوجِهِم إلى رحمتِهِ النَّادمِ على ما كانَ من كسبِهِ إلْياسَ بن خَضِرِ بن مُحَمَّدٍ الدَّاعي لمالكِهِ وكاتبِهِ بطولِ البقاءِ وعلوِّ الدَّرجاتِ والارتقاءِ، وهو الشيخُ الإمامُ العالمُ العاملُ وحيدُ دهرِهِ وفريدُ عصرِهِ ونسيجُ وحدِهِ الشَّيخُ علاءُ الدِّينِ عليُّ بنُ سليمانَ المِرْداوِيُّ أمْتَعَ اللهُ بطولِ بقائِهِ وأعادَ علينا وعلى المسلمينَ مِن بركاتِهِ غَفَرَ اللهُ لهُ ولوالديهِ ولكاتبِ هذهِ الأسطرِ ولجميعِ المسلمينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ وذلكَ في اليومِ الثَّاني والعشرينَ من شهرِ اللهِ المحرَّمِ من شهورِ سنة خمسينَ وثمانِ مئةٍ بالمدرسةِ الموسومةِ بالشَّيخِ أبي عُمَرَ جَعَلَها اللهُ تَعالى دائمةً ما دامتِ السَّماواتُ والأرضُ ولا أخْلاها ممَّا فيها إنَّهُ على ما يَشاءُ قديرٌ وبالإجابةِ جديرٌ وصَلَّى اللهُ على سيِّدِنا مُحَمَّدٍ وآلِهِ وصحبِهِ وسَلَّمَ وحسبُنا اللهُ ونعمَ الوكيلُ

(1)

.

* * * * *

(1)

في حاشية خ: "الحمد لله على جميع نعمه. بلغ مقابلة حسنة صحيحة على نسختين وذلك برباط العبّاس عمّ نبينا محمّد صلى الله عليه وسلم ورضي عنه وذلك بمكة المشرّفة على يد كاتبها؛ إلّا الصفحة الأخيرة فإنّ كاتبها المسمّى فيها. قال ذلك وكتب عليّ بن سليمان المرداويّ الحنبليّ عفا الله عنه بمنّه وكرمه وذلك في أيّام آخرها نهار السبت خامس عشر من جمادى الآخرة سنة سبع وخمسين وثمان مئة".

ص: 744