المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدّمة المحقّق بسم الله الرّحمن الرّحيم إنّ الحمد لله تعالى نحمده، - لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف - ت عوض الله

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

‌مقدّمة المحقّق

بسم الله الرّحمن الرّحيم إنّ الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}

[آل عمران: 102]

{يا أَيُّهَا النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}

[النّساء: 1]

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب: 70 - 71].

أما بعد:

فإنّ خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة.

اللهمّ صلّ على محمّد، وعلى أهل بيته، وعلى أزواجه وذرّيته، كما صلّيت على آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد.

ص: 5

فبين يديك، - أخي الكريم - درّة من درر الإمام الحافظ الفقيه زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن المعروف ب «ابن رجب» الدمشقي الحنبلي، مما جاد به قلمه، وفاض به علمه.

وهو ذاك الكتاب الحافل «لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف» ، الذي لا يستغني عنه سالك طريق رب العباد، متزودا للمعاد، متأهبا للموت قبل قدومه والاستعداد؛ أو منتصب للوعظ والإرشاد، آخذ بأيدي الناس إلى خير زاد، موقظ لهم من الغفلة والسّهاد، هاد لهم إلى جنّة الله ورضوانه سالكا طريق خير هاد صلى الله عليه وسلم.

ولأجل هذا؛ سلك مؤلّفه فيه طريقا واضحة، وجادّة سويّة، حيث إنه جمع فيه بين الصناعة الحديثيّة؛ لتكون مواعظه قائمة على أسس صحيحة، لا كحال أغلب الوعّاظ الذين يملئون مواعظهم بالغثّ والسّمين والطّيب والخبيث، وبين الصناعة الفقهيّة، والتي ينبني عليها العمل الذي هو المقصود من العلم، فإن العمل إذا لم يكن قائما على علم سليم وفهم مستقيم، كان عملا مردودا على وجه صاحبه غير مقبول منه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«من عمل عملا ليس عليه أمرنا، فهو ردّ» ؛ بل يكون - والحالة هذه - بدعة وضلالة؛ والعياذ بالله.

ومع ذلك؛ فلم يخل المؤلف الكتاب من العبارات الوعظيّة، المصحوبة أحيانا بالسجع غير المتكلّف، والذي هو - بلا شكّ - يكون له تأثير في تحريك القلوب واستدرار العبرات، ثم حفز الهمم للعمل الذي هو الغاية من الوعظ، كما قال الله عز وجل: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ

ص: 6

كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ} [الزّمر: 23].

وقد لخّص المؤلف طريقته في الكتاب، ومسلكه فيه، ومنهجه الذي انتهجه، فقال في مقدمته:

«وقد استخرت الله عز وجل في أن أجمع في هذا الكتاب وظائف شهور السّنة وما يختصّ بالشهور ومواسمها من الطاعات، كالصّلاة، والصّيام، والذّكر، والشّكر، وبذل الطّعام، وإفشاء السّلام، وغير ذلك من خصال البررة الكرام؛ ليكون ذلك عونا لنفسي ولإخواني على التزوّد للمعاد، والتأهّب للموت قبل قدومه، والاستعداد، وأفوّض أمري إلى الله، إنّ الله بصير بالعباد.

ويكون أيضا صالحا لمن يريد الانتصاب للمواعظ من المذكّرين؛ فإنّ من أفضل الأعمال عند الله لمن أراد به وجه الله إيقاظ الراقدين، وتنبيه الغافلين؛ قال الله تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذّاريات: 55]، ووعد من أمر بصدقة أو معروف أو أصلح بين الناس يبتغي به وجهه، أجرا عظيما. وأخبر نبيّه صلى الله عليه وسلم أنّ «من دعا إلى هدى فله مثل أجر من تبعه» ، وكفى بذلك فضلا عميما.

وقد جعلت هذه الوظائف المتعلّقة بالشهور مجالس، مرتّبة على ترتيب شهور السّنة الهلاليّة؛ فأبدأ بالمحرّم، وأختم بذي الحجّة، وأذكر في كل شهر ما فيه من هذه الوظائف، وما لم يكن له وظيفة خاصّة لم أذكر فيه شيئا، وختمت ذلك كلّه بوظائف فصول السّنة الشّمسيّة، وهي ثلاثة

ص: 7

مجالس: في ذكر الرّبيع، والشتاء، والصيف، وختمت الكتاب كلّه بمجلس في التوبة والمبادرة بها قبل انقضاء العمر؛ فإنّ التوبة وظيفة العمر كلّه. وأبدأ قبل ذكر وظائف الشهور بمجلس في فضل التذكير بالله يتضمّن ذكر بعض ما في مجالس التذكير من الفضل».

هذا؛ وإنّي إذ أقدّم هذا الكتاب المفيد، محقّقا، موثّقا، مخدوما بتخريج أحاديثه، مذيّلا بفهارس مفيدة؛ أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا العمل كلّ من وقف عليه، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن يتقبّله مني بفضله ورحمته، وأن يعينني وإخواني من أهل العلم على خدمة كتب أسلافنا على النحو اللائق بها؛ إنه سبحانه نعم المولى ونعم النصير.

وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

وكتب

أبو معاذ

طارق بن عوض الله بن محمد

ص: 8

‌ترجمة ابن رجب الحنبلي

من «إنباء الغمر» لابن حجر (3/ 175 - 176)

‌نسبه:

عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغداديّ، ثم الدمشقيّ الحنبلي الحافظ، زين الدين.

‌مولده:

ولد ببغداد سنة ست وثلاثين وسبعمائة.

‌شيوخه:

وسمع بمصر من الميدومي

(1)

، وبالقاهرة من ابن الملوك

(2)

، وبدمشق من ابن الخبّاز

(3)

، وجمع جمّ.

ورافق شيخنا زين الدين العراقيّ في السماع كثيرا.

(1)

هو: صدر الدين أبو الفتح: محمد بن محمد بن إبراهيم الميدومي المتوفى سنة (754 هـ).

(2)

هو: ناصر الدين محمد بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عيسى بن أبي بكر بن أيوب، ينتهي نسبه بالعادل الأيوبيّ، ويلقّب ب «ابن الملوك» ، توفي سنة (756 هـ).

(3)

هو: المسند المعمّر: شمس الدين محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن سالم الدمشقي الأنصاري العبادي.

ص: 9

‌علمه:

ومهر في فنون الحديث: أسماء، ورجالا، وعللا، وطرقا، واطّلاعا على معانيه

(1)

.

‌أشهر مؤلفاته:

صنّف: «شرح الترمذي» ، فأجاد فيه، في نحو عشرة أسفار

(2)

.

وشرح قطعة كبيرة من البخاري

(3)

.

وشرح الأربعين للنووي، في مجلد

(3)

.

وعمل وظائف الأيام، سمّاه:«اللطائف»

(4)

.

وعمل طبقات الحنابلة، ذيلا على طبقات أبي يعلى

(5)

.

‌عبادته:

وكان صاحب عبادة وتهجّد.

(1)

ومما يمتاز به ابن رجب: سعة اطّلاعه على أقوال المتقدمين، وطول نفسه في الكلام على الأحاديث، عللا، ورجالا، وفقها.

(2)

وهذا الكتاب، فقد في جملة ما فقد من الكتب في فتنة التّتر، سنة (803 هـ)، ولم يبق سوى قطعة من كتاب اللّباس، تقع في عشر ورقات، وشرح العلل الذي في آخر «الجامع» للترمذي.

وقد طبع «شرح العلل» عدة طبعات، ومن نظر فيه علم كم خسر المسلمون بفقدان هذا الكتاب، الذي لو سلم من الضياع، لكان فيه غناء أيّ غناء عن كل الشروح التي انتهت إلينا.

(3)

وقد طبع بتحقيقي، وهو من منشورات دار ابن الجوزي.

(4)

وهو هذا الكتاب الذي بين يديك.

(5)

مطبوع.

ص: 10

‌مذهبه:

ونقم عليه إفتاؤه بمقالات ابن تيمية، ثم أظهر الرجوع عن ذلك، فنافره التّيميون، فلم يكن مع هؤلاء، ولا مع هؤلاء. وكان قد ترك الإفتاء بأخرة

(1)

.

‌ثناء العلماء عليه:

قال ابن حجّي: أتقن الفنّ، وصار أعرف أهل عصره بالعلل، وتتبع الطرق.

‌أخلاقه:

وكان لا يخالط أحدا، ولا يتردد إلى أحد.

(1)

لم تكن موافقته لابن تيمية عن تعصّب له، ولا مخالفته له عن بغض ومنافرة له. وإنما هذا شأنه كشأن أيّ عالم مطّلع يتغير اجتهاده بحسب الدلائل والبراهين التي تظهر له. فهو يدور مع الدليل حيث دار، ولا بدّ لمثل هذا أن يوافق بعضا وأن يخالف بعضا، وربّما وافق في مسألة من قد خالفه في أخرى، والعكس؛ إذ ليس غرض هؤلاء العلماء الفضلاء موافقة أحد من الناس، وإنما غرضهم الوقوف على الحقّ حيث كان. والله يجزي المصيب إحسانا والمخطئ غفرانا.

وقد ترجم ابن رجب لابن تيمية في «ذيل طبقات الحنابلة» بترجمة حافلة، في عشرين صفحة (2/ 387 - 408)، وهي ترجمة حافلة بالثناء والإطناب والاعتراف بمنزلة هذا الإمام، فقال في صدرها:

«الإمام الفقيه، المجتهد، المحدّث، الحافظ، المفسر، الأصولي، الزاهد، شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، وشهرته تغني عن الإطناب في ذكره، والإسهاب في أمره» . والله الهادي، لا ربّ سواه.

ص: 11

‌وصف النسخ الخطّيّة

اعتمدت في تحقيق هذا الكتاب على ثلاث نسخ خطيّة، ثلاثتها من محفوظات دار الكتب المصريّة، وهي أيضا متقاربة من حيث الصّحة، وهي نسخ جيّدة يمكن الاعتماد عليها، وأخطاؤها قليلة محتملة، ليست بالكثيرة ولا الفاحشة.

‌النسخة الأولى (ص): وتقع في (186) ورقة، محفوظة بالدار تحت رقم (3039 تصوف)،

تم نسخها سنة (836 هـ)، أي بعد وفاة المؤلف بنحو أربعين سنة، وهي أقدم النسخ الثلاث، جاء في آخرها:

«تمّ الكتاب بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، والحمد لله وحده، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا. آمين.

وذلك سلخ سنة ستّ وثلاثين وثمانمائة، حسبنا الله ونعم الوكيل».

وهي أفضل النسخ الثلاث على الإطلاق كتبت بخطّ نسخي معتاد، وتمتاز بتشكيل الكلمات بالقلم، وقد سقطت منها بعض الأوراق القليلة، فتمّ نسخها في الدار بخطّ حديث.

وهي تعدّ الأصل، الذي اعتمدت عليه، وإن كنت قد خالفته في مواضع إلى ما في النسختين الأخريين أو أحدهما حيث يترجح لي خطأ

ص: 13

ما في الأصل، ثمّ إنني أشير إلى ذلك في الحاشية غالبا، وقد أكتفي بوضوح الخطإ عن أن أشير إليه.

‌النسخة الثانية (ب): وتقع في (220) ورقة، تمّ نسخها سنة (1097 هـ)،

جاء في آخرها:

«وكان الفراغ من كتابة هذه النسخة المباركة يوم السبت المبارك، سابع عشر ذي الحجة سنة (1097) على يد أفقر العباد إلى الكريم

عبد الجوّاد بن خضر الإبياري، غفر الله له .. ».

كتبت بخطّ نسخيّ معتاد، وهي جيّدة على تأخّرها.

‌النسخة الثالثة (أ): وتقع في (241) ورقة: محفوظة بالدار تحت رقم (1473 تصوف).

وهي نسخة متأخّرة، تم نسخها سنة (1204 هـ)، جاء في آخرها:

«وقت كتابته: ضحوة الإثنين، لأربع عشر ليلة مضين من جمادى الأولى، أحد شهور سنة 1204 من الهجرة النبويّة، على مهاجرها الصلاة والسّلام» .

كتبت بخطّ نسخيّ جيّد، وهي على تأخّرها جيّدة، وقد سقط من مصوّرتنا بعض أوراقها، فاستدركناها من النّسختين الأخريين.

هذا؛ وقد استفدت من النّسخة المطبوعة، وقد طبع في مصر سنة 1343 هـ بتصحيح محمد الزهري الغمراوي، وهي طبعة جيّدة للكتاب،

ص: 14

لكن تفردت بزيادات كثيرة في مواضع متفرقة فالظاهر أنها من زيادات الناسخ؛ ولذا لم أجعلها في صلب الكتاب، بل إما أن أثبتها في الهامش مع الإشارة إلى كونها مأخوذة عن المطبوع، وإما أن أهملها كلية. وبالله التوفيق.

***

ص: 15

لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف

ص: 23

ص: 24

‌مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكّلت وإليه أنيب

الحمد لله الملك القهّار، العزيز الجبّار، الرّحيم الغفّار، مقلّب القلوب والأبصار، مقدّر الأمور كما يشاء ويختار، مكوّر النّهار على الليل، ومكوّر اللّيل على النّهار، أسبل ذيل الليل فأظلم للسكون والاستتار، وأنار منار النّهار، فأضاء للحركة والانتشار، وجعلهما مواقيت للأعمال ومقادير للأعمار، وسخّر الشّمس والقمر يجريان بحسبان ومقدار، ويعتقبان في دارة الفلك الدوّار على تعاقب الأدوار، وجعلهما معالم ليعلم

(1)

بهما أوقات الليالي والأيام والشهور والأعوام في هذه الدّار، ويهتدى بهما إلى ميقات الصّلاة، والزّكاة، والحجّ، والصّيام والإفطار، حجّة قائمة قاطعة للأعذار، وحكمة بالغة من حكيم عليم ذي اقتدار.

أحمده، وحلاوة محامده تزداد مع التّكرار، وأشكره، وفضله على من شكر مدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تبرئ قائلها من الشّرك بصحة الإقرار، وتبوّئ قائلها دار القرار. وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله؛ البدر جبينه إذا سرّ استنار، واليمّ يمينه فإذا سئل أعطى عطاء من لا يخشى الإقتار، والحنيفيّة دينه الدّين القيّم المختار، رفع الله ببعثته عن أمّته الأغلال والآصار، وكشف بدعوته أذى البصائر وقذى الأبصار، وفرّق بشريعته

(1)

في أ، ب:«يعلم» .

ص: 25

بين المتّقين والفجّار، حتى امتاز أهل اليمين من أهل اليسار، وانفتحت أقفال القلوب فانشرحت بالعلم والوقار، وزال عن الأسماع أثقال الأوقار. صلّى الله عليه وعلى آله أولي الإقدام والأقدار، وعلى أصحابه أقطاب الأقطار صلاة تبلّغهم في تلك الأوطان نهاية الأوطار، وسلم تسليما.

أما بعد، فقد قال الله عز وجل:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} [الإسراء: 12]. وقال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} [يونس: 5].

فأخبر سبحانه أنّه علّق معرفة السنين والحساب على تقدير القمر منازل.

وقيل: بل على جعل الشمس ضياء والقمر نورا؛ لأن حساب السّنة والشهر يعرف بالقمر، واليوم والأسبوع يعرف بالشمس، وبهما يتمّ الحساب.

وقوله تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} لمّا كان الشهر الهلاليّ لا يحتاج إلى عدّ لتوفيته بما بين الهلالين، لم يقل لتعلموا عدد الشهور؛ فإنّ الشهر لا يحتاج إلى عده إلاّ إذا غمّ آخره، فيكمّل عدده بالاتفاق، إلاّ في شهر شعبان إذا غمّ آخره بالنّسبة إلى صوم رمضان خاصّة، فإنّ فيه اختلافا مشهورا، وأما السّنة فلا بدّ من عددها، إذ ليس لها حدّ ظاهر في السّماء فيحتاج إلى عددها بالشهور، ولا سيّما مع تطاول السنين وتعدّدها.

وجعل الله السّنة اثني عشر شهرا، كما قال تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ} [التوبة: 36] وذلك بعدد البروج التي تكمل بدور الشمس فيها السنة الشمسيّة، فإذا دار القمر فيها كلّها كملت دورته السّنويّة؛ وإنما جعل الله الاعتبار بدور القمر؛ لأن ظهوره في السماء لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب، بل هو أمر ظاهر يشاهد بالبصر، بخلاف سير الشمس؛

ص: 26

فإنه تحتاج معرفته إلى حساب وكتاب، فلم يحوجنا إلى ذلك، كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«إنا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسب، والشهر هكذا وهكذا وهكذا، وأشار بأصابعه العشر، وخنس إبهامه في الثالثة، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غمّ عليكم فأكملوا العدّة»

(1)

.

وإنما علّق الله تعالى على الشمس أحكام اليوم من الصّلاة والصّيام، حيث كان ذلك أيضا مشاهدا بالبصر لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب؛ فالصّلاة تتعلّق بطلوع الفجر، وطلوع الشّمس، وزوالها، وغروبها، ومصير ظلّ الشيء مثله، وغروب الشفق. والصّيام يتوقّت بمدّة النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشّمس.

وقوله تعالى: {وَالْحِسابَ،} يعني بالحساب حساب ما يحتاج إليه النّاس من مصالح دينهم ودنياهم، كصيامهم، وفطرهم، وحجّهم، وزكاتهم، ونذورهم، وكفّاراتهم، وعدد نسائهم، ومدد إيلائهم، ومدد إجاراتهم، وحلول آجال ديونهم، وغير ذلك مما يتوقّت بالشهور والسنين.

وقد قال الله عز وجل: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، فأخبر أنّ الأهلّة مواقيت للنّاس عموما، وخصّ الحجّ من بين ما يوقّت به؛ للاهتمام به وجعل الله سبحانه وتعالى في كلّ يوم وليلة لعباده المؤمنين وظائف موظّفة عليهم من وظائف طاعته. فمنها ما هو مفترض كالصلوات الخمس ومنها ما يندبون إليه من غير افتراض، كنوافل الصّلاة والذكر وغير ذلك.

وجعل في شهور الأهلّة وظائف موظّفة أيضا على عباده، كالصّيام،

(1)

متفق عليه: البخاري (3/ 35)(1907)، ومسلم (3/ 121 - 122)(1088).

ص: 27

والزّكاة، والحجّ. ومنه فرض مفروض عليهم، كصيام رمضان، وحجّة الإسلام. ومنه ما هو مندوب، كصيام شعبان، وشوال، والأشهر الحرم.

وجعل الله سبحانه لبعض الشهور فضلا على بعض، كما قال تعالى:

{مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].

وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} [البقرة: 197]. وقال الله تعالى:

{شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185].

كما جعل بعض الأيام والليالي أفضل من بعض، وجعل ليلة القدر خيرا من ألف شهر، وأقسم بالعشر؛ وهو عشر ذي الحجّة على الصحيح، كما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.

وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلاّ ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعاته، يتقرّب بها إليه، ولله فيها لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يعود بفضله ورحمته عليه. فالسعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والسّاعات، وتقرّب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطّاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النّفحات، فيسعد بها سعادة يأمن بعدها من النّار وما فيها من اللّفحات.

وقد خرّج ابن أبي الدّنيا والطّبرانيّ وغيرهما، من حديث أبي هريرة مرفوعا:

«اطلبوا الخير دهركم وتعرّضوا لنفحات رحمة ربّكم، فإنّ لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم»

(1)

. وفي رواية للطّبراني من حديث محمد بن مسلمة مرفوعا:

(1)

أخرجه: البيهقي في «الشعب» (1121)، و «الأسماء والصفات» (150)، وابن عبد البر في «التمهيد» (5/ 339)، وابن أبي الدنيا في «الفرج بعد الشدة» (ص 24) وابن عساكر (24/ 123) بسند ضعيف. وأخرجه: الطبراني (1/ 720) عن أنس. وراجع: «الضعيفة» (2798).

ص: 28

«إنّ لله في أيام الدّهر نفحات فتعرّضوا لها، فلعلّ أحدكم أن تصيبه نفحة فلا يشقى بعدها أبدا»

(1)

. وفي «مسند الإمام أحمد» عن عقبة بن عامر، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«ليس من عمل يوم إلا يختم عليه»

(2)

.

وروى ابن أبي الدّنيا بإسناده، عن مجاهد، قال: ما من يوم إلا يقول:

ابن ادم، قد دخلت عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم، فانظر ماذا تعمل فيّ، فإذا انقضى طواه، ثم يختم عليه فلا يفكّ حتّى يكون الله هو الذي يفضّ ذلك الخاتم يوم القيامة، ويقول اليوم حين ينقضي: الحمد لله الذي أراحني من الدّنيا وأهلها، ولا ليلة تدخل على النّاس إلا قالت كذلك

(3)

.

وبإسناده عن مالك بن دينار، قال: كان عيسى عليه السلام، يقول: إنّ هذا الليل والنّهار خزانتان، فانظروا ما تضعون فيهما. وكان يقول: اعملوا اللّيل لما خلق له، واعملوا النّهار لما خلق له. وعن الحسن، قال: ليس يوم يأتي من أيام الدّنيا إلاّ يتكلّم، يقول: يا أيّها النّاس، إنّي يوم جديد، وإني على ما يعمل فيّ شهيد، وإنّي لو قد غربت الشّمس لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة. وعنه أنه كان يقول: يا ابن آدم، اليوم ضيفك، والضيف مرتحل، يحمدك أو يذمّك، وكذلك ليلتك.

وبإسناده عن بكر المزني أنه قال: ما من يوم أخرجه الله إلى أهل الدّنيا إلا ينادي: ابن ادم اغتنمني، لعلّه لا يوم لك بعدي. ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم، اغتنمني، لعلّه لا ليلة لك بعدي. وعن عمر بن ذرّ أنه كان يقول: اعملوا

(1)

أخرجه: الطبراني في «الكبير» (19/ 233 رقم 519)، وفي «الأوسط» (6243، 2856)، وأشار الهيثمي في «المجمع» (10/ 231) إلى ضعفه.

(2)

أخرجه: أحمد (4/ 146)، والطبراني (17/ 782) والبغوي في «شرح السنة» (1428)، والحاكم (4/ 260).

(3)

أورده أبو نعيم في «حلية الأولياء» (3/ 292).

ص: 29

لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده؛ فإنّ المغبون من غبن خير اللّيل والنّهار، والمحروم من حرم خيرهما. إنّما جعلا سبيلا للمؤمنين إلى طاعة ربّهم، ووبالا على الآخرين للغفلة عن أنفسهم؛ فأحيوا لله أنفسكم بذكره، فإنما تحيا القلوب بذكر الله عز وجل.

كم من قائم لله في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في ظلمة حفرته، وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه، عند ما يرى من كرامة الله عز وجل للعابدين غدا. فاغتنموا ممرّ السّاعات والليالي والأيام، رحمكم الله.

وعن دواد الطائي أنه قال: إنّما اللّيل والنّهار مراحل، ينزلها النّاس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كلّ مرحلة زادا لما بين يديها فافعل؛ فإنّ انقطاع السّفر عن قريب ما هو، والأمر أجلّ

(1)

من ذلك فتزوّد لسفرك، واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنّك بالأمر قد بغتك.

قال ابن أبي الدّنيا: وأنشدنا محمود بن الحسين:

مضى أمسك الماضي شهيدا معدّلا

وأعقبه يوم عليك جديد

فيومك إن أغنيته عاد نفعه

عليك وماضي الأمس ليس يعود

فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة

فثنّ بإحسان وأنت حميد

فلا ترج فعل الخير يوما إلى غد

لعلّ غدا يأتي وأنت فقيد

وفي «تفسير عبد بن حميد» وغيره من التفاسير المسندة عن الحسن في قول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62]، قال: من عجز بالليل كان له من أوّل النّهار

(1)

في أ، ب:«أعجل» .

ص: 30

مستعتب، ومن عجز من النّهار كان له من الليل مستعتب

(1)

. وعن قتادة، قال: إنّ المؤمن قد ينسى بالليل ويذكر بالنّهار، وينسى بالنّهار ويذكر بالليل.

قال: وجاء رجل إلى سلمان، قال: لا أستطيع قيام اللّيل. قال له: فلا تعجز بالنّهار. قال قتادة: فأدوا إلى الله من أعمالكم خيرا في هذا الليل والنهار؛ فإنّهما مطيّتان تقحمان النّاس إلى آجالهم، يقرّبان كلّ بعيد، ويبليان كلّ جديد، ويجيئان بكلّ موعود، إلى يوم القيامة.

***

وقد استخرت الله عز وجل في أن أجمع في هذا الكتاب وظائف شهور السّنة

(2)

وما يختصّ بالشهور ومواسمها من الطاعات، كالصّلاة، والصّيام، والذّكر، والشّكر، وبذل الطّعام، وإفشاء السّلام، وغير ذلك من خصال البررة الكرام؛ ليكون ذلك عونا لنفسي ولإخواني على التزوّد للمعاد، والتأهّب للموت قبل قدومه، والاستعداد، وأفوّض أمري إلى الله، إنّ الله بصير بالعباد.

ويكون أيضا صالحا لمن يريد الانتصاب للمواعظ من المذكّرين؛ فإنّ من أفضل الأعمال عند الله لمن أراد به وجه الله إيقاظ الراقدين، وتنبيه الغافلين؛ قال الله تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذّاريات: 55]، ووعد من أمر بصدقة أو معروف أو أصلح بين الناس يبتغي به وجهه، أجرا عظيما. وأخبر نبيّه صلى الله عليه وسلم أنّ «من دعا إلى هدى فله مثل أجر من تبعه»

(3)

، وكفى بذلك فضلا عميما.

وقد جعلت هذه الوظائف المتعلّقة بالشهور مجالس، مرتّبة على ترتيب

(1)

«الدر المنثور» (6/ 270) نقلا عن تفسير عبد بن حميد.

(2)

أ، ب:«العام» .

(3)

أخرجه: مسلم (8/ 62)(2674)، وأحمد (2/ 397)، وأبو داود (4609)، والترمذي (2674)، وابن ماجه (206).

ص: 31

شهور السّنة الهلاليّة؛ فأبدأ بالمحرّم، وأختم بذي الحجّة، وأذكر في كل شهر ما فيه من هذه الوظائف، وما لم يكن له وظيفة خاصّة لم أذكر فيه شيئا، وختمت ذلك كلّه بوظائف فصول السّنة الشمسيّة، وهي ثلاثة مجالس: في ذكر الرّبيع، والشتاء، والصيف، وختمت الكتاب كلّه بمجلس في التوبة والمبادرة بها قبل انقضاء العمر؛ فإنّ التوبة وظيفة العمر كلّه. وأبدأ قبل ذكر وظائف الشهور بمجلس في فضل التذكير بالله يتضمّن ذكر بعض ما في مجالس التذكير من الفضل، وسمّيته:

«لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف»

والله تعالى المسئول أن يجعله خالصا لوجهه الكريم، ومقرّبا إليه وإلى داره، دار السّلام والنّعيم المقيم، وأن ينفعني به وعباده المؤمنين، وأن يوفّقنا لما يحبّ ويرضى، ويختم لنا بخير في عافية؛ فإنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، آمين.

وهذا أوان الشروع فيما أردناه والبداءة بالمجلس الأوّل كما شرطناه.

ولا حول ولا قوّة إلا بالله.

***

ص: 32

‌مجلس في فضل التذكير بالله تعالى ومجالس الوعظ

خرّج الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبّان في «صحيحه» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قلنا يا رسول الله، ما لنا إذا كنّا عندك رقّت قلوبنا وزهدنا في الدّنيا، وكنّا من أهل الآخرة، فإذا خرجنا من عندك فآنسنا أهلنا وشممنا أولادنا، أنكرنا أنفسنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لو أنّكم إذا خرجتم من عندي كنتم على حالكم ذلكم لزارتكم الملائكة في بيوتكم، ولو لم تذنبوا لجاء الله بخلق جديد حتى يذنبوا فيغفر لهم» . قلت: يا رسول الله، ممّ خلق الخلق؟ قال:«من الماء» قلت: الجنّة ما بناؤها؟ قال: «لبنة من ذهب، ولبنة من فضّة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم»

(1)

.

وكانت مجالس النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع أصحابه عامتها مجالس تذكير بالله وترغيب وترهيب؛ إمّا بتلاوة القرآن، أو بما آتاه الله من الحكمة والموعظة الحسنة، وتعليم ما ينفع في الدّين، كما أمره الله تعالى في كتابه أن يذكّر ويعظ ويقصّ، وأن يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يبشّر وينذر، وسمّاه مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله.

(1)

أخرجه: أحمد (2/ 304 - 305)، والترمذي (2526)، وابن حبان (7387).

والحديث حسنه الألباني في «الصحيحة» (969).

وراجع: «العلل» للدارقطني (11/ 235 - 236).

ص: 33

والتبشير والإنذار هو الترغيب والترهيب، فلذلك كانت تلك المجالس توجب لأصحابه - كما ذكر أبو هريرة رضي الله عنه في هذا الحديث - رقّة القلوب، والزّهد في الدّنيا، والرّغبة في الآخرة. فأمّا رقّة القلوب فتنشأ عن الذّكر؛ فإنّ ذكر الله يوجب خشوع القلب وصلاحه ورقّته، ويذهب بالغفلة عنه.

قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرّعد: 28]. وقال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً} [الأنفال: 2]. وقال: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 34 - 35]. وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]. وقال: {اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ} [الزّمر: 23].

وقال العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون

(1)

. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: نعم المجلس، المجلس الذي تنشر فيه الحكمة، وترجى فيه الرّحمة

(2)

؛ مجالس الذّكر.

وشكا رجل إلى الحسن قساوة قلبه فقال: ادنه من الذّكر

(3)

. وقال:

مجالس الذّكر محياة العلم، وتحدث في القلب الخشوع. القلوب الميتة تحيا بالذّكر، كما تحيا الأرض الميتة بالقطر.

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 126 - 127)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42) والحاكم (1/ 96) وابن أبي عاصم في «السنة» (56)، والطبراني (18/ 617 - 624). وقد صححه البزار وأبو نعيم والترمذي والحاكم والألباني. وراجع:«الإرواء» (2455).

(2)

«سنن الدارمي» (287)، و «المعجم الكبير» للطبراني (9/ 8925).

(3)

«الزهد» لابن أبي عاصم (ص 266).

ص: 34

بذكر الله ترتاح القلوب

ودنيانا بذكراه تطيب

وأمّا الزّهد في الدّنيا والرّغبة في الآخرة، فبما يحصل في مجالس الذّكر من ذكر عيوب الدّنيا وذمّها، والتّرهيب منها

(1)

، وذكر فضل الجنّة ومدحها، والترغيب فيها، وذكر النّار وأهوالها، والترهيب منها.

وفي مجالس الذّكر تنزل الرّحمة، وتغشى السّكينة، وتحفّ الملائكة، ويذكر الله أهلها فيمن عنده. وهم القوم لا يشقى بهم جليسهم، فربّما رحم معهم من جلس إليهم وإن كان مذنبا، وربّما بكى فيهم باك من خشية الله فوهب أهل المجلس كلّهم له. وهي رياض الجنّة، قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا» قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: «مجالس الذّكر»

(2)

.

فإذا انقضى مجلس الذكر، فأهله بعد ذلك على أقسام:

فمنهم: من يرجع إلى هواه فلا يتعلّق بشيء مما سمعه في مجلس الذّكر، ولا يزداد هدى، ولا يرتدع عن ردى؛ وهؤلاء شرّ الأقسام، ويكون ما سمعوه حجّة عليهم، فتزداد به عقوبتهم؛ وهؤلاء الظالمون لأنفسهم {أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ} [النّحل: 108].

ومنهم: من ينتفع بما سمعه، وهم على أقسام: فمنهم من يردّه ما سمعه عن المحرّمات، ويوجب له التزام الواجبات؛ وهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين. ومنهم من يرتقي عن ذلك إلى التشمير في نوافل الطاعات، والتورّع

(1)

في أ، ب:«التزهيد فيها» .

(2)

أخرجه: أحمد (3/ 150)، والترمذي (3510) من حديث محمد بن ثابت البناني عن أبيه عن أنس، ومحمد هذا متفق على تضعيفه، ولهذا فقد استنكر هذا الحديث عليه ابن عدي في «الكامل» (6/ 2147)، والذهبي في «الميزان» (4/ 495)، وله شاهد عند الحاكم من حديث جابر مرفوعا (1/ 671). وراجع:«الضعيفة» (1150)، و «الصحيحة» (2562).

ص: 35

عن دقائق المكروهات، ويشتاق إلى اتباع آثار من سلف من السّادات، وهؤلاء السابقون المقرّبون.

وينقسم المنتفعون بسماع مجلس الذكر في استحضار ما سمعوه في المجلس والغفلة عنه إلى أقسام ثلاثة: فقسم يرجعون إلى مصالح دنياهم المباحة فيشتغلون بها، فتذهل بذلك قلوبهم عمّا كانوا يجدونه في مجلس الذكر؛ من استحضار عظمة الله وجلاله وكبريائه، ووعده ووعيده، وثوابه وعقابه، وهذا هو الذي شكاه الصحابة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وخشوا؛ لكمال معرفتهم، وشدّة خوفهم، أن يكون نفاقا، فأعلمهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه ليس بنفاق.

وفي «صحيح مسلم» عن حنظلة رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، نافق حنظلة. قال:«وما ذاك؟» قال: نكون عندك تذكّرنا الجنّة والنّار كأنها رأي عين، فإذا رجعنا من عندك عافسنا الأزواج والضّيعة، ونسينا كثيرا، فقال:«لو تدومون على الحال التي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة»

(1)

. وفي رواية له أيضا: «لو كانت تكون قلوبكم كما تكون عند الذّكر لصافحتكم الملائكة حتّى تسلّم عليكم في الطّرق»

(2)

.

ومعنى هذا أنّ استحضار ذكر الآخرة بالقلب في جميع الأحوال عزيز جدّا، ولا يقدر كثير من النّاس أو أكثرهم عليه، فيكتفى منهم بذكر ذلك أحيانا وإن وقعت الغفلة عنه في حال التّلبّس بمصالح الدّنيا المباحة، ولكنّ المؤمن لا يرضى من نفسه بذلك، بل يلوم نفسه عليه ويحزنه ذلك من نفسه. العارف

(1)

أخرجه: مسلم (8/ 94 - 95)(2750)، وأحمد (4/ 178)، والترمذي (2514)، وابن ماجه (4239).

(2)

مسلم (8/ 95)(2750).

ص: 36

يتأسّف في وقت الكدر على زمن الصّفاء، ويحنّ إلى زمان القرب والوصال في حال الجفاء:

ما أذكر عيشنا الّذي قد سلفا

إلا وجف القلب وكم قد وجفا

واها لزماننا الّذي كان صفا

لو كان يردّ فانيا

(1)

وا أسفا

وقسم آخر يستمرّون على استحضار حال مجلس سماع الذّكر، فلا يزال تذكّر ذلك بقلوبهم ملازما لهم، وهؤلاء على قسمين:

أحدهما: من يشغله ذلك عن مصالح دنياه المباحة، فينقطع عن الخلق، فلا يقوى على مخالطتهم، ولا القيام بوفاء حقوقهم. وكان كثير من السّلف على هذه الحال؛ فمنهم من كان لا يضحك، ومنهم من كان يقول: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد.

والثاني: من يستحضر ذكر الله وعظمته وثوابه وعقابه بقلبه، ويدخل ببدنه في مصالح دنياه من اكتساب الحلال والقيام على العيال، ويخالط الخلق فيما يوصل إليهم به النفع ممّا هو عبادة في نفسه؛ كتعليم العلم، والجهاد، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وهؤلاء أشرف القسمين، وهم خلفاء الرسل، وهم الذين قال فيهم عليّ رضي الله عنه: صحبوا الدّنيا بأبدان، أرواحها معلّقة بالمحل الأعلى.

وقد كان حال النّبيّ صلى الله عليه وسلم عند الذكر يتغيّر، ثم يرجع بعد انقضائه إلى مخالطة النّاس والقيام بحقوقهم.

ففي «مسند البزار» و «معجم الطبراني» عن جابر رضي الله عنه، قال: «كان النّبيّ

(1)

في ب: «فائتا» ، وفي أ:«هل يرجع بعد فوته» .

ص: 37

صلّى الله عليه وسلّم إذا نزل عليه الوحي قلت: نذير قوم، فإذا سري عنه فأكثر النّاس ضحكا، وأحسنهم خلقا

(1)

.

وفي «مسند الإمام أحمد» عن علي أو الزّبير، قال:«كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يخطبنا فيذكّرنا بأيّام الله، حتّى نعرف ذلك في وجهه وكأنّه نذير جيش يصبّحهم الأمر غدوة. وكان إذا كان حديث عهد بجبريل لم يتبسّم ضاحكا حتى يرتفع عنه»

(2)

.

وفي «صحيح مسلم» عن جابر رضي الله عنه، أنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب وذكر الساعة اشتدّ غضبه، وعلا صوته كأنه منذر جيش يقول: «صبّحكم ومسّاكم»

(3)

.

وفي «الصحيحين» عن عدي بن حاتم، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«اتقوا النّار» قال: وأشاح، ثم قال:«اتقوا النّار» ، ثم أعرض وأشاح - ثلاثا - حتى ظننّا أنّه ينظر إليها. ثم قال:«اتقوا النّار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة»

(4)

.

وسئلت عائشة رضي الله عنها: «كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خلا مع نسائه؟ قالت:

كان كرجل من رجالكم، إلا أنّه كان أكرم النّاس، وأحسن النّاس خلقا، وكان ضحّاكا بسّاما»

(5)

. فهذه الطبقة خلفاء الرسل عاملوا الله تعالى بقلوبهم، وعاشروا الخلق بأبدانهم، كما قالت رابعة:

(1)

أخرجه: البزار (2477 - كشف)، والطبراني (23/ 101) - بنحوه - وقال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (6/ 315):«هذا حديث منكر» . وحسن الهيثمي (9/ 17) إسناد البزار. وراجع: «الميزان» (3/ 615).

(2)

أخرجه: أحمد (1/ 167)، وأبو يعلى (677)، وفيه ضعف.

(3)

أخرجه: مسلم (3/ 11)(867).

(4)

أخرجه: البخاري (139، 8/ 14)(1417)، ومسلم (3/ 86)(1016).

(5)

«مسند إسحاق بن راهويه» (1750)، و «الطبقات الكبرى» لابن سعد (1/ 365).

ص: 38

ولقد جعلتك في الفؤاد محدّثي

وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فالجسم مني للجليس مؤانس

وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

المواعظ سياط تضرب بها القلوب، فتؤثّر في القلوب كتأثير السياط في البدن، والضرب لا يؤثّر بعد انقضائه كتأثيره في حال وجوده، لكن يبقى أثر التألّم بحسب قوته وضعفه، فكلّما قوي الضّرب كانت مدّة بقاء الألم أكثر.

كان كثير من السّلف إذا خرجوا من مجلس سماع الذّكر خرجوا وعليهم السّكينة والوقار؛ فمنهم من كان لا يستطيع أن يأكل طعاما عقيب ذلك، ومنهم من كان يعمل بمقتضى ما سمعه مدّة. أفضل الصّدقة تعليم جاهل، أو إيقاظ غافل. ما وصل المستثقل في نوم الغفلة بأفضل من ضربه بسياط الموعظة ليستيقظ. المواعظ كالسّياط تقع على نياط القلوب، فمن آلمته فصاح فلا جناح، ومن زاد ألمه فمات فدمه مباح.

قضى الله في القتلى قصاص دمائهم

ولكن دماء العاشقين جبار

وعظ عبد الواحد بن زيد يوما، فصاح به رجل: يا أبا عبيدة، كفّ، فقد كشفت بالموعظة قناع قلبي، فأتمّ عبد الواحد موعظته فمات الرجل.

صاح رجل في حلقة الشّبليّ فمات، فاستعدى أهله على الشّبليّ إلى الخليفة، فقال الشّبليّ: نفس رنت فحنت، فدعيت فأجابت، فما ذنب الشبليّ؟

فكّر في أفعاله ثمّ صاح

لا خير في الحبّ بغير افتضاح

قد جئتكم مستأمنا فارحموا

لا تقتلوني قد رميت السّلاح

إنّما يصلح التأديب بالسوط من صحيح البدن، ثابت القلب، قويّ

ص: 39

الذراعين، فيؤلم ضربه فيردع، فأمّا من هو سقيم البدن لا قوة له، فماذا ينفع تأديبه بالضّرب.

كان الحسن إذا خرج إلى النّاس فكأنّه رجل عاين الآخرة، ثم جاء يخبر عنها وكانوا إذا خرجوا من عنده خرجوا وهم لا يعدّون الدّنيا شيئا، وكان سفيان الثوري يتعزّى بمجالسه عن الدّنيا. وكان أحمد لا تذكر الدّنيا في مجالسه، ولا تذكر عنده. قال بعضهم: لا تنفع الموعظة إلاّ إذا خرجت من القلب، فإنّها تصل إلى القلب، فأمّا إذا خرجت من اللسان، فإنّها تدخل من الأذن، ثم تخرج من الأخرى. قال بعض السّلف: إنّ العالم إذا لم يرد بموعظته وجه الله زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ القطر عن الصّفا.

كان يحيى بن معاذ ينشد في مجالسه:

مواعظ الواعظ لن تقبلا

حتّى تعيها نفسه أوّلا

يا قوم من أظلم من واعظ

خالف ما قد قاله في الملا

أظهر بين النّاس إحسانه

وبارز الرّحمان لمّا خلا

العالم الذي لا يعمل بعلمه مثله كمثل المصباح، يضيء للنّاس ويحرق نفسه. قال أبو العتاهية:

وبّخت غيرك بالعمى فأفدته

بصرا وأنت محسّن لعماكا

وفتيلة المصباح تحرق نفسها

وتضيء للأعشى وأنت كذاكا

المواعظ درياق الذّنوب، فلا ينبغي أن يسقي الدّرياق إلا طبيب حاذق معافى. فأمّا لديغ الهوى فهو إلى شرب الدرياق أحوج من أن يسقيه لغيره.

في بعض الكتب السالفة: إذا أردت أن تعظ النّاس فعظ نفسك، فإن اتّعظت، وإلاّ فاستحي مني.

ص: 40

وغير تقيّ يأمر النّاس بالتّقى

طبيب يداوي النّاس وهو سقيم

يا أيّها الرّجل المقوّم غيره

هلاّ لنفسك كان ذا التّقويم

فابدأ بنفسك فانهها عن غيها

فإن انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يقبل ما تقول ويقتدى

بالقول منك وينفع التّعليم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

لمّا جلس عبد الواحد بن زيد للوعظ أتته امرأة من الصالحات فأنشدته:

يا واعظا قام لاحتساب

يزجر قوما عن الذّنوب

تنهى وأنت المريب حقّا

هذا من المنكر العجيب

لو كنت أصلحت قبل هذا

عيبك أو تبت من قريب

كان لما قلت يا حبيبي

موقع صدق من القلوب

تنهى عن الغيّ والتّمادي

وأنت في النّهي كالمريب

لمّا حاسب المتّقون أنفسهم خافوا من عاقبة الوعظ والتّذكير.

قال رجل لابن عبّاس: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فقال له:

إن لم تخش أن تفضحك هذه الآيات الثلاث فافعل، إلا فابدأ بنفسك، ثم تلا:

{أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] وقوله تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3] وقوله حكاية عن شعيب عليه السلام: {وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].

قال النّخعيّ: كانوا يكرهون القصص؛ لهذه الآيات الثلاث. قيل لمورّق

(1)

(1)

في الأصول: «لمطرف» ؛ خطأ.

ص: 41

العجلي: ألا تعظ أصحابك؟ قال: أكره أن أقول ما لا أفعل. تقدّم بعض التابعين ليصلّي بالنّاس إماما، فالتفت إلى المأمومين يعدل الصّفوف، وقال:

استووا، فغشي عليه، فسئل عن سبب ذلك، فقال: لمّا قلت لهم: استقيموا، فكّرت في نفسي، فقلت لها: فأنت، هل استقمت مع الله طرفة عين؟

ما كلّ من وصف الدّواء يستعمله

ولا كلّ من وصف التّقى ذو تقى

وصفت التّقى حتّى كأنّي ذو تقى

وريح الخطايا من ثيابي تعبق

ومع هذا كلّه فلا بدّ للناس من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والوعظ والتذكير، ولو لم يعظ النّاس إلا معصوم من الزّلل، لم يعظ الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم أحد، لأنّه لا عصمة لأحد بعده.

لئن لم يعظ العاصين من هو مذنب

فمن يعظ العاصين بعد محمد؟

وروى ابن أبي الدّنيا بإسناد فيه ضعف، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كلّه، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كلّه»

(1)

.

وقيل للحسن: إنّ فلانا لا يعظ، ويقول: أخاف أن أقول ما لا أفعل. فقال الحسن: وأيّنا يفعل ما يقول؟! ودّ الشيطان أنّه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف، ولم ينه عن منكر. وقال مالك، عن ربيعة: قال سعيد ابن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء،

(1)

أخرجه: البيهقي في «شعب الإيمان» (7570)، وفي إسناده طلحة بن عمرو المكي وهو ضعيف، وقال في «مجمع الزوائد» (7/ 277): رواه الطبراني في «الصغير» (981)، و «الأوسط» (6628) من طريق عبد السّلام بن عبد القدوس بن حبيب عن أبيه وهما ضعيفان.

ص: 42

ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر. قال مالك: وصدق، ومن ذا الذي ليس فيه شيء؟!

من ذا الّذي ما ساء قط

ومن له الحسنى فقط

خطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله يوما، فقال في موعظته: إنّي لأقول هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذّنوب أكثر ممّا أعلم عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه، وكتب إلى بعض نوّابه على بعض الأمصار كتابا يعظه فيه، فقال في آخره: وإني لأعظك بهذا، وإنّي لكثير الإسراف على نفسي، غير محكم لكثير من أمري، ولو أنّ المرء لا يعظ أخاه حتى يحكم نفسه إذا لتواكل الناس الخير، وإذا لرفع الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وإذا لاستحلّت المحارم، وقلّ الواعظون والسّاعون لله بالنّصيحة في الأرض؛ فإنّ الشيطان وأعوانه يودّون أن لا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر، وإذا أمرهم أحد أو نهاهم، عابوه بما فيه وبما ليس فيه، كما قيل:

وأعلنت الفواحش في البوادي

وصار النّاس أعوان المريب

إذا ما عبتهم عابوا مقالي

لما في القوم من تلك العيوب

وودّوا لو كففنا فاستوينا

فصار النّاس كالشيء المشوب

وكنّا نستطبّ إذا مرضنا

فصار هلاكنا بيد الطّبيب

كان بعض العلماء المشهورين له مجلس للوعظ، فجلس يوما فنظر إلى من حوله وهم خلق كثير، وما منهم إلاّ من قد رقّ قلبه أو دمعت عينه، فقال لنفسه فيما بينه وبينها: كيف بك إن نجا هؤلاء وهلكت أنت؟ ثم قال في نفسه:

اللهمّ، إن قضيت عليّ غدا بالعذاب فلا تعلم هؤلاء بعذابي، صيانة لكرمك لا لأجلي؛ لئلاّ يقال: عذّب من كان في الدّنيا، يدلّ عليه.

ص: 43

إلهي؛ قد قيل لنبيّك صلى الله عليه وسلم: اقتل ابن أبيّ المنافق، فقال: لا يتحدّث النّاس أنّ محمّدا يقتل أصحابه، فامتنع من عقابه؛ لمّا كان في الظّاهر ينسب إليه. وأنا على كلّ حال فإليك أنسب.

زوّر رجل شفاعة إلى بعض الملوك على لسان بعض أكابر الدولة، فاطلع المزوّر عليه على الحال، فسعى عند الملك في قضاء تلك الحاجة، واجتهد حتى قضيت، ثمّ قال للمزور عليه: ما كنّا نخيّب من علّق أمله بنا، ورجا النّفع من جهتنا.

إلهي؛ فأنت أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، فلا تخيّب من علّق أمله ورجاءه بك، وانتسب إليك، ودعا عبادك إلى بابك، وإن كان متطفّلا على كرمك، ولم يكن أهلا للسّمسرة بينك وبين عبادك، لكنّه طمع في سعة جودك وكرمك، فأنت أهل الجود والكرم، وربّما استحيا الكريم من ردّ من تطفّل على سماط كرمه.

إن كنت لا أصلح للقرب

فشأنكم صفح عن الذّنب

وقوله صلى الله عليه وسلم: «لو لم تذنبوا لجاء الله بخلق جديد حتى يذنبوا فيغفر لهم» .

وخرّجه مسلم من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ثم جاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم»

(1)

. ومن حديث أبي أيّوب، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«لولا أنّكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون، ثم يغفر لهم»

(2)

. وفي رواية له أيضا: «لو لم تكن لكم ذنوب يغفرها الله لجاء الله بقوم لهم ذنوب، فيغفرها لهم»

(3)

.

(1 و 2 و 3) أخرجهم: مسلم (8/ 94)(2748)(2749).

ص: 44

والمراد بهذا أنّ لله تعالى حكمة في إلقاء الغفلة على قلوب عباده أحيانا، حتى يقع منهم بعض الذّنوب، فإنّه لو استمرّت لهم اليقظة التي يكونون عليها في حال سماع الذّكر، لما وقع منهم ذنب.

وفي إيقاعهم في الذّنوب أحيانا فائدتان عظيمتان:

إحداهما: اعتراف المذنبين بذنوبهم وتقصيرهم في حقّ مولاهم، وتنكيس رءوس عجبهم، وهذا أحبّ إلى الله من فعل كثير من الطاعات، فإنّ دوام الطاعات قد توجب لصاحبها العجب. وفي الحديث:«لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشدّ من ذلك؛ العجب»

(1)

.

قال الحسن: لو أن ابن آدم كلّما قال أصاب، وكلما عمل أحسن، أوشك أن يجنّ من العجب. قال بعضهم: ذنب أفتقر به إليه أحبّ إليّ من طاعة أدلّ بها عليه. أنين المذنبين أحبّ إليه من زجل المسبّحين؛ لأنّ زجل المسبّحين ربّما شابه الافتخار، وأنين المذنبين يزينه الانكسار والافتقار.

في حديث: «إنّ الله لينفع العبد بالذّنب يذنبه»

(2)

. قال الحسن: إنّ العبد ليعمل الذّنب فلا ينساه، ولا يزال متخوّفا منه حتى يدخل الجنّة. المقصود من زلل

(1)

أخرجه: البزار (3633. كشف). وقال البزار: «لا نعلم رواه عن ثابت عن أنس إلا سلام، وهو مشهور، روى عنه عفان والمتقدمون» .

قلت: ولكن ضعفه غير واحد من الحفاظ. لكن جود إسناده الهيثمي (10/ 269).

وراجع: «كشف الخفاء» (2/ 231).

(2)

أخرجه: القضاعي في «مسند الشهاب» (2/ 159)، والعقيلي في «الضعفاء» (4/ 258)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 787).

وقال العقيلي: «حديث غير محفوظ» .

وقال ابن الجوزي: «هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم» .

وراجع: «الميزان» (4/ 123).

ص: 45

المؤمن ندمه، ومن تفريطه أسفه، ومن اعوجاجه تقويمه، ومن تأخّره تقديمه، ومن زلقه في هوّة الهوى أن يؤخذ بيده فينجّى إلى نجوة النجاة، كما قيل:

قرّة عيني لا بدّ منك وإن

أوحش بيني وبينك الزّلل

قرّة عيني أنا الغريق فخذ

كفّ غريق عليك يتّكل

الفائدة الثانية: حصول المغفرة والعفو من الله تعالى لعبده؛ فإنّ الله يحبّ أن يعفو ويغفر، ومن أسمائه الغفّار، والعفوّ

(1)

، والتّوّاب، فلو عصم الخلق فلمن كان العفو والمغفرة؟

قال بعض السّلف: أوّل ما خلق الله القلم كتب: إنّي أنا التوّاب أتوب على من تاب. قال أبو الجلد: قال رجل من العاملين لله بالطاعة: اللهم، أصلحني صلاحا لا فساد عليّ بعده. فأوحى الله تعالى إليه: إنّ عبادي المؤمنين كلّهم يسألوني مثل ما سألت، فإذا أصلحت عبادي كلّهم فعلى من أتفضّل وعلى من أجود بمغفرتي؟.

كان بعض السلف يقول: لو أعلم أحبّ الأعمال إلى الله لأجهدت نفسي فيها، فرأى في منامه قائلا يقول له: إنّك تريد ما لا يكون، إنّ الله يحبّ أن يغفر. قال يحيى بن معاذ: لو لم يكن العفو أحبّ الأشياء إليه لم يبتل بالذّنب أكرم الخلق عليه.

يا ربّ أنت رجائي

وفيك حسّنت ظنّي

يا ربّ فاغفر ذنوبي

وعافني واعف عني

العفو منك إلهي

والذّنب قد جاء منّي

والظنّ فيك جميل

حقّق بحقّك ظنّي

(1)

في أ، ب:«الغفور» .

ص: 46

وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة لمّا سأله: ممّ خلق الخلق؟ فقال له: «من الماء» يدلّ على أنّ الماء أصل جميع المخلوقات ومادّتها، وجميع المخلوقات خلقت منه.

وفي «المسند» من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «قلت:

يا رسول الله، إذا رأيتك طابت نفسي وقرّت عيني، فأنبئني عن كلّ شيء.

فقال: كلّ شيء خلق من ماء»

(1)

.

وقد حكى ابن جرير وغيره، عن ابن مسعود رضي الله عنه وطائفة من السّلف: أنّ أوّل المخلوقات الماء.

وروى الجوزجاني بإسناده عن عبد الله بن عمرو أنّه سئل عن بدء الخلق، فقال: من تراب وماء وطين، ومن نار وظلمة، فقيل له: فما بدء الخلق الذي ذكرت؟ قال: من ماء ينبوع.

وقد أخبر الله في كتابه أنّ الماء كان موجودا قبل خلق السماوات والأرض، فقال:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ} [هود: 7].

وفي «صحيح البخاري» عن عمران بن حصين، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:

«كان الله ولم يكن شيء قبله» - وفي رواية: «معه - وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء ثم خلق السماوات والأرض»

(2)

.

(1)

أخرجه: أحمد (493، 324، 323، 2/ 295)، وهو ضعيف.

وراجع: «الضعيفة» (3/ 492).

(2)

أخرجه: البخاري (4/ 128 - 129)، (219، 5/ 212)، (9/ 152)(7418).

ص: 47

وفي «صحيح مسلم» عن عبد الله بن عمرو، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:

«إنّ الله قدّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السّماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء»

(1)

.

وروى ابن جرير وغيره، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما: إنّ الله عز وجل كان عرشه على الماء ولم يخلق شيئا غير ما خلق قبل الماء، فلمّا أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء، فسما عليه فسمي سماء، ثمّ أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين، ثم استوى إلى السّماء وهي دخان، وكان ذلك الدّخان من نفس الماء حين تنفّس، ثم جعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سماوات

(2)

.

وعن وهب: إنّ العرش كان قبل أن تخلق السماوات والأرض على الماء، فلمّا أراد الله أن يخلق السّماوات والأرض قبض من صفاة الماء قبضة، ثم فتح القبضة فارتفعت دخانا، ثم قضاهنّ سبع سماوات في يومين، ثم أخذ طينة من الماء فوضعها في مكان البيت، ثم دحا الأرض منها

(3)

.

(1)

أخرجه: مسلم (8/ 51)(2653)، وأحمد (2/ 169)، والترمذي (2156).

(2)

أخرجه: ابن جرير في «تفسيره» (1/ 194)، وفي «تاريخه» (1/ 40).

(3)

هذه زيادة من المطبوع، ولعلها من زيادات النساخ:

«وقال بعضهم: خلق الله الأرض أولا، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض بعد أن خلق السّماء. وقيل: خلق الله تعالى زمردة خضراء كغلظ السماوات والأرض، ثم نظر إليها نظر العظمة، فانماعت، يعني ذابت فصارت ماء، فمن ثمّ يرى الماء دائما يتحرّك من تلك الهيبة. ثم إنّ الله تعالى رفع من البحر بخارا وهو الدّخان الذي ذكره في قوله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ [فصّلت: 11] فخلق السّماء من الدّخان، وخلق الأرض من الماء، والجبال من موج الماء. وقال وهب: أوّل ما خلق الله تعالى مكانا مظلما، ثم خلق جوهرة فأضاءت ذلك المكان، ثم نظر إلى الجوهرة نظرة الهيبة فصارت ماء، فارتفع بخارها وزبدها، فخلق من البخار السماوات، ومن الزّبد الأرضين. وروى عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: -

ص: 48

والآثار في هذا الباب كثيرة، وهذا كلّه يبيّن أنّ السماوات والأرض خلقت من الماء، والخلاف في أنّ الماء هل هو أول المخلوقات أم لا؟ مشهور، وحديث أبي هريرة يدلّ على أنّ الماء مادّة جميع المخلوقات، وقد دلّ القرآن على أنّ الماء مادة جميع الحيوانات، قال الله تعالى:{وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]. وقال: {وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ} [النّور: 45].

وقول من قال: إنّ المراد بالماء النّطفة التي يخلق منها الحيوانات بعيد؛ لوجهين:

أحدهما: أنّ النّطفة لا تسمّى ماء مطلقا بل مقيّدا؛ لقوله: {خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ} [الطارق: 6 - 7]، وقوله:{أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20].

والثاني: أنّ من الحيوانات ما يتولّد من غير نطفة، كدود الخلّ، والفاكهة

(*) أخرجه: أحمد (197، 2/ 176)، والترمذي (2642)، وقد صححه الألباني في «الصحيحة» (1076).

(3)

- «إنّ الله عز وجل خلق خلقه من ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه يومئذ من ذلك النّور اهتدى، ومن أخطأه ضلّ» (*).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكعب الأحبار: ما أوّل شيء ابتدأ الله تعالى من خلقه؟ قال كعب: كتب الله كتابا لم يكتبه قلم ولا دواة، أي مداد؛ كتابه الزّبرجد واللؤلؤ والياقوت: إنني أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وأنّ محمّدا عبدي ورسولي، سبقت رحمتي غضبي. قال كعب: فإذا كان يوم القيامة أخرج الله ذلك الكتاب، فيخرج من النار مثلي عدد أهل الجنّة فيدخلهم الجنة.

وقال سلمان وعبد الله بن عمرو: إنّ لله تعالى مائة رحمة كما بين السماء والأرض، فأنزل منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا، فبها يتراحم الجنّ والإنس، وطير السّماء، وحيتان الماء، وما بين الهواء ودوابّ الأرض وهوامها. وادخر عنده تسعا وتسعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة أنزل تلك الرحمة إلى ما عنده فيرحم بها عباده».

ص: 49

ونحو ذلك؛ فليس كلّ حيوان مخلوقا من نطفة. والقرآن دلّ على خلق جميع ما يدبّ وما فيه حياة من ماء، فعلم بذلك أنّ أصل جميعها الماء المطلق؛

ولا ينافي هذا قوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ} [الحجر: 27] وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «خلقت الملائكة من نور»

(1)

، فإنّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه دلّ على أنّ أصل النّور والنّار الماء، كما أن أصل التّراب الذي خلق منه آدم الماء، فإنّ آدم خلق من طين، والطين تراب مختلط بماء، والتّراب مخلوق من الماء كما تقدّم عن ابن عبّاس وغيره. وزعم مقاتل: أنّ الماء مخلوق من النّور، وهو مردود بحديث أبي هريرة هذا وغيره.

ولا يستنكر خلق النّار من الماء، فإنّ الله عز وجل جمع بقدرته بين الماء والنّار في الشّجر الأخضر، وجعل ذلك من أدلة القدرة على البعث، وذكر الطبائعيون: أنّ الماء بانحداره يصير بخارا، والبخار ينقلب هواء، والهواء ينقلب نارا، والله أعلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة حين سأله عن بناء الجنّة، فقال:«لبنة من ذهب، ولبنة من فضة، وملاطها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزّعفران»

(2)

. وقد روي أيضا هذا عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر مرفوعا، خرجه الطبرانيّ.

فهذه أربعة أشياء:

أحدها: بناء الجنّة، ويحتمل أنّ المراد بنيان قصورها ودورها، ويحتمل أن

(1)

أخرجه: مسلم (8/ 226)(2996)، وأحمد (168، 6/ 153).

(2)

أخرجه: أحمد (305، 2/ 304)، والترمذي (2526).

والحديث حسنه الألباني في «الصحيحة» (969)، وراجع:«العلل» للدارقطني (235/ 11 - 236).

ص: 50

يراد بناء حائطها وسورها المحيط بها وهو أشبه. وقد روي من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا وموقوفا وهو أشبه: «حائط الجنّة لبنة من فضة، ولبنة من ذهب، ودرجها الياقوت واللؤلؤ»

(1)

. قال: وكنّا نتحدّث

(2)

أنّ رضراض

(3)

أنهارها اللؤلؤ وترابها الزّعفران. وفي «مسند البزار» عن أبي سعيد مرفوعا: «خلق الله الجنّة لبنة من فضة ولبنة من ذهب، وملاطها المسك، فقال لها تكلّمي، فقالت: قد أفلح المؤمنون، فقالت الملائكة: طوبى لك منزل الملوك»

(4)

.

وممّا يبيّن أن المراد ببناء الجنّة في هذه الأحاديث بناء سورها المحيط بها ما في «الصحيحين» عن أبي موسى، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«جنّتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وجنّتان من فضّة آنيتهما وما فيهما»

(5)

.

وقد روي عن أبي موسى مرفوعا وموقوفا: «جنّتان من ذهب للمقرّبين، وجنّتان من فضّة لأصحاب اليمين»

(6)

. وفي الصحيح أيضا عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أنّه قال:«إنّها جنان كثيرة»

(7)

وقد روي أنّ بناء بعضها من درّ وياقوت.

وخرّج ابن أبي الدّنيا من حديث أنس مرفوعا: «خلق الله جنّة عدن بيده لبنة

(1)

أخرجه: البغوي في «شرح السنة» (15/ 228) موقوفا. ورواه أبو نعيم في «الحلية» (2/ 249).

(2)

في «البغوي» : «نحدّث» .

(3)

في ص، ب:«رضاض» ، و «الرضراض» الحصى الصغار.

(4)

أخرجه: البزار (3508 - كشف)، وضعفه مرفوعا. والمنذري في «الترغيب» (4/ 283)(5650).

وأخرجه باللفظ المذكور ابن جرير في «تفسيره» (27/ 146)، وقال ابن حجر في «الفتح» (13/ 431):«رجاله ثقات» .

(5)

أخرجه: البخاري (9/ 162)(4878)(4880)، ومسلم (1/ 112)(180).

(6)

أخرجه: الحاكم (475، 2/ 474، 1/ 84) عن أبي موسى بلفظ: «جنتان من ذهب للسابقين، وجنتان من فضة للتابعين» .

(7)

أخرجه: البخاري (4/ 24)(3982)، (6550)، (6567).

ص: 51

من درّة بيضاء، ولبنة من ياقوتة حمراء، ولبنة من زبرجدة خضراء، ملاطها المسك، وحصباؤها اللؤلؤ، وحشيشها الزّعفران، ثم قال لها: انطقي، قالت:

قد أفلح المؤمنون، قال: وعزّتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل»

(1)

.

وروى عطية، عن أبي سعيد، قال: إنّ الله خلق جنّة عدن من ياقوتة حمراء، ثم قال لها: تزيني فتزيّنت، ثم قال لها: تكلّمي فقالت: طوبى لمن رضيت عنه؛ ثم أطبقها وعلّقها بالعرش، فهي تفتح في كلّ سحر، فذلك برد السّحر. وعن ابن عبّاس، قال: كان عرش الله على الماء، ثم اتخذ لنفسه جنّة، ثم اتخذ دونها أخرى، وطبّقهما بلؤلؤة واحدة لا يعلم الخلائق ما فيهما وهما اللتان لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين.

وذكر صفوان بن عمرو، عن بعض مشايخه، قال: الجنة مائة درجة:

أولها: درجة فضة، وأرضها فضة، ومساكنها فضّة، وترابها المسك. والثانية:

ذهب، وأرضها ذهب، وآنيتها ذهب، وترابها المسك. وثالثها: لؤلؤ، وأرضها لؤلؤ، وآنيتها لؤلؤ، وترابها المسك، وسبع وتسعون بعد ذلك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ثم تلا، {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السّجدة: 17].

وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«يقول الله عز وجل: أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» . ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السّجدة: 17]

(2)

.

(1)

عزاه المنذري (6/ 286) إلى ابن أبي الدنيا، وضعفه الألباني في «الضعيفة» (1285).

(2)

أخرجه: البخاري (4/ 143)، (6/ 145)، (9/ 176)(4780، 4779، 3244، 7498)، ومسلم (8/ 143)(2834).

ص: 52

وفي «صحيح مسلم» عن المغيرة بن شعبة يرفعه: «سأل موسى ربّه، قال:

يا ربّ، ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعد ما أدخل أهل الجنّة الجنّة، فيقال له: ادخل الجنّة، فيقول: يا ربّ، كيف وقد أخذ النّاس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدّنيا؟ فيقول: رضيت يا ربّ، فيقول: ذلك لك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ربّ، فيقال: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذّت عينك، فيقول: رضيت ربّ. قال: فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الّذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر. قال: ومصداقه في كتاب الله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السّجدة: 17]»

(1)

.

الثاني: ملاط الجنة وأنّه المسك الأذفر، وقد تقدّم مثل ذلك في غير حديث والملاط: هو الطّين، ويقال: الطّين الذي يبنى منه البنيان. والأذفر:

الخالص.

ففي «الصحيحين» عن أنس، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«دخلت الجنّة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك»

(2)

. والجنابذ: مثل القباب. وقد قيل: إنّه أراد بترابها ما خالطه الماء، وهو طينها، كما في «صحيح البخاري» ، عن أنس، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال في الكوثر:«طينه المسك الأذفر»

(3)

.

وقد قيل في تأويل قوله عز وجل: {خِتامُهُ مِسْكٌ} [المطفّفين: 26] أنّ المراد بالختام ما يبقى في سفل الشراب من الثّفل، وهذا يدلّ على أنّ أنهارها تجري

(1)

أخرجه: مسلم (121، 1/ 120)(189)، والترمذي (3198).

(2)

أخرجه: البخاري (4/ 166)(3342)، ومسلم (163).

(3)

أخرجه: البخاري (8/ 149)(6581).

ص: 53

على المسك، ولذلك يرسب منه في الإناء في آخر الشراب، كما يرسب الطين في آنية الماء في الدّنيا.

الثالث: حصباء الجنّة وأنّه اللؤلؤ والياقوت، والحصباء: الحصى الصغار، وهو الرّضراض. وفي «المسند» عن أنس، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذكر الكوثر أن رضراضه اللؤلؤ

(1)

. وفي رواية: حصباؤه اللؤلؤ

(2)

. وفي الترمذي من حديث ابن عمر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنّ مجراه على الدّرّ والياقوت»

(3)

.

وفي الطّبرانيّ من حديث عبد الله بن عمرو، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«حاله المسك الأبيض، ورضراضه الجوهر، وحصباؤه اللؤلؤ»

(4)

. وفي «المسند» من حديث ابن مسعود، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«حاله المسك، ورضراضه التّوم»

(5)

، والتّوم: الجوهر، والحال: الطين.

قال أبو العالية: قرأت في بعض الكتب: يا معشر الرّبّانيين من أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، انتدبوا لدار أرضها زبرجد أخضر، تجري عليها أنهار الجنّة، فيها الدّرّ واللؤلؤ والياقوت، وسورها زبرجد أخضر متدلّيا عليها أغصان

(6)

الجنّة بثمارها

(7)

.

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 232).

(2)

أخرجه: ابن حبان (6471)، وأحمد (3/ 152) و (3/ 247) بلفظ «وحصاه اللؤلؤ» .

(3)

أخرجه: الترمذي (3361)، وقال:«حديث حسن صحيح» ، وفي الأصل:«اللؤلؤ والياقوت» ، والمثبت في الترمذي.

(4)

أخرجه: الطبراني في «مسند الشاميين» (رقم 95) وفي إسناده الوليد بن الوليد، وهو منكر الحديث.

(5)

أخرجه: أحمد (1/ 398 - 399)، والبزار (3478 - كشف)، والطبراني (10017). وقال الهيثمي (10/ 362):«وفي أسانيدهم كلهم عثمان بن عمير، وهو ضعيف» .

(6)

في أ: «أشجار» وفي ب: «أغصان الأشجار» .

(7)

«حلية الأولياء» (8/ 288) و (10/ 12).

ص: 54

الرابع: تراب الجنّة، وأنّه الزّعفران، وقد سبق في رواية أخرى: الزّعفران والورس. وقد قيل: إن المراد بالتراب ها هنا تربة الأرض التي لا ماء عليها.

فأمّا ما كان عليه ماء فإنّه مسك، كما سبق. وسبق أيضا في بعض الروايات:

حشيشها الزّعفران، وهو نبات أرضها وترابها.

فأمّا حديث «ترابها المسك» فقد قيل: إنه محمول على تراب يخالطه الماء، كما تقدم. وقيل: إنّ المراد أنّ ريح ترابها ريح المسك، ولونه لون الزّعفران. ويشهد لهذا حديث الكوثر: أنّ حاله المسك الأبيض، فريحه ريح المسك، ولونه مشرق لا يشبه لون مسك الدّنيا، بل هو أبيض. وقد يكون منه أبيض، ومنه أصفر، والله أعلم.

وفي «صحيح مسلم» من حديث أبي سعيد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سأل ابن صيّاد

(1)

عن تربة الجنّة، فقال: درمكة بيضاء مسك خالص، فصدّقه النّبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية أن ابن صيّاد سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وصدّقه

(2)

.

وفي «المسند» والترمذي عن البراء بن عازب أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «تربة الجنّة درمكة. ثم سأل اليهود فقالوا: خبزة، فقال: الخبز من الدّرمك»

(3)

.

والذي تجتمع به هذه الأحاديث كلّها أنّ تربة الجنّة في لونها بيضاء، ومنها ما يشبه لون الزّعفران في بهجته وإشراقه، وريحها ريح المسك الأذفر

(1)

في الأصول: «سأل صيادا» ، وهو خطأ بيّن.

(2)

أخرجه: مسلم (8/ 191 - 192)(2928).

(3)

أخرجه: أحمد (3/ 361)، والترمذي (3327)، وفي إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف.

وقال الترمذي والبزار: «لا يعرف إلا من حديث مجالد» .

وراجع: «الضعيفة» (3348).

تنبيه: الحديث من مسند «جابر بن عبد الله» عند أحمد والترمذي فقول المؤلف: عن «البراء ابن عازب» وهم، والله أعلم.

ص: 55

الخالص، وطعمها طعم الخبز الحوّاري الخالص. وقد يختصّ هذا بالأبيض منها، فقد اجتمعت لها الفضائل كلّها، لا حرمنا الله ذلك برحمته وكرمه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «من يدخلها ينعم لا يبأس، ويخلد لا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم» إشارة إلى بقاء الجنّة وبقاء جميع ما فيها من النّعيم، وأنّ صفات أهلها الكاملة من الشباب لا تتغيّر أبدا، وملابسهم التي عليهم من الثياب لا تبلى أبدا، وقد دلّ القرآن على مثل هذا في مواضع كثيرة، كقوله:

{وَجَنّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ} [التّوبة: 21].

وقوله: {أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها} [الرّعد: 35]. وقوله: {خالِدِينَ فِيها أَبَداً} [النّساء: 57]، في مواضع كثيرة. وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«من يدخل الجنّة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه»

(1)

.

وفيه أيضا عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا دخل أهل الجنّة الجنة نادى مناد: إنّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، وإنّ لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدا، وإنّ لكم أن تشبّوا فلا تهرموا أبدا» {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43]

(2)

. وفي رواية لغيره زيادة «و [إنّ لكم] أن تحيوا فلا تموتوا أبدا»

(3)

.

وفي الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا: «أهل الجنّة جرد مرد كحل، لا يفنى شبابهم، ولا تبلى ثيابهم»

(4)

. وعن أبي سعيد مرفوعا: «يدخل أهل الجنّة

(1)

أخرجه: مسلم (8/ 148)(2836).

(2)

أخرجه: مسلم (8/ 148)(2837).

(3)

هي في مسلم أيضا (8/ 148)(2837).

(4)

«السنن» : (2539).

وقال الترمذي: «حسن غريب» .

قلت: وفي إسناده شهر بن حوشب، وهو ضعيف، ولكن لمعناه شواهد.

ص: 56

الجنّة أبناء ثلاثين، لا يزيدون عليها أبدا»

(1)

. ومن حديث عليّ مرفوعا: «إنّ في الجنّة مجتمعا للحور العين يرفعن بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها؛ يقلن:

نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نبأس، ونحن الراضيات فلا نسخط، طوبى لمن كان لنا وكنّا له»

(2)

.

وخرّج الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعا: «إن مما يتغنين به - يعني الحور العين -: نحن الخالدات فلا نمتنه، نحن الآمنات فلا نخفنه، نحن المقيمات فلا نظعنّه»

(3)

.

ومن حديث أمّ سلمة مرفوعا: «إن نساء أهل الجنّة يقلن: نحن الخالدات فلا نموت أبدا، ونحن النّاعمات فلا نبأس أبدا، ونحن المقيمات فلا نظعن أبدا، ونحن الراضيات فلا نسخط أبدا، طوبى لمن كنّا له وكان لنا»

(4)

.

وفيما ذكره صلى الله عليه وسلم في صفة من يدخل الجنّة تعريض بذّمّ الدّنيا الفانية، فإنّه من يدخلها وإن نعم فيها فإنّه يبأس، ومن أقام فيها فإنّه يموت ولا يخلّد، ويفنى شبابهم، وتبلى ثيابهم، بل

(5)

تبلى أجسامهم.

(1)

أخرجه: الترمذي (2562).

وقال الترمذي: «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين» .

قلت: ورشدين بن سعد ضعيف، والله أعلم.

(2)

أخرجه: الترمذي (2564).

وقال الترمذي: «حديث غريب» .

قلت: وفي إسناده عبد الرحمن بن إسحاق وهو متروك وقال ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 932): «هذا حديث لا يصح» .

(3)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (4917)، وفي «الصغير» (2/ 35).

وقال في «المجمع» (10/ 419): «رجاله رجال الصحيح» .

(4)

أخرجه: الطبراني في «الكبير» (870)، و «الأوسط» (3141)، والبزار (703)، وراجع ضعيف «الترغيب والترهيب» (2230).

(5)

في ص: «و» بدل «بل» .

ص: 57

وفي «القرآن» نظير هذا، وهو التعريض بذمّ الدّنيا وفنائها، مع مدح الآخرة وذكر كمالها وبقائها، كما قال تعالى:{زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ} [آل عمران: 14 - 15].

وقال تعالى: {إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها} الآية [يونس: 24]. ثم قال: {وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} [يونس: 25 - 26].

وقال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 45 - 46].

وقال: {وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

وقال: {اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً} [الحديد: 20] إلى قوله: {سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21].

وقال: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى} [الأعلى: 16 - 17].

وقال: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا

ص: 58

فِي الْآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ} [التّوبة: 38]. وقال عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه: {يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ} [غافر: 39].

والمتاع: هو ما يتمتّع به صاحبه برهة ثم ينقطع ويفنى. فما عيبت الدّنيا بأبلغ من ذكر فنائها وتقلّب أحوالها، وهو أدلّ دليل على انقضائها وزوالها، فتتبدّل صحتها بالسّقم، ووجودها بالعدم، وشبيبتها بالهرم، ونعيمها بالبؤس، وحياتها بالموت، فتفارق الأجسام النفوس، وعمارتها بالخراب، واجتماعها بفرقة الأحباب، وكلّ ما فوق التّراب تراب.

قال بعض السّلف في يوم عيد، وقد نظر إلى كثرة النّاس وزينة لباسهم: هل ترون إلاّ خرقا تبلى، أو لحما يأكله الدّود غدا؟ كان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول:

يا دار، تخربين ويموت سكانك. وفي الحديث:«عجبا لمن رأى الدّنيا وسرعة تقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها»

(1)

. قال الحسن: إنّ الموت قد فضح الدّنيا فلم يدع لذي لبّ بها فرحا. وقال مطرّف: إنّ هذا الموت قد أفسد على أهل النّعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيما لا موت فيه.

وقال بعضهم: ذهب ذكر الموت بلذة كل عيش وسرور كلّ نعيم، ثم بكى وقال: واها لدار لا موت فيها. وقال يونس بن عبيد: ما ترك ذكر الموت لنا قرّة عين؛ في أهل ولا مال. وقال يزيد الرّقاشي: أمن أهل الجنّة الموت فطاب لهم العيش، وأمنوا من الأسقام، فهنيئا لهم في جوار الله طول المقام.

عيوب الدّنيا بادية، وهي بعبرها ومواعظها منادية، لكنّ حبّها يعمي ويصمّ، فلا يسمع محبّها نداءها، ولا يرى كشفها للغير وإيذاءها.

قد نادت الدّنيا على نفسها

لو كان في العالم من يسمع

(1)

أخرجه: البيهقي في «الزهد الكبير» (2/ 215) موقوفا على عليّ رضي الله عنه، ولا يصح مرفوعا.

ص: 59

كم واثق بالعمر أفنيته

وجامع بدّدت ما يجمع

كم قد تبدّل نعيمها بالضرّ والبؤس، كم أصبح من هو واثق بملكها، وأمسى وهو منها قنوط يئوس. قالت بعض بنات ملوك العرب الذين نكبوا: أصبحنا وما في العرب أحد إلاّ وهو يحسدنا، وأمسينا وما في العرب أحد إلا وهو يرحمنا، ثم قالت:

وبينا نسوس النّاس والأمر أمرنا

إذا نحن فيهم سوقة ليس نعرف

فأفّ لدار لا يدوم نعيمها

تقلّب تارات بنا وتصرّف

دخلت أمّ جعفر بن يحيى البرمكي على قوم في عيد أضحى تطلب جلد كبش تلبسه، وقالت: هجم عليّ مثل هذا العيد وعلى رأسي أربعمائة وصيفة قائمة، وأنا أزعم أنّ ابني جعفرا عاقّ لي.

كانت أخت أحمد بن طولون صاحب مصر كثيرة السّرف في إنفاق المال، حتّى إنّها زوّجت بعض لعبها فأنفقت على وليمة عرسها مائة ألف دينار، فما مضى إلا قليل حتى رئيت في سوق من أسواق بغداد وهي تسأل النّاس.

خلع بعض خلفاء بني العبّاس وكحل وحبس ثم أطلق، فاحتاج إلى أن وقف يوم جمعة في الجامع وقال للناس: تصدّقوا عليّ فأنا من قد عرفتم.

اجتاز بعض الصالحين بدار فيها فرح وقائلة تقول في غنائها:

ألا يا دار لا يدخلك حزن

ولا يزري بصاحبك الزّمان

ثم اجتاز بها عن قريب وإذا الباب مسودّ، وفي الدّار بكاء وصراخ، فسأل عنهم، فقيل: مات ربّ الدّار، فطرق الباب وقال: سمعت من هذه الدّار قائلة تقول كذا وكذا، فبكت امرأة وقالت: يا عبد الله، إنّ الله يغيّر ولا يتغيّر، والموت غاية كلّ مخلوق، فانصرف من عندهم باكيا.

ص: 60

بعث أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه في خلافته وفدا إلى اليمن، فاجتازوا في طريقهم بماء من مياه العرب، عنده قصور مشيدة، وهناك مواش عظيمة، ورقيق كثير، ورأوا نسوة كثيرة مجتمعات في عرس لهنّ، وجارية بيدها دفّ، وهي تقول:

معشر الحسّاد موتوا كمدا

كذا نكون ما بقينا أبدا

فنزلوا بقربهم فأكرمهم سيّد الماء، واعتذر إليهم باشتغاله بالعرس، فدعوا له وارتحلوا.

ثم إنّ بعض أولئك الوفد أرسلهم معاوية إلى اليمن، فمرّوا بالقرب من ذلك الماء، فعدلوا إليه لينزلوا فيه، فإذا القصور المشيدة قد خربت كلّها وليس هناك ماء ولا أنيس، ولم يبق من تلك الآثار إلاّ تلّ خراب، فذهبوا إليه، فإذا عجوز عمياء تأوي إلى نقب في ذلك التّلّ، فسألوها عن أهل ذلك الماء، فقالت:

هلكوا كلّهم، فسألوها عن ذلك العرس المتقدم، فقالت: كانت العروس أختي، وأنا كنت صاحبة الدّفّ، فطلبوا أن يحملوها معهم فأبت، وقالت:

عزيز عليّ أن أفارق هذه العظام البالية حتّى أصير إلى ما صارت إليه. فبينما هي تحدّثهم إذ مالت فنزعت نزعا يسيرا ثم ماتت، فدفنوها وانطلقوا.

حمل إلى سليمان بن عبد الملك في خلافته من خراسان ستة أحمال مسك إلى الشام، فأدخلت على ابنه أيوب، وهو وليّ عهده، فدخل عليه الرسول بها في داره، فدخل إلى دار بيضاء وفيها غلمان عليهم ثياب بياض وحليتهم فضّة، ثم دخل إلى دار صفراء فيها غلمان عليهم ثياب صفر وحليتهم الذّهب؛ ثم دخل إلى دار خضراء فيها غلمان عليهم ثياب خضر وحليتهم الزمرّد، ثم دخل على أيوب وهو وجاريته على سرير، فلم يعرف أحدهما من الآخر لقرب شبههما، فوضع المسك بين يديه فانتهبه كلّه الغلمان، ثم خرج الرسول فغاب

ص: 61

بضعة عشر يوما، ثم رجع فمرّ بدار أيوب وهي بلاقع، فسأل عنهم، فقيل له:

أصابهم الطاعون فماتوا.

كان يزيد بن عبد الملك، وهو الذي انتهت إليه الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز، له جارية تسمّى حبّابة، وكان شديد الشّغف بها، ولم يقدر على تحصيلها إلاّ بعد جهد شديد، فلمّا وصلت إليه خلا بها يوما في بستان وقد طار عقله فرحا بها، فبينما هو يلاعبها ويضاحكها إذ رماها بحبّة رمّان أو حبّة عنب وهي تضحك، فدخلت في فيها فشرقت بها فماتت، فما سمحت نفسه بدفنها حتّى أراحت، فعوتب على ذلك فدفنها. ويقال: إنّه نبشها بعد دفنها. ويروى أنه دخل بعد موتها إلى خزائنها ومقاصيرها ومعه جارية لها، فتمثلت الجارية فقالت:

كفى حزنا بالواله الصّبّ أن يرى

منازل من يهوى معطّلة قفرا

فصاح وخرّ مغشيّا عليه، فلم يفق إلى أن مضى هويّ من الليل، ثم أفاق فبكى بقيّة ليلته ومن الغد، فدخلوا عليه فوجدوه ميتا. قال بعض السّلف:

ما من حبرة إلاّ تتبعها عبرة، وما كان ضحك في الدّنيا إلاّ كان بعده بكاء.

من عرف الدّنيا حقّ معرفتها حقرها وأبغضها، كما قيل:

أما لو بيعت الدّنيا بفلس

أنفت لعاقل أن يشتريها

ومن عرف الآخرة وعظمتها رغب فيها.

عباد الله، هلمّوا إلى دار لا يموت سكانها، ولا يخرب بنيانها، ولا يهرم شبّانها، ولا يتغيّر حسنها وإحسانها، هواؤها النّسيم، وماؤها التّسنيم، يتقلّب أهلها في رحمة أرحم الرّاحمين، وينعمون بالنظر إلى وجهه كلّ حين، {دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [يونس: 10].

ص: 62

قال عون بن عبد الله بن عتبة: بنى ملك ممن كان قبلنا مدينة، فتنوّق في بنائها، ثم صنع طعاما ودعا الناس إليه، وأقعد على أبوابها ناسا يسألون كلّ من خرج: هل رأيتم عيبا؟ فيقولون: لا، حتّى جاء في آخر النّاس قوم عليهم أكسية، فسألوهم: هل رأيتم عيبا؟ فقالوا: عيبين. فأدخلوهم على الملك، فقال: هل رأيتم عيبا؟ فقالوا: عيبين، قال: وما هما؟ قالوا: تخرب، ويموت صاحبها. قال: فتعلمون دارا لا تخرب ولا يموت صاحبها؟ قالوا: نعم. قال:

وما هي؟ قالوا: الجنة، فدعوه فاستجاب لهم وانخلع من ملكه وتعبّد معهم.

فحدّث عون بهذا الحديث عمر ابن عبد العزيز، فوقع منه موقعا، حتّى همّ أن يخلع نفسه من الملك، فأتاه ابن عمّه مسلمة، فقال: اتّق الله يا أمير المؤمنين في أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، فو الله لئن فعلت ليقتتلنّ بأسيافهم. قال: ويحك يا مسلمة، حمّلت ما لا أطيق، وجعل يردّدها، ومسلمة يناشده حتّى سكن.

بنى بعض ملوك العرب الخورنق والسّدير، فنظر إلى ملكه يوما فقال: هل علمتم أحدا أوتي مثل ما أوتيت؟ فقالوا: لا، ورجل منهم ساكت، فقال: أيّها الملك، إن أذنت لي تكلّمت، فقال: تكلّم، قال: أرأيت ما جمعت، أشيء هو لك لم يزل ولا يزول، أم هو شيء كان لمن قبلك وزال عنه، وصار إليك، وكذلك يزول عنك؟ قال: بل كان لمن قبلي، وصار إليّ، ويزول عنّي. قال:

فسررت بشيء تزول عنك لذّته وتبقى تبعته عليك، تكون فيه قليلا وترتهن به طويلا؟ فبكى وقال: أين المهرب؟ قال: إما أن تقيم وتعمل بطاعة ربّك، وإما أن تنخلع من ملكك وتقيم وحدك وتعبد ربّك حتى يأتيك أجلك، قال: فإذا فعلت ذلك فما لي؟ قال: حياة لا تموت، وشباب لا يهرم، وصحة لا تسقم، وملك جديد لا يبلى. فقال: فأيّ خير فيما يفنى؟ والله لأطلبنّ عيشا لا يزول أبدا، فانخلع من ملكه، وسار في الأرض. وفيه يقول عديّ بن زيد أبياته المشهورة السائرة:

ص: 63

أيّها الشّامت المعيّر بالدّه

ر أأنت المبرّأ الموفور

أم لديك العهد الوثيق من

الأيّام بل أنت جاهل مغرور

من رأيت المنون أخلدن أم من

ذا عليه من أن يضام خفير

أين كسرى، كسرى الملوك أنو شر

وان أم أين قبله سابور

وبنو الأصفر الكرام ملوك

الرّوم لم يبق منهم مذكور

وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج

لة تجبى إليه والخابور

شاده مرمرا وجلّله كل

سا فللطّير في ذراه وكور

لم يهبه ريب المنون فباد ال

ملك عنه فبابه مهجور

وتذكّر ربّ الخورنق إذ أش

رف يوما وللهدى تفكير

سرّه ماله وكثرة ما يم

لك والبحر معرضا والسّدير

فارعوى قلبه وقال وما غب

طة حيّ إلى الممات يصير

ثمّ أضحوا كأنّهم ورق جفّ

فألوت به الصّبا والدّبور

ثمّ بعد الفلاح والملك

والإمّة وارتهم هناك القبور

***

ص: 64

‌وظائف شهر الله المحرم

ويشتمل على مجالس:

‌المجلس الأول في فضل شهر الله المحرم وعشره الأول

خرّج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«أفضل الصّيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم، وأفضل الصّلاة بعد الفريضة قيام الليل»

(1)

.

الكلام على هذا الحديث في فصلين: في أفضل التطوع بالصيام، وأفضل التطوع بالقيام.

‌الفصل الأول في أفضل التطوع بالصّيام

وهذا الحديث صريح في أن أفضل ما تطوّع به من الصّيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم، وقد يحتمل أن يراد أنه أفضل شهر تطوّع بصيامه كاملا بعد رمضان. فأمّا التطوّع ببعض شهر فقد يكون أفضل من بعض أيامه، كصيام يوم عرفة، أو عشر ذي الحجة، أو ستة أيام من شوال، ونحو ذلك.

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 169)(1163)، وأحمد (535، 2/ 344)، وأبو داود (2429)، والترمذي (438، 740)، والنسائي (3/ 207).

ص: 65

ويشهد لهذا ما خرّجه الإمام أحمد والترمذيّ من حديث عليّ أنّ رجلا أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أخبرني بشهر أصومه بعد شهر رمضان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإنه شهر الله، وفيه يوم تاب الله فيه على قوم ويتوب على آخرين»

(1)

. وفي إسناده مقال.

ولكن يقال: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصوم شهر شعبان، ولم ينقل عنه أنّه كان يصوم المحرم، إنما كان يصوم عاشوراء. وقوله في آخر سنة:«لئن عشت إلى قابل لأصومنّ التاسع»

(2)

يدلّ على أنه كان لا يصوم التاسع قبل ذلك. وقد أجاب النّاس عن هذا السؤال بأجوبة فيها ضعف.

والذي ظهر لي - والله أعلم - أن التطوّع بالصّيام نوعان:

أحدهما: التطوع المطلق بالصوم، فهذا أفضله المحرم، كما أن أفضل التطوّع المطلق بالصّلاة قيام الليل.

والثاني: ما صيامه تبع لصيام رمضان قبله وبعده، فهذا ليس من التطوّع المطلق، بل صيامه تبع لصيام رمضان، وهو ملتحق بصيام رمضان، ولهذا قيل: إنّ صيام ستة أيام من شهر شوال يلتحق بصيام رمضان، ويكتب بذلك لمن صامها مع رمضان صيام الدّهر فرضا.

وقد روي أن أسامة بن زيد كان يصوم الأشهر الحرم، فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم بصيام شوال، فترك الأشهر الحرم وصام شوالا

(3)

. وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.

(1)

أخرجه: أحمد (155، 1/ 154) والترمذي (741) وإسناده ضعيف.

وراجع: «مسند البزار» (699)، و «الكامل» (4/ 1614).

(2)

أخرجه: مسلم (3/ 151)(1134).

(3)

أخرجه: ابن ماجه (1744) وسنده منقطع.

ص: 66

فهذا النوع من الصّيام يلتحق برمضان، وصيامه أفضل التطوّع مطلقا. فأما التطوّع المطلق فأفضله صيام الأشهر الحرم. وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أمر رجلا أن يصوم الأشهر الحرم، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.

وأفضل صيام الأشهر الحرم صيام شهر الله المحرّم، ويشهد لهذا أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث:«وأفضل الصّلاة بعد المكتوبة قيام اللّيل» ، ومراده بعد المكتوبة ولواحقها من سننها الرّواتب، فإنّ الرّواتب قبل الفرائض وبعدها أفضل من قيام الليل عند جمهور العلماء؛ لالتحاقها بالفرائض. وإنما خالف في ذلك بعض الشافعية. فكذلك الصّيام قبل رمضان وبعده ملتحق برمضان، وصيامه أفضل من صيام الأشهر الحرم، وأفضل التطوّع المطلق بالصّيام صيام المحرّم.

وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل:

فقال الحسن وغيره: أفضلها شهر الله المحرّم، ورجّحه طائفة من المتأخرين. وروى وهب بن جرير، عن قرّة بن خالد، عن الحسن، قال:

إن الله افتتح السّنة بشهر حرام، وختمها بشهر حرام. فليس شهر في السّنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرّم، وكان يسمى «شهر الله الأصمّ» ؛ من شدّة تحريمه. وقد روي عنه مرفوعا ومرسلا.

قال آدم بن أبي إياس: حدثنا أبو هلال الراسبيّ، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصّلاة بعد المكتوبة الصّلاة في جوف الليل الأوسط، وأفضل الشهور بعد شهر رمضان المحرّم، وهو شهر الله الأصمّ»

(1)

.

وخرّج النسائي من حديث أبي ذرّ، قال: سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ الليل خير،

(1)

أخرجه: الحاكم (1/ 307)، وابن خزيمة (1134).

ص: 67

وأي الأشهر أفضل؟ فقال: «خير الليل جوفه، وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرّم»

(1)

. وإطلاقه في هذا الحديث «أفضل الأشهر» محمول على ما بعد رمضان، كما في رواية الحسن المرسلة.

وقال سعيد بن جبير وغيره: أفضل الأشهر الحرم ذو الحجّة. بل قد قيل:

إنه أفضل الأشهر مطلقا، وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى.

وزعم بعض الشافعية أن أفضل الأشهر الحرم رجب، وهو قول مردود.

وأفضل شهر المحرّم عشره الأوّل. وقد زعم يمان بن رئاب أنه العشر الذي أقسم الله به في كتابه، ولكن الصحيح أنّ العشر المقسم به عشر ذي الحجّة، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله.

وقال أبو عثمان النّهديّ: كانوا يعظّمون ثلاث عشرات: العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجّة، والعشر الأول من المحرّم، وقد وقع هذا في بعض نسخ كتاب «فضائل العشر» لابن أبي الدّنيا، عن أبي عثمان، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه كان يعظم هذه العشرات الثلاث، وليس ذلك بمحفوظ. وقد قيل: إنه العشر الذي أتمّ الله به ميقات موسى عليه السلام أربعين ليلة، وأن التّكليم وقع في عاشره.

وروي عن وهب بن منبه، قال: أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن مر قومك أن يتقربوا إليّ في أول عشر المحرم، فإذا كان يوم العاشر فليخرجوا إليّ أغفر لهم.

وعن قتادة أن الفجر الذي أقسم الله به في أوّل سورة الفجر هو فجر أول يوم من المحرّم، تنفجر منه السّنة.

(1)

أخرجه: النسائي في «الكبرى» (4202)، وفي إسناده ضعف.

وراجع: «التاريخ الكبير» (2/ 45).

ص: 68

ولما كانت الأشهر الحرم أفضل الأشهر بعد رمضان أو مطلقا، وكان صيامها مندوبا إليه، كما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان بعضها ختام السّنة الهلاليّة، وبعضها مفتاحا لها، فمن صام ذا الحجّة سوى الأيام المحرّم صيامها منه، وصام المحرّم، فقد ختم السّنة بالطّاعة وافتتحها بالطّاعة، فيرجى أن تكتب له سنته كلّها طاعة، فإنّ من كان أول عمله طاعة وآخره طاعة، فهو في حكم من استغرق بالطاعة ما بين العملين.

وفي حديث مرفوع: «ما من حافظين يرفعان إلى الله صحيفة فيرى في أوّلها وفي آخرها خيرا إلاّ قال الله لملائكته: أشهدكم أنّي قد غفرت لعبدي ما بين طرفيها»

(1)

. خرّجه الطبرانيّ وغيره، وهو موجود في بعض نسخ كتاب الترمذي.

وفي حديث آخر مرفوع: «ابن آدم اذكرني من أوّل النّهار ساعة ومن آخر النّهار ساعة أغفر لك ما بين ذلك، إلا الكبائر أو تتوب منها»

(2)

.

وقال ابن المبارك: من ختم نهاره بذكر كتب نهاره كله ذكرا. يشير إلى أنّ الأعمال بالخواتيم، فإذا كان البداية والختام ذكرا فهو أولى أن يكون حكم الذكر شاملا للجميع. ويتعيّن استفتاح العام بتوبة نصوح تمحو ما سلف من الذّنوب السالفة في الأيام الخالية.

قطعت شهور العام لهوا وغفلة

ولم تحترم فيما أتيت المحرّما

فلا رجبا وافيت فيه بحقّه

ولا صمت شهر الصّوم صوما متمّما

ولا في ليالي عشر ذي الحجّة الذي

مضى كنت قوّاما ولا كنت محرما

(1)

أخرجه: الترمذي (981). وقال في «مجمع الزوائد» (10/ 208): «رواه البزار وفيه تمام ابن نجيح وثقه ابن معين وغيره وضعفه البخاري وغيره، وبقية رجاله رجال الصحيح» ، وأخرجه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 305) وقال: لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(2)

أخرجه: أبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 213) بلفظ مقارب، وسنده ضعيف.

ص: 69

فهل لك أن تمحو الذّنوب بعبرة

وتبكي عليها حسرة وتندّما

وتستقبل العام الجديد بتوبة

لعلّك أن تمحو بها ما تقدّما

وقد سمّى النبيّ صلى الله عليه وسلم شهر المحرّم شهر الله. وإضافته إلى الله تدلّ على شرفه وفضله، فإنّه تعالى لا يضيف إليه إلا خواصّ مخلوقاته، كما نسب محمدا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء إلى عبوديته، ونسب إليه بيته وناقته.

ولما كان هذا الشهر مختصّا بإضافته إلى الله، وكان الصّيام من بين الأعمال مضافا إلى الله؛ فإنّه من بين الأعمال، ناسب أن يختصّ هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه، المختصّ به، وهو الصّيام.

وقد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله عز وجل: إنه إشارة إلى أنّ تحريمه إلى الله عز وجل ليس لأحد تبديله، كما كانت الجاهلية يحلّونه ويحرّمون مكان صفر، فأشار إلى أنه شهر الله الذي حرّمه، فليس لأحد من خلقه تبديل ذلك ولا تغييره.

شهر الحرام مبارك ميمون

والصّوم فيه مضاعف مسنون

وثواب صائمه لوجه إلهه

في الخلد عند مليكه مخزون

الصّيام سرّ بين العبد وبين ربّه، ولهذا يقول الله تعالى:«كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّوم فإنّه لي وأنا أجزي به، إنّه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي»

(1)

.

وفي الجنة باب يقال له «الرّيّان» لا يدخل منه إلاّ الصائمون، فإذا دخلوا

(1)

متفق عليه: البخاري (7/ 211)(1904)(5928)، ومسلم (3/ 158)(1151).

ص: 70

أغلق فلم يدخل منه غيرهم

(1)

، وهو جنّة للعبد من النّار كجنّة أحدكم من القتال.

وفي «المسند» عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من صام يوما ابتغاء وجه الله تعالى بعّده الله من نار جهنّم كبعد غراب طار وهو فرخ حتى مات هرما»

(2)

. وفيه أن أبا أمامة قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال:«عليك بالصّوم فإنّه لا عدل له» ، فكان أبو أمامة وأهله يصومون، فإذا رئي في بيتهم دخان بالنّهار علم أنه قد نزل بهم ضيف

(3)

.

وممن سرد الصوم عمر وأبو طلحة وعائشة وغيرهم من الصحابة، وخلق كثير من السّلف. وممن صام الأشهر الحرم كلّها ابن عمر والحسن البصريّ وغيرهما. قال بعضهم: إنما هو غداء وعشاء، فإن أخّرت غداءك إلى عشائك أمسيت وقد كتبت في ديوان الصائمين.

«للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربّه»

(4)

إذا وجد ثواب صيامه مدخورا.

سمع بعضهم مناديا ينادي على السّحور في رمضان: ياما خبّأنا للصوّام،

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 158 - 159)(1152).

(2)

أخرجه: أحمد (2/ 526) والبزار (1037 - كشف) وأبو يعلي (921)، والطبراني (6365/ 7). وفي «الأوسط» (3118).

والحديث ضعفه البخاري وأبو حاتم وغيرهما.

راجع: «التاريخ الكبير» (4/ 194 - 195)، و «الجرح والتعديل» (1/ 299/2)، و «الكامل» (3/ 1155)، و «الميزان» (2/ 184).

(3)

أخرجه: أحمد (257، 255، 249، 5/ 248) والنسائي (4/ 165).

والحديث صححه الحافظ في «الفتح» (4/ 104).

(4)

أخرجه: البخاري (3/ 34)(1904)، ومسلم (3/ 158)(1151) عن أبي هريرة.

ص: 71

فانتبه لذلك وسرد الصوم. وروي أنّ الصائمين توضع لهم مائدة تحت العرش، فيأكلون والناس في الحساب، فيقول الناس: ما بال هؤلاء يأكلون ونحن نحاسب؟ فيقال: كانوا يصومون وأنتم تفطرون. وروي أنّهم يحكّمون في ثمار الجنّة والناس في الحساب.

روى ذلك ابن أبي الدنيا في «كتاب الجوع» . قال الله تعالى: {وَالصّائِمِينَ وَالصّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35]. وقال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ} [الحاقّة: 24].

قال مجاهد وغيره: نزلت في الصّوّام. من ترك لله طعامه وشرابه وشهوته عوّضه الله خيرا من ذلك طعاما وشرابا لا ينفد، وأزواجا لا تموت.

في التوراة: طوبى لمن جوّع نفسه ليوم الشبع الأكبر، طوبى لمن أظمأ نفسه ليوم الرّيّ الأكبر، طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره، طوبى لمن ترك طعاما ينفد في دار تنفد، لدار {أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها} [الرّعد: 35].

من يرد ملك الجنان

فليذر عنه التّواني

وليقم في ظلمة اللّي

ل إلى نور القران

وليصل صوما بصوم

إنّ هذا العيش فاني

إنّما العيش جوار

الله في دار الأمان

كان بعض الصالحين يكثر الصوم، فرأى في منامه كأنّه دخل الجنة، فنودي من ورائه: يا فلان، تذكر أنك صمت لله يوما قط؟ قال: إي والله، يوم ويوم ويوم، فإذا صواني النّثار قد أخذته يمنة ويسرة.

كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى وانقطع صوته، فمات فرئي بعض.

ص: 72

أصحابه في المنام، فسئل عن حاله، فقال:

قد كسي حلّة البهاء وطافت

بأباريق حوله الخدّام

ثم حلّي وقيل: يا قارئ ارقه

فلعمري لقد براك الصّيام

صام بعض التابعين حتى اسودّ من طول صيامه. وصام الأسود بن يزيد حتى اخضر جسمه واصفرّ، فكان إذا عوتب في رفقه بجسده يقول: كرامة هذا الجسد أريد. وصام بعضهم حتى وجد طعم دماغه في حلقه. كان بعضهم يسرد الصّوم، فمرض وهو صائم، فقالوا له: أفطر، فقال: ليس هذا وقت ترك. وقيل لآخر منهم وهو مريض: أفطر، فقال: كيف أفطر وأنا أسير لا أدري ما يفعل بي.

مات عامر بن عبد الله بن الزّبير وهو صائم ما أفطر. ودخلوا على أبي بكر بن أبي مريم وهو في النّزع، وهو صائم، فعرضوا عليه ماء ليفطر، فقال: أغربت الشّمس؟ قالوا: لا، فأبى أن يفطر، ثم أتوه بماء وقد اشتدّ نزعه، فأومأ إليهم: أغربت الشمس؟ قالوا: نعم، فقطّروا في فيه قطرة من ماء ثم مات. واحتضر إبراهيم بن هانئ صاحب الإمام أحمد وهو صائم، فطلب ماء، وسأل: أغربت الشمس؟ فقالوا: لا، وقالوا له: قد رخّص لك في الفرض وأنت متطوّع، قال: امهل، ثم قال: امهل، ثم قال:{لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ} [الصّافات: 61]، ثم خرجت نفسه وما أفطر.

الدنيا كلّها شهر صيام المتقين، وعيد فطرهم يوم لقاء ربّهم، ومعظم نهار الصوم قد ذهب، وعيد اللّقاء قد اقترب.

وقد صمت عن لذّات دهري كلّها

ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

ولما كان الصّيام سرّا بين العبد وربّه اجتهد المخلصون في إخفائه بكلّ طريق، حتى لا يطّلع عليهم أحد.

ص: 73

قال بعض السلف: بلغنا عن عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال: إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته ويمسح شفتيه من دهنه، حتى ينظر إليه الناظر فيظنّ أنه ليس بصائم. وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: إذا أصبح أحدكم صائما فليترجّل، يعني يسرّح شعره ويدهنه؛ وإذا تصدّق بصدقة عن يمينه فليخفها عن شماله، وإذا صلّى تطوعا فليصلّ داخل بيته. وقال أبو التّيّاح: أدركت أبي ومشيخة الحيّ، إذا صام أحدهم ادّهن ولبس صالح ثيابه.

صام بعض السّلف أربعين سنة لا يعلم به أحد؛ كان له دكّان، فكان كلّ يوم يأخذ من بيته رغيفين، ويخرج إلى دكّانه، فيتصدّق بهما في طريقه، فيظنّ أهله أنه يأكلهما في السوق، ويظنّ أهل السوق أنه قد أكل في بيته قبل أن يجيء.

اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصّيام فكان يقوم يوم الجمعة في مسجد الجامع فيأخذ إبريق الماء، فيضع بلبلته في فيه ويمصّها والنّاس ينظرون إليه ولا يدخل حلقه منه شيء؛ لينفي عن نفسه ما اشتهر به من الصّوم.

كم يستر الصّادقون أحوالهم وريح الصّدق ينمّ عليهم.

ما أسرّ أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية.

كم أكتم حبّكم عن الأغيار

والدّمع يذيع في الهوى أسراري

كم أستركم هتكتموا أستاري

من يخفي في الهوى لهيب النّار

ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، فكلّما اجتهد صاحبه على إخفائه فاح ريحه للقلوب فتستنشقه الأرواح، وربّما ظهر بعد الموت ويوم القيامة.

فكاتم الحبّ يوم البين منهتك

وصاحب الوجد لا تخفى سرائره

لمّا دفن عبد الله بن غالب كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك، فرئي في

ص: 74

المنام، فسئل عن تلك الرائحة التي توجد في قبره، فقال: تلك رائحة التلاوة والظّمإ.

وجاء في حديث مرفوع: «يخرج الصائمون من قبورهم يعرفون بريح صيامهم؛ أفواههم أطيب من ريح المسك»

(1)

.

وهبني كتمت السّرّ أو قلت غيره

أيخفي على أهل القلوب السّرائر

أبى ذاك أنّ السّرّ في الوجه ناطق

وأنّ ضمير القلب في العين ظاهر

***

(1)

أخرجه: الرافعي في «التدوين في أخبار قزوين» (2/ 326) وفي إسناده النضر بن حميد، وهو متروك الحديث.

ص: 75

‌الفصل الثاني في فضل قيام الليل

وقد دلّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا على أنه أفضل الصّلاة بعد المكتوبة.

وهل هو أفضل من السّنن الراتبة؟ فيه خلاف سبق ذكره. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «فضل صلاة اللّيل على صلاة النّهار كفضل صدقة السّرّ على صدقة العلانية»

(1)

. وخرّجه الطبراني عنه مرفوعا، والمحفوظ وقفه.

وقال عمرو بن العاص: ركعة بالليل خير من عشر بالنّهار. خرّجه ابن أبي الدنيا. وإنما فضّلت صلاة الليل على صلاة النّهار؛ لأنها أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص.

كان السّلف يجتهدون في إخفاء تهجّدهم؛ قال الحسن: كان الرجل يكون عنده زوّاره، فيقوم من الليل يصلّي ولا يعلم به زوّاره. وكانوا يجتهدون في الدعاء ولا يسمع لهم صوت. وكان الرجل ينام مع امرأته على وسادة، فيبكي طول ليلته وهي لا تشعر. وكان محمد بن واسع يصلّي في طريق الحدّ طول ليله في محمله، ويأمر حاديه أن يرفع صوته ليشغل الناس عنه. وكان بعضهم يقوم من وسط الليل ولا يدرى به، فإذا كان قرب طلوع الفجر رفع صوته بالقرآن، يوهم أنّه قام تلك الساعة.

(1)

أخرجه مرفوعا: ابن المبارك في «الزهد» (25) والطبراني (10/ 21)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 167)، (5/ 36)، (7/ 238) وحسن إسناده المنذري (1/ 242)، وقال الهيثمي (251/ 2):«رجاله ثقات» .

ورجح الموقوف أبو نعيم في «الحلية» ، وتفرد برفعه مخلد بن يزيد، وهو ضعيف.

ص: 76

ولأن صلاة الليل أشقّ على النفوس؛ فإنّ الليل محلّ النّوم والراحة من التعب بالنهار؛ فترك النّوم مع ميل النفس إليه مجاهدة عظيمة.

قال بعضهم: أفضل الأعمال ما أكرهت عليه النّفوس، ولأنّ القراءة في صلاة الليل أقرب إلى التّدبّر؛ فإنه تنقطع الشواغل بالليل، ويحضر القلب، ويتواطأ هو واللسان على الفهم، كما قال تعالى:{إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمّل: 6].

ولهذا المعنى أمر بترتيل القرآن في قيام الليل ترتيلا، ولهذا كانت صلاة الليل منهاة عن الإثم، كما يأتي في حديث خرّجه الترمذيّ. وفي «المسند» عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النّبي صلى الله عليه وسلم قيل له: إنّ فلانا يصلّي من الليل، فإذا أصبح سرق، فقال:«سينهاه ما تقول»

(1)

.

ولأن وقت التهجّد في الليل أفضل أوقات التطوّع بالصّلاة، وأقرب ما يكون العبد من ربه، وهو وقت فتح أبواب السّماء واستجابة الدعاء، واستعراض حوائج السائلين.

وقد مدح الله تعالى المستيقظين بالليل لذكره ودعائه واستغفاره ومناجاته، فقال تعالى:{تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17] وقال: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ} [آل عمران: 17]. وقال: {كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 - 18]. وقال:

(1)

أخرجه: أحمد (2/ 447)، وفي إسناده اختلاف. ورواه ابن حبان (2560).

راجع: «تفسير ابن كثير» (6/ 290 - 291)، و «كشف الأستار» (722، 721، 720).

ص: 77

{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً} [الفرقان: 64]. وقال: {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]. وقال: {مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113].

وقال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً} [الإسراء: 79]. وقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} [الإنسان: 26]. وقال: {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 1 - 4].

وقالت عائشة رضي الله عنها لرجل: «لا تدع قيام الليل؛ فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض - أو قالت كسل - صلّى قاعدا»

(1)

. وفي رواية أخرى عنها، قالت: بلغني عن قوم يقولون: إن أدّينا الفرائض لم نبال ألاّ نزداد، ولعمري، لا يسألهم الله إلاّ عمّا افترض عليهم، ولكنّهم قوم يخطئون بالليل والنّهار، وما أنتم إلا من نبيّكم، وما نبيّكم إلاّ منكم، والله ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل، ونزعت كلّ آية فيها قيام الليل.

فأشارت عائشة إلى أنّ قيام الليل فيه فائدتان عظيمتان: الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتأسي به، وقد قال الله عز وجل:{لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وتكفير الذنوب والخطايا؛ فإنّ بني آدم يخطئون باللّيل والنهار؛ فيحتاجون إلى الاستكثار من مكفّرات الخطايا، وقيام الليل من أعظم المكفرات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: «قيامك في

(1)

أخرجه: أحمد (6/ 249)، وأبو داود (1307)، والبخاري في «الأدب المفرد» (800)، وابن خزيمة (1137)، وإسناده حسن.

ص: 78

جوف الليل يكفر الخطيئة»، ثم تلا {تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ} الآية [السجدة: 16]. خرجه الإمام أحمد وغيره

(1)

.

وقد روي أنّ المتهجّدين يدخلون الجنة بغير حساب. وروي عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق: سيعلم الخلائق اليوم من أولى بالكرم، ثم يرجع فينادي: أين الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله؟ فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي: ليقم الّذين كانوا يحمدون الله في السرّاء والضرّاء، فيقومون وهم قليل، ثم يرجع فينادي: ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فيقومون وهم قليل، ثم يحاسب سائر الناس»

(2)

. خرّجه ابن أبي الدنيا وغيره. ويروي عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله

(3)

. ويروى نحوه من حديث أبي إسحاق، عن عبد الله بن عطاء، عن عقبة بن عامر مرفوعا، وموقوفا. ويروى نحوه أيضا عن عبادة بن الصّامت، وربيعة الجرشيّ، والحسن، وكعب من قولهم.

قال بعض السلف: قيام الليل يهوّن طول القيام يوم القيامة، وإذا كان أهله يوم القيامة يسبقون إلى الجنّة بغير حساب، فقد استراح أهله من طول الموقف

(1)

أخرجه: أحمد (237، 233، 5/ 231)، والترمذي (2616)، والنسائي (4/ 166)، وابن ماجه (3973) من طريق عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، وكلها ضعيفة.

وراجع: «علل الدارقطني» (6/ 73 - 79)، و «الإرواء» (413).

(2)

أخرجه: ابن أبي حاتم في «تفسيره» كما في «تفسير ابن كثير» (6/ 75)، وهنّاد في «الزهد» (176:1/ 134). وبمعناه أخرجه الحاكم (2/ 398)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 9)، وفي إسناده شهر بن حوشب، وهو ضعيف.

(3)

أخرجه: أبو نعيم في «الحلية» (62، 6/ 61) وابن المبارك في «الزهد» (ص 101 /رقم 353) في زيادات نعيم بن حماد. وراجع المطالب العالية (4557).

ص: 79

للحساب. وفي حديث أبي أمامة وبلال مرفوعا: «عليكم بقيام اللّيل؛ فإنّه دأب الصّالحين قبلكم، وإنّ قيام الليل قربة إلى الله، وتكفير للسيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة للدّاء عن الجسد»

(1)

. خرّجه الترمذي.

ففي هذا الحديث أن قيام الليل يوجب صحة الجسد، ويطرد عنه الدّاء.

وكذلك صيام النهار: ففي الطبراني، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:

«صوموا تصحّوا»

(2)

. وكما أنّ قيام الليل يكفر السيئات، فهو يرفع الدّرجات، وقد ذكرنا أنّ أهله من السّابقين إلى الجنة بغير حساب.

وفي حديث المنام المشهور الذي خرّجه الإمام أحمد والترمذيّ: أن الملأ الأعلى يختصمون في الدّرجات والكفارات، وفيه أن الدّرجات: إطعام الطّعام، وإفشاء السّلام، والصّلاة بالليل والنّاس نيام

(3)

. وفي المسند والترمذي وغيرهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه:«إنّ في الجنة غرفا يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها، وأنّها لأهل هذه الخصال الثلاثة»

(4)

.

(1)

أخرجه: الترمذي (3549) من حديث بلال، وابن خزيمة (1135) من حديث أبي أمامة.

وقال الذهبي في «تذكرة الحفاظ» (1/ 389): «هذا حديث حسن الإسناد» .

وراجع: «علل ابن أبي حاتم» (346).

(2)

رواه الطبراني في «الأوسط» (8312). قال الهيثمي (3/ 179): «رجاله ثقات» وكذا قال المنذري (2/ 50)، وقال العراقي في «تخريج الإحياء» (3/ 75):«بسند ضعيف» . وانظر الضعيفة (253).

(3)

أخرجه: أحمد (1/ 368)، والترمذي (3233).

ولهذا الحديث طرق كثيرة، ولكن قال الدارقطني:«كل أسانيده مضطربة، ليس فيها صحيح» ، وقال البيهقي:«قد روي من أوجه كلها ضعيف» .

وراجع: «العلل المتناهية» (1/ 31 - 35)، و «علل ابن أبي حاتم» (26)، و «علل الدارقطني» (6/ 54 - 57)، و «تحفة الأشراف» (4/ 383)، و «النكت الظراف» (4/ 382).

(4)

أخرجه: أحمد (1/ 156)، (2/ 173)، والترمذي (1984)، (2527) وأبو يعلى (428).

وله أكثر من طريق، وحسن إسناده الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (4/ 117).

ص: 80

وفي حديث عبد الله بن سلام المشهور المخرّج في السّنن: أنه أوّل ما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند قدومه المدينة: «يا أيّها الناس، أطعموا الطّعام، وأفشوا السّلام، وصلوا الأرحام، وصلّوا باللّيل والنّاس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام»

(1)

.

ومن فضائل التهجّد: أن الله تعالى يحبّ أهله، ويباهي بهم الملائكة، ويستجيب دعاءهم. روى الطبراني وغيره من حديث أبي الدّرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ثلاثة يحبّهم الله ويضحك إليهم، ويستبشر بهم»

(2)

.

فذكر منهم الذي له امرأة حسناء وفراش حسن، فيقوم من الليل، فيقول الله: يذر شهوته فيذكرني، ولو شاء رقد؛ والذي إذا كان في سفر وكان معه ركب، فسهروا ثمّ هجعوا، فقام من السّحر في سرّاء وضرّاء.

وخرّج الإمام أحمد والترمذي والنسائي من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ثلاثة يحبّهم الله» فذكر منهم: وقوم ساروا ليلهم حتّى إذا كان النّوم أحبّ إليهم ممّا يعدل به، فوضعوا رءوسهم، قام يتملّقني ويتلو آياتي

(3)

. وصححه الترمذي.

وفي «المسند» عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «عجب ربّنا من: رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين أهله وحبّه إلى صلاته، فيقول ربّنا تبارك

(1)

أخرجه: الترمذي (2485)، وابن ماجه (1334)، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» .

(2)

ذكره في «مجمع الزوائد» (2/ 255) وعزاه للطبراني في «الكبير» وقال: رجاله ثقات. وأخرجه الحاكم. مختصرا (1/ 25). وعزاه في الكنز (43350) للطبراني والحاكم.

(3)

أخرجه: أحمد (5/ 153)، والترمذي (2568) والنسائي (3/ 207)، (5/ 84)، وابن خزيمة (2564، 2456).

ص: 81

وتعالى: أيا ملائكتي، انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه من بين حبّه وأهله إلى صلاته، رغبة فيما عندي، وشفقة مما عندي»

(1)

وذكر بقية الحديث.

وقوله: «ثار» فيه إشارة إلى قيامه بنشاط وعزم.

ويروى من حديث عطية، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إن الله يضحك إلى ثلاثة نفر؛ رجل قام من جوف الليل فأحسن الطّهور فصلّى، ورجل نام وهو ساجد، ورجل في كتيبة منهزمة فهو على فرس جواد، لو شاء أن يذهب لذهب»

(2)

.

وخرّجه ابن ماجه من رواية مجالد، عن أبي الودّاك، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّ الله ليضحك إلى ثلاثة: الصفّ في الصّلاة، والرجل يصلّي في جوف الليل، والرجل يقاتل، أراه قال: خلف الكتيبة»

(3)

.

وروينا من حديث أبان، عن أنس، عن ربيعة بن وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ثلاث مواطن لا تردّ فيها دعوة: رجل يكون في برّية حيث لا يراه أحد، فيقوم فيصلي، فيقول الله لملائكته: أرى عبدي هذا يعلم أن له ربّا يغفر

(1)

أخرجه: أحمد (1/ 416)، وابن أبي شيبة (5/ 313)، وأبو يعلى (5362، 5272)، والطبراني (10/ 179)(10383) والبيهقي (9/ 164) وابن حبان في «صحيحه» (2557).

والحديث قد اختلف في رفعه، ووقفه، والموقوف أصح.

وراجع: «علل الدارقطني» (5/ 266 - 267).

وفي «المسند» : «حيّه» بدل «حبّه» .

(2)

أخرجه: أحمد (3/ 80)، وابن ماجه (200)، والبزار (715 - كشف) وإسناده ضعيف، وذكره في «مجمع الزوائد» (2/ 256) وقال:«رواه البزار وفيه محمد بن أبي ليلى وفيه كلام كثير لسوء حفظه لا لكذبه» .

وراجع: «الضعيفة» (3453).

(3)

أخرجه: ابن ماجه (200). وراجع السلسلة الضعيفة (3103)، وضعيف الجامع (1656).

ص: 82

الذنب، فانظروا ما يطلب، فتقول الملائكة: أي ربّ، رضاك ومغفرتك، فيقول: اشهدوا أني قد غفرت له. ورجل يقوم من الليل، فيقول الله عز وجل:

أليس قد جعلت الليل سكنا والنوم سباتا، فقام عبدي هذا يصلي، ويعلم أن له ربّا، فيقول الله لملائكته: انظروا ما يطلب عبدي هذا، فتقول الملائكة:

يا رب، رضاك ومغفرتك، فيقول: اشهدوا أنّي قد غفرت له»

(1)

. وذكر الثالث الذي يكون في فئة فيفرّ أصحابه ويثبت هو. وهو مذكور أيضا في كلّ الأحاديث المتقدّمة.

وفي «المسند» و «صحيح ابن حبّان» عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«رجلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يعالج نفسه إلى الطّهور، وعليه عقد، فيتوضأ، فإذا وضّأ يديه انحلّت عقدة، وإذا وضّأ وجهه انحلّت عقدة، وإذا مسح رأسه انحلّت عقدة، وإذا وضّأ رجليه انحلّت عقدة. فيقول الربّ عز وجل للذين وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه، ما سألني عبدي هذا فهو له»

(2)

.

وفي «الصحيحين» أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«نعم الرّجل عبد الله - يعني ابن عمر - لو كان يصلّي من الليل. فكان عبد الله لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلا»

(3)

.

(1)

أخرجه: أبو نعيم في «معرفة الصحابة» (2779)، وكذا ذكره ابن حجر في «الإصابة» (477/ 2) وعزاه إلى ابن مندة.

وإسناده ضعيف، قال أبو نعيم:«في إسناد حديثه نظر، يعني هذا الحديث» .

وقال ابن حجر: «إسناده ضعيف» .

(2)

أخرجه: أحمد (201، 4/ 159) والطبراني (17/ 305) رقم (843)، وابن حبان (1052) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 224) وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير وله سندان، رجال أحدهما رجال الصحيح.

(3)

أخرجه: البخاري (2/ 69)(1122)(3739)، ومسلم (7/ 158)(2479).

ص: 83

كان أبو ذر رضي الله عنه يقول للناس: «أرأيتم لو أنّ أحدكم أراد سفرا، أليس يتّخذ من الزّاد ما يصلحه ويبلّغه؟ قالوا: بلى، قال: فسفر طريق القيامة أبعد، فخذوا له ما يصلحكم، حجّوا حجة لعظائم الأمور، صوموا يوما شديدا حرّه لحرّ يوم النّشور، صلّوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة

(1)

القبور، تصدّقوا بصدقة لشرّ يوم عسير»

(2)

.

أين رجال الليل، أين الحسن وسفيان وفضيل؟

يا رجال الليل جدّوا

ربّ داع لا يردّ

ما يقوم اللّيل إلاّ

من له عزم وجدّ

ليس شيء كصلا

ة اللّيل للقبر يعدّ

صلّى كثير من السّلف صلاة الصّبح بوضوء العشاء عشرين سنة، ومنهم من صلّى كذلك أربعين سنة. قال بعضهم: منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر. قال ثابت: كابدت قيام الليل عشرين سنة، وتنعّمت به عشرين سنة أخرى، أفضل قيام الليل وسطه. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«أفضل القيام قيام داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه»

(3)

. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصّارخ يقوم للصّلاة. والصّارخ: الدّيك، وهو يصيح وسط الليل.

وخرّج النسائي عن أبي ذر، قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ الليل خير؟ قال:

«جوفه»

(4)

. وخرّج الإمام أحمد، عن أبي ذر، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: «أيّ

(1)

في أ: «لوحشة» .

(2)

أورده أبو نعيم في «الحلية» (1/ 165)، والبيهقي في «الشعب» (3924) مختصرا ونحوه ابن أبي عاصم في «الزهد» (ص 148).

(3)

أخرجه: البخاري (2/ 62)(1131).

(4)

أخرجه: النسائي في «الكبرى» (4204)، وفي إسناده رجل مجهول.

ص: 84

قيام الليل أفضل؟ قال: «جوف الليل الغابر، أو نصف الليل، وقليل فاعله»

(1)

.

وخرّج ابن أبي الدنيا من حديث أبي أمامة أنّ رجلا قال: يا رسول الله، أيّ الصلاة أفضل؟ قال:«جوف الليل الأوسط» . قال: أيّ الدّعاء أسمع؟ قال: «دبر المكتوبات»

(2)

.

وخرّجه الترمذي والنسائي، ولفظهما «أنه سأله: أيّ الدّعاء أسمع؟ قال:

جوف الليل الأخير، ودبر الصلوات المكتوبات»

(3)

.

وخرّج الترمذي من حديث عمرو بن عبسة أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:

«أقرب ما يكون الربّ من العبد في جوف الليل، فإن استطعت أن تكون ممّن يذكر الله في تلك الساعة فكن»

(4)

.

ويروى أن داود عليه السلام قال: يا ربّ، أيّ وقت أقوم لك؟ قال: لا تقم أوّل الليل، ولا آخره، ولكن قم وسط الليل حتّى تخلو بي وأخلو بك، وارفع إليّ حوائجك. وفي الأثر المشهور: كذب من ادّعى محبّتي، فإذا جنّه الليل نام عنّي، أليس كلّ محبّ يحبّ خلوة حبيبه، فها أنا ذا مطّلع على أحبابي، إذا جنّهم الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم، فخاطبوني على المشاهدة، وكلّموني على حضوري، غدا أقرّ أعين أحبابي في جناني.

اللّيل لي ولأحبابي أحادثهم

قد اصطفيتهم كي يسمعوا ويعوا

(1)

أخرجه: أحمد (5/ 179)، وابن حبان (2564)، والنسائي في «الكبرى» (1310).

وفي إسناده مهاجر أبو خالد، وهو ضعيف، وللحديث شواهد بمعناه.

(2)

أخرجه: ابن أبي الدنيا في «التهجد» (240)، وإسناده ضعيف.

(3)

أخرجه: الترمذي (3499)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (108).

(4)

أخرجه: الترمذي (3579)، وهو شاهد لما قبله.

ص: 85

لهم قلوب بأسراري لها ملئت

على ودادي وإرشادي لهم طبعوا

سروا فما وهنوا عجزا ولا ضعفوا

وواصلوا حبل تقريبي فما انقطعوا

ما عند المحبّين ألذّ من أوقات الخلوة بمناجاة محبوبهم، هو شفاء قلوبهم، ونهاية مطلوبهم.

كتمت اسم الحبيب عن العباد

وردّدت الصّبابة في فؤادي

فوا شوقا إلى بلد خليّ

لعلّي باسم من أهوى أنادي

كان داود الطائي يقول في الليل: إلهي! همّك عطّل عليّ الهموم، وحالف بيني وبين السّهاد، وشوقي إلى النظر إليك أوثق منّي اللذات، وحال بيني وبين الشهوات. وكان عتبة الغلام يقول في مناجاته بالليل: إن تعذبني فإنّي لك محبّ، وإن ترحمني فإنّي لك محبّ.

لو أنّك أبصرت أهل الهوى

إذا غارت الأنجم الطّلّع

فهذا ينوح على ذنبه

وهذا يصلّي وذا يركع

من لم يشاركهم في هواهم وذوق حلاوة نجواهم، لم يدر ما الذي أبكاهم.

من لم يشاهد جمال يوسف لم يدر ما الذي آلم قلب يعقوب.

من لم يبت والحبّ حشو فؤاده

لم يدر كيف تفتّت الأكباد

كان أبو سليمان يقول: أهل الليل في ليلهم ألذّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدّنيا. وسط الليل للمحبّين للخلوة بمناجاة حبيبهم، والسّحر للمذنبين للاستغفار من ذنوبهم، فوسط الليل خاصّ لخلوة الخواصّ، والسّحر عامّ لرفع قصص الجميع، وبروز التواقيع لأهلها بقضاء الحوائج، فمن عجز عن مسابقة المحبّين في ميدان مضمارهم فلا يعجز عن

ص: 86

مشاركة المذنبين في استغفارهم واعتذارهم. صحائف التائبين خدودهم، ومدادهم دموعهم. قال بعضهم: إذا بكى الخائفون فقد كاتبوا الله بدموعهم.

رسائل الأسحار تحمل ولا يدري بها الفلك، وأجوبتها ترد إلى الأسرار ولا يعلم بها الملك.

صحائفنا إشارتنا

وأكثر رسلنا الحرق

لأنّ الكتب قد تقرا

بغير الدّمع لا تثق

لا تزال القصص تستعرض وتوقّع عليها بقضاء حوائج أهلها إلى أن يطلع الفجر. ينزل الله كلّ ليلة إلى السّماء الدّنيا، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيب دعوته؟ إلى أن ينفجر الفجر. فلذلك كانوا يفضّلون صلاة آخر الليل على أوله.

نحن الذين إذا أتانا سائل

نوليه إحسانا وحسن تكرّم

ونقول في الأسحار هل من تائب

مستغفر لينال خير المغنم

الغنيمة تقسم على كلّ من حضر الوقعة، فيعطى منها الرجّالة والأجراء والغلمان مع الأمراء والأبطال والشجعان والفرسان، فما يطلع فجر الأجر إلا وقد حاز القوم الغنيمة، وفازوا بالفخر، وحمدوا عند الصّباح السّرى، وما عند أهل الغفلة والنوم خبر ممّا جرى.

كان بعض الصالحين يقوم الليل، فإذا كان السّحر نادى بأعلى صوته: يا أيّها الرّكب المعرّسون، أكلّ هذا الليل ترقدون؟ ألا تقومون فترحلون؟ فإذا سمع الناس صوته وثبوا من فرشهم؛ فيسمع من هنا باك، ومن هنا داع، ومن هنا تال، ومن هنا متوضئ، فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته:«عند الصّباح يحمد القوم السّرى» .

ص: 87

يا نفس قومي فقد نام الورى

إن تصنعي الخير فذو العرش يرى

وأنت يا عين دعي عنك الكرى

عند الصّباح يحمد القوم السّرى

يا قوّام الليل اشفعوا في النّوّام، يا أحياء القلوب ترحّموا على الأموات.

قيل لابن مسعود رضي الله عنه: ما نستطيع قيام الليل، قال: أبعدتكم ذنوبكم. وقيل للحسن: قد أعجزنا قيام الليل، قال: قيّدتكم خطاياكم. وقال الفضيل بن عياض: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النّهار، فاعلم أنّك محروم مكبّل، كبّلتك خطيئتك

(1)

.

قال الحسن: إنّ العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل. قال بعض السلف: أذنبت ذنبا فحرمت به قيام الليل ستة أشهر. ما يؤهّل الملوك للخلوة بهم إلاّ من أخلص في ودّهم ومعاملتهم، فأمّا من كان من أهل المخالفة فلا يؤهّلونه. في بعض الآثار أن جبريل عليه السلام ينادي كلّ ليلة: أقم فلانا وأنم فلانا. قام بعض الصالحين في ليلة باردة وعليه ثياب رثة، فضربه البرد فبكى، فهتف به هاتف: أقمناك وأنمناهم، وتبكي علينا!

يا حسنهم واللّيل قد جنّهم

ونورهم يفوق نور الأنجم

ترنّموا بالذّكر في ليلهم

فعيشهم قد طاب بالتّرنّم

قلوبهم للذّكر قد تفرّغت

دموعهم كلؤلؤ منتظم

أسحارهم بهم لهم قد أشرقت

وخلع الغفران خير القسم

الليل منهل يرده أهل الإرادة كلّهم، ويختلفون فيما يردون ويريدون {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60]، فالمحبّ يتنعّم بمناجاة محبوبه، والخائف يتضرّع لطلب العفو ويبكي على ذنوبه، والراجي يلحّ في سؤال مطلوبه، والغافل المسكين أحسن الله عزاءه في حرمانه وفوات نصيبه. قال

(1)

«حلية الأولياء» (8/ 96)، و «صفوة الصفوة» (2/ 238).

ص: 88

النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «لا تكن مثل فلان، كان يقوم اللّيل فترك قيام الليل»

(1)

.

مرضت رابعة مرة فصارت تصلّي وردها بالنّهار فعوفيت، وقد ألفت ذلك وانقطع عنها قيام اللّيل، فرأت ذات ليلة في نومها كأنّها أدخلت إلى روضة خضراء عظيمة، وفتح لها فيها باب دار، فسطع منها نور حتّى كاد يخطف بصرها، فخرج منها وصفاء كأنّ وجوههم اللؤلؤ، بأيديهم مجامر، فقالت لهم امرأة كانت مع رابعة: أين تريدون؟ قالوا: نريد فلانا قتل شهيدا في البحر، فنجمّره، فقالت لهم: أفلا تجمّرون هذه المرأة؟ تعنى رابعة، فنظروا إليها وقالوا: قد كان لها حظّ في ذلك فتركته، فالتفتت تلك المرأة إلى رابعة وأنشدت:

صلاتك نور والعباد رقود

ونومك ضدّ للصّلاة عنيد

وكان بعض العلماء يقوم السّحر، فنام عن ذلك ليالي، فرأى في منامه رجلين وقفا عليه وقال أحدهما للآخر: هذا كان من المستغفرين بالأسحار، فترك ذلك.

يا من كان له قلب فانقلب، يا من كان له وقت مع الله فذهب؛ قيام السّحر يستوحش لك، صيام النّهار يسائل عنك، ليالي الوصال تعاتبك على الهجر.

تغيّرتم عنّا بصحبة غيرنا

وأظهرتم الهجران ما هكذا كنّا

وأقسمتم ألاّ تحولوا عن الهوى

فحلتم عن العهد القديم وما حلنا

ليالي كنّا نستقي من وصالكم

وقلبي إلى تلك الليالي قد حنّا

(1)

متفق عليه: البخاري (2/ 68)(1152)، ومسلم (3/ 164)(1159).

ص: 89

قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن فلانا نام حتّى أصبح. فقال: «بال الشيطان في أذنه»

(1)

. كان سريّ يقول: رأيت الفوائد ترد في ظلمة الليل، ماذا فات من فاته خير اللّيل؟ لقد حصل أهل الغفلة والنّوم على الحرمان والويل. كان بعض السلف يقوم الليل، فنام ليلة فأتاه آت في منامه، فقال له: قم فصل، ثم قال له: أما علمت أن مفاتيح الجنّة مع أصحاب اللّيل هم خزّانها. وكان آخر يقوم الليل، فنام ليلة فأتاه آت في منامه، فقال: ما لك قصّرت في الخطبة؟ أما علمت أن المتهجّد إذا قام إلى تهجّده قالت الملائكة: قام الخاطب إلى خطبته.

ورأى بعضهم حوراء في نومه، فقال لها: زوجيني نفسك، قالت: اخطبني إلى ربي وأمهرني، قال: ما مهرك؟ قالت: طول التهجّد.

نام ليلة أبو سليمان فأيقظته حوراء وقالت: يا أبا سليمان، تنام وأنا أربّى لك في الخدور من خمسمائة عام؟. واشترى بعضهم من الله حوراء بصداق ثلاثين ختمة، فنام ليلة قبل أن يكمل الثلاثين، فرآها في منامه تقول له:

أتخطب مثلي وعني تنام

ونوم المحبّين عنّي حرام

لأنّا خلقنا لكلّ امرئ

كثير الصّلاة براه الصّيام

كان النبي صلى الله عليه وسلم يطرق باب فاطمة وعليّ، ويقول:«ألا تصلّيان؟»

(2)

. وفي الحديث: «إذا استيقظ الرّجل وأيقظ أهله فصلّيا ركعتين كتبا من الذّاكرين الله كثيرا والذّاكرات»

(3)

.

(1)

متفق عليه: البخاري (2/ 66)(1144)، ومسلم (2/ 187)(774).

(2)

متفق عليه: البخاري (2/ 62)(1127)، ومسلم (2/ 187)(775).

(3)

أخرجه: أبو داود (1309)، (1451)، وابن ماجه (1335)، وقد ذكر أبو داود أن بعضهم جعله من قول أبي سعيد موقوفا عليه، ولعله هو الصواب.

ص: 90

كانت امرأة حبيب توقظه بالليل وتقول: ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدّامنا ونحن قد بقينا.

يا راقد اللّيل كم ترقد

قم يا حبيبي قد دنا الموعد

وخذ من اللّيل وأوقاته

وردا إذا ما هجع الرّقّد

من نام حتّى ينقضي ليله

لم يبلغ المنزل أو يجهد

قل لأولي الألباب أهل التّقى

قنطرة العرض لكم موعد

***

ص: 91

‌المجلس الثاني في فضل يوم عاشوراء

في «الصحيحين» عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن صوم يوم عاشوراء، فقال:«ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يتحرّى فضله على الأيام إلاّ هذا اليوم - يعني يوم عاشوراء - وهذا الشهر - يعني رمضان»

(1)

. يوم عاشوراء له فضيلة عظيمة وحرمة قديمة، وصومه لفضله كان معروفا بين الأنبياء عليهم السلام، وقد صامه نوح وموسى عليهما السلام، كما سنذكره إن شاء الله.

وروى إبراهيم الهجريّ، عن أبي عياض، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«يوم عاشوراء كانت تصومه الأنبياء، فصوموه أنتم»

(2)

. خرّجه بقيّ بن مخلد في «مسنده» .

وقد كان أهل الكتاب يصومونه، وكذلك قريش في الجاهلية كانت تصومه.

قال دلهم بن صالح: قلت لعكرمة: عاشوراء ما أمره؟ قال: أذنبت قريش في الجاهلية ذنبا فتعاظم في صدورهم، فسألوا ما توبتهم، قيل: صوم عاشوراء، يوم العاشر من المحرم.

وكان للنبي صلى الله عليه وسلم في صيامه أربع حالات:

الحالة الأولى: أنه كان يصومه بمكة ولا يأمر الناس بالصوم. ففي

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 57)(2006)، ومسلم (3/ 150 - 151)(1132).

(2)

أخرجه: ابن أبي شيبة في «المصنف» (2/ 311)، وذكره الحافظ في «المطالب العالية» (1105)، وإسناده ضعيف.

ص: 92

«الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها، قالت:«كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهليّة، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصومه، فلمّا قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه، فترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء أفطره»

(1)

. وفي رواية للبخاري: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من شاء فليصمه، ومن شاء أفطر»

(2)

.

الحالة الثانية: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا قدم المدينة ورأى صيام أهل الكتاب له وتعظيمهم له، وكان يحبّ موافقتهم فيما لم يؤمر به، صامه، وأمر النّاس بصيامه، وأكّد الأمر بصيامه، والحثّ عليه، حتّى كانوا يصوّمونه أطفالهم.

ففي «الصحيحين» عن ابن عباس، قال: «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صيّاما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فنحن أحقّ وأولى بموسى منكم، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر بصيامه

(3)

.

وفي «مسند الإمام أحمد» ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بأناس من اليهود قد صاموا يوم عاشوراء، فقال: ما هذا من الصّوم؟ قالوا: هذا اليوم الذي نجّى الله عز وجل موسى عليه السلام وبني إسرائيل من الغرق، وغرّق فيه فرعون. وهذا يوم استوت فيه السفينة على الجودي، فصامه نوح وموسى عليهما السلام شكرا لله عز وجل. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أنا أحقّ بموسى وأحقّ بصوم هذا اليوم، فأمر أصحابه بالصّوم»

(4)

.

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 57)(2002)، ومسلم (3/ 146)(1125).

(2)

أخرجه: البخاري (3/ 57)(1893).

(3)

أخرجه: البخاري (3/ 57)(2004)، ومسلم (150، 3/ 149)(1130).

(4)

أخرجه: أحمد (2/ 359 - 360)، وإسناده ضعيف، ويشهد لبعضه حديث ابن عباس المتقدم.

ص: 93

وفي «الصحيحين» عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر رجلا من أسلم: أن أذّن في النّاس: من أكل فليصم بقيّة يومه، ومن لم يكن أكل فليصم؛ فإنّ اليوم يوم عاشوراء»

(1)

.

وفيهما أيضا عن الرّبيّع بنت معوّذ، قالت:«أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: من كان أصبح صائما فليتمّ صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتمّ بقيّة يومه. فكنّا بعد ذلك نصومه، ونصوّمه صبياننا الصغار منهم، ونذهب بهم إلى المسجد فنجعل لهم اللّعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطّعام أعطيناه إيّاها حتّى يكون عند الإفطار»

(2)

. وفي رواية: «فإذا سألونا الطّعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم، حتى يتمّوا صومهم»

(3)

. وفي الباب أحاديث كثيرة جدّا.

وخرّج الطبرانيّ بإسناد فيه جهالة، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو يوم عاشوراء برضعائه ورضعاء ابنته فاطمة فيتفل في أفواههم، ويقول لأمّهاتهم:

لا ترضعوهم إلى الليل، وكان ريقه صلى الله عليه وسلم يجزئهم

(4)

.

وقد اختلف العلماء رضي الله عنهم، هل كان صوم يوم عاشوراء قبل فرض شهر رمضان واجبا أم كان سنة مؤكدة؟ على قولين مشهورين؛ ومذهب أبي حنيفة أنّه كان واجبا حينئذ، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد وأبي بكر الأثرم. وقال الشافعيّ رحمه الله: بل كان متأكّد الاستحباب فقط، وهو قول كثير من أصحابنا وغيرهم.

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 58)(2007)، ومسلم (3/ 151 - 152)(1761).

(2)

أخرجه: البخاري (3/ 48)(1960)، ومسلم (3/ 152)(1136).

(3)

أخرجه: مسلم (3/ 152)(1136).

(4)

أخرجه: الطبراني (704)، وأبو يعلى (7162) وهو ضعيف، وقال الهيثمي (3/ 186):«وعليلة - أحد رواته - ومن فوقها لم أجد من ترجمهن» .

ص: 94

الحالة الثالثة: أنّه لما فرض صيام شهر رمضان ترك النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بصيام عاشوراء وتأكيده فيه، وقد سبق حديث عائشة في ذلك. وفي «الصحيحين» عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:«صام النبيّ صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه، فلمّا فرض رمضان ترك ذلك» . وكان عبد الله لا يصومه إلاّ أن يوافق صومه

(1)

. وفي رواية لمسلم: أنّ أهل الجاهلية كانوا يصومون يوم عاشوراء، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صامه، والمسلمون، قبل أن يفرض رمضان، فلمّا افترض رمضان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّ عاشوراء يوم من أيّام الله؛ فمن شاء صامه، ومن شاء تركه»

(2)

. وفي رواية له أيضا: «فمن أحبّ منكم أن يصومه فليصمه، ومن كره فليدعه»

(3)

.

وفي «الصحيحين» أيضا عن معاوية، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

«هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم؛ فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر»

(4)

. وفي رواية لمسلم التّصريح برفع آخره

(5)

.

وفي رواية للنسائي

(6)

أنّ آخره مدرج من قول معاوية، وليس بمرفوع.

وفي «صحيح مسلم» ، عن ابن مسعود، أنه قال في يوم عاشوراء:«هو يوم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل رمضان، فلمّا نزل شهر رمضان ترك» . وفي رواية «أنه تركه»

(7)

. وفيه أيضا عن جابر بن سمرة، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام يوم عاشوراء، ويحثّنا عليه، ويتعاهدنا عنده، فلمّا فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا عنه، ولم يتعاهدنا عنده»

(8)

.

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 31)(1892)، ومسلم (3/ 148)(1126).

(2)

أخرجه: مسلم (3/ 148)(1126).

(3)

أخرجه: مسلم (3/ 147)(1126).

(4)

أخرجه: البخاري (3/ 57)(2003) ومسلم (3/ 149)(1125).

(5)

أخرجه: مسلم (147).

(6)

«السنن الكبرى» (2868، 2866).

(7)

أخرجه: مسلم (3/ 148)(1127).

(8)

أخرجه: مسلم (3/ 149)(1128).

ص: 95

وخرّج الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، من حديث قيس بن سعد قال:

«أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء قبل أن ينزل رمضان، فلمّا نزل رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا»

(1)

. وفي رواية: «ونحن نفعله» .

فهذه الأحاديث كلّها تدلّ على أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يجدّد أمر الناس بصيامه بعد فرض صيام شهر رمضان، بل تركهم على ما كانوا عليه من غير نهي عن صيامه، فإن كان أمره صلى الله عليه وسلم بصيامه قبل فرض صيام شهر رمضان للوجوب، فإنّه ينبني على أنّ الوجوب إذا نسخ فهل يبقى الاستحباب أم لا، وفيه اختلاف مشهور بين العلماء. وإن كان أمره للاستحباب المؤكّد فقد قيل: إنّه زال التّأكيد وبقي أصل الاستحباب، ولهذا قال قيس بن سعد: ونحن نفعله.

وقد روي عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما ما يدلّ على أنّ أصل استحباب صيامه زال. وقال سعيد بن المسيّب: لم يصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء؛ وروي عنه عن سعد بن أبي وقّاص. والمرسل أصحّ؛ قاله الدّارقطني. وأكثر العلماء على استحباب صيامه من غير تأكيد.

وممن روي عنه صيامه من الصّحابة عمر، وعليّ، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو موسى، وقيس بن سعد، وابن عباس، وغيرهم. ويدلّ على بقاء استحبابه قول ابن عباس رضي الله عنه:«لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوما يتحرّى فضله على الأيام إلا يوم عاشوراء وشهر رمضان»

(2)

. وابن عباس إنما صحب النبيّ صلى الله عليه وسلم بآخره، وإنما عقل منه صلى الله عليه وسلم ما كان من آخر أمره.

وفي «صحيح مسلم» ، عن أبي قتادة: أن رجلا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن صيام

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 421 - 422)، (6/ 6) والنسائي (5/ 49)، وما في «الصحيح» شاهد له.

(2)

متفق عليه: البخاري (3/ 57)(2006)، ومسلم (3/ 150 - 151)(1132).

ص: 96

عاشوراء، فقال:«أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله»

(1)

. وإنّما سأله عن التّطوّع بصيامه، فإنّه سأله أيضا عن صيام يوم عرفة، وصيام الدّهر، وصيام يوم وفطر يوم، وصيام يوم وفطر يومين. فعلم أنّه إنّما سأله عن صيام التطوّع.

وخرّج الإمام أحمد، والنسائي من حديث حفصة بنت عمر أمّ المؤمنين رضي الله عنها: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يدع صيام يوم عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيّام من كلّ شهر

(2)

. وخرّجه أبو داود

(3)

إلاّ أن عنده: «عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم» ، غير مسمّاة.

الحالة الرابعة: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم عزم في آخر عمره على ألاّ يصومه مفردا، بل يضمّ إليه يوما آخر مخالفة لأهل الكتاب في صيامه؛ ففي «صحيح مسلم» ، عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع»

(4)

. قال: فلم يأت العام المقبل حتّى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية له أيضا، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التّاسع»

(5)

.

يعني مع عاشوراء. وخرّجه الطبراني، ولفظه: إن عشت - إن شاء الله - إلى قابل صمت التّاسع، مخافة أن يفوتني عاشوراء

(6)

.

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 167)(1162).

(2)

أخرجه: أحمد (6/ 287)، والنسائي (4/ 220) وأبو يعلى (7049، 7048، 7041)، وابن حبان (6422) والطبراني (369، 23/ 354).

وقال الزيلعي في «نصب الراية» (2/ 156): «وهو ضعيف» .

(3)

«السنن» : (2437) وفيه حكاية الفعل وليس بلفظ «لم يكن يدع» .

(4)

أخرجه: مسلم (3/ 1510)(1134).

(5)

المصدر السابق.

(6)

أخرجه: الطبراني (10/ 10817).

ص: 97

وفي «مسند الإمام أحمد» ، عن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:

«صوموا يوم عاشوراء، وخالفوا اليهود، صوموا قبله يوما وبعده يوما» . وجاء في رواية «أو بعده»

(1)

.

فإمّا أن يكون «أو» للتخيير أو يكون شكّا من الراوي؛ هل قال «قبله» أو «بعده» وروي هذا الحديث بلفظ آخر وهو: «لئن بقيت لآمرنّ بصيام يوم قبله ويوم

(2)

بعده». يعني عاشوراء. وفي رواية أخرى: «لئن بقيت إلى قابل لأصومنّ التاسع ولآمرنّ بصيام يوم قبله ويوم بعده» ، يعني عاشوراء. أخرجهما الحافظ أبو موسى المديني.

وقد صحّ هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله من رواية ابن جريج، قال:

أخبرني عطاء أنّه سمع ابن عبّاس يقول في يوم عاشوراء: خالفوا اليهود، وصوموا التّاسع والعاشر

(3)

. قال الإمام أحمد: أنا أذهب إليه.

وروي عن ابن عباس أنّه صام التّاسع والعاشر، وعلّل بخشية فوات عاشوراء. وروى ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس:

أنه كان يصوم عاشوراء في السّفر، ويوالي بين اليومين؛ خشية فواته. وكذلك روي عن أبي إسحاق أنّه صام يوم عاشوراء ويوما قبله، ويوما بعده، وقال:

إنّما فعلت ذلك خشية أن يفوتني. وروي عن ابن سيرين أنّه كان يصوم ثلاثة أيام عند الاختلاف في هلال الشهر احتياطا. وروي عن ابن عباس، والضحّاك، أنّ يوم عاشوراء هو تاسع المحرّم.

(1)

أخرجه: أحمد (1/ 241)، وابن خزيمة (2095) والبزار (1052 - كشف)، والبيهقي (4/ 287)، وإسناده ضعيف، وروي موقوفا على ابن عباس بإسناد صحيح وهو ما سيأتي ذكره قريبا.

(2)

في ص: «أو يوم» .

(3)

أخرجه: عبد الرزاق (7839) بسند صحيح.

ص: 98

قال ابن سيرين: كانوا لا يختلفون أنّه اليوم العاشر، إلاّ ابن عباس، فإنّه قال: إنّه التاسع. وقال الإمام أحمد في رواية الميموني: لا أدري، هو التّاسع أو العاشر، ولكن نصومهما. فإن اختلف في الهلال صام ثلاثة أيام احتياطا.

وابن سيرين يقول ذلك.

وممّن رأى صيام التاسع والعاشر الشافعيّ وأحمد وإسحاق. وكره أبو حنيفة إفراد العاشر وحده بالصّوم. وروى الطبرانيّ من حديث ابن أبي الزّناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد، عن أبيه، قال: ليس يوم عاشوراء باليوم الذي يقول النّاس، إنّما كان يوما تستر فيه الكعبة وتقلس فيه الحبشة عند النبي صلى الله عليه وسلم. وكان يدور في السنة، فكان الناس يأتون فلانا اليهوديّ يسألونه، فلمّا مات اليهوديّ أتوا زيد بن ثابت فسألوه

(1)

.

وهذا فيه إشارة إلى أن عاشوراء ليس هو في المحرّم، بل يحسب بحساب السّنة الشمسية، كحساب أهل الكتاب. وهذا خلاف ما عليه عمل المسلمين قديما وحديثا.

وفي «صحيح مسلم» عن ابن عباس، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يعدّ من هلال المحرّم، ثم يصبح يوم التاسع صائما

(2)

. وابن أبي الزّناد لا يعتمد على ما ينفرد به، وقد جعل الحديث كلّه عن زيد بن ثابت، وآخره لا يصلح أن يكون من قول زيد، فلعلّه من قول من دونه، والله أعلم. وكان طائفة من السّلف يصومون عاشوراء في السّفر؛ منهم ابن عبّاس، وأبو إسحاق السّبيعيّ، والزّهريّ. وقال: رمضان له عدّة من أيّام أخر، وعاشوراء يفوت. ونصّ أحمد على أنّه يصام عاشوراء في السّفر.

(1)

أخرجه: الطبراني في «الكبير» (5/ 138)، وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 187):«وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد، وفيه كلام كثير، وقد وثق» .

(2)

أخرجه: مسلم (3/ 151)(1133).

ص: 99

وروى عبد الرزاق في كتابه، عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن معبد القرشي، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم بقديد، فأتاه رجل، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: أطعمت اليوم شيئا؟ - ليوم عاشوراء - قال: لا، إلا أنّي شربت ماء، قال: فلا تطعم شيئا حتى تغرب الشّمس، وأمر من وراءك أن يصوموا هذا اليوم

(1)

. ولعلّ المأمور كان من أهل قديد. وروى بإسناده عن طاوس أنه كان يصوم عاشوراء في الحضر، ولا يصومه في السّفر.

ومن أعجب ما ورد في عاشوراء أنّه كان يصومه الوحش والهوامّ.

وقد روي مرفوعا أنّ الصّرد أوّل طير صام عاشوراء

(2)

. خرّجه الخطيب في «تاريخه» ، وإسناده غريب. وقد روي ذلك عن أبي هريرة

(3)

.

وروي عن فتح بن شخرف، قال: كنت أفتّ للنّمل الخبز كلّ يوم، فلمّا كان يوم عاشوراء لم يأكلوه.

وروي عن القادر بالله الخليفة العباسيّ أنّه جرى له مثل ذلك وأنّه عجب منه، فسأل أبا الحسن القزويني الزّاهد، فذكر له أنّ يوم عاشوراء يصومه النّمل. وروى أبو موسى المديني بإسناده، عن قيس بن عباد، قال: بلغني أنّ الوحش كانت تصوم يوم عاشوراء. وبإسناد له، عن رجل أتى البادية يوم عاشوراء، فرأى قوما يذبحون ذبائح، فسألهم عن ذلك، فأخبروه أنّ الوحوش صائمة، وقالوا: اذهب بنا نرك، فذهبوا به إلى روضة فأوقفوه. قال: فلمّا كان بعد العصر جاءت الوحوش من كلّ وجه، فأحاطت بالرّوضة رافعة رءوسها

(1)

أخرجه: عبد الرزاق (7835)، وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 187):«رجاله ثقات» .

(2)

«تاريخ بغداد» (6/ 296)، وهو موضوع، قال الحاكم:«وهو من الأحاديث التي وضعها قتلة الحسين» . وراجع: «الفوائد المجموعة» (ص 97 - 98)، وتعليق العلامة المعلمي.

(3)

أورده القرطبي في «تفسيره» (7/ 270)، والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (2/ 14).

ص: 100

ليس شيء منها يأكل، حتى إذا غابت الشمس أسرعت جميعا فأكلت. وبإسناده عن عبد الله بن عمرو، قال: بين الهند والصين أرض كان بها بطّة من نحاس، على عمود من نحاس، فإذا كان يوم عاشوراء مدّت منقارها، فيفيض من منقارها ماء يكفيهم لزروعهم ومواشيهم إلى العام المقبل.

ورئي بعض العلماء المتقدّمين في المنام فسئل عن حاله، فقال: غفر لي بصيام عاشوراء ستين سنة. وفي رواية: «ويوم قبله ويوم بعده» . وذكر عبد الوهاب الخفاف في «كتاب الصيام» ، قال سعيد: قال قتادة: كان يقال:

صوم عاشوراء كفّارة لما ضيّع الرّجل من زكاة ماله. وقد روي أنّ يوم عاشوراء كان يوم الزّينة الذي كان فيه ميعاد موسى لفرعون، وأنه كان عيدا لهم.

ويروى أنّ موسى عليه السلام كان يلبس فيه الكتّان ويكتحل فيه بالإثمد، وكان اليهود من أهل المدينة وخيبر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يتّخذونه عيدا، وكان أهل الجاهلية يقتدون بهم في ذلك، وكانوا يسترون فيه الكعبة. ولكن شرعنا ورد بخلاف ذلك. ففي «الصحيحين» عن أبي موسى، قال: كان يوم عاشوراء يوما تعظّمه اليهود وتتّخذه عيدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صوموه أنتم»

(1)

.

وفي رواية لمسلم: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء، يتخذونه عيدا، ويلبسون نساءهم فيه حليّهم وشارتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فصوموه أنتم»

(2)

.

وخرّجه النسائي وابن حبّان، وعندهما:«فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خالفوهم فصوموه»

(3)

. وهذا يدلّ على النّهي عن اتخاذه عيدا وعلى استحباب صيام

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 57)(2005)، ومسلم (3/ 150)(1131).

(2)

«الصحيح» : (3/ 150)(1131).

(3)

أخرجه: أحمد (4/ 409)، والنسائي في «الكبرى» (2861)، وابن حبان (3627).

ص: 101

أعياد الكفار؛ فإن الصّوم ينافي اتخاذه عيدا فيوافقون في صيامه مع صيام يوم آخر معه، كما تقدم. فإن في ذلك مخالفة لهم في كيفيّة صيامه أيضا، فلا يبقى فيه موافقة لهم في شيء بالكليّة. وعلى مثل هذا يحمل ما خرّجه الإمام أحمد، والنسائي، وابن حبّان من حديث أمّ سلمة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم السبت ويوم الأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول:«إنّهما يوما عيد للمشركين، فأنا أحبّ أن أخالفهم»

(1)

. فإنّه إذا صام اليومين معا خرج بذلك عن مشابهة اليهود والنصارى في تعظيم كلّ طائفة ليومها منفردا، وصيامه فيه مخالفة لهم في اتخاذه عيدا، ويجمع بذلك بين هذا الحديث وبين حديث النّهي عن صيام يوم السبت

(2)

.

وكلّ ما روي في فضل الاكتحال في يوم عاشوراء والاختضاب والاغتسال فيه، فموضوع لا يصحّ.

وأمّا الصّدقة فيه؛ فقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: من

(1)

أخرجه: أحمد (6/ 323 - 324). والنسائي في «الكبرى» (2789)، وابن حبان (3616)، (3646) وابن خزيمة (2167) والطبراني (23/ 616)، والحاكم (1/ 436)، والبيهقي (4/ 303).

وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 198): «رجاله ثقات» .

وذكر أبو داود أن هذا الحديث ناسخ لحديث النهي عن صيام السبت، والحديث صححه الحاكم أيضا.

وراجع: «الفتح» (10/ 362)، و «التلخيص» (2/ 413 - 414).

(2)

أخرجه: أحمد (4/ 189)، (6/ 368)، وأبو داود (2421)، والترمذي (744) وابن ماجه (1729)، والنسائي في «الكبرى» (2772 - 2784)، وابن حبان (3615). وابن خزيمة (2163)، والطبراني (24/ 818 - 821)، والحاكم (1/ 435) والبيهقي (4/ 302).

والحديث أنكره غير واحد من الحفاظ؛ فقال الإمام مالك: «هذا الحديث كذب» ، وقال النسائي:«هذا حديث مضطرب» .

وراجع: «التلخيص الحبير» (2/ 413 - 414).

ص: 102

صام عاشوراء فكأنما صام السّنة، ومن تصدّق فيه كان كصدقة السّنة. أخرجه أبو موسى المديني.

وأمّا التوسعة فيه على العيال؛ فقال حرب: سألت أحمد عن الحديث الذي جاء: «من وسّع على أهله يوم عاشوراء»

(1)

فلم يره شيئا. وقال ابن منصور:

قلت لأحمد: هل سمعت في الحديث «من وسّع على أهله يوم عاشوراء وسّع الله عليه سائر السّنة» ؟ فقال: نعم. رواه سفيان بن عيينة، عن جعفر الأحمر، عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر، وكان من أفضل أهل زمانه، أنّه بلغه أنّه من وسّع على عياله يوم عاشوراء وسّع الله عليه سائر سنته. قال ابن عيينة: جرّبناه منذ خمسين سنة أو ستين سنة فما رأينا إلا خيرا.

وقول حرب: «إنّ أحمد لم يره شيئا» إنّما أراد به الحديث الذي يروى مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنّه لا يصحّ إسناده. وقد روي من وجوه متعددة لا يصحّ منها شيء. وممّن قال ذلك محمد بن عبد الله بن عبد الحكم. وقال العقيليّ: هو غير محفوظ. وقد روي عن عمر من قوله، وفي إسناده مجهول لا يعرف.

وأما اتخاذه مأتما؛ كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما فيه، فهو من عمل من ضلّ سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنّه يحسن صنعا، ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيّام مصائب الأنبياء وموتهم مأتما، فكيف بمن دونهم.

(1)

أخرجه: الطبراني في الأوسط (9302)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 189):«رواه الطبراني في (الأوسط) وفيه محمد بن إسماعيل الجعفري، قال أبو حاتم: منكر الحديث» .

والحديث ذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» (1142).

ص: 103

‌ومن فضائل يوم عاشوراء

أنه يوم تاب الله فيه على قوم. وقد سبق حديث علي الذي خرّجه الترمذي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرّم؛ فإنّ فيه يوما تاب الله فيه على قوم ويتوب فيه على آخرين»

(1)

. وقد صحّ من حديث أبي إسحاق، عن الأسود بن يزيد، قال: سألت عبيد بن عمير عن صيام يوم عاشوراء، فقال: المحرّم شهر الله الأصمّ، فيه يوم تيب فيه على آدم، فإن استطعت ألاّ يمرّ بك إلاّ صمته فافعل. كذا روي عن شعبة، عن أبي إسحاق.

ورواه إسرائيل عن أبي إسحاق، ولفظه: قال: إنّ قوما أذنبوا فتابوا فيه فتيب عليهم، فإن استطعت ألاّ يمرّ بك إلاّ وأنت صائم فافعل.

ورواه يونس عن أبي إسحاق، ولفظه، قال: إنّ المحرّم شهر الله، وهو رأس السنة تكتب فيه الكتب، ويؤرّخ فيه التاريخ، وفيه يضرب الورق، وفيه يوم تاب فيه قوم فتاب الله عليهم، فلا يمرّ بك إلاّ صمته، يعني يوم عاشوراء.

وروى أبو موسى المديني من حديث أبي موسى مرفوعا: «هذا يوم تاب الله فيه على قوم، فاجعلوه صلاة وصوما» . يعني يوم عاشوراء. وقال: حسن غريب. وليس كما قال.

وروى بإسناده عن علي، قال: يوم عاشوراء هو اليوم الذي تيب فيه على قوم يونس. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: هو اليوم الذي تيب فيه على آدم.

وعن وهب أنّ الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: أن مر قومك يتقرّبوا إليّ في أوّل عشر المحرّم، فإذا كان يوم العاشر فليخرجوا إليّ حتى أغفر لهم. وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن رجل، عن عكرمة، قال: هو يوم تاب الله

(1)

«السنن» : (741)، وفي إسناده ضعف.

ص: 104

فيه على آدم، يوم عاشوراء

(1)

. وروى عبد الوهاب الخفّاف، عن سعيد، عن قتادة، قال: كنّا نتحدث أنّ اليوم الذي تيب فيه على آدم يوم عاشوراء، وأهبط فيه آدم إلى الأرض يوم عاشوراء

(2)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث علي: «ويتوب فيه على آخرين» حثّ للنّاس على تجديد التوبة النّصوح في يوم عاشوراء، وترجية لقبول التوبة ممّن تاب فيه إلى الله عز وجل من ذنوبه، كما تاب فيه على من قبلهم. وقد قال تعالى عن آدم:{فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 37].

وأخبر عنه وعن زوجه أنهما قالا: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار كتابا وقال فيه: قولوا كما قال أبوكم آدم عليه السلام: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} [الأعراف: 23]. وقولوا كما قال نوح: {وَإِلاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ} [هود: 47]. وقولوا كما قال موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، وقولوا كما قال ذو النون:{لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].

اعتراف المذنب بذنبه مع النّدم عليه توبة مقبولة. قال عز وجل: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التّوبة: 102]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ العبد إذا اعترف بذنبه ثمّ تاب تاب الله عليه»

(3)

.

(1)

«المصنف لعبد الرزاق» : (7852)، وفي إسناده رجل لم يسم كما هو ظاهر.

(2)

«الدر المنثور» (1/ 142).

(3)

أخرجه: البخاري (5/ 152)(2661)، ومسلم (8/ 116)(2770) من حديث الإفك الطويل.

ص: 105

وفي دعاء الاستفتاح الذي كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستفتح به: «اللهمّ أنت ربّي لا إله إلاّ أنت، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي إنّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت»

(1)

. وفي الدّعاء الذي علّمه النبيّ صلى الله عليه وسلم للصدّيق أن يقوله في صلاته:

«اللهمّ إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذّنوب إلاّ أنت؛ فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنّك أنت الغفور الرّحيم»

(2)

.

وفي حديث شداد بن أوس، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«سيّد الاستغفار أن يقول العبد: اللهمّ أنت ربّي لا إله إلاّ أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرّ ما صنعت، أبوء بنعمتك عليّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنّه لا يغفر الذّنوب إلا أنت»

(3)

. الاعتراف يمحو الاقتراف، كما قيل:

فإنّ اعتراف المرء يمحو اقترافه

كما أنّ إنكار الذّنوب ذنوب

لمّا أهبط آدم من الجنّة بكى على تلك المعاهد - فيما يروى - ثلاثمائة عام، وحقّ له ذلك. كان في دار لا يجوع فيها ولا يعرى، ولا يظمأ فيها ولا يضحى، فلمّا نزل إلى الأرض أصابه ذلك كلّه، فكان إذا رأى جبريل عليه السلام يتذكّر برؤيته تلك المعاهد، فيشتدّ بكاؤه حتّى يبكي جبريل عليه السلام لبكائه، ويقول له: ما هذا البكاء يا آدم؟ فيقول: وكيف لا أبكي وقد أخرجت من دار النّعمة إلى دار البؤس. فقال له بعض ولده: لقد آذيت أهل الأرض

(1)

أخرجه: مسلم (2/ 185)(771)، وأبو داود (760)، والترمذي (3421) والنسائي (896) وأحمد (1/ 94)(729).

(2)

متفق عليه: البخاري (2/ 211 - 212)(834)، ومسلم (2705).

(3)

أخرجه: البخاري (8/ 83)(6306)، وأحمد (125، 4/ 122)، والنسائي (8/ 279)، والترمذي (3393).

ص: 106

ببكائك، فقال: إنّما أبكي على أصوات الملائكة حول العرش. وفي رواية، قال: إنّما أبكي على جوار ربّي في دار تربتها طيبة، أسمع فيها أصوات الملائكة. وفي رواية، قال: أبكي على دار لو رأيتها لزهقت نفسك شوقا إليها.

وروي أنّه قال لولده: كنّا نسلا من نسل السّماء، خلقنا كخلقهم، وغذّينا بغذائهم، فسبانا عدوّنا إبليس؛ فليس لنا فرح ولا راحة إلا الهمّ والعناء حتى نردّ إلى الدّار التي أخرجنا منها.

فحيّ على جنّات عدن فإنّها

منازلك الأولى وفيها المخيّم

ولكنّنا سبي العدوّ فهل ترى

نعود إلى أوطاننا ونسلّم

لمّا التقى آدم وموسى عليه السلام عاتب موسى آدم على إخراجه نفسه وذريّته من الجنّة، فاحتجّ آدم بالقدر السّابق. والاحتجاج بالقدر على المصائب حسن، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إن أصابك شيء فلا تقل لو أنّي فعلت كذا كان كذا، ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل»

(1)

.

والله لولا سابق الأقدار

لم تبعد قط داركم عن داري

من قبل النأي جرية المقدار

هل يمحو العبد ما قضاه الباري

لمّا ظهرت فضائل آدم عليه السلام على الخلائق بسجود الملائكة له، وبتعليمه أسماء كلّ شيء وإخباره الملائكة بها، وهم يستمعون له كاستماع المتعلّم من معلّمه، حتى أقرّوا بالعجز عن علمه، وأقرّوا له بالفضل، وأسكن هو وزوجه الجنّة، ظهر الحسد من إبليس وسعى في الأذى، وما زالت الفضائل إذا ظهرت تحسد.

(1)

أخرجه: مسلم (8/ 56)(2664).

ص: 107

لا مات حسّادك بل خلّدوا

حتّى يروا منك الذي يكمد

لا زلت محسودا على نعمة

فإنّما الكامل من يحسد

فما زال يحتال على آدم حتى تسبّب في إخراجه من الجنة، وما فهم الأبله أنّ آدم إذا خرج منها كملت فضائله، ثم عاد إلى الجنّة على أكمل من حاله الأوّل. إنما أهلك إبليس العجب بنفسه، ولذلك قال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} [الأعراف: 12]. وإنما كملت فضائل آدم باعترافه على نفسه {قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا} [الأعراف: 23]. كان إبليس كلّما أوقد نار الحسد لآدم فاح بها ريح طيب آدم واحترق إبليس.

وإذا أراد الله نشر فضيلة

طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النّار فيما جاورت

ما كان يعرف طيب عرف العود

قال بعض السّلف: آدم أخرج من الجنّة بذنب واحد، وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها، وتريدون أن تدخلوا بها الجنّة!

تصل الذّنوب إلى الذّنوب وترتجي

درج الجنان بها وفوز العابد

ونسيت أنّ الله أخرج آدما

منها إلى الدّنيا بذنب واحد

احذروا هذا العدوّ الذي أخرج أباكم من الجنة؛ فإنّه ساع في منعكم من العود إليها بكل سبيل، والعداوة بينكم وبينه قديمة؛ فإنّه ما أخرج من الجنة وطرد عن الخدمة إلاّ بسبب تكبّره على أبيكم وامتناعه من السجود له لمّا أمر به. وقد أبلس من الرّحمة وأيس من العود إلى الجنّة، وتحقّق خلوده في النّار، فهو يجتهد على أن يخلّد معه في النّار بني آدم؛ بتحسين الشرك؛ فإن عجز قنع بما دونه من الفسوق والعصيان، وقد حذّركم مولاكم منه، وقد أعذر من

ص: 108

أنذر، فخذوا حذركم {يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27].

العجب ممّن عرف ربّه ثم عصاه، وعرف الشيطان ثم أطاعه، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50].

رعى الله من نهوى وإن كان ما رعى

حفظنا له العهد القديم فضيّعا

وصاحبت قوما كنت أنهاك عنهم

وحقك ما أبقنيت للصلح موضعا

لمّا أهبط آدم إلى الأرض وعد العود إلى الجنّة هو ومن آمن من ذريّته واتبع الرّسل {يا بَنِي آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35]. فليبشّر المؤمنون بالجنّة، هي إقطاعهم، وقد وصل منشور الإقطاع مع جبريل إلى محمد عليهما السلام {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} [البقرة: 25].

إنّما خرج الإقطاع عمّن خرج عن الطاعة، فأمّا من تاب وآمن فالإقطاع مردود عليه. المؤمنون في دار الدنيا في سفر جهاد، يجاهدون فيه النفوس والهوى، فإذا انقضى سفر الجهاد عادوا إلى وطنهم الأوّل الذي كانوا فيه في صلب أبيهم. تكفّل الله للمجاهد في سبيله أن يردّه إلى وطنه بما نال من أجر أو غنيمة.

وصلت إليكم معشر الأمّة رسالة من أبيكم إبراهيم مع نبيّكم محمد عليهما السلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي إبراهيم، فقال:

يا محمد، أقرئ أمّتك مني السّلام، وأخبرهم أنّ الجنّة عذبة الماء، طيبة

ص: 109

التّربة، وأنها قيعان، وأنّ غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر»

(1)

.

وخرّج النسائي، والترمذي، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«من قال سبحان الله العظيم وبحمده، غرست له نخلة في الجنة»

(2)

. وخرّج ابن ماجه، عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:«من قال سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، يغرس لك بكلّ واحدة شجرة في الجنة»

(3)

. وخرّجه الطبراني من حديث ابن عباس مرفوعا

(4)

. وخرجه ابن أبي الدنيا من حديث أبي هريرة مرفوعا: «من قال سبحان الله العظيم بني له برج في الجنة» . وروي موقوفا

(5)

.

وعن الحسن، قال: الملائكة يعملون لبني آدم في الجنان يغرسون ويبنون، فربّما أمسكوا، فيقال لهم: قد أمسكتم؟! فيقولون: حتى تأتينا النفقات. قال الحسن: فابعثوهم - بأبي أنتم وأمي - على العمل. وقال بعض السّلف:

بلغني أنّ دور الجنّة تبنى بالذّكر، فإذا أمسك عن الذّكر أمسكوا عن البناء، فيقال لهم، فيقولون: حتى تأتينا نفقة.

أرض الجنة اليوم قيعان والأعمال الصّالحة لها عمران، بها تبنى القصور وتغرس أرض الجنان، فإذا تكامل الغراس والبنيان انتقل إليه السكّان. رأى بعض الصالحين في منامه قائلا يقول له: قد أمرنا بالفراغ من بناء دارك،

(1)

أخرجه: الترمذي (3462)، وقال: حسن غريب، والطبراني (2480) رقم (10363)، وفي «الأوسط» (4170)، وفي «الصغير» (539). وحسنه الألباني في «الصحيحة» (105).

(2)

أخرجه: الترمذي (3465، 3464). وصححه الألباني في «الصحيحة» (64).

(3)

«السنن» : (3807).

(4)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» . (8475).

(5)

«التاريخ الكبير» للبخاري (3/ 522)(1750).

ص: 110

واسمها دار السّرور، فأبشر؛ فقد أمرنا بتنجيدها وتزيينها والفراغ منها إلى سبعة أيام. فلمّا كان بعد سبعة أيام مات، فرئي في المنام فقال: أدخلت دار السرور، فلا تسأل عمّا فيها. لم ير مثل الكريم إذا حلّ به مطيع.

رأى بعضهم كأنّه أدخل الجنّة وعرض عليه منازله وأزواجه، فلمّا أراد أن يخرج تعلّق به أزواجه، وقالوا: بالله حسّن عملك، فكلّما حسّنت عملك ازددنا نحن حسنا.

العاملون اليوم يسلفون رءوس أموال الأعمال فيما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين، إلى أجل يوم المزيد في سوق الجنة، فإذا حلّ الأجل دخلوا السّوق فحملوا منه ما شاءوا بغير نقد ثمن، على قدر ما سلف من تعجيل رأس مال السلف، لكن بغير مكيال ولا ميزان.

فيا من عزم أن يسلف اليوم إلى ذلك الموسم، عجّل بقبض رأس المال، فإن تأخير التقبيض يفسد العقد.

فلله ذاك السوق الّذي هو موعد المزيد

لوفد الحبّ لو كنت منهم

فما شئت خذ منه بلا ثمن له

فقد أسلف التّجّار فيه وأسلموا

وفي الحديث: «إنّ الجنّة تقول: يا ربّ، ائتني بأهلي وبما وعدتني؛ فقد كثر حريري وإستبرقي وسندسي ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وأباريقي وخمري وعسلي ولبني، فائتني بأهلي وبما وعدتني»

(1)

.

وفي الحديث أيضا: «من سأل الله الجنة شفعت له الجنّة إلى ربّها وقالت:

(1)

أخرجه: الطبري في «تفسيره» ، والبزار في «مسنده» وهو حديث منكر، استنكره الذهبي وابن كثير وابن حجر.

وراجع: «ضعيف الترغيب والترهيب» ، و «فتح الباري» (1/ 462).

ص: 111

اللهم أدخله الجنّة»

(1)

. وفي الحديث أيضا: «إنّ الجنة تفتح في كلّ سحر، ويقال لها: ازدادي طيبا لأهلك، فتزداد طيبا، فذلك البرد الذي يجده النّاس في السّحر»

(2)

.

قلوب العارفين تستنشق أحيانا نسيم الجنة. قال أنس بن النّضر يوم أحد:

واها لريح الجنّة، والله إني لأجد ريح الجنّة من قبل أحد، ثم تقدّم فقاتل حتّى قتل.

تمرّ الصّبا صفحا بساكن ذي الغضا

ويصدع قلبي أن يهبّ هبوبها

قريبة عهد بالحبيب وإنّما

هوى كلّ نفس أين حلّ حبيبها

كم لله من لطف وحكمة في إهباط آدم إلى الأرض، لولا نزوله لما ظهر جهاد المجاهدين واجتهاد العابدين المجتهدين، ولا صعدت زفرات أنفاس التائبين، ولا نزلت قطرات دموع المذنبين.

يا آدم، إن كنت أهبطت من دار القرب فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني، إن كان حصل لك بالإخراج من الجنّة كسر، فأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، إن كان فاتك في السماء سماع زجل المسبّحين، فقد تعوّضت في الأرض بسماع أنين المذنبين. أنين المذنبين أحبّ إلينا من زجل المسبّحين.

زجل المسبّحين ربما يشوبه الافتخار، وأنين المذنبين يزينه الانكسار. «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم»

(3)

.

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 208) والترمذي (2575)، والنسائي (8/ 279)، وابن ماجه (4340). وصححه الألباني في «تخريج المشكاة» (2478).

(2)

أخرجه: الطبراني في «المعجم الصغير» (1/ 32) من حديث جابر بن عبد الله مرفوعا، بإسناد ضعيف.

وروي موقوفا على شمر بن عطية، أخرجه الطبري في «التفسير» (16/ 38).

(3)

أخرجه: مسلم (8/ 94)(2749).

ص: 112

سبحان من إذا لطف بعبده في المحن قلبها منحا، وإذا خذل عبدا لم ينفعه كثرة اجتهاده، وعاد عليه وبالا. لقّن آدم حجّته وألقي إليه ما يتقبّل به توبته، {فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37].

وطرد إبليس بعد طول خدمته فصار عمله هباء منثورا، {قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر: 34 - 35]. إذا وضع عدله على عبد لم تبق له حسنة، وإذا بسط فضله على عبد لم تبق له سيئة.

يعطي ويمنع من يشاء كما يشا

وهباته ليست تقارنها الرّشا

لمّا ظهر فضل آدم على الخلائق بالعلم، وكان العلم لا يكمل بدون العمل بمقتضاه، والجنّة ليست دار عمل ومجاهدة، وإنّما هي دار نعيم ومشاهدة، قيل له: يا آدم، اهبط إلى رباط الجهاد، وصابر جنود الهوى بالجدّ والاجتهاد، وأذر دموع الأسف على البعاد، وكأنّك بالعيش الماضي وقد عاد على أكمل من ذلك الوجه المعتاد.

عودوا إلى الوصل عودوا

فالهجر صعب شديد

لو ذاق طعم الفراق رضوى

لكاد من وجده يميد

قد حمّلوني عذاب شوق

يعجز عن حمله الحديد

قلت وقلبي أسير وجد

متيّم في الجفا عميد

أنتم لنا في الهوى موال

ونحن في أسركم عبيد

ص: 113

‌المجلس الثالث في قدوم الحاج

في «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من حجّ هذا البيت فلم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمّه»

(1)

.

مباني الإسلام الخمس؛ كلّ واحد منها يكفّر الذنوب والخطايا ويهدمها، فلا إله إلاّ الله لا تبقي ذنبا ولا يسبقها عمل؛ والصّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفّرات لما بينهنّ ما اجتنبت الكبائر

(2)

؛ والصّدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النّار

(3)

؛ والحجّ الذي لا رفث فيه ولا فسوق، يرجع صاحبه من ذنوبه كيوم ولدته أمّه.

وقد استنبط معنى هذا الحديث من القرآن طائفة من العلماء، وتأوّلوا قول الله تعالى عز وجل:{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى} [البقرة: 203]، بأنّ من قضى نسكه ورجع منه فإنّ آثامه تسقط عنه إذا اتّقى الله عز وجل في أداء نسكه، وسواء نفر في اليوم الأوّل من يومي النّفر متعجّلا، أو تأخّر إلى اليوم الثاني.

(1)

متفق عليه: البخاري (2/ 464)(1521)، ومسلم (4/ 170)(1350).

(2)

أخرجه: مسلم (1/ 144)(233)، وأحمد (484، 414، 400، 2/ 359) وابن ماجه (1086) وابن خزيمة (1814، 314).

(3)

أخرجه: أحمد (5/ 231)، وابن ماجه (4210)، والترمذي (614)(2616).

ص: 114

وفي «مسند أبي يعلى الموصلي» عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من قضى نسكه، وسلم المسلمون من لسانه ويده، غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر»

(1)

.

وفي «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«الحجّ المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنّة»

(2)

. وفي «صحيح مسلم» عنه صلى الله عليه وسلم، قال:«الحجّ يهدم ما قبله» .

(3)

فالحجّ المبرور يكفّر السيئات ويوجب دخول الجنّات، وقد روي أنّه صلى الله عليه وسلم سئل عن برّ الحجّ، فقال:«إطعام الطعام، وطيب الكلام»

(4)

.

فالحجّ المبرور ما اجتمع فيه فعل أعمال البرّ مع اجتناب أعمال الإثم، فما دعا الحاجّ لنفسه ولا دعا له غيره بأحسن من الدّعاء بأن يكون حجّه مبرورا.

ولهذا يشرع للحاج إذا فرغ من أعمال حجّه وشرع في التحلّل من إحرامه برمي جمرة العقبة يوم النّحر أن يقول: اللهم اجعله حجّا مبرورا، وسعيا مشكورا، وذنبا مغفورا. روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر من قولهما، وروي عنهما مرفوعا. وكذلك يدعى للقادم من الحج بأن يجعل الله حجّه مبرورا.

وفي الأثر أن آدم عليه السلام لمّا حجّ البيت وقضى نسكه أتته الملائكة، فقالوا له: يا آدم، برّ حجّك، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. وكذلك كان السّلف يدعون لمن رجع من حجّه. لمّا حجّ خالد الحذّاء ورجع، قال له أبو قلابة: برّ العمل. معناه: جعل الله عملك مبرورا. للحجّ المبرور علامات لا تخفى.

(1)

أخرجه: عبد بن حميد (1150)، والعقيلي في «الضعفاء» (2/ 274)، وابن عدي في «الكامل» (2/ 220) من حديث جابر رضي الله عنه وإسناده ضعيف.

(2)

أخرجه: البخاري (1773)، ومسلم (4/ 107)(1349)، وأحمد (334، 3/ 325).

(3)

أخرجه: مسلم (1/ 78)(121).

(4)

أخرجه: أحمد (334، 3/ 325)، والحاكم (1/ 658)(1778)، والطبراني في «الأوسط» (8/ 203)(8405) وفي إسناده ضعف، وقال الحافظ في «الفتح» (382/ 3):«ضعيف» . وقال الهيثمي (3/ 207): «إسناده حسن» .

ص: 115

قيل للحسن: الحجّ المبرور جزاؤه الجنة. قال: آية ذلك أن يرجع زاهدا في الدنيا، راغبا في الآخرة. وقيل له: جزاء الحجّ المغفرة. قال: آية ذلك أن يدع سيّئ، ما كان عليه من العمل. الحجّ المبرور مثل حجّ إبراهيم بن أدهم مع رفيقه الرّجل الصّالح الذي صحبه من بلخ، فرجع من حجّه زاهدا في الدنيا، راغبا في الآخرة، وخرج عن ملكه وماله وأهله وعشيرته وبلاده، واختار بلاد الغربة، وقنع بالأكل من عمل يده؛ إمّا من الحصاد، أو من نظارة البساتين.

حجّ مرّة مع جماعة من أصحابه، فشرط عليهم في ابتداء السّفر ألاّ يتكلّم أحدهم إلا لله، ولا ينظر إلا له. فلمّا وصلوا وطافوا بالبيت رأوا جماعة من أهل خراسان في الطّواف معهم غلام جميل قد فتن النّاس بالنظر إليه، فجعل إبراهيم يسارقه النظر ويبكي، فقال له بعض أصحابه: يا أبا إسحاق، ألم تقل لنا لا ننظر إلا لله؟ فقال: ويحك! هذا ولدي، وهؤلاء خدمي وحشمي، [ثم أنشد]

(1)

:

هجرت الخلق طرّا في هواكا

وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطّعتني في الحبّ إربا

لما حنّ الفؤاد إلى سواكا

قال بعض السّلف: استلام الحجر الأسود هو أن لا يعود إلى معصية. يشير إلى ما قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما: أنّ الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن استلمه وصافحه فكأنّما صافح الله وقبّل يمينه

(2)

. وقال عكرمة: الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن لم يدرك بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح الرّكن فقد بايع الله ورسوله.

وورد في حديث أنّ الله لمّا استخرج من ظهر آدم ذرّيّته وأخذ عليهم

(1)

من «ص» .

(2)

أورده عبد الرزاق (5/ 39)(8919) عن جابر بن عبد الله مرفوعا، وضعّفه ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 575).

ص: 116

الميثاق، كتب ذلك العهد في رقّ، ثم استودعه هذا الحجر، فمن ثمّ يقول من يستلمه: وفاء بعهدك. فمستلم الحجر يبايع الله على اجتناب معاصيه، والقيام بحقوقه {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 10].

يا معاهدينا على التّوبة، بيننا وبينكم عهود أكيدة، أوّلها: يوم {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172]؟ فقلتم: بلى. والمقصود الأعظم من هذا العهد {أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ} [يوسف: 40]. وتمام العمل بمقتضاه أن اتّقوا الله حقّ تقواه.

وثانيها: يوم أرسل إليكم رسوله وأنزل عليه في كتابه {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40].

قال سهل التّستريّ: من قال لا إله إلاّ الله فقد بايع الله، فحرام عليه إذا بايعه أن يعصيه في شيء من أمره، في السر والعلانية، أو يوالي عدوّه، أو يعادي وليّه.

يا بني الإسلام من علّمكم

بعد إذ عاهدتم نقض العهود

كلّ شيء في الهوى مستحسن

ما خلا الغدر وإخلاف الوعود

وثالثها: لمن حجّ إذا استلم الحجر فإنّه يجدّد البيعة، ويلتزم الوفاء بالعهد المتقدّم، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: الآية 23].

الحرّ الكريم لا ينقض العهد القديم.

أحسبتم أنّ الليالي غيّرت

عقد الهوى لا كان من يتغيّر

يفنى الزّمان وليس ننسى عهدكم

وعلى محبّتكم أموت وأحشر

إذا دعتك نفسك إلى نقض عهد مولاك فقل لها: {مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ} [يوسف: 23].

اجتاز بعضهم على منظور مشتهى، فهمّت عينه أن تمتدّ، فصاح:

ص: 117

حلفت بدين الحبّ لا خنت عهدكم

وذلك عهد لو عرفت وثيق

تاب بعض من تقدّم، ثم نقض، فهتف به هاتف بالليل:

سأترك ما بيني وبينك واقفا

فإن عدت عدنا والوداد مقيم

تواصل قوما لا وفاء لعهدهم

وتترك مثلي والحفاظ قديم

من تكرّر منه نقض العهد لم يوثق بمعاهدته؛ دخل بعض السّلف على مريض مكروب فقال له: عاهد الله على التّوبة لعلّه أن يقيلك صرعتك. فقال:

كنت كلّما مرضت عاهدت الله على التّوبة فيقيلني، فلمّا كان هذه المرّة ذهبت أعاهد كما كنت أعاهد، فهتف بي هاتف من ناحية البيت: قد أقلناك مرارا فوجدناك كذّابا، ثم مات عن قريب.

لا كان من نقض العهد من كان

ما ينقض العهد إلاّ خوّان

ترى الحيّ الألى بانوا

على العهد كما كانوا

أم الدّهر بهتم خانا

ودهر المرء خوّان

إذا عزّ بغير اللّ

هـ يوما معشر هانوا

من رجع من الحجّ فليحافظ على ما عاهد الله عليه عند استلام الحجر. حجّ بعض من تقدّم فبات بمكّة مع قوم، فدعته نفسه إلى معصية، فسمع هاتفا يقول: ويلك! ألم تحجّ؟ فعصمه الله من ذلك. قبيح بمن كمّل القيام بمباني الإسلام الخمس أن يشرع في نقض ما بنى بالمعاصي. في حديث مرسل خرّجه ابن أبي الدنيا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «يا فلان، إنّك تبني وتهدم»

(1)

، يعني تعمل الحسنات والسيئات. فقال: يا رسول الله، سوف أبني ولا أهدم.

خذ في جدّ فقد تولّى العمر

كم ذا التّفريط قد تدانى الأمر

أقبل فعسى يقبل منك العذر

كم تبني كم تنقض كم ذا الغدر

(1)

أورده الديلمي في «الفردوس بمأثور الخطاب» (5/ 381)(8494).

ص: 118

علامة قبول الطّاعة أن توصل بطاعة بعدها، وعلامة ردها أن توصل بمعصية. ما أحسن الحسنة بعد الحسنة، وأقبح السيئة بعد الحسنة!! ذنب بعد التّوبة أقبح من سبعين قبلها. النّكسة أصعب من المرض الأوّل. ما أوحش ذلّ المعصية بعد عزّ الطاعة! ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذلّ، وغنيّ قوم بالذّنوب افتقر. سلوا الله الثبات إلى الممات، وتعوّذوا من الحور بعد الكور. كان الإمام أحمد يدعو يقول: اللهمّ أعزّني بطاعتك ولا تذلّني بمعصيتك.

وكان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم: اللهم انقلني من ذلّ المعصية إلى عزّ الطاعة. وفي بعض الآثار الإلهية: يقول الله: أنا العزيز، فمن أراد العزّ فليطع العزيز.

ألا إنّما التّقوى هي العزّ والكرم

وحبّك للدّنيا هو الذّلّ والسّقم

وليس على عبد تقيّ نقيصة

إذا حقّق التّقوى وإن حاك أو حجم

الحاج إذا كان حجّه مبرورا غفر له ولمن استغفر له، وشفّع فيمن شفّع فيه.

وقد روي أنّ الله تعالى يقول لهم يوم عرفة: «أفيضوا مغفورا لكم ولمن شفعتم فيه» . وروى الإمام أحمد بإسناده عن أبي موسى الأشعري، قال:«إن الحاجّ ليشفع في أربعمائة بيت من قومه، ويبارك في أربعين من أمّهات البعير الذي يحمله، ويخرج من خطاياه كيوم ولدته أمّه، فإذا رجع من الحجّ المبرور، رجع وذنبه مغفور، ودعاؤه مستجاب»

(1)

. فلذلك يستحبّ تلقيه والسّلام عليه وطلب الاستغفار منه. وتلقي الحاج مسنون.

وفي «صحيح مسلم» ، عن عبد الله بن جعفر، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قدم من

(1)

أخرجه: البزار (3197) وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 211): «رواه البزار وفيه من لم يسم» .

ص: 119

سفر تلقي بصبيان أهل بيته، وإنه قدم من سفر فسبق بي إليه، فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني فاطمة، فأردفه خلفه، فأدخلنا المدينة، ثلاثة على دابّة

(1)

.

وقد ورد النهي عن ركوب ثلاثة على دابة في حديث مرسل، فإن صحّ حمل على ركوب ثلاثة رجال، فإنّ الدّابة يشقّ عليها حملهم بخلاف رجل وصغيرين.

وفي «المسند» و «صحيح الحاكم» ، عن عائشة، قالت: أقبلنا من مكّة في حجّ أو عمرة، فتلقانا غلمان من الأنصار كانوا يتلقّون أهاليهم إذا قدموا

(2)

.

وكذلك السّلام على الحاج إذا قدم ومصافحته، وطلب الدعاء منه.

وفي «المسند» بإسناد فيه ضعف، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا لقيت الحاجّ فسلّم عليه، وصافحه، ومره أن يستغفر لك قبل أن يدخل بيته؛ فإنّه مغفور له»

(3)

. وفيه أيضا عن حبيب بن أبي ثابت، قال: خرجت مع أبي نتلقّى الحاجّ ونسلّم عليهم قبل أن يتدنّسوا.

وروى معاذ بن الحكم، قال: حدثنا موسى بن أعين، عن الحسن، قال: إذا خرج الحاج فشيّعوهم وزوّدوهم الدعاء، وإذا قفلوا فالقوهم وصافحوهم قبل أن يخالطوا الذّنوب؛ فإنّ البركة في أيديهم. وروى أبو الشيخ الأصبهانيّ وغيره من رواية ليث، عن مجاهد، قال: قال عمر: يغفر للحاج ولمن استغفر له الحاجّ بقيّة ذي الحجّة، ومحرّم، وصفر، وعشر من ربيع الأول

(4)

. وفي «مسند البزار» و «صحيح الحاكم» من حديث أبي هريرة مرفوعا: «اللهم اغفر للحاجّ، ولمن استغفر له الحاج»

(5)

.

(1)

أخرجه: مسلم (7/ 132)(2428).

(2)

أخرجه: أحمد (4/ 352)، والحاكم (1/ 488).

(3)

أخرجه: أحمد (128، 2/ 69).

(4)

أخرجه: ابن أبي شيبة (12657).

(5)

أخرجه: الحاكم (1/ 41)، وإسناده ضعيف. وراجع:«نصب الراية» (3/ 84).

ص: 120

وروى أبو معاوية الضّرير، عن حجاج، عن الحكم، قال: قال ابن عباس:

لو يعلم المقيمون ما للحاج عليهم من الحقّ لأتوهم حين يقدمون حتّى يقبّلوا رواحلهم؛ لأنهم وفد الله في جميع الناس. ما للمنقطع حيلة سوى التعلّق بأذيال الواصلين.

هل الدّهر يوما بوصل يجود

وأيّامنا باللّوى هل تعود

زمان تقضّى وعيش مضى

بنفسي والله تلك العهود

ألا قل لزوّار دار الحبيب

هنيئا لكم في الجنان الخلود

أفيضوا علينا من الماء فيضا

فنحن عطاش وأنتم ورود

أحبّ ما إلى المحبّ سؤال من قدم من ديار الحبيب.

عارضا بي ركب الحجاز أسائل

هـ متى عهده بأيّام سلع

واستملاّ حديث من سكن الخي

ف ولا تكتباه إلاّ بدمعي

فإنني أن أرى الدّيار بطرفي

فلعلّي أرى الدّيار بسمعي

من معيد أيّام جمع على ما

كان منها وأين أيّام جمعي

لقاء الأحباب لقاح الألباب، وأخبار تلك الديار أحلى عند المحبين من الأسمار.

إذا قدم الرّكب يمّمتهم

أحيّي الوجوه قدوما ووردا

وأسألهم عن عقيق الحمى

وعن أرض نجد ومن حلّ نجدا

حدّثوني عن العقيق حديثا

أنتم بالعقيق أقرب عهدا

ألا هل سمعتم ضجيج الحجيج

على ساحة الخيف والعيس تحدا

فذكر المشاعر والمروتين

وذكر الصّفا يطرد الهمّ طردا

أرواح القبول تفوح من المقبولين، وأنوار الوصول تلوح على الواصلين.

ص: 121

تفوح أرواح نجد من ثيابهم

عند القدوم لقرب العهد بالدّار

أهفوا إلى الرّكب تعلو لي ركائبهم

من الحمى في أسيحاق وأطمار

يا راكبان قفا لي واقضيا وطري

وحدّثاني عن نجد بأخبار

ما يؤهّل للإكثار من التردّد إلى تلك الآثار إلاّ محبوب مختار.

حجّ عليّ بن الموفّق ستين حجّة، قال: فلما كان بعد ذلك جلست في الحجر أفكّر في حالي وكثرة تردادي إلى ذلك المكان، ولا أدري هل قبل منّي حجّي أم ردّ. ثم نمت فرأيت في منامي قائلا يقول لي: هل تدعو إلى بيتك إلاّ من تحبّ؟ قال: فاستيقظت وقد سرّي عني. ما كلّ من حجّ قبل، ولا كلّ من صلّى وصل. قيل لابن عمر: ما أكثر الحاجّ! فقال: ما أقلّهم! وقال: الرّكب كثير، والحاجّ قليل.

حجّ بعض المتقدمين فتوفي في الطريق في رجوعه، فدفنه أصحابه ونسوا الفأس في قبره، فنبشوه ليأخذوا الفأس، فإذا عنقه ويداه قد جمعت في حلقة الفأس، فردّوا عليه التراب، ثمّ رجعوا إلى أهله فسألوهم عن حاله، فقالوا:

صحب رجلا فأخذ ماله، فكان يحجّ منه.

إذا حججت بمال أصله سحت

فما حججت ولكن حجّت العير

لا يقبل الله إلاّ كلّ صالحة

ما كلّ من حجّ بيت الله مبرور

من حجّه مبرور قليل، ولكن قد يوهب المسيء للمحسن. وقد روي أنّ الله تعالى يقول عشيّة عرفة:«قد وهبت مسيئكم لمحسنكم» .

حجّ بعض المتقدمين، فنام ليلة، فرأى ملكين نزلا من السّماء، فقال أحدهما للآخر: كم حجّ العام؟ قال: ستمائة ألف، فقال له: كم قبل منهم؟ قال: ستة، قال: فاستيقظ الرّجل وهو قلق ممّا رأى. فرأى في الليلة الثانية

ص: 122

كأنّهما نزلا وأعادا القول، وقال أحدهما: إنّ الله وهب لكلّ واحد من الستة مائة ألف. كان بعض السّلف يقول في دعائه: اللهم إن لم تقبلني فهبني لمن شئت من خلقك.

من ردّ عليه عمله ولم يقبل منه فقد يعوّض ما يعوّض المصاب، فيرحم بذلك. قال بعض السّلف في دعائه بعرفة: اللهم إن كنت لم تقبل حجّي وتعبي ونصبي، فلا تحرمني أجر المصيبة على تركك القبول مني. وقال آخر منهم:

اللهم ارحمني؛ فإنّ رحمتك قريب من المحسنين، فإن لم أكن محسنا فقد قلت:{وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 43]، فإن لم أكن كذلك فأنا شيء، وقد قلت:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156]، فإن لم أكن شيئا فأنا مصاب بردّ عملي وتعبي ونصبي، فلا تحرمني ما وعدت المصاب من الرّحمة. قال هلال بن يساف: بلغني أنّ المسلم إذا دعا الله فلم يستجب له كتب له حسنة. خرّجه ابن أبي شيبة

(1)

. يعني جزاء لمصيبة ردّه.

ومن كان في سخطه محسنا

فكيف يكون إذا ما رضي

قدوم الحاجّ يذكّر بالقدوم على الله عز وجل.

قدم مسافر فيما مضى على أهله، فسرّوا به، وهناك امرأة من الصّالحات، فبكت وقالت: أذكرني هذا بقدومه القدوم على الله عز وجل، فمن مسرور ومثبور. قال بعض الملوك لأبي حازم: كيف القدوم على الله؟ فقال أبو حازم: أمّا قدوم الطّائع على الله فكقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه، وأمّا قدوم العاصي فكقدوم الآبق على سيّده الغضبان.

(1)

«المصنف» (6/ 22)(29172)، والبيهقي في «الشعب» (2/ 49)(1132)، والخطيب (12/ 205).

ص: 123

لعلّك غضبان وقلبي غافل

سلام على الدّارين إن كنت راضيا

في بعض الآثار الإسرائيلية: يقول الله عز وجل: ألا طال شوق الأبرار إليّ، وأنا إلى لقائهم أشدّ شوقا. كم بين الذين {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103] وبين الذين {يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطّور: 13]. قال علي رضي الله عنه: تتلقّاهم الملائكة على أبواب الجنة {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ} [الزّمر:

73]. ويلقى كلّ غلمان صاحبهم يطيفون به فعل الولدان بالحميم جاء من الغيبة، أبشر فقد أعدّ الله لك من الكرامة كذا وكذا، وينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين، فيقول: هذا فلان - باسمه في الدنيا - فيقلن:

أنت رأيته؟ فيقول: نعم. فيستخفّهنّ الفرح حتى يخرجن إلى أسكفّة الباب.

قال أبو سليمان الدارانيّ: تبعث الحوراء من الحور الوصيف من وصائفها، فتقول: ويحك! انظر ما فعل بوليّ الله، فتستبطئه فتبعث وصيفا آخر، فيأتي الأوّل فيقول: تركته عند الميزان، ويأتي الثاني فيقول: تركته عند الصّراط، ويأتي الثالث فيقول: قد دخل باب الجنة، فيستقبلها

(1)

الفرح فتقف على باب الجنة، فإذا أتاها اعتنقته، فيدخل خياشيمه من ريحها ما لا يخرج أبدا.

قد أزلفت جنّة النّعيم فيا

طوبى لقوم بربعها نزلوا

أكوابها عسجد يطاف بها

والخمر والسلسبيل والعسل

والحور تلقاهم وقد كشفت

عن الوجوه بها الأستار والكلل

***

(1)

في ص، أ:«فيستقلها» .

ص: 124

‌وظيفة شهر صفر

في «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا عدوى ولا هامة ولا صفر»

(1)

. فقال أعرابي: يا رسول الله، فما بال الإبل تكون في الرّمل كأنّها الظباء فيخالطها البعير الأجرب فيجربها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«فمن أعدى الأوّل؟» .

أما العدوى: فمعناها أنّ المرض يتعدّى من صاحبه إلى من يقاربه من الأصحّاء فيمرض بذلك. وكانت العرب تعتقد ذلك في أمراض كثيرة منها الجرب، ولذلك سأل الأعرابيّ عن الإبل الصحيحة يخالطها البعير الأجرب فتجرب، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«فمن أعدى الأوّل؟» ومراده أنّ الأوّل لم يجرب بالعدوى بل بقضاء الله وقدره، فكذلك الثاني وما بعده.

وقد وردت أحاديث أشكل على كثير من الناس فهمها، حتّى ظنّ بعضهم أنها ناسخة لقوله:«لا عدوى» ، مثل ما في «الصحيحين» ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا يورد ممرض على مصحّ»

(2)

.

والممرض: صاحب الإبل المريضة، والمصحّ: صاحب الإبل الصّحيحة.

والمراد النّهي عن إيراد الإبل المريضة على الصحيحة. ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: «فرّ من المجذوم فرارك من الأسد»

(3)

. وقوله صلى الله عليه وسلم في الطاعون: «إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها»

(4)

.

(1)

أخرجه: البخاري (7/ 179)(5717)، ومسلم (7/ 30)(2220).

(2)

أخرجه: البخاري (7/ 179)(5771)، ومسلم (7/ 31)(2221).

(3)

أخرجه: البخاري (7/ 164)، وأحمد (2/ 443).

(4)

أخرجه: البخاري (5728)، ومسلم (7/ 129 - 130)(2218) مطولا.

ص: 125

ودخول النّسخ في هذا - كما تخيّله بعضهم - لا معنى له؛ فإنّ قوله:

«لا عدوى» خبر محض لا يمكن نسخه إلاّ أن يقال: هو نهي عن اعتقاد العدوى، لا نفي لها. ولكن يمكن أن يكون ناسخا للنّهي في هذه الأحاديث الثلاثة وما في معناها.

والصحيح الذي عليه جمهور العلماء أنّه لا نسخ في ذلك كلّه، ولكن اختلفوا في معنى قوله «لا عدوى» ، وأظهر ما قيل في ذلك أنه نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية من أنّ هذه الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد تقدير الله لذلك، ويدلّ على هذا قوله:«فمن أعدى الأوّل؟!» ، يشير إلى أنّ الأوّل إنما جرب بقضاء الله وقدره، فكذلك الثاني وما بعده.

وخرّج الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يعدي شيء شيئا» قالها ثلاثا. فقال أعرابي: يا رسول الله، النّقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة، فتجرب كلّها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فما أجرب الأوّل؟ لا عدوى ولا هامة ولا صفر، خلق الله كلّ نفس وكتب حياتها ومصابها ورزقها»

(1)

. فأخبر أنّ ذلك كلّه بقضاء الله وقدره، كما دلّ عليه قوله تعالى:{ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها} [الحديد: 22].

فأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن إيراد الممرض على المصحّ، وأمره بالفرار من المجذوم، ونهيه عن الدخول إلى موضع الطّاعون، فإنّه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى، وجعلها أسبابا للهلاك أو الأذى. والعبد مأمور باتقاء أسباب البلاء إذا كان في عافية منها، فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء، أو في

(1)

أخرجه: أحمد (1/ 440)، والترمذي (2143)، وأبو يعلى (6112)، وابن حبان (6119)، وهو حديث صحيح له شواهد كثيرة بعضها في الصحيح.

ص: 126

النار، أو يدخل تحت الهدم ونحوه، ممّا جرت به العادة بأنّه يهلك أو يؤذي، فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم، أو القدوم على بلد الطاعون؛ فإنّ هذه كلّها أسباب للمرض والتّلف؛ والله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها، لا خالق غيره، ولا مقدّر غيره.

وقد روي في حديث مرسل خرّجه أبو داود في «مراسيله» أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ بحائط مائل فأسرع وقال: «أخاف موت الفوات»

(1)

. وروي متصلا، والمرسل أصحّ.

وهذه الأسباب التي جعلها الله أسبابا يخلق المسبّبات بها كما دلّ عليه قوله تعالى: {حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ} [الأعراف: 57]. وقالت طائفة: إنه يخلق المسبّبات عندها لا بها.

وأمّا إذا قوي التّوكّل على الله والإيمان بقضائه وقدره، فقويت النّفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادا على الله ورجاء منه ألاّ يحصل به ضرر، ففي هذه الحال يجوز مباشرة ذلك، لا سيّما إذا كان فيه مصلحة عامة أو خاصة.

وعلى مثل هذا يحمل الحديث الذي خرّجه أبو داود والترمذي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم، فأدخلها معه في القصعة، ثم قال:«كل باسم الله، ثقة بالله، وتوكّلا عليه»

(2)

. وقد أخذ به الإمام أحمد. وقد روي نحو ذلك عن عمر وابنه عبد الله وسلمان رضى الله عنه.

(1)

أخرجه: أحمد (2/ 356)، وأبو يعلى (6612)، والعقيلي (1/ 61)، وابن عدي (1/ 232)، وإسناده ضعيف جدّا، ورواه أبو داود في «المراسيل» (ص: 331) مرسلا، والمرسل أصح.

(2)

أخرجه: أبو داود (3925)، والترمذي (1817)، وابن ماجه (3542). وقال الترمذي:«هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمد عن المفضل بن فضالة» . وإسناده ضعيف، وراجع:«الضعيفة» (1144).

ص: 127

ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد رضي الله عنه من أكل السّمّ. ومنه مشي سعد بن أبي وقاص، وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر. ومنه أمر عمر رضي الله عنه لتميم حيث خرجت النار من الحرّة أن يردّها فدخل إليها في الغار التي خرجت منه. فهذا كلّه لا يصلح إلا لخواصّ من الناس، قوي إيمانهم بالله وقضائه وقدره، وتوكّلهم عليه وثقتهم به.

ونظير ذلك دخول المفاوز بغير زاد، فإنّه يجوز لمن قوي يقينه وتوكّله خاصّة وقد نصّ عليه أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة. وكذلك ترك التكسّب والتّطبّب.

كلّ ذلك يجوز عند الإمام أحمد لمن قوي توكّله؛ فإنّ التوكّل أعظم الأسباب التي تستجلب بها المنافع ويستدفع بها المضارّ، كما قال الفضيل: لو علم الله منك إخراج المخلوقين من قلبك لأعطاك كلّ ما تريد.

وبذلك فسّر الإمام أحمد التوكّل، فقال: هو قطع الاستشراف بالإياس من المخلوقين، قيل له: فما الحجة فيه؟ قال: قول إبراهيم عليه السلام لمّا ألقي في النار، فعرض له جبريل عليه السلام، فقال: ألك حاجة؟ قال: أمّا إليك فلا.

فلا يشرع ترك الأسباب الظاهرة إلاّ لمن تعوّض عنها بالسّبب الباطن، وهو تحقيق التوكّل، فإنّه أقوى من الأسباب الظاهرة لأهله، وأنفع منها. فالتوكّل علم وعمل؛ فالعلم معرفة القلب بتوحيد الله بالنّفع والضّرّ، وعامة المؤمنين تعلم ذلك. والعمل هو ثقة القلب بالله وفراغه من كلّ ما سواه، وهذا عزيز ويختصّ به خواصّ المؤمنين.

‌والأسباب نوعان:

أحدهما: أسباب الخير، فالمشروع أنّه يفرح بها، ويستبشر، ولا يسكن إليها، بل إلى خالقها ومسببها، وذلك هو تحقيق التوكّل على الله والإيمان به،

ص: 128

كما قال تعالى في الإمداد بالملائكة: {وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} [الأنفال: 10]. ومن هذا الباب الاستبشار بالفأل، وهو الكلمة الصالحة يسمعها طالب الحاجة.

وأكثر الناس يركن بقلبه إلى الأسباب وينسى المسبّب لها، وقلّ من فعل ذلك إلاّ وكل إليها وخذل، فإنّ جميع النّعم من الله وفضله، كما قال تعالى:

{ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النساء: 79]، وقال تعالى:{وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ} [النّحل: 53]:

لا نلت خيرا ما بقي

ت ولا عداني الدّهر شرّ

إن كنت أعلم أنّ غي

ر الله ينفع أو يضرّ

ولا تضاف النّعم إلى الأسباب، بل إلى مسبّبها ومقدّرها، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلّى بهم الصبح في إثر سماء، ثم قال: «أتدرون ما قال ربّكم الليلة؟ قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر؛ فأمّا المؤمن فقال:

مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي، كافر بالكوكب؛ وأما الكافر فقال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب»

(1)

. وفي «صحيح مسلم» ، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا عدوى، ولا هامة، ولا نوء، ولا صفر»

(2)

.

وهذا مما يدلّ على أنّ المراد نفي تأثير هذه الأسباب بنفسها من غير اعتقاد أنّها بتقدير الله وقضائه، فمن أضاف شيئا من النّعم إلى غير الله مع اعتقاده أنّه ليس من الله فهو مشرك حقيقة، ومع اعتقاد أنّه من الله فهو نوع شرك خفيّ.

(1)

أخرجه: البخاري (2/ 41)(746)، ومسلم (1/ 59)(71).

(2)

أخرجه: مسلم (7/ 32)(2220).

ص: 129

والنوع الثاني: أسباب الشرّ، فلا تضاف إلاّ إلى الذّنوب؛ لأنّ جميع المصائب إنما هي بسبب الذّنوب، كما قال تعالى:{وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النّساء: 79]، وقال تعالى:{وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشّورى: 30]، ولا تضاف إلى شيء من الأسباب سوى الذنوب، كالعدوى أو غيرها. والمشروع: اجتناب ما ظهر منها واتقاؤه بقدر ما وردت به الشريعة، مثل اتقاء المجذوم والمريض، والقدوم على مكان الطاعون. وأما ما خفي منها فلا يشرع اتقاؤه واجتنابه، فإنّ ذلك من الطيرة المنهيّ عنها؛ والطيرة من أعمال أهل الشرك والكفر، وقد حكاها الله تعالى في كتابه عن قوم فرعون وقوم صالح وأصحاب القرية التي جاءها المرسلون.

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا طيرة» . وفي حديث: «من ردّته الطيرة فقد قارف الشرك»

(1)

. وفي حديث ابن مسعود المرفوع: «الطيرة من الشّرك، وما منّا إلاّ، ولكنّ الله يذهبه بالتّوكّل»

(2)

.

والبحث عن أسباب الشرّ من النظر في النّجوم ونحوها هو من الطيرة المنهيّ عنها؛ والباحثون عن ذلك غالبا لا يشتغلون بما يدفع البلاء من الطاعات، بل يأمرون بلزوم المنزل وترك الحركة، وهذا لا يمنع نفوذ القضاء والقدر. ومنهم من يشتغل بالمعاصي، وهذا مما يقوّي وقوع البلاء ونفوذه. والذي جاءت به الشريعة هو ترك البحث عن ذلك، والإعراض عنه، والاشتغال بما يدفع

(1)

أخرجه: البزار (6/ 300)(2316). قال الهيثمي (5/ 105): «وفيه سعيد بن أسد بن موسى، روى عنه أبو زرعة الرازي ولم يضعفه أحد، وشيخ البزار إبراهيم غير منسوب وبقية رجاله ثقات» ، وأحمد (2/ 220) بلفظ «من ردته الطيرة من حاجة فقد أشرك» ، وقال أبو حاتم في «العلل» (2347):«هذا حديث منكر» .

(2)

أخرجه: أبو داود (3910)، والترمذي (1614)، وابن ماجه (3538) وقال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» . وقوله: «وما منا إلا

» الراجح أنه من قول ابن مسعود مدرج.

ص: 130

البلاء؛ من الدّعاء، والذكر، والصدقة، وتحقيق التوكّل على الله عز وجل، والإيمان بقضائه وقدره.

وفي «مسند ابن وهب» أنّ عبد الله بن عمرو بن العاص التقى هو وكعب، فقال عبد الله لكعب: علم النّجوم؟ قال كعب: لا خير فيه، قال عبد الله: لم؟ قال: ترى فيه ما تكره، يريد الطيرة. فقال كعب: فإن مضى، وقال: اللهم لا طير إلاّ طيرك، ولا خير إلاّ خيرك، ولا ربّ غيرك؟ فقال عبد الله:

ولا حول ولا قوّة إلاّ بك. فقال كعب: جاء بها عبد الله، والذي نفسي بيده إنّها لرأس التوكّل وكنز العبد في الجنة، ولا يقولهنّ عبد عند ذلك ثم يمضي إلاّ لم يضرّه شيء. قال عبد الله: أرأيت إن لم يمض وقعد؟ قال: طعم قلبه طعم الإشراك

(1)

.

وفي «مراسيل» أبي داود أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«ليس عبد إلاّ سيدخل قلبه طيرة، فإذا أحسّ بذلك، فليقل: أنا عبد الله، ما شاء الله، لا قوة إلاّ بالله، لا يأتي بالحسنات إلاّ الله، ولا يذهب بالسّيّئات إلاّ الله، أشهد أنّ الله على كلّ شيء قدير. ثم يمضي لوجهه»

(2)

.

وفي «مسند الإمام أحمد» عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: «من رجعته الطيرة من حاجته فقد أشرك. وكفّارة ذلك أن يقول أحدهم: اللهمّ لا طير إلاّ طيرك، ولا خير إلاّ خيرك، ولا إله غيرك»

(3)

. وخرّج الإمام أحمد، وأبو داود من حديث عروة بن عامر القرشي، قال: ذكرت الطّيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أحسنها الفأل، ولا تردّ مسلما، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهمّ

(1)

أورده البيهقي في «الشعب» (2/ 65)(1180)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 21).

(2)

أخرجه: أبو داود في «المراسيل» (539).

(3)

أخرجه: أحمد (2/ 220) وصححه الألباني في تعليقه على «إصلاح المساجد» (ص 116).

ص: 131

لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلاّ أنت، ولا حول ولا قوّة إلا بك»

(1)

. وخرّجه أبو القاسم البغويّ، وعنده:«ولا تضرّ مسلما» . وفي «صحيح ابن حبّان» عن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا طيرة، والطّيرة على من تطيّر»

(2)

.

وقال النّخعيّ: قال عبد الله بن مسعود: لا تضرّ الطّيرة إلاّ من تطيّر

(3)

.

ومعنى هذا أنّ من تطيّر تطيّرا منهيّا عنه، وهو أن يعتمد على ما يسمعه أو يراه مما يتطيّر به حتّى يمنعه ممّا يريد من حاجته، فإنّه قد يصيبه ما يكرهه. فأمّا من توكّل على الله، ووثق به، بحيث علّق قلبه بالله خوفا ورجاء، وقطعه عن الالتفات إلى هذه الأسباب المخوفة، وقال ما أمر به من هذه الكلمات، ومضى، فإنّه لا يضرّه ذلك. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه كان إذا سمع نعق الغراب قال: اللهم لا طير إلاّ طيرك، ولا خير إلاّ خيرك

(4)

.

وكذلك أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم عند انعقاد أسباب العذاب السّماوية المخوفة، كالكسوف، بأعمال البرّ؛ من الصّلاة، والدّعاء، والصّدقة، والعتق، حتى يكشف ذلك عن الناس. وهذا كلّه مما يدلّ على أنّ الأسباب المكروهة إذا وجدت فإنّ المشروع الاشتغال بما يرجى به دفع العذاب المخوف منها؛ من أعمال الطّاعات، والدّعاء، وتحقيق التوكّل على الله والثقة به، فإنّ هذه الأسباب كلّها مقتضيات لا موجبات، ولها موانع تمنعها. فأعمال البرّ والتّقوى والدّعاء والتوكّل من أعظم ما يستدفع به.

(1)

أخرجه: أبو داود (3919) وإسناده ضعيف، وراجع:«الضعيفة» (1619).

(2)

أخرجه: ابن حبان (6123)، وقال الحافظ في «الفتح» (6/ 63):«في صحته نظر» .

(3)

مصنف ابن أبي شيبة (5/ 311)(26398).

(4)

مصنف ابن أبي شيبة (6/ 110)(29872).

ص: 132

ومن كلام بعض الحكماء المتقدّمين: ضجيج الأصوات في هياكل العبادات بأفنان اللغات يحلّل ما عقدته الأفلاك الدائرات؛ وهذا على زعمهم واعتقادهم في الأفلاك. وأما اعتقاد المسلمين فإنّ الله وحده هو الفاعل لما يشاء، ولكنّه يعقد أسبابا للعذاب، وأسبابا للرّحمة؛ فأسباب العذاب يخوّف الله بها عباده ليتوبوا إليه ويتضرّعوا إليه، مثل كسوف الشمس والقمر؛ فإنّهما آيتان من آيات الله يخوّف الله بهما عباده؛ لينظر من يحدث له توبة، فدلّ على أنّ كسوفهما سبب يخشى منه وقوع عذاب.

وقد أمر عائشة رضي الله عنها أن تستعيذ من شرّ القمر، وقال:«هو الغاسق إذا وقب» . وقد أمر الله تعالى بالاستعاذة من شرّ غاسق إذا وقب، وهو الليل إذا أظلم؛ فإنه ينتشر فيه شياطين الجنّ والإنس. والاستعاذة من القمر؛ لأنه آية الليل، وفيه إشارة إلى أنّ شرّ الليل المخوف لا يندفع بإشراق القمر فيه، ولا يصير بذلك كالنّهار، بل يستعاذ منه وإن كان مقمرا.

وخرّج الطّبراني من حديث جابر مرفوعا: «لا تسبّوا اللّيل، ولا النّهار، ولا الشّمس، ولا القمر، ولا الرّيح؛ فإنّها رحمة لقوم، وعذاب لآخرين»

(1)

.

ومثل اشتداد الرّياح؛ فإنّ الرّيح كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم من روح الله، تأتي بالرّحمة، وتأتي بالعذاب

(2)

. وأمر إذا اشتدّت الرّيح أن يسأل الله خيرها وخير ما أرسلت به، ويستعاذ به من شرّها وشرّ ما أرسلت به

(3)

.

(1)

أخرجه: أبو يعلى (2194). بسند ضعيف، والطبراني في «الأوسط» (4698)، (6795) وقال الهيثمي (8/ 71):«رواه الطبراني في الأوسط وفيه سعيد بن بشير. وثقه جماعة، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات. ورواه أبو يعلى بإسناد ضعيف» .

(2)

أخرجه: أبو داود (5097)، وصححه الألباني في «تخريج المشكاة» (516)، و «تخريج الكلم الطيب» (153).

(3)

أخرجه: مسلم (3/ 26)(899).

ص: 133

وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رأى ريحا أو غيما تغيّر وجهه، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سري عنه

(1)

، ويقول: قد عذب قوم بالرّيح. ورأى قوم السّحاب، فقالوا:{هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا} [الأحقاف: 24].

وأسباب الرحمة يرجّي بها عباده، مثل الغيم الرطب والريح الطيبة، ومثل المطر المعتاد عند الحاجة إليه، ولهذا يقال عند نزوله: اللهم سقيا رحمة ولا سقيا عذاب

(2)

.

وأمّا من اتّقى أسباب الضّرر بعد انعقادها بالأسباب المنهيّ عنها، فإنه لا ينفعه ذلك غالبا، كمن ردّته الطّيرة عن حاجته خشية أن يصيبه ما تطيّر به، فإنّه كثيرا ما يصاب بما خشي منه، كما قاله ابن مسعود، ودلّ عليه حديث أنس المتقدم.

وكمن اتّقى الطّاعون الواقع في بلده بالفرار منه، فإنّه قلّ أن ينجيه ذلك.

وقد فرّ كثير من المتقدّمين والمتأخّرين من الطّاعون فأصابهم، ولم ينفعهم الفرار، وقد قال الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ} [البقرة: 243]. وقد ذكر كثير من السّلف أنّهم كانوا قد فرّوا من الطّاعون فأصابهم. وفرّ بعض المتقدّمين من طاعون وقع، فبينا هو يسير باللّيل على حمار له إذ سمع قائلا يقول:

لن يسبق الله على حمار

ولا على ذي ميعة مطار

أو يأتي الحتف على مقدار

قد يصبح الله أمام السّاري

فأصابه الطّاعون، فمات.

وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا هامة» فهو نفي لما كانت الجاهلية تعتقده أنّ الميت إذا

(1)

أخرجه: البخاري (4/ 132 - 133)(4829)، ومسلم (899).

(2)

روي مرسلا عن المطلب بن حنطب، «السنن الكبرى» للبيهقي (3/ 356)(6236)، و «مسند الشافعي» (ص: 80).

ص: 134

مات صارت روحه أو عظامه هامة، وهو طائر يطير، وهو شبيه باعتقاد أهل التناسخ؛ أنّ أرواح الموتى تنتقل إلى أجساد حيوانات من غير بعث ولا نشور، وكلّ هذه اعتقادات باطلة جاء الإسلام بإبطالها وتكذيبها، ولكن الذي جاءت به الشريعة:«إنّ أرواح الشّهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنّة، وترد من أنهار الجنة، إلى أن يردّها الله إلى أجسادها يوم القيامة»

(1)

. وروي أيضا: «إنّ نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنّة حتى يرجعها الله إلى أجسادها يوم القيامة»

(2)

.

وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا صفر» فاختلف في تفسيره؛ فقال كثير من المتقدمين:

الصّفر داء في البطن، يقال: إنه دود فيه، كبار كالحيّات، وكانوا يعتقدون أنّه يعدي، فنفى ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وممن قال هذا من العلماء ابن عيينة، والإمام أحمد وغيرهما. ولكن لو كان كذلك لكان هذا داخلا في قوله:«لا عدوى» . وقد يقال: هو من باب عطف الخاص على العام، وخصّه بالذكر؛ لاشتهاره عندهم بالعدوى.

وقالت طائفة: بل المراد «بصفر» شهر صفر، ثم اختلفوا في تفسيره، على قولين:

أحدهما: أنّ المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النّسيء، فكانوا يحلّون المحرّم ويحرّمون صفر مكانه؛ وهذا قول مالك.

والثاني: أنّ المراد أنّ أهل الجاهلية كانوا يستشئمون بصفر ويقولون: إنه

(1)

أخرجه: مسلم (6/ 39)(1887)، والترمذي (1641) وأحمد (6/ 386).

(2)

أخرجه: أحمد (3/ 455)، والنسائي (4/ 108)، وابن ماجه (4271.1449) من حديث كعب بن مالك وإسناده صحيح، وصححه الألباني في «الصحيحة» (995).

ص: 135

شهر مشئوم، فأبطل النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك؛ وهذا حكاه أبو داود عن محمد بن راشد المكحولي، عمّن سمعه يقول ذلك.

ولعلّ هذا القول أشبه الأقوال. وكثير من الجهّال يتشاءم بصفر، وربّما ينهى عن السّفر فيه. والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهيّ عنها، وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء.

وقد روي أنّه يوم نحس مستمرّ؛ في حديث لا يصحّ، بل في «المسند» عن جابر رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا على الأحزاب يوم الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر والعصر؛ قال جابر: فما نزل بي أمر مهمّ غائظ إلاّ توخّيت ذلك الوقت، فدعوت الله فيه، فرأيت الإجابة

(1)

، أو كما قال. وكذلك تشاؤم أهل الجاهلية بشوّال في النّكاح فيه خاصّة.

وقد قيل: إنّ أصله أنّ طاعونا وقع في شوال في سنة من السنين، مات فيه كثير من العرائس، فتشاءم بذلك أهل الجاهلية. وقد ورد الشّرع بإبطاله، قالت عائشة رضي الله عنها:«تزوّجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوّال، وبنى بي في شوّال، فأيّ نسائه كان أحظى عنده منّي! وكانت عائشة تستحبّ أن تدخل نساءها في شوّال»

(2)

. وتزوّج النبيّ صلى الله عليه وسلم أمّ سلمة في شوّال أيضا

(3)

.

فأمّا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة، والشؤم في ثلاث: في المرأة، والدّار، والدّابّة»

(4)

، خرّجاه في «الصحيحين» من حديث ابن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقد اختلف الناس في معناه أيضا؛ روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 332)، وفي إسناده ضعف.

(2)

أخرجه: مسلم (4/ 142)(1423)، والترمذي (1093)، وابن ماجه (1990).

(3)

أخرجه: ابن ماجه (1991)، وإسناده ضعيف، وراجع:«الضعيفة» (4350).

(4)

أخرجه: البخاري (7/ 174)(5753)، ومسلم (7/ 34)(2225).

ص: 136

أنكرت هذا الحديث، أن يكون من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقالت: إنّما قال: كان أهل الجاهلية يقولون ذلك، خرّجه الإمام أحمد.

وقال معمر: سمعت من يفسّر هذا الحديث، يقول: شؤم المرأة إذا كانت غير ولود، وشؤم الفرس إذا لم يكن يغزى عليه في سبيل الله، وشؤم الدّار جار السوء. وروي هذا المعنى مرفوعا من وجوه لا تصحّ.

ومنهم من قال: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لا شؤم، وإن يكن اليمن في شيء ففي ثلاثة»

(1)

، فذكر هذه الثلاثة. وقال: هذه الرواية أشبه بأصول الشرع؛ كذا قاله ابن عبد البر، ولكن إسناد هذه الرواية لا يقاوم ذلك الإسناد.

والتحقيق؛ أن يقال: في إثبات الشؤم في هذه الثلاث، ما ذكرناه في النّهي عن إيراد المريض على الصحيح، والفرار من المجذوم، ومن أرض الطاعون؛ إنّ هذه الثلاث أسباب يقدّر الله تعالى بها الشؤم واليمن ويقرنه بها، ولهذا يشرع لمن استفاد زوجة، أو أمة، أو دابّة أن يسأل الله تعالى من خيرها وخير ما جبلت عليه، ويستعيذ به من شرّها وشرّ ما جبلت عليه، كما في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم الذي خرّجه أبو داود وغيره

(2)

.

وكذا ينبغي لمن سكن دارا أن يفعل. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم قوما سكنوا دارا فقلّ عددهم، وقلّ ما لهم أن يتركوها ذميمة

(3)

.

فترك ما لا يجد الإنسان فيه بركة من دار أو زوجة أو دابة غير منهيّ عنه.

(1)

أخرجه: الترمذي (2826)، وابن ماجه (1993).

وراجع: «الصحيحة» (1897، 799، 443).

(2)

أخرجه: أبو داود (2160)، وابن ماجه (1918)، (2252)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة (24)» ، وقواه الألباني في «آداب الزفاف» (ص 92).

(3)

أخرجه: أبو داود (3924).

ص: 137

وكذلك من اتّجر في شيء فلم يربح فيه ثلاث مرات، فإنّه يتحوّل عنه.

روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإن بورك له في شيء فلا يتغير عنه.

ففي «المسند» و «سنن ابن ماجه» عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا: «إذا كان لأحدكم رزق في شيء فلا يدعه حتّى يتغيّر له، أو يتنكّر له»

(1)

.

وأمّا تخصيص الشؤم بزمان دون زمان، كشهر صفر أو غيره، فغير صحيح، وإنّما الزّمان كلّه خلق الله تعالى، وفيه تقع أفعال بني آدم. فكلّ زمان شغله المؤمن بطاعة الله، فهو زمان مبارك عليه، وكلّ زمان شغله العبد بمعصية الله فهو مشئوم عليه. فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله تعالى، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن كان الشؤم في شيء ففيما بين اللحيين، يعني اللسان.

وقال: ما من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان. وقال عديّ بن حاتم:

أيمن أمر وأشأمه بين لحييه، يعني لسانه.

وفي «سنن أبي داود» عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«حسن الملكة نماء، وسوء الملكة شؤم، والبرّ زيادة في العمر، والصدقة تمنع ميتة السوء»

(2)

. فجعل سوء الملكة شؤما.

وفي حديث آخر: «لا يدخل الجنّة سيئ الملكة»

(3)

وهو من يسيء إلى مماليكه ويظلمهم.

(1)

أخرجه: أحمد (6/ 246)، وابن ماجه (2148)، وإسناده ضعيف.

(2)

أخرجه: أحمد (3/ 502)، وأبو داود (5163، 5162)، وهو ضعيف، وراجع:«الضعيفة» (796).

(3)

أخرجه: أحمد (7، 1/ 4)، والترمذي (1946)، وابن ماجه (3691)، وهو ضعيف، وقال الترمذي:«هذا حديث غريب، وقد تكلم أيوب السختياني وغير واحد في فرقد السبخي من قبل حفظه» .

ص: 138

وفي الحديث: «إنّ الصّدقة تدفع ميتة السّوء»

(1)

.

ويروى من حديث علي مرفوعا: «باكروا بالصّدقة فإنّ البلاء لا يتخطّاها»

(2)

خرّجه الطّبراني. وفي حديث آخر: «إنّ لكلّ يوم نحسا، فادفعوا نحس ذلك اليوم بالصّدقة»

(3)

. فالصّدقة تمنع وقوع البلاء بعد انعقاد أسبابه، وكذلك الدّعاء.

وفي الحديث: «إنّ البلاء والدّعاء يلتقيان بين السّماء والأرض، فيعتلجان إلى يوم القيامة»

(4)

. خرّجه البزار والحاكم.

وخرّج الترمذي من حديث سلمان مرفوعا: «لا يردّ القضاء إلاّ الدّعاء»

(5)

.

وقال ابن عباس: لا ينفع الحذر من القدر، ولكن الله يمحو بالدّعاء ما يشاء من القدر. وعنه قال:«الدّعاء يدفع القدر، وهو إذا دفع القدر فهو من القدر» . وهذا كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الأدوية والرّقى: هل تردّ من قدر الله شيئا؟ فقال: «هي من قدر الله»

(6)

. وكذلك قال عمر رضي الله عنه لمّا رجع من الطاعون، فقال له أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: نفرّ من قدر الله إلى قدر الله

(7)

؛ فإنّ الله تعالى يقدّر المقادير ويقدّر ما يدفع بعضها قبل وقوعه. وكذلك الأذكار المشروعة تدفع البلاء.

(1)

أخرجه: الترمذي (664)، وهو ضعيف، وراجع:«الإرواء» (885)، و «الضعيفة» (664).

(2)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (5643)، والبيهقي (4/ 189)، وهو ضعيف جدّا، وراجع:«تخريج المشكاة» للألباني (1887)، و «مجمع الزوائد» (3/ 110).

(3)

ذكره في «كنز العمال» (4559)، وعزاه لابن مردويه.

(4)

أخرجه: الحاكم (1/ 492)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 453).

(5)

أخرجه: الترمذي (2139)، وحسنه الألباني في «الصحيحة» (154).

(6)

أخرجه: الترمذي (2065)، وابن ماجه (3437). وقال الترمذي:«حسن صحيح» .

(7)

أخرجه: البخاري (7/ 168)(5729)، ومسلم (30، 7/ 29)(2219)، وأحمد (194/ 1) من حديث عبد الرحمن بن عوف.

ص: 139

وفي حديث عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح ويمسي:

بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السّماء، وهو السّميع العليم، لم يصبه بلاء»

(1)

. وفي «المسند» عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«الشؤم سوء الخلق»

(2)

. وخرّجه الخرائطي، ولفظه:«اليمن حسن الخلق»

(3)

.

وفي الجملة: فلا شؤم إلاّ المعاصي والذنوب؛ فإنّها تسخط الله عز وجل، فإذا سخط على عبده شقي في الدنيا والآخرة، كما أنه إذا رضي عن عبده سعد في الدنيا والآخرة.

قال بعض الصالحين، وقد شكي إليه بلاء وقع في الناس، فقال: ما أرى ما أنتم فيه إلاّ بشؤم الذّنوب. وقال أبو حازم: كلّ ما شغلك عن الله من أهل أو ولد أو مال فهو عليك مشئوم.

وقد قيل:

فلا كان ما يلهي عن الله إنّه

يضرّ ويؤذي إنّه لمشئوم

فالشؤم في الحقيقة هو المعصية، واليمن هو طاعة الله وتقواه، كما قيل:

إنّ رأيا دعا إلى طاعة

الله لرأي مبارك ميمون

(1)

أخرجه: أبو داود (5088)، والترمذي (3388)، وابن ماجه:(3869)، وصححه الألباني في «تخريج الترغيب» (1/ 227).

(2)

أخرجه: أحمد (6/ 85)، والطبراني في «مسند الشاميين» (1462)، وابن عدي (472/ 2)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 103)، والخطيب (4/ 276)، وإسناده ضعيف، وراجع:«الضعيفة» (597).

(3)

أخرجه: الخرائطي في «مكارم الأخلاق» (8)، وإسناده ضعيف.

وراجع: «الضعيفة» (2267).

ص: 140

والعدوى التي تهلك من قاربها هي المعاصي؛ فمن قاربها وخالطها وأصرّ عليها هلك، وكذلك مخالطة أهل المعاصي، ومن يحسّن المعصية ويزيّنها ويدعو إليها من شياطين الإنس، وهم أضرّ من شياطين الجنّ. قال بعض السّلف: شيطان الجنّ تستعيذ بالله منه، فينصرف؛ وشيطان الإنس لا يبرح حتّى يوقعك في المعصية. وفي الحديث:«يحشر المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل»

(1)

. وفي حديث آخر: «لا تصحب إلاّ مؤمنا ولا يأكل طعامك إلاّ تقيّ»

(2)

. ومما يروى لعلي رضي الله عنه.

فلا تصحب أخا الجهل

وإياك وإياه

فكم من جاهل أردى

حكيما حين آخاه

يقاس المرء بالمرء

إذا ما المرء ما شاه

وللشيء على الشيء

مقاييس وأشباه

وللقلب على القلب

دليل حين يلقاه

فالعاصي مشئوم على نفسه وعلى غيره؛ فإنّه لا يؤمن أن ينزل عليه عذاب فيعمّ النّاس، خصوصا من لم ينكر عليه عمله، فالبعد عنه متعين، فإذا كثر الخبث هلك النّاس عموما.

وكذلك أماكن المعاصي وعقوباتها يتعيّن البعد عنها، والهرب منها، خشية نزول العذاب، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأصحابه لمّا مرّ على ديار ثمود بالحجر:

«لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلاّ أن تكونوا باكين؛ خشية أن يصيبكم

(1)

أخرجه: أبو داود (4833)، والترمذي (2378). وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح» والذي في «تحفة الأشراف» : «حسن غريب» .

(2)

أخرجه: أحمد (3/ 38)، وأبو داود (4832)، والترمذي (2395)، وأبو يعلى (1315)، والحاكم (4/ 128)، وابن حبان (560)، والبغوي في «شرح السنة» (3484). وحسّنه الألباني في «تخريج المشكاة» (5018).

ص: 141

ما أصابهم»

(1)

. ولما تاب الذي قتل مائة نفس من بني إسرائيل، وسأل العالم:

هل له من توبة؟ قال له: نعم، فأمره أن ينتقل من قرية السّوء إلى القرية الصالحة، فأدركه الموت بينهما، فاختصم فيه ملائكة الرّحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إليهم: أن قيسوا بينهما فإلى أيّهما كان أقرب فألحقوه بها، فوجدوه إلى القرية الصالحة أقرب برمية حجر، فغفر له

(2)

.

هجران أماكن المعصية وإخوانها من جملة الهجرة المأمور بها، فإنّ المهاجر من هجر ما نهى الله عنه. قال إبراهيم بن أدهم: من أراد التّوبة فليخرج من المظالم، وليدع مخالطة من كان يخالط، وإلاّ لم ينل ما يريد.

احذروا الذّنوب، فإنّها مشئومة، عواقبها ذميمة، وعقوباتها أليمة، والقلوب المحبّة لها سقيمة، والنفوس المائلة إليها غير مستقيمة، السّلامة منها غنيمة، والعافية منها ليس لها قيمة، والبليّة بها، لا سيما بعد نزول الشّيب داهية عظيمة.

طاعة الله خير ما اكتسب العب

د فكن طائعا لله لا تعصينه

ما هلاك النّفوس إلاّ المعاصي

فاجتنب ما نهاك لا تقربنه

إنّ شيئا هلاك نفسك فيه

ينبغي أن تصون نفسك عنه

يا من ضاع قلبه انشده في مجلس الذّكر، عسى أن تجده. يا من مرض قلبه احمله إلى مجلس الذكر، لعلّه أن يعافى. مجالس الذّكر مارستان الذنوب تداوى فيها أمراض القلوب، كما تداوى أمراض الأبدان في مارستان الدّنيا، ونزهة لقلوب المؤمنين تتنزه فيه بسماع كلام الحكمة، كما تتنزه أبصار أهل الدّنيا في رياضها وبساتينها.

(1)

أخرجه: البخاري (4/ 181)(3380)، ومسلم (8/ 220 - 221)(2980).

(2)

أخرجه: البخاري (4/ 211 - 212)(3470)، ومسلم (8/ 103 - 104)(2766).

ص: 142

مجلسنا هذا حضرة في روضة الخشوع؛ طعامنا فيه الجوع، وشرابنا فيه الدّموع، ونقلنا هذا الكلام المسموع، نداوي فيه أمراضا أعيت جالينوس وبختيشوع، نسقى فيه درياق الذنوب وفاروق المعاصي، فمن شرب لم يكن له إلى المعصية رجوع. كم أفاق فيه من المعصية مصروع، وبرئ فيه من الهوى ملسوع، ووصل فيه إلى الله مقطوع، ما عيبه إلاّ أنّ الطبيب الذي له لو كان يستعمل ما يصف للنّاس لكان إلى قوله المرجوع.

يا ضيعة العمر إن نجا السّامع وهلك المسموع! يا خيبة المسعى إن وصل التّابع وانقطع المتبوع!

وغير تقيّ يأمر النّاس بالتّقى

طبيب يداوي النّاس وهو سقيم

يا أيّها الرّجل المقوّم غيره

هلاّ لنفسك كان ذا التّقويم

ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها

فإن انتهت عنه فأنت حكيم

فهناك يقبل ما تقول ويقتدى

بالقول منك وينفع التّعليم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

وقال غيره:

كم ذا التّمادي فها قد جاءنا صفر

شهر به الفوز والتّوفيق والظّفر

فابدأ بما شئت من فعل تسرّ به

يوم المعاد ففيه الخير ينتظر

توبوا إلى الله فيه من ذنوبكم

من قبل يبلغ فيكم حدّه العمر

***

ص: 143

‌وظائف شهر ربيع الأوّل

ويشتمل مجالس:

‌المجلس الأوّل في ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم

خرّج الإمام أحمد من حديث العرباض بن سارية السّلمي رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنّي عند الله في أمّ الكتاب لخاتم النبيين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته، وسوف أنبئكم بتأويل ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمّي التي رأت أنّه خرج منها نور أضاءت له قصور الشّام، وكذلك أمّهات النبيين يرين»

(1)

. وخرّجه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد.

وقد روي معناه من حديث أبي أمامة الباهليّ، ومن وجوه أخر مرسلة.

المقصود من هذا الحديث أنّ نبوّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم كانت مذكورة معروفة من قبل أن يخلقه الله ويخرجه إلى دار الدّنيا حيّا، وأنّ ذلك كان مكتوبا في أمّ الكتاب من قبل نفخ الرّوح في آدم عليه السلام، وفسّر «أمّ الكتاب» باللّوح المحفوظ، وبالذّكر، في قوله تعالى:{يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ} [الرعد: 39].

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 128)، والبزار (3/ 113 - كشف)، والطبراني (18/ 629)، والبيهقي في «الدلائل» (2/ 130)، وأبو نعيم في «الدلائل» (10). وهو ضعيف، وراجع:«الضعيفة» (2085).

ص: 144

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه سأل كعبا عن «أمّ الكتاب» فقال: علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون، فقال لعلمه: كن كتابا، فكان كتابا، ولا ريب أنّ علم الله تعالى قديم أزليّ لم يزل عالما بما يحدثه من مخلوقاته، ثم إنّه تعالى كتب ذلك في كتاب عنده قبل خلق السّماوات والأرض، كما قال تعالى:{ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].

وفي «صحيح البخاري» عن عمران بن حصين، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:

«كان الله ولا شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذّكر كلّ شيء، ثم خلق السّماوات والأرض»

(1)

.

وفي «صحيح مسلم» عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:

«إنّ الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»

(2)

.

ومن جملة ما كتبه في هذا الذّكر وهو «أمّ الكتاب» أنّ محمدا خاتم النبيّين، ومن حينئذ انتقلت المخلوقات من مرتبة العلم إلى مرتبة الكتابة، وهو نوع من أنواع الوجود الخارجيّ، ولهذا قال سعيد بن راشد: سألت عطاء: هل كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم نبيّا قبل أن يخلق؟ قال: إي والله، وقبل أن تخلق الدّنيا بألفي عام.

خرّجه أبو بكر الآجري في «كتاب الشريعة» . وعطاء هذا، الظّاهر أنّه الخراسانيّ.

وهذا إشارة إلى ما ذكرنا من كتابة نبوّته صلى الله عليه وسلم في «أمّ الكتاب» عند تقدير

(1)

أخرجه: البخاري (4/ 138)(3192)، (8/ 152)(7418).

(2)

أخرجه: مسلم (8/ 51)(2653)، وأحمد (2/ 169)، والترمذي (2156)، وابن حبان (6138).

ص: 145

المقادير وقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «إني عند الله في أمّ الكتاب لخاتم النبيين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته» ، ليس المراد به - والله أعلم - أنّه حينئذ كتب في «أمّ الكتاب» ختمه للنبيين، وإنّما المراد الإخبار عن كون ذلك مكتوبا في «أم الكتاب» في تلك الحال قبل نفخ الرّوح في آدم، وهو أوّل ما خلق من النّوع الإنسانيّ.

وجاء في حديث آخر، أنه في تلك الحال وجبت له النبوّة، وهذه مرتبة ثالثة، وهي انتقاله من مرتبة العلم والكتابة إلى مرتبة الوجود العينيّ الخارجيّ، فإنّه صلى الله عليه وسلم استخرج حينئذ من ظهر آدم ونبّئ، فصارت نبوّته موجودة في الخارج بعد كونها كانت مكتوبة مقدّرة في أمّ الكتاب. ففي حديث ميسرة الفجر، قال:

قلت: يا رسول الله، متى كنت نبيّا؟ قال:«وآدم بين الرّوح والجسد»

(1)

.

خرّجه الإمام أحمد، والحاكم.

قال الإمام أحمد في رواية مهنّا: وبعضهم يرويه: «متى كتبت نبيّا؟» ، من الكتابة. فإن صحّت هذه الرّواية، حملت مع حديث العرباض بن سارية على وجوب نبوّته وثبوتها وظهورها في الخارج فإنّ الكتابة إنّما تستعمل فيما هو واجب؛ إمّا شرعا كقوله:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} [البقرة: 183]، أو قدرا كقوله:{كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: 21]. وفي حديث أبي هريرة، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّهم قالوا: يا رسول الله، متى وجبت لك النبوّة؟

(1)

أخرجه: أحمد (5/ 59)، والطبراني (20/ 834)، وابن أبي عاصم (410)، والحاكم (608/ 2 - 609)، وابن سعد (7/ 60)، والبيهقي في «الدلائل» (1/ 84 - 85)، (2/ 129). وقد اختلف في إرساله ووصله، والمرسل أشبه بالصواب، كما بينته في التعليق على «المنتخب من العلل» للخلال (رقم 95).

ص: 146

قال: «وآدم بين الرّوح والجسد»

(1)

. خرّجه الترمذي وحسّنه. وفي نسخة:

صحّحه، وخرّجه الحاكم.

وروى ابن سعد من رواية جابر الجعفي، عن الشّعبيّ، قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: متى استنبئت؟ قال: «وآدم بين الرّوح والجسد، حين أخذ منّي الميثاق»

(2)

. وهذه الرّواية تدلّ على أنّه صلى الله عليه وسلم حينئذ استخرج من ظهر آدم ونبّئ، وأخذ ميثاقه. فيحتمل أن يكون ذلك دليلا على أنّ استخراج ذريّة آدم من ظهره وأخذ الميثاق منهم كان قبل نفخ الرّوح في آدم. وقد روي هذا عن سلمان الفارسيّ وغيره من السّلف. ويستدلّ له أيضا بظاهر قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف: 11] على ما فسّره به مجاهد وغيره، أنّ المراد إخراج ذريّة آدم من ظهره قبل أمر الملائكة بالسّجود له.

ولكن أكثر السّلف على أنّ استخراج ذريّة آدم منه كان بعد نفخ الرّوح فيه، وعلى هذا يدلّ أكثر الأحاديث، فيحتمل على هذا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم خصّ باستخراجه من ظهر آدم قبل نفخ الرّوح فيه، فإنّ محمدا صلى الله عليه وسلم هو المقصود من خلق النّوع الإنسانيّ، وهو عينه، وخلاصته، وواسطة عقده؛ فلا يبعد أن يكون أخرج من ظهر آدم عند خلقه قبل نفخ الرّوح فيه.

وقد روي أنّ آدم عليه السلام رأى اسم محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبا على العرش، وأنّ الله

(1)

أخرجه: الترمذي (3609)، والحاكم (2/ 609) وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح غريب من حديث أبي هريرة، لا نعرفه إلا من هذا الوجه» . كذا في النسخة المطبوعة، لكن الذي حكاه المزي في «تحفة الأشراف» (11/ 74)، وابن كثير في «البداية» (2/ 320):«حسن غريب» فقط وهذا أشبه؛ لأن هذا الحديث أنكره أحمد كما في «المنتخب من العلل» للخلال (رقم 93) وراجع: تعليقي عليه.

(2)

أخرجه: ابن سعد (1/ 148)، وهو مرسل ضعيف.

ص: 147

عزّ وجلّ قال لآدم: لولا محمّد ما خلقتك

(1)

. وقد خرجه الحاكم في «صحيحه» ، فيكون حينئذ من حين صوّر آدم طينا استخرج منه محمد صلى الله عليه وسلم ونبّئ، وأخذ منه الميثاق، ثم أعيد إلى ظهر آدم حتى خرج في وقت خروجه الذي قدّر الله خروجه فيه.

ويشهد لذلك ما روي عن قتادة، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«كنت أوّل النّبيّين في الخلق وآخرهم في البعث» . وفي رواية: «أوّل النّاس في الخلق»

(2)

. خرّجه ابن سعد وغيره. وخرّجه الطّبرانيّ من رواية قتادة عن الحسن، عن أبي هريرة مرفوعا، والمرسل أشبه. وفي رواية عن قتادة

(3)

مرسلة، ثم تلا:{وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7]، فبدأ به قبل نوح الذي هو أوّل الرسل فمحمد صلى الله عليه وسلم أوّل الرّسل خلقا وآخرهم بعثا؛ فإنّه استخرج من ظهر آدم لما صوّر، ونبّئ حينئذ، وأخذ ميثاقه، ثم أعيد إلى ظهره.

ولا يقال: فقد خلق آدم قبله؛ لأنّ آدم كان حينئذ مواتا لا روح فيه، ومحمد صلى الله عليه وسلم كان حيّا حين استخرج ونبّئ وأخذ ميثاقه، فهو صلى الله عليه وسلم أوّل النبيين خلقا وآخرهم بعثا، فهو خاتم النّبيّين باعتبار أن زمانه تأخّر عنهم، فهو المقفّى والعاقب الذي جاء عقب الأنبياء ويقفوهم. قال تعالى:{ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].

وفي «الصحيحين» عن جابر، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها وأحسنها، إلاّ موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها

(1)

أخرجه: الحاكم (2/ 615) وقال: «صحيح الإسناد» . وتعقبه الذهبي: «بل موضوع» .

(2)

أخرجه: ابن سعد (1/ 149)، وهو مرسل. وانظر:«كشف الخفاء» (2/ 169)(2007).

(3)

«مصنف ابن أبي شيبة» (6/ 322)(31762).

ص: 148

ويعجبون منها، ويقولون: لولا موضع اللّبنة»

(1)

زاد مسلم، قال:«فجئت فختمت الأنبياء» . وفيهما أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم معناه.

وفيه: «فجعل النّاس يطوفون به ويقولون: هلاّ وضعت اللبنة؟ فأنا اللّبنة، وأنا خاتم النّبيّين»

(2)

.

وقد استدلّ الإمام أحمد بحديث العرباض بن سارية هذا على أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يزل على التوحيد منذ نشأ. وردّ بذلك على من زعم غير ذلك. بل قد يستدلّ بهذا الحديث على أنّه صلى الله عليه وسلم ولد نبيّا، فإنّ نبوّته وجبت له من حين أخذ الميثاق منه، حيث استخرج من صلب آدم، فكان نبيّا من حينئذ، لكن كانت مدّة خروجه إلى الدّنيا متأخّرة عن ذلك، وذلك لا يمنع كونه نبيّا قبل خروجه، كمن يولّى ولاية ويؤمر بالتّصرّف بها في زمن مستقبل، فحكم الولاية ثابت له من حين ولايته وإن كان تصرّفه يتأخّر إلى حين مجيء الوقت.

قال حنبل: قلت لأبي عبد الله - يعني أحمد -: من زعم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه قبل أن يبعث؟ قال: هذا قول سوء، ينبغي لصاحب هذه المقالة يحذر كلامه، ولا يجالس، قلت له: إنّ جارنا النّاقد أبا العبّاس يقول هذه المقالة، قال: قاتله الله، وأي شيء أبقى إذا زعم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه وهم يعبدون الأصنام؟! قال الله تعالى - حاكيا عن عيسى عليه السلام:

{وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]. قلت له: وزعم أنّ خديجة كانت على ذلك حين تزوّجها النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الجاهلية. قال: أمّا خديجة فلا أقول شيئا، قد كانت أوّل من آمن به من النساء، ثم قال: ماذا يحدث النّاس من الكلام!؟ هؤلاء أصحاب الكلام، من أحبّ الكلام لم يفلح. سبحان الله لهذا

(1)

أخرجه: البخاري (4/ 226)(3534)، ومسلم (7/ 64)(2287).

(2)

أخرجه: البخاري (4/ 226)(3535)، ومسلم (7/ 65)(2286).

ص: 149

القول!! واحتجّ في ذلك بكلام لم أحفظه. وذكر أنّ أمّه حين ولدت رأت نورا أضاء له قصور الشام، أو ليس هذا عند ما ولدت رأت هذا، وقبل أن يبعث كان طاهرا مطهّرا من الأوثان، أو ليس كان لا يأكل ما ذبح على النّصب؟ ثم قال:

احذروا الكلام، فإنّ أصحاب الكلام لا يئول أمرهم إلى خير. خرّجه أبو بكر عبد العزيز بن جعفر في «كتاب السّنّة» .

ومراد الإمام أحمد الاستدلال بتقديم البشارة بنبوّته من الأنبياء الذين قبله، وبما شوهد عند ولادته من الآيات، على أنّه كان نبيّا من قبل خروجه إلى الدنيا وولادته، وهذا هو الذي يدلّ عليه حديث العرباض هذا؛ فإنّه صلى الله عليه وسلم ذكر فيه أنّ نبوّته كانت حاصلة من حين كان آدم منجدلا في طينته؛ والمراد بالمنجدل الطّريح الملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه، ويقال للقتيل إنه منجدل لذلك.

ثم استدل صلى الله عليه وسلم على سبق ذكره، والتنويه باسمه، ونبوّته، وشرف قدره لخروجه إلى الدّنيا، بثلاث دلائل؛ وهو مراده بقوله:«وسأنبئكم بتأويل ذلك» :

الدّليل الأوّل: دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام؛ وأشار بذلك إلى ما قصّ الله في كتابه عن إبراهيم وإسماعيل أنّهما قالا عند بناء البيت الذي بمكة: {رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127 - 129].

فاستجاب الله دعاءهما وبعث في أهل مكّة منهم رسولا بهذه الصّفة من ولد إسماعيل الذي دعا مع أبيه إبراهيم عليهما السلام بهذا الدّعاء. وقد امتنّ الله تعالى على المؤمنين ببعث هذا النّبيّ فيهم على هذه الصّفة التي دعا بها إبراهيم وإسماعيل.

ص: 150

قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]. وقال: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4].

ومعلوم أنّه لم يبعث في مكّة رسول منهم بهذه الصفة غير محمّد صلى الله عليه وسلم، وهو من ولد إسماعيل، كما أنّ أنبياء بني إسرائيل من ولد إسحاق. وذكر الله تعالى أنّه منّ على المؤمنين بهذه الرّسالة، فليس لله نعمة أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم.

وقوله: {فِي الْأُمِّيِّينَ} - والمراد بهم العرب - تنبيه لهم على قدر هذه النّعمة وعظمها، حيث كانوا أمّيّين لا كتاب لهم، وليس عندهم شيء من آثار النّبوّات، كما كان عند أهل الكتاب، فمنّ الله عليهم بهذا الرسول وبهذا الكتاب، حتى صاروا أفضل الأمم وأعلمهم، وعرفوا ضلالة من ضلّ من الأمم قبلهم.

‌وفي كونه منهم فائدتان:

إحداهما: أنّ هذا الرّسول كان أيضا أميّا كأمّته المبعوث إليهم، لم يقرأ كتابا قطّ، ولم يخطّه بيمينه، كما قال تعالى:{وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] الآيات، ولا خرج عن ديار قومه فأقام عند غيرهم حتّى تعلّم منهم شيئا، بل لم يزل أمّيّا بين أمّة أمّيّة، لا يكتب ولا يقرأ حتى كمّل الأربعين من عمره، ثمّ جاء بعد ذلك بهذا الكتاب المبين، وهذه الشريعة الباهرة، وهذا الدّين القيّم، الذي اعترف حذّاق أهل الأرض ونظّارهم أنّه لم يقرع العالم ناموس أعظم منه. وفي هذا برهان ظاهر على صدقه.

ص: 151

والفائدة الثانية: التنبيه على أنّ المبعوث منهم - وهم الأمّيّون خصوصا أهل مكّة - يعرفون نسبه، وشرفه، وصدقه، وأمانته، وعفّته، وأنّه نشأ بينهم معروفا بذلك كلّه، وأنّه لم يكذب قطّ؛ فكيف كان يدع الكذب على النّاس ثم يفتري الكذب على الله عز وجل، هذا هو الباطل، ولذلك سأل هرقل عن هذه الأوصاف، واستدلّ بها على صدقه فيما ادّعاه من النّبوّة والرّسالة.

وقوله: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ،} يعني يتلو عليهم ما أنزله الله عليه من آياته المتلوّة، وهو القرآن، وهو أعظم الكتب السّماويّة، وقد تضمّن من العلوم والحكم، والمواعظ، والقصص، والترغيب والترهيب، وذكر أخبار من سبق، وأخبار ما يأتي من البعث والنّشور والجنّة والنّار، ما لم يشتمل عليه كتاب غيره، حتّى قال بعض العلماء: لو أنّ هذا الكتاب وجد مكتوبا في مصحف في فلاة من الأرض، ولم يعلم من وضعه هناك، لشهدت العقول السّليمة أنّه منزل من عند الله، وأنّ البشر لا قدرة لهم على تأليف ذلك، فكيف إذا جاء على يدي أصدق الخلق وأبرّهم وأتقاهم، وقال: إنّه كلام الله، وتحدّى الخلق كلّهم أن يأتوا بسورة مثله، فعجزوا. فكيف يبقى مع هذا شكّ فيه؟ ولهذا قال تعالى:{ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].

وقال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51].

فلو لم يكن لمحمّد صلى الله عليه وسلم من المعجزات الدّالّة على صدقه غير هذا الكتاب لكفاه، فكيف وله من المعجزات الأرضيّة والسّماويّة ما لا يحصى

(1)

.

ص: 152

وقوله: {وَيُزَكِّيهِمْ،} يعني أنّه يزكّي قلوبهم ويطهّرها من أدناس الشّرك والفجور والضّلال؛ فإنّ النفوس تزكوا إذا طهرت من ذلك كلّه، ومن زكت نفسه فقد أفلح، كما قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها} [الشّمس: الآية 9]. وقال:

{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى} [الأعلى: 14].

وقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ،} يعني بالكتاب القرآن، والمراد:

ويعلّمهم تلاوة ألفاظه. ويعني بالحكمة فهم معاني القرآن والعمل بما فيه.

فالحكمة هي فهم القرآن والعمل به، فلا يكتفى بتلاوة ألفاظ الكتاب حتّى يعلم معناه ويعمل بمقتضاه، فمن جمع له ذلك كلّه فقد أوتي الحكمة. قال تعالى:{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269].

قال الفضيل: العلماء كثير، والحكماء قليل. وقال: الحكماء ورثة الأنبياء فالحكمة هي العلم النافع الذي يتبعه العمل الصّالح. وهي نور يقذف في القلب يفهم بها معنى العلم المنزّل من السّماء، ويحضّ على اتّباعه والعمل به. ومن قال: الحكمة السّنّة، فقوله حقّ؛ لأنّ السّنّة تفسّر القرآن وتبيّن معانيه وتحضّ على اتّباعه والعمل به؛ فالحكيم هو العالم المستنبط لدقائق العلم المنتفع بعلمه بالعمل به ولأبي العتاهية.

وكيف تحبّ أن تدعى حكيما

وأنت لكلّ ما تهوى ركوب

وتضحك دائبا ظهرا لبطن

وتذكر ما عملت فلا تتوب

وقوله: {وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ،} إشارة إلى ما كان النّاس عليه قبل إنزال هذا الكتاب من الضلال، فإنّ الله نظر حينئذ إلى أهل الأرض، فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلاّ بقايا من أهل الكتاب تمسّكوا بدينهم الذي لم يبدّل ولم يغيّر، وكانوا قليلا جدّا.

ص: 153

فأمّا عامّة أهل الكتاب فكانوا قد بدّلوا كتبهم وغيّروها وحرّفوها، وأدخلوا في دينهم ما ليس منه فضلّوا وأضلّوا. وأمّا غير أهل الكتاب فكانوا على ضلال مبين؛ فالأمّيّون أهل شرك يعبدون الأوثان، والمجوس يعبدون النيران ويقولون بإلهين اثنين، وكذلك غيرهم من أهل الأرض؛ منهم من كان يعبد النّجوم، ومنهم من كان يعبد الشّمس أو القمر.

فهدى الله المؤمنين بإرسال محمّد صلى الله عليه وسلم إلى ما جاء به من الهدى ودين الحقّ؛ وأظهر الله دينه حتى بلغ مشارق الأرض ومغاربها، فظهرت فيها كلمة التّوحيد والعمل بالعدل بعد أن كانت الأرض كلّها ممتلئة من ظلمة الشّرك والظّلم.

فالأمّيّون هم العرب، والآخرون الذين لم يلحقوا بهم هم أهل فارس والرّوم، فكانت أهل فارس مجوسا، والرّوم نصارى، فهدى جميع هؤلاء برسالة محمّد صلى الله عليه وسلم إلى التوحيد.

وقد رئي الإمام أحمد بعد موته في المنام، فسئل عن حاله، فقال: لولا هذا النّبيّ لكنّا مجوسا، وهو كما قال، فإنّ أهل العراق لولا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لكانوا مجوسا، وأهل الشّام ومصر والرّوم لولا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم لكانوا نصارى، وأهل جزيرة العرب لولا رسالة محمد لكانوا مشركين عبّاد أوثان.

ولكن رحم الله عباده بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم فأنقذهم من الضّلال، كما قال تعالى:

{وَما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ} [الأنبياء: 107]. ولهذا قال تعالى: {ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4].

فمن حصل له نصيب من دين الإسلام فقد حصل له الفضل العظيم، وقد عظمت عليه نعمة الله، فما أحوجه إلى القيام بشكر هذه النّعمة وسؤاله دوامها والثّبات عليها إلى الممات، والموت عليها، فبذلك تتمّ النّعمة.

ص: 154

فإبراهيم عليه السلام هو إمام الحنفاء المأمور محمّد صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام بالاقتداء به، وهو الّذي جعله الله للنّاس إماما. وقد دعا هو وابنه إسماعيل عليه السلام بأن يبعث الله في أهل مكّة رسولا منهم موصوفا بهذه الأوصاف، فاستجاب الله لهما وجعل هذا النّبيّ المبعوث فيهم من ولد إسماعيل بن إبراهيم كما دعيا بذلك، وهو النّبيّ الّذي أظهر دين إبراهيم الحنيف بعد اضمحلاله وخفائه على أهل الأرض، فلهذا كان أولى النّاس بإبراهيم، كما قال تعالى:{إِنَّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 68].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إنّ لكلّ نبيّ وليّا من النّبيّين وإنّ وليي إبراهيم»

(1)

، ثم تلا هذه الآية. وكان صلى الله عليه وسلم أشبه ولد إبراهيم به صورة ومعنى، حتى إنّه أشبهه في خلّة الله تعالى، فقال:«إنّ الله اتّخذني خليلا كما اتّخذ إبراهيم خليلا»

(2)

.

الثاني: بشارة عيسى به، وعيسى عليه السلام آخر أنبياء بني إسرائيل، وقد قال تعالى:{وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6].

وقد كان المسيح عليه السلام يحضّ على اتّباعه، ويقول: إنّه يبعث بالسّيف، فلا يمنعنّكم ذلك منه. وروي عنه أنّه قال: سوف أذهب أنا ويأتي الذي بعدي لا يتحمّدكم بدعواه، ولكن يسلّ السّيف فتدخلونه طوعا وكرها.

(1)

أخرجه: أحمد (1/ 401)، والترمذي (2995)، والحاكم (2/ 553)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (1/ 444). وإسناده منقطع.

(2)

أخرجه: مسلم (532)، وابن ماجه (141)، وراجع الضعيفة (3034)، وهو في «صحيح مسلم» (109، 7/ 108)(2383) من حديث ابن مسعود بلفظ: «

وقد اتخذ الله عز وجل صاحبكم خليلا».

ص: 155

وفي «المسند» عن أبي الدّرداء رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله عز وجل أوحى إلى عيسى عليه السلام: إنّي باعث بعدك أمّة، إن أصابهم ما يحبّون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون، احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم. قال:

يا ربّ! كيف هذا ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي»

(1)

.

قال ابن إسحاق: حدّثني بعض أهل العلم أنّ عيسى بن مريم عليه السلام قال:

إنّ أحبّ الأمم إلى الله عز وجل لأمّة أحمد. قيل له: وما فضلهم الذي تذكر؟ قال: لم تذلّل «لا إله إلاّ الله» على ألسن أمّة من الأمم تذليلها على ألسنتهم.

الثالث ممّا دل على نبوّته قبل ظهوره: رؤيا أمّه التي رأت أنّه خرج منها نور أضاءت له قصور الشّام، وذكر أنّ أمّهات النّبيّين كذلك يرين. والرؤيا هنا إن أريد بها رؤيا المنام، فقد روي أنّ آمنة بنت وهب رأت في أوّل حملها بالنّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّها بشّرت بأنّه يخرج منها عند ولادتها نور تضيء له قصور الشّام.

وروى الطبراني بإسناده عن أبي مريم الكنديّ، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه سئل: أيّ شيء كان أوّل من أمر نبوّتك؟ قال: «أخذ الله منّي الميثاق كما أخذ من النّبيّين ميثاقهم» ، وتلا:{وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} الآية [الأحزاب: 7]، وبشرى المسيح بن مريم، ورأت أمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامها أنّه خرج من بين يديها سراج أضاءت لها قصور الشّام. ثم قال:«ووراء ذلك»

(2)

. مرتين أو ثلاثا.

(1)

أخرجه: أحمد (6/ 450)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (8/ 355)، والحاكم (348/ 1)، والطبراني في «الأوسط» (3276).

وفي إسناده أبو حلبس يزيد بن ميسرة، وهو مجهول.

(2)

أخرجه: الطبراني في «المعجم الكبير» (22/ 333) رقم (835)، وفي «مسند الشاميين» (984). وفي إسناده ضعف.

ص: 156

وإن أريد بها رؤيا عين - كما قال ابن عبّاس في قول الله عز وجل: {وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ} [الإسراء: 60]: إنها رؤيا عين أريها النّبيّ صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به - فقد روي أنّ آمنة رأت ذلك عند ولادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم.

قال ابن إسحاق: كانت آمنة بنت وهب تحدّث أنّها أتيت حين حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل لها: إنّك حملت بسيّد هذه الأمّة فإذا وقع على الأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شرّ كلّ حاسد - وآية ذلك أن يخرج معه نور يملأ قصور بصرى من أرض الشّام - فإذا وقع فسمّيه محمّدا، فإن اسمه في التوراة أحمد، يحمده أهل السّماء وأهل الأرض، واسمه في الإنجيل أحمد، يحمده أهل السّماء وأهل الأرض؛ واسمه في القرآن محمّد.

وذكر ابن سعد، عن الواقديّ بأسانيد له متعددة، أنّ آمنة بنت وهب قالت:

لقد علقت به - تعني النّبي صلى الله عليه وسلم فما وجدت له مشقّة حتّى وضعته، فلمّا فصل منّي خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق إلى المغرب، ثم وقع إلى الأرض معتمدا على يديه، ثمّ أخذ قبضة من التّراب فقبضها ورفع رأسه إلى السّماء.

وفي حديث بعضهم: وقع جاثيا على ركبتيه وخرج معه نور أضاءت له قصور الشّام وأسواقها حتّى رئيت أعناق الإبل ببصرى، رافعا رأسه إلى السّماء.

وروى البيهقيّ بإسناده، عن عثمان بن أبي العاص، حدّثتني أمّي أنّها شهدت ولادة آمنة بنت وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ولدته، قالت: فما شيء أنظر إليه من البيت إلاّ نور، وإنّي أنظر إلى النّجوم تدنو حتّى إنّي لأقول:

لتقعنّ عليّ

(1)

. وخرّج الإمام أحمد من حديث عتبة بن عبد السّلمي، عن

(1)

أخرجه: البيهقي في «دلائل النبوة» (1/ 111)، والطبراني (25/ 186) (457) وإسناده ضعيف جدّا. قال الهيثمي (8/ 220):«وفيه عبد العزيز بن عمران، وهو متروك» .

ص: 157

النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ آمنة قالت: إنّي رأيت خرج منّي نور أضاءت منه قصور الشّام

(1)

.

وروى ابن إسحاق، عن جهم بن أبي جهم، عن عبد الله بن جعفر، عمّن حدّثه عن حليمة أمّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم التي أرضعته، أن آمنة بنت وهب حدّثتها، قالت:

إنّي حملت به فلم أر حملا قطّ كان أخفّ عليّ منه، ولا أعظم بركة منه، لقد رأيت نورا كأنّه شهاب خرج منّي حين وضعته، أضاءت له أعناق الإبل ببصرى.

وخروج هذا النّور عند وضعه إشارة إلى ما يجيء به من النّور الذي اهتدى به أهل الأرض، وزال به ظلمة الشّرك منها، كما قال تعالى:{قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 - 16].

وقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]. وفي هذا المعنى يقول العبّاس في أبياته المشهورة السائرة:

وأنت لمّا ولدت أشرقت الأرض

وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضّياء وفي النّور

وسبل الرّشاد نخترق

وأما إضاءة قصور بصرى بالنّور الذي خرج معه فهو إشارة إلى ما خصّ

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 184 - 185)، والطبراني (17/ 323)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (7/ 2)، والحاكم (2/ 616 - 617)، وفي إسناده ضعف.

ص: 158

الشّام من نور نبوّته، فإنّها دار ملكه. كما ذكر كعب أنّ في الكتب السابقة:

محمد رسول الله مولده بمكّة، ومهاجره يثرب، وملكه بالشّام؛ فمن مكّة بدأت نبوّة محمّد صلى الله عليه وسلم، وإلى الشّام ينتهي ملكه، ولهذا أسري به صلى الله عليه وسلم إلى الشّام، إلى بيت المقدس، كما هاجر إبراهيم عليه السلام من قبله إلى الشّام.

قال بعض السّلف: ما بعث الله نبيّا إلاّ من الشّام، فإن لم يبعث منها هاجر إليها. وفي آخر الزّمان يستقرّ العلم والإيمان بالشام، فيكون نور النبوّة فيها أظهر منه في سائر بلاد الإسلام.

وخرّج الإمام أحمد من حديث عمرو بن العاص، وأبي الدّرداء. وخرّج الحاكم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي، فأتبعته بصري، فإذا هو عمود ساطع عمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام»

(1)

. وفي «المسند» والترمذي وغيرهما، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«ستكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم»

(2)

. يعني الشّام.

وبالشام ينزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزّمان، وهو المبشّر بمحمّد صلى الله عليه وسلم، فيقرّر عند نزوله دين محمّد صلى الله عليه وسلم، ويحكم به، ولا يقبل من أحد غير دينه، فيكسر الصّليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويصلّي خلف إمام

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 198)، (5/ 198 - 199)، والطبراني في «مسند الشاميين» (1357)، والحاكم (4/ 509)، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 252)، والبيهقي في «الدلائل» (448/ 6)، والحديث صححه الحافظ في «الفتح» (12/ 403).

(2)

أخرجه: أحمد (209، 2/ 199)، وأبو داود (2482)، والحاكم (511، 4/ 510)، وفي إسناده شهر بن حوشب، وهو ضعيف.

وراجع: «الضعيفة» (3697).

ص: 159

المسلمين ويقول: إنّ هذه الأمة أئمّة بعضهم لبعض، إشارة إلى أنّه متّبع لدينهم غير ناسخ له.

والشّام هي في آخر الزّمان أرض المحشر والمنشر، فيحشر النّاس إليها قبل القيامة من أقطار الأرض، فيهاجر خيار أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم، وهي أرض الشّام طوعا. كما تقدّم أنّ خيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم.

وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالشّام؛ فإنّها خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده»

(1)

. خرّجه الإمام أحمد، وأبو داود، وابن حبّان، والحاكم في «صحيحيهما». وقال أبو أمامة: لا تقوم السّاعة حتّى ينتقل خيار أهل العراق إلى الشام، وشرار أهل الشام إلى العراق

(2)

. خرّجه الإمام أحمد.

وقد ثبت في «الصحيحين» عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «لا تقوم السّاعة حتّى تخرج نار من أرض الحجاز فتضيء لها أعناق الإبل ببصرى»

(3)

.

وقد خرجت هذه النّار بالحجاز بقرب المدينة، ورئيت أعناق الإبل من ضوئها ببصرى في سنة أربع وخمسين وستمائة، وعقيبها جرت واقعة ببغداد، وقتل بها الخليفة وعامّة من كان ببغداد. وتكامل خراب أرض العراق على أيدي التّتار، وهاجر خيار أهلها إلى الشام من حينئذ.

فأمّا شرار النّاس فتخرج نار في آخر الزّمان تسوقهم إلى الشّام قهرا، حتّى يجتمع الناس كلّهم بالشّام قبل قيام السّاعة.

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 110)، وأبو داود (2483)، والحاكم (510، 4/ 509)، والطبراني في «مسند الشاميين» (1172)، والبيهقي في «الدلائل» (6/ 327)، والحديث صححه الألباني كما في «فضائل الشام» (13، 11، 9، 2).

(2)

أخرجه: أحمد (5/ 249). بإسناد ضعيف.

(3)

أخرجه: البخاري (9/ 73)(7118)، ومسلم (8/ 180)(2902).

ص: 160

وفي «سنن أبي داود» ، عن أبي الدّرداء رضي الله عنه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّ فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، إلى جانب مدينة يقال لها دمشق، من خير مدائن الشام»

(1)

. وخرّجه الحاكم، ولفظه:«خير منازل المسلمين يومئذ»

(2)

.

إخواني، من كان من هذه الأمة فهو من خير الأمم عند الله عز وجل. قال تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ} [آل عمران: 110]. وقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:

«أنتم توفّون سبعين أمّة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل»

(3)

.

لمّا كان هذا الرّسول النّبيّ الأمّيّ خير الخلق وأفضلهم، كانت أمّته خير أمّة وأفضلها، فما يحسن بمن كان من خير الأمم، وانتسب إلى متابعة خير الخلق، وخصوصا من كان يسكن خير منازل المسلمين في آخر الزّمان، إلاّ أن يكون متّصفا بصفات الخير، مجتنبا لصفات الشّرّ، وقبيح به أن يرضى لنفسه أن يكون من شرّ النّاس مع انتسابه إلى خير الأمم. ومتابعة خير الرّسل.

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البيّنة: 7]. فخير النّاس من آمن وعمل صالحا. وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110].

وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «خير النّاس من فقه في دين الله، ووصل

(1)

أخرجه: أحمد (5/ 197)، وأبو داود (4298)، وصححه الألباني في «فضائل الشام» (15).

(2)

«المستدرك» (4/ 486).

(3)

أخرجه: أحمد (4/ 447)، (5، 5/ 3) وابن ماجه (4288)، والطبراني (19/ 419، 426، 422/ 424)(1012)(1023)(1030)(1036)، وإسناده حسن.

ص: 161

رحمه، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر»

(1)

. وفي رواية: «خير النّاس أتقاهم للرب، وأوصلهم للرّحم، وآمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر»

(2)

. وقال «النّاس معادن؛ فخيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا»

(3)

.

وقال: «خير النّاس من طال عمره وحسن عمله، وشرّ النّاس من طال عمره وساء عمله»

(4)

. وقال: «خيركم من يرجى خيره ويؤمن شرّه، وشرّكم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شرّه»

(5)

. وقال: «ألا أخبركم بخياركم؟» ، قالوا:

بلى، قال:«الّذين إذا رءوا ذكر الله، ألا أنبئكم بشراركم؟» قالوا: بلى، قال:«المشّاءون بالنّميمة، المفرّقون بين الأحبّة، الباغون للبرآء العنت»

(6)

.

وقال: «شرّ النّاس منزلة عند الله من تركه النّاس اتّقاء فحشه»

(7)

. وقال:

«إنّ من شرّ النّاس منزلة عند الله يوم القيامة عبدا أذهب آخرته بدنيا غيره»

(8)

.

(1)

أخرجه: أحمد (431، 6/ 68). بإسناد ضعيف.

(2)

أخرجه: أحمد (6/ 432)، والطبراني (24/ 257)(657).

(3)

أخرجه: البخاري (4/ 182)(3383)(3353)، ومسلم (7/ 180)(2526)(2638).

(4)

أخرجه: أحمد (50، 49، 48، 47، 44، 43، 5/ 40)، والطيالسي (864)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (5208)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (1836)، و «تخريج المشكاة» (5285).

(5)

أخرجه: أحمد (378، 2/ 368)، والترمذي (2264)، وأبو يعلى (3910). وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 183):«رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح» ، وصححه الألباني في «تخريج المشكاة» (9493).

(6)

أخرجه: أحمد (4/ 227)، والبزار (3626 - كشف)، والطبراني (24/ 167)(423)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 6)، والحديث له شواهد كثيرة قد يحسّن من أجلها.

(7)

أخرجه: البخاري (38، 8/ 21)(6054 - 6131)، ومسلم (8/ 21)(2591).

(8)

أخرجه: ابن ماجه (3966)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 56)، وإسناده ضعيف، وراجع «الضعيفة» (1915).

ص: 162

وقال: «إنّ من شرّ النّاس منزلة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه»

(1)

. وقال: «إنّ من شرّ النّاس عند الله منزلة من يقرأ كتاب الله ثم لا يرعوي إلى ما فيه»

(2)

.

أعمال الأمّة تعرض على نبيّها في البرزخ، فليستح عبد أن يعرض على نبيّه من عمله ما نهاه عنه.

لمّا وقف صلى الله عليه وسلم عام حجّة الوداع، قال:«إنّي فرطكم على الحوض، وإنّي مكاثر بكم الأمم، فلا تسوّدوا وجهي»

(3)

. يشير إلى أنّه صلى الله عليه وسلم يستحي من سيئات أمّته إذا عرضت عليه. وقال: «ليؤخذنّ برجال من أمّتي ذات الشمال، فأقول:

يا ربّ! أصحابي، فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن بدّل بعدي»

(4)

.

خير هذه الأمّة أوّلها قرنا، كما قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»

(5)

. وقال: «بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا، حتّى كنت من القرن الّذي كنت منه»

(6)

.

كم قد جاء مدح أصحابه في كتابه: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29]. {لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ}

(1)

أخرجه: البخاري (89، 8/ 21)(7179، 6058)، ومسلم (7/ 181)(2526).

(2)

أخرجه: أحمد (58، 3/ 37)، والنسائي (6/ 12)، وفي إسناده ضعف.

(3)

أخرجه: ابن ماجه (3057)، وقال في «زوائد ابن ماجه»:«إسناده صحيح» .

(4)

أخرجه: البخاري (58، 8/ 150 - 59)(7051، 6585)، ومسلم (7/ 67)(2291)، وأحمد (339، 5/ 333).

(5)

أخرجه: البخاري (224، 3/ 176)، (5/ 3)، (8/ 113)(3650، 2652، 2651، 6658، 6429، 3651)، ومسلم (186، 7/ 185)(2535، 2534، 2533) وليس عندهما بهذا اللفظ.

(6)

أخرجه: البخاري (4/ 229)(3557).

ص: 163

{تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]. وخصّ الصّدّيق من بينهم بالصّحبة بقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا} [التوبة: 40].

لمّا جلى الرّسول صلى الله عليه وسلم عروس الإسلام وأبرزها للبصائر من خدرها، أخرج أبو بكر رضي الله عنه ماله كلّه نثارا لهذا العروس، فأخرج عمر النصف موافقة له، فقام عثمان بوليمة العرس، فجهز جيش العسرة، فعلم عليّ أنّ الدّنيا ضرّة هذه العروس، وأنّهما لا يجتمعان، فبتّ طلاقها ثلاثا. فالحمد لله الذي خصّنا بهذه الرّحمة، وأسبغ علينا هذه النّعمة، وأعطانا ببركة نبيّنا صلى الله عليه وسلم هذه الفضائل الجمّة، فقال لنا:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ} [آل عمران: 110].

من أين في الأمم مثل أبي بكر الصّدّيق، أو عمر الذي ما سلك طريقا إلاّ هرب الشّيطان من ذلك الطريق، أو عثمان الصابر على مر الضيق، أو عليّ بحر العلم العميق أو حمزة والعبّاس؟ أفيهم مثل طلحة والزّبير القرينين، أو مثل سعد وسعيد، هيهات!! من أين؟ أو مثل ابن عوف وأبي عبيدة، ومن مثل الاثنين إن شبّهتم بهم فقد أبعدتم القياس.

من أين في زهّاد الأمم مثل أويس، أو في عبّادهم مثل عامر بن عبد قيس، أو في خائفهم مثل عمر بن عبد العزيز؟! هيهات!! ليس ضوء الشّمس كالمقباس. أو في علمائهم مثل أبي حنيفة ومالك، والشّافعي السديد المسالك، كيف نمدحه وهو أجلّ من ذلك؟ ما أحسن بنيانه والأساس!! أثم أعلى من الحسن البصري وأنبل، أو ابن سيرين الذي بالورع تبتّل، أو سفيان الثّوريّ الذي بالخوف والعلم تسربل، أو مثل أحمد الذي بذل نفسه لله وسبّل، تالله ما في الأمم مثل ابن حنبل؛ ارفع صوتك بهذا ولا باس:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ} [آل عمران: 110].

ص: 164

لاح شيب الرّأس منّي فنصح

بعد لهو وشباب ومرح

إخوتي توبوا إلى الله بنا

قد لهونا وجهلنا ما صلح

نحن في دار نرى الموت بها

لم يدع فيها لذي اللّبّ فرح

يا بني آدم صونوا دينكم

ينبغي للدّين ألاّ يطّرح

واحمدوا الله الّذي أكرمكم

بنبيّ قام فيكم فنصح

بنبيّ فتح الله به

كلّ خير نلتموه ومنح

مرسل لو يوزن النّاس به

في التّقى والبرّ خفّوا ورجح

فرسول الله أولى بالعلى

ورسول الله أولى بالمدح

***

ص: 165

‌المجلس الثاني في ذكر المولد أيضا

خرّج مسلم من حديث أبي قتادة الأنصاريّ رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الإثنين، فقال:«ذاك يوم ولدت فيه، وأنزلت عليّ فيه النّبوّة»

(1)

.

أمّا ولادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين فكالمجمع عليه بين العلماء، وقد قاله ابن عبّاس وغيره. وقد حكي عن بعضهم أنّه ولد يوم الجمعة، وهو قول ساقط مردود، وروي عن أبي جعفر الباقر أنّه توقّف في ذلك، وقال: لا يعلم ذلك إلاّ الله. وإنّما قال هذا لأنه لم يبلغه في ذلك ما يعتمد عليه، فوقف تورّعا.

وأمّا الجمهور فبلغهم في ذلك ما قالوا بحسبه. وقد روي عن أبي جعفر أيضا موافقتهم، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ولد يوم الإثنين، موافقة لما قاله سائر العلماء.

وحديث أبي قتادة يدلّ على أنّه صلى الله عليه وسلم ولد نهارا في يوم الإثنين.

وقد روي أنّه ولد عند طلوع الفجر منه. وروى أبو جعفر بن أبي شيبة في «تاريخه» ، وخرّجه من طريقه أبو نعيم في «الدلائل» بإسناد فيه ضعف، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: كان بمرّ الظّهران راهب يدعى عيصا من أهل الشّام، وكان يقول: يوشك أن يولد فيكم - يا أهل مكّة - مولود تدين له العرب، ويملك العجم؛ هذا زمانه. فكان لا يولد بمكّة مولود إلاّ سأل عنه.

فلمّا كان صبيحة اليوم الّذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد الله بن

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 167 - 168)(1162).

ص: 166

عبد المطلب حتّى أتى عيصا فناداه: فأشرف عليه، فقال له عيصا: كن أباه، فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدّثكم عنه يوم الإثنين، ويبعث يوم الإثنين، ويموت يوم الإثنين قال: إنّه ولد لي مع الصّبح مولود، قال: فما سمّيته؟ قال: محمّد، قال: والله، لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت، لثلاث خصال بها نعرفه، فقد أتى عليهن؛ منها: أنّه طلع نجمه البارحة، وأنّه ولد اليوم، وأنّ اسمه محمّد، انطلق إليه؛ فإنّه الذي كنت أحدّثكم عنه. وقد روي ما يدلّ على أنّه ولد ليلا، وقد سبق في المجلس الذي قبله من الآثار ما يستدلّ به لذلك.

وفي «صحيح الحاكم» عن عائشة، قالت: كان بمكّة يهوديّ يتّجر فيها، فلمّا كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلمه، فقال: ولد الليلة نبيّ هذه الأمّة الأخيرة، بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنّهنّ عرف فرس، فخرجوا باليهوديّ حتّى أدخلوه على أمّه، فقالوا: أخرجي إلينا ابنك، فأخرجته، وكشفوا عن ظهره، فرأى تلك الشّامة، فوقع اليهوديّ مغشيّا عليه، فلما أفاق قالوا: ويلك! ما لك؟ قال: ذهبت والله النّبوّة من بني إسرائيل

(1)

.

وهذا الحديث يدلّ على أنّه ولد بخاتم النّبوّة بين كتفيه. وخاتم النّبوّة من علامات نبوّته التي كان يعرفه بها أهل الكتاب ويسألون عنها، ويطلبون الوقوف عليها.

وقد روي أن هرقل بعث إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتبوك من ينظر له خاتم النبوّة ثم يخبره عنه. وقد روي من حديث أبي ذرّ، وعتبة بن عبد، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، أنّ

(1)

أخرجه: الحاكم (2/ 601) وقال: «صحيح الإسناد» ، وتعقبه الذهبي بقوله:«لا» .

ص: 167

الملكين اللذين شقّا صدره وملآه حكمة هما اللّذان ختماه بخاتم النّبوّة

(1)

، وهذا يخالف حديث عائشة هذا.

وقد روي أنّ هذا الخاتم رفع من بعد موته من بين كتفيه، ولكن إسناد هذا الحديث ضعيف. وقد روي في صفة ولادته آيات تستغرب؛ فمنها ما روي عن آمنة بنت وهب أنّها قالت: وضعته فما وقع كما يقع الصّبيان، وقع واضعا يده على الأرض، رافعا رأسه إلى السّماء. وروي أيضا أنّه قبض قبضة من التّراب بيده لمّا وقع بالأرض. فقال بعض القافة: إن صدق الفأل ليغلبنّ أهل الأرض.

وروي أنّه وضع تحت جفنة، فانفلقت عنه، ووجدوه ينظر إلى السّماء.

واختلفت الروايات؛ هل ولد مختونا؟ فروي أنّه ولد مختونا مسرورا، يعني مقطوع السّرّة، حتّى قال الحاكم

(2)

: تواترت الروايات بذلك. وروي أنّ جدّه ختنه، وتوقّف الإمام أحمد في ذلك.

قال المرّوذيّ: سئل أبو عبد الله: هل ولد النّبيّ صلى الله عليه وسلم مختونا؟ قال: الله أعلم، ثمّ قال: لا أدري. قال أبو بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا: قد روي أنّه صلى الله عليه وسلم ولد مختونا مسرورا. ولم يجترئ أبو عبد الله على تصحيح هذا الحديث.

وأمّا شهر ولادته فقد اختلف فيه، فقيل: في شهر رمضان، روي عن عبد الله بن عمرو بإسناد لا يصحّ. وقيل: في رجب، ولا يصحّ. وقيل: في ربيع الأوّل، وهو المشهور بين النّاس، حتّى نقل ابن الجوزيّ وغيره عليه الاتّفاق، ولكنّه قول جمهور العلماء. ثم اختلفوا في أيّ يوم كان من الشهر،

(1)

أخرجه: الحاكم (2/ 616 - 617) وقال: «صحيح على شرط مسلم» . ووافقه الذهبي.

(2)

«المستدرك» (602)، وتعقبه الذهبي بقوله:«ما أعلم صحة ذلك، فكيف متواترا؟!» .

ص: 168

فمنهم من قال: هو غير معيّن، وإنما ولد في يوم الإثنين من ربيع الأول من غير تعيين لعدد ذلك اليوم من الشهر.

والجمهور على أنّه يوم معيّن منه، ثم اختلفوا، فقيل: لليلتين خلتا منه.

وقيل: لثمان خلت منه. وقيل: لعشر. وقيل: لاثنتي عشرة. وقيل: لسبع عشرة. وقيل: لثماني عشرة. وقيل: لثمان بقين منه. وقيل: إنّ هذين القولين غير صحيحين عمّن حكيا عنه بالكلّيّة، والمشهور الذي عليه الجمهور أنّه ولد يوم الإثنين ثاني عشر ربيع الأوّل، وهو قول ابن إسحاق وغيره.

وأمّا عام ولادته فالأكثرون على أنّه عام الفيل؛ وممّن قال ذلك قيس بن مخرمة، وقباث بن أشيم، وابن عبّاس، وروي عنه أنّه ولد يوم الفيل، وقيل:

إنّ هذه الرواية وهم، إنّما الصحيح عنه أنّه قال: عام الفيل. ومن العلماء من حكى الاتفاق على ذلك وقال: كلّ قول يخالفه وهم. والمشهور أنّه صلى الله عليه وسلم ولد بعد الفيل بخمسين يوما.

وقيل: بعده بخمس وخمسين يوما. وقيل: بشهر. وقيل: بأربعين يوما.

وقد قيل: إنّه ولد بعد الفيل بعشر سنين. وقيل: بثلاث وعشرين سنة. وقيل:

بأربعين سنة. وقيل: قبل الفيل بخمس عشرة سنة. وهذه الأقوال وهم عند جمهور العلماء، ومنها ما لا يصحّ عمّن حكي عنه.

قال إبراهيم بن المنذر الحزاميّ: الذي لا يشكّ فيه أحد من علمائنا أنّه صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل. وقال خليفة بن خيّاط: هذا هو المجمع عليه. وكانت قصّة الفيل توطئة لنبوّته وتقدمة لظهوره وبعثته. وقد قصّ الله ذلك في كتابه فقال:

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 1 - 5].

ص: 169

فقوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] استفهام تقرير لمن سمع هذا الخطاب، وهذا يدلّ على اشتهار ذلك بينهم ومعرفتهم به، وأنّه ممّا لا يخفى علمه عن العرب، خصوصا قريش وأهل مكّة. وهذا أمر اشتهر بينهم وتعارفوه، وقالوا فيه الأشعار السّائرة.

وقد قالت عائشة رضي الله عنها: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكّة أعميين يستطعمان.

وفي هذه القصّة ما يدلّ على تعظيم مكّة، واحترامها واحترام بيت الله الذي فيها. وولادة النّبيّ صلى الله عليه وسلم عقيب ذلك تدلّ على نبوّته ورسالته؛ فإنّه صلى الله عليه وسلم بعث بتعظيم هذا البيت وحجّه والصّلاة إليه، وكان هذا البلد هو موطنه ومولده، فاضطرّه قومه عند دعوتهم إلى الله إلى الخروج منه كرها بما نالوه منه من الأذى، ثم إنّ الله تعالى ظفّره بهم، وأدخله عليهم قهرا، فملك البلد عنوة، وملك رقاب أهله، ثمّ منّ عليهم وأطلقهم وعفا عنهم، فكان في تسليط نبيّه صلى الله عليه وسلم على هذا البلد وتمليكه إيّاه ولأمّته من بعده ما دلّ على صحّة نبوّته، فإنّ الله حبس عنه من يريده بالأذى وأهلكه، ثم سلّط عليه رسوله وأمّته كما قال صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله حبس عن مكّة الفيل وسلّط عليها رسوله والمؤمنين»

(1)

.

فإنّ الرسول صلى الله عليه وسلم وأمّته إنّما قصدهم تعظيم البيت وتكريمه واحترامه، ولهذا أنكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح على من قال: اليوم تستحلّ الكعبة، وقال:«اليوم تعظّم الكعبة»

(2)

.

وقد كان أهل الجاهلية غيّروا دين إبراهيم وإسماعيل بما ابتدعوه من الشّرك وتغيير بعض مناسك الحجّ، فسلّط الله رسوله وأمّته على مكّة فطهّروها من ذلك كلّه، وردّوا الأمر إلى دين إبراهيم الحنيف، وهو الذي دعا لهم مع ابنه

(1)

أخرجه: البخاري (1/ 38 - 39)(2434)، ومسلم (4/ 110)(1355).

(2)

أخرجه: البخاري (5/ 186 - 187)(4280).

ص: 170

إسماعيل عند بناء البيت أن يبعث الله فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، فبعث الله فيهم محمّدا صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل بهذه الصّفة، فطهّر البيت وما حوله من الشّرك، وردّ الأمر إلى دين إبراهيم الحنيف، والتوحيد الذي لأجله بني البيت، كما قال تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26].

وأمّا تسليط القرامطة على البيت بعد ذلك، فإنّما كان عقوبة بسبب ذنوب النّاس، ولم يصلوا إلى هدمه ونقضه ومنع النّاس من حجّه وزيارته، كما كان يفعل أصحاب الفيل لو قدروا على هدمه وصرف النّاس عن حجّه. والقرامطة أخذوا الحجر والباب، وقتلوا الحاجّ وسلبوهم أموالهم، ولم يتمكّنوا من منع النّاس من حجّه بالكلّيّة، ولا قدروا على هدمه بالكلّيّة، كما كان أصحاب الفيل يقصدونه. ثم أذلّهم الله بعد ذلك وخذلهم وهتك أستارهم، وكشف أسرارهم.

والبيت المعظّم باق على حاله من التّعظيم، والزّيارة، والحجّ، والاعتمار، والصّلاة إليه، لم يبطل شيء من ذلك عنه بحمد الله ومنّه. وغاية أمرهم أنّهم أخافوا حاجّ العراق حتّى انقطعوا بعض السّنين، ثم عادوا. ولم يزل الله يمتحن عباده المؤمنين بما يشاء من المحن، ولكن دينه قائم محفوظ لا يزال تقوم به أمّة من أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم لا يضرّهم من خذلهم حتّى يأتي أمر الله وهم على ذلك، كما قال تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 32 - 33].

وقد أخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ هذا البيت يحجّ ويعتمر بعد خروج يأجوج

ص: 171

ومأجوج

(1)

، ولا يزال كذلك حتّى تخرّبه الحبشة

(2)

، ويلقون حجارته في البحر، وذلك بعد أن يبعث الله ريحا طيبّة تقبض أرواح المؤمنين كلّهم، فلا يبقى في الأرض مؤمن ويسرى بالقرآن من الصّدور والمصاحف، فلا يبقى في الأرض قرآن، ولا إيمان، ولا شيء في الخير

(3)

. فبعد ذلك تقوم السّاعة، ولا تقوم إلاّ على شرار النّاس

(4)

وقوله صلى الله عليه وسلم: «ويوم أنزلت عليّ فيه النّبوّة» ، يعني أنّه صلى الله عليه وسلم نبّئ يوم الإثنين.

وفي «المسند» عن ابن عبّاس، قال: ولد النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، واستنبئ يوم الإثنين، وخرج مهاجرا من مكّة إلى المدينة يوم الإثنين، ودخل المدينة يوم الإثنين، وتوفيّ يوم الإثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الإثنين

(5)

. وذكر ابن إسحاق أنّ النّبوّة نزلت يوم الجمعة، وحديث أبي قتادة يردّ هذا.

واختلفوا في أيّ شهر كان ابتداء النّبوّة؟ فقيل: في رمضان. وقيل: في رجب، ولا يصحّ. وقيل: في ربيع الأوّل. وقيل: إنه نبّئ يوم الإثنين لثمان من ربيع الأوّل.

وأمّا الإسراء، فقيل: كان في رجب، وضعّفه غير واحد. وقيل: كان في ربيع الأوّل، وهو قول إبراهيم الحربي وغيره.

وأمّا دخوله المدينة ووفاته صلى الله عليه وسلم فكانا في ربيع الأوّل بغير خلاف، مع الاختلاف في تعيين ذلك اليوم من أيّام الشهر.

(1)

أخرجه: البخاري (2/ 182 - 183)(1593).

(2)

أخرجه: البخاري (2/ 182)(1596)، ومسلم (8/ 183)(2909).

(3)

أخرجه: ابن ماجه (4049)، والحاكم (4/ 473)، (5/ 545).

(4)

أخرجه: مسلم (8/ 208)(2937)، وأحمد (1/ 435).

(5)

أخرجه: أحمد (1/ 277)، والطبراني (12984)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (7/ 233، 234). وفي سنده عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف.

ص: 172

وفي قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا سئل عن صيام يوم الإثنين: «ذاك يوم ولدت فيه، وأنزلت عليّ فيه النّبوّة»

(1)

، إشارة إلى استحباب صيام الأيّام التي تتجدّد فيها نعم الله على عباده. فإنّ أعظم نعم الله على هذه الأمّة إظهار محمد صلى الله عليه وسلم لهم وبعثته وإرساله إليهم، كما قال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران: 164].

فإنّ النّعمة على الأمّة بإرساله أعظم من النّعمة عليهم بإيجاد السّماء، والأرض، والشّمس، والقمر، والرّياح، والليل، والنّهار، وإنزال المطر، وإخراج النبات، وغير ذلك؛ فإنّ هذه النّعم كلّها قد عمّت خلقا من بني آدم كفروا بالله وبرسله وبلقائه، فبدّلوا نعمة الله كفرا.

وأمّا النّعمة بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم، فإنّ بها تمّت مصالح الدّنيا والآخرة، وكمل بسببها دين الله الذي رضيه لعباده، وكان قبوله سبب سعادتهم في دنياهم وآخرتهم، فصيام يوم تجدّدت فيه هذه النّعم من الله على عباده المؤمنين حسن جميل، وهو من باب مقابلة النّعم في أوقات تجدّدها بالشكر. ونظير هذا صيام يوم عاشوراء حيث أنجى الله فيه نوحا من الغرق، ونجّى فيه موسى وقومه من فرعون وجنوده، وأغرقهم في اليمّ، فصامه نوح وموسى شكرا، فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم متابعة لأنبياء الله، وقال لليهود:«نحن أحقّ بموسى منكم» ، وصامه وأمر بصيامه.

وقد روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتحرّى صيام يوم الإثنين ويوم الخميس، روي ذلك عنه من حديث عائشة، وأبي هريرة، وأسامة بن زيد. وفي حديث أسامة أنّه سأله عن ذلك، فقال: «إنّهما يومان تعرض فيهما الأعمال على ربّ

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 167 - 168)(1162).

ص: 173

العالمين، فأحبّ أن يعرض عملي وأنا صائم»

(1)

. وفي حديث أبي هريرة، أنّه سئل عن ذلك، فقال: «إنّه يغفر فيهما لكلّ مسلم، إلاّ مهتجرين، يقول:

دعهما حتّى يصطلحا»

(2)

. وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة مرفوعا:

«تفتح أبواب الجنّة يوم الإثنين والخميس، فيغفر لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئا، إلاّ رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتّى يصطلحا»

(3)

.

ويروى من حديث أبي أمامة مرفوعا: «ترفع الأعمال يوم الإثنين والخميس، فيغفر للمستغفرين، ويترك أهل الحقد بحقدهم»

(4)

. وفي «المسند» عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«إنّ أعمال بني آدم تعرض كلّ خميس ليلة الجمعة، فلا يقبل عمل قاطع رحم»

(5)

.

كان بعض التابعين يبكي إلى امرأته يوم الخميس وتبكي إليه، ويقول: اليوم تعرض أعمالنا على الله عز وجل، يا من يبهرج بعمله، على من تبهرج، والناقد بصير؟. يا من يسوّف بتطويل أمله، إلى كم تسوّف والعمر قصير؟

(1)

أخرجه: الترمذي (747)، والنسائي (4/ 201 - 202).

وقد روي من حديث عدة من الصحابة، وهو حديث صحيح، وراجع:«التلخيص» (410/ 2 - 411).

(2)

أخرجه: أحمد (2/ 329)، وابن ماجه (1740)، والترمذي (747)، وقال:«حسن غريب» .

(3)

أخرجه: مسلم (8/ 11)(2565)، وأحمد (400، 389، 2/ 268)، وأبو داود (4916)، والترمذي (2023).

(4)

أخرجه: الطبراني (10/ 10)(9776) عن أبي أمامة عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكره الهيثمي (8/ 65) وقال:«وفيه علي بن زيد الألهاني، وهو متروك» .

(5)

أخرجه: أحمد (2/ 484)، والبخاري في «الأدب المفرد» (61)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (7966، 7965)، وهو حديث حسن.

وراجع: «الإرواء» (949، 948).

ص: 174

صروف الحتف مترعة الكئوس

تدار على الرّعايا والرّءوس

فلا تتبع هواك فكلّ شخص

يصير إلى بلي وإلى دروس

وخف من هول يوم قمطرير

مخوف شرّه ضنك عبوس

فمالك غير تقوى الله زادا

وفعلك حين تقبر من أنيس

فحسّنه ليعرض مستقيما

ففي الإثنين يعرض والخميس

***

ص: 175

‌المجلس الثالث في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم

خرّجا في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر، فقال:«إنّ عبدا خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدّنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده» . فبكى أبو بكر، وقال:

يا رسول الله، فديناك بآبائنا وأمّهاتنا، قال: فعجبنا، وقال النّاس: انظروا إلى هذا الشيخ! يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدّنيا ما شاء، وبين ما عند الله، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمّهاتنا.

قال: فكان رسول صلى الله عليه وسلم هو المخيّر، وكان أبو بكر هو أعلمنا به. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«إنّ من أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متّخذا من أهل الأرض خليلا لاتّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوّة الإسلام، لا تبقى في المسجد خوخة إلا سدّت، إلاّ خوخة أبي بكر، رضي الله عنه»

(1)

.

الموت مكتوب على كل حيّ من الأنبياء والرّسل وغيرهم. قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزّمر: 30]. وقال: {وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 34 - 35]. وقال تعالى: {وَما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ} الآيتين

(2)

[آل عمران: 144].

(1)

أخرجه: البخاري (5/ 4 - 5)(3904)، ومسلم (7/ 108)(2382).

(2)

في ب ذكر الآيتين كاملتين.

ص: 176

خلق الله تعالى آدم من تراب الأرض، ونفخ فيه من روحه، فكانت روحه في جسده وأرواح ذريّته في أجسادهم في هذه الدّار عاريّة، وقضى عليه وعلى ذريّته أنّه لا بدّ من أن يستردّ أرواحهم من هذه الأجساد، ويعيد أجسادهم إلى ما خلقت منه، وهو التّراب، ووعد أن يعيد الأجساد من الأرض مرّة ثانية، ثمّ يردّ إليها الأرواح مرّة ثانية تمليكا دائما لا رجعة فيه في دار البقاء.

قال الله تعالى: {فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ} [الأعراف: 25].

وقال تعالى: {مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى} [طه: 55].

وقال: {وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً} [نوح:

17 -

18].

وأرانا دليلا في هذه الدار على إعادة الأجساد من التراب بإنبات الزّرع من الأرض، وإحياء الأرض بعد موتها بالمطر، ودليلا على إعادة الأرواح إلى أجسادها بعد المفارقة بقبض أرواح العباد في منامهم، وردّها إليهم في يقظتهم، كما قال تعالى:{اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزّمر: 42].

وفي «مسند البزار» ، عن أنس، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم لمّا ناموا عن الصّلاة:«إنّ هذه الأرواح عاريّة في أجساد العباد فيقبضها إذا شاء ويرسلها إذا شاء»

(1)

.

استعدّي للموت يا نفس واسعي

لنجاة فالحازم المستعدّ

(1)

أخرجه: البزار (396 - كشف)، والعقيلي (3/ 330)، وضعّفه، وانظر «فتح الباري» لابن رجب (3/ 326 بتحقيقي). و «مجمع الزوائد» (1/ 322).

ص: 177

قد تيقّنت أنّه ليس للح

يّ خلود ولا من الموت بدّ

إنّما أنت مستعيرة ما سو

ف تردّين والعواري تردّ

غيره:

فما أهل الحياة لنا بأهل

ولا دار الحياة لنا بدار

وما أموالنا والأهل فيها

ولا أولادنا إلاّ عواري

وأنفسنا إلى أجل قريب

سيأخذها المعير من المعار

مفارقة الجسد للرّوح لا تقع إلاّ بعد ألم عظيم تذوقه الرّوح والجسد جميعا، فإنّ الرّوح قد تعلّقت بهذا الجسد وألفته، واشتدّت ألفتها له وامتزاجها به ودخولها فيه، حتّى صارا كالشيء الواحد، فلا يتفارقان إلاّ بجهد شديد وألم عظيم، ولم يذق ابن آدم في حياته ألما مثله، وإلى ذلك الإشارة بقول الله عز وجل:{كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]. قال الرّبيع بن خثيم: أكثروا من ذكر هذا الموت؛ فإنّكم لم تذوقوا قبله مثله.

ويتزايد الألم بمعرفة المحتضر بأنّ جسده إذا فارقته الرّوح صار جيفة مستقذرة يأكله الهوامّ، ويبليه التّراب حتّى يعود ترابا، وأنّ الرّوح المفارقة له لا تدري أين مستقرّها، هل هو في الجنّة أو النّار؟ فإن كان عاصيا مصرّا على المعصية إلى الموت، فربّما غلب على ظنّه أنّ روحه تصير إلى النّار، فتتضاعف بذلك حسرته وألمه، وربّما كشف له مع ذلك عن مقعده من النّار فيراه أو يبشّر بذلك، فيجتمع له مع كرب الموت وألمه العظيم معرفته بسوء مصيره، وهذا هو المراد بقول الله تعالى:{وَالْتَفَّتِ السّاقُ بِالسّاقِ} [القيامة: 29] على ما فسّره به كثير من السّلف، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت، فلا تسأل عن سوء حاله.

ص: 178

وقد سمّى الله ذلك سكرة؛ لأنّ ألم الموت مع ما ينضمّ إليه يسكر صاحبه فيغيب عقله غالبا، قال الله تعالى:{وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 19].

ألا للموت كأس أيّ كأس

وأنت لكأسه لا بدّ حاسي

إلى كم والممات إلى قريب

تذكّر بالممات وأنت ناسي

وقد أمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكثرة ذكر الموت، فقال:«أكثروا ذكر هاذم اللّذّات، الموت»

(1)

. وفي حديث مرسل أنّه صلى الله عليه وسلم مرّ بمجلس قد استعلاه الضّحك، فقال:«شوبوا مجلسكم بذكر مكدّر اللّذّات»

(2)

الموت. وفي الإكثار من ذكر الموت فوائد؛ منها: أنّه يحثّ على الاستعداد له قبل نزوله، ويقصّر الأمل، ويرضي بالقليل من الرّزق، ويزهّد في الدّنيا، ويرغّب في الآخرة، ويهوّن مصائب الدّنيا، ويمنع من الأشر والبطر والتّوسّع في لذّات الدّنيا.

وفي حديث أبي ذرّ المرفوع الذي خرّجه ابن حبّان في «صحيحه» وغيره:

«إنّ صحف موسى عليه السلام كانت عبرا فيها: عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح! عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك! عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب! عجبت لمن رأى الدّنيا وسرعة تقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها!»

(3)

.

وقد روي أنّ الكنز الذي كان للغلامين كان لوحا من ذهب مكتوب فيه هذا أيضا.

(1)

أخرجه: أحمد (2/ 293)، والنسائي (4/ 4)، والترمذي (2307)، وابن ماجه (4258)، وابن حبان (2992)، (2994)، (2995).

والحديث صححه الألباني في «الإرواء» (682)، و «تخريج المشكاة» (1607).

(2)

عزاه في «الجامع الصغير» (3408)، و «كنز العمال» (42112) لابن أبي الدنيا عن عطاء الخراساني مرسلا.

(3)

أخرجه: ابن حبان (361) مطوّلا جدّا، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/ 166 - 168)، وهو موضوع.

ص: 179

قال الحسن: إنّ هذا الموت قد أفسد على أهل النّعيم نعيمهم، فالتمسوا عيشا لا موت فيه. وقال: فضح الموت الدنيا فلم يدع لذي لبّ بها فرحا.

وقال غيره: ذهب ذكر الموت بلذاذة كلّ عيش، وسرور كلّ نعيم، ثم بكى.

وقال: واها لدار لا موت فيها.

اذكر الموت هاذم اللّذّات

وتهيّأ لمصرع سوف ياتي

غيره:

يا غافل القلب عن ذكر المنيّات

عمّا قليل ستلقى بين أموات

فاذكر محلّك من قبل الحلول به

وتب إلى الله من لهو ولذّات

إنّ الحمام له وقت إلى أجل

فاذكر مصائب أيّام وساعات

لا تطمئنّ إلى الدّنيا وزينتها

قد آن للموت يا ذا اللّبّ أن ياتي

قال بعض السّلف: شيئان قطعا عنّي لذاذة الدنيا؛ ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل.

وكيف يلذّ العيش من كان موقنا

بأنّ المنايا بغتة ستعاجله

وكيف يلذّ العيش من كان موقنا

بأنّ إله الخلق لا بدّ سائله

قال أبو الدّرداء: كفى بالموت واعظا، وكفى بالدّهر مفرّقا، اليوم في الدّور، وغدا في القبور.

اذكر الموت وداوم ذكره

إنّ في الموت لذي اللّبّ عبر

وكفى بالموت فاعلم واعظا

لمن الموت عليه قد قدر

غفلة الإنسان عن الموت مع أنّه لا بدّ له منه من العجب. والموجب لها طول الأمل:

ص: 180

كلّنا في غفلة والموت

يغدو ويروح

لبني الدّنيا من الموت

غبوق وصبوح

سيصير المرء يوما

جسدا ما فيه روح

بين عيني كلّ حيّ

علم الموت يلوح

نح على نفسك يا مسكين

إن كنت تنوح

لتموتنّ ولو عمّرت

ما عمّر نوح

لمّا كان الموت مكروها بالطّبع، لما فيه من الشّدّة والمشقّة العظيمة، لم يمت نبيّ من الأنبياء حتّى يخيّر، ولذلك وقع التردّد فيه في حقّ المؤمن، كما في حديث أبي هريرة، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم:«يقول الله عز وجل: وما تردّدت عن شيء أنا فاعله، تردّدي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بدّ له منه»

(1)

.

قال ابن أبي مليكة: لمّا قبض إبراهيم عليه السلام قال الله عز وجل: كيف وجدت الموت؟ قال: يا رب، كأن نفسي تنزع بالسّلى، فقال: هذا وقد هوّنا عليك الموت! وقال أبو إسحاق: قيل لموسى عليه السلام: كيف وجدت طعم الموت؟ قال: وجدته كسفّود أدخل في صوف فاجتذب. قال: هذا وقد هوّنّا عليك الموت!

ويروى أنّ عيسى عليه السلام كان إذا ذكر الموت يقطر جلده دما، وكان يقول للحواريّين: ادعوا الله أن يخفّف عنّي الموت، فلقد خفت الموت خوفا أوقعني مخافة الموت على الموت.

(1)

أخرجه: البخاري (8/ 131)(6502).

ص: 181

كيف يطمع في البقاء وما من الأنبياء إلاّ مات؟ أم كيف يؤمن هجوم المنايا ولم يسلم الأصفياء والأحباء؟ هيهات هيهات.

قد مات كلّ نبيّ

ومات كلّ نبيه

ومات كلّ شريف

وعاقل وسفيه

لا يوحشنك طريق

كلّ الخلائق فيه

أوّل ما أعلم النّبيّ صلى الله عليه وسلم من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة: {إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} [النّصر: 1]

(1)

. فإن المراد من هذه السّورة أنّك يا محمّد، إذا فتح الله عليك البلاد، ودخل النّاس في دينك الذي دعوتهم إليه أفواجا فقد اقترب أجلك. فتهيّأ للقائنا بالتّحميد والاستغفار، فإنّه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرّسالة والتّبليغ، وما عندنا لك خير من الدّنيا، فاستعدّ للنّقلة إلينا. قال ابن عبّاس: لمّا نزلت هذه السورة نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، فأخذ في أشدّ ما كان اجتهادا في أمر الآخرة.

وروي في حديث أنّه تعبّد حتّى صار كالشّنّ البالي، وكان يعرض القرآن كلّ عام على جبريل مرّة، فعرضه ذلك العام مرّتين، وكان يعتكف العشر الأواخر من رمضان كلّ عام، فاعتكف في ذلك العام عشرين، وأكثر من الذّكر والاستغفار.

قالت أمّ سلمة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد

ص: 182

ولا يذهب ولا يجيء إلاّ قال: «سبحان الله وبحمده» . فذكرت ذلك له، فقال: «إنّي أمرت بذلك وتلا هذه السّورة

(1)

. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل موته: «سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه» . فقلت له: إنّك تدعو بدعاء لم تكن تدعو به قبل اليوم، قال:

«إنّ ربّي أخبرني أنّي سأرى علما في أمّتي، وأنّي إذا رأيته أن أسبّح بحمده وأستغفره، وقد رأيته»

(2)

. ثمّ تلا هذه السورة.

إذا كان سيّد المحسنين يؤمر بأن يختم أعماله بالحسنى، فكيف يكون حال المذنب المسيء المتلوّث بالذّنوب المحتاج إلى التّطهير؟ من لم ينذره باقتراب أجله وحي، أنذره الشّيب وسلب أقرانه بالموت.

كفى مؤذنا باقتراب الأجل

شباب تولّى وشيب نزل

وموت اللّذّات هل

(3)

بعده

بقاء يؤمّله من عقل

إذا ارتحلت قرناء الفتى

على حكم ريب المنون ارتحل

قال وهيب بن الورد: إنّ لله ملكا ينادي في السّماء كلّ يوم وليلة أبناء الخمسين: زرع دنا حصاده، أبناء الستين: هلمّوا إلى الحساب؛ أبناء السبعين:

ماذا قدّمتم، وماذا أخّرتم؟ أبناء الثمانين: لا عذر لكم. وعن وهب، قال:

ينادي مناد: أبناء الستين! عدّوا أنفسكم في الموتى.

وفي «صحيح البخاري» ، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«أعذر الله إلى من بلغه ستين من عمره»

(4)

. وفي حديث آخر: «إذا كان يوم القيامة

(1)

أخرجه: الطبري في «تفسيره» (30/ 335)، وقال ابن كثير في «تفسيره» (8/ 533):«غريب» . يعني: «ضعيف» .

(2)

أخرجه: مسلم (2/ 50)(484)، وأحمد (6/ 35).

(3)

في ص، ب:«وموت الأقران وهل» .

(4)

أخرجه: البخاري (8/ 111)(6419).

ص: 183

نودي: أين أبناء السّتين؟ وهو العمر الذي قال الله تعالى فيه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37]»

(1)

. وفي الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم، قال:

«أعمار أمّتي ما بين السّتين إلى السّبعين، وأقلّهم من يجوز ذلك»

(2)

. وفي حديث آخر: «معترك المنايا ما بين السّتين إلى السّبعين»

(3)

.

وفي حديث آخر: «إنّ لكلّ شيء حصادا، وحصاد أمّتي ما بين السّتين إلى السّبعين»

(4)

. وفي هذا المعترك قبض النبي صلى الله عليه وسلم. قال سفيان الثوريّ: من بلغ سنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتّخذ لنفسه كفنا.

وإنّ امرأ قد سار ستّين حجّة

إلى منهل من ورده لقريب

قال الفضيل لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة. قال له: أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربّك، يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنّا لله وإنا إليه راجعون، فقال فضيل: من علم أنّه لله عبد وأنّه إليه راجع، فليعلم أنّه موقوف، وأنّه مسئول، فليعدّ للمسألة جوابا، فقال له الرّجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى، فإنّك: إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي.

خذ في جدّ فقد تولّى العمر

كم ذا التّفريط قد تدانى الأمر

أقبل فعسى يقبل منك العذر

كم تبني كم تنقض كم ذا الغدر

(1)

رواه البيهقي (3/ 370)(6313) والطبراني في «الأوسط» (8/ 49)(7925) و (9/ 66)(9138)، وفي «الكبير» (11/ 177)(11415) وراجع «السلسلة الضعيفة» (2584).

(2)

أخرجه: الترمذي (2331)، (3550)، وابن ماجه (4236)، والحديث صححه الألباني في «الصحيحة» (757).

(3)

أخرجه: الخطيب في «تاريخه» (5/ 476)، وأبو يعلى في «مسنده» (11/ 422)(6543)، وإسناده ضعيف.

وراجع: «الصحيحة» (1517)، و «الفتح» (11/ 239).

(4)

أخرجه: ابن عساكر من حديث ابن عباس، وراجع «السلسلة الضعيفة» (4321).

ص: 184

وما زال صلى الله عليه وسلم يعرّض باقتراب أجله في آخر عمره، فإنّه لمّا خطب في حجّة الوداع، قال للنّاس:«خذوا عنّي مناسككم، فلعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا»

(1)

. وطفق يودّع النّاس، فقالوا: هذه حجّة الوداع. فلمّا رجع من حجّته إلى المدينة جمع النّاس بماء يدعى خمّا في طريقه بين مكّة والمدينة، فخطبهم وقال:«أيّها النّاس، إنّما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب»

(2)

ثمّ حضّ على التّمسّك بكتاب الله، ووصّى بأهل بيته. ثمّ إنّه لما بدأ به مرض الموت خيّر بين لقاء الله عز وجل وبين زهرة الدّنيا والبقاء فيها ما شاء الله، فاختار لقاء الله، وخطب النّاس وأشار إليهم بذلك إشارة من غير تصريح.

وكان ابتداء مرضه في أواخر شهر صفر، وكانت مدّة مرضه ثلاثة عشر يوما في المشهور. وقيل: أربعة عشر يوما. وقيل: اثنا عشر يوما. وقيل: عشرة أيام، وهو غريب.

وكانت خطبته التي خطب بها في حديث أبي سعيد هذا الذي نتكلّم عليه هاهنا في ابتداء مرضه.

ففي «المسند» ، «صحيح ابن حبان» ، عن أبي سعيد، قال: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو معصوب الرأس، فقام على المنبر، فقال:«إنّ عبدا عرضت عليه الدّنيا وزينتها، فاختار الآخرة» . قال:

فلم يفطن لها أحد من القوم إلاّ أبو بكر، فقال: بأبي وأمّي، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا. قال: ثمّ هبط عن المنبر فما رئي عليه حتّى السّاعة

(3)

.

(1)

أخرجه: مسلم (1297).

(2)

أخرجه: مسلم (2408).

(3)

أخرجه: أحمد (3/ 91)، وأبو يعلى (1155)، وابن حبان (6593).

وأصل الحديث عند البخاري (5/ 73)(3654)(3904)، ومسلم (7/ 308)(2382) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه بمعناه.

ص: 185

وفي «المسند» عن أبي مويهبة، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج ليلة إلى البقيع، فاستغفر لأهل البقيع، وقال:«ليهنكم ما أصبحتم فيه ممّا أصبح فيه النّاس، أقبلت الفتن كقطع اللّيل المظلم، يتبع بعضها بعضا، يتبع آخرها أوّلها، الآخرة شرّ من الأولى» . ثمّ قال: «يا أبا مويهبة، إنّي قد أعطيت خزائن الدّنيا والخلد ثم الجنّة، فخيّرت بين ذلك وبين لقاء ربّي، فاخترت لقاء ربّي والجنّة» ، ثمّ انصرف. فابتدأ وجعه الذي قبضه الله فيه

(1)

.

لمّا قويت معرفة الرّسول صلى الله عليه وسلم بربّه، ازداد حبّه له وشوقه إلى لقائه، فلمّا خير بين البقاء في الدّنيا وبين لقاء ربّه، اختار لقاءه على خزائن الدّنيا والبقاء فيها.

سئل الشّبليّ: هل يقنع المحبّ بشيء من حبيبه دون مشاهدته؟ فأنشد:

والله لو أنّك توّجتني

بتاج كسرى ملك المشرق

ولو بأموال الورى جدت لي

أموال من باد ومن قد بقي

وقلت لي لا نلتقي ساعة

اخترت يا مولاي أن نلتقي

لمّا عرّض الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر باختياره اللّقاء على البقاء ولم يصرّح، خفي المعنى على كثير ممّن سمع، ولم يفهم المقصود غير صاحبه الخصيص به {ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ} [التّوبة: الآية 40]. وكان أعلم الأمّة بمقاصد الرّسول صلى الله عليه وسلم، فلمّا فهم المقصود من هذه الإشارة بكى، وقال: بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا، فسكّن الرسول صلى الله عليه وسلم جزعه، وأخذ في مدحه والثّناء عليه على المنبر، ليعلم النّاس كلّهم فضله، فلا يقع عليه اختلاف في خلافته، فقال:«إنّ من أمنّ النّاس عليّ في صحبته وماله أبو بكر»

(2)

.

(1)

أخرجه: أحمد (489، 3/ 488)، والطبراني (22/ 346)(872)، وإسناده ضعيف.

(2)

أخرجه: البخاري (73، 5/ 4)(3904، 3654، 466)، ومسلم (7/ 108)(2382).

ص: 186

وفي رواية أخرى أنّه قال: «ما لأحد عندنا يد إلاّ وقد كافأناه، ما خلا أبا بكر، فإنّ له عندنا يدا يكافئه الله يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قطّ ما نفعني مال أبي بكر»

(1)

، خرّجه الترمذيّ.

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متّخذا من أهل الأرض خليلا، لاتّخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوّة الإسلام»

(2)

. لمّا كان الرّسول صلى الله عليه وسلم خليل الله، لم يصلح له أن يخالل مخلوقا، فإنّ الخليل من جرت محبّة خليله منه مجرى الرّوح، ولا يصلح هذا لبشر، كما قيل:

قد تخلّلت مسلك الرّوح منّي

وبذا سمّي الخليل خليلا

ولهذا المعنى قيل: إنّ إبراهيم الخليل عليه السلام أمر بذبح ولده، ولم يكن المقصود إراقة دم الولد، بل تفريغ محلّ الخلّة لمن لا يصلح أن يزاحمه فيها أحد

أروح وقد ختمت على فؤادي

بحبّك أن يحلّ به سواكا

فلو أنّي استطعت غضضت طرفي

فلم أنظر به حتّى أراكا

ثم قال صلى الله عليه وسلم: «لا يبقينّ خوخة في المسجد إلا سدّت إلاّ خوخة أبي بكر»

(2)

. وفي رواية: «سدّوا هذه الأبواب الشّارعة في المسجد إلاّ باب أبي بكر»

(3)

.

وفي هذا إشارة إلى أنّ أبا بكر هو الإمام بعده؛ فإنّ الإمام يحتاج إلى سكنى

(1)

أخرجه: أحمد (366، 2/ 253)، والترمذي (3661)، وابن ماجه (94)، وابن حبان (6858)، والنسائي في «الكبرى» (8048)، والحديث له شواهد كثيرة، وهو صحيح.

(2)

أخرجه: البخاري (73، 5/ 4)(3654، 466)، ومسلم (7/ 108)(2382) عن أبي سعيد.

(3)

أخرجها: ابن أبي عاصم في «السنة» (2/ 579)، والدارمي (82).

ص: 187

المسجد والاستطراق فيه، بخلاف غيره، وذلك من مصالح المسلمين المصلّين في المسجد، ثمّ أكّد هذا المعنى بأمره صريحا أن يصلّي بالناس أبو بكر، فروجع في ذلك فغضب، وقال:«مروا أبا بكر يصلّي بالنّاس»

(1)

، فولاّه إمامة الصّلاة دون غيره، وأبقى استطراقه من داره إلى مكان الصلاة، وسدّ استطراق غيره. وفي هذا إشارة واضحة إلى استخلافه على الأمّة دون غيره، ولهذا قالت الصّحابة رضي الله عنهم عند بيعة أبي بكر: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا. ولما قال أبو بكر: قد أقلتكم بيعتي، قال عليّ:

لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن ذا يؤخرك؟

لمّا انطوى بساط النّبوّة من الأرض بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يبق على وجه الأرض أكمل من درجة الصّدّيقيّة، وأبو بكر رأس الصّدّيقين، فلهذا استحقّ خلافة الرّسول صلى الله عليه وسلم والقيام مقامه.

وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يكتب لأبي بكر كتابا لئلا يختلف عليه، ثمّ أعرض عن ذلك، لعلمه أنّه لا يقع غيره، وقال:«يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»

(2)

وربّما كان ترك ذلك لئلا يتوهّم متوهّم أنّ نصّه على خلافته كانت مكافأة ليده التي كانت له. والولايات كلّها لا يقصد بها مصلحة المولّي، بل مصلحة المسلمين عامّة.

وكان أوّل ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرضه وجع رأسه، ولهذا خطب وقد عصب رأسه بعصابة دسماء، وكان صداع الرّأس والشّقيقة يعتريه كثيرا في حياته، ويتألّم منه أياما. وصداع الرأس من علامات أهل الإيمان وأهل الجنة.

(1)

أخرجه: البخاري (182، 1/ 169)(712، 687، 664)، ومسلم (23، 2/ 22)(418) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

أخرجه: مسلم (7/ 110)(2387) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 188

وقد روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه وصف أهل النّار فقال: «هم الذين لا يألمون رءوسهم»

(1)

ودخل عليه أعرابيّ، فقال له:«يا أعرابي، هل أخذك هذا الصّداع؟» ، فقال: وما الصّداع؟ قال: «عروق تضرب على الإنسان في رأسه» ، فقال: ما وجدت هذا. فلمّا ولّى الأعرابيّ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«من أحبّ أن ينظر إلى رجل من أهل النّار فلينظر إلى هذا»

(2)

. خرّجه الإمام أحمد، والنسائيّ.

وقال كعب: أجد في التوراة: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد لا يصّدّع أبدا. وفي «المسند» عن عائشة رضي الله عنها، قالت:

دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بدئ فيه، فقلت: وا رأساه! فقال:

«وددت أنّ ذلك كان وأنا حيّ، فهيّأتك ودفنتك» ، فقلت - غيرى -: كأنّي بك في ذلك اليوم عروسا ببعض نسائك، فقال:«أنا وا رأساه، وادعوا إليّ أباك وأخاك حتّى أكتب لأبي بكر كتابا، فإنّي أخاف أن يقول قائل ويتمنّى متمنّ، ويأبى الله والمؤمنون إلاّ أبا بكر»

(3)

.

وخرّجه البخاريّ بمعناه، ولفظه: أنّ عائشة رضي الله عنها، قالت: وا رأساه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذاك لو كان وأنا حيّ، فأستغفر لك وأدعو لك» ، قالت عائشة:

وا ثكلاه! والله إنّي لأظنّك تحبّ موتي، ولو كان ذلك لظللت آخر يومك معرّسا

(1)

أخرجه: أحمد (2/ 508)، والعقيلي (1/ 161).

وهو حديث منكر تفرد به البراء بن عبد الله الغنوي، وهو ضعيف، وذكره العقيلي في منكرات البراء هذا، وقال:«لا يتابع عليه» .

(2)

أخرجه: أحمد (2/ 232)، والنسائي في «السنن الكبرى» (4/ 353)(7491) وابن حبان (2916)، والبزار (778 - كشف)، والبيهقي في «الشعب» (9907)، وإسناده حسن.

(3)

أخرجه: مسلم (7/ 110)(2387)، وأحمد (6/ 144)، وابن حبان (6598)، والبيهقي (8/ 153).

ص: 189

ببعض أزواجك. فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «بل أنا وا رأساه!»

(1)

، وذكر بقيّة الحديث.

وفي «المسند» أيضا عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا مرّ ببابي ربما يلقي الكلمة ينفع الله بها، فمرّ ذات يوم فلم يقل شيئا، مرتين، أو ثلاثا.

قلت: يا جارية، ضعي لي وسادة على الباب، وعصبت رأسي، فمرّ بي فقال:

«يا عائشة، ما شأنك؟» ، فقلت: أشتكي رأسي، فقال:«أنا وا رأساه!» ، فذهب فلم يلبث إلاّ يسيرا حتّى جيء به محمولا في كساء، فدخل عليّ، فبعث إلى النساء، وقال:«إنّي اشتكيت، وإنّي لا أستطيع أن أدور بينكنّ، فأذنّ لي فلأكن عند عائشة»

(2)

.

وفيه أيضا عنها، قالت: رجع إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول: وا رأساه! قال: «بل أنا وا رأساه!» ، ثمّ قال:«ما ضرّك لو متّ قبلي فغسّلتك وكفّنتك، ثم صلّيت عليك ودفنتك؟» ، فقلت: لكأنّي بك والله لو فعلت ذلك، لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك، فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ بدئ في وجعه الذي مات فيه

(3)

.

فقد تبيّن أنّ أوّل مرضه كان صداع الرأس، والظّاهر أنّه كان مع حمّى، فإنّ الحمّى اشتدّت به في مرضه، فكان يجلس في مخضب، ويصبّ عليه الماء من سبع قرب، لم تحلل أوكيتهنّ؛ يتبرّد بذلك. وكان عليه قطيفة، فكانت حرارة

(1)

أخرجه: البخاري (7/ 155)(5666)(7217).

(2)

أخرجه: أحمد (6/ 219)، وأبو داود (2137) مختصرا، وإسناده حسن إن شاء الله.

(3)

أخرجه: أحمد (6/ 228)، وابن ماجه (1465)، وابن حبان (6586)، والبيهقي (396/ 3)، والدارقطني (2/ 74)، وصححه الألباني في «أحكام الجنائز» (ص 50).

ص: 190

الحمّى تصيب من وضع يده عليه من فوقها، فقيل له في ذلك، فقال:«إنّا كذلك يشدّد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر»

(1)

. وقال: «إنّي أوعك كما يوعك رجلان منكم»

(2)

.

ومن شدّة وجعه كان يغمى عليه في مرضه، ثم يفيق، وحصل له ذلك غير مرّة، فأغمي عليه مرّة وظنّوا أنّ وجعه ذات الجنب، فلدّوه، فلمّا أفاق أنكر ذلك، وأمر أن يلدّ من لدّه، وقال:«إنّ الله لم يكن ليسلّطها عليّ» يعني ذات الجنب، «ولكنّه من الأكلة الّتي أكلتها يوم خيبر» ، يعني أنّه نقض عليه سمّ الشّاة التي أهدتها له اليهوديّة، فأكل منها يومئذ، فكان ذلك يثور عليه أحيانا، فقال في مرض موته:«ما زالت أكلة خيبر تعاودني، فهذا أوان انقطاع أبهري»

(3)

فكان ابن مسعود وغيره. يقولون: إنّه مات شهيدا من السّمّ.

وقالت عائشة: ما رأيت أحدا كان أشدّ عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عنده في مرضه سبعة دنانير؛ فكان يأمرهم بالصّدقة بها، ثم يغمى عليه، فيشتغلون بوجعه، فدعا بها فوضعها في كفّه، وقال:«ما ظنّ محمّد بربّه لو لقي الله وعنده هذه؟»

(4)

، ثمّ تصدّق بها كلّها، فكيف يكون حال من لقي الله وعنده دماء المسلمين وأموالهم المحرّمة؟! وما ظنّه بربّه ولم يكن عندهم في مرضه دهن للمصباح يوقد فيه.

فلمّا اشتدّ وجعه ليلة الاثنين أرسلت عائشة بالمصباح إلى امرأة من النّساء،

(1)

أخرجه: ابن ماجه (4024)، والحاكم (1/ 41)، (4/ 307)، ويشهد له ما بعده.

(2)

أخرجه: البخاري (7/ 149 - 150)(5648)(5660)، ومسلم (8/ 14)(2571).

(3)

أخرجه: البخاري (6/ 11) معلقا بصيغة الجزم.

(4)

أخرجه: ابن حبان (715)، والطبراني (6/ 198) رقم (5990)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 124):«رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح» .

ص: 191

فقالت: قطّري لنا في مصباحنا من عكّة السّمن، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسى في جديد الموت. وكان عند عائشة إزار غليظ مما يصنع باليمن، وكساء من الملبّدة، فكانت تقسم بالله إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض فيهما.

ودخلت عليه فاطمة رضي الله عنها في مرضه، فسارّها بشيء فبكت، ثم سارّها فضحكت، فسئلت عن ذلك، فقالت: لا أفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

. فلمّا توفي سئلت، فقلت: أخبرني أنّه يموت في مرضه، فبكيت، ثمّ أخبرني أنّي أوّل أهله لحوقا به، وأنّي سيّدة نساء العالمين، فضحكت، فلمّا احتضر صلى الله عليه وسلم اشتدّ به الأمر، فقالت عائشة: ما أغبط أحدا يهوّن عليه الموت بعد الذي رأيت من شدّة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالت: وكان عنده قدح من ماء، فيدخل يده في القدح، ثمّ يمسح وجهه بالماء، ويقول:«اللهمّ، أعنّي على سكرات الموت»

(2)

، قالت: وجعل يقول: «لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات» .

وفي حديث مرسل أنه قال: «اللهم إنك تأخذ الرّوح من بين العصب والقصب والأنامل، اللهم فأعنّي على الموت وهوّنه عليّ» .

ولمّا ثقل النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعل تغشّاه الكرب، قالت فاطمة رضي الله عنها: وا كرب أبتاه، فقال لها:«لا كرب على أبيك بعد اليوم»

(3)

. وفي حديث خرّجه ابن ماجه أنّه صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: «إنّه قد حضر من أبيك ما ليس الله بتارك منه أحدا، الموافاة يوم القيامة»

(4)

.

(1)

أخرجه: البخاري (4/ 248)(3626)(3716)(4434)، ومسلم (7/ 142)(2450).

(2)

أخرجه: أحمد (151، 77، 70، 6/ 64)، وأبو يعلى (4510)، (4688)، والحاكم (505/ 2)، (3/ 58)، والبيهقي (4/ 259)، (6/ 269)، وابن أبي شيبة (29333)، وإسناده ضعيف، وراجع:«تخريج المشكاة» (1564)، و «تخريج فقه السيرة» (499) للألباني.

(3)

أخرجه: البخاري (6/ 18)(4462) من حديث أنس رضي الله عنه.

(4)

أخرجه: ابن ماجه (1629)، وأحمد (3/ 141)، وإسناده حسن إن شاء الله.

ص: 192

ولم يقبض صلى الله عليه وسلم حتّى خيّر مرّة أخرى بين الدّنيا والآخرة؛ قالت عائشة: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّه لم يقبض نبيّ حتّى يرى مقعده من الجنّة، ثمّ يخيّر»

(1)

.

فلمّا نزل به ورأسه على فخذي، غشي عليه ساعة، ثمّ أفاق، فأشخص بصره إلى سقف البيت، ثم قال:«اللهمّ، الرفيق الأعلى»

(2)

. فقلت: الآن لا يختارنا، وعلمت أنّه الحديث الذي كان يحدّثناه، وهو صحيح. فكانت تلك آخر كلمة تكلّم بها.

وفي رواية أنّه قال: «اللهمّ اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرّفيق الأعلى»

(3)

.

وفي رواية أنّه أصابه بحّة شديدة، فسمعته يقول:{مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً} [النّساء: 69]. قالت:

فظننت أنّه خيّر

(4)

. وهذه الرّوايات مخرّجة في «صحيح البخاري» وغيره.

وقد روي ما يدلّ على أنّه قبض، ثم رأى مقعده من الجنّة، ثمّ ردّت إليه نفسه، ثمّ خيّر. ففي «المسند» عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبيّ إلاّ تقبض نفسه، ثمّ يرى الثواب، ثمّ تردّ إليه، فيخيّر بين أن تردّ إليه أو أن يلحق» . فكنت قد حفظت ذلك منه، فإنّي لمسندته إلى صدري، فنظرت إليه حتى مالت عنقه، فقلت: قد قضى. قالت: فعرفت الّذي قال: فنظرت إليه حتّى ارتفع ونظر، فقلت: إذا والله لا يختارنا، فقال:«مع الرفيق الأعلى في الجنّة {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصّالِحِينَ} إلى آخر الآية [النساء: 69]»

(5)

.

(1)

أخرجه: البخاري (6/ 12)(4463)(6348)، ومسلم (7/ 137)(2444).

(2)

أخرجه: البخاري (6/ 12)، ومسلم (7/ 137 - 138).

(3)

أخرجه: البخاري (6/ 13)(4440)، ومسلم (7/ 137)(2444)، والترمذي (3496).

(4)

أخرجه: البخاري (4435)، ومسلم (7/ 137).

(5)

أخرجه: أحمد (6/ 74)، وذكره في «مجمع الزوائد» (9/ 36)، وقال:«رواه أحمد، والطبراني في «الأوسط» .

ص: 193

وفي «صحيح ابن حبّان» عنها، قالت: أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأسه في حجري، فجعلت أمسحه وأدعو له بالشّفاء؛ فلمّا أفاق، قال:«لا بل أسأل الله الرّفيق الأعلى، مع جبريل وميكائيل وإسرافيل»

(1)

. وفيه، وفي «المسند» عنها، أنّها كانت ترقيه في مرضه الّذي مات فيه، فقال:«ارفعي يدك فإنّها كانت تنفعني في المدّة»

(2)

.

قال الحسن: لمّا كرهت الأنبياء الموت هوّن الله ذلك عليهم بلقاء الله عز وجل، وبكلّ ما أحبّوا من تحفة أو كرامة، حتى إنّ نفس أحدهم لتنزع من بين جنبيه وهو يحبّ ذلك، لما قد مثّل له.

وفي «المسند» عن عائشة رضي الله عنها، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال:«إنّه ليهوّن عليّ الموت أنّي رأيت بياض كفّ عائشة في الجنّة»

(3)

. وخرّجه ابن سعد وغيره مرسلا أنّه صلى الله عليه وسلم، قال:«لقد أريتها في الجنّة، ليهوّن بذلك عليّ موتي، كأنّي أرى كفّيها»

(4)

يعني عائشة.

كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يحبّ عائشة رضي الله عنها حبّا شديدا، حتّى لا يكاد يصبر عنها، فمثلت له بين يديه في الجنّة ليهوّن عليه موته؛ فإنّ العيش إنّما يطيب

(5)

باجتماع الأحبّة، وقد سأله رجل: أيّ النّاس أحبّ إليك؟ فقال: «عائشة» ، فقال له: فمن الرّجال؟ قال: «أبوها»

(6)

. ولهذا قال لها في ابتداء مرضه، لمّا قالت: وا رأساه: «وددت أنّ ذلك كان وأنا حيّ، فأصلّي عليك وأدفنك» فعظم ذلك

(1)

أخرجه: ابن حبان (6591)، والبيهقي (269، 4/ 260)، وإسناده صحيح.

(2)

أخرجه: أحمد (6/ 260)، وابن حبان (2962)، وإسناده ضعيف.

(3)

أخرجه: أحمد (6/ 138)، وفي إسناده ضعف.

(4)

أخرجه: ابن سعد (8/ 66).

(5)

في ب: «فإن النفس إنما تطيب» .

(6)

متفق عليه: البخاري (5/ 6)(3662)(4358)، ومسلم (7/ 109)(2384).

ص: 194

عليها، وظنّت أنّه يحبّ فراقها. وإنّما كان يريد تعجيلها بين يديه ليقرب اجتماعهما.

وقد كانت عائشة مضغت له صلى الله عليه وسلم سواكا وطيّبته بريقها، ثمّ دفعته إليه، فاستنّ به أحسن استنان، ثمّ ذهب يتناوله، فضعفت يده عنه، فسقط من يده، فكانت عائشة تقول: جمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدّنيا، وأوّل يوم من الآخرة

(1)

. والحديث مخرّج في «الصحيحين» . وفي حديث خرّجه العقيليّ أنّه صلى الله عليه وسلم قال لها في مرضه: «ائتيني بسواك رطب، امضغيه ثم ائتيني به أمضغه لكي يختلط ريقي بريقك، لكي يهوّن به عليّ عند الموت»

(2)

.

قال جعفر بن محمد، عن أبيه: لمّا بقي من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث نزل عليه جبريل عليه السلام، فقال: يا أحمد، إنّ الله قد أرسلني إليك إكراما لك وتفضيلا لك، وخاصة لك، يسألك عمّا هو أعلم به منك، يقول لك: كيف تجدك؟ فقال: «أجدني يا جبريل مغموما، وأجدني يا جبريل مكروبا» ؛ ثم أتاه في اليوم الثاني، فقال له مثل ذلك؛ ثمّ أتاه في اليوم الثالث، فقال له مثل ذلك، ثم استأذن فيه ملك الموت، فقال جبريل: يا أحمد، هذا ملك الموت يستأذن عليك، ولم يستأذن على آدمي كان قبلك، ولا يستأذن على آدميّ بعدك، قال:«ائذن له» ، فدخل ملك الموت، فوقف بين يديه، فقال:

يا رسول الله، يا أحمد، إنّ الله أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك في كلّ ما تأمر؛ إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها، وإن أمرتني أن أتركها تركتها؟

(1)

أخرجه: البخاري (6/ 16 - 17)(4451)، وأحمد (121، 6/ 48 - 274، 200، 122)، وابن حبان (7116).

(2)

أخرجه: العقيلي (2/ 249) في ترجمة عبد الله بن داود الواسطي، وقال:«الكلام الأخير لا يحفظ إلا عن هذا الشيخ، ولا يتابع عليه» .

ص: 195

قال: «وتفعل يا ملك الموت؟» ، قال: بذلك أمرت أن أطيعك في كلّ ما تأمرني به.

فقال جبريل: يا أحمد، إنّ الله قد اشتاق إليك. قال:«فامض يا ملك الموت لما أمرت به» ، فقال جبريل عليه السلام: السّلام عليك يا رسول الله، هذا آخر موطئي من الأرض، إنّما كنت حاجتي من الدّنيا. وجاءت التّعزية يسمعون الصّوت والحسّ ولا يرون الشّخص: السّلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} [آل عمران: 185]، إن في الله عزاء من كلّ مصيبة، وخلفا من كلّ هالك، ودركا من كلّ فائت، فبالله فثقوا، وإيّاه فارجوا، إنّما المصاب من حرم الثّواب، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته

(1)

.

وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم في يوم الإثنين في شهر ربيع الأوّل بغير خلاف، وكان قد كشف السّتر في ذلك اليوم والنّاس في صلاة الصّبح خلف أبي بكر، فهمّ المسلمون أن يفتتنوا من فرحهم برؤيته صلى الله عليه وسلم، حين نظروا إلى وجهه كأنّه ورقة مصحف، وظنّوا أنّه يخرج للصّلاة، فأشار إليهم:«أن مكانكم» ، ثم أرخى السّتر.

وتوفي صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم، وظنّ المسلمون أنّه صلى الله عليه وسلم قد برئ من مرضه لمّا أصبح يوم الإثنين مفيقا، فخرج أبو بكر إلى منزله بالسّنح خارج المدينة، فلما ارتفع الضّحى من ذلك اليوم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: توفي حين زاغت

(1)

أخرجه بطوله: الطبراني (3/ 129) رقم (2890)، والجرجاني في «تاريخ جرجان» (363/ 1)، وابن سعد (2/ 259). وذكره في «مجمع الزوائد» (9/ 35) وقال:«وفيه عبد الله ابن ميمون القداح وهو ذاهب الحديث» .

ص: 196

الشّمس والأوّل أصحّ، توفي حين اشتدّ الضّحى من يوم الإثنين في مثل الوقت الذي دخل فيه المدينة حين هاجر إليها.

واختلفوا في تعيين ذلك اليوم من الشهر: فقيل: كان أوّله. وقيل: ثانيه.

وقيل: ثاني عشره. وقيل: ثالث عشره. وقيل: خامس عشره. والمشهور بين النّاس أنّه كان ثاني عشر ربيع الأوّل.

وقد ردّ ذلك السّهيليّ وغيره، بأن وقفة حجّة الوداع في السّنة العاشرة كانت الجمعة، وكان أوّل ذي الحجة فيها الخميس، ومتى كان كذلك لم يصحّ أن يكون يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول، سواء حسبت الشّهور الثّلاثة - أعني ذا الحجّة ومحرّما وصفرا - كلها كاملة أو ناقصة، أو بعضها كاملة وبعضها ناقصة.

ولكن أجيب عن هذا بجواب حسن، وهو أنّ ابن إسحاق ذكر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم توفي لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأوّل، وهذا ممكن، فإنّ العرب تؤرّخ بالليالي دون الأيّام، ولكن لا تؤرّخ إلا بليلة مضى يومها، فيكون اليوم تبعا لليلة، وكلّ ليلة لم يمض يومها لم يعتدّ بها، وكذلك إذا ذكروا الليالي في عدد فإنّهم يريدون بها الليالي مع أيامهم، فإذا قالوا: عشر ليال، فمرادهم بأيّامها. ومن هنا تتبيّن صحّة قول الجمهور في أنّ عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشر ليال بأيّامها، وأنّ اليوم العاشر من جملة تمام العدّة، خلافا للأوزاعيّ.

وكذلك قال الجمهور في أشهر الحجّ: إنّها شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وأنّ يوم النّحر داخل فيها لهذا المعنى، خلافا للشافعيّ.

وحينئذ فيوم الإثنين الذي توفي فيه النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان ثالث عشر الشهر، لكن لمّا لم يكن يومه قد مضى لم يؤرّخ بليلته، إنّما أرّخوا بليلة الأحد ويومها،

ص: 197

وهو الثاني عشر، فلذلك قال ابن إسحاق: توفي لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأوّل. والله أعلم.

واختلفوا في وقت دفنه: فقيل: دفن من ساعته، وفيه بعد. وقيل: من ليلة الثلاثاء. وقيل: يوم الثلاثاء. وقيل: ليلة الأربعاء.

ولمّا توفي صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون؛ فمنهم من دهش فخولط؛ ومنهم من أقعد فلم يطق القيام؛ ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكليّة، وقال: إنّما بعث إليه كما بعث إلى موسى، وكان من هؤلاء عمر، وبلغ الخبر أبا بكر، فأقبل مسرعا حتّى دخل بيت عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجّى، فكشف عن وجهه الثّوب وأكبّ عليه، وقبّل وجهه مرارا وهو يبكي، وهو يقول: وا نبيّاه! وا خليلاه! وا صفياه! وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات والله رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال: والله لا يجمع الله عليك موتتين، أمّا الموتة التي كتبت عليك فقد متّها.

ثمّ دخل المسجد وعمر يكلّم النّاس، وهم مجتمعون عليه، فتكلّم أبو بكر وتشهّد، وحمد الله، فأقبل النّاس إليه، وتركوا عمر. فقال: من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإنّ الله حيّ لا يموت، وتلا:{وَما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ} الآية [آل عمران: 144]. فاستيقن النّاس كلّهم بموته وكأنّهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل أن يتلوها أبو بكر، فتلقّاها النّاس منه، فما يسمع أحد إلاّ يتلوها

(1)

.

وقالت فاطمة رضي الله عنها: يا أبتاه، أجاب ربّا دعاه. يا أبتاه، جنّة الفردوس

(1)

أخرجه: البخاري (6/ 16 - 17)(1242)، وأحمد (6/ 219)، وابن حبان (6620).

ص: 198

مأواه. يا أبتاه، إلى جبريل أنعاه. يا أبتاه، من ربّه ما أدناه

(1)

. وعاشت بعده ستة أشهر، فما ضحكت في تلك المدّة، وحقّ لها ذلك.

على مثل ليلى يقتل المرء نفسه

وإن كان من ليلى على الهجر طاويا

كلّ المصائب تهون عند هذه المصيبة.

في «سنن ابن ماجه» أنّه صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: «يا أيّها النّاس، إن أحد من النّاس - أو: من المؤمنين - أصيب بمصيبة، فليتعزّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإنّ أحدا من أمّتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدّ عليه من مصيبتي»

(2)

.

قال أبو الجوزاء: كان الرّجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه، ويقول: يا عبد الله، ثق بالله، فإنّ في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.

اصبر لكلّ مصيبة وتجلّد

واعلم بأنّ المرء غير مخلّد

واصبر كما صبر الكرام فإنّها

نوب تنوب اليوم تكشف في غد

وإذا أتتك مصيبة تشجى بها

فاذكر مصابك بالنّبيّ محمّد

ولغيره:

تذكّرت لمّا فرّق الدّهر بيننا

فعزّيت نفسي بالنّبيّ محمّد

وقلت لها إنّ المنايا سبيلنا

فمن لم يمت في يومه مات في غد

(1)

أخرجه: البخاري (6/ 18)(4462)، وأحمد (3/ 197)، والنسائي (4/ 12 - 13)، وابن حبان (6621).

(2)

أخرجه: ابن ماجه (1599)، والطبراني في «الأوسط» (4448)، وفي «الصغير» (366/ 1)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (10154)، وأوهم فعدّه في «مجمع الزوائد» من الزوائد، وقال:«فيه عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف» .

ص: 199

كانت الجمادات تتصدّع من ألم مفارقة الرّسول صلى الله عليه وسلم، فكيف بقلوب المؤمنين؟!.

لما فقده الجذع الذي كان يخطب عليه قبل اتخاذ المنبر حنّ إليه، وصاح كما يصيح الصّبيّ، فنزل إليه فاعتنقه، فجعل يهدّى كما يهدّى الصبيّ الذي يسكّن عند بكائه، فقال:«لو لم أعتنقه لحنّ إلى يوم القيامة»

(1)

.

كان الحسن إذا حدّث بهذا الحديث بكى، وقال: هذه خشبة تحنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنتم أحقّ أن تشتاقوا إليه. وروي أنّ بلالا كان يؤذّن بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم قبل دفنه، فإذا قال: أشهد أنّ محمّدا رسول الله، ارتجّ المسجد بالبكاء والنّحيب، فلمّا دفن ترك بلال الأذان.

ما أمرّ عيش من فارق الأحباب، خصوصا من كانت رؤيته حياة الألباب.

لو ذاق طعم الفراق رضوى

لكاد من وجده يميد

قد حمّلوني عذاب شوق

يعجز عن حمله الحديد

لمّا دفن الرّسول صلى الله عليه وسلم، قالت فاطمة: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم التّراب؟ قال أنس: لمّا كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كلّ شيء، فلمّا كان اليوم الذي دفن فيه أظلم منها كلّ شيء

(2)

، وما نفضنا [أيدينا]

(3)

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنّا لفي دفنه حتّى أنكرنا قلوبنا.

(1)

أخرجه: أحمد (363، 1/ 249)، وابن ماجه (1415)، وأبو يعلى (3384)، وأصل الحديث في «صحيح البخاري» (4/ 237، 3/ 80، 1/ 122)(3583 - 3585) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه: أحمد (3/ 240)، وإسناده صحيح.

(3)

ليست في ص، ب وهي ملحقة في أبين الأسطر.

ص: 200

ليبك رسول الله من كان باكيا

فلا تنس قبرا بالمدينة ثاويا

جزى الله عنّا كلّ خير محمّدا

فقد كان مهديّا وقد كان هاديا

وكان رسول الله روحا ورحمة

ونورا وبرهانا من الله باديا

وكان رسول الله بالخير آمرا

وكان عن الفحشاء والسّوء ناهيا

وكان رسول الله بالقسط قائما

وكان لما استرعاه مولاه راعيا

وكان رسول الله يدعو إلى الهدى

فلبّى رسول الله لبّيه داعيا

أينسى أبرّ النّاس بالنّاس كلّهم

وأكرمهم بيتا وشعبا وواديا

أينسى رسول الله أكرم من مشى

وآثاره بالمسجدين كما هيا

تكدّر من بعد النّبيّ محمّد

عليه سلام كلّ ما كان صافيا

ركنّا إلى الدّنيا الدّنيّة بعده

وكشّفت الأطماع منّا مساويا

وكم من منار كان أوضحه لنا

ومن علم أمسى وأصبح عافيا

إذا المرء لم يلبس ثيابا من التّقى

تقلّب عريانا وإن كان كاسيا

وخير خصال المرء طاعة ربّه

ولا خير فيمن كان لله عاصيا

***

ص: 201

‌وظيفة شهر رجب

خرّجا في «الصحيحين» من حديث أبي بكرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم خطب في حجّة الوداع فقال في خطبته: «إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض، السّنة اثنا عشر شهرا؛ منها أربعة حرم: ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»

(1)

وذكر الحديث.

قال الله عز وجل: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36].

فأخبر سبحانه أنّه منذ خلق السّماوات والأرض وخلق اللّيل والنّهار يدوران في الفلك، وخلق ما في السّماء من الشّمس والقمر والنّجوم، وجعل الشّمس والقمر يسبحان في الفلك، فينشأ منهما ظلمة اللّيل وبياض النّهار؛ فمن حينئذ جعل السّنة اثني عشر شهرا بحسب الهلال.

فالسنة في الشرع مقدّرة بسير القمر وطلوعه، لا بسير الشمس وانتقالها، كما يفعله أهل الكتاب.

وجعل الله تعالى من هذه الأشهر أربعة أشهر حرما، وقد فسّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وذكر أنّها ثلاثة متواليات؛ ذو القعدة، وذو الحجّة، ومحرّم، وواحد فرد، وهو شهر رجب، وهذا قد يستدلّ به من يقول: إنّها من

(1)

أخرجه: البخاري (9/ 163)(3197)(4406)(4662)، ومسلم (5/ 107)(1679).

ص: 202

سنتين. وقد روي من حديث ابن عمر مرفوعا: «أولهنّ رجب» ، وفي إسناده موسى بن عبيدة، وفيه ضعف شديد من قبل حفظه.

وقد حكي عن أهل المدينة أنّهم جعلوها من سنتين، وأنّ أوّلها ذو القعدة، ثم ذو الحجّة، ثم المحرّم، ثم رجب، فيكون رجب آخرها. وعن بعض المدنيين أنّ أوّلها رجب، ثم ذو القعدة، ثم ذو الحجّة ثم المحرّم. وعن بعض أهل الكوفة أنّها من سنة واحدة؛ أوّلها المحرّم، ثم رجب، ثم ذو القعدة، ثم ذو الحجّة.

واختلف في أيّ هذه الأشهر الحرم أفضل؛ فقيل: رجب، قاله بعض الشافعية، وضعّفه النّوويّ وغيره. وقيل: المحرّم، قاله الحسن، ورجّحه النّوويّ. وقيل: ذو الحجّة، روي عن سعيد بن جبير وغيره، وهو أظهر، والله أعلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا»

(1)

مراده بذلك إبطال ما كانت الجاهلية تفعله من النّسيء، كما قال تعالى:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ} [التوبة: 37].

وقد اختلف في تفسير النّسيء:

فقالت طائفة: كانوا يبدلون بعض الأشهر الحرم بغيرها من الأشهر، فيحرمونها بدلها، ويحلون ما أرادوا تحليله من الأشهر الحرم إذا احتاجوا إلى ذلك، ولكن لا يزيدون في عدد الأشهر الهلالية شيئا.

(1)

أخرجه: البخاري (9/ 63، 2/ 216، 37، 1/ 26)، ومسلم (109، 5/ 108)، وأحمد (5/ 37) عن أبي بكرة رضي الله عنه.

ص: 203

ثم من أهل هذه المقالة من قال: كانوا يحلّون المحرّم فيستحلّون القتال فيه؛ لطول مدّة التّحريم عليهم بتوالي ثلاثة أشهر محرّمة، ثم يحرّمون صفر مكانه، فكأنّهم يقترضونه ثم يوفونه. ومنهم من قال: كانوا يحلّون المحرّم مع صفر من عام واحد ويسمّونهما صفرين، ثم يحرمونهما من عام قابل ويسمّونهما محرّمين؛ قاله ابن زيد بن أسلم. وقيل: بل كانوا ربّما احتاجوا إلى صفر أيضا فأحلّوه وجعلوا مكانه ربيعا، ثمّ يدور كذلك التّحريم والتّحليل بالتأخير

(1)

، إلى أن جاء الإسلام ووافق حجّة الوداع رجوع التّحريم إلى محرّم الحقيقي، وهذا هو الذي رجّحه أبو عبيد، وعلى هذا فالتّغيير إنّما وقع في عين الأشهر الحرم خاصة.

وقالت طائفة أخرى: بل كانوا يزيدون في عدد شهور السّنة، وظاهر الآية يشعر بذلك، حيث قال الله تعالى:{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً} [التّوبة: 36] فذكر هذا توطئة لهدم النّسيء وإبطاله.

ثم من هؤلاء من قال: كانوا يجعلون السّنة ثلاثة عشر شهرا، قاله مجاهد وأبو مالك؛ قال أبو مالك: كانوا يجعلون السّنة ثلاثة عشر شهرا، ويجعلون المحرّم صفرا. وقال مجاهد: كانوا يسقطون المحرّم، ثم يقولون: صفرين، لصفر وربيع الأوّل وربيع الآخر، ثم يقولون: شهرا ربيع، ثم يقولون لرمضان شعبان، ولشوال رمضان، ولذي القعدة شوال، ولذي الحجّة ذو القعدة، على وجه ما ابتدءوا وللمحرّم ذو الحجّة، فيعدّون ما ناسئوا على مستقبله، على وجه ما ابتدءوا.

وعنه قال: كانت الجاهلية يحجّون في كلّ شهر من شهور السّنة عامين،

(1)

في أ: «والتأخير» .

ص: 204

فوافق حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي الحجّة، فقال:«هذا يوم استدار الزّمان كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض» .

ومن هؤلاء من قال: كانت الجاهلية يجعلون الشهور اثني عشر شهرا وخمسة أيام، قاله إياس بن معاوية. وهذا العدد قريب من عدد السّنة الرّوميّة، ولهذا جاء في مراسيل عكرمة بن خالد، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النّحر:«والشهر هكذا وهكذا وهكذا، وخنس إبهامه في الثالثة، وهكذا وهكذا وهكذا، يعني ثلاثين» ، فأشار إلى أن الشّهر هلاليّ، ثم تارة ينقص وتارة يتمّ، ولعلّ أهل النّسيء، كانوا يتمّون الشّهور كلّها، ويزيدون عليها، والله أعلم.

وقد قيل: إن ربيعة ومضر كانوا يحرمون أربعة أشهر من السّنة مع اختلافهم في تعيين رجب منها، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وكانت بنو عوف بن لؤي يحرّمون من السّنة ثمانية أشهر، وهذا مبالغة في الزيادة على ما حرّمه الله.

واختلفوا في أي عام عاد الحجّ إلى ذي الحجّة على وجهه، واستدار الزّمان فيه كهيئته:

فقالت طائفة: إنّما عاد على وجهه في حجّة الوداع. فأمّا حجة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، فكانت قد وقعت في ذي القعدة، هذا قول مجاهد وعكرمة بن خالد وغيرهما. وقيل: إنّه اجتمع في ذلك العام حجّ الأمم كلها في وقت واحد فلذلك سمّي يوم الحجّ الأكبر.

وقالت طائفة: بل وقعت حجّة الصّديق في ذي الحجة؛ قاله الإمام أحمد، وأنكر قول مجاهد، واستدلّ بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر عليّا فنادى يوم النّحر:«لا يحجّ بعد العام مشرك»

(1)

. وفي رواية: «يوم الحجّ الأكبر» . وقد قال الله تعالى:

(1)

أخرجه: البخاري (1/ 103)(4656)، ومسلم (4/ 106 - 107)(1347)، وأبو داود (1946)، والنسائي (5/ 234) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 205

{وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التّوبة: 3]. فسمّاه يوم الحج الأكبر، وهذا يدلّ على أنّ النداء وقع في ذي الحجّة.

وخرّج الطّبرانيّ في «أوسطه» من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كان العرب يحلّون عاما شهرا، وعاما شهرين، ولا يصيبون الحجّ إلاّ في كلّ ستة وعشرين سنة مرة واحدة، وهو النسيء الذي ذكره الله في كتابه، فلما كان عام حجّ أبو بكر الصّدّيق بالنّاس، وافق في ذلك العام الحجّ؛ فسمّاه الله يوم الحج الأكبر. ثمّ حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، فاستقبل النّاس الأهلّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض»

(1)

.

وقيل: بل استدارة الزّمان كهيئته كان من عام الفتح.

وخرّج البزار في «مسنده» من حديث سمرة بن جندب أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم يوم الفتح:«إنّ هذا العام الحجّ الأكبر، قد اجتمع حجّ المسلمين وحجّ المشركين في ثلاثة أيام متتابعات، واجتمع حجّ اليهود والنّصارى في ستّة أيام متتابعات، ولم يجتمع منذ خلق الله السّماوات والأرض، ولا يجتمع بعد العام حتّى تقوم السّاعة»

(2)

. وفي إسناده يوسف السّمتيّ، وهو ضعيف جدّا.

واختلفوا لم سمّيت هذه الأشهر الأربعة حرما:

فقيل: لعظم حرمتها وحرمة الذّنب فيها.

(1)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (2909)، وقال في «المجمع» (7/ 29):«رجاله ثقات» .

(2)

أخرجه: البزار (1826 - كشف)، وإسناده ضعيف جدّا.

وراجع: «مجمع الزوائد» (6/ 178).

ص: 206

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: اختصّ الله أربعة أشهر جعلهنّ حرما، وعظّم حرماتهن، وجعل الذّنب فيهنّ أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم. قال كعب: اختار الله الزمان، فأحبّه إلى الله الأشهر الحرم.

وقد روي مرفوعا

(1)

، ولا يصحّ رفعه.

وقد قيل في قوله تعالى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التّوبة: 36]: إنّ المراد في الأشهر الحرم. وقيل: بل في جميع شهور السّنة. وقيل: إنّما سمّيت حرما لتحريم القتال فيها، وكان ذلك معروفا في الجاهلية. وقيل: إنّه كان في عهد إبراهيم عليه السلام.

وقيل: إن سبب تحريم هذه الأشهر الأربعة بين العرب لأجل التمكّن من الحجّ والعمرة. فحرّم شهر ذي الحجّة؛ لوقوع الحجّ فيه. وحرّم معه شهر ذي القعدة؛ للسير فيه إلى الحج. وشهر المحرّم؛ للرجوع فيه من الحجّ، حتى يأمن الحاجّ على نفسه من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه. وحرّم شهر رجب للاعتمار فيه في وسط السّنة، فيعتمر فيه من كان قريبا من مكّة.

وقد شرع الله في أوّل الإسلام تحريم القتال في الشهر الحرام، قال تعالى:

{لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ} [المائدة: 2]. وقال تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217].

وخرّج ابن أبي حاتم بإسناده عن جندب بن عبد الله أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث رهطا وبعث عليهم عبد الله بن جحش، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا أنّ ذلك من رجب أو من جمادي، فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر

(1)

أورده ابن عدي في «الكامل» عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا (4/ 278).

ص: 207

الحرام، فأنزل الله عز وجل {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} الآية [البقرة: 217]

(1)

.

وروى السّدّيّ عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود في هذه الآية، فذكروا هذه القصة مبسوطة، وقالوا فيها: فقال المشركون: يزعم محمد أنّه يتبع طاعة الله وهو أوّل من استحلّ الشهر الحرام، فقال المسلمون: إنّما قتلناه في جمادى. وقيل: في أول رجب وآخر ليلة من جمادى.

وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل شهر رجب، وأنزل الله تعالى تعييرا لأهل مكّة {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] لا يحلّ، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشّهر الحرام، حين كفرتم بالله، وصددتم عن محمد وأصحابه، وإخراج أهل المسجد الحرام حين أخرجوا منه محمدا صلى الله عليه وسلم أكبر من القتل عند الله.

وقد روي عن ابن عباس هذا المعنى من رواية العوفي عنه، ومن رواية أبي سعد البقال، عن عكرمة، عنه. ومن رواية الكلبي، عن أبي صالح، عنه.

وذكر ابن إسحاق أنّ ذلك كان في آخر يوم من رجب، وأنّهم خافوا إن أخّروا القتال أن يسبقهم المشركون فيدخلوا الحرم فيأمنوا، وأنّهم لمّا قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام، ولم يأخذ من غنيمتهم شيئا. وقالت قريش: قد استحلّ محمّد وأصحابه الشهر الحرام. فقال من بمكّة من المسلمين: إنّما قتلوهم في شعبان، فلمّا أكثر النّاس في ذلك نزل قوله تعالى:{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ} الآية [البقرة: 217]، وروي

(1)

«تفسير ابن أبي حاتم» (2/ 384)(2022) وذكره ابن كثير في «تفسيره» (1/ 368).

ص: 208

نحو هذا السياق عن عروة، والزّهري وغيرهما. وقيل: إنّها كانت أول غنيمة غنمها المسلمون.

وقال عبد الله بن جحش في ذلك - وقيل: إنها لأبي بكر الصّديق رضي الله عنه:

تعدّون قتلا في الحرام عظيمة

وأعظم منه لو يرى الرّشد راشد

صدودكم عمّا يقول محمد

وكفر به والله راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد الله أهله

لئلا يرى في البيت لله ساجد

في أبيات أخر.

وقد اختلف العلماء في حكم القتال في الأشهر الحرم، هل تحريمه باق أم نسخ:

فالجمهور على أنّه نسخ تحريمه، ونصّ على نسخه الإمام أحمد وغيره من الأئمة. وذهب طائفة من السّلف منهم عطاء إلى بقاء تحريمه، ورجّحه بعض المتأخرين واستدلّوا بآية المائدة، والمائدة من آخر ما نزل من القرآن. وقد روي:«أحلّوا حلالها وحرّموا حرامها» .

وقيل: ليس فيها منسوخ. وفي «المسند» أنّ عائشة رضي الله عنها، قالت:«هي آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلّوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرّموه»

(1)

. وروى الإمام أحمد في «مسنده» : حدثنا إسحاق بن عيسى، حدثنا ليث بن سعد، عن أبي الزّبير، عن جابر، قال:«لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشّهر الحرام إلاّ أن يغزى ويغزو، فإذا حضره أقام حتّى ينسلخ»

(2)

.

(1)

أخرجه: أحمد (6/ 188)، والحاكم (2/ 311)، والبيهقي (7/ 172)، وإسناده صحيح.

(2)

أخرجه: أحمد (345، 3/ 334)، وإسناده صحيح.

ص: 209

وذكر بعضهم أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف في شوّال، فلمّا دخل ذو القعدة لم يقاتل، بل صابرهم، ثمّ رجع. وكذلك في عمرة الحديبية لم يقاتل حتّى بلغه أنّ عثمان قتل، فبايع على القتال، ثم لمّا بلغه أنّ ذلك لا حقيقة له كفّ.

واستدلّ الجمهور بأنّ الصحابة اشتغلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم بفتح البلاد ومواصلة القتال والجهاد، ولم ينقل عن أحد منهم أنّه توقّف عن القتال وهو طالب له في شيء من الأشهر الحرم، وهذا يدلّ على اجتماعهم على نسخ ذلك، والله أعلم.

ومن عجائب الأشهر الحرم ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أنّه ذكر عجائب الدنيا، فعدّ منها بأرض عاد عمود نحاس، عليه شجرة من نحاس، فإذا كان في الأشهر الحرم قطر منها الماء، فملئوا منه حياضهم، وسقوا مواشيهم وزروعهم، فإذا ذهب الأشهر الحرم انقطع الماء.

وقوله صلى الله عليه وسلم «ورجب مضر» سمّي رجب رجبا؛ لأنّه كان يرجّب، أي يعظّم، كذا قال الأصمعيّ، والمفضّل، والفرّاء. وقيل: لأنّ الملائكة تترجّب للتسبيح والتّحميد فيه، وفي ذلك حديث مرفوع إلاّ أنه موضوع. وأما إضافته إلى «مضر» ، فقيل: لأنّ مضر كانت تزيد في تعظيمه واحترامه، فنسب إليهم لذلك. وقيل: بل كانت ربيعة تحرّم رمضان، وتحرّم مضر رجبا، فلذلك سمّاه رجب مضر، وحقّق ذلك بقوله:«الذي بين جمادى وشعبان» .

وذكر بعضهم أنّ لشهر رجب أربعة عشر اسما: شهر الله، ورجب، ورجب مضر، ومنصل الأسنّة، والأصمّ، والأصبّ، ومنفّس، ومطهّر، ومعلّى، ومقيم، وهرم، ومقشقش، ومبرئ، وفرد. وذكر غيره أنّ له سبعة عشر اسما، فزاد «رجم» بالميم، ومنصل الألّة - وهي الحربة - ومنزع الأسنّة.

ويتعلّق بشهر رجب أحكام كثيرة؛ فمنها ما كان في الجاهلية، واختلف

ص: 210

العلماء في استمراره في الإسلام، كالقتال، وقد سبق ذكره، وكالذّبائح، فإنّهم كانوا في الجاهلية يذبحون ذبيحة يسمّونها العتيرة. واختلف العلماء في حكمها في الإسلام؛ فالأكثرون على أن الإسلام أبطلها. وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا فرع ولا عتيرة»

(1)

.

ومنهم من قال: بل هي مستحبّة؛ منهم ابن سيرين. وحكاه الإمام أحمد عن أهل البصرة. ورجّحه طائفة من أهل الحديث المتأخرين. ونقل حنبل عن أحمد نحوه.

وفي «سنن أبي داود والنسائيّ وابن ماجه» ، عن مخنف بن سليم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال بعرفة:«إنّ على كلّ أهل بيت في كلّ عام أضحى وعتيرة، وهي التي يسمّونها الرّجبيّة»

(2)

.

وفي النسائي عن نبيشة أنّهم قالوا: يا رسول الله، إنّا كنّا نعتر فيه في الجاهلية، يعني في رجب. قال:«اذبحوا لله في أي شهر كان، وبرّوا الله وأطعموا»

(3)

.

وروى الحارث بن عمرو: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الفرع والعتائر، فقال:

«من شاء فرّع، ومن شاء لم يفرّع؛ ومن شاء عتر ومن شاء لم يعتر»

(4)

.

وفي حديث آخر، قال:«العتيرة حقّ»

(5)

.

وفي النسائي عن أبي رزين، قال: قلت: يا رسول الله، كنّا نذبح ذبائح في

(1)

أخرجه: البخاري (7/ 110)(5473)(5474)، ومسلم (6/ 82 - 83)(1976).

(2)

أخرجه: أبو داود (2788)، والترمذي (1518)، والنسائي (7/ 167 - 168)، وابن ماجه (3125)، وضعفه الألباني في «تخريج المشكاة» (1478)

(3)

أخرجه: أبو داود (2830)، والنسائي (4233)، وابن ماجه (3167)، وصححه الألباني في «الإرواء» (1167).

(4)

أخرجه: النسائي (7/ 168 - 169)، وهو ضعيف، وراجع:«الإرواء» (1167).

(5)

أخرجه: النسائي (7/ 168)، وحسنه الألباني في «الإرواء» (1181).

ص: 211

الجاهلية، يعني في رجب، فنأكل ونطعم من جاءنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لا بأس به»

(1)

.

وخرّج الطبراني بإسناده، عن ابن عباس، قال: استأذنت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم في العتيرة، فقال:«أعتر كعتر الجاهلية، ولكن من أحبّ منكم أن يذبح لله فيأكل ويتصدّق فليفعل»

(2)

.

وهؤلاء جمعوا بين هذه الأحاديث وبين حديث: «لا فرع ولا عتيرة»

(3)

بأنّ المنهي عنه هو ما كان يفعله أهل الجاهلية من الذّبح لغير الله. وحمله سفيان بن عيينة على أنّ المراد به نفي الوجوب.

ومن العلماء من قال: حديث أبي هريرة أصحّ من هذه الأحاديث وأثبت، فيكون العمل عليه دونها. وهذه طريقة الإمام أحمد.

وروى مبارك بن فضالة، عن الحسن، قال: ليس في الإسلام عتيرة، إنما كانت العتيرة في الجاهلية، كان أحدهم يصوم رجب ويعتر فيه. ويشبه الذبح في رجب اتخاذه موسما وعيدا، كأكل الحلوى ونحوها. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه كان يكره أن يتّخذ رجب عيدا.

وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم ينهى عن صيام رجب كله لئلا يتّخذ عيدا

(4)

.

(1)

أخرجه: النسائي (7/ 171).

(2)

أخرجه: الطبراني (11/ 232) رقم (11586)، وقال في «المجمع» (4/ 28):«وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وثقه ابن معين، وضعفه غيره» .

(3)

أخرجه: البخاري (7/ 110)(5473)(5474)، ومسلم (83، 6/ 82)(1976) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وراجع: «التلخيص الحبير» (4/ 272 - 273).

(4)

أخرجه: عبد الرزاق (7854) موقوفا على ابن عباس، وأخرجه ابن ماجه (1743)، والطبراني (10/ 1681) من حديث ابن عباس مرفوعا.

ص: 212

وعن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«لا تتخذوا شهرا عيدا، ولا يوما عيدا»

(1)

.

وأصل هذا؛ أنه لا يشرع أن يتّخذ المسلمون عيدا إلا ما جاءت الشريعة باتخاذه عيدا، وهو يوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق، وهي أعياد العام، ويوم الجمعة وهو عيد الأسبوع، وما عدا ذلك فاتخاذه عيدا وموسما بدعة لا أصل له في الشريعة.

ومن أحكام رجب ما ورد فيه من الصّلاة والزّكاة والصّيام والاعتمار:

فأما الصّلاة؛ فلم يصحّ في شهر رجب صلاة مخصوصة تختصّ به، والأحاديث المرويّة في فضل صلاة الرغائب في أول ليلة جمعة من شهر رجب كذب وباطل لا تصحّ، وهذه الصّلاة بدعة عند جمهور العلماء.

وممن ذكر ذلك من أعيان العلماء المتأخرين من الحفّاظ أبو إسماعيل الأنصاريّ، وأبو بكر بن السّمعانيّ، وأبو الفضل بن ناصر، وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم. وإنما لم يذكرها المتقدّمون؛ لأنّها أحدثت بعدهم.

وأوّل ما ظهرت بعد الأربعمائة، فلذلك لم يعرفها المتقدّمون ولم يتكلموا فيها.

وأما الصّيام؛ فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، ولكن روي عن أبي قلابة، قال: في الجنّة قصر لصوّام رجب.

قال البيهقيّ: أبو قلابة من كبار التابعين لا يقول مثله إلاّ عن بلاغ. وإنّما ورد

(1)

أخرجه: عبد الرزاق (7853)، وهو مرسل.

ص: 213

في صيام الأشهر الحرم كلها حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمّها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «صم من الحرم واترك»

(1)

، قالها ثلاثا

(2)

. خرّجه أبو داود وغيره. وخرّجه ابن ماجه، وعنده:«صم أشهر الحرم»

(3)

.

وقد كان بعض السّلف يصوم الأشهر الحرم كلّها، منهم ابن عمر، والحسن البصري، وأبو إسحاق السّبيعيّ. وقال الثوريّ: الأشهر الحرم أحبّ إليّ أن أصوم فيها. وجاء في حديث خرّجه ابن ماجه؛ أنّ أسامة بن زيد كان يصوم أشهر الحرم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صم شوّالا»

(4)

فترك أشهر الحرم وصام شوّالا حتى مات. وفي إسناده انقطاع.

وخرّج ابن ماجه أيضا بإسناد فيه ضعف، عن ابن عبّاس: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام رجب

(5)

. والصحيح وقفه على ابن عباس. ورواه عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وقد سبق لفظه.

وروى عبد الرزّاق في كتابه عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم، قال:

«ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوم يصومون رجبا، فقال: أين هم من شعبان؟»

(6)

(1)

أخرجه: أبو داود (2428)، وابن ماجه (1741)، والبيهقي (4/ 291).

وهو حديث ضعيف، وراجع:«ضعيف أبي داود» (419).

(2)

هنا زيادة في (أ) ولا أظنها محفوظة هنا؛ لأن ما بعدها متعلق بما قبلها، وليس متعلقا بها، ونصها:«روى الكتاني: أخبرنا تمام الرازي، حدثنا القاضي يوسف بن القاسم، حدثنا محمد بن إسحاق السراج، حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا حبيب المعلم، عن عطاء، أن عروة قال لعبد الله بن عمر: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في رجب؟ قال: نعم، ويشرّفه، قالها ثلاثا» .

(3)

«سنن ابن ماجه» (1741).

(4)

أخرجه: ابن ماجه (1744)، وسنده ضعيف، وراجع:«تخريج الترغيب» للألباني (2/ 81).

(5)

أخرجه: ابن ماجه (1743)، وراجع: السلسلة الضعيفة (404).

(6)

أخرجه: عبد الرزاق (7858)، وهو مرسل.

ص: 214

وروى أزهر بن سعيد الجمحي عن أمه أنها سألت عائشة عن صوم رجب، فقالت: إن كنت صائمة فعليك بشعبان. وروي مرفوعا، ووقفه أصحّ.

وروي عن عمر رضي الله عنه أنّه كان يضرب أكفّ الرجال في صوم رجب حتّى يضعوها في الطعام، ويقول: ما رجب؟ إنّ رجبا كان يعظّمه أهل الجاهلية، فلمّا كان الإسلام ترك. وفي رواية: كره أن يكون صيامه سنّة.

وعن أبي بكرة أنه رأى أهله يتهيئون لصيام رجب، فقال لهم: أجعلتم رجبا كرمضان، وألقى السّلال وكسر الكيزان.

وعن ابن عباس أنه كره أن يصام رجب كلّه. وعن ابن عمرو ابن عباس أنهما كانا يريان أن يفطر منه أياما، وكرهه أنس أيضا، وسعيد بن جبير، وكره صيام رجب كله يحيى بن سعيد الأنصاري، والإمام أحمد، وقال: يفطر منه يوما أو يومين، وحكاه عن ابن عمر وابن عباس. وقال الشافعيّ في «القديم»: أكره أن يتّخذ الرجل صوم شهر يكمله كما يكمل رمضان، واحتجّ بحديث عائشة:

«ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل شهرا قطّ إلاّ رمضان»

(1)

. قال: وكذلك يوما من الأيام. قال: وإنما كرهته أن لا يتأسّى رجل جاهل فيظن أنّ ذلك واجب، وإن فعل فحسن.

وتزول كراهة إفراد رجب بالصّوم بأن يصوم معه شهرا آخر تطوعا عند بعض أصحابنا، مثل أن يصوم الأشهر الحرم، أو يصوم رجب وشعبان، وقد تقدّم عن ابن عمر وغيره صيام الأشهر الحرم. والمنصوص عن أحمد أنّه لا يصومه بتمامه إلاّ من صام الدهر.

وروي عن ابن عمر ما يدلّ عليه؛ فإنّه بلغه أنّ قوما أنكروا عليه أنّه حرّم

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 50)(1969)، ومسلم (3/ 160)(1156).

ص: 215

صوم رجب، فقال: كيف بمن يصوم الدّهر؟ وهذا يدلّ على أنّه لا يصام رجب إلاّ مع صوم الدّهر.

وروى يوسف بن عطية، عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن عائشة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يصم بعد رمضان إلاّ رجبا وشعبان؛ ويوسف ضعيف جدّا.

وروى أبو يوسف القاضي، عن ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عائشة: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كلّ شهر ثلاثة أيام، وربّما أخّر ذلك حتى يقضيه في رجب وشعبان. ورواه عمرو بن أبي قيس، عن ابن أبي ليلى، فلم يذكر فيه رجبا، وهو أصحّ.

وأمّا الزّكاة؛ فقد اعتاد أهل هذه البلاد إخراج الزّكاة في شهر رجب، ولا أصل لذلك في السّنّة، ولا عرف عن أحد من السّلف. ولكن روي عن عثمان أنه خطب النّاس على المنبر، فقال: إنّ هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤد دينه وليزكّ ما بقي

(1)

. خرّجه مالك في «الموطإ» .

وقد قيل: إن ذلك الشهر الذي كانوا يخرجون فيه زكاتهم نسي ولم يعرف وقيل: بل كان شهر المحرّم؛ لأنّه رأس الحول.

وقد ذكر الفقهاء من أصحابنا وغيرهم أنّ الإمام يبعث سعاته لأخذ الزّكاة في المحرم. وقيل: بل كان شهر رمضان؛ لفضله وفضل الصّدقة فيه.

وبكلّ حال فإنّما تجب الزّكاة إذا تمّ الحول على النصاب، فكلّ أحد له حول يخصّه بحسب وقت ملكه للنصاب، فإذا تمّ حوله وجب عليه إخراج زكاته في أيّ شهر كان، فإن عجّل زكاته قبل الحول أجزأه عند جمهور العلماء. وسواء كان تعجيله لاغتنام زمان فاضل، أو لاغتنام الصّدقة على من

(1)

«الموطأ» (ص 172)، وإسناده صحيح.

ص: 216

لا يجد مثله في الحاجة، أو كان لمشقة إخراج الزّكاة عليه عند تمام الحول جملة، فيكون التفريق في طول الحول أرفق به. وقد صرّح مجاهد بجواز التّعجيل على هذا الوجه، وهو مقتضى إطلاق الأكثرين، وخالف في هذه الصورة إسحاق، نقله عنه ابن منصور.

وأما إذا حال الحول فليس له التأخير بعد ذلك عند الأكثرين. وعن أحمد يجوز تأخيرها؛ لانتظار قوم لا يجد مثلهم في الحاجة. وأجاز مالك وأحمد في رواية نقلها إلى بلد فاضل، فعلى قياس هذا لا يبعد جواز تأخيرها إلى زمن فاضل لا يوجد مثله كرمضان ونحوه. وروى يزيد الرّقاشيّ عن أنس أن المسلمين كانوا يخرجون زكاتهم في شعبان تقوية على الاستعداد لرمضان، وفي الإسناد ضعف.

وأما الاعتمار في رجب؛ فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما، أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب، فأنكرت ذلك عائشة عليه، وهو يسمع، فسكت. واستحبّ الاعتمار في رجب عمر بن الخطاب وغيره. وكانت عائشة تفعله وابن عمر أيضا. ونقل ابن سيرين عن السّلف أنّهم كانوا يفعلونه.

فإنّ أفضل الأنساك أن يؤتى بالحجّ في سفرة، والعمرة في سفرة أخرى في غير أشهر الحجّ، وذلك من جملة إتمام الحجّ والعمرة المأمور به. كذلك قاله جمهور الصّحابة كعمر وعثمان وعليّ وغيرهم رضي الله عنهم.

وقد روي أنّه كان في شهر رجب حوادث عظيمة، ولم يصحّ شيء من ذلك؛ فروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ولد في أول ليلة منه، وأنّه بعث في السابع والعشرين منه، وقيل: في الخامس والعشرين، ولا يصحّ شيء من ذلك. وروي بإسناد لا يصحّ عن القاسم بن محمد أنّ الإسراء بالنبيّ صلى الله عليه وسلم كان في سابع عشرين رجب، وأنكر ذلك إبراهيم الحربيّ وغيره. وروي عن قيس بن عباد، قال: في اليوم العاشر من رجب {يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ} [الرّعد: 39].

ص: 217

وكان أهل الجاهلية يتحرّون الدّعاء فيه على الظالم، وكان يستجاب لهم، ولهم في ذلك أخبار مشهورة قد ذكرها ابن أبي الدنيا في كتاب «مجابي الدعوة» وغيره. وقد ذكر ذلك لعمر بن الخطاب، فقال عمر: إنّ الله كان يصنع بهم ذلك ليحجز بعضهم عن بعض، وأنّ الله جعل السّاعة موعدكم، والسّاعة أدهى وأمر.

وروى زائدة بن أبي الرّقاد، عن زياد النّميري، عن أنس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلّغنا رمضان»

(1)

. وروي عن أبي إسماعيل الأنصاري أنّه قال: لم يصحّ في فضل رجب غير هذا الحديث. وفي قوله نظر؛ فإنّ هذا الإسناد فيه ضعف.

وفي هذا الحديث دليل على استحباب الدّعاء بالبقاء إلى الأزمان الفاضلة؛ لإدراك الأعمال الصّالحة فيها؛ فإنّ المؤمن لا يزيده عمره إلاّ خيرا، وخير النّاس من طال عمره وحسن عمله. وكان السّلف يستحبّون أن يموتوا عقيب عمل صالح؛ من صوم رمضان، أو رجوع من حجّ، وكان يقال: من مات كذلك غفر له.

كان بعض العلماء الصالحين قد مرض قبل شهر رجب، فقال: إنّي دعوت الله أن يؤخّر وفاتي إلى شهر رجب، فإنّه بلغني أنّ لله فيه عتقاء؛ فبلّغه الله ذلك ومات في شهر رجب.

شهر رجب مفتاح أشهر الخير والبركة؛ قال أبو بكر الورّاق البلخيّ: شهر رجب شهر الزّرع، وشهر شعبان شهر السّقي للزّرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزّرع وعنه قال: مثل شهر رجب مثل الريح، ومثل شعبان مثل الغيم،

(1)

أخرجه: أحمد (1/ 259)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (658)، والبزار (616 - كشف). وهو ضعيف، وفي إسناده زائدة بن أبي الرقاد، وهو منكر الحديث.

ص: 218

ومثل رمضان مثل المطر. وقال بعضهم: السّنة مثل الشّجرة؛ وشهر رجب أيّام توريقها، وشعبان أيّام تفريعها، ورمضان أيّام قطفها، والمؤمنون قطافها.

جدير بمن سوّد صحيفته بالذّنوب أن يبيّضها بالتّوبة في هذا الشهر، وبمن ضيّع عمره في البطالة أن يغتنم فيه ما بقي من العمر.

بيّض صحيفتك السّوداء في رجب

بصالح العمل المنجي من اللهب

شهر حرام أتى من أشهر حرم

إذا دعا الله داع فيه لم يخب

طوبى لعبد زكى فيه له عمل

فكفّ فيه عن الفحشاء والرّيب

انتهاز الفرصة بالعمل في هذا الشهر غنيمة، واغتنام أوقاته بالطّاعات له فضيلة عظيمة.

يا عبد أقبل منيبا واغتنم رجبا

فإنّ عفوي عمّن تاب قد وجبا

في هذه الأشهر الأبواب قد فتحت

للتّائبين فكلّ نحونا هربا

حطّوا الرّكائب في أبواب رحمتنا

بحسن ظنّ فكلّ نال ما طلبا

وقد نثرنا عليهم من تعطّفنا

نثار حسن قبول فاز من نهبا

***

ص: 219

‌وظائف شهر شعبان

ويشتمل على مجالس:

‌المجلس الأول في صيامه

خرّج الإمام أحمد والنّسائيّ من حديث أسامة بن زيد، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم الأيّام يسرد حتى نقول لا يفطر، ويفطر الأيّام حتّى لا يكاد يصوم، إلاّ يومين من الجمعة إن كانا في صيامه، وإلاّ صامهما. ولم يكن يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان. فقلت: يا رسول الله، إنّك تصوم لا تكاد تفطر، وتفطر حتّى لا تكاد تصوم إلاّ يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما. قال:

أيّ يومين؟ قلت: يوم الإثنين، ويوم الخميس. قال: ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على ربّ العالمين، وأحبّ أن يعرض عملي وأنا صائم. قلت:

ولم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين عز وجل، وأحبّ أن يرفع عملي وأنا صائم

(1)

.

قد تضمّن هذا الحديث ذكر صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع السّنة، وصيامه من أيام الأسبوع، وصيامه من شهور السّنة، فأمّا صيامه من السنة فكان يسرد

(1)

أخرجه: أحمد (5/ 201)؛ والنسائي (4/ 201)، وعبد الرزاق (7917)، والبزار (2617)، وهو حديث حسن.

ص: 220

الصّوم أحيانا والفطر أحيانا، فيصوم حتّى يقال لا يفطر، ويفطر حتّى يقال لا يصوم. وقد روى ذلك أيضا عائشة وابن عباس وأنس وغيرهم.

ففي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها، قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتّى نقول: لا يفطر، ويفطر حتّى نقول لا يصوم»

(1)

. وفيهما عن ابن عباس، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم إذا صام حتّى يقول القائل: لا والله لا يفطر، ويفطر إذا أفطر حتى يقول القائل: لا والله لا يصوم» .

وفيهما عن أنس أنّه سئل عن صيام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ما كنت أحبّ أن أراه من الشهر صائما إلاّ رأيته، ولا مفطرا إلاّ رأيته، ولا من اللّيل قائما إلاّ رأيته، ولا نائما إلا رأيته»

(2)

. ولمسلم عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتّى يقال: قد صام قد صام، ويفطر حتّى يقال: قد أفطر

(3)

.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينكر على من يسرد صوم الدّهر ولا يفطر منه، ويخبر عن نفسه أنّه لا يفعل ذلك. ففي «الصحيحين» عن عبد الله بن عمرو أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: «أتصوم النّهار وتقوم اللّيل؟ قال: نعم، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:

لكنّي أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمسّ النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي

(4)

.

وفيهما عن أنس: أنّ نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللّحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش. فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخطب، وقال: «ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟ لكنّي أصلي

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 50)(1969)، ومسلم (3/ 161)(1156).

(2)

أخرجه: البخاري (3/ 50)(1141)(1972)(1973)، ومسلم (3/ 162).

(3)

أخرجه: مسلم (3/ 162)(1158).

(4)

أخرجه: البخاري (51)، ومسلم (3/ 162)، وأحمد (2/ 158).

ص: 221

وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس مني»

(1)

.

وخرّجه النسائي وزاد فيه: «وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر»

(2)

.

وفي «مسند الإمام أحمد» ، عن رجل من الصحابة، قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم مولاة لبني عبد المطلب أنّها قامت اللّيل، وتصوم النّهار، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:

«لكني أنا أنام وأصلّي، وأصوم وأفطر، فمن اقتدى بي فهو مني، ومن رغب عن سنّتي فليس منّي، إن لكلّ عمل شرّة وفترة، فمن كانت فترته إلى بدعة فقد ضلّ، ومن كانت فترته إلى سنّة فقد اهتدى»

(3)

.

وفي «المسند» و «سنن أبي داود» عن عائشة رضي الله عنها «أن عثمان بن مظعون أراد التبتّل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترغب عن سنّتي؟ قال: لا والله، ولكنّ سنّتك أريد. قال: فإنّي أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النّساء، فاتّق الله يا عثمان، فإنّ لأهلك عليك حقّا، وإنّ لضيفك عليك حقّا، وإنّ لنفسك عليك حقّا، فصم وأفطر، وصلّ ونم»

(4)

.

وقد قال عكرمة وغيره: إنّ عثمان بن مظعون وعليّ بن أبي طالب والمقداد وسالما مولى أبي حذيفة في جماعة تبتّلوا فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النّساء، وحرّموا طيبات الطّعام واللّباس، إلاّ ما يأكل ويلبس أهل السّياحة من بني إسرائيل، وهمّوا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النّهار، فنزلت فيهم:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87].

(1)

أخرجه: البخاري (7/ 2)(5063)، ومسلم (4/ 129)(1401).

(2)

أخرجه: النسائي (6/ 60).

(3)

أخرجه: أحمد (5/ 409)، والطبراني (2/ 284)(2186)، وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 442):«رجاله رجال الصحيح» .

(4)

أخرجه: أبو داود (1369)، وأحمد (6/ 268).

ص: 222

وفي «صحيح البخاري» أنّ سلمان زار أبا الدّرداء، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم قد آخى بينهما، فرأى أمّ الدّرداء متبذّلة، فقال لها: ما شأنك متبذّلة؟ فقالت: إنّ أخاك أبا الدّرداء لا حاجة له في الدّنيا. فلمّا جاء أبو الدّرداء قرّب له طعاما، فقال له:

كل، قال: إنّي صائم، فقال: ما أنا بآكل حتّى تأكل، فأكل. فلمّا كان اللّيل ذهب أبو الدّرداء ليقوم، فقال له سلمان: نم، ثم ذهب ليقوم، فقال له: نم، فلمّا كان من آخر اللّيل، قال سلمان: قم الآن، فقاما فصليا. فقال سلمان: إنّ لنفسك عليك حقّا، وإنّ لضيفك عليك حقّا، وإنّ لأهلك عليك حقّا، فأعط كل ذي حقّ حقّه. فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك له، فقال:«صدق سلمان»

(1)

. وفي رواية في غير الصحيح، قال:«ثكلت سلمان أمّه! لقد أشبع من العلم»

(2)

.

وهكذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص لمّا كان يصوم الدّهر، فنهاه وأمره أن يصوم صوم داود، «يصوم يوما ويفطر يوما». وقال له:

«لا أفضل من ذلك» .

وقد ورد النهي عن صيام الدهر والتشديد فيه، وهذا كله يدلّ على أنّ أفضل الصّيام ألاّ يستدام، بل يعاقب بينه وبين الفطر، وهذا هو الصّحيح من قولي العلماء، وهو مذهب أحمد وغيره. وقيل لعمر: إنّ فلانا يصوم الدّهر، فجعل يقرع رأسه بقناة معه، ويقول:«كل يا دهر، كل يا دهر»

(3)

. خرّجه عبد الرّزّاق.

وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الحكمة في ذلك من وجوه:

(1)

أخرجه: البخاري (8/ 40)(1968)(6139).

(2)

أخرجه: ابن أبي شيبة (6/ 395). من حديث أبي صالح مرسلا.

(3)

أخرجه: عبد الرزاق (7871).

ص: 223

منها: قوله صلى الله عليه وسلم في صيام الدّهر: «لا صام ولا أفطر»

(1)

، يعني أنّه لا يجد مشقّة الصّيام ولا فقد الطّعام والشّراب والشّهوة؛ لأنّه صار الصيام له عادة مألوفة، فربما تضرّر بتركه، فإذا صام تارة وأفطر أخرى حصل له بالصيام مقصوده بترك هذه الشّهوات، وفي نفسه داعية إليها، وذلك أفضل من أن يتركها ونفسه لا تتوق إليها.

ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم في حقّ داود عليه السلام: «كان يصوم يوما، ويفطر يوما، ولا يفرّ إذا لاقى»

(2)

، يشير إلى أنّه كان لا يضعفه صيامه عن ملاقاة عدوه ومجاهدته في سبيل الله. ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال لأصحابه يوم الفتح وكان في رمضان:«إنّ هذا يوم قتال فأفطروا»

(3)

. وكان عمر إذا بعث سرية، قال لهم: لا تصوموا، فإنّ التّقوي على الجهاد أفضل من الصّوم.

فأفضل الصّيام ألاّ يضعف البدن حتى يعجز عمّا هو أفضل منه؛ من القيام بحقوق الله تعالى، أو حقوق عباده اللاّزمة، فإن أضعف عن شيء من ذلك ممّا هو أفضل منه كان تركه أفضل.

فالأوّل؛ مثل أن يضعف الصّيام عن الصّلاة، أو عن الذكر، أو عن العلم كما قيل في النهي عن صيام يوم الجمعة ويوم عرفة بعرفة إنّه يضعف عن الذكر والدّعاء في هذين اليومين. وكان ابن مسعود يقلّ الصّوم ويقول: إنّه يمنعني من قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحبّ إليّ. فقراءة القرآن أفضل من الصّيام.

نصّ عليه سفيان الثوريّ وغيره من الأئمة. وكذلك تعلّم العلم النّافع وتعليمه أفضل من الصّيام.

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 167)(1162) من حديث أبي قتادة.

(2)

أخرجه: البخاري (1977)(1979)، ومسلم (3/ 164)(1159).

(3)

أخرجه: ابن سعد (2/ 141)، وعبد الرزاق في مصنفه (5/ 302)(9688) مرسلا.

ص: 224

وقد نصّ الأئمة الأربعة على أنّ طلب العلم أفضل من صلاة النّافلة، والصّلاة أفضل من الصيام المتطوّع به، فيكون العلم أفضل من الصّيام بطريق الأولى؛ فإنّ العلم مصباح يستضاء به في ظلمة الجهل والهوى، فمن سار في طريق على غير مصباح لم يأمن أن يقع في بئر بوار فيعطب. قال ابن سيرين:

إنّ قوما تركوا العلم واتّخذوا محاريب فصلوا وصاموا بغير علم، والله ما عمل أحد بغير علم إلاّ كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح.

والثاني؛ مثل أن يضعف الصّيام عن الكسب للعيال أو القيام بحقوق الزّوجات، فيكون تركه أفضل. وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم:«إنّ لأهلك عليك حقّا»

(1)

.

ومنها: ما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنّ لنفسك عليك حقّا فأعط كلّ ذي حق حقّه»

(1)

يشير إلى أنّ النفس وديعة لله عند ابن آدم، وهو مأمور أن يقوم بحقّها؛ ومن حقها اللّطف بها حتّى توصل صاحبها إلى المنزل. قال الحسن:

نفوسكم مطاياكم إلى ربّكم، فأصلحوا مطاياكم توصلكم إلى ربّكم.

فمن وفّى نفسه حظّها من المباح بنيّة التّقوي به على تقويتها على أعمال الطّاعات، كان مأجورا في ذلك، كما قال معاذ بن جبل: إنّي أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. ومن

(2)

قصّر في حقها حتى ضعفت وتضرّرت، كان ظالما لها.

وإلى هذا أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله لعبد الله بن عمرو بن العاص: «إنّك إذا

(1)

تقدم.

(2)

في ص: «وفي الصحيحين: من .. » ، وذكر الصحيحين هنا لا معنى له، ولعل قصد الحديث الآتي، كأن يكون كتب على هامش النسخة ذلك فظن الناسخ أن هذا موضعه. والله أعلم.

ص: 225

فعلت ذلك نفهت له النّفس، وهجمت له العين»

(1)

. ومعنى «نفهت» : كلّت وأعيت. ومعنى «هجمت العين» : غارت.

وقال لأعرابيّ جاءه فأسلم، ثمّ أتاه من عام قابل وقد تغيّر فلم يعرفه، فلمّا عرفه سأله عن حاله، قال: ما أكلت بعدك طعاما بنهار. فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم:

«ومن أمرك أن تعذّب نفسك؟»

(2)

.

فمن عذّب نفسه بأن حمّلها ما لا تطيقه من الصّيام ونحوه فربما أثّر ذلك في ضعف بدنه وعقله، فيفوته من الطّاعات الفاضلة أكثر ممّا حصله بتعذيبه نفسه بالصّيام.

وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتوسّط في إعطاء نفسه حقّها ويعدل فيها غاية العدل؛ فيصوم ويفطر، ويقوم وينام، وينكح النساء، ويأكل ما يجد من الطيبات، كالحلواء والعسل ولحم الدّجاج. وتارة يجوع حتّى يربط على بطنه الحجر.

وقال: «عرض عليّ ربّي أن يجعل لي بطحاء مكّة ذهبا، فقلت: لا يا ربّ، ولكن أجوع يوما وأشبع يوما؛ فإذا جعت تضرّعت إليك وذكرتك، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك»

(3)

. فاختار لنفسه أفضل الأحوال؛ ليجمع بين مقامي الشّكر والصّبر والرّضا.

ومنها: ما أشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو: «لعلّه أن تطول بك حياة» ، يعني أن من تكلّف الاجتهاد في العبادة فقد تحمله قوّة الشّباب ما دامت باقية، فإذا ذهب الشّباب وجاء المشيب والكبر عجز عن حمل ذلك، فإن صابر وجاهد واستمر فربّما هلك بدنه، وإن قطع فقد فاته أحبّ العمل إلى الله، وهو المداومة

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 52 - 53)(1979)، ومسلم (3/ 165)(1159).

(2)

تقدم.

(3)

أخرجه: الترمذي (2347)، وانظر: ضعيف المشكاة (5189)، ضعيف الجامع (1397).

ص: 226

على العمل. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «اكلفوا من العمل ما تطيقون، فو الله لا يملّ الله حتّى تملّوا» . وقال صلى الله عليه وسلم: «أحبّ العمل إلى الله أدومه، وإن قلّ»

(1)

.

فمن عمل عملا يقوى عليه بدنه في طول عمره، في قوّته وضعفه، استقام سيره. ومن حمل ما لا يطيق؛ فإنّه قد يحدث له مرض يمنعه من العمل بالكليّة، وقد يسأم ويضجر فيقطع العمل، فيصير كالمنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.

وأمّا صيام النبيّ صلى الله عليه وسلم من الأيام - أعني أيام الأسبوع - فكان يتحرى صيام الإثنين والخميس، وكذا روي عن عائشة رضي الله عنها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يتحرّى صيام الإثنين والخميس

(2)

. خرّجه الإمام أحمد، والنّسائيّ، وابن ماجه، والترمذي وحسّنه.

وخرّج ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصوم الإثنين والخميس، فقيل: يا رسول الله، إنّك تصوم الإثنين والخميس؟ فقال:

«إنّ يوم الإثنين والخميس يغفر الله فيهما لكلّ مسلم، إلاّ مهتجرين، فيقول:

دعوهما حتى يصطلحا»

(3)

.

وخرجه الإمام أحمد، وعنده أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان أكثر ما يصوم الإثنين والخميس، فقيل له، قال: إنّ الأعمال تعرض كلّ إثنين وخميس، فيغفر لكلّ مسلم، أو لكلّ مؤمن، إلاّ المتهاجرين، فيقول: أخّرهما»

(4)

.

(1)

أخرجه: البخاري (8/ 122)(6464)(6465)، ومسلم (2/ 188 - 189)(782).

(2)

أخرجه: أحمد (6/ 80)، والنسائي (203، 4/ 151)، والترمذي (745)، وابن ماجه (1649)، (1739)، وأبو يعلى (4751)، وابن حبان (3643).

(3)

أخرجه: ابن ماجه (1740)، وأصل الحديث عند مسلم (8/ 11)(2565).

(4)

أخرجه: أحمد (2/ 329).

ص: 227

وأخرجه الترمذي، ولفظه: قال: «تعرض الأعمال يوم الإثنين ويوم الخميس، فأحبّ أن يعرض عملي وأنا صائم»

(1)

. وروي موقوفا على أبي هريرة، ورجّح بعضهم وقفه.

وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة مرفوعا: «تفتح أبواب الجنّة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئا، إلاّ رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، يقول: أنظروا هذين حتّى يصطلحا»

(2)

.

ويروى بإسناد فيه ضعف عن أبي أمامة مرفوعا: «ترفع الأعمال يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر للمستغفرين ويترك أهل الحقد بحقدهم»

(3)

.

وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله عز وجل:{ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]، قال: يكتب كلّ ما تكلّم به من خير وشرّ، حتّى إنّه ليكتب قوله: أكلت، وشربت، وذهبت، وجئت، ورأيت، حتّى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقرّ منه ما كان فيه من خير أو شرّ، وألقي سائره، فذلك قوله تعالى:{يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ} [الرعد: 39]. خرّجه ابن أبي حاتم

(4)

وغيره. فهذا يدلّ على اختصاص يوم الخميس بعرض الأعمال لا يوجد في غيره.

وكان إبراهيم النّخعيّ يبكي إلى امرأته يوم الخميس وتبكي إليه، ويقول:

اليوم تعرض أعمالنا على الله عز وجل.

فهذا عرض خاصّ في هذين اليومين غير العرض العامّ كل يوم، فإن ذلك عرض دائم بكرة وعشيّا. ويدلّ على ذلك ما في «الصحيحين» عن أبي هريرة

(1)

أخرجه: الترمذي (747).

(2)

أخرجه: مسلم (8/ 11)(2565).

(3)

أخرجه: ابن عدي (8/ 205)، والطبراني في «المعجم الكبير» (10/ 10)(9776).

(4)

«تفسير ابن أبي حاتم» (10/ 3308)(18632).

ص: 228

عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنّهار، فيجتمعون في صلاة الصّبح، وصلاة العصر، فيسأل الذين باتوا فيكم - وهو أعلم -: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلّون وتركناهم وهم يصلّون»

(1)

.

وفي «صحيح مسلم» عن أبي موسى الأشعريّ، قال:«قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إنّ الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل اللّيل قبل النّهار، وعمل النّهار قبل اللّيل، حجابه النّور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»

(2)

.

ويروى عن ابن مسعود، قال: إنّ مقدار كلّ يوم من أيامكم عند ربّكم ثنتا عشرة ساعة، فتعرض عليه أعمالكم بالأمس أوّل النّهار اليوم، فينظر فيها ثلاث ساعات، وذكر باقيه. كان الضحّاك يبكي آخر النّهار، ويقول: لا أدري ما رفع من عملي. يا من عمله معروض على من يعلم السّرّ وأخفى، لا تبهرج فالنّاقد بصير.

السّقم على الجسم له ترداد

والعمر ينقص والذنوب تزاد

(3)

ما أبعد سفرتي

(4)

وما لي زاد

ما أكثر بهرجي ولي نقّاد

وحديث أسامة فيه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سرد الفطر يصوم الإثنين والخميس، فدلّ على مواظبة النبيّ صلى الله عليه وسلم على صيامهما، وقد كان أسامة يصومهما حضرا وسفرا لهذا.

(1)

أخرجه: البخاري (1/ 145 - 146)(555)(3223)، ومسلم (2/ 113)(632).

(2)

أخرجه: مسلم (1/ 111)(179).

(3)

في ب: «تزداد» .

(4)

في أ: «شقتي» .

ص: 229

وفي «مسند الإمام أحمد» و «سنن النّسائي» عن عبد الله بن عمرو أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر. فقال له: إنّي أقوى على أكثر من ذلك، قال: فصم من الجمعة يوم الإثنين والخميس، قال: إنّي أقوى على أكثر من ذلك، قال: فصم صيام داود

(1)

.

وفي «مسند الإمام أحمد» من رواية عثمان بن رشيد، حدثني أنس بن سيرين، قال: أتينا أنس بن مالك في يوم خميس، فدعا بمائدته، فدعاهم إلى الغداء، فأكل بعض القوم وأمسك بعض، ثم أتوه يوم خميس، ففعل مثلها، فقال أنس: لعلّكم أثنائيّون، لعلّكم خميسيّون، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتّى يقال لا يفطر، ويفطر حتّى يقال لا يصوم

(2)

.

وظاهر هذا الحديث يخالف حديث أسامة، وأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّما كان يصوم الإثنين والخميس إذا دخلا في صيامه، ولم يكن يتحرّى صيامهما في أيام سرد فطره، ولكن عثمان بن رشيد ضعيف، ضعّفه ابن معين وغيره، وحديث أسامة أصحّ منه. وقد روي من حديث أم سلمة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كلّ شهر ثلاثة أيام، أوّل خميس والإثنين والإثنين

(3)

. وفي رواية بالعكس: الإثنين والخميس والخميس.

وأكثر العلماء على استحباب صيام الإثنين والخميس. وروي كراهته عن أنس بن مالك من غير وجه عنه، وكان مجاهد يفعله، ثمّ تركه وكرهه. وكره أبو جعفر محمد بن علي صيام الإثنين.

(1)

أخرجه: أحمد (2/ 200)، والنسائي (4/ 212).

(2)

أخرجه: أحمد (3/ 230)، أبو يعلى (3431)، والبيهقي في «الشعب» (3819)، والبغوي (1778)، وسيضعفه المؤلف فيما يأتي قريبا.

(3)

أخرجه: أحمد (5/ 271)، وأبو داود (2437)، والنسائي (221، 220، 4/ 205)، والبيهقي (4/ 284 - 285).

ص: 230

وكرهت طائفة صيام يوم معين كلما مرّ بالإنسان؛ روي عن عمران بن حصين، وابن عباس، والشعبيّ، والنّخعي، ونقله ابن القاسم عن مالك. وقال الشافعي في القديم: أكره ذلك، قال: وإنّما كرهته لئلا يتأسّى جاهل فيظنّ أنّ ذلك واجب، قال: فإن فعل فحسن، يعني على غير اعتقاد الوجوب.

وأمّا صيام النبيّ صلى الله عليه وسلم من أشهر السّنة فكان يصوم من شعبان ما لا يصوم من غيره من الشهور. وفي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قطّ إلاّ رمضان، وما رأيته في شهر أكثر صياما منه في شعبان

(1)

. زاد البخاريّ في رواية: «كان يصوم شعبان كلّه» .

ولمسلم في رواية: «كان يصوم شعبان كلّه، كان يصوم شعبان إلاّ قليلا»

(1)

.

وفي رواية للنسائي عن عائشة، قالت: كان أحبّ الشّهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصوم شعبان، كان يصله برمضان

(2)

.

وعنها وعن أمّ سلمة، قالتا:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان إلاّ قليلا، بل كان يصومه كلّه»

(3)

. وعن أمّ سلمة قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلاّ شعبان، كان يصوم شعبان إلاّ قليلا»

(4)

.

وعن أمّ سلمة قالت: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلاّ شعبان ورمضان» .

وقد رجّح طائفة من العلماء؛ منهم ابن المبارك وغيره أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شعبان، وإنّما كان يصوم أكثره. ويشهد له ما في «صحيح مسلم» عن عائشة رضي الله عنها، قالت: «ما علمته - تعني النبي صلى الله عليه وسلم صام شهرا

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 50)(1969)، ومسلم (3/ 160 - 161)(1156).

(2)

أخرجه: النسائي (4/ 199).

(3)

أخرجه: الترمذي (737).

(4)

أخرجه: الترمذي (736)، والنسائي (4/ 200).

ص: 231

كلّه إلاّ رمضان»

(1)

. وفي رواية له أيضا عنها قالت: «ما رأيته صام شهرا كاملا، منذ قدم المدينة، إلاّ أن يكون رمضان»

(1)

.

وفي رواية له أيضا أنّها قالت: «لا أعلم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كلّه في ليلة، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان»

(2)

. وفي رواية له أيضا، قالت:«ما رأيته قام ليلة حتّى الصّباح، ولا صام شهرا متتابعا إلاّ رمضان»

(2)

. وفي «الصحيحين» عن ابن عباس، قال:«ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا كاملا غير رمضان»

(3)

. وكان ابن عباس يكره أن يصوم شهرا كاملا غير رمضان.

وروى عبد الرزّاق في «كتابه» عن ابن جريج، عن عطاء، قال:«كان ابن عبّاس ينهى عن صيام الشّهر كاملا، ويقول: ليصمه إلاّ أيّاما؛ وكان ينهى عن إفراد اليوم كلّما مرّ به، وعن صيام الأيّام المعلومة، وكان يقول: لا تصم أيّاما معلومة»

(4)

.

فإن قيل: فكيف كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يخصّ شعبان بصيام التّطوّع فيه مع أنّه قال:

«أفضل الصّيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرّم» ؟

فالجواب: أنّ جماعة من النّاس أجابوا عن ذلك بأجوبة غير قوية؛ لاعتقادهم أنّ صيام المحرّم والأشهر الحرم أفضل من صيام شعبان، كما صرّح به الشافعية وغيرهم، والأظهر خلاف ذلك، وأنّ صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم. ويدلّ على ذلك ما خرّجه الترمذيّ من حديث أنس: سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أي الصّيام أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان

(5)

، تعظيما لرمضان. وفي إسناده مقال.

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 161)(1156).

(2)

أخرجه: مسلم (2/ 171)(746).

(3)

أخرجه: البخاري (3/ 50)(1971)، ومسلم (3/ 161)(1157).

(4)

أخرجه: عبد الرزاق (7855).

(5)

أخرجه: الترمذي، انظر «إرواء الغليل» (889).

ص: 232

وفي «سنن ابن ماجه» أنّ أسامة كان يصوم الأشهر الحرم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صم شوّالا» ، فترك الأشهر الحرم، فكان يصوم شوّالا حتى مات

(1)

. وفي إسناده إرسال. وقد روي من وجه آخر يعضده.

فهذا نصّ في تفضيل صيام شوّال على صيام الأشهر الحرم، وإنّما كان كذلك لأنّه يلي رمضان من بعده، كما أنّ شعبان يليه من قبله، وشعبان أفضل؛ لصيام النبيّ صلى الله عليه وسلم له دون شوّال، فإذا كان صيام شوّال أفضل من الأشهر الحرم فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق الأولى.

فظهر بهذا أنّ أفضل التّطوّع ما كان قريبا من رمضان؛ قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان؛ لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السّنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة لنقص الفرائض. وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده. فكما أنّ السّنن الرّواتب أفضل من التّطوّع المطلق بالصّلاة، فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بعد منه، ويكون قوله:«أفضل الصّيام بعد رمضان المحرّم»

(2)

محمولا على التّطوّع المطلق بالصّيام. فأمّا ما قبل رمضان وبعده فإنّه يلتحق به في الفضل، كما أنّ قوله في تمام الحديث:«وأفضل الصّلاة بعد المكتوبة قيام اللّيل»

(2)

إنّما أريد به تفضيل قيام اللّيل على التّطوّع المطلق دون السّنن الرواتب عند جمهور العلماء، خلافا لبعض الشافعية. والله أعلم.

فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصّيام صيام داود؛ كان يصوم يوما ويفطر يوما» ولم يصم كذلك، بل كان يصوم سردا ويفطر سردا، ويصوم شعبان وكلّ إثنين وخميس؟.

(1)

أخرجه: ابن ماجه (1744)، وإسناده ضعيف، وانظر «ضعيف التعليق الرغيب» (2/ 81).

(2)

تقدّم.

ص: 233

قيل: صيام داود الذي فضّله النبيّ صلى الله عليه وسلم على الصيام، قد فسره النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث آخر بأنه صوم شطر الدهر، وكان صيام النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا جمع يبلغ صيام نصف الدّهر أو يزيد عليه، وقد كان يصوم مع ما سبق ذكره يوم عاشوراء، وتسع ذي الحجّة، وإنّما كان يفرّق صيامه ولا يصوم يوما ويفطر يوما؛ لأنّه كان يتحرّى صيام الأوقات الفاضلة، ولا يضرّ تفريق الصّيام والفطر أكثر من يوم ويوم، إذا كان القصد به التّقوّي على ما هو أفضل من الصّيام؛ من أداء الرّسالة وتبليغها، والجهاد عليها، والقيام بحقوقها، فكان صيام يوم وفطر يوم يضعفه عن ذلك. ولهذا لما سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة عمّن يصوم يوما ويفطر يومين، قال:«وددت أنّي طوّقت ذلك»

(1)

.

وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص لمّا كبر يسرد الفطر أحيانا ليتقوّى به على الصّيام، ثمّ يعود فيصوم ما فاته محافظة على ما فارق عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم من صيام شطر الدّهر، فحصل للنبيّ صلى الله عليه وسلم أجر صيام شطر الدّهر، وأزيد منه بصيامه المتفرّق، وحصل له أجر تتابع الصّيام بتمنّيه لذلك، وإنّما عاقه عنه الاشتغال بما هو أهمّ منه وأفضل. والله أعلم.

وقد ظهر بما ذكرناه وجه صيام النبيّ صلى الله عليه وسلم لشعبان دون غيره من الشّهور، وفيه معان أخر؛ وقد ذكر منها النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة معنيين:

أحدهما: أنّه شهر يغفل النّاس عنه بين رجب ورمضان؛ يشير صلى الله عليه وسلم إلى أنّه لمّا اكتنفه شهران عظيمان؛ الشهر الحرام، وشهر الصّيام، اشتغل النّاس بهما عنه، فصار مغفولا عنه. وكثير من النّاس يظنّ أنّ صيام رجب أفضل من صيامه لأنّه شهر حرام، وليس كذلك. وروى ابن وهب، قال: حدثنا معاوية بن

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 167).

ص: 234

صالح، عن أزهر بن سعد، عن أبيه، عن عائشة، قالت: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناس يصومون رجبا، فقال:«فأين هم عن شعبان»

(1)

.

وفي قوله: «يغفل النّاس عنه بين رجب ورمضان» إشارة إلى أنّ بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه؛ إمّا مطلقا أو لخصوصيّة فيه لا يتفطّن لها أكثر النّاس. فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوّتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم.

وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة النّاس بالطّاعة، وأنّ ذلك محبوب لله عز وجل، كما كان طائفة من السّلف يستحبّون إحياء ما بين العشاءين بالصّلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة، وكذلك فضل القيام في وسط اللّيل؛ لشمول الغفلة لأكثر النّاس فيه عن الذّكر، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«إن استطعت أن تكون ممّن يذكر الله في تلك السّاعة فكن» .

ولهذا المعنى كان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يؤخّر العشاء إلى نصف اللّيل، وإنّما علّل ترك ذلك لخشية المشقّة على النّاس. ولمّا خرج صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم ينتظرونه لصلاة العشاء قال لهم:«ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم»

(2)

. وفي هذا إشارة إلى فضيلة التفرّد بذكر الله في وقت من الأوقات لا يوجد فيه ذاكر له.

ولهذا ورد في فضل الذكر في الأسواق ما ورد من الحديث المرفوع والآثار الموقوفة، حتّى قال أبو صالح: إنّ الله ليضحك ممّن يذكره في السّوق، وسبب ذلك أنّه ذكر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة.

(1)

تقدم.

(2)

أخرجه: البخاري (2/ 149)(566)(569)، ومسلم (2/ 116)(638).

ص: 235

وفي حديث أبي ذرّ المرفوع: «ثلاثة يحبّهم الله؛ قوم ساروا ليلتهم، حتّى إذا كان النّوم أحبّ إليهم ممّا يعدل به فوضعوا رءوسهم، فقام أحدهم يتملّقني ويتلو آياتي، وقوم كانوا في سريّة فانهزموا، فتقدّم أحدهم فلقي العدوّ فصبر حتّى قتل» ، وذكر «أيضا قوما جاءهم سائل فسألهم فلم يعطوه، فانفرد أحدهم حتّى أعطاه سرّا»

(1)

فهؤلاء الثّلاثة انفردوا عن رفقتهم بمعاملة الله سرّا بينهم وبينه، فأحبّهم الله. فكذلك من يذكر الله في غفلة النّاس، أو من يصوم في أيّام غفلة النّاس عن الصّيام.

وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطّاعة فوائد:

منها: أنّه يكون أخفى، وإخفاء النّوافل وإسرارها أفضل، لا سيّما الصيام؛ فإنّه سرّ بين العبد وربّه، ولهذا قيل: إنه ليس فيه رياء. وقد صام بعض السّلف أربعين سنة لا يعلم به أحد، كان يخرج من بيته إلى سوقه ومعه رغيفان، فيتصدّق بهما ويصوم، فيظنّ أهله أنّه أكلهما، ويظنّ أهل سوقه أنّه أكل في بيته. وكانوا يستحبّون لمن صام أن يظهر ما يخفي به صيامه. فعن ابن مسعود أنّه قال:«إذا أصبحتم صياما فأصبحوا مدّهنين» . وقال قتادة: يستحبّ للصائم أن يدّهن حتّى تذهب عنه غبرة الصّيام.

وقال أبو التيّاح: أدركت أبي ومشيخة الحيّ، إذا صام أحدهم ادّهن ولبس صالح ثيابه.

ويروى أنّ عيسى بن مريم عليه السلام قال: إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته، وليمسح شفتيه من دهنه حتّى ينظر النّاظر إليه فيرى أنّه ليس بصائم.

(1)

أخرجه: الترمذي (2568)، والنسائي (5/ 84). وانظر «ضعيف المشكاة» (1922) و «ضعيف الجامع الصغير» (2609).

ص: 236

اشتهر بعض الصّالحين بكثرة الصّيام، فكان يجتهد في إظهار فطره للنّاس حتّى كان يقوم يوم الجمعة والنّاس مجتمعون في مسجد الجامع، فيأخذ إبريقا، فيضع بلبلته في فيه ويمصّه ولا يزدرد منه شيئا، ويبقى ساعة كذلك لينظر النّاس إليه فيظنّون أنّه يشرب الماء، وما دخل إلى حلقه منه شيء. كم ستر الصّادقون أحوالهم وريح الصّدق ينمّ عليهم.

ريح الصّيام أطيب من ريح المسك تستنشقه قلوب المؤمنين وإن خفي، وكلّما طالت عليه المدّة ازداد قوّة ريحه.

كم أكتم حبّكم عن الأغيار

والدّمع يذيع في الهوى أسراري

كم أستركم هتكتم أستار

من يخفي في الهوى لهيب النّار

ما أسرّ أحد سريرة إلاّ ألبسه الله رداءها علانية.

وهبني كتمت السّرّ أو قلت غيره

أتخفى على أهل القلوب السّرائر

أبى ذاك أنّ السّرّ في الوجه ناطق

وأنّ ضمير القلب في العين ظاهر

ومنها: أنّه أشقّ على النّفوس؛ وأفضل الأعمال أشقّها على النّفوس، وسبب ذلك أنّ النّفوس تتأسّى بما تشاهده من أحوال أبناء الجنس، فإذا كثرت يقظة النّاس وطاعاتهم كثر أهل الطّاعة؛ لكثرة المقتدين بهم، فسهلت الطّاعات. وإذا كثرت الغفلات وأهلها تأسّى بهم عموم النّاس، فيشقّ على نفوس المتيقظين طاعاتهم؛ لقلّة من يقتدون بهم فيها.

ولهذا المعنى قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «للعامل منهم أجر خمسين منكم، إنّكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون»

(1)

. وقال: «بدأ الإسلام غريبا وسيعود

(1)

أخرجه: أبو داود (4341)، والترمذي (3060)، وابن ماجه (4014)، وانظر «ضعيف الجامع الصغير» (2344). وقال الألباني: فقرة أيام الصبر ثابتة.

ص: 237

غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء»

(1)

. وفي رواية: «قيل: ومن الغرباء؟ قال:

الذين يصلحون إذا فسد النّاس»

(2)

.

وفي «صحيح مسلم» من حديث معقل بن يسار، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

«العبادة في الهرج كالهجرة إليّ»

(3)

. وخرّجه الإمام أحمد، ولفظه:«العبادة في الفتنة كالهجرة إليّ»

(3)

.

وسبب ذلك أنّ الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيها بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسّك بدينه ويعبد ربّه ويتّبع مراضيه، ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنا به، متّبعا لأوامره، مجتنبا لنواهيه.

ومنها: أنّ المنفرد بالطّاعة بين أهل المعاصي والغفلة قد يدفع به البلاء عن النّاس كلّهم، فكأنّه يحميهم ويدافع عنهم. وفي حديث ابن عمر الذي رويناه في «جزء ابن عرفة» مرفوعا:«ذاكر الله في الغافلين كالذي يقاتل عن الفارّين، وذاكر الله في الغافلين كالشّجرة الخضراء في وسط الشّجر الذي تحاتّ ورقة من الصّريد - والصّريد: البرد الشّديد - وذاكر الله في الغافلين يغفر له بعدد كلّ رطب ويابس، وذاكر الله في الغافلين يعرف مقعده في الجنّة»

(4)

.

قال بعض السّلف: ذاكر الله في الغافلين كمثل الذي يحمي الفئة المنهزمة، ولولا من يذكر الله في غفلة النّاس لهلك النّاس.

(1)

أخرجه: مسلم (1/ 90)(145).

(2)

رواه الطبراني في «الأوسط» (3/ 250)(3056)، وفي «الكبير» (8/ 152) (7659). راجع كتاب:«كشف الكربة» (ص) للمصنّف.

(3)

أخرجه: مسلم (8/ 208)(2948)، وأحمد (5/ 27).

(4)

أخرجه: أبو نعيم في «الحلية» (6/ 181) وعزاه في «الكنز» (1857) إلى أبي نعيم في «الحلية» والبيهقي في «الشعب» ، وابن صهدي في أماليه، وابن شاهين في «الترغيب» ، وإسناده ضعيف. وانظر:«السلسلة الضعيفة» (671).

ص: 238

رأى جماعة من المتقدمين في منامهم كأنّ ملائكة نزلت إلى بلاد شتّى، فقال بعضهم لبعض: اخسفوا بهذه القرية، فقال بعضهم: كيف نخسف بها وفلان فيها قائم يصلّي؟

ورأى بعض المتقدّمين في منامه من ينشد ويقول:

لولا الّذين لهم ورد يصلّونا

وآخرون لهم سرد يصومونا

لدكدكت أرضكم من تحتكم سحرا

لأنّكم قوم سوء ما تطيعونا

وفي «مسند البزّار» عن أبي هريرة مرفوعا: «مهلا عن الله مهلا، فلولا عباد ركّع، وأطفال رضّع، وبهائم رتّع، لصبّ عليكم العذاب صبّا»

(1)

.

ولبعضهم في هذا المعنى:

لولا عباد للإله ركّع

وصبية من اليتامى رضّع

ومهملات في الفلاة رتّع

صبّ عليكم العذاب الموجع

وقد قيل في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251]: إنه يدخل فيها دفعه عن العصاة بأهل الطّاعة.

وجاء في الآثار: إنّ الله يدفع بالرّجل الصالح عن أهله وولده وذريّته ومن حوله.

وفي بعض الآثار: «يقول الله عز وجل: أحبّ العباد إليّ المتحابّون بجلالي المشّاءون في الأرض بالنّصيحة، المشّاءون على أقدامهم إلى الجمعات»

(2)

.

(1)

أخرجه: أبو يعلى (6402)، (6633)، والبيهقي (3/ 345)، والخطيب (6/ 64)، والطبراني في «الأوسط» (7085)، وإسناده ضعيف. وانظر:«مجمع الزوائد» (227/ 10)، و «الضعيفة» (4362).

(2)

أخرجه: ابن أبي شيبة في «مصنفه» (7/ 73) من حديث يزيد بن ميسرة موقوفا عليه أخذه من بعض الكتب، فهو من الإسرائيليات.

ص: 239

وفي رواية: «المعلّقة قلوبهم بالمساجد، والمستغفرون بالأسحار، فإذا أردت إنزال عذاب بأهل الأرض فنظرت إليهم صرفت العذاب عن الناس»

(1)

. وقال مكحول: ما دام في النّاس خمسة عشر يستغفر كلّ منهم الله كلّ يوم خمسا وعشرين مرّة لم يهلكوا بعذاب عامّة.

الآثار في هذا المعنى كثيرة جدّا.

وقد روي في صيام النبيّ صلى الله عليه وسلم شعبان معنى آخر، وهو أنّه تنسخ فيه الآجال، فروي بإسناد فيه ضعف عن عائشة، قالت:«كان أكثر صيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعبان، فقلت: يا رسول الله، أرى أكثر صيامك في شعبان. قال: إنّ هذا الشهر يكتب فيه لملك الموت من يقبض، فأنا لا أحبّ أن ينسخ اسمي إلاّ وأنا صائم»

(2)

. وقد روي مرسلا، وقيل: إنّه أصحّ.

وفي حديث آخر مرسل: «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتّى إنّ الرّجل لينكح ويولد له ولقد خرج اسمه في الموتى»

(3)

.

وروي في ذلك معنى آخر، وهو أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كلّ شهر ثلاثة أيّام، وربّما أخّر ذلك حتّى يصوم شعبان

(4)

. رواه ابن أبي ليلى، عن أخيه

(1)

أخرجه: عبد الرزاق في «مصنفه» (4740) ومن طريقه البيهقي في «الشعب» (9052) عن معمر عن رجل من قريش مرفوعا به.

وهو كما ترى مرسل، والذي أرسله مبهم. ولعله مأخوذ من الإسرائيليات كسابقه.

(2)

أخرجه: أبو يعلى (4911)، وذكره الهيثمي (3/ 192)، وقال:«في الصحيح طرف منه، رواه أبو يعلى، وفيه مسلم بن خالد الزنجي، وفيه كلام وقد وثق» .

(3)

أخرجه: الطبري في «تفسيره» (25/ 109) وقال الحافظ ابن كثير (7/ 232): «حديث مرسل، ومثله لا يعارض به النصوص» .

(4)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (2098)، ذكره في «المجمع» (3/ 192) وقال:«رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه محمد بن أبي ليلى وفيه كلام».

ص: 240

عيسى، عن أبيهما، عن عائشة. خرّجه الطبرانيّ. ورواه غيره، وزاد «قالت عائشة: فربّما أردت أن أصوم فلم أطق، حتّى إذا صام صمت معه».

وقد يشكل على هذا ما في «صحيح مسلم» عن عائشة، قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيّام من كلّ شهر، لا يبالي من أيّه كان»

(1)

. وفيه أيضا عنها، قالت:«ما علمته - تعني النبيّ صلى الله عليه وسلم صام شهرا كاملا إلاّ رمضان، ولا أفطره كلّه حتّى يصوم منه، حتّى مضى لسبيله»

(2)

.

وقد يجمع بينهما بأنّه قد يكون صومه في بعض الشّهور لا يبلغ ثلاثة أيّام، فيكمل ما فاته من ذلك في شعبان، أو أنّه كان يصوم من كلّ شهر ثلاثة أيّام مع الإثنين والخميس، فيؤخّر الثلاثة خاصّة حتّى يقضيها في شعبان مع صومه الإثنين والخميس.

وبكلّ حال فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم عمله ديمة، وكان إذا فاته شيء من نوافله قضاه، كما كان يقضي ما فاته من سنن الصّلاة وما فاته من قيام الليل بالنّهار. وكان إذا دخل شعبان وعليه بقيّة من صيام تطوّع لم يصمه؛ قضاه في شعبان حتّى يستكمل نوافله بالصّوم قبل دخول رمضان، فكانت عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما عليها من فرض رمضان حينئذ لفطرها فيه بالحيض، وكانت في غيره من الشّهور مشتغلة بالنبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنّ المرأة لا تصوم وبعلها شاهد إلاّ بإذنه.

فمن دخل عليه شعبان وقد بقي عليه من نوافل صيامه في العام شيء استحبّ له قضاؤها فيه حتّى يكمل نوافل صيامه بين الرّمضانين. ومن كان عليه شيء من قضاء رمضان وجب عليه قضاؤه مع القدرة، ولا يجوز له تأخيره إلى

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 166)(1160).

(2)

أخرجه: مسلم (3/ 160)(1156).

ص: 241

ما بعد رمضان آخر لغير ضرورة، فإن فعل ذلك وكان تأخيره لعذر مستمرّ بين الرّمضانين، كان عليه قضاؤه بعد رمضان الثاني، ولا شيء عليه مع القضاء.

وإن كان ذلك لغير عذر؛ فقيل: يقضي ويطعم مع القضاء لكلّ يوم مسكينا، وهو قول مالك والشّافعيّ وأحمد اتباعا لآثار وردت بذلك. وقيل: يقضي ولا إطعام عليه، وهو قول أبي حنيفة. وقيل: يطعم ولا يقضي، وهو ضعيف.

وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر، وهو أنّ صيامه كالتّمرين على صيام رمضان؛ لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقّة وكلفة، بل يكون قد تمرّن على الصّيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصّيام ولذّته، فيدخل في صيام رمضان بقوّة ونشاط.

ولمّا كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصّيام وقراءة القرآن؛ ليحصل التّأهّب لتلقّي رمضان، وترتاض النّفوس بذلك على طاعة الرّحمن. روينا بإسناد ضعيف عن أنس، قال: كان المسلمون إذا دخل شعبان أكبّوا على المصاحف فقرءوها، وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضّعيف والمسكين على صيام رمضان.

وقال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القرّاء. وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القرّاء. وكان عمرو بن قيس الملائيّ إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرّغ لقراءة القرآن. قال الحسن بن سهيل: قال شعبان: يا ربّ، جعلتني بين شهرين عظيمين، فما لي؟ قال: جعلت فيك قراءة القرآن.

يا من فرّط في الأوقات الشريفة وضيّعها وأودعها الأعمال السيئة، وبئس ما استودعها.

مضى رجب وما أحسنت فيه

وهذا شهر شعبان المبارك

ص: 242

فيا من ضيّع الأوقات جهلا

بحرمتها أفق واحذر بوارك

فسوف تفارق اللّذّات قهرا

ويخلي الموت كرها منك دارك

تدارك ما استطعت من الخطايا

بتوبة مخلص واجعل مدارك

على طلب السّلامة من جحيم

فخير ذوي الجرائم من تدارك

***

ص: 243

‌المجلس الثاني في نصف شعبان

خرّج الإمام أحمد وأبو داود والترمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه وابن حبان في «صحيحه» والحاكم من حديث العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى رمضان»

(1)

، وصحّحه الترمذيّ وغيره.

واختلف العلماء في صحة هذا الحديث، ثمّ في العمل به:

فأمّا تصحيحه؛ فصحّحه غير واحد، منهم الترمذيّ وابن حبان والحاكم والطّحاويّ وابن عبد البر، وتكلّم فيه من هو أكبر من هؤلاء وأعلم، وقالوا:

هو حديث منكر؛ منهم عبد الرحمن بن مهدي، والإمام أحمد، وأبو زرعة الرازيّ، والأثرم. وقال الإمام أحمد: لم يرو العلاء حديثا أنكر منه، وردّه بحديث «لا تقدّموا رمضان بصوم يوم أو يومين»

(2)

فإنّ مفهومه جواز التّقدّم بأكثر من يومين. وقال الأثرم: الأحاديث كلها تخالفه؛ يشير إلى أحاديث صيام النبيّ صلى الله عليه وسلم شعبان كلّه ووصله برمضان، ونهيه عن التقدّم على رمضان بيومين، فصار الحديث حينئذ شاذّا مخالفا للأحاديث الصّحيحة.

(1)

أخرجه: أحمد (2/ 442)، وأبو داود (2337)، والترمذي (738)، وابن ماجه (1651)، والبيهقي (4/ 209)، وابن عدي (5/ 501)، وابن حبان (3589)، (3591)، والنسائي في «الكبرى» (2923). وانظر «المحرّر» لابن عبد الهادي (654)، وشرح العمدة لابن تيمية «كتاب الصيام» (2/ 648).

(2)

متفق عليه: البخاري (3/ 35 - 36)(1914)، ومسلم (3/ 125)(1082).

ص: 244

وقال الطّحاويّ: هو منسوخ، وحكى الإجماع على ترك العمل به. وأكثر العلماء على أنّه لا يعمل به، وقد أخذ به آخرون؛ منهم الشافعيّ وأصحابه، ونهوا عن ابتداء التطوّع بالصّيام بعد نصف شعبان لمن ليس له عادة، ووافقهم بعض المتأخرين من أصحابنا.

ثمّ اختلفوا في علّة النّهي:

فمنهم من قال: خشية أن يزاد في شهر رمضان ما ليس منه، وهذا بعيد جدّا فيما بعد النصف، وإنّما يحتمل هذا في التّقدم بيوم أو يومين.

ومنهم من قال: النهي للتّقوّي على صيام رمضان شفقة أن يضعفه ذلك عن صيام رمضان؛ وروي ذلك عن وكيع. ويردّ هذا صيام النبيّ صلى الله عليه وسلم شعبان كلّه أو أكثره ووصله برمضان.

هذا كلّه في الصيام بعد نصف شعبان. فأمّا صيام يوم النّصف منه فغير منهيّ عنه، فإنّه من جملة أيّام البيض الغرّ المندوب إلى صيامها من كلّ شهر.

وقد ورد الأمر بصيامه من شعبان بخصوصه، ففي «سنن ابن ماجه» بإسناد ضعيف عن عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إذا كان ليلة نصف شعبان فقوموا ليلها، وصوموا نهارها، فإنّ الله تعالى ينزل فيها لغروب الشّمس إلى السماء الدّنيا، فيقول: ألا مستغفر فأغفر له، ألا مسترزق فأرزقه، ألا مبتلى فأعافيه، ألا كذا ألا كذا، حتّى يطلع الفجر»

(1)

.

وفي فضل ليلة نصف شعبان أحاديث أخر متعدّدة، وقد اختلف فيها، فضعّفها الأكثرون، وصحّح ابن حبّان بعضها وخرّجه في «صحيحه» .

ومن أمثلها: حديث عائشة، قالت: «فقدت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخرجت فإذا هو

(1)

أخرجه: ابن ماجه (1388)، وهو موضوع، وانظر «السلسلة الضعيفة» (2132).

ص: 245

بالبقيع رافع رأسه إلى السّماء، فقال: أكنت تخافين أن يحيف الله عليك ورسوله؟ فقلت: يا رسول الله، ظننت أنّك أتيت بعض نسائك. فقال:

«إنّ الله تبارك وتعالى ينزل ليلة النّصف من شعبان إلى سماء الدّنيا فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب»

(1)

خرّجه الإمام أحمد والترمذيّ وابن ماجه، وذكر الترمذيّ عن البخاريّ أنّه ضعّفه.

وخرّج ابن ماجه من حديث أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّ الله ليطّلع ليلة النّصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه، إلاّ لمشرك أو مشاحن»

(2)

.

وخرّج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

«إنّ الله ليطّلع إلى خلقه ليلة النّصف من شعبان فيغفر لعباده إلاّ اثنين:

مشاحن، وقاتل نفس»

(3)

.

وخرّجه ابن حبّان في «صحيحه» من حديث معاذ مرفوعا

(4)

.

ويروى من حديث عثمان بن أبي العاص مرفوعا: «إذا كان ليلة النّصف من شعبان نادى مناد: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ فلا يسأل أحد شيئا إلاّ أعطيه، إلاّ زانية بفرجها أو مشركا»

(5)

. وفي الباب أحاديث أخر فيها ضعف.

(1)

أخرجه: أحمد (6/ 238)، والترمذي (739)، وابن ماجه (1389)، وانظر: المشكاة (1299)، و «الصحيحة» (1144)، و «شعب الإيمان» (3/ 379) فقد رجح البيهقي فيه الإرسال.

(2)

أخرجه: ابن ماجه (1390)، وابن أبي عاصم (510). وقد صحّحه الألبانيّ كما في «صحيح السنن» .

(3)

أخرجه: أحمد (2/ 176)، وقال الهيثمي في «المجمع» (8/ 65)«رواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، وهو لين الحديث وبقية رجاله وثقوا» .

(4)

«صحيح ابن حبان» (5665).

(5)

أخرجه: البيهقي في «شعب الإيمان» (3/ 383).

ص: 246

ويروى عن نوف البكالي أنّ عليّا رضي الله عنه خرج ليلة النّصف من شعبان فأكثر الخروج فيها، ينظر إلى السّماء، فقال: إنّ داود عليه السلام خرج ذات ليلة في مثل هذه السّاعة فنظر إلى السّماء، فقال: إنّ هذه السّاعة ما دعا الله أحد إلاّ أجابه، ولا استغفره أحد في هذه الليلة إلاّ غفر له، ما لم يكن عشّارا أو ساحرا أو شاعرا أو كاهنا أو عريفا أو شرطيّا أو جابيا أو صاحب كوبة أو عرطبة.

قال نوف: الكوبة: الطبل، والعرطبة: الطّنبور.

اللهم ربّ داود، اغفر لمن دعاك في هذه الليلة ولمن استغفرك فيها.

وليلة النّصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام - كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم - يعظّمونها ويجتهدون فيها في العبادة، وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، وقد قيل: إنّه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية، فلمّا اشتهر ذلك عنهم في البلدان اختلف النّاس في ذلك؛ فمنهم من قبله منهم ووافقهم على تعظيمها؛ منهم طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم. وأنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز؛ منهم عطاء وابن أبي مليكة، ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة، وهو قول أصحاب مالك وغيرهم، وقالوا: ذلك كلّه بدعة.

‌واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:

أحدهما: أنّه يستحبّ إحياؤها جماعة في المساجد، كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخّرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك، ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامها في المساجد جماعة: ليس ذلك ببدعة، نقله عنه حرب الكرمانيّ في مسائله.

والثاني: أنّه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصّلاة والقصص والدّعاء،

ص: 247

ولا يكره أن يصلي الرجل فيها بخاصة نفسه، وهذا قول الأزواعيّ إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم، وهذا هو الأقرب إن شاء الله تعالى.

وقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنّه كتب إلى عامله بالبصرة: عليك بأربع ليال من السّنة؛ فإنّ الله يفرغ فيهن الرّحمة إفراغا؛ أول ليلة من رجب، وليلة النّصف من شعبان، وليلة الفطر، وليلة الأضحى؛ وفي صحته عنه نظر.

وقال الشافعي: بلغنا أنّ الدّعاء يستجاب في خمس ليال: ليلة الجمعة، والعيدين، وأوّل رجب، ونصف شعبان. قال: وأستحبّ كل ما حكيت في هذه الليالي.

ولا يعرف للإمام أحمد كلام في ليلة نصف شعبان. ويخرّج في استحباب قيامها عنه روايتان، من الروايتين عنه: في قيام ليلة العيد، فإنّه في رواية لم يستحبّ قيامها جماعة؛ لأنّه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. واستحبّها في رواية لفعل عبد الرحمن بن يزيد بن الأسود لذلك، وهو من التابعين. فكذلك قيام ليلة النصف لم يثبت فيها شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه، وثبت فيها عن طائفة من التابعين من أعيان فقهاء أهل الشام.

وروي عن كعب، قال: إنّ الله تعالى يبعث ليلة النصف من شعبان جبريل عليه السلام إلى الجنّة، فيأمرها أن تتزيّن، ويقول: إنّ الله تعالى قد أعتق في ليلتك هذه عدد نجوم السّماء وعدد أيّام الدّنيا ولياليها، وعدد ورق الشّجر، وزنة الجبال، وعدد الرّمال.

وروى سعيد بن منصور، حدثنا أبو معشر، عن أبي حازم ومحمد بن قيس، عن عطاء بن يسار، قال: ما من ليلة بعد ليلة القدر أفضل من ليلة النصف من شعبان، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السّماء الدّنيا فيغفر لعباده كلهم، إلاّ لمشرك أو مشاحن أو قاطع رحم.

ص: 248

فيا من أعتق فيها من النّار، هنيئا لك هذه المنحة الجسيمة، ويا أيّها المردود فيها، جبر الله مصيبتك؛ فإنّها مصيبة عظيمة.

بكيت على نفسي وحقّ أن أبكي

وما أنا من تضييع عمري في شكّ

لئن قلت إني في صنيعي محسن

فإنّي في قولي لذلك ذو إفك

ليالي شعبان وليلة نصفه

بأيّة حال قد تنزّل لي صكّي

وحقّ لعمري أن أديم تضرّعي

لعلّ إله الخلق يسمح بالفكّ

فينبغي للمؤمن أن يتفرّغ في تلك الليلة لذكر الله ودعائه بغفران الذّنوب وستر العيوب وتفريج الكروب، وأن يقدّم على ذلك التّوبة؛ فإنّ الله تعالى يتوب فيها على من يتوب.

فقم ليلة النّصف الشّريف مصلّيا

فأشرف هذا الشّهر ليلة نصفه

فكم من فتى قد بات في النّصف آمنا

(1)

وقد نسخت فيه صحيفة حتفه

فبادر بفعل الخير قبل انقضائه

وحاذر هجوم الموت فيه بصرفه

وصم يومها لله واحسن رجاءه

لتظفر عند الكرب منه بلطفه

ويتعيّن على المسلم أن يجتنب الذنوب التي تمنع من المغفرة وقبول الدعاء في تلك الليلة. وقد روي أنّها: الشرك، وقتل النفس، والزّنا؛ وهذه الثلاثة أعظم الذنوب عند الله، كما في حديث ابن مسعود المتّفق على صحته، «أنّه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ الذّنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّا وهو خلقك. قال: ثم أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قال: ثم أيّ؟ قال: أن تزاني حليلة جارك فأنزل الله تصديق ذلك {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} الآية [الفرقان: 68]»

(2)

.

(1)

في أ: «غافلا آمنا» .

(2)

أخرجه: البخاري (6/ 137 - 138)(4761)، ومسلم (1/ 63 - 64)(86).

ص: 249

ومن الذنوب المانعة من المغفرة أيضا: الشحناء، وهي حقد المسلم على أخيه بغضا له؛ لهوى نفسه، وذلك يمنع أيضا من المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة؛ كما في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:

«تفتح أبواب الجنّة يوم الإثنين والخميس، فيغفر لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئا، إلاّ رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: انظروا هذين حتّى يصطلحا»

(1)

.

وقد فسّر الأوزاعيّ هذه الشّحناء المانعة بالذي في قلبه شحناء لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ريب أنّ هذه الشّحناء أعظم جرما من مشاحنة الأقران بعضهم بعضا. وعن الأوزاعي أنّه قال: المشاحن كلّ صاحب بدعة فارق عليها الأمّة.

وكذا قال ابن ثوبان: المشاحن هو التارك لسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم، الطاعن على أمّته، السّافك دماءهم. وهذه الشّحناء - أعني شحناء البدعة - توجب الطّعن على جماعة المسلمين، واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم، كبدع الخوارج والرّوافض ونحوهم.

فأفضل الأعمال: سلامة الصّدر من أنواع الشّحناء كلّها، وأفضلها السّلامة من شحناء أهل الأهواء والبدع التي تقتضي الطّعن على سلف الأمّة، وبغضهم والحقد عليهم، واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم؛ ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشّحناء لعموم المؤمنين، وإرادة الخير لهم، ونصيحتهم، وأن يحبّ لهم ما يحبّ لنفسه وقد وصف الله تعالى المؤمنين عموما بأنهم يقولون:

{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

وفي «المسند» عن أنس أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ثلاثة أيام: «يطلع عليكم

(1)

أخرجه: مسلم (8/ 11)(2565).

ص: 250

الآن رجل من أهل الجنّة» فيطلع رجل واحد، فاستضافه عبد الله بن عمرو، فنام عنده ثلاثا لينظر عمله، فلم ير له في بيته كبير عمل، فأخبره بالحال، فقال له:

هو ما ترى، إلاّ أني أبيت وليس في قلبي شيء على أحد من المسلمين. فقال عبد الله: بهذا بلغ ما بلغ

(1)

. وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو، قال:

«قيل: يا رسول الله، أيّ الناس أفضل؟ قال: كلّ مخموم القلب، صدوق اللّسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التّقيّ النّقيّ الذي لا إثم فيه، ولا بغي، ولا غلّ، ولا حسد»

(2)

.

قال بعض السّلف: أفضل الأعمال سلامة الصّدور، وسخاوة النّفوس، والنّصيحة للأمّة؛ وبهذه الخصال بلغ من بلغ، لا بكثرة الاجتهاد في الصّوم والصّلاة.

إخواني، اجتنبوا الذّنوب التي تحرم العبد مغفرة مولاه الغفّار في مواسم الرّحمة والتوبة والاستغفار:

أمّا الشّرك: فإنّه {مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النّارُ وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ} [المائدة: 72].

وأما القتل: فلو اجتمع أهل السّماوات وأهل الأرض على قتل رجل مسلم بغير حقّ لأكبّهم الله جميعا في النار.

وأمّا الزّنا: فحذار حذار من التعرّض لسخط الجبّار.

الخلق كلّهم عبيده وإماؤه، والله تعالى يغار، لا أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، فمن أجل ذلك حرّم الفواحش وأمر بغضّ الأبصار.

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 166)، وعبد الرزاق (20559)، والبزار (1981 - كشف)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (6605)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (863)، ورجاله ثقات.

(2)

أخرجه: ابن ماجه (4216)، وصحّحه الألبانيّ في «صحيح السنن» .

ص: 251

وأمّا الشّحناء: فيا من أضمر لأخيه السّوء وقصد له الإضرار {وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ} [إبراهيم: 42]، يكفيك حرمان المغفرة في أوقات مغفرة الأوزار.

خاب عبد بارز المو

لى بأسباب المعاصي

ويحه ممّا جناه

لم يخف يوم القصاص

يوم فيه ترعد الأقدا

م من شيب النّواصي

لي ذنوب في ازدياد

وحياة في انتقاص

فمتى أعمل ما أع

لم لي فيه خلاصي

وقد روي عن عكرمة وغيره من المفسّرين في قوله تعالى: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدّخان: 4]. أنّها ليلة النّصف من شعبان. والجمهور على أنّها ليلة القدر، وهو الصحيح.

وقال عطاء بن يسار: إذا كان ليلة النّصف من شعبان دفع إلى ملك الموت صحيفة، فيقال: اقبض من في هذه الصحيفة، فإنّ العبد ليغرس الغراس، وينكح الأزواج، ويبني البنيان، وإنّ اسمه قد نسخ في الموتى ما ينتظر به ملك الموت إلاّ أن يؤمر به فيقبضه.

يا مغرورا بطول الأمل، يا مسرورا بسوء العمل، كن من الموت على وجل، فما تدري متى يهجم الأجل.

كلّ امرئ مصبّح في أهله

والموت أدنى من شراك نعله

قال بعض السّلف: كم من مستقبل يوما لا يستكمله، ومن مؤمل غدا لا يدركه، إنّكم لو رأيتم الأجل ومسيره لأبغضتم الأمل وغروره.

أؤمّل أن أخلّد والمنايا

تدور عليّ من كلّ النّواحي

ص: 252

وما أدري وإن أمسيت يوما

لعلّي لا أعيش إلى الصّباح

كم ممّن راح في طلب الدنيا أو غدا، أصبح من سكان القبور غدا.

كأنّك بالمضيّ إلى سبيلك

وقد جدّ المجهّز في رحيلك

وجيء بغاسل فاستعجلوه

بقولهم له افرغ من غسيلك

ولم تحمل سوى كفن وقطن

إليهم من كثيرك أو قليلك

وقد مدّ الرّجال إليك نعشا

فأنت عليه ممدود بطولك

وصلّوا ثمّ إنّهم تداعوا

لحملك من بكورك أو أصيلك

فلمّا أسلموك نزلت قبرا

ومن لك بالسّلامة في نزولك

أعانك يوم تدخله رحيم

رءوف بالعباد على دخولك

فسوف تجاور الموتى طويلا

فذرني من قصيرك أو طويلك

أخيّ لقد نصحتك فاستمع لي

وبالله استعنت على قبولك

ألست ترى المنايا كلّ حين

تصيبك في أخيك وفي خليلك

***

ص: 253

‌المجلس الثالث في صيام آخر شعبان

ثبت في «الصحيحين» عن عمران بن حصين: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لرجل:

«هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومين»

(1)

. وفي رواية للبخاري: أظنه يعني رمضان. وفي رواية لمسلم، وعلّقها البخاري:«هل صمت من سرر شعبان شيئا؟» . وفي رواية: «فإذا أفطرت من رمضان فصم يومين مكانه» . وفي رواية: يوما أو يومين، شكّ شعبة. وروي «من سرار هذا الشهر» .

وقد اختلف في تفسير «السّرار» ، والمشهور أنّه آخر الشّهر؛ يقال: سرار الشهر وسراره، بكسر السين وفتحها، ذكره ابن السكيت وغيره. وقيل: إن الفتح أفصح، قاله الفراء. وسمي آخر الشهر سرارا لاستسرار القمر فيه. وممن فسّر السّرار بآخر الشهر أبو عبيد وغيره من الأئمة. وكذلك بوّب عليه البخاريّ صيام آخر الشهر.

وأشكل هذا على كثير من العلماء؛ فإنّ في «الصحيحين» أيضا، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا تقدّموا رمضان بيوم أو يومين، إلاّ من كان يصوم صوما فليصمه»

(2)

.

فقال كثير من العلماء، كأبي عبيد، ومن تابعه، كالخطّابي، وأكثر شرّاح

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 54)(1983)، ومسلم (3/ 168 - 169)(1161).

(2)

تقدم قريبا.

ص: 254

الحديث: إنّ هذا الرجل الذي سأله النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يعلم أنّ له عادة بصيامه، أو كان قد نذره، فلذلك أمره بقضائه.

وقالت طائفة: حديث عمران يدلّ على أنّه يجوز صيام يوم الشكّ وآخر شعبان مطلقا، سواء وافق عادة أو لم يوافق. وإنما ينهى عنه إذا صامه بنيّة الرّمضانية احتياطا، وهذا مذهب مالك، وذكر أنّه القول الذي أدرك عليه أهل العلم، حتى قال محمد بن مسلمة من أصحابه: يكره الأمر بفطره؛ لئلا يعتقد وجوب الفطر قبل الشهر كما وجب بعده. وحكى ابن عبد البر هذا القول عن أكثر علماء الأمصار، وذكر محمد بن ناصر الحافظ أنّ هذا هو مذهب أحمد أيضا، وغلط في نقله هذا عن أحمد.

ولكن يشكل على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقوله:«إلاّ من كان يصوم صوما فليصمه» . وقد ذكر الشافعيّ في كتاب «مختلف الحديث» احتمالا في معنى قوله: «إلا من كان يصوم صوما فليصمه» . وفي رواية: «إلاّ أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم» : أنّ المراد بموافقة العادة صيامه على عادة النّاس في التطوع بالصّيام دون صيامه بنيّة الرّمضانية للاحتياط. وقالت طائفة:

سرّ الشهر: أوله.

وخرّج أبو داود في «باب تقدّم رمضان» من حديث معاوية أنّه قال: إنّي متقدّم الشهر، فمن شاء فليتقدّم، فسئل عن ذلك، فقال: سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «صوموا الشهر وسرّه»

(1)

. ثم حكى أبو داود عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز أنّ سرّ الشهر أوّله. قال أبو داود: وقال بعضهم: سرّه: وسطه.

وفرّق الأزهريّ بين سرار الشهر وسره، فقال: سراره وسرره: آخره، وسرّه: وسطه، وهي أيّام البيض، وسرّ كلّ شيء جوفه.

(1)

أخرجه: أبو داود (2329 - 2331)، وسيأتي له شاهد من حديث عمران، عند مسلم.

ص: 255

وفي رواية لمسلم في حديث عمران بن حصين المذكور «هل صمت من سرّة هذا الشهر»

(1)

، وفسّر ذلك بأيّام البيض.

قلت: لا يصحّ أن يفسّر سرر الشهر وسراره بأوّله؛ لأنّ أوّل الشهر يشتهر فيه الهلال ويرى من أوّل الليل، ولذلك سمّي الشهر شهرا؛ لاشتهاره وظهوره.

فتسمية ليالي الاشتهار ليالي السّرار قلب للّغة والعرف.

وقد أنكر العلماء ما حكاه أبو داود عن الأوزاعي، منهم الخطّابيّ، وروى بإسناده عن الوليد، عن الأوزاعيّ، قال: سرّ الشهر: آخره. وقال الهرويّ:

المعروف أنّ سرّ الشهر آخره. وفسّر الخطّابيّ حديث معاوية: «صوموا الشهر وسرّه» بأنّ المراد بالشهر الهلال، فيكون المعنى: صوموا أوّل الشهر وآخره، فلذلك أمر معاوية بصيام آخر الشهر.

قلت: لمّا روى معاوية: «صوموا الشهر وسرّه» وصام آخر الشهر، علم أنّه فسّر السرّ بالآخر.

والأظهر أنّ المراد بالشهر شهر رمضان كلّه، والمراد بسرّه آخر شعبان، كما في رواية البخاري في حديث عمران «أظنه يعني رمضان» . وأضاف السّرر إلى رمضان، وإن لم يكن منه، كما سمّي رمضان شهر عيد وإن كان العيد ليس منه، لكنّه يعقبه، فدلّ حديث عمران وحديث معاوية على استحباب صيام آخر شعبان. وإنّما أمر بقضائه في أوّل شوّال؛ لأنّ كلاّ من الوقتين صيام يلي شهر رمضان، فهو ملتحق برمضان في الفضل، فمن فاته ما قبله صامه فيما بعده، كما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان، وندب إلى صيام شوال.

وإنما يشكل على هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه في نهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن تقدّم

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 166 - 167)(1161).

ص: 256

رمضان بيوم أو يومين، إلاّ من له عادة أو من كان يصوم صوما. وأكثر العلماء على أنّه نهى عن التقدّم إلاّ لمن كانت له عادة بالتطوّع فيه، وهو ظاهر الحديث. ولم يذكر أكثر العلماء في تفسيره بذلك اختلافا، وهو الذي اختاره الشافعيّ في تفسيره ولم يرجّح ذلك الاحتمال المتقدّم. وعلى هذا فيرجّح حديث أبي هريرة على حديث عمران؛ فإنّ حديث أبي هريرة فيه نهي عامّ للأمّة عموما، فهو تشريع عامّ للأمّة، فيعمل به.

وأمّا حديث عمران فهي قضيّة عين في حقّ رجل معيّن، فيتعيّن حمله على صورة صيام لا ينهى عن التقدّم به جمعا بين الحديثين. وأحسن ما حمل عليه أنّ هذا الرّجل الذي سأله النبيّ صلى الله عليه وسلم كان قد علم منه صلى الله عليه وسلم أنّه كان يصوم شعبان أو أكثره موافقة لصيام النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكان قد أفطر فيه بعضه، فسأله عن صيام آخره، فلمّا أخبره أنّه لم يصم آخره أمره بأن يصوم بدله بعد يوم الفطر؛ لأنّ صيام أوّل شوال كصيام آخر شعبان، وكلاهما حريم لرمضان. وفيه دليل على استحباب قضاء ما فات من التطوّع بالصيام، وأن يكون في أيام مشابهة للأيّام التي فات فيها الصّيام في الفضل، وفيه دليل على أنّه يجوز لمن صام شعبان أو أكثره أن يصله برمضان من غير فصل بينهما.

‌فصيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يصومه بنيّة الرّمضانيّة احتياطا لرمضان، فهذا منهيّ عنه، وقد فعله بعض الصحابة، وكأنّهم لم يبلغهم النهي عنه؛ وفرّق ابن عمر بين يوم الغيم والصّحو في يوم الثلاثين من شعبان، وتبعه الإمام أحمد.

والثاني: أن يصام بنيّة النذر أو قضاء عن رمضان أو عن كفّارة ونحو ذلك، فجوّزه الجمهور. ونهى عنه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بفطر يوم مطلقا، وهم طائفة من السّلف. وحكي كراهته أيضا عن أبي حنيفة والشافعي، وفيه نظر.

ص: 257

والثالث: أن يصام بنيّة التطوّع المطلق، فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بالفطر؛ منهم الحسن، وإن وافق صوما كان يصومه، ورخّص فيه مالك ومن وافقه، وفرّق الشافعيّ والأوزاعيّ وأحمد وغيرهم بين أن يوافق عادة أو لا، وكذلك يفرق بين من تقدّم صيامه بأكثر من يومين ووصله برمضان، فلا يكره أيضا إلاّ عند من كره الابتداء بالتطوّع بالصّيام بعد نصف شعبان؛ فإنّه ينهى عنه إلاّ أن يبتدئ الصيام قبل النصف ثم يصله برمضان.

وفي الجملة فحديث أبي هريرة هو المعمول به في هذا الباب عند كثير من العلماء، وأنّه يكره التقدّم قبل رمضان بالتطوّع بالصيام بيوم أو يومين لمن ليس له به عادة، ولا سبق منه صيام قبل ذلك في شعبان متصلا بآخره.

‌ولكراهة التقدّم ثلاثة معان:

أحدها: أنّه على وجه الاحتياط لرمضان، فينهى عن التقدّم قبله؛ لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس منه، كما نهي عن صيام يوم العيد لهذا المعنى، حذرا مما وقع فيه أهل الكتاب في صيامهم، فزادوا فيه بآرائهم وأهوائهم.

وخرّج الطبرانيّ وغيره عن عائشة رضي الله عنها، قالت: إنّ ناسا كانوا يتقدّمون الشهر فيصومون قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1]. قالت عائشة: إنّما الصوم صوم النّاس، والفطر فطر النّاس.

ومع هذا فكان من السّلف من يتقدّم للاحتياط، والحديث حجّة عليه، ولهذا نهي عن صيام يوم الشكّ. قال عمّار: من صامه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم.

ويوم الشكّ: هو اليوم الذي يشكّ فيه؛ هل هو من رمضان أو غيره؟ فكان من المتقدّمين من يصومه احتياطا، ورخّص فيه بعض الحنفيّة للعلماء في أنفسهم خاصّة دون العامّة؛ لئلا يعتقدوا وجوبه بناء على أصلهم في أنّ صوم

ص: 258

رمضان يجزئ بنيّة الصيام المطلق والنّفل، ويوم الشكّ هو الذي تحدّث برؤيته من لم يقبل قوله.

فأمّا يوم الغيم: فمن العلماء من جعله يوم شكّ ونهى عن صيامه، وهو قول الأكثرين؛ ومنهم من صامه احتياطا، وهو قول ابن عمر، وكان الإمام أحمد يتابعه على ذلك؛ وعنه في صيامه ثلاث روايات مشهورات؛ ثالثها: لا يصام إلاّ مع الإمام وجماعة المسلمين؛ لئلا يقع الافتئات عليهم والانفراد عنهم.

وقال إسحاق: لا يصام يوم الغيم، ولكن يتصبّر

(1)

بالأكل فيه إلى ضحوة النّهار خشية أن يشهد برؤيته بخلاف حال الصّحو؛ فإنّه يأكل فيه من غدوة.

والمعنى الثاني: الفصل بين صيام الفرض والنّفل؛ فإنّ جنس الفصل بين الفرائض والنّوافل مشروع، ولهذا حرم صيام يوم العيد. ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتّى يفصل بينهما بسلام أو كلام، وخصوصا سنّة الفجر قبلها، فإنّه يشرع الفصل بينها وبين الفريضة، ولهذا يشرع صلاتها في البيت والاضطجاع بعدها.

ولمّا رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي وقد أقيمت صلاة الفجر، قال له:«آلصّبح أربعا»

(2)

.

وفي «المسند» أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «افصلوا بينها وبين المكتوبة ولا تجعلوها كصلاة الظهر»

(3)

.

وفي «سنن أبي داود» أنّ رجلا صلى مع النبيّ صلى الله عليه وسلم، فلمّا سلّم قام يشفع،

(1)

في أ، ص:«يتلوّم» .

(2)

أخرجه: البخاري (2/ 169)(663)، ومسلم (2/ 154)(711).

(3)

أخرجه: أحمد (5/ 345).

ص: 259

فوثب إليه عمر فأخذ بمنكبيه، فهزّه، ثم قال: اجلس، فإنّه لم يهلك أهل الكتاب، إلاّ أنّه لم يكن لصلاتهم فصل، فرفع النبيّ صلى الله عليه وسلم بصره، فقال:

«أصاب الله بك يا ابن الخطّاب»

(1)

. ومن علّل بهذا؛ فمنهم من كره وصل صوم شعبان برمضان مطلقا. وروي عن ابن عمر، قال: لو صمت الدّهر لأفطرت الذي بينهما. وروي فيه حديث مرفوع لا يصحّ. والجمهور على جواز صيام ما وافق عادة؛ لأنّ الزّيادة إنّما تخشى إذا لم يعرف سبب الصّيام.

والمعنى الثالث: أنّه أمر بذلك؛ للتقوي على صيام رمضان؛ فإنّ مواصلة الصّيام قد تضعف عن صيام الفرض، فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو يومين كان أقرب إلى التقوّي على صيام رمضان.

وفي هذا التعليل نظر، فإنّه لا يكره التقدّم بأكثر من ذلك، ولا لمن صام الشهر كلّه، وهو أبلغ في معنى الضعف، لكنّ الفطر بنيّة التقوي لصيام رمضان حسن لمن أضعفه مواصلة الصيام، كما كان عبد الله بن عمرو بن العاص يسرد الفطر أحيانا، ثم يسرد الصّوم ليتقوّى بفطره على صومه. ومنه قول بعض الصّحابة: إنّي أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. وفي الحديث المرفوع:

«الطّاعم الشّاكر كالصّائم الصّابر»

(2)

. خرّجه الترمذيّ وغيره.

ولربّما ظنّ بعض الجهّال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل؛ لتأخذ النّفوس حظّها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصّيام، ولهذا يقولون: هي أيّام توديع للأكل، وتسمّى تنحيسا، واشتقاقه من الأيام النّحسات. ومن قال:

هو تنهيس، بالهاء، فهو خطأ منه، ذكره ابن درستويه النّحويّ، وذكر أنّ أصل

(1)

أخرجه: أبو داود (1007)، وانظر «ضعيف المشكاة» (972).

(2)

أخرجه: الترمذي (2486)، وابن ماجه (1764)، (1765)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (655).

ص: 260

ذلك متلقى من النّصارى؛ فإنّهم يفعلونه عند قرب صيامهم، وهذا كلّه خطأ وجهل ممن ظنّه. وربّما لم يقتصر كثير منهم على اغتنام الشهوات المباحة، بل يتعدّى إلى المحرّمات، وهذا هو الخسران المبين. وأنشد بعضهم:

إذا العشرون من شعبان ولّت

فواصل شرب ليلك بالنّهار

ولا تشرب بأقداح صغار

فإنّ الوقت ضاق عن الصّغار

وقال آخر:

جاء شعبان منذرا بالصّيام

فاسقياني راحا بماء الغمام

ومن كانت هذه حاله فالبهائم أعقل منه، وله نصيب من قوله تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها} الآية [الأعراف:

179]. وربما تكرّه كثير منهم بصيام رمضان، حتّى إنّ بعض السّفهاء من الشّعراء كان يسبّه، وكان للرشيد ابن سفيه، فقال مرّة.

دعاني شهر الصّوم لا كان من شهر

ولا صمت شهرا بعده آخر الدّهر

فلو كان يعديني الأنام

(1)

بقدرة

على الشّهر لاستعديت جهدي على الشّهر

فأخذه داء الصّرع، فكان يصرع في كلّ يوم مرّات متعددة، ومات قبل أن يدركه رمضان آخر.

وهؤلاء السّفهاء يستثقلون رمضان؛ لاستثقالهم العبادات فيه؛ من الصّلاة والصّيام، فكثير من هؤلاء الجهّال لا يصلّي إلا في رمضان إذا صام، وكثير منهم لا يجتنب كبائر الذنوب إلا في رمضان؛ فيطول عليه، ويشقّ على نفسه مفارقتها لمألوفها، فهو يعدّ الأيّام والليالي؛ ليعود إلى المعصية؛ وهؤلاء

(1)

في ص: «للأيام» .

ص: 261

مصرّون على ما فعلوا وهم يعلمون، فهم هلكى؛ ومنهم من لا يصبر عن المعاصي، فهو يواقعها في رمضان.

وحكاية محمد بن هارون البلخي مشهورة قد رويت من وجوه، وهو أنّه كان مصرّا على شرب الخمر، فجاء في آخر يوم من شعبان وهو سكران، فعاتبته أمّه وهي تسجر تنّورا، فحملها فألقاها في التنّور فاحترقت، وكان بعد ذلك قد تاب وتعبّد، فرئي له في النّوم أنّ الله قد غفر للحاجّ كلّهم سواه.

فمن أراد الله به خيرا حبّب إليه الإيمان وزيّنه في قلبه، وكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، فصار من الراشدين. ومن أراد به شرّا خلّى بينه وبين نفسه، فأتبعه الشيطان، فحبّب إليه الكفر والفسوق والعصيان، فكان من الغاوين.

الحذر الحذر من المعاصي، فكم سلبت من نعم، وكم جلبت من نقم، وكم خرّبت من ديار، وكم أخلت ديارا من أهلها، فما بقي منهم ديّار، كم أخذت من العصاة بالثار، كم محت لهم من آثار.

يا صاحب الذّنب لا تأمن عواقبه

عواقب الذّنب تخشى وهي تنتظر

فكلّ نفس ستجزى بالّذي كسبت

وليس للخلق من ديّانهم وزر

أين حال هؤلاء الحمقى من قوم كان دهرهم كله رمضان، ليلهم قيام ونهارهم صيام.

باع قوم من السّلف جارية، فلمّا قرب شهر رمضان رأتهم يتأهّبون له ويستعدّون بالأطمعة وغيرها، فسألتهم فقالوا: نتهيّأ لصيام رمضان، فقالت: وأنتم لا تصومون إلاّ رمضان؟ لقد كنت عند قوم كلّ زمانهم رمضان، ردّوني عليهم.

وباع الحسن بن صالح جارية له، فلمّا انتصف الليل قامت فنادتهم: يا أهل الدار، الصّلاة الصّلاة، قالوا: طلع الفجر؟ قالت: وأنتم لا تصلّون إلاّ

ص: 262

المكتوبة؟ ثم جاءت إلى الحسن، فقالت: بعتني على قوم سوء لا يصلّون إلا الفرائض، ردّني ردّني.

قال بعض السّلف: صم الدّنيا واجعل فطرك الموت. الدّنيا كلّها شهر صيام المتقين، يصومون فيه عن الشّهوات المحرّمات، فإذا جاءهم الموت فقد انقضى شهر صيامهم، واستهلّوا عيد فطرهم.

وقد صمت عن لذّات دهري كلّها

ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها بعد مماته، ومن تعجّل ما حرّم عليه قبل وفاته عوقب بحرمانه في الآخرة وفواته، وشاهد ذلك قوله تعالى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها} الآية [الأحقاف: 20]. وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم:

«من شرب الخمر في الدّنيا لم يشربها في الآخرة»

(1)

، و «من لبس الحرير في الدّنيا لم يلبسه في الآخرة»

(2)

.

أنت في دار شتات

فتأهّب لشتاتك

واجعل الدّنيا كيوم

صمته عن شهواتك

وليكن فطرك عن

د الله في يوم وفاتك

في حديث مرفوع خرّجه ابن أبي الدنيا: «لو يعلم العباد ما في رمضان لتمنّت أمّتي أن يكون رمضان السّنة كلّها»

(3)

.

(1)

أخرجه: البخاري (7/ 135)(5575)، ومسلم (6/ 100)(2003).

(2)

أخرجه: البخاري (194، 7/ 193)(5832)، ومسلم (6/ 142 - 143)(2073).

(3)

أخرجه: أبو يعلى (5273)، وابن خزيمة (1886)، والبيهقي في «الشعب» (3/ 313)، وقال في «المجمع» (3/ 141):«رواه أبو يعلى، وفيه جرير بن أيوب، وهو ضعيف» وقال ابن خزيمة: «إن صحّ الخبر، فإن في القلب من جرير بن أيوب البجلي» .

ص: 263

وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يبشّر أصحابه بقدوم رمضان، كما خرّجه الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يبشّر أصحابه، يقول:«قد جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم»

(1)

. قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في تهنئة النّاس بعضهم بعضا بشهر رمضان.

كيف لا يبشّر المؤمن بفتح أبواب الجنان، كيف لا يبشّر المذنب بغلق أبواب النيران، كيف لا يبشّر العاقل بوقت يغلّ فيه الشيطان، من أين يشبه هذا الزمان زمان؟. وفي حديث آخر:«أتاكم رمضان سيد الشّهور، فمرحبا به وأهلا» .

جاء شهر الصّيام بالبركات

فأكرم به من زائر هو آت

وروي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل شهر رجب يقول:«اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلّغنا رمضان»

(2)

. خرّجه الطبراني وغيره من حديث أنس.

وقال معلّى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلّغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبّل منهم. وقال يحيى بن أبي كثير: كان من دعائهم:

اللهم سلّمني إلى رمضان، وسلّم لي رمضان، وتسلّمه منّي متقبّلا.

(1)

أخرجه: أحمد (425، 385، 2/ 230)، والنسائي (4/ 129)، عبد الرزاق (8383)، وابن عبد البر في «التمهيد» (16/ 154).

(2)

أخرجه: أحمد (1/ 259)، والبزار (616 - كشف)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (659)، والطبراني في «المعجم الأوسط» (4/ 189)(3939)، والبيهقي في «الشعب» (3815)، وأبو نعيم (6/ 296)، وفي إسناده زائدة بن أبي الرقاد، وهو منكر الحديث.

ص: 264

بلوغ شهر رمضان وصيامه نعمة عظيمة على من أقدره الله عليه، ويدلّ عليه حديث الثلاثة الذين استشهد اثنان منهم، ثم مات الثالث على فراشه بعدهما، فرئي في المنام سابقا لهما، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«أليس صلّى بعدهما كذا وكذا صلاة، وأدرك رمضان فصامه، فو الذي نفسي بيده، إنّ بينهما لأبعد ممّا بين السّماء والأرض»

(1)

. خرّجه الإمام أحمد وغيره.

من رحم في رمضان فهو المرحوم، ومن حرم خيره فهو المحروم، ومن لم يتزوّد فيه لمعاده فهو ملوم.

أتى رمضان مزرعة العباد

لتطهير القلوب من الفساد

فأدّ حقوقه قولا وفعلا

وزادك فاتّخذه للمعاد

فمن زرع الحبوب وما سقاها

تأوّه نادما يوم الحصاد

يا من طالت غيبته عنّا، قد قربت أيّام المصالحة. يا من دامت خسارته قد أقبلت أيّام التّجارة الرّابحة. من لم يربح في هذا الشّهر ففي أيّ وقت يربح؟! من لم يقرب فيه من مولاه فهو على بعده لا يبرح.

أناس أعرضوا عنّا

بلا جرم ولا معنى

أساءوا ظنّهم فينا

فهلاّ أحسنوا الظّنّا

فإن عادوا لنا عدنا

وإن خانوا فما خنّا

فإن كانوا قد استغنوا

فإنّا عنهم أغنا

كم ينادى: حيّ على الفلاح وأنت خاسر؟! كم تدعى إلى الصّلاح وأنت على الفساد مثابر؟!

(1)

أخرجه: أحمد (1/ 162)، (2/ 333)، وابن ماجه (3925)، والبيهقي (3/ 371). وقال ابن معين:«هذا حديث مرسل» ، وراجع:«مسند الشاشي» (27).

ص: 265

إذا رمضان أتى مقبلا

فأقبل فبالخير يستقبل

لعلّك تخطئه قابلا

وتأتي بعذر فلا يقبل

كم ممّن أمّل أن يصوم هذا الشهر فخانه أمله، فصار قبله إلى ظلمة القبر.

كم من مستقبل يوما لا يستكمله، ومؤمّل غدا لا يدركه. إنّكم لو أبصرتم الأجل ومسيره، لأبغضتم الأمل وغروره.

خطب عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها، فقال فيها: إنّكم لم تخلقوا عبثا، ولن تتركوا سدى، وإنّ لكم معادا ينزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كلّ شيء، وحرم جنّة عرضها السّماوات والأرض.

ألا ترون أنّكم في أسلاب الهالكين، وسيرثها بعدكم الباقون؟ كذلك حتّى تردّ إلى خير الوارثين. وفي كلّ يوم تشيّعون غاديا ورائحا إلى الله قد قضى نحبه، وانقضى أجله، فتودّعونه وتدعونه في صدع من الأرض غير موسّد ولا ممهّد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التّراب، وواجه الحساب، غنيّا عمّا خلّف، فقيرا إلى ما أسلف؛ فاتّقوا الله عباد الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقيته، وإنّي لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد من الذّنوب أكثر ممّا أعلم عندي، ولكني أستغفر الله وأتوب إليه. ثمّ رفع طرف ردائه وبكى حتّى شهق، ثمّ نزل فما عاد إلى المنبر بعدها حتّى مات رحمه الله.

يا ذا الذي ما كفاه الذّنب في رجب

حتّى عصى ربّه في شهر شعبان

لقد أظلّك شهر الصّوم بعدهما

فلا تصيّره أيضا شهر عصيان

واتل القران وسبّح فيه مجتهدا

فإنّه شهر تسبيح وقرآن

واحمل على جسد ترجو النّجاة له

فسوف تضرم أجساد بنيران

ص: 266

كم كنت تعرف ممّن صام في سلف

من بين أهل وجيران وإخوان

أفناهم الموت واستبقاك بعدهم

حيّا فما أقرب القاصي من الدّاني

ومعجب بثياب العيد يقطعها

فأصبحت في غد أثواب أكفان

حتّى متى يعمر الإنسان مسكنه

مصير مسكنه قبر لإنسان

***

ص: 267

‌وظائف شهر رمضان المعظم

وفيه مجالس:

‌المجلس الأول في فضل الصيام

ثبت في «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «كلّ عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل:

إلاّ الصّيام فإنّه لي وأنا أجزي به، إنّه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي.

للصّائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربّه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»

(1)

. وفي رواية: «كلّ عمل ابن آدم له إلاّ الصّيام فإنّه لي» . وفي رواية للبخاري: «لكلّ عمل كفّارة، والصّوم لي وأنا أجزي به» . وخرّجه الإمام أحمد من هذا الوجه، ولفظه:«كلّ عمل ابن آدم كفارة إلاّ الصّوم، والصّوم لي، وأنا أجزي به»

(2)

.

فعلى الرواية الأولى: يكون استثناء الصوم من الأعمال المضاعفة، فتكون الأعمال كلّها تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلاّ الصيام فإنّه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله أضعافا كثيرة بغير حصر عدد؛ فإنّ الصيام من الصّبر، وقد قال الله تعالى:{إِنَّما يُوَفَّى الصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} [الزّمر: 10].

(1)

أخرجه: البخاري (1904)(5927)(34، 3/ 31)، ومسلم (3/ 157 - 158)(1151)، والترمذي (764)، والنسائي (2215)، وابن ماجه (1638).

(2)

أخرجه: أحمد (273، 2/ 257).

ص: 268

ولهذا ورد عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه سمّى شهر رمضان شهر الصّبر

(1)

. وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم، قال:«الصّوم نصف الصّبر»

(2)

. خرّجه الترمذيّ.

والصّبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن محارم الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة. وتجتمع الثلاثة كلّها في الصوم؛ فإنّ فيه صبرا على طاعة الله، وصبرا عمّا حرّم الله على الصّائم من الشّهوات، وصبرا على ما يحصل للصّائم فيه من ألم الجوع والعطش، وضعف النفس والبدن.

وهذا الألم الناشئ من أعمال الطّاعات يثاب عليه صاحبه، كما قال تعالى في المجاهدين:{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [التّوبة: 120].

وفي حديث سلمان المرفوع الذي أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه» في فضل شهر رمضان «وهو شهر الصّبر، والصّبر ثوابه الجنّة»

(3)

. وفي الطبراني عن ابن عمر مرفوعا: «الصّيام لله لا يعلم ثواب عمله إلاّ الله عز وجل»

(4)

.

وروي مرسلا وهو أصحّ.

واعلم أنّ مضاعفة الأجر للأعمال تكون بأسباب:

منها: شرف المكان المعمول فيه ذلك العمل، كالحرم. ولذلك تضاعف الصّلاة في مسجدي مكّة والمدينة. كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عن

(1)

أخرجه: أبو داود (2428)، وابن ماجه (1741).

(2)

أخرجه: الترمذي (3519)، وفي إسناده مجهول.

وانظر: «ضعيف المشكاة» (296)، و «ضعيف الجامع الصغير» (2509).

(3)

أخرجه: ابن خزيمة (1887)، وإسناده ضعيف.

(4)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (865).

ص: 269

النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام»

(1)

. وفي رواية: «فإنه أفضل» . وكذلك روي أنّ الصّيام يضاعف بالحرم. وفي «سنن ابن ماجه» بإسناد ضعيف، عن ابن عباس مرفوعا:«من أدرك رمضان بمكّة فصامه وقام منه ما تيسّر كتب الله له مائة ألف شهر رمضان فيما سواه»

(2)

، وذكر له ثوابا كثيرا.

ومنها: شرف الزمان، كشهر رمضان وعشر ذي الحجة. وفي حديث سلمان المرفوع الذي أشرنا إليه في فضل شهر رمضان «من تطوّع فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدّى فريضة فيما سواه، ومن أدّى فيه فريضة كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه»

(3)

. وفي الترمذي عن أنس: «سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ الصّدقة أفضل؟ قال: صدقة في رمضان»

(4)

. وفي «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «عمرة في رمضان تعدل حجّة» أو قال: «حجّة معي»

(5)

. وورد في حديث آخر: «إنّ عمل الصّائم مضاعف» .

وذكر أبو بكر بن أبي مريم عن أشياخه أنّهم كانوا يقولون: إذا حضر شهر رمضان فانبسطوا فيه بالنّفقة؛ فإنّ النّفقة فيه مضاعفة كالنّفقة في سبيل الله، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة في غيره. وقال النّخعيّ: صوم يوم من رمضان أفضل من ألف يوم، وتسبيحة فيه أفضل من ألف تسبيحة، وركعة فيه أفضل من ألف ركعة.

(1)

أخرجه: البخاري (2/ 76)(1190)، ومسلم (4/ 124)(1394).

(2)

أخرجه: ابن ماجه (3117)، وهو حديث ضعيف وانظر «السلسلة الضعيفة» (237).

(3)

أخرجه: ابن خزيمة وقد تقدم قريبا.

(4)

أخرجه: الترمذي (663)، وهو ضعيف. وانظر:«الإرواء» (889).

(5)

أخرجه: البخاري (3/ 24)(1782)(1863)، ومسلم (4/ 61)(1256).

ص: 270

فلمّا كان الصّيام في نفسه مضاعفا أجره بالنسبة إلى سائر الأعمال، كان صيام شهر رمضان مضاعفا على سائر الصّيام؛ لشرف زمانه، وكونه هو الصّوم الذي فرضه الله على عباده، وجعل صيامه أحد أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها.

وقد يضاعف الثّواب بأسباب أخر؛ منها: شرف العامل عند الله وقربه منه، وكثرة تقواه، كما ضوعف أجر هذه الأمّة على أجور من قبلهم من الأمم، وأعطوا كفلين من الأجر.

وأمّا على الرواية الثانية: فاستثناء الصّيام من بين الأعمال يرجع إلى أنّ سائر الأعمال للعباد، والصّيام اختصّه الله تعالى لنفسه من بين أعمال عباده، وأضافه إليه، وسيأتي ذكر توجيه هذا الاختصاص إن شاء الله تعالى.

وأمّا على الرواية الثالثة: فالاستثناء يعود إلى التكفير بالأعمال، ومن أحسن ما قيل في معنى ذلك: ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله، قال: هذا من أجود الأحاديث وأحكمها، إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عبده، ويردّ

(1)

ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلاّ الصّوم، فيتحمّل الله عز وجل ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصّوم الجنّة. خرّجه البيهقيّ في «شعب الإيمان» وغيره.

وعلى هذا فيكون المعنى أن الصيام لله عز وجل، فلا سبيل لأحد إلى أخذ أجره من الصّيام، بل أجره مدّخر لصاحبه عند الله عز وجل، وحينئذ فقد يقال: إنّ سائر الأعمال قد يكفّر بها ذنوب صاحبها فلا يبقى لها أجر، فإنّه روي أنّه يوازن يوم القيامة بين الحسنات والسيئات، ويقصّ بعضها من بعض، فإن

(1)

في ص، أ:«يؤدي» .

ص: 271

بقي من الحسنات حسنة دخل بها صاحبها الجنّة. قاله سعيد بن جبير وغيره.

وفيه حديث مرفوع خرّجه الحاكم من حديث ابن عباس مرفوعا

(1)

، فيحتمل أن يقال في الصوم: إنّه لا يسقط ثوابه بمقاصّة ولا غيرها، بل يوفّر أجره لصاحبه حتّى يدخل الجنّة، فيوفّى أجره فيها.

وأمّا قوله: «فإنّه لي» ، فإنّ الله خصّ الصيام بإضافته إلى نفسه دون [غيره من]

(2)

سائر الأعمال، وقد كثر القول في معنى ذلك من الفقهاء والصّوفية وغيرهم، وذكروا فيه وجوها كثيرة. ومن أحسن ما ذكر فيه وجهان:

أحدهما: أنّ الصّيام هو مجرّد ترك حظوظ النّفس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عز وجل، ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصّيام؛ لأنّ الإحرام إنّما يترك فيه الجماع ودواعيه من الطّيب دون سائر الشّهوات؛ من الأكل والشرب، وكذلك الاعتكاف مع أنّه تابع للصّيام.

وأمّا الصّلاة فإنّه وإن ترك المصلّي فيها جميع الشهوات إلاّ أنّ مدّتها لا تطول، فلا يجد المصلّي فقد الطّعام والشّراب في صلاته، بل قد نهي أن يصلّي ونفسه تتوق إلى طعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكن نفسه، ولهذا أمر بتقديم العشاء على الصّلاة.

وذهبت طائفة من العلماء إلى إباحة شرب الماء في صلاة التطوّع، وكان ابن الزبير يفعله في صلاته، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهذا بخلاف الصّيام؛ فإنّه يستوعب النّهار كلّه، فيجد الصّائم فقد هذه الشهوات، وتتوق نفسه إليها، خصوصا في نهار الصيف؛ لشدّة حرّه وطوله، ولهذا روي أنّ من خصال الإيمان الصّوم في الصّيف.

(1)

«المستدرك» (4/ 252).

(2)

زيادة من «ص» .

ص: 272

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم رمضان في السّفر في شدّة الحرّ دون أصحابه، كما قال أبو الدّرداء:«كنّا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في رمضان في سفر وأحدنا يضع يده على رأسه من شدّة الحرّ، وما فينا صائم إلاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة»

(1)

. وفي «الموطإ» أنّه صلى الله عليه وسلم كان بالعرج يصبّ الماء على رأسه وهو صائم من العطش، أو الحرّ

(2)

.

فإذا اشتدّ توقان النّفس إلى ما تشتهيه مع قدرتها عليه، ثم تركته لله عز وجل في موضع لا يطّلع عليه إلاّ الله، كان ذلك دليلا على صحّة الإيمان؛ فإنّ الصّائم يعلم أن له ربّا يطّلع عليه في خلوته، وقد حرّم عليه أن يتناول شهواته المجبول على الميل إليها في الخلوة، فأطاع ربّه، وامتثل أمره، واجتنب نهيه خوفا من عقابه، ورغبة في ثوابه، فشكر الله له ذلك، واختصّ لنفسه عمله هذا من بين سائر أعماله؛ ولهذا قال بعد ذلك: إنّه إنّما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي. قال بعض السّلف: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غيب لم يره.

لمّا علم المؤمن الصّائم أنّ رضا مولاه في ترك شهواته، قدّم رضا مولاه على هواه؛ فصارت لذّته في ترك شهوته لله؛ لإيمانه باطلاع الله. وثوابه وعقابه أعظم من لذّته في تناولها في الخلوة؛ إيثارا لرضا ربّه على هوى نفسه، بل المؤمن يكره ذلك في خلوته أشدّ من كراهته لألم الضّرب.

ولهذا كثير من المؤمنين لو ضرب على أن يفطر في شهر رمضان لغير عذر لم يفعل؛ لعلمه كراهة الله لفطره في هذا الشهر، وهذا من علامات الإيمان أن يكره المؤمن ما يلائمه من شهواته إذا علم أنّ الله يكرهه، فتصير لذّته فيما

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 43 - 44)(1945)، ومسلم (3/ 145)(1122).

(2)

أخرجه: مالك في «الموطإ» (ص 197).

ص: 273

يرضي مولاه وإن كان مخالفا لهواه، ويكون ألمه فيما يكرهه مولاه، وإن كان موافقا لهواه.

وإذا كان هذا فيما حرّم لعارض الصّوم من الطّعام والشراب ومباشرة النساء، فينبغي أن يتأكّد ذلك فيما حرّم على الإطلاق، كالزّنا، وشرب الخمر، وأخذ الأموال أو الأعراض بغير حقّ، وسفك الدّماء المحرّمة؛ فإنّ هذا يسخط الله على كلّ حال وفي كلّ زمان ومكان، فإذا كمل إيمان المؤمن كره ذلك كلّه أعظم من كراهته للقتل والضّرب.

ولهذا جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم من علامات وجود حلاوة الإيمان: أن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله، كما يكره أن يلقى في النّار. وقال يوسف عليه السلام:

{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33].

سئل ذو النون: متى أحبّ ربّي؟ قال: إذا كان ما يكرهه أمرّ عندك من الصّبر. وقال غيره: ليس من أعلام المحبّة أن تحبّ ما يكرهه حبيبك.

وكثير من النّاس يمشي على العوائد دون ما يوجبه الإيمان ويقتضيه، فلهذا كثير منهم لو ضرب ما أفطر في رمضان لغير عذر. ومن جهّالهم من لا يفطر لعذر ولو تضرّر بالصّوم، مع أنّ الله يحبّ منه أن يقبل رخصته، جريا على العادة، وقد اعتاد مع ذلك ما حرّم الله من الزّنا وشرب الخمر وأخذ الأموال والأعراض أو الدّماء بغير حقّ، فهذا يجري على عوائده في ذلك كلّه لا على مقتضى الإيمان، ومن عمل بمقتضى الإيمان صارت لذّته في مصابرة نفسه عمّا تميل نفسه إليه إذا كان فيه سخط الله، وربّما يرتقي إلى أن يكره جميع ما يكرهه الله منه، وينفر منه وإن كان ملائما للنفوس، كما قيل:

إن كان رضاكم في سهري

فسلام الله على وسني

ص: 274

وقال آخر:

فما لجرح إذا أرضاكم ألم

(1)

وقال آخر:

عذابه فيك

(2)

عذب

وبعده فيك قرب

وأنت عندي كروحي

بل أنت منها أحبّ

حسبي من الحبّ أنّي

لما تحبّ أحبّ

الوجه الثاني: أنّ الصّيام سرّ بين العبد وربّه لا يطّلع عليه غيره؛ لأنّه مركّب من نيّة باطنة لا يطّلع عليها إلاّ الله، وترك لتناول الشهوات التي يستخفى بتناولها في العادة، ولذلك قيل: لا تكتبه الحفظة. وقيل: إنّه ليس فيه رياء، كذا قاله الإمام أحمد وغيره؛ وفيه حديث مرفوع مرسل. وهذا الوجه اختيار أبي عبيد وغيره. وقد يرجع إلى الأول؛ فإنّ من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله عز وجل حيث لا يطّلع عليه غير من أمره ونهاه، دلّ على صحّة إيمانه. والله تعالى يحبّ من عباده أن يعاملوه سرّا بينهم وبينه، وأهل محبّته يحبّون أن يعاملوه سرّا بينهم وبينه، بحيث لا يطّلع على معاملتهم إيّاه سواه، حتّى كان بعضهم يودّ لو تمكّن من عبادة لا تشعر بها الملائكة الحفظة، وقال بعضهم - لمّا اطّلع على بعض سرائره -: إنّما كانت تطيب الحياة لمّا كانت المعاملة بيني وبينه سرّا، ثم دعا لنفسه بالموت فمات.

(1)

هذا عجز بيت للمتنبي، وتمامه:

إن كان سرّكم ما قال حاسدنا

فما لجرح إذا أرضاكم ألم

ووقع في «ب» زيادة، وهي:

وما لنعيم إذا أسخطكم إرب

ولعلها من زيادات النساخ. والله أعلم.

(2)

في ب: «منك» .

ص: 275

المحبّون يغارون من اطلاع الأغيار على الأسرار التي بينهم وبين من يحبّهم ويحبّونه.

نسيم صبا نجد متى جئت حاملا

تحيتهم فاطو الحديث عن الرّكب

ولا تذع السّرّ المصون فإنّني

أغار على ذكر الأحبّة من صحبي

وقوله: «ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي» فيه إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه، وأنّ الصائم تقرّب

(1)

إلى الله بترك ما تشتهيه نفسه من الطعام والشراب والنّكاح، وهذه أعظم شهوات النفس.

وفي التقرّب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد:

منها: كسر النفس؛ فإنّ الشّبع والرّيّ ومباشرة النّساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة.

ومنها: تخلّي القلب للفكر والذّكر؛ فإنّ تناول هذه الشهوات قد تقسّي القلب وتعميه، وتحول بين العبد وبين الذّكر والفكر، وتستدعي الغفلة. وخلوّ الباطن

(2)

من الطعام والشراب ينوّر القلب، ويوجب رقّته، ويزيل قسوته، ويخليه للذكر والفكر.

ومنها: أنّ الغنيّ يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيرا من الفقراء من فضول الطّعام والشراب والنّكاح؛ فإنّه بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص وحصول المشقّة له بذلك، يتذكر به من منع من ذلك على الإطلاق، فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته بما يمكن من ذلك.

ومنها: أنّ الصّيام يضيّق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم؛

(1)

في ب: «وأن الصيام يقرب» .

(2)

في ب: «البطن» .

ص: 276

فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم، فتسكن بالصّيام وساوس الشّيطان، وتنكسر سورة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبيّ صلى الله عليه وسلم الصّوم وجاء

(1)

؛ لقطعه عن شهوة النّكاح.

واعلم؛ أنّه لا يتمّ التقرّب إلى الله عز وجل بترك هذه الشهوات المباحة في غير حالة الصّيام إلا بعد التقرّب إليه بترك ما حرّم الله في كلّ حال؛ من الكذب والظلم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ولهذا قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«من لم يدع قول الزّور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»

(2)

. خرّجه البخاريّ. وفي حديث آخر: «ليس الصّيام من الطّعام والشراب، إنّما الصّيام من اللغو والرّفث» . قال الحافظ أبو موسى المدينيّ:

هو على شرط مسلم.

قال بعض السّلف: أهون الصّيام ترك الشراب والطعام. وقال جابر: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء.

إذا لم يكن في السّمع منّي تصاون

وفي بصري غضّ وفي منطقي صمت

فحظّي إذا من صومي الجوع والظّما

فإنّ قلت إنّي صمت يومي فما صمت

وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ربّ صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش، وربّ قائم حظّه من قيامه السّهر»

(3)

. وسرّ هذا أنّ التقرّب إلى الله عز وجل بترك

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 34)(1905)، ومسلم (4/ 128)(1400).

(2)

أخرجه: البخاري (3/ 33)(1903).

(3)

أخرجه: أحمد (2/ 373)، وابن ماجه (1690)، وأبو يعلى (6551)، وابن خزيمة (1997)، والحاكم (1/ 431).

وصححه الألباني في «تخريج المشكاة» (2014)، و «تخريج الترغيب» (98، 2/ 97).

ص: 277

المباحات لا يكمل إلاّ بعد التقرّب إليه بترك المحرّمات، فمن ارتكب المحرّمات ثم تقرّب بترك المباحات، كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرّب بالنوافل، وإن كان صومه مجزئا عند الجمهور بحيث لا يؤمر بإعادته؛ لأنّ العمل إنّما يبطل بارتكاب ما نهي عنه فيه لخصوصه، دون ارتكاب ما نهي عنه لغير معنى يختصّ به. هذا هو أصل جمهور العلماء.

وفي «مسند الإمام أحمد» : أنّ امرأتين صامتا في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكادتا أن تموتا من العطش، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض، ثم ذكرتا له فدعاهما فأمرهما أن يتقيئا، فقاءتا ملء قدح قيحا ودما وصديدا ولحما عبيطا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

«إنّ هاتين صامتا عمّا أحلّ الله لهما، وأفطرتا على ما حرّم الله عليهما؛ جلست إحداهما إلى الأخرى، فجعلتا يأكلان لحوم النّاس»

(1)

.

ولهذا المعنى - والله أعلم - ورد في القرآن بعد ذكر تحريم الطعام والشّراب على الصّائم بالنّهار ذكر تحريم أكل أموال الناس بالباطل؛ فإنّ تحريم هذا عام في كلّ زمان ومكان، بخلاف الطعام والشراب، فكان إشارة إلى أنّ من امتثل أمر الله في اجتناب الطعام والشراب في نهار صومه، فليمتثل أمره في اجتناب أكل الأموال بالباطل؛ فإنّه محرّم بكلّ حال لا يباح في وقت من الأوقات.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «وللصّائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربّه» :

أمّا فرحة الصّائم عند فطره؛ فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح، فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر، فرحت بإباحة ما منعت منه، خصوصا عند اشتداد الحاجة

(1)

أخرجه: أحمد (5/ 431)، وأبو يعلى (1576)، والبيهقي في «الدلائل» (6/ 186)، وقال في «مجمع الزوائد» (3/ 171):«رواه أحمد، وأبو يعلى، وفيه رجل لم يسم» .

ص: 278

إليه؛ فإنّ النفوس تفرح بذلك طبعا، فإن كان ذلك محبوبا لله كان محبوبا شرعا. والصّائم عند فطره كذلك، فكما أنّ الله تعالى حرّم على الصّائم في نهار الصّيام تناول هذه الشهوات، فقد أذن له فيها في ليل الصّيام، بل أحبّ منه المبادرة إلى تناولها في أوّل الليل وآخره، فأحبّ عباده إليه أعجلهم فطرا، والله وملائكته يصلّون على المتسحّرين.

فالصّائم ترك شهواته لله بالنّهار تقرّبا إليه وطاعة له؛ وبادر إليها في اللّيل تقرّبا إلى الله وطاعة له، فما تركها إلاّ بأمر ربّه، ولا عاد إليها إلاّ بأمر ربّه؛ فهو مطيع له في الحالين. ولهذا نهي عن الوصال في الصّيام، فإذا بادر الصّائم إلى الفطر تقرّبا إلى مولاه، وأكل وشرب وحمد الله؛ فإنّه يرجى له المغفرة أو بلوغ الرّضوان بذلك. وفي الحديث:«إنّ الله ليرضى عن عبده أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشّربة فيحمده عليها»

(1)

.

وربّما استجيب دعاؤه عند ذلك، كما في الحديث المرفوع الذي خرّجه ابن ماجه:«إنّ للصّائم عند فطره دعوة ما تردّ»

(2)

.

وإن نوى بأكله وشربه تقوية بدنه على القيام والصّيام، كان مثابا على ذلك.

كما أنه إذا نوى بنومه في الليل والنّهار التقوّي على العمل، كان نومه عبادة.

وفي حديث مرفوع: «نوم الصّائم عبادة»

(3)

. قالت حفصة بنت سيرين:

قال أبو العالية: «الصّائم في عبادة ما لم يغتب أحدا وإن كان نائما على

(1)

أخرجه: مسلم (8/ 87)(2734).

(2)

أخرجه: ابن ماجه (1753)، وانظر:«إرواء الغليل» (921)، و «الكلم الطيب» (163).

(3)

أخرجه: أبو نعيم في «حلية الأولياء» (5/ 83)، والسهمي في «تاريخ جرجان» (370)، والشجري في «الأمالي» (280)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (3939) وهو ضعيف وراجع «السلسلة الضعيفة» (4696).

ص: 279

فراشه». قال: وكانت حفصة تقول: «يا حبّذا عبادة وأنا نائمة على فراشي» .

خرّجه عبد الرزاق.

فالصّائم في ليله ونهاره في عبادة، ويستجاب دعاؤه في صيامه وعند فطره.

فهو في نهاره صائم صابر؛ وفي ليله طاعم شاكر. وفي الحديث الذي خرّجه الترمذي وغيره: «الطّاعم الشّاكر بمنزلة الصّائم الصّابر»

(1)

.

ومن فهم هذا الذي أشرنا إليه لم يتوقّف في معنى فرح الصّائم عند فطره؛ فإنّ فطره على الوجه المشار إليه من فضل الله ورحمته، فيدخل في قول الله تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ} [يونس: 58]. ولكن شرط ذلك أن يكون فطره على حلال، فإن كان فطره على حرام كان ممّن صام عمّا أحلّ الله، وأفطر على ما حرّم الله، ولم يستجب له دعاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يطيل السّفر:«يمدّ يديه إلى السّماء: يا ربّ، يا ربّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذّي بالحرام، فأنّي يستجاب لذلك»

(2)

.

وأمّا فرحه عند لقاء ربه؛ فبما يجده عند الله من ثواب الصّيام مدّخرا، فيجده أحوج ما كان إليه، كما قال الله تعالى:{وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [المزمّل: 20]. وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً} [آل عمران: 30]. وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزّلزلة: 7].

وقد تقدّم قول ابن عيينة أنّ ثواب الصائم لا يأخذه الغرماء في المظالم بل

(1)

أخرجه: أحمد (289، 2/ 283)، والترمذي (2486)، وأبو يعلى (6582)، وابن خزيمة (1898)، والحاكم (4/ 136)، وقد سبق.

(2)

أخرجه: مسلم (3/ 85 - 86)(1015).

ص: 280

يدّخره الله عنده للصّائم حتى يدخله به الجنّة. وفي «المسند» عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ليس من عمل يوم إلاّ يختم عليه»

(1)

.

وعن عيسى عليه السلام، قال: إنّ هذا الليل والنّهار خزانتان، فانظروا ما تضعون فيهما. فالأيام خزائن للناس ممتلئة بما خزنوه فيها من خير وشرّ. وفي يوم القيامة تفتح هذه الخزائن لأهلها؛ فالمتقون يجدون في خزائنهم العزّ والكرامة، والمذنبون يجدون في خزائنهم الحسرة والنّدامة.

‌الصائمون على طبقتين:

إحداهما: من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى، يرجو عنده عوض ذلك في الجنة، فهذا قد تاجر مع الله وعامله، والله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملا، ولا يخيب معه من عامله، بل يربح عليه أعظم الرّبح. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل:«إنّك لن تدع شيئا اتّقاء الله إلاّ آتاك الله خيرا منه»

(2)

.

خرّجه الإمام أحمد. فهذا الصّائم يعطى في الجنة ما شاء الله من طعام وشراب ونساء، قال الله تعالى:{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ} [الحاقّة: 24]. قال مجاهد وغيره: نزلت في الصّوّام

(3)

.

قال يعقوب بن يوسف الحنفي: بلغنا أنّ الله تعالى يقول لأوليائه يوم القيامة: يا أوليائي، طالما نظرت إليكم في الدّنيا وقد قلصت شفاهكم عن

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 146)، والطبراني (17/ 782)، والحاكم (4/ 260)، (4/ 308 - 309)، والبغوي في «شرح السنة» (1428).

وصححه الألباني في «الصحيحة» (2193).

(2)

أخرجه: أحمد (79، 5/ 78)، والبيهقي (5/ 335)، وفي «الزهد» له (937، 355)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 196).

(3)

في ص، أ:«الصائمين» .

ص: 281

الأشربة، وغارت أعينكم، وخفت بطونكم؛ كونوا اليوم في نعيمكم، وتعاطوا الكأس فيما بينكم، وكلوا واشربوا هنيئا بما أسفلتم في الأيام الخالية.

وقال الحسن: تقول الحوراء لولي الله وهو متكئ معها على نهر العسل تعاطيه الكأس: إنّ الله نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين، وأنت في ظمإ هاجرة من جهد العطش، فباهى بك الملائكة، وقال: انظروا إلى عبدي ترك زوجته وشهوته ولذّته وطعامه وشرابه من أجلي، رغبة فيما عندي، اشهدوا أنّي قد غفرت له؛ فغفر لك يومئذ وزوجنيك.

وفي «الصحيحين» عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «إنّ في الجنّة بابا يقال له:

الرّيّان، يدخل منه الصّائمون، لا يدخل منه غيرهم»

(1)

. وفي رواية: «فإذا دخلوا أغلق» . وفي رواية: «من دخل منه شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا» .

وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في منامه الطويل، قال:

«ورأيت رجلا من أمّتي يلهث عطشا، كلّما ورد حوضا منع، فجاءه صيام رمضان، فسقاه وأرواه»

(2)

. خرّجه الطبراني وغيره.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناد فيه ضعف، عن أنس مرفوعا:«الصّائمون ينفح من أفواههم ريح المسك، ويوضع لهم مائدة تحت العرش؛ يأكلون منها والناس في الحساب»

(3)

.

وعن أنس موقوفا: «إنّ لله مائدة لم تر مثلها عين، ولم تسمع أذن، ولا خطر على قلب بشر، لا يقعد عليها إلاّ الصّائمون» .

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 32)(1896)، ومسلم (3/ 158 - 159)(1152).

(2)

قال في «المجمع» (7/ 179): «رواه الطبراني بإسنادين في أحدهما سليمان بن أحمد الواسطي، وفي الآخر خالد بن عبد الرحمن المخزومي وكلاهما ضعيف» .

(3)

أخرجه: ابن أبي الدنيا في «الجوع» (139)، وإسناده ضعيف.

ص: 282

وعن بعض السلف، قال: بلغنا أنه يوضع للصّوّام مائدة يأكلون عليها والناس في الحساب، فيقولون: يا رب، نحن نحاسب وهم يأكلون؟! فيقال:

إنّهم طالما صاموا وأفطرتم، وقاموا ونمتم. رأى بعضهم بشر بن الحارث في المنام وبين يديه مائدة وهو يأكل، ويقال له: كل يا من لم يأكل، واشرب يا من لم يشرب.

كان بعض الصالحين قد صام حتى انحنى وانقطع صوته فمات، فرآه بعض أصحابه الصالحين في المنام فسئل عن حاله، فضحك وأنشد:

قد كسي حلّة البهاء وطافت

بأباريق حوله الخدّام

ثم حلّي وقيل يا قارئ ارقا

فلعمري لقد براك الصّيام

اجتاز بعض الصالحين

(1)

بمناد ينادي على السّحور في رمضان: ياما خبأنا للصّوّام

(2)

! فتنبّه بهذه الكلمة، وأكثر من الصّيام. رأى بعض العارفين في منامه كأنه أدخل الجنّة، فسمع قائلا يقول له: هل تذكر أنّك صمت لله يوما قطّ؟ فقال: نعم. قال: فأخذتني صواني النّثار من الجنة. من ترك لله في الدنيا طعاما وشرابا وشهوة مدة يسيرة عوضه الله عنده طعاما وشرابا لا ينفد، وأزواجا لا يمتنى أبدا. شهر رمضان فيه يزوّج الصائمون.

في الحديث: «إنّ الجنّة لتزخرف وتنجّد من الحول إلى الحول لدخول رمضان، فتقول الحور: يا ربّ، اجعل لنا في هذا الشهر من عبادك أزواجا تقرّ أعيننا بهم، وتقرّ أعينهم بنا»

(3)

. وفي حديث آخر: «إنّ الحور تنادي في شهر رمضان: هل من خاطب إلى الله فيزوّجه؟» .

(1)

في أ: «العارفين» .

(2)

في ص، أ:«للصائمين» .

(3)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (6800) وقال في «المجمع» (3/ 142): «رواه الطبراني في «الكبير» و «الأوسط» وفيه الوليد بن الوليد القلانسي، وثقه أبو حاتم، وضعفه جماعة».

ص: 283

مهور الحور طول التهجّد، وهو حاصل في رمضان أكثر من غيره. كان بعض الصالحين كثير التهجد والصيام، فصلى ليلة في المسجد ودعا فغلبته عيناه، فرأى في منامه جماعة علم أنّهم ليسوا من الآدميين، بأيديهم أطباق عليها أرغفة ببياض الثلج، فوق كلّ رغيف درّ أمثال الرّمّان، فقالوا: كل، فقال: إنّي أريد الصّوم، قالوا له: يأمرك صاحب هذا البيت أن تأكل، قال: فأكلت، وجعلت آخذ ذلك الدّرّ لأحتمله. فقالوا له: دعه نغرسه لك شجرا ينبت لك خيرا من هذا. قال: أين؟ قالوا: في دار لا تخرب، وثمر لا يتغيّر، وملك لا ينقطع، وثياب لا تبلى. فيها رضوى، وعينا، وقرّة عين، أزواج رضيات مرضيات راضيات، لا يغرن ولا يغرن؛ فعليك بالانكماش فيما أنت، فإنما هي غفوة حتى ترتحل، فتنزل الدار، فما مكث بعد هذه الرؤيا إلاّ جمعتين حتّى توفي، فرآه ليلة وفاته في المنام بعض أصحابه الذين حدّثهم برؤياه وهو يقول:

ألا تعجب من شجر غرس لي في يوم حدثتك وقد حمل؟! فقال له: ما حمل؟ قال: لا تسأل، لا يقدر أحد على صفته. لم ير مثل الكريم إذا حلّ به مطيع.

يا قوم، ألا خاطب في هذا الشهر إلى الرحمن؟ ألا راغب فيما أعدّه الله للطائعين في الجنان؟ ألا طالب لما أخبر به من النّعيم المقيم، مع أنّه ليس الخبر كالعيان؟

من يرد ملك الجنان

فليدع عنه التّواني

وليقم في ظلمة ال

ليل إلى نور القران

وليصل صوما بصوم

إنّ هذا العيش فاني

إنّما العيش جوار الله

في دار الأمان

الطبقة الثانية من الصائمين: من يصوم في الدنيا عمّا سوى الله، فيحفظ الرأس وما حوى، ويحفظ البطن وما وعى، ويذكر الموت والبلى، ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا. فهذا عيد فطره يوم لقاء ربّه وفرحه برؤيته.

ص: 284

أهل الخصوص من الصّوّم صومهم

صون اللسان عن البهتان والكذب

والعارفون وأهل الأنس صومهم

صون القلوب عن الأغيار والحجب

العارفون لا يسلّيهم عن رؤية مولاهم قصر، ولا يروّيهم دون مشاهدته نهر؛ هممهم أجلّ من ذلك.

كبرت همّة عبد

طمعت في أن تراك

من يصم عن مفطرات

فصيامي عن سواك

(1)

من صام عن شهواته في الدنيا، أدركها غدا في الجنّة. ومن صام عمّا سوى الله، فعيده يوم لقائه، {مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5].

وقد صمت عن لذّات دهري كلّها

ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

رئي بشر في المنام، فسئل عن حاله، فقال: علم قلّة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إليه. وقيل لبعضهم: أين نطلبك في الآخرة؟ قال: في زمرة النّاظرين إلى الله، قيل له: كيف علمت ذلك؟ قال: بغضّي طرفي له عن كلّ محرّم، وباجتنابي فيه كلّ منكر ومأثم؛ وقد سألته أن يجعل جنّتي النّظر إليه.

يا حبيب القلوب من لي سواكا

ارحم اليوم مذنبا قد أتاكا

ليس لي في الجنان مولاي رأي

غير أنّي أريدها لأراكا

يا معشر التائبين، صوموا اليوم عن شهوات الهوى؛ لتدركوا عيد الفطر يوم اللّقاء، لا يطولن عليكم الأمد باستبطاء الأجل؛ فإن معظم نهار الصّيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.

(1)

هذا العجز مكانه في (أ): «عن أن يحب سواكا» .

ص: 285

إن يوما جامعا شملي بهم

ذاك عيدي ليس لي عيد سواه

قوله: «ولخلوف فم الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك» ، خلوف الفم: رائحة ما يتصاعد منه من الأبخرة؛ لخلوّ المعدة من الطعام بالصّيام.

وهي رائحة مستكرهة في مشام الناس في الدّنيا، لكنّها طيّبة عند الله حيث كانت ناشئة عن طاعته، وابتغاء مرضاته. كما أنّ دم الشهيد يجيء يوم القيامة يثعب دما، لونه لون الدّم، وريحه ريح المسك.

وبهذا استدلّ من كره السّواك للصّائم، أو لم يستحبه من العلماء. وأوّل من علمناه استدلّ بذلك عطاء بن أبي رباح. وروي عن أبي هريرة أنّه استدلّ به، لكن من وجه لا يثبت.

وفي المسألة خلاف مشهور بين العلماء. وإنّما كرهه من كرهه في آخر نهار الصّوم؛ لأنّه وقت خلوّ المعدة وتصاعد الأبخرة. وهل يدخل وقت الكراهة بصلاة العصر، أو بزوال الشمس، أو بفعل صلاة الظهر في أوّل وقتها، على أقوال ثلاثة، والثالث هو المنصوص عن أحمد.

وفي طيب ريح خلوف فم الصّائم عند الله عز وجل معنيان:

أحدهما: أنّ الصّيام لمّا كان سرّا بين العبد وربّه في الدنيا، أظهره الله في الآخرة علانية للخلق؛ ليشتهر بذلك أهل الصّيام، ويعرفون بصيامهم بين الناس جزاء لإخفائهم صيامهم في الدّنيا. وروى أبو الشيخ الأصبهانيّ بإسناد فيه ضعف، عن أنس مرفوعا:«يخرج الصّائمون من قبورهم يعرفون بريح أفواههم، أفواههم أطيب من ريح المسك»

(1)

.

(1)

انظر: «كنز العمال» (23644) وعزاه لأبي الشيخ في «الثواب» ، و «الديلمي» عن أنس.

ص: 286

قال مكحول: يروح أهل الجنّة برائحة، فيقولون: ربّنا، ما وجدنا ريحا منذ دخلنا الجنّة أطيب من هذه الريح. فيقال: هذه رائحة أفواه الصّوّام.

وقد تفوح رائحة الصيام في الدنيا وتستنشق قبل الآخرة، وهو نوعان:

أحدهما: ما يدرك بالحواس الظاهرة. كان عبد الله بن غالب من العبّاد المجتهدين في الصّلاة والصّيام، فلمّا دفن كان يفوح من تراب قبره رائحة المسك، فرئي في المنام، فسئل عن تلك الرائحة التي توجد من قبره، فقال:

تلك رائحة التّلاوة والظمإ.

والنوع الثاني: ما تستنشقه الأرواح والقلوب، فيوجب ذلك للصّائمين المخلصين المودّة والمحبّة في قلوب المؤمنين. وفي حديث الحارث الأشعريّ، عن النّبي صلى الله عليه وسلم:«أنّ زكريّا عليه السلام قال لبني إسرائيل: آمركم بالصّيام، فإنّ مثل ذلك كمثل رجل في عصابة، معه صرّة فيها مسك، فكلّهم يعجبه ريحه، وإنّ ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»

(1)

. خرّجه الترمذي وغيره.

لمّا كان معاملة المخلصين بصيامهم لمولاهم سرّا بينه وبينهم، أظهر الله سرّهم لعباده فصار علانية، فصار هذا التجلّي والإظهار جزاء لذلك الصّون والإسرار.

في الحديث: «ما أسرّ أحد سريرة إلاّ ألبسه الله رداءها علانية»

(2)

.

(1)

أخرجه: الترمذي (2864، 2863)، وأحمد (4/ 130)، وأبو يعلى (1571)، وابن خزيمة (1895) مطوّلا، وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح غريب» .

(2)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (7906)، وذكره في «المجمع» (10/ 225) وقال:«رواه الطبراني في «الكبير» و «الأوسط» وفيه حامد بن آدم وهو كذاب».

ص: 287

قال يوسف بن أسباط: أوحى الله تعالى إلى نبيّ من الأنبياء: قل لقومك يخفون لي أعمالهم، وعليّ إظهارها لهم.

تذلّل أرباب الهوى في الهوى عزّ

وفقرهم نحو الحبيب هو الكنز

وسترهم فيه السّرائر شهرة

وغير تلاف النّفس فيه هو العجز

والمعنى الثاني: أنّ من عبد الله وأطاعه، طلب رضاه في الدنيا بعمل، فنشأ من عمله آثار مكروهة للنفوس في الدنيا، فإنّ تلك الآثار غير مكروهة عند الله، بل هي محبوبة له وطيّبة عنده؛ لكونها نشأت عن طاعته واتباع مرضاته.

فإخباره بذلك للعاملين في الدّنيا فيه تطييب لقلوبهم؛ لئلاّ يكره منهم ما وجد في الدنيا.

قال بعض السّلف: وعد الله موسى ثلاثين ليلة أن يكلّمه على رأسها؛ فصام ثلاثين يوما، ثم وجد من فيه خلوفا، فكره أن يناجي ربّه على تلك الحال، فأخذ سواكا فاستاك به، فلمّا أتى لموعد الله إيّاه، قال له: يا موسى، أما علمت أنّ خلوف فم الصّائم أطيب عندنا من ريح المسك، ارجع فصم عشرة أخرى.

ولهذا المعنى كان «دم الشّهيد ريحه يوم القيامة كريح المسك، وغبار المجاهدين في سبيل الله ذريرة أهل الجنّة» . ورد في ذلك حديث مرسل.

كلّ شيء ناقص في عرف النّاس في الدّنيا؛ إذا انتسب إلى طاعته ورضاه فهو الكامل في الحقيقة.

خلوف أفواه الصائمين له أطيب من ريح المسك. عري المحرمين لزيارة بيته أجمل من لباس الحلل. نوح المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضل من التسبيح. انكسار المخبتين لعظمته هو الجبر. ذلّ الخائفين من سطوته هو

ص: 288

العزّ. تهتّك المحبّين في محبّته أحسن من السّتر. بذل النّفوس للقتل في سبيله هو الحياة. جوع الصّائمين لأجله هو الشّبع، عطشهم في طلب مرضاته هو الرّيّ. نصب المجتهدين في خدمته هو الرّاحة.

ذلّ الفتى في الحبّ مكرمة

وخضوعه لحبيبه شرف

هبّت اليوم على القلوب نفحة من نفحات نسيم القرب. سعى سمسار المواعظ للمهجورين في الصلح. وصلت البشارة للمنقطعين بالوصل، وللمذنبين بالعفو، وللمستوجبين النار بالعتق.

لمّا سلسل الشّيطان في شهر رمضان، وخمدت نيران الشّهوات بالصّيام، انعزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل؛ فلم يبق للعاصي عذر.

يا غيوم الغفلة عن القلوب تقشّعي. يا شموس التقوى والإيمان اطلعي.

يا صحائف أعمال الصّالحين ارتفعي. يا قلوب الصائمين اخشعي. يا أقدم المجتهدين اسجدي لربك واركعي. يا عيون المتهجدين لا تهجعي. يا ذنوب التائبين لا ترجعي. يا أرض الهوى ابلعي ماءك، ويا سماء النّفوس أقلعي.

يا بروق الأشواق للعشاق المعي. يا خواطر العارفين ارتعي. يا همم المحبّين بغير الله لا تقنعي. يا جنيد اطرب. يا شبليّ احضر. يا رابعة اسمعي، قد مدّت في هذه الأيام موائد الإنعام للصّوّام، فما منكم إلاّ من دعي {يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ} [الأحقاف: 31]. ويا همم المؤمنين أسرعي، فطوبى لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب وما دعي.

سألتك يا بانة الأجرعي

متى رفع الحيّ من لعلعي

وهل مرّ قلبي مع الظّاعني

ن أم خار ضعفا فلم يتبعي

ص: 289

رحلنا ووافقنا الصّادقون

ولم يتخلّف سوى مدّعي

ليت شعري إن جئتهم يقبلوني

أم تراهم عن بابهم يصرفوني

أم تراني إذا وقفت لديهم

يأذنوا بالدّخول أم يطردوني

***

ص: 290

‌المجلس الثاني في فضل الجود في رمضان وتلاوة القرآن

في «الصحيحين» عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال:«كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم أجود النّاس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان جبريل يلقاه كلّ ليلة فيدارسه القرآن؛ فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الرّيح المرسلة»

(1)

. وخرّجه الإمام أحمد بزيادة في آخره، وهي:

«لا يسأل عن شيء إلا أعطاه» .

الجود هو سعة العطاء وكثرته، والله تعالى يوصف بالجود. وفي الترمذي من حديث سعد بن أبي وقّاص، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:«إنّ الله جواد يحبّ الجود، كريم يحبّ الكرم»

(2)

.

وفيه أيضا: من حديث أبي ذرّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن ربّه، قال:

«يا عبادي، لو أنّ أوّلكم وآخركم، وحيّكم وميّتكم

(3)

، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسأل كلّ إنسان منكم، ما بلغت أمنيّته، فأعطيت كلّ سائل منكم، ما نقص ذلك من ملكي إلاّ كما لو أنّ أحدكم مرّ بالبحر، فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه؛ ذلك بأنّي جواد واجد ماجد، أفعل ما أريد،

(1)

أخرجه: البخاري (229، 5/ 127)(3220)، ومسلم (7/ 73)(2308).

(2)

أخرجه: الترمذي (2799) مطوّلا، وقال:«هذا حديث غريب، وخالد بن إلياس ضعيف» .

(3)

في أ: «وجنكم وإنسكم» مكان «وحيكم وميتكم» .

ص: 291

عطائي كلام، وعذابي كلام، إنّما أمري لشيء إذا أردت أن أقول له: كن فيكون»

(1)

.

وفي الأثر المشهور عن فضيل بن عياض: إنّ الله تعالى يقول كلّ ليلة: أنا الجواد ومني الجود، أنا الكريم ومنّي الكرم.

فالله سبحانه وتعالى أجود الأجودين، وجوده يتضاعف في أوقات خاصّة، كشهر رمضان، وفيه أنزل قوله تعالى:{وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذا دَعانِ} [البقرة: 186].

وفي الحديث الذي خرّجه الترمذيّ وغيره «أنّه ينادي فيه مناد: يا باغي الخير هلمّ، ويا باغي الشّرّ أقصر، ولله عتقاء من النّار، وذلك كلّ ليلة»

(2)

.

ولمّا كان الله عز وجل قد جبل نبيّه صلى الله عليه وسلم على أكمل الأخلاق وأشرفها، كما في حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»

(3)

. وذكره مالك في «الموطإ» بلاغا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس كلّهم.

وخرّج ابن عدي بإسناد فيه ضعف من حديث أنس مرفوعا: «ألا أخبركم

(1)

أخرجه: الترمذي (2495)، وأحمد (5/ 160)، وقال الترمذي:«حديث حسن» .

قلت: والحديث أصله عند مسلم (2577)(17، 8/ 16).

(2)

أخرجه: الترمذي (682)، والنسائي (4/ 130) واللفظ له، وقال الترمذي:«غريب» ، ونقل عن البخاري أنه صحح وقفه على مجاهد.

وراجع: «العلل الكبير» (111).

(3)

أخرجه: مالك (ص 564)، والبيهقي (10/ 191)، وأحمد (2/ 381) بلفظ «بعثت لأتمم حسن الأخلاق» .

وصححه الألباني في «الصحيحة» (45).

ص: 292

بالأجود الأجود؟ الله الأجود الأجود، وأنا أجود بني آدم، وأجودهم من بعدي رجل علم علما فنشر علمه، يبعث يوم القيامة أمّة وحده، ورجل جاد بنفسه في سبيل الله»

(1)

. فدلّ هذا على أنّه صلى الله عليه وسلم أجود بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأعلمهم وأشجعهم وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة.

وكان جوده يجمع أنواع الجود، من بذل العلم والمال، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكلّ طريق؛ من إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمّل أثقالهم.

ولم يزل صلى الله عليه وسلم على هذه الخصال الحميدة منذ نشأ، ولهذا قالت له خديجة في أوّل مبعثه:«والله، لا يخزيك الله أبدا، إنّك لتصل الرّحم، وتقري الضّيف، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحقّ» .

ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثة وتضاعفت أضعافا كثيرة.

وفي «الصحيحين» عن أنس، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن النّاس، وأشجع النّاس، وأجود الناس»

(2)

. وفي «صحيح مسلم» عنه، قال:

«ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئا إلاّ أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإنّ محمّدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة»

(3)

. وفي رواية له: «إن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم غنما بين جبلين، فأعطاه إياه، فأتى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا؛ فإنّ محمدا يعطي عطاء ما يخاف الفقر» . قال أنس: «إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلاّ الدنيا، فما يمسي حتى يكون الإسلام أحبّ إليه من الدنيا وما عليها» .

(1)

أخرجه: ابن عدي (2/ 20).

(2)

أخرجه: البخاري (4/ 27)(3040)، ومسلم (7/ 72)(2307).

(3)

أخرجه: مسلم (7/ 74)(2312).

ص: 293

وفيه أيضا: عن صفوان بن أميّة، قال: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني، وإنّه لمن أبغض النّاس إليّ، فما برح يعطيني حتّى إنّه لأحبّ النّاس إليّ

(1)

. قال ابن شهاب: أعطاه يوم حنين مائة من النعم، ثم مائة، ثم مائة.

وفي «مغازي الواقدي» أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أعطى صفوان يومئذ واديا مملوءا إبلا ونعما، فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا إلاّ نفس نبيّ.

وفي «الصحيحين» عن جبير بن مطعم: أنّ الأعراب علقوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم مرجعه من حنين يسألونه أن يقسم بينهم، فقال:«لو كان لي عدد هذه العضاه نعما لقسمته بينكم، ثم لا تجدوني بخيلا، ولا كذوبا، ولا جبانا»

(2)

.

وفيهما عن جابر، قال:«ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال: لا» ، وأنه قال لجابر: لو جاءنا مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا، وقال بيديه:

جميعا

(3)

. وخرّج البخاري من حديث سهل بن سعد: أنّ شملة أهديت للنبيّ صلى الله عليه وسلم فلبسها وهو محتاج إليها، فسأله إيّاها رجل فأعطاه، فلامه النّاس، وقالوا:

كان محتاجا إليها، وقد علمت أنّه لا يردّ سائلا، فقال: إنما سألتها لتكون كفني، فكانت كفنه

(4)

.

وكان جوده صلى الله عليه وسلم كلّه لله عز وجل، وفي ابتغاء مرضاته، فإنّه كان يبذل المال: إمّا لفقير، أو محتاج، أو ينفقه في سبيل الله، أو يتألّف به على الإسلام من يقوى الإسلام بإسلامه.

وكان يؤثر على نفسه وأهله وأولاده، فيعطي عطاء يعجز عنه الملوك مثل

(1)

أخرجه: مسلم (7/ 75)(2313)، والترمذي (666)، وأحمد (3/ 401).

(2)

أخرجه: البخاري (4/ 27)(3148).

(3)

أخرجه: البخاري (3/ 126)(2296)(3137)، ومسلم (3/ 126)(2314).

(4)

أخرجه: البخاري (8/ 16)(5810).

ص: 294

كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار

(1)

، وربما ربط على بطنه الحجر من الجوع. وكان قد أتاه صلى الله عليه وسلم سبي مرّة، فشكت إليه فاطمة ما تلقى من خدمة البيت، وطلبت منه خادما يكفيها مئونة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها، وقال:«لا أعطيك وأدع أهل الصّفّة تطوى بطونهم من الجوع»

(2)

.

وكان جوده صلى الله عليه وسلم يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أنّ جود ربّه يتضاعف فيه أيضا، فإنّ الله جبله على ما يحبّه من الأخلاق الكريمة، وكان على ذلك من قبل البعثة.

ذكر ابن إسحاق عن وهب بن كيسان، عن عبيد بن عمير، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كلّ سنة شهرا، يطعم من جاءه من المساكين، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به ما أراد من كرامته، من السّنة التي بعثه فيها، وذلك الشهر شهر رمضان، خرج إلى حراء كما كان يخرج لجواره معه أهله، حتّى إذا كانت اللّيلة التي أكرمه الله تعالى برسالته، ورحم العباد بها، جاءه جبريل من الله عز وجل

(3)

.

ثم كان بعد الرسالة جوده في رمضان أضعاف ما كان قبل ذلك؛ فإنه كان يلتقي هو وجبريل عليه السلام، وهو أفضل الملائكة وأكرمهم، ويدارسه الكتاب الذي جاء به إليه

(4)

، وهو أشرف الكتب وأفضلها، وهو يحثّ على الإحسان ومكارم الأخلاق.

(1)

أخرجه: الحاكم (4/ 105).

(2)

أخرجه: البخاري (3113)(4/ 102)، ومسلم (8/ 84)(2727)، وأحمد (1/ 106).

(3)

أخرجه: ابن هشام في «السيرة النبوية» (1/ 236).

(4)

الحديث عند البخاري (6)(1/ 4)، ومسلم (2308)(7/ 73)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 295

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب له خلقا بحيث يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، ويسارع إلى ما حثّ عليه، ويمتنع ممّا زجر عنه؛ فلهذا كان يتضاعف جوده وإفضاله في هذا الشهر؛ لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام، وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم، الذي يحثّ على المكارم والجود. ولا شكّ أنّ المخالطة تؤثّر وتورث أخلاقا من المخالط.

كان بعض الشعراء قد امتدح ملكا جوادا، فأعطاه جائزة سنية، فخرج بها من عنده وفرّقها كلّها على الناس، وأنشد:

لمست بكفّي كفّه أبتغي الغني

ولم أدر أنّ الجود من كفّه يعدي

فبلغ ذلك الملك فأضعف له الجائزة.

وقد قال بعض الشعراء يمتدح بعض الأجواد ولا يصلح أن يكون ذلك إلاّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم:

تعوّد بسط الكفّ حتّى لو أنّه

ثناها لقبض لم تجبه أنامله

تراه إذا ما جئته متهلّلا

كأنّك تعطيه الذي أنت سائله

ولو لم يكن في كفّه غير روحه

لجاد بها فليتّق الله سائله

هو البحر من أيّ النّواحي أتيته

فلجّته المعروف والجود ساحله

سمع الشّبليّ قائلا يقول: يا الله، يا جواد، فتأوّه وصاح، وقال: كيف يمكنني أن أصف الحقّ بالجود ومخلوق يقول في شكله، فذكر هذه الأبيات، ثم بكى، وقال: بلى يا جواد؛ فإنّك أوجدت تلك الجوارح، وبسطت تلك الهمم، فأنت الجواد كلّ الجواد؛ فإنّهم يعطون عن محدود وعطاؤك لا حدّ له ولا صفة، فيا جوادا يعلو كلّ جواد، وبه جاد كلّ من جاد.

ص: 296

وفي تضاعف جوده صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة:

منها: شرف الزمان، ومضاعفة أجر العمل فيه. وفي الترمذي عن أنس مرفوعا:«أفضل الصّدقة صدقة في رمضان»

(1)

.

ومنها: إعانة الصّائمين والقائمين والذّاكرين على طاعاتهم، فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم، كما أنّ من جهّز غازيا فقد غزا، ومن خلفه في أهله فقد غزا

(2)

.

وفي حديث زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من فطّر صائما فله مثل أجره، من غير أن ينقص من أجر الصّائم شيء»

(3)

. خرّجه الإمام أحمد، والنسائيّ، والترمذي، وابن ماجه. وخرّجه الطبراني من حديث عائشة، وزاد:«وما عمل الصائم من أعمال البرّ إلاّ كان لصاحب الطّعام ما دام قوة الطعام فيه»

(4)

.

وخرّج ابن خزيمة في «صحيحه» من حديث سلمان مرفوعا حديثا في فضل شهر رمضان، وفيه:«وهو شهر المواساة، وشهر يزاد فيه في رزق المؤمن؛ من فطّر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه، وعتق رقبته من النّار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء» . قالوا: يا رسول الله، ليس كلّنا يجد ما يفطّر الصّائم. قال: «يعطي الله هذا الثّواب لمن فطّر صائما على مذقة لبن،

(1)

أخرجه: الترمذي (663)، وقال:«هذا حديث غريب» .

(2)

أخرجه: البخاري (4/ 32)(2843)، ومسلم (6/ 41)(1895) من حديث زيد بن خالد الجهني.

(3)

أخرجه: الترمذي (807)، والنسائي في «الكبرى» (3330)، وابن ماجه (1746)، وأحمد (4/ 114)، وابن حبان (3429)، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» .

وراجع: «تخريج الترغيب» (2/ 95).

(4)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (7136).

وقال في «المجمع» (3/ 157): «وفيه الحكم بن عبد الله الأبلي، وهو متروك» .

ص: 297

أو تمرة، أو شربة ماء. ومن أشبع فيه صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنّة»

(1)

.

ومنها: أنّ شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرّحمة والمغفرة والعتق من النار، لا سيما في ليلة القدر. والله تعالى يرحم من عباده الرّحماء، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إنّما يرحم الله من عباده الرّحماء»

(2)

. فمن جاد على عباد الله جاد الله عليه بالعطاء والفضل؛ والجزاء من جنس العمل.

ومنها: أنّ الجمع بين الصّيام والصّدقة من موجبات الجنّة، كما في حديث عليّ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّ في الجنّة غرفا يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها» . قالوا: لمن هي يا رسول الله؟ قال: «لمن طيّب الكلام، وأطعم الطّعام، وأدام الصّيام، وصلّى بالليل والنّاس نيام»

(3)

.

وهذه الخصال كلّها تكون في رمضان، فيجتمع فيه للمؤمن الصّيام، والقيام؛ والصّدقة، وطيب الكلام؛ فإنّه ينهى فيه الصّائم عن اللّغو والرّفث.

والصّيام والصّلاة والصّدقة توصل صاحبها إلى الله عز وجل، قال بعض السّلف: الصّلاة توصل صاحبها إلى نصف الطريق، والصّيام يوصله إلى باب الملك، والصّدقة تأخذ بيده فتدخله على الملك.

وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: من تصدّق اليوم بصدقة؟ قال أبو بكر: أنا. قال: فمن

(1)

أخرجه: ابن خزيمة (1887)، وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.

(2)

أخرجه: البخاري (9/ 164)(1284)(5655)، ومسلم (3/ 39)(923).

(3)

أخرجه: الترمذي (1984)، وعبد الله بن أحمد في «زوائد المسند» (1/ 155). وأشار الترمذي في «سننه» إلى ضعفه.

ص: 298

عاد منكم مريضا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: ما اجتمعن في امرئ إلاّ دخل الجنّة»

(1)

.

ومنها: أنّ الجمع بين الصّيام والصّدقة أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنّم والمباعدة عنها، خصوصا إن ضمّ إلى ذلك قيام الليل. فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه قال:«الصّيام جنّة»

(2)

. وفي رواية: «جنّة أحدكم من النّار كجنّته من القتال»

(3)

. وفي حديث معاذ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«الصّدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النّار. وقيام الرّجل من جوف الليل»

(4)

، يعني أنه يطفئ الخطيئة أيضا. وقد صرّح بذلك في رواية للإمام أحمد. وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال:«اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة»

(5)

. كان أبو الدّرداء يقول: صلوا في ظلمة الليل ركعتين لظلمة القبور، صوموا يوما شديدا حرّه لحرّ يوم النشور، تصدّقوا بصدقة لشرّ يوم عسير.

ومنها: أنّ الصّيام لا بدّ أن يقع فيه خلل ونقص؛ وتكفير الصّيام للذنوب مشروط بالتحفّظ مما ينبغي التحفظ منه؛ كما ورد ذلك في حديث خرّجه ابن حبّان في صحيحه

(6)

.

وعامّة صيام النّاس لا يجتمع في صومه التحفّظ كما ينبغي، ولهذا نهي أن

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 92)(1028).

(2)

أخرجه: البخاري (3/ 31)(1894)، ومسلم (3/ 157)(1151).

(3)

أخرجه: النسائي (4/ 167)، وابن ماجه (1639)، وأحمد (4/ 22)، وابن خزيمة (1891).

(4)

أخرجه: الترمذي (2616)، والنسائي في «السنن الكبرى» (11394)، وابن ماجه (3973)، وأحمد (5/ 231).

وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» .

(5)

أخرجه: البخاري (2/ 136)(1417)، ومسلم (3/ 86)(1016).

(6)

أخرجه: ابن حبان (3439).

ص: 299

يقول الرجل: صمت رمضان كلّه، أو قمته كلّه. فالصّدقة تجبر ما فيه من النّقص والخلل، ولهذا وجب في آخر شهر رمضان زكاة الفطر طهرة للصّائم من اللغو والرّفث.

والصّيام والصّدقة لهما مدخل في كفّارات الأيمان، ومحظورات الإحرام، وكفّارة الوطء في رمضان. ولهذا كان الله تعالى قد خيّر المسلمين في ابتداء الأمر بين الصّيام وإطعام المسكين، ثم نسخ ذلك، وبقي الإطعام لمن يعجز عن الصّيام؛ لكبره. ومن أخّر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر، فإنّه يقضيه ويضمّ إليه إطعام مسكين لكل يوم، تقوية له عند أكثر العلماء، كما أفتى به الصّحابة. وكذلك من أفطر لأجل غيره، كالحامل والمرضع؛ على قول طائفة من العلماء.

ومنها: أنّ الصّائم يدع طعامه وشرابه لله، فإذا أعان الصّائمين على التقوّي على طعامهم وشرابهم كان بمنزلة من ترك شهوة لله، وآثر بها، أو واسى منها.

ولهذا يشرع له تفطير الصّوّام معه إذا أفطر؛ لأنّ الطّعام يكون محبوبا له حينئذ، فيواسي منه، حتى يكون ممن أطعم الطّعام على حبّه، ويكون في ذلك شكر لله على نعمة إباحة الطّعام والشّراب له، وردّه عليه بعد منعه إيّاه؛ فإنّ هذه النعمة إنما عرف قدرها عند المنع منها.

وسئل بعض السّلف: لم شرع الصّيام؟ قال: ليذوق الغنيّ طعم الجوع فلا ينسى الجائع. وهذا من بعض حكم الصوم وفوائده. وقد ذكرنا فيما تقدّم حديث سلمان، وفيه:«وهو شهر المواساة»

(1)

فمن لم يقدر فيه على درجة الإيثار على نفسه فلا يعجز عن درجة أهل المواساة.

(1)

أخرجه: ابن خزيمة (1887)، وهو ضعيف كما تقدم.

ص: 300

كان كثير من السّلف يواسون من إفطارهم أو يؤثرون به ويطوون

(1)

، وكان ابن عمر يصوم، ولا يفطر إلاّ مع المساكين، فإذا منعه أهله عنهم

(2)

، لم يتعشّ تلك الليلة. وكان إذا جاءه سائل وهو على طعامه، أخذ نصيبه من الطعام وقام، فأعطاه السائل، فيرجع وقد أكل أهله ما بقي في الجفنة، فيصبح صائما ولم يأكل شيئا.

واشتهى بعض الصالحين من السّلف طعاما، وكان صائما، فوضع بين يديه عند فطوره، فسمع سائلا يقول: من يقرض المليّ الوفيّ الغني

(3)

؟ فقال: عبده المعدم من الحسنات. فقام فأخذ الصّحفة فخرج بها إليه، وبات طاويا. وجاء سائل إلى الإمام أحمد، فدفع إليه رغيفين كان يعدّهما لفطره، ثم طوى وأصبح صائما. وكان الحسن يطعم إخوانه وهو صائم تطوّعا، ويجلس يروّحهم وهم يأكلون. وكان ابن المبارك يطعم إخوانه في السّفر الألوان من الحلواء وغيرها وهو صائم.

سلام الله على تلك الأرواح. رحمة الله على تلك الأشباح؛ لم يبق منهم إلاّ أخبار وآثار. كم بين من يمنع الحقّ الواجب عليه وبين أهل الإيثار.

لا تعرضنّ لذكرنا في ذكرهم

ليس الصّحيح إذا مشى كالمقعد

وله فوائد أخر.

قال الشافعي رضي الله عنه: أحبّ للرجل الزّيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحاجة النّاس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصّوم والصّلاة عن مكاسبهم. وكذا قال القاضي أبو يعلى وغيره من أصحابنا أيضا.

(1)

الطّوى: الجوع.

(2)

في أ، ص:«منعهم أهله عنه» .

(3)

«الوفي» لي في «ص» ، و «الغني» ليس في أ، ب.

ص: 301

ودلّ الحديث أيضا على استحباب دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وعرض القرآن على من هو أحفظ له. وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان.

وفي حديث فاطمة رضي الله عنها عن أبيها صلى الله عليه وسلم: «أنّه أخبرها: أنّ جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كلّ عام مرّة، وأنّه عارضه في عام وفاته مرّتين»

(1)

. وفي حديث ابن عباس: «أنّ المدارسة بينه وبين جبريل كانت ليلا»

(2)

، فدلّ على استحباب الإكثار من التّلاوة في رمضان ليلا؛ فإن الليل تنقطع فيه الشواغل، وتجتمع فيه الهمم، ويتواطأ فيه القلب واللسان على التدبّر، كما قال تعالى:

{إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمّل: 6].

وشهر رمضان له خصوصية بالقرآن، كما قال تعالى:{شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: إنّه أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في ليلة القدر. ويشهد لذلك قوله تعالى: {إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]، وقوله:{إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ} [الدّخان: 3].

وقد سبق عن عبيد بن عمير أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بدئ بالوحي ونزول القرآن عليه في شهر رمضان. وفي «المسند» عن واثلة بن الأسقع، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال:

«نزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التّوراة لستّ مضين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان»

(3)

.

(1)

أخرجه: البخاري (4/ 247)(6285)، ومسلم (7/ 142)(2450).

(2)

أخرجه: البخاري (6)(1/ 4)، ومسلم (7/ 73)(2308) وليس فيه ذكر الليلة.

(3)

أخرجه: أحمد (4/ 107)، وحسنه الألباني.

راجع: «الصحيحة» (1575).

ص: 302

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في قيام رمضان بالليل أكثر من غيره، وقد صلّى معه حذيفة ليلة في رمضان، قال: فقرأ بالبقرة، ثم النّساء، ثم آل عمران، لا يمرّ بآية تخويف إلاّ وقف وسأل. قال: فما صلّى الرّكعتين حتى جاءه بلال فآذنه بالصّلاة

(1)

. خرّجه الإمام أحمد، وخرّجه النسائي، وعنده:

أنه ما صلّى إلا أربع ركعات.

وكان عمر قد أمر أبيّ بن كعب وتميما الداريّ أن يقوما بالنّاس في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمائتين في ركعة، حتى كانوا يعتمدون على العصيّ من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلا عند الفجر. وفي رواية: أنّهم كانوا يربطون الحبال بين السّواري، ثم يتعلّقون بها. وروي أنّ عمر جمع ثلاثة قرّاء، فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ بالنّاس ثلاثين، وأوسطهم بخمس وعشرين، وأبطأهم بعشرين.

ثم كان في زمن التابعين يقرءون بالبقرة في قيام رمضان في ثمان ركعات، فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة رأوا أنّه قد خفّف.

قال ابن منصور: سئل إسحاق بن راهويه: كم يقرأ في قيام شهر رمضان؟ فلم يرخّص في دون عشر آيات. فقيل له: إنهم لا يرضون. فقال لا رضوا، فلا تؤمّهم إذا لم يرضوا بعشر آيات من البقرة، ثم إذا صرت إلى الآيات الخفاف فبقدر عشر آيات من البقرة، يعني في كلّ ركعة، وكذلك كره مالك أن يقرأ دون عشر آيات.

وسئل الإمام أحمد عمّا روي عن عمر - كما تقدّم ذكره - في السّريع القراءة

(1)

أخرجه: أحمد (5/ 400)، والنسائي (3/ 226).

وقال النسائي عقبه: «هذا الحديث عندي مرسل» .

ص: 303

والبطيء؟ فقال: في هذا مشقة على الناس ولا سيما في هذه الليالي القصار.

وإنّما الأمر على ما يحتمله الناس. وقال أحمد لبعض أصحابه، وكان يصلّي بهم في رمضان: هؤلاء قوم ضعفى، اقرأ خمسا، ستّا، سبعا. قال: فقرأت فختمت ليلة سبع وعشرين. وقد روي عن الحسن: أنّ الذي أمره عمر أن يصلّي بالناس كان يقرأ خمس آيات، ستّ آيات. وكلام الإمام أحمد يدلّ على أنه يراعى في القراءة حال المأمومين، فلا يشقّ عليهم. وقاله أيضا غيره من الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم.

وقد روي عن أبي ذرّ «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قام بهم ليلة ثلاث وعشرين إلى ثلث الليل، وليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل. فقالوا له: لو نفّلتنا بقيّة ليلتنا؟ فقال: إنّ الرجل إذا صلّى مع الإمام حتّى ينصرف كتب له بقيّة ليلته»

(1)

.

خرّجه أهل السّنن، وحسّنه الترمذيّ.

وهذا يدلّ على أنّ قيام ثلث الليل ونصفه يكتب به قيام ليلة، لكن مع الإمام.

وكان الإمام أحمد يأخذ بهذا الحديث ويصلّي مع الإمام حتى ينصرف، ولا ينصرف حتى ينصرف الإمام. وقال بعض السّلف: من قام نصف الليل فقد قام اللّيل.

وفي «سنن أبي داود» ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين»

(2)

. يعني أنه يكتب له قنطار من الأجر.

(1)

أخرجه: أبو داود (1375)، والترمذي (806)، والنسائي (3/ 202)، وابن ماجه (1327)، وابن حبان (2547).

وصححه الألباني في «تخريج المشكاة» (1298).

(2)

أخرجه: أبو داود (1398)، وابن خزيمة (1144)، وابن حبان (2572).

وصححه الألباني في «الصحيحة» (642).

ص: 304

ويروى من حديث تميم وأنس مرفوعا: «من قرأ بمائة آية في ليلة كتب له قيام ليلة»

(1)

. وفي إسنادهما ضعف. وروي حديث تميم موقوفا عليه، وهو أصحّ.

وعن ابن مسعود، قال:«من قرأ في ليلة خمسين آية لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ ثلاثمائة آية كتب له قنطار»

(2)

.

ومن أراد أن يزيد في القراءة ويطيل، وكان يصلّي لنفسه فليطوّل ما شاء، كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك من صلى بجماعة يرضون بصلاته.

وكان بعض السّلف يختم في قيام رمضان في كلّ ثلاث ليال، وبعضهم في كلّ سبع؛ منهم قتادة. وبعضهم في كلّ عشر؛ منهم أبو رجاء العطارديّ. وكان السّلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها؛ كان الأسود يقرأ القرآن في كلّ ليلتين في رمضان، وكان النّخعيّ يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصّة، وفي بقيّة الشّهر في ثلاث. وكان قتادة يختم في كلّ سبع دائما، وفي رمضان في كلّ ثلاث، وفي العشر الأواخر كلّ ليلة. وكان للشافعي في رمضان ستون ختمة يقرؤها في غير الصّلاة. وعن أبي حنيفة نحوه. وكان قتادة يدرس القرآن في شهر رمضان. وكان الزّهريّ إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام.

قال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان نفر من قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف. وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة وأقبل على

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 103).

(2)

أخرجه: الدارمي (2/ 463) مختصرا، وابن أبي شيبة (6/ 134).

ص: 305

تلاوة القرآن. وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أوّل النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت. وقال سفيان: كان زبيد الياميّ إذا حضر رمضان أحضر المصاحف، وجمع إليه أصحابه.

وإنما ورد النّهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث على المداومة على ذلك. فأمّا في الأوقات المفضّلة، كشهر رمضان، خصوصا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكن المفضلة، كمكّة، لمن دخلها من غير أهلها، فيستحبّ الإكثار فيها من تلاوة القرآن، اغتناما للزمان والمكان. وهذا قول أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة، وعليه يدلّ عمل غيرهم، كما سبق ذكره.

واعلم أنّ المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه؛ جهاد بالنهار على الصّيام، وجهاد بالليل على القيام. فمن جمع بين هذين الجهادين، ووفّى بحقوقهما، وصبر عليهما، وفّي أجره بغير حساب. قال كعب: ينادي يوم القيامة مناد: إنّ كلّ حارث يعطى بحرثه ويزاد غير أهل القرآن والصّيام، يعطون أجورهم بغير حساب.

ويشفعان له أيضا عند الله عز وجل، كما في «المسند» عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«الصّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة؛ يقول الصّيام: أي ربّ، منعته الطّعام والشهوات بالنّهار. ويقول القرآن: منعته النّوم باللّيل فشفّعني فيه، فيشفعّان»

(1)

.

فالصيام يشفع لمن منعه الطعام والشهوات المحرّمة كلّها، سواء كان تحريمها يختصّ بالصّيام، كشهوة الطعام، والشّراب، والنّكاح، ومقدماتها، أو

(1)

أخرجه: أحمد (2/ 174)، والحاكم (1/ 554).

وصححه الألباني، وراجع:«تخريج المشكاة» (1963)، و «تخريج الترغيب» (209، 2/ 60).

ص: 306

لا يختص به، كشهوة فضول الكلام المحرّم، والنظر المحرّم، والسّماع المحرّم، والكسب المحرّم؛ فإذا منعه الصّيام من هذه المحرّمات كلّها، فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة، ويقول: يا ربّ، منعته شهواته، فشفّعني فيه.

فهذا لمن حفظ صيامه، ومنعه من شهواته.

فأمّا من ضيّع صيامه ولم يمنعه ممّا حرّمه الله عليه، فإنّه جدير أن يضرب به وجه صاحبه؛ ويقول له: ضيّعك الله كما ضيعتني. كما ورد مثل ذلك في الصّلاة. قال بعض السّلف: إذا احتضر المؤمن، يقال للملك: شمّ رأسه.

قال: أجد في رأسه القرآن. فيقال: شمّ قلبه. فيقول: أجد في قلبه الصّيام، فيقال: شمّ قدميه، فيقول: أجد في قدميه القيام. فيقال: حفظ نفسه حفظه الله عز وجل.

وكذلك القرآن إنما يشفع لمن منعه من النوم بالليل، فإن من قرأ القرآن وقام به، فقد قام بحقّه فيشفع له. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا، فقال:«ذاك لا يتوسّد القرآن»

(1)

. يعني لا ينام عليه فيصير له كالوسادة.

وخرّج الإمام أحمد من حديث بريدة مرفوعا: «إنّ القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشقّ عنه قبره، كالرّجل الشاحب، فيقول: هل تعرفني؟ أنا صاحبك الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وكلّ تاجر من وراء تجارته؛ فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درج الجنّة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ؛ هذّا كان أو ترتيلا»

(2)

.

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 449)، والنسائي (3/ 256 - 257) عن السائب بن يزيد رضي الله عنه.

وصححه الحافظ ابن حجر في «الإصابة» (3/ 339).

(2)

أخرجه: أحمد (5/ 348) وفي إسناده ضعف. وراجع: «تفسير ابن كثير» (1/ 53).

ص: 307

وفي حديث عبادة بن الصّامت الطويل: «إن القرآن يأتي صاحبه في القبر، فيقول له: أنا الذي كنت أسهر ليلك، وأظمئ نهارك، وأمنعك شهواتك، وسمعك وبصرك؛ فستجدني من الأخلاّء خليل صدق. ثم يصعد فيسأل له فراشا ودثارا، فيؤمر له بفراش من الجنّة، وقنديل من الجنّة، وياسمين من الجنّة، ثم يدفع القرآن في قبلة القبر، فيوسع عليه ما شاء الله من ذلك»

(1)

.

قال ابن مسعود: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون.

قال محمد بن كعب: كنّا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه. يشير إلى سهره وطول تهجّده. قال وهيب بن الورد: قيل لرجل: ألا تنام؟ قال: إنّ عجائب القرآن أطرن نومي. وصحب رجل رجلا شهرين، فلم يره نائما، فقال: ما لي لا أراك نائما؟ قال: إنّ عجائب القرآن أطرن نومي؛ ما أخرج من أعجوبة إلاّ وقعت في أخرى.

قال أحمد بن أبي الحواري: إنّي لأقرأ القرآن وأنظر في آية آية، فيحير عقلي بها، وأعجب من حفّاظ القرآن كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بشيء من الدنيا، وهم يتلون كلام الله؟ أما إنّهم لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقّه، وتلذّذوا به، واستحلوا المناجاة به، لذهب عنهم النوم فرحا بما قد رزقوا.

وأنشد ذو النون المصري:

(1)

أخرجه: الحارث (729 - زوائد الهيثمي)، والعقيلي في «الضعفاء» (2/ 39)، وقال:«هذا حديث باطل» .

ص: 308

منع القرآن بوعده ووعيده

مقل العيون بليلها لا تهجع

فهموا عن الملك العظيم كلامه

فهما تذلّ له الرّقاب وتخضع

فأمّا من كان معه القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به بالنهار، فإنّه ينتصب القرآن خصما له، يطالبه بحقوقه التي ضيّعها. وخرّج الإمام أحمد من حديث سمرة: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم رأى في منامه رجلا مستلقيا على قفاه، ورجل قائم بيده فهر أو صخرة، فيشدخ به رأسه، فيتدهده الحجر، فإذا ذهب ليأخذه عاد رأسه كما كان، فيصنع به مثل ذلك، فسأل عنه، فقيل له: هذا رجل آتاه الله القرآن فنام عنه باللّيل، ولم يعمل به بالنّهار، فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة»

(1)

.

وقد خرّجه البخاريّ بغير هذا اللفظ

(2)

.

وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «يمثّل القرآن يوم القيامة رجلا، فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره، فيتمثّل له خصما، فيقول: يا ربّ، حمّلته إياي؛ فبئس حامل تعدّى حدودي، وضيّع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي. فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذه بيده، فما يرسله حتّى يكبّه على منخره في النار.

ويؤتى بالرّجل الصّالح كان قد حمله وحفظ أمره، فيتمثّل خصما دونه، فيقول: يا ربّ، حمّلته إيّاي، فخير حامل؛ حفظ حدودي، وعمل بفرائضي، واجتنب معصيتي، واتّبع طاعتي، فلا يزال يقذف له بالحجج حتّى يقال: شأنك به، فيأخذه بيده، فما يرسله حتّى يلبسه حلّة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر»

(3)

.

(1)

أخرجه: أحمد (5/ 14).

(2)

أخرجه: البخاري (1/ 125 - 127)(1386).

(3)

أخرجه: ابن أبي شيبة في «مصنفه» (30044).

ص: 309

يا من ضيّع عمره في غير الطاعة، يا من فرّط في شهره، بل في دهره وأضاعه، يا من بضاعته التسويف والتفريط، وبئست البضاعة، يا من جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممّن جعلته خصمك الشّفاعة؟!

ويل لمن شفعاؤه خصماؤه

والصّور في يوم القيامة ينفخ

ربّ صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش، وقائم حظّه من قيامه السّهر.

كلّ قيام لا ينهى عن الفحشاء والمنكر لا يزيد صاحبه إلا بعدا، وكلّ صيام لا يصان عن قول الزّور والعمل به لا يورث صاحبه إلاّ مقتا وردّا.

يا قوم، أين آثار الصيام؟ أين أنوار القيام؟

إن كنت تنوح يا حمام البان

للبين فأين شاهد الأحزان

أجفانك للدّموع أم أجفاني

لا يقبل مدّع بلا برهان

هذا - عباد الله - شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن وفي بقيته للعابدين مستمتع، وهذا كتاب الله يتلى فيه بين أظهركم ويسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا يتصدّع. ومع هذا فلا قلب يخشع، ولا عين تدمع، ولا صيام يصان عن الحرام فينفع! ولا قيام استقام فيرجى في صاحبه أن يشفع! قلوب خلت من التّقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها ظلمة الذّنوب فهي لا تبصر ولا تسمع.

كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشدّ قسوة. وكم يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشّقوة. لا الشّابّ منّا ينتهي عن الصّبوة، ولا الشيخ ينزجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة.

أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدّعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله جلت قلوبهم جلوة، وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع

ص: 310

والأبصار؟ أفما لنا فيهم أسوة؟! كم بيننا وبين حال أهل الصّفا أبعد مما بيننا وبين الصّفا والمروة. كلما حسنت منّا الأقوال ساءت الأعمال. فلا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم، وحسبنا الله.

يا نفس فاز الصالحون بالتّقى

وأبصروا الحقّ وقلبي قد عمي

يا حسنهم واللّيل قد جنّهم

ونورهم يفوق نور الأنجم

ترنّموا بالذّكر في ليلهم

فعيشهم قد طاب بالتّرنّم

قلوبهم للذّكر قد تفرّغت

دموعهم كلؤلؤ منتظم

أسحارهم بهم لهم قد أشرقت

وخلع الغفران خير القسم

ويحك يا نفس ألا تيقّظ

ينفع قبل أن تزلّ قدمي

مضى الزّمان في توان وهوى

فاستدركي ما قد بقي واغتنمي

***

ص: 311

‌المجلس الثالث في ذكر العشر الأوسط من شهر رمضان وذكر نصف الشهر الأخير

في «الصحيحين» عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاما، حتّى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه، قال:«من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر. وقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كلّ وتر» . فمطرت السّماء تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد، فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبهته أثر الماء والطّين من صبح إحدى وعشرين

(1)

.

هذا الحديث يدلّ على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأوسط من شهر رمضان؛ لابتغاء ليلة القدر فيه. وهذا السّياق يقتضي أنّ ذلك تكرّر منه.

وفي رواية في «الصحيحين» في هذا الحديث: «أنه اعتكف العشر الأول، ثم اعتكف العشر الأوسط، ثم قال: إني أتيت، فقيل لي: إنها في العشر الأواخر. فمن أحبّ منكم أن يعتكف فليعتكف. فاعتكف الناس معه»

(2)

.

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 60)(2027)، ومسلم (3/ 171)(1167).

(2)

أخرجه: البخاري (1/ 206 - 207)(813)، ومسلم (3/ 171 - 172)(1167).

ص: 312

وهذا يدلّ على أنّ ذلك كان منه قبل أن يتبيّن له أنّها في العشر الأواخر، ثم لمّا تبيّن له ذلك اعتكف العشر الأواخر حتّى قبضه الله عز وجل. كما رواه عنه عائشة وأبو هريرة وغيرهما.

وروي أنّ عمر رضي الله عنه جمع جماعة من الصحابة، فسألهم عن ليلة القدر، فقال بعضهم: كنّا نراها في العشر الأوسط، ثم بلغنا أنّها في العشر الأواخر.

وسيأتي الحديث بتمامه في موضع آخر إن شاء الله تعالى.

وخرّج ابن أبي عاصم في «كتاب الصيام» وغيره من حديث خالد بن مخدوج، عن أنس: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوها في أوّل ليلة، أو في تسع، أو في أربع عشرة» . وخالد هذا فيه ضعف. وهذا يدلّ على أنّها تطلب في ليلتين من العشر الأول، وفي ليلة من العشر الأوسط، وهي أربع عشرة. وقد سبق من حديث واثلة بن الأسقع مرفوعا:«إن الإنجيل أنزل لثلاث عشرة من رمضان» .

وقد ورد الأمر بطلب ليلة القدر في النصف الأواخر من رمضان، وفي أفراد ما بقي من العشر الأوسط من هذا النصف، وهما ليلتان: ليلة سبع عشرة، وليلة تسع عشرة.

أمّا الأوّل: فخرّجه الطبراني من حديث عبد الله بن أنيس، أنه سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، فقال:«رأيتها ونسيتها، فتحرّها في النّصف الأواخر. ثم عاد فسأله، فقال: التمسها في ليلة ثلاث وعشرين تمضي من الشهر»

(1)

.

ولهذا المعنى - والله أعلم - كان أبيّ بن كعب يقنت في الوتر في ليالي النصف الأواخر؛ لأنّه يرجى فيه ليلة القدر.

(1)

أخرجه: الطبراني في «الكبير» (113 - قطعة من مسانيد من اسمه عبد الله) بتحقيقي.

ص: 313

وأيضا فكلّ زمان فاضل من ليل أو نهار، فإن آخره أفضل من أوّله، كيوم عرفة، ويوم الجمعة. وكذلك اللّيل والنّهار عموما؛ آخره أفضل من أوّله.

ولذلك كانت الصلاة الوسطى صلاة العصر، كما دلّت الأحاديث الصّحيحة عليه، وآثار السّلف الكثيرة تدلّ عليه. وكذلك عشر ذي الحجة والمحرم؛ آخرها أفضل من أوّلهما.

وأمّا الثاني: ففي «سنن أبي داود» عن ابن مسعود مرفوعا: «اطلبوها ليلة سبع عشرة من رمضان، وليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين» ، ثم سكت

(1)

. وفي رواية: «ليلة تسع عشرة» . وقيل: إنّ الصحيح وقفه على ابن مسعود، فقد صحّ عنه أنّه قال: تحرّوا ليلة القدر ليلة سبع عشرة، صباحة بدر، أو إحدى وعشرين. وفي رواية عنه، قال:«ليلة سبع عشرة، فإن لم يكن ففي تسع عشرة» .

وخرّج الطبراني من رواية أبي المهزّم، وهو ضعيف، عن أبي هريرة مرفوعا، قال:«التمسوا ليلة القدر في سبع عشرة أو تسع عشرة، أو إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين»

(2)

. ففي هذا الحديث: التماسها في أفراد النصف الثاني كلّها.

ويروى من حديث عائشة رضي الله عنها «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا كان ليلة تسع عشرة من رمضان شدّ المئزر وهجر الفراش حتى يفطر» . قال البخاري: تفرّد به عمر بن مسكين، ولا يتابع عليه.

وقد روي عن طائفة من الصحابة أنّها تطلب ليلة سبع عشرة، وقالوا: إن

(1)

أخرجه: أبو داود (1384)، وقال المنذري:«في إسناده حكيم بن سيف، وفيه مقال» .

(2)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (1284).

ص: 314

صبيحتها كان يوم بدر. روي عن علي، وابن مسعود، وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت، وعمرو بن حريث. ومنهم من روي عنه، أنّها ليلة تسع عشرة؛ روي عن علي، وابن مسعود، وزيد بن أرقم.

والمشهور عند أهل السّير والمغازي: أنّ ليلة بدر كانت ليلة سبع عشرة، وكانت ليلة جمعة. وروي ذلك عن علي، وابن عباس وغيرهما. وعن ابن عباس، رواية ضعيفة أنّها كانت ليلة الإثنين.

وكان زيد بن ثابت لا يحيي ليلة من رمضان، كما يحيي ليلة سبع عشرة، ويقول: إنّ الله فرّق في صبيحتها بين الحقّ والباطل، وأذلّ في صبيحتها أئمة الكفر. وحكى الإمام أحمد هذا القول عن أهل المدينة: أنّ ليلة القدر تطلب ليلة سبع عشرة. قال في رواية أبي داود فيمن قال لامرأته: أنت طالق ليلة القدر، قال: يعتزلها إذا دخل العشر، وقبل العشر، أهل المدينة يرونها في السبع عشرة، إلاّ أنّ المثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر. وحكي عن عامر بن عبد الله بن الزّبير: أنّه كان يواصل ليلة سبع عشرة.

وعن أهل مكّة أنّهم كانوا لا ينامون فيها، ويعتمرون. وحكي عن أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة: أنّ ليلة القدر في النصف الأواخر من رمضان من غير تعيين لها بليلة، وإن كانت في نفس الأمر عند الله معينة.

وروي عن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال: ليلة القدر ليلة سبع عشرة، ليلة جمعة. خرّجه ابن أبي شيبة. وظاهره أنّها إنما تكون ليلة القدر إذا كانت ليلة جمعة؛ لتوافق ليلة بدر.

وروى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناد جيّد، عن الحسن، قال: إنّ غلاما لعثمان بن أبي العاص، قال له: يا سيدي، إن البحر يعذب في هذا الشهر في ليلة. قال: فإذا كانت تلك الليلة فأعلمني. قال: فلما كانت تلك الليلة آذنه،

ص: 315

فنظروا فوجدوه عذبا، فإذا هي ليلة سبع عشرة. وروي من حديث جابر، قال:

«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قباء صبيحة سبع عشرة من رمضان، أيّ يوم كان» .

خرّجه أبو موسى المديني.

وقد قيل: إنّ المعراج كان فيها أيضا. ذكر ابن سعد، عن الواقديّ، عن أشياخه: أنّ المعراج كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من رمضان قبل الهجرة إلى السماء، وأنّ الإسراء كان ليلة سبع عشرة من ربيع الأوّل قبل الهجرة بسنة إلى بيت المقدس. وهذا على قول من فرّق بين المعراج والإسراء؛ فجعل المعراج إلى السّماء، كما ذكر في سورة النجم؛ والإسراء إلى بيت المقدس خاصّة، كما ذكر في سورة سبحان.

وقد قيل: إنّ ابتداء نبوّة النبي صلى الله عليه وسلم كان في سابع عشر رمضان. قال أبو جعفر محمد بن علي الباقر: نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له بحراء برسالة الله عز وجل يوم الإثنين لسبع عشرة خلت من رمضان. وأصحّ ما روي في الحوادث في هذه الليلة أنّها ليلة بدر، كما سبق أنّها كانت ليلة سبع عشرة.

وقيل: تسع عشرة. والمشهور أنّها كانت ليلة سبع عشرة، كما تقدّم.

وصبيحتها هو يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان. وسمي يوم الفرقان؛ لأنّ الله تعالى فرّق فيه بين الحقّ والباطل، وأظهر الحق وأهله على الباطل وحزبه، وعلت كلمة الله وتوحيده، وذلّ أعداؤه من المشركين وأهل الكتاب، وكان ذلك في السنة الثانية من الهجرة؛ فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة في ربيع الأول في أوّل سنة من سني الهجرة، ولم يفرض رمضان في ذلك العام. ثم صام عاشوراء. وفرض عليه رمضان في ثاني سنة. فهو أوّل رمضان صامه وصامه المسلمون معه.

ص: 316

ثم خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم لطلب عير لقريش قدمت من الشام إلى المدينة في يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان، وأفطر صلى الله عليه وسلم في خروجه إليها.

قال ابن المسيّب: قال عمر: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوتين في رمضان يوم بدر، ويوم الفتح، وأفطرنا فيهما. وكان سبب خروجه حاجة أصحابه، خصوصا المهاجرين {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} [الحشر: 8]. وكانت هذه العير فيها أموال كثيرة لأعدائهم الكفار الذين أخرجوهم من ديارهم وأموالهم ظلما وعدوانا، كما قال الله تعالى:{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ} [الحج: 39 - 40].

فقصد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذ أموال هؤلاء الكفّار الظالمين المعتدين على أولياء الله وحزبه وجنده، فيردّها على أولياء الله وحزبه المظلومين المخرجين من ديارهم وأموالهم ليتقوّوا بها على عبادة الله وطاعته وجهاد أعدائه. وهذا ممّا أحلّه الله لهذه الأمّة؛ فإنّه أحلّ لهم الغنائم، ولم تحلّ لأحد قبلهم. وكان عدّة من معه ثلاث مائة وبضعة عشر، وكانوا على عدّة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر، وما جازه معه إلاّ مؤمن.

وفي «سنن أبي داود» من حديث عبد الله بن عمرو، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر من المقاتلة، كما خرج طالوت، فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجوا، فقال:«اللهمّ، إنّهم حفاة فاحملهم، وإنّهم عراة فاكسهم، وإنّهم جياع فأشبعهم» . ففتح الله يوم بدر، فانقبلوا حين انقلبوا وما فيهم رجل إلاّ وقد رجع بجمل أو جملين، واكتسوا وشبعوا

(1)

.

(1)

أخرجه: أبو داود (2747).

ص: 317

وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين خرجوا على غاية من قلّة الظهر والزّاد؛ فإنّهم لم يخرجوا مستعدّين لحرب، ولا لقتال، إنما خرجوا لطلب العير، فكان معهم نحو سبعين بعيرا يعتقبونها بينهم، كلّ ثلاثة على بعير. وكان للنبي صلى الله عليه وسلم زميلان، فكانوا يعتقبون على بعير واحد، فكان زميلاه يقولان له:

يا رسول الله، اركب حتى نمشي عنك، فيقول:«ما أنتما بأقوى على المشي منّي، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما» . ولم يكن معهما إلا فرسان، وقيل: ثلاثة، وقيل: فرس واحد للمقداد.

وبلغ المشركين خروج النبي صلى الله عليه وسلم لطلب العير، فأخذ أبو سفيان بالعير نحو الساحل، وبعث إلى أهل مكّة يخبرهم الخبر، ويطلب منهم أن ينفروا لحماية عيرهم، فخرجوا مستصرخين، وخرج أشرافهم ورؤساؤهم، وساروا نحو بدر.

واستشار النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين في القتال، فتكلّم المهاجرون فسكت عنهم، وإنما كان قصده الأنصار؛ لأنّه ظنّ أنّهم لم يبايعوه إلاّ على نصرته على من قصده في ديارهم، فقام سعد بن عبادة، فقال: إيّانا تريد - يعني الأنصار - والذي نفسي بيده، لو أمرتنا أن نخيضها البحر لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا

(1)

. وقال له المقداد: لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ} [المائدة: 24]، ولكن نقاتل عن يمينك وشمالك، وبين يديك، ومن خلفك.

فسرّ النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وأجمع على القتال

(2)

.

وبات تلك الليلة الجمعة سابع عشر رمضان قائما يصلّي ويبكي ويدعو الله ويستنصره على أعدائه.

(1)

أخرجه: مسلم (5/ 170)(1779)، وأحمد (3/ 220).

(2)

أخرجه: البخاري (5/ 93)(3952).

ص: 318

وفي «المسند» عن علي بن أبي طالب، قال:«لقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلّي ويبكي حتى أصبح»

(1)

.

وفيه عنه أيضا، قال: أصابنا طشّ من مطر - يعني ليلة بدر - فانطلقنا تحت الشّجر والحجف نستظلّ بها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربّه، ويقول:«إن تهلك هذه الفئة لا تعبد» ، فلمّا أن طلع الفجر نادى: الصّلاة عباد الله، فجاء الناس من تحت الشّجر والحجف، فصلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحثّ على القتال

(2)

.

وأمدّ الله تعالى نبيّه والمؤمنين بنصر من عنده وبجند من جنده، كما قال تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اللهِ} [الأنفال: 9 - 10].

وفي «صحيح البخاري» أنّ جبريل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما تعدّون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة نحوها. قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة»

(3)

. وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]. وقال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى} [الأنفال: 17].

وروي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم قال: «اللهم، إنّ هؤلاء قريش قد جاءت بخيلائها يكذّبون رسولك، فأنجز لي ما وعدتني»

(4)

. فأتاه جبريل، فقال:

(1)

أخرجه: أحمد (1/ 125)، ورجاله ثقات.

(2)

أخرجه: أحمد (1/ 117)، ورجاله ثقات.

(3)

أخرجه: البخاري (5/ 103)(3992) عن رفاعة بن رافع الزرقي.

(4)

أخرجه: الطبري في «تفسيره» (9/ 204) عن هشام بن عروة معضلا.

ص: 319

«خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فأخذ قبضة من حصباء الوادي فرمى بها نحوهم، وقال: «شاهت الوجوه» فلم يبق مشرك إلاّ دخل في عينيه ومنخره وفمه شيء، ثم كانت الهزيمة.

وقال حكيم بن حزام: سمعنا يوم بدر صوتا وقع من السّماء كأنّه صوت حصاة على طست، فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرّمية، فانهزمنا. ولما قدم الخبر على أهل مكة قالوا لمن أتاهم بالخبر: كيف حال الناس؟ قال:

لا شيء، والله إن كان إلاّ أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا، يقتلونا ويأسرونا كيف شاءوا، وايم الله، مع ذلك ما لمت النّاس؛ لقينا رجالا على خيل بلق بين السّماء والأرض ما يقوم لها شيء. وقتل الله صناديد كفّار قريش يومئذ؛ منهم عتبة بن ربيعة، وشيبة، والوليد بن عتبة، وأبو جهل، وغيرهم. وأسروا منهم سبعين.

وقصّة بدر يطول استقصاؤها، وهي مشهورة في التفسير وكتب الصحاح والسنن والمسانيد والمغازي والتواريخ وغيرها، وإنما المقصود هاهنا التنبيه على بعض مقاصدها.

وكان عدوّ الله إبليس قد جاء إلى المشركين في صورة سراقة بن مالك، وكانت يده في يد الحارث بن هشام، وجعل يشجعهم ويعدهم ويمنّيهم، فلمّا رأى الملائكة هرب وألقى نفسه في البحر. وقد أخبر الله عن ذلك بقوله تعالى:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ} [الأنفال: 48].

وفي «الموطإ» حديث مرسل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «ما رئي الشّيطان أحقر

ص: 320

ولا أدحر ولا أصغر من يوم عرفة، إلاّ ما رأى يوم بدر. قيل: وما رأى يوم بدر؟ قال: رأى جبريل يزع الملائكة»

(1)

.

فإبليس عدوّ الله يسعى جهده في إطفاء نور الله وتوحيده، ويغري بذلك أولياءه من الكفّار والمنافقين. فلمّا عجز عن ذلك بنصر الله نبيّه وإظهار دينه على الدّين كلّه، رضي بإلقاء الفتن بين المسلمين، واجتزى منهم بمحقّرات الذنوب حيث عجز عن ردّهم عن دينهم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ الشيطان قد أيس أن يعبده المصلّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»

(2)

.

خرّجه مسلم من حديث جابر.

وخرّج الإمام أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن الأحوص، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع: «ألا إنّ الشّيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبدا، ولكن سيكون له طاعة في بعض ما تحتقرون من أعمالكم، فيرضى بها»

(3)

.

وفي «صحيح الحاكم» عن ابن عبّاس أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجّة الوداع، فقال:«إنّ الشّيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم، ولكنّه يرضى أن يطاع فيما سوى ذلك؛ فيما تحاقرون من أعمالكم؛ فاحذروا، يا أيّها الناس، إنّي قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا: كتاب الله، وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

ولم يعظم على إبليس شيء أكبر من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وانتشار دعوته في مشارق الأرض ومغاربها؛ فإنّه أيس أن تعود أمّته كلّهم إلى الشرك الأكبر.

(1)

أخرجه: مالك في «الموطإ» (272) عن طلحة بن عبيد الله بن كريز مرسلا.

(2)

أخرجه: مسلم (8/ 138)(2812)، والترمذي (1937).

(3)

أخرجه: أحمد (3/ 426)، والترمذي (2159)، وابن ماجه (3055).

(4)

أخرجه: الحاكم (1/ 93)، وقال:«وذكر الاعتصام بالسنة في هذه الخطبة غريب ويحتاج إليها» .

ص: 321

قال سعيد بن جبير: لمّا رأى إبليس النبيّ صلى الله عليه وسلم قائما بمكّة يصلّي رنّ. ولمّا افتتح النبيّ صلى الله عليه وسلم مكّة رنّ رنّة أخرى؛ اجتمعت إليه ذريته، فقال: ايئسوا أن تردّوا أمّة محمد إلى الشرك بعد يومكم هذا، ولكن افتنوهم في دينهم، وأفشوا فيهم النوح والشّعر. خرّجه ابن أبي الدنيا.

وخرّج الطبرانيّ بإسناده، عن مجاهد، عن أبي هريرة، قال:«إنّ إبليس رنّ لمّا أنزلت فاتحة الكتاب، وأنزلت بالمدينة»

(1)

. والمعروف هذا عن مجاهد من قوله، قال: «رنّ إبليس أربع رنّات: حين لعن، وحين أهبط من الجنّة، وحين بعث محمّد صلى الله عليه وسلم، وحين أنزلت فاتحة الكتاب؛ وأنزلت بالمدينة. خرّجه وكيع وغيره.

وقال بعض التابعين: لمّا أنزلت هذه الآية {وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} الآية [آل عمران: 135]، بكى إبليس. يشير إلى شدّة حزنه بنزولها؛ لما فيها من الفرح لأهل الذنوب، فهو لا يزال في همّ وغمّ وحزن منذ بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ لما رأى منه ومن أمّته ما يهمّه ويغيظه.

قال ثابت: لمّا بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال إبليس لشياطينه: لقد حدث أمر فانظروا ما هو. فانطلقوا، ثم جاءوه، فقالوا: ما ندري. قال إبليس: أنا آتيكم بالخبر.

فذهب وجاء، قال: قد بعث محمد صلى الله عليه وسلم فجعل يرسل شياطينه إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيجيئون بصحفهم ليس فيها شيء. فقال: ما لكم لا تصيبون منهم شيئا؟ قالوا: ما صحبنا قوما قطّ مثل هؤلاء؛ نصيب منهم ثم يقومون إلى الصلاة، فيمحى ذلك. قال: رويدا، إنّهم عسى أن يفتح الله لهم الدنيا، هنالك تصيبون حاجتكم منهم.

(1)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (4788).

ص: 322

وعن الحسن، قال إبليس: سوّلت لأمّة محمد المعاصي، فقطعوا ظهري بالاستغفار، فسوّلت لهم ذنوبا لا يستغفرون منها، يعني الأهواء.

ولا يزال إبليس يرى في مواسم المغفرة والعتق من النار ما يسوؤه؛ فيوم عرفة لا يرى أصغر ولا أحقر ولا أدحر فيه منه؛ لما يرى من تنزّل الرّحمة وتجاوز الله عن الذّنوب العظام، إلا ما رئي يوم بدر.

وروي أنّه لمّا رأى نزول المغفرة للأمّة في حجّة الوداع يوم النّحر بالمزدلفة، أهوى يحثي على رأسه التراب، ويدعو بالويل والثبور. فتبسّم النبي صلى الله عليه وسلم ممّا رأى من جزع الخبيث.

وفي شهر رمضان يلطف الله بأمّة محمد صلى الله عليه وسلم فيغلّ فيه الشياطين ومردة الجنّ حتّى لا يقدروا على ما كانوا يقدرون عليه في غيره من تسويل الذنوب.

ولهذا تقلّ المعاصي في شهر رمضان في الأمّة لذلك. ففي «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا دخل رمضان فتّحت أبواب السّماء، وغلّقت أبواب جهنّم، وسلسلت الشّياطين»

(1)

. ولمسلم: «فتّحت أبواب الرّحمة» . وله أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا جاء رمضان فتّحت أبواب الجنّة، وغلّقت أبواب النّار، وصفّدت الشياطين» .

وخرّج منه البخاري ذكر فتح أبواب الجنّة.

وللترمذي وابن ماجه عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا كان أوّل ليلة من شهر رمضان صفّدت الشّياطين ومردة الجنّ، وغلّقت أبواب النّار، فلم يفتح منها باب؛ وفتحت أبواب الجنّة، فلم يغلق منها باب؛ وينادي مناد: يا باغي الخير

(1)

أخرجه: البخاري (4/ 149، 3/ 32)(1899)، ومسلم (3/ 121)(1079)، وأحمد (401/ 2، 378، 357، 281)، والنسائي (4/ 126).

ص: 323

أقبل، ويا باغي الشرّ أقصر، ولله عتقاء من النّار، وذلك كلّ ليلة»

(1)

. وفي رواية للنسائي: «وتغلّ فيه مردة الشياطين»

(2)

.

وللإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«أعطيت أمّتي في رمضان خمس خصال، لم تعطه أمّة قبلهم: خلوف فم الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتّى يفطروا، ويزيّن الله عز وجل كلّ يوم جنّته، ثم يقول: يوشك عبادي الصّالحون أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليك، وتصفّد فيه مردة الشّياطين، فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة. قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكنّ العامل إنّما يوفّى أجره إذا قضى عمله»

(3)

.

وفي ليلة القدر تنتشر الملائكة في الأرض، فيبطل سلطان الشّياطين، كما قال الله تعالى:{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 4 - 5]. وفي المسند عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى»

(4)

.

وفي «صحيح ابن حبّان» ، عن جابر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال في ليلة القدر:«لا يخرج شيطانها حتّى يخرج فجرها»

(5)

. وفي «المسند» من حديث

(1)

أخرجه: ابن ماجه (1642)، والترمذي (682).

وأعله البخاري بالوقف على مجاهد فيما نقله عنه الترمذي.

(2)

أخرجه: النسائي (4/ 129).

(3)

أخرجه: أحمد (2/ 292)، والبزار (963 - كشف) واشار إلى ضعفه، والبيهقي في «الشعب» (3602).

(4)

أخرجه: أحمد (2/ 519)، وابن خزيمة (2194)، وحسن الألباني إسناده وراجع: الصحيحة» (2205).

(5)

أخرجه: ابن حبان (3688).

ص: 324

عبادة بن الصّامت، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، أنّه قال في ليلة القدر:«لا يحلّ لكوكب أن يرمى به حتّى يصبح، وأن أمارتها أنّ الشّمس تخرج صبيحتها مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر، لا يحلّ للشّيطان أن يخرج معها يومئذ»

(1)

.

وروي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: إنّ الشيطان يطلع مع الشّمس كلّ يوم إلاّ ليلة القدر؛ وذلك أنّها تطلع لا شعاع لها.

وقال مجاهد في قوله تعالى: {سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]، قال:

سلام أن يحدث فيها داء أو يستطيع شيطان العمل فيها. وعنه قال: ليلة القدر ليلة سالمة لا يحدث فيها داء، ولا يرسل فيها شيطان. وعنه قال: هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا، ولا يحدث فيها أذى.

وعن الضحّاك، عن ابن عباس، قال: في تلك الليلة تصفّد مردة الجنّ، وتغلّ عفاريت الجنّ، وتفتح فيها أبواب السّماء كلّها، ويقبل الله فيها التوبة لكلّ تائب؛ فلذلك قال:{سَلامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5]. ويروى عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه، قال: لا يستطيع الشّيطان أن يصيب فيها أحدا بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد، ولا ينفذ فيها سحر ساحر. ويروى بإسناد ضعيف عن أنس مرفوعا:«أنّه لا تسري نجومها، ولا تنبح كلابها» .

وكلّ هذا يدلّ على كفّ الشّياطين فيها عن انتشارهم في الأرض، ومنعهم من استراق السّمع فيها من السّماء.

ابن آدم، لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي، أنت المختار من المخلوقات، ولك أعدّت الجنّة؛ إن اتقيت فهي أقطاع المتقين، والدنيا أقطاع إبليس؛ فهو فيها من المنظرين. فكيف رضيت لنفسك بالإعراض عن أقطاعك

(1)

أخرجه: أحمد (5/ 324).

ص: 325

ومزاحمة إبليس على أقطاعه، وأن تكون غدا معه في النّار من جملة أتباعه؟ إنّما طردناه عن السّماء لأجلك حيث تكبّر عن السّجود لأبيك، وطلبنا قربك؛ لتكون من خاصتنا وحزبنا، فعاديتنا وواليت عدوّنا، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: 50].

رعى الله من نهوى وإن كان ما رعى

حفظنا له العهد القديم فضيّعا

وصاحبت قوما كنت أنهاك عنهم

وحقّك ما أبقيت للصلح موضعا

أبشروا يا معاشر المسلمين، فهذه أبواب الجنّة الثمانية في هذا الشهر لأجلكم قد فتحت، ونسماتها على قلوب المؤمنين قد نفحت، وأبواب الجحيم كلّها لأجلكم مغلقة، وأقدام إبليس وذريّته من أجلكم موثقة.

ففي هذا الشهر يؤخذ من إبليس بالثار، وتستخلص العصاة من أسره فما يبقى لهم عنده آثار. كانوا أفراخه، قد غذّاهم بالشهوات في أوكاره، فهجروا اليوم تلك الأوكار. نقضوا معاقل حصونه بمعاول التوبة والاستغفار. خرجوا من سجنه إلى حصن التّقوى والإيمان، فأمنوا من عذاب النار. قصموا ظهره بكلمة التوحيد؛ فهو يشكو ألم الانكسار. في كلّ موسم من مواسم الفضل يحزن؛ ففي هذا الشّهر يدعو بالويل؛ لما يرى من تنزّل الرّحمة ومغفرة الأوزار. غلب حزب الرّحمن، وهرب حزب الشّيطان؛ فما بقي له سلطان، إلاّ على الكفّار. عزل سلطان الهوى، وصارت الدولة لسلطان التّقوى؛ {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} [الحشر: 2].

يا نداماي صحا القلب صحا

فاطردوا عنّي الصّبا والمرحا

هزم العقل جنودا للهوى

فاسدي لا تعجبوا إن صلحا

زجر الحقّ فؤادي فارعوى

وأفاق القلب منّي وصحا

بادروا التّوبة من قبل الرّدى

فمناديه ينادينا الوحا

ص: 326

هذا - عباد الله - شهر رمضان قد انتصف، فمن منكم حاسب فيه نفسه لله وانتصف؟ من منكم قام في هذا الشهر بحقّه الذي عرف؟ من منكم عزم قبل غلق أبواب الجنّة أن يبني له فيها غرفا من فوقها غرف؟ ألا إنّ شهركم قد أخذ في النّقص، فزيدوا أنتم في العمل، فكأنكم به وقد انصرف. فكلّ شهر فعسى أن يكون منه خلف. وأمّا شهر رمضان فمن أين لكم منه خلف؟!

تنصّف الشّهر والهفاه وانهدما

واختصّ بالفوز بالجنّات من خدما

وأصبح الغافل المسكين منكسرا

مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما

من فاته الزّرع في وقت البذار فما

تراه يحصد إلاّ الهمّ والنّدما

طوبى لمن كانت التّقوى بضاعته

في شهره وبحبل الله معتصما

***

ص: 327

‌المجلس الرابع في ذكر العشر الأواخر من رمضان

في «الصحيحين»

(1)

عن عائشة رضي الله عنها، قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله» . هذا لفظ البخاري. ولفظ مسلم: «أحيا الليل، وأيقظ أهله، وجدّ، وشدّ المئزر» . وفي رواية لمسلم عنها، قالت:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره»

(2)

.

كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصّ العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر:

فمنها: إحياء الليل؛ فيحتمل أنّ المراد إحياء الليل كلّه.

وقد روي من حديث عائشة من وجه فيه ضعف بلفظ: «وأحيا الليل كلّه» .

وفي «المسند» من وجه آخر عنها، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم، فإذا كان العشر - يعني الأخير - شمّر وشدّ المئزر

(3)

.

وخرّج الحافظ أبو نعيم بإسناد فيه ضعف، عن أنس، قال:«كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا شهد رمضان قام ونام، فإذا كان أربعا وعشرين لم يذق غمضا»

(4)

.

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 61)(2024)، ومسلم (3/ 176)(1174).

(2)

أخرجه: مسلم (3/ 176)(1175).

(3)

أخرجه: أحمد (6/ 146).

(4)

أخرجه: أبو نعيم في «الحلية» (6/ 306).

ص: 328

ويحتمل أن يريد بإحياء الليل إحياء غالبه. وقد روي عن بعض المتقدّمين من بني هاشم - ظنّه الراوي أبا جعفر محمد بن علي - أنّه فسّر ذلك بإحياء نصف الليل، وقال: من أحيا نصف الليل فقد أحيا الليل. وقد سبق مثل هذا في قول عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كلّه، كان يصوم شعبان إلاّ قليلا»

(1)

. ويؤيّده ما في «صحيح مسلم» عن عائشة، قالت:«ما أعلمه صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتّى الصباح»

(2)

.

وذكر بعض الشافعية في إحياء ليلتي العيدين أنّه تحصل فضيلة الإحياء بمعظم الليل. قال: وقيل: تحصل بساعة. وقد نقل الشافعيّ في «الأم» عن جماعة من خيار أهل المدينة ما يؤيده. ونقل بعض أصحابهم عن ابن عباس أنّ إحياءها يحصل بأن يصلّي العشاء في جماعة، ويعزم على أن يصلّي الصبح في جماعة.

وقال مالك في «الموطإ» : بلغني أنّ ابن المسيب قال: «من شهد العشاء ليلة القدر - يعني في جماعة - فقد أخذ بحظّه منها»

(3)

. وكذا قال الشافعي في القديم: من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظّه منها.

وقد روي هذا من حديث أبي هريرة مرفوعا: «من صلّى العشاء الآخرة في جماعة في رمضان، فقد أدرك ليلة القدر»

(4)

. خرّجه أبو الشيخ الأصبهاني.

ومن طريقه أبو موسى المديني. وذكر أنه روي من وجه آخر عن أبي هريرة نحوه. ويروى من حديث عليّ بن أبي طالب مرفوعا، لكن إسناده ضعيف جدّا.

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 161)(1156).

(2)

أخرجه: مسلم (2/ 170)(746).

(3)

أخرجه: مالك في «الموطإ» (213) بلاغا.

(4)

رواه أيضا ابن خزيمة في «صحيحه» (3/ 333)(2195)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (3/ 340)(3706)، والطبراني في «الكبير» ، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وراجع:«مجمع الزوائد» (2/ 231).

ص: 329

ويروى من حديث أبي جعفر محمد بن علي مرسلا: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«من أتى عليه رمضان صحيحا مسلما؛ صام نهاره، وصلّى وردا من ليله، وغضّ بصره، وحفظ فرجه، ولسانه، ويده، وحافظ على صلاته في الجماعة؛ وبكّر إلى جمعة؛ فقد صام الشهر، واستكمل الأجر، وأدرك ليلة القدر، وفاز بجائزة الرّبّ عز وجل» . قال أبو جعفر: جائزة لا تشبه جوائز الأمراء. خرّجه ابن أبي الدنيا.

ولو نذر قيام ليلة القدر لزمه أن يقوم من ليالي شهر رمضان ما يتيقّن به قيامها. فمن قال من العلماء: إنّها في جميع الشهر، يقول: يلزمه قيام جميع ليالي الشهر. ومن قال: هي في النصف الآخر من الشهر، قال: يلزمه قيام ليالي النصف الأخير منه. ومن قال: هي في العشر الأواخر من الشهر، قال: يلزمه قيام ليالي العشر كلها، وهو قول أصحابنا.

وإن كان نذره كذلك، وقد مضى بعض ليالي العشر؛ فإن قلنا: إنّها لا تنتقل في العشر، أجزأه من نذره أن يقوم ما بقي من ليالي العشر، ويقوم من عام قابل من أوّل العشر إلى وقت نذره. وإن قلنا: إنّها تنتقل في العشر لم يخرج من نذره بدون قيام ليالي العشر كلّها بعد عام نذره.

ولو نذر قيام ليلة غير معينة، لزمه قيام ليلة تامّة؛ فإن قام نصف ليلة ثم نام أجزأه أن يقوم من ليلة أخرى نصفها؛ قاله الأوزاعيّ، نقله عنه الوليد بن مسلم في كتاب «النذور» ، وهو شبيه بقول من قال من أصحابنا وغيرهم: إنّ الكفّارة يجزئ فيها أن يعتق نصفي رقبتين.

ومنها: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله للصّلاة في ليالي العشر دون غيره من الليالي. وفي حديث أبي ذرّ أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما قام بهم ليلة ثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، ذكر أنّه دعا أهله ونساءه ليلة سبع وعشرين

ص: 330

خاصّة. وهذا يدلّ على أنّه يتأكد إيقاظهم في آكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر، وخرّج الطبراني من حديث علي «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان وكلّ صغير وكبير يطيق الصلاة»

(1)

.

قال سفيان الثوري: أحبّ إليّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجّد بالليل، ويجتهد فيه، وينهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك. وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يطرق فاطمة وعليّا ليلا فيقول لهما:«ألا تقومان فتصلّيان»

(2)

.

وكان يوقظ عائشة بالليل إذا قضى تهجّده وأراد أن يوتر. وورد الترغيب في إيقاظ أحد الزوجين صاحبه للصّلاة، ونضح الماء في وجهه. وفي «الموطإ» أن عمر بن الخطاب كان يصلّي من الليل ما شاء الله أن يصلّي، حتى إذا كان نصف الليل أيقظ أهله للصّلاة، يقول لهم: الصّلاة الصّلاة، ويتلو هذه الآية:

{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها} الآية [طه: 132]

(3)

.

كانت امرأة حبيب أبي محمد تقول له بالليل: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد وزادنا قليل، وقوافل الصالحين قد سارت قدامنا، ونحن قد بقينا:

يا نائما باللّيل كم ترقد

قم يا حبيبي قد دنا الموعد

وخذ من اللّيل وأوقاته

وردا إذا ما هجع الرّقّد

(1)

أخرجه: الترمذي (795)، وأبو يعلى (372) إلى قوله:«من رمضان» . وأخرجه بتمامه الطبراني في «الأوسط» (7425)، وقال الهيثمي في «المجمع»:«وفي إسناد الطبراني عبد الغفار بن القاسم، وهو ضعيف» .

قلت: بل هو وضّاع كما قال أبو داود وغيره، وراجع: ترجمته في «الميزان» ، و «اللسان» .

(2)

أخرجه: البخاري (2/ 62)(1127)(7347)، ومسلم (2/ 187)(775)، وأحمد (1/ 77)، والنسائي (3/ 205 - 206).

(3)

أخرجه: مالك في «الموطإ» (ص 94).

ص: 331

من نام حتّى ينقضي ليله

لم يبلغ المنزل أو يجهد

ومنها: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يشدّ المئزر. واختلفوا في تفسيره؛ فمنهم من قال:

هو كناية عن شدّة جدّه واجتهاده في العبادة، كما يقال: فلان يشدّ وسطه ويسعى في كذا. وهذا فيه نظر؛ فإنّها قالت: «جدّ وشدّ المئزر» ، فعطفت «شدّ المئزر» على جدّه، والصحيح أنّ المراد اعتزاله للنساء، وبذلك فسّره السّلف والأئمة المتقدّمون؛ منهم سفيان الثوري. وقد ورد ذلك صريحا من حديث عائشة وأنس، وورد تفسيره بأنّه لم يأو إلى فراشه حتّى ينسلخ رمضان.

وفي حديث أنس: «وطوى فراشه، واعتزل النساء»

(1)

.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غالبا يعتكف العشر الأواخر، والمعتكف ممنوع من قربان النّساء بالنّصّ والإجماع، وقد قال طائفة من السّلف في تفسير قوله تعالى:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} [البقرة: 187]: إنه طلب ليلة القدر.

والمعنى في ذلك أنّ الله تعالى لما أباح مباشرة النّساء في ليالي الصيام، إلى أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أمر مع ذلك بطلب ليلة القدر؛ لئلاّ يشتغل المسلمون في طول ليالي الشهر بالاستمتاع المباح، فيفوتهم طلب ليلة القدر، فأمر مع ذلك بطلب ليلة القدر بالتهجّد من الليل، خصوصا في الليالي المرجوّ فيها ليلة القدر، فمن هاهنا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يصيب من أهله في العشرين من رمضان، ثم يعتزل نساءه ويتفرّغ لطلب ليلة القدر في العشر الأواخر.

ومنها: تأخيره للفطور إلى السّحر. روي عنه من حديث عائشة وأنس أنّه صلى الله عليه وسلم كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحورا. ولفظ حديث عائشة: «كان

(1)

سيأتي تخريجه قريبا.

ص: 332

رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان رمضان قام ونام، فإذا دخل العشر شدّ المئزر، واجتنب النساء، واغتسل بين الأذانين، وجعل العشاء سحورا»

(1)

. أخرجه ابن أبي عاصم، وإسناده مقارب.

وحديث أنس خرّجه الطبراني، ولفظه:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء، وجعل عشاءه سحورا»

(1)

. وفي إسناده حفص بن واقد، قال ابن عديّ: هذا الحديث من أنكر ما رأيت له. وروي أيضا نحوه من حديث جابر، خرّجه أبو بكر الخطيب، وفي إسناده من لا يعرف حاله.

وفي «الصحيحين» ما يشهد لهذه الروايات، ففيهما عن أبي هريرة، قال:

«نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال في الصّوم، فقال له رجل من المسلمين:

إنك تواصل يا رسول الله؟ فقال: وأيّكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربّي ويسقيني. فلمّا أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما، ثم يوما، ثم رأوا الهلال. فقال: لو تأخّر لزدتكم، كالتّنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا»

(2)

. فهذا يدلّ على أنّه واصل بالناس في آخر الشهر.

وروى عاصم بن كليب، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: ما واصل النبيّ صلى الله عليه وسلم وصالكم قطّ، غير أنّه قد أخّر الفطر إلى السّحور. وإسناده لا بأس به. وخرّج الإمام أحمد من حديث علي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل إلى السّحر

(3)

، وخرّجه الطبرانيّ من حديث جابر أيضا

(4)

.

(1)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (5653).

(2)

أخرجه: البخاري (3/ 49)(1965)، ومسلم (3/ 133)(1103).

(3)

أخرجه: أحمد (1/ 141).

(4)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (3756).

ص: 333

وخرّج ابن جرير الطبري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل إلى السّحر، ففعل ذلك بعض أصحابه، فنهاه، فقال: أنت تفعل ذلك.

فقال: «إنكم لستم مثلي، إنّي أظلّ عند ربّي يطعمني ويسقيني» .

وزعم ابن جرير أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يواصل في صيامه إلاّ إلى السّحر خاصّة، وأن ذلك يجوز لمن قوي عليه، ويكره لغيره. وأنكر أن يكون استدامة الصّيام في الليل كلّه طاعة عند أحد من العلماء؛ قال: وإنما كان يمسك بعضهم لمعنى آخر غير الصّيام؛ إمّا ليكون أنشط له على العبادة، أو إيثارا بطعامه على نفسه، أو لخوف مقلق منعه طعامه، أو نحو ذلك. فمقتضى كلامه أنّ من واصل ولم يفطر؛ ليكون أنشط له على العبادة من غير أن يعتقد أنّ إمساك الليل قربة، أنه جائز وإن أمسك تعبّدا بالمواصلة. فإن كان إلى السّحر وقوي عليه، لم يكره، وإلاّ كره. ولذلك قال أحمد وإسحاق: لا يكره الوصال إلى السّحر.

وفي «صحيح البخاري» عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا تواصلوا، فأيّكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السّحر. قالوا: فإنّك تواصل يا رسول الله؟ قال: إنّي لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني»

(1)

.

وظاهر هذا يدلّ على أنّه صلى الله عليه وسلم كان يواصل الليل كلّه، وقد يكون صلى الله عليه وسلم إنّما فعل ذلك لأنّه رآه أنشط له على الاجتهاد في ليالي العشر، ولم يكن ذلك مضعفا له عن العمل؛ فإنّ الله كان يطعمه ويسقيه.

واختلف في معنى إطعامه؛ فقيل: إنه كان يؤتى بطعام من الجنّة يأكله؛ وفي

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 48 - 49)(1963)، وأبو داود (2361).

ص: 334

هذا نظر؛ فإنّه لو كان كذلك لم يكن مواصلا، وقد أقرّهم على قولهم له: إنّك تواصل. لكن روى عبد الرّزّاق في كتابه عن ابن جريج، أخبرني عمرو بن دينار: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، قالوا: فإنّك تواصل؟ قال: وما يدريكم لعلّ ربّي يطعمني ويسقيني

(1)

. وهذا مرسل.

وفي رواية لمسلم، من حديث أنس:«إنّي أظلّ يطعمني ربّي ويسقيني»

(2)

وإنما يقال: ظلّ يفعل كذا، إذا كان نهارا، ولو كان أكلا حقيقيّا كان منافيا للصّيام، والصحيح أنّه إشارة إلى ما كان الله يفتحه عليه في صيامه وخلوته بربّه، لمناجاته وذكره من موادّ أنسه ونفحات قدسه، فكان يرد بذلك على قلبه من المعارف الإلهية والمنح الربانية ما يغذّيه ويغنيه عن الطّعام والشراب. كما قيل:

لها أحاديث من ذكراك تشغلها

عن الطعام وتلهيها عن الزّاد

لها بوجهك نور تستضيء به

وقت المسير وفي أعقابها حادي

إذا شكت من كلال السّير أوعدها

روح القدوم فتحيا عند ميعاد

الذّكر قوت قلوب العارفين، يغنيهم عن الطعام والشراب، كما قيل:

أنت ريّي إذا ظمئت إلى الماء

وقوتي إذا أردت الطّعاما

لمّا جاع المجتهدون شبعوا من طعام المناجاة. فأفّ لمن باع لذّة المناجاة بفضل لقمة.

يا من لحشا المحبّ بالشّوق حشا

ذا سرّ سراك في الدّجا كيف فشا

هذا المولى إلى المماليك مشا

لا كان عيشا أورث القلب غشا

ويتأكّد تأخير الفطر في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر. قال زرّ بن حبيش

(1)

أخرجه: عبد الرزاق في «مصنفه» (7756).

(2)

أخرجه: مسلم (3/ 134)(1104)، والبخاري أيضا (7241).

ص: 335

في ليلة سبع وعشرين: من استطاع منكم أن يؤخّر فطره فليفعل وليفطر على ضياح لبن. ورواه بعضهم عن زرّ، عن أبيّ بن كعب مرفوعا، ولا يصح.

وضياح اللبن، وروي «ضيح» بالضاد المعجمة والياء آخر الحروف، هو اللبن الخاثر الممزوج بالماء.

وروى أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده عن علي، قال: إن وافق ليلة القدر وهو يأكل، أورثه داء لا يفارقه حتّى يموت. وخرّجه من طريقه أبو موسى المديني.

وكأنّه يريد: إذا وافق دخولها أكله، والله أعلم.

ومنها: اغتساله بين العشاءين، وقد تقدّم من حديث عائشة:«واغتسل بين الأذانين» . والمراد: أذان المغرب والعشاء.

وروي من حديث علي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بين العشاءين كلّ ليلة، يعني من العشر الأواخر. وفي إسناده ضعف. وروي عن حذيفة أنّه قام مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة من رمضان، فاغتسل النبيّ صلى الله عليه وسلم وستره حذيفة، وبقيت فضلة فاغتسل بها حذيفة وستره النبيّ صلى الله عليه وسلم. خرّجه ابن أبي عاصم. وفي رواية أخرى عن حذيفة، قال: قام النبيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة من رمضان في حجرة من جريد النّخل، فصبّ عليه دلوا من ماء.

وقال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسلوا كلّ ليلة من ليالي العشر الأواخر. وكان النّخعيّ يغتسل في العشر كلّ ليلة، ومنهم من كان يغتسل ويتطيّب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر، فأمر زر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان. وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيّب ولبس حلّة إزارا ورداء، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل.

وكان أيوب السّختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين وأربع وعشرين، ويلبس ثوبين جديدين، ويستجمر ويقول: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة أهل المدينة،

ص: 336

والتي تليها ليلتنا، يعني البصريين. وقال حمّاد بن سلمة: كان ثابت البناني، وحميد الطويل يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيّبان، ويطيّبون المسجد بالنّضوح والدّخنة في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر. وقال ثابت: كان لتميم الداريّ حلّة اشتراها بألف درهم، كان يلبسها في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر.

فتبيّن بهذا أنّه يستحبّ في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظّف والتزيّن، والتطيب بالغسل والطّيب واللباس الحسن، كما يشرع ذلك في الجمع والأعياد، وكذلك يشرع أخذ الزّينة بالثياب في سائر الصّلوات، كما قال تعالى:{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]. وقال ابن عمر:

«الله أحقّ أن يتزيّن له» . وروي عنه مرفوعا.

ولا يكمل التزيّن الظاهر إلا بتزين الباطن؛ بالتّوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب وأوضارها؛ فإنّ زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئا. قال الله تعالى:{يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26].

إذا المرء لم يلبس ثيابا من التّقى

تقلّب عريانا وإن كان كاسيا

لا يصلح لمناجاة الملوك في الخلوات إلاّ من زيّن ظاهره وباطنه، وطهّرهما خصوصا لملك الملوك الذي يعلم السّرّ وأخفى، وهو لا ينظر إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فمن وقف بين يديه فليزيّن له ظاهره باللباس، وباطنه بلباس التّقوى. أنشد الشّبليّ:

قالوا غدا العيد ماذا أنت لابسه

فقلت خلعة ساق حبّه جرعا

فقر وصبر هما ثوبان تحتهما

قلب يرى إلفه الأعياد والجمعا

أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به

يوم التّزاور في الثّوب الذي خلعا

الدّهر لي مأثم إن غبت يا أملي

والعيد ما كنت لي مرأى ومستمعا

ص: 337

ومنها: الاعتكاف: ففي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها، «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتّى توفّاه الله»

(1)

. وفي «صحيح البخاري» عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كلّ رمضان عشرة أيام. فلمّا كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين»

(2)

.

وإنما كان يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر التي يطلب فيها ليلة القدر، قطعا لأشغاله، وتفريغا لباله، وتخلّيا لمناجاة ربّه وذكره ودعائه. وكان يحتجر حصيرا يتخلى فيها عن الناس، فلا يخالطهم، ولا يشتغل بهم؛

ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحبّ له مخالطة النّاس، حتّى ولا لتعليم علم، وإقراء قرآن، بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتخلّي بمناجاة ربّه وذكره ودعائه. وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشّرعية، وإنما يكون في المساجد؛ لئلاّ يترك به الجمع والجماعات؛ فإنّ الخلوة القاطعة عن الجمع والجماعات منهيّ عنها.

سئل ابن عبّاس عن رجل يصوم النّهار ويقوم الليل، ولا يشهد الجمعة والجماعة؟ قال: هو في النار.

فالخلوة المشروعة لهذه الأمة هي الاعتكاف في المساجد، خصوصا في شهر رمضان، خصوصا في العشر الأواخر منه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله.

فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره، وقطع عن نفسه كلّ شاغل يشغله عنه، وعكف بقلبه وقالبه على ربّه وما يقرّبه منه، فما بقي له همّ سوى الله، وما يرضيه عنه. كما كان داود الطّائيّ يقول في ليله: همّك عطّل عليّ

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 62)(2026)، ومسلم (3/ 175)(1172)، وأحمد (6/ 92، 6/ 279، 232)، وأبو داود (2462).

(2)

أخرجه: البخاري (3/ 67)، وأبو داود (2466)، وابن ماجه (1769).

ص: 338

الهموم، وحالف بيني وبين السّهاد، وشوقي إلى النّظر إليك أوبق منيّ اللّذات، وحال بيني وبين الشّهوات.

ما لي شغل سواه ما لي شغل

ما يصرف عن قلبي هواه عذل

ما أصنع إن جفا وخاب الأمل

منّي بدل ومنه ما لي بدل

فمعنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق، وكلّما قويت المعرفة بالله والمحبّة له، والأنس به، أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كلّ حال.

كان بعضهم لا يزال منفردا في بيته، خاليا بربّه، فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: «أنا جليس من ذكرني» !

(1)

.

أوحشتني خلواتي

بك من كلّ أنيسي

وتفرّدت فعاينتك

بالغيب جليسي

يا ليلة القدر للعابدين اشهدي، يا أقدام القانتين اركعي لربّك واسجدي، يا ألسنة السّائلين جدّي في المسألة واجتهدي.

يا رجال اللّيل جدّوا

ربّ داع لا يردّ

ما يقوم اللّيل إلاّ

من له عزم وجدّ

ليلة القدر عند المحبّين ليلة الحظوة بأنس مولاهم وقربه، وإنما يفرّون من ليالي البعد والهجر. كان ببغداد موضعان يقال لأحدهما دار الملك، والأخرى القطيعة، فجاز بعض العارفين بملاّح في سفينة، فقال له: احملني معك إلى

(1)

روي عن كعب قال: قال موسى عليه السلام: يا رب أقريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ فقيل له: يا موسى؛ أنا جليس من ذكرني

» رواه البيهقي في «الشعب» (1/ 451)(680)، وابن أبي شيبة (1/ 108)(1224)، و (7/ 73)(34287).

ص: 339

دار الملك، فقال له الملاح: ما أقصد إلاّ القطيعة، فصاح العارف: لا بالله، لا بالله، منها أفرّ.

وليلة بتّ بأكنافها

تعدل عندي ليلة القدر

كانت سلاما لسروري بها

بالوصل حتّى مطلع الفجر

يا من ضاع عمره في لا شيء، استدرك ما فاتك في ليلة القدر؛ فإنّها تحسب بالعمر.

وليلة وصل بات منجز وعده

سميري فيها بعد طول مطال

شفيت بها قلبا أطيل عليله

زمانا فكانت ليلة بليالي

قال الله تعالى: {إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1 - 3]

(1)

.

قال مالك: بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أري أعمار النّاس قبله، أو ما شاء الله من ذلك، فكأنّه تقاصر أعمار أمّته ألاّ يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر

(2)

. وروي عن مجاهد،

ص: 340

أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السّلاح ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك؛ فأنزل الله تعالى هذه السورة {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} الذي لبس فيها ذلك الرجل السّلاح في سبيل الله ألف شهر. وقال النّخعيّ: العمل فيها خير من العمل في ألف شهر.

وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه»

(1)

. وفي «المسند» عن عبادة بن الصّامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من قامها ابتغاءها، ثم وقعت له غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر»

(2)

. وفي «المسند» و «النسائي» عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال في شهر رمضان:«فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم»

(3)

.

قال جويبر: قلت للضحّاك: أرأيت النفساء والحائض والمسافر والنّائم لهم في ليلة القدر نصيب؟ قال: نعم، كل من تقبّل الله عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر.

إخواني، المعوّل على القبول لا على الاجتهاد، والاعتبار ببرّ القلوب لا بعمل الأبدان. ربّ قائم حظّه من قيامه السّهر؛ كم من قائم محروم، ومن نائم مرحوم؛ هذا نام وقلبه ذاكر، وهذا قام وقلبه فاجر.

إنّ المقادير إذا ساعدت

ألحقت النّائم بالقائم

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 59)(1901)(2014)، ومسلم (2/ 177)(760).

(2)

أخرجه: أحمد (5/ 318).

(3)

أخرجه: أحمد (2/ 230)، وابن ماجه (1644)، والنسائي (4/ 129). وهو منقطع، لكن له شواهد كثيرة يحسّن بها الحديث.

ص: 341

لكنّ العبد مأمور بالسّعي في اكتساب الخيرات والاجتهاد في الأعمال الصالحات؛ وكلّ ميسّر لما خلق له. أمّا أهل السعادة فييسّرون لعمل أهل السعادة، وأمّا أهل الشّقاوة فييسّرون لعمل أهل الشقاوة، {فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى} [الليل: 5 - 10]. فالمبادرة المبادرة إلى اغتنام العمل فيما بقي من الشهر، فعسى أن يستدرك به ما فات من ضياع العمر.

تولّى العمر في سهو

وفي لهو وفي خسر

فيا ضيعة ما أنفق

ت في الأيّام من عمري

وما لي في الّذي ضيّغ

ت من عمري من عذر

فما أغفلنا عن وا

جبات الحمد والشكر

أما قد خصّنا الله

بشهر أيّما شهر

بشهر أنزل الرّحما

ن فيه أشرف الذّكر

وهل يشبهه شهر

وفيه ليلة القدر

فكم من خبر صحّ

بما فيها من الخير

روينا عن ثقات أنّ

ها تطلب في الوتر

فطوبى لامرئ يطلب

ها في هذه العشر

ففيها تنزل الأملا

ك بالأنوار والبرّ

وقد قال: سلام هـ

ي حتّى مطلع الفجر

ألا فادّخروها إنّ

ها من أنفس الذّخر

فكم من معتق فيها

من النّار ولا يدري

***

ص: 342

‌المجلس الخامس في ذكر السّبع الأواخر من رمضان

في «الصحيحين» عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنّ رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السّبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أرى رؤياكم قد تواطأت في السّبع الأواخر، فمن كان متحرّيها فليتحرّها في السّبع الأواخر»

(1)

. وفي «صحيح مسلم» عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«التمسوها في العشر الأواخر، فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبنّ على السّبع البواقي»

(2)

.

قد ذكرنا فيما تقدّم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في شهر رمضان على طلب ليلة القدر، وأنّه اعتكف مرّة العشر الأول منه، ثم طلبها فاعتكف بعد ذلك العشر الأوسط في طلبها وأنّ ذلك تكرّر منه غير مرّة، ثم استقرّ أمره على اعتكاف العشر الأواخر في طلبها، وأمر بطلبها فيه؛ ففي «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان»

(3)

.

وفي رواية للبخاري: «في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» . وله من حديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«التمسوها في العشر الأواخر من رمضان»

(4)

. ولمسلم من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«التمسوها في العشر الغوابر»

(5)

. والأحاديث في المعنى كثيرة.

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 60)(1158)(2015)، ومسلم (3/ 170)(1165).

(2)

أخرجه: مسلم (3/ 170)(1165).

(3)

أخرجه: البخاري (3/ 60)(2017)، ومسلم (3/ 173)(1169).

(4)

أخرجه: البخاري (3/ 61)(2021).

(5)

أخرجه: مسلم (3/ 170)(1165).

ص: 343

وكان يأمر بالتماسها في أوتار العشر الأواخر. ففي «صحيح البخاري» عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان؛ في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى»

(1)

. وفي رواية له: «هي في العشر؛ في سبع يمضين، أو سبع يبقين» .

وخرّج الإمام أحمد والنّسائي والترمذيّ من حديث أبي بكرة، قال: ما أنا بملتمسها لشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ في العشر الأواخر؛ فإنّي سمعته يقول: «التمسوها في تسع يبقين، أو سبع يبقين، أو خمس يبقين، أو ثلاث يبقين، أو آخر ليلة»

(2)

. وكان أبو بكرة يصلّي في العشرين من رمضان كصلاته في سائر السّنة، فإذا دخل العشر اجتهد، ثم بعد ذلك أمر بطلبها في السّبع الأواخر.

وفي «المسند» وكتاب النسائي عن أبي ذرّ، قال: «كنت أسأل الناس عنها - يعني ليلة القدر - فقلت: يا رسول الله، أخبرني عن ليلة القدر، أفي رمضان هي، أو في غيره؟ قال: بل هي في رمضان. قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا، فإذا قبضوا رفعت، أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة. قلت: في أيّ رمضان هي؟ قال: التمسوها في العشر الأول والعشر الأواخر. قلت: في أي العشرين هي؟ قال: في العشر الأواخر، لا تسألني عن شيء بعدها. ثم حدّث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اهتبلت غفلته، فقلت: يا رسول الله، أقسمت عليك بحقّي لما أخبرتني، في أيّ العشر هي؟ فغضب عليّ غضبا لم يغضب مثله منذ صحبته، وقال: التمسوها في

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 61)(2021).

(2)

أخرجه: أحمد (5/ 36 - 39)، والترمذي (794)، وقال:«حسن صحيح» .

ص: 344

السّبع الأواخر؛ لا تسألني عن شيء بعدها»

(1)

. وخرّجه ابن حبّان في «صحيحه» والحاكم.

وفي رواية لهما: أنّه قال: «ألم أنهك أن تسألني عنها؟ إن الله لو أذن لي أن أخبركم بها لأخبرتكم، لا آمن أن تكون في السّبع الأواخر»

(2)

. ففي هذه الرواية أنّ بيان النبي صلى الله عليه وسلم لليلة القدر انتهى إلى أنّها في السّبع الأواخر، ولم يزد على ذلك شيئا، وهذا ممّا يستدلّ به من رجّح ليلة ثلاث وعشرين وخمس وعشرين على ليلة إحدى وعشرين؛ فإنّ ليلة إحدى وعشرين ليست من السّبع الأواخر بلا تردّد.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أخر أنّه بيّن أنّها ليلة سبع وعشرين، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

واختلف في أوّل السّبع الأواخر: فمنهم من قال: أوّل السّبع ليلة ثلاث وعشرين، على حساب نقصان الشّهر دون تمامه؛ لأنّه المتيقّن. وروي هذا عن ابن عباس، وسيأتي كلامه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وفي «صحيح البخاري» عن بلال رضي الله عنه، قال: إنّها أوّل السّبع من العشر الأواخر

(3)

. وخرّجه ابن أبي شيبة

(4)

، وعنده قال: ليلة ثلاث وعشرين.

وهذا قول مالك، قال: أرى - والله أعلم - أنّ التاسعة ليلة إحدى وعشرين، والسابعة ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين.

وتأوّله عبد الملك بن حبيب على أنّه إنما يحسب كذلك إذا كان الشهر ناقصا،

(1)

أخرجه: أحمد (5/ 171)، والنسائي في «الكبرى» (3413).

(2)

أخرجه: ابن خزيمة (2170، 2169)، والحاكم (1/ 437).

(3)

أخرجه: البخاري (6/ 19 - 20).

(4)

أخرجه: ابن أبي شيبة (9523).

ص: 345

وليس هذا بشيء؛ فإنّه إنّما أمر بالاجتهاد في هذه الليالي على هذا الحساب، وهذا لا يمكن أن يكون مراعى بنقصان الشهر في آخره.

وكان أيّوب السّختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين، ويمسّ طيبا، وليلة أربع وعشرين، ويقول: ليلة ثلاث وعشرين ليلة أهل المدينة، وليلة أربع وعشرين ليلتنا - يعني أهل البصرة. وكذلك كان ثابت وحميد يفعلان.

وكانت طائفة تجتهد ليلة أربع وعشرين، روي عن أنس والحسن، وروي عنه، قال: رقبت الشّمس عشرين سنة، ليلة أربع وعشرين، فكانت تطلع لا شعاع لها. وروي عن ابن عباس ذكره البخاري عنه. وقيل: إن المحفوظ عنه أنّها ليلة ثلاث وعشرين، كما سبق. وقد تقدّم حديث «إنزال القرآن في ليلة أربع وعشرين» . وكذلك أبو سعيد الخدريّ، وأبو ذرّ، حسبا الشهر تامّا، فيكون عندهما أوّل السّبع الأواخر ليلة أربع وعشرين.

وممّن اختار هذا القول ابن عبد البر، واستدلّ بأنّ الأصل تمام الشهر، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكماله إذا غمّ، مع احتمال نقصانه. وكذلك رجّحه بعض أصحابنا. وقد تقدّم من حديث أنس رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان ليلة أربع وعشرين لم يذق غمضا، وإسناده ضعيف.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدلّ على أنّ أول السّبع البواقي ليلة ثلاث وعشرين. ففي مسند الإمام أحمد، عن جابر: أنّ عبد الله بن أنيس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، وقد خلت اثنتان وعشرون ليلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«التمسوها في هذه السّبع الأواخر التي بقين من الشهر»

(1)

.

وفيه أيضا عن عبد الله بن أنيس أنّهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر، وذلك

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 336)، وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف.

ص: 346

مساء ليلة ثلاث وعشرين، فقال:«التمسوها هذه الليلة» . فقال رجل من القوم: فهي إذن يا رسول الله أولى ثمان؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّها ليست بأولى ثمان، ولكنها أولى سبع؛ إنّ الشّهر لا يتمّ»

(1)

. وفيه أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«كم مضى من الشهر؟» قلنا: مضت ثنتان وعشرون، وبقي ثمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا، بل مضت ثنتان وعشرون، وبقي سبع، اطلبوها الليلة»

(2)

.

وقد يحمل هذا على شهر خاصّ اطّلع النبيّ صلى الله عليه وسلم على نقصانه، وهو بعيد.

ويدلّ على خلافه أنّه روي في تمام حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا، ثم خنس إبهامه في الثالثة» . فهذا يدلّ على أنّه تشريع عامّ، وأنّه حسب الشّهر على تقدير نقصانه أبدا؛ لأنّه المتيقّن. كما ذهب إليه أيّوب ومالك وغيرهما، وعلى قولهما تكون ليلة سابعة تبقى ليلة ثلاث وعشرين، وليلة خامسة تبقى ليلة خمس وعشرين، وليلة تاسعة تبقى ليلة إحدى وعشرين.

وقد روي عن النّعمان بن بشير رضي الله عنه أنّه أنكر أن تحسب ليلة القدر بما مضى من الشهر، وأخبر أنّ الصّحابة يحسبونها بما بقي منه، وهذا الاحتمال إنّما يكون في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم:«التمسوها في التاسعة، والسابعة، والخامسة»

(3)

. وقد خرّجه «البخاري» من حديث عبادة رضي الله عنه، ومسلم من حديث أبي سعيد؛ فإنّه يحتمل أن يراد به التاسعة والسابعة والخامسة، مما يبقى ومما يمضي.

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 495).

(2)

أخرجه: أحمد (2/ 251)، وابن ماجه (1656).

(3)

أخرجه: البخاري (3/ 61)(2023)، ومسلم (3/ 173)(1167).

ص: 347

فأمّا حديث ابن عبّاس وأبي بكرة وما في معناهما؛ فإنّها مقيدة بالباقي من الشهر، فلا يحتمل أن يراد به الماضي، وحينئذ يتوجّه الاختلاف السّابق في أنّه: هل يحسب على تقدير تمام الشهر أو نقصانه؟ وحديث ابن عبّاس قد روي بالشكّ فيما مضى أو يبقى. وقد خرّجه البخاري بالوجهين.

وحديث أبي ذرّ في قيام النبي صلى الله عليه وسلم بهم أفراد العشر الأواخر قد خرّجه أبو داود الطيالسي بلفظ صريح أنّه قام بهم أشفاع العشر الأواخر، وحسبها أوتارا بالنسبة إلى ما يبقى من الشهر، وقدّره تامّا، وجعل الليلة التي قامها حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح ليلة ثمان وعشرين، وهي الثالثة مما يبقى. وقد قيل:

إن ذلك من تصرّف بعض الرّواة بما فهمه من المعنى، والله أعلم.

وعلى قياس من حسب الليالي الباقية من الشهر - على تقدير نقصان الشهر - ينبغي أن يكون عنده أوّل العشر الأواخر ليلة العشرين؛ لاحتمال أن يكون الشهر ناقصا، فلا يتحقّق كونها عشر ليال، بدون إدخال ليلة العشرين فيها.

وقد يقال: بل العشر الأواخر عبارة عمّا بعد انقضاء العشرين الماضية من الشّهر، وسواء كانت تامّة أو ناقصة، فهي المعبّر عنها بالعشر الأواخر، وقيامها هو قيام العشر الأواخر. وهذا كما يقال: صام عشر ذي الحجة، وإنما يصام منه تسعة أيام؛ ولهذا كان ابن سيرين يكره أن يقال: صام عشر ذي الحجة، وقال: إنّما يقال: صام التسع. ومن لم يكرهه، وهم الجمهور، فقد يقولون:

الصّيام المضاف إلى العشر هو صيام ما يمكن منه، وهو ما عدا يوم النحر.

ويطلق على ذلك: العشر؛ لأنّه أكثر العشر؛ والله أعلم.

وقد اختلف الناس في ليلة القدر اختلافا كثيرا، فحكي عن بعضهم أنّها رفعت؛ وحديث أبي ذرّ يردّ ذلك. وروي عن محمد ابن الحنفيّة أنّها في كلّ

ص: 348

سبع سنين مرّة، وفي إسناده ضعف. وعن بعضهم أنّها في كلّ السّنة، حكي عن ابن مسعود وطائفة من الكوفيين، وروي عن أبي حنيفة. وقال الجمهور:

هي في رمضان كلّ سنة، ثم منهم من قال: هي في الشّهر كلّه. وحكي عن بعض المتقدّمين أنّها أوّل ليلة منه. وقالت طائفة: هي في النصف الثاني منه.

وقد حكي عن أبي يوسف ومحمّد - وقد تقدّم - قول من قال: إنّها ليلة بدر، على اختلافهم؛ هل هي ليلة سبع عشرة، أو تسع عشرة.

وقال الجمهور: هي منحصرة في العشر الأواخر، واختلفوا في أي ليالي العشر أرجى؛ فحكي عن الحسن ومالك أنّها تطلب في جميع ليالي العشر؛ أشفاعه وأوتاره، ورجّحه بعض أصحابنا، وقال: لأنّ قول النبي صلى الله عليه وسلم:

«التمسوها في تاسعة تبقى، أو سابعة تبقى، أو خامسة تبقى» إن حملناه على تقدير كمال الشهر، كانت أشفاعا، وإن حملناه على ما يبقى منه حقيقة كان الأمر موقوفا على كمال الشهر، فلا يعلم قبله. فإن كان تامّا كانت الليالي المأمور بطلبها أشفاعا، وإن كان ناقصا كانت أوتارا. فيوجب ذلك الاجتهاد في القيام في كلا الليلتين؛ الشّفع منها والوتر.

قال الأكثرون: بل بعض لياليه أرجى من بعض، وقالوا: الأوتار أرجى في الجملة. ثم اختلفوا: أيّ أوتاره أرجى؛ فمنهم من قال: ليلة إحدى وعشرين، وهو المشهور عن الشافعي؛ لحديث أبي سعيد الخدريّ، وقد ذكرناه فيما سبق. وحكي عنه أنّها تطلب ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، قال في «القديم»: كأني رأيت - والله أعلم - أقوى الأحاديث فيه ليلة إحدى وعشرين، وليلة ثلاث وعشرين. وقد جاء في ليلة سبع عشرة، وليلة أربع وعشرين، وليلة سبع وعشرين. انتهى. وقد روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنّها تطلب ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين.

ص: 349

وحكي للشافعي قول آخر أنّ أرجاها ليلة ثلاث وعشرين. وهذا قول أهل المدينة. وحكاه سفيان الثوريّ عن أهل مكّة والمدينة. وممن روي عنه «أنّه كان يوقظ أهله فيها» ابن عباس وعائشة، وهو قول مكحول. وروى رشدين بن سعد، عن زهرة بن معبد، قال: أصابني احتلام في أرض العدوّ وأنا في البحر ليلة ثلاث وعشرين في رمضان، فذهبت لأغتسل فسقطت في الماء، فإذا الماء عذب، فناديت أصحابي أعلمهم أنّي في ماء عذب. قال ابن عبد البرّ: هذه الليلة تعرف بليلة الجهنيّ بالمدينة، يعني عبد الله بن أنيس؛ وقد روي عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بقيامها.

وفي «صحيح مسلم» عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر: «أريت أنّي أسجد صبيحتها في ماء وطين. فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح يوم ثلاث وعشرين وعلى جبهته أثر الماء والطّين»

(1)

.

وقال سعيد بن المسيّب: كان النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فقال: ألا أخبركم بليلة القدر؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، فسكت ساعة، قال: لقد قلت لكم ما قلت آنفا، وأنا أعلمها، ثم أنسيتها، أرأيتم يوما كنّا بموضع كذا وكذا، أيّ ليلة هي؟ في غزوة غزاها، فقالوا: سرنا فقفلنا حتى استقام ملأ القوم على أنّها ليلة ثلاث وعشرين. خرّجه عبد الرزاق في كتابه

(2)

.

ورجّحت طائفة ليلة أربع وعشرين، وهم الحسن وأهل البصرة؛ وقد روي عن أنس. وكان حميد وأيّوب وثابت يحتاطون فيجمعون بين الليلتين، أعني ليلة ثلاث وأربع.

ورجّحت طائفة ليلة سبع وعشرين، وحكاه الثوريّ عن أهل الكوفة، وقال:

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 173)(1167).

(2)

أخرجه: عبد الرزاق في «مصنفه» (7687)، وهو مرسل.

ص: 350

نحن نقول: هي ليلة سبع وعشرين؛ لما جاءنا عن أبيّ بن كعب. وممّن قال بهذا أبيّ بن كعب - وكان يحلف عليه ولا يستثني - وزرّ بن حبيش، وعبدة بن أبي لبابة.

وروي عن قنان بن عبد الله النهمي، قال: سألت زرّا عن ليلة القدر، فقال:

كان عمر وحذيفة وأناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يشكّون أنّها ليلة سبع وعشرين. خرّجه ابن أبي شيبة

(1)

، وهو قول أحمد وإسحاق.

وذهب أبو قلابة وطائفة إلى أنّها تنتقل في ليالي العشر. وروي عنه أنّها تنتقل في أوتاره خاصّة. وممن قال بانتقالها في ليالي العشر: المزنيّ، وابن خزيمة.

وحكاه ابن عبد البرّ عن مالك والثوريّ والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور؛ وفي صحّة ذلك عنهم بعد؛ وإنّما قول هؤلاء أنّها في العشر، وتطلب في لياليه كلّه.

واختلفوا في أرجى لياليه كما سبق، واستدلّ من رجّح ليلة سبع وعشرين بأنّ أبيّ بن كعب كان يحلف على ذلك، ويقول: بالآية أو بالعلامة التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها. خرّجه مسلم

(2)

.

وخرّجه أيضا بلفظ آخر عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه، قال: والله، إنّي لأعلم أيّ ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين.

وفي «مسند الإمام أحمد» عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رجلا قال: يا رسول الله، إنّي شيخ كبير عليل يشقّ عليّ القيام، فمرني بليلة توفّقني فيها لليلة القدر.

قال: «عليك بالسابعة»

(3)

. وإسناده على شرط البخاري.

(1)

أخرجه: ابن أبي شيبة في «مصنفه» (9514).

(2)

أخرجه: مسلم (2/ 178)(762).

(3)

أخرجه: أحمد (1/ 240)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 312 - 313) من طريق الإمام أحمد.

ص: 351

وروى الإمام أحمد أيضا، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، أنبأنا شعبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان منكم متحرّيها فليتحرّها ليلة سبع وعشرين» ، أو قال:«تحرّوها ليلة سبع وعشرين» ، يعني ليلة القدر

(1)

. ورواه شبابة ووهب بن جرير، عن شعبة مثله. ورواه أسود بن عامر عن شعبة مثله، وزاد «في السبع البواقي» .

قال شعبة: وأخبرني رجل ثقة عن سفيان أنّه إنّما قال: «في السّبع البواقي» ، يعني لم يقل «ليلة سبع وعشرين». قال أحمد في رواية ابنه صالح: الثقة هو يحيى بن سعيد. قال شعبة: فلا أدري أيّهما. قال: ورواه عمرو، عن شعبة، وقال في حديثه:«ليلة سبع وعشرين» ، أو قال:«في السّبع الأواخر» بالشّكّ، فرجع الأمر إلى أنّ شعبة شكّ في لفظه.

ورواه حمّاد بن زيد، عن أيّوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانوا لا يزالون يقصّون على النبي صلى الله عليه وسلم أنّها الليلة السابعة من العشر الأواخر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت أنّها ليلة السابعة في العشر الأواخر، فمن كان متحرّيها فليتحرّها ليلة السابعة من العشر الأواخر» . كذا رواه حنبل بن إسحاق، عن عارم، عن حمّاد، وكذا خرّجه الطحاويّ

(2)

، عن إبراهيم بن مرزوق، عن عارم.

ورواه البخاري في «صحيحه» عن عارم، إلاّ أنّه لم يذكر لفظة:«ليلة السابعة» ، بل قال: من كان متحرّيها فليتحرّها في العشر الأواخر

(3)

.

ورواه عبد الرزّاق في كتابه عن معمر، عن أيّوب، عن نافع، عن ابن

(1)

أخرجه: أحمد (2/ 27)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 91).

(2)

أخرجه: الطحاوي في «شرح المعاني» (3/ 91).

(3)

أخرجه: البخاري (3/ 60)(2015).

ص: 352

عمر رضي الله عنهما، قال:«جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني رأيت في النوم ليلة القدر كأنّها ليلة سابعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أرى رؤياكم قد تواطأت أنّها ليلة سابعة، فمن كان متحرّيها منكم فليتحرّها في ليلة سابعة» . قال معمر: فكان أيّوب يغتسل في ليلة ثلاث وعشرين

(1)

، يشير إلى أنّه حملها على سابعة تبقى.

وخرّجه الثعلبيّ في «تفسيره» من طريق الحسن بن عبد الأعلى، عن عبد الرزّاق بهذا الإسناد، وقال في حديثه:«ليلة سابعة تبقى» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنّي أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين، فمن كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين» . وهذه الألفاظ غير محفوظة في الحديث، والله أعلم.

وفي «سنن أبي داود» بإسناد رجاله كلّهم رجال الصحيح، عن معاوية، عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر ليلة سبع وعشرين. وخرّجه ابن حبّان في صحيحه

(2)

، وصحّحه ابن عبد البرّ؛ وله علّة، وهي وقفه على معاوية. وهو أصحّ عند الإمام أحمد والدّارقطني. وقد اختلف أيضا عليه في لفظه.

وفي «المسند» عن ابن مسعود صلى الله عليه وسلم «أنّ رجلا أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: متى ليلة القدر؟ فقال: من يذكر منكم ليلة الصّهباوات؟ قال عبد الله: أنا، بأبي أنت وأمّي، وإنّ في يدي لتمرات أتسحّر بهنّ مستترا بمؤخرة رحلي من الفجر، وذلك حين طلع القمر»

(3)

. وخرّجه يعقوب بن شيبة في مسنده، وزاد:

«وذلك ليلة سبع وعشرين» . وقال: صالح الإسناد.

(1)

أخرجه: «عبد الرزاق» (7688)، ورجاله ثقات.

(2)

أخرجه: أبو داود (1386)، وابن حبان (3680).

(3)

أخرجه: أحمد (453، 396، 1/ 376)، وفيه انقطاع، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 406):«وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه» .

ص: 353

والصّهباوات: موضع بقرب خيبر.

وفي «المسند» أيضا من وجه آخر عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّ ليلة القدر في النصف من السّبع الأواخر من رمضان»

(1)

.

وإذا حسبنا أوّل السّبع الأواخر ليلة أربع وعشرين، كانت ليلة سبع وعشرين نصف السبع؛ لأنّ قبلها ثلاث ليال، وبعدها ثلاث.

وممّا يرجّح أنّ ليلة القدر ليلة سبع وعشرين أنّها من السّبع الأواخر التي أمر النّبي صلى الله عليه وسلم بالتماسها فيها، بالاتفاق. وفي دخول الثالثة والعشرين في السّبع اختلاف سبق ذكره. ولا خلاف أنّها آكد من الخامسة والعشرين.

ومما يدلّ على ذلك أيضا حديث أبي ذرّ في قيام النبي صلى الله عليه وسلم بهم في أفراد السّبع الأواخر، وأنّه قام بهم في الثالثة والعشرين إلى ثلث الليل، وفي الخامسة إلى نصف الليل، وفي السابعة إلى آخر الليل؛ حتى خشوا أن يفوتهم الفلاح.

وجمع أهله ليلتئذ، وجمع النّاس.

وهذا كلّه يدلّ على تأكّدها على سائر أفراد السبع والعشر. ومما يدلّ على ذلك ما استشهد به ابن عبّاس بحضرة عمر رضي الله عنه والصحابة معه، واستحسنه عمر رضي الله عنه. وقد روي من وجوه متعددة:

فروى عبد الرزّاق في كتابه

(2)

عن معمر، عن قتادة وعاصم، أنّهما سمعا عكرمة يقول: قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فسألهم عن ليلة القدر، فأجمعوا أنّها في العشر الأواخر. قال ابن عبّاس:

فقلت لعمر رضي الله عنه: إنّي لأعلم - أو إنّي لأظنّ - أي ليلة هي. قال عمر: وأي

(1)

أخرجه: أحمد (457، 1/ 406).

(2)

أخرجه: عبد الرزاق في «مصنفه» (7679).

ص: 354

ليلة هي؟ قلت: سابعة تمضي، أو سابعة تبقى من العشر الأواخر. فقال عمر رضي الله عنه: ومن أين علمت ذلك؟ قال: فقلت: إنّ الله خلق سبع سموات، وسبع أرضين، وسبعة أيام، وأنّ الدّهر يدور على سبع، وخلق الله الإنسان من سبع، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، والطّواف بالبيت سبع، ورمي الجمار سبع، لأشياء ذكرها. فقال عمر رضي الله عنه: لقد فطنت لأمر ما فطنّا له.

وكان قتادة يزيد على ابن عباس في قوله: «يأكل من سبع» ، قال: هو قول الله عز وجل: {فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31)} [عبس: 27 - 31]. ولكن في هذه الرواية أنها في سبع تمضي أو تبقى، بالترديد في ذلك.

وخرّجه ابن شاهين من رواية عبد الواحد بن زياد، عن عاصم الأحول، حدثني لاحق بن حميد وعكرمة، قالا: قال عمر رضي الله عنه: من يعلم ليلة القدر؟ فذكر الحديث بنحوه. وزاد أنّ ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي في العشر؛ سبع تمضي أو سبع تبقى» . فخالف في إسناده وجعله مرسلا، ورفع آخره.

روى ابن عبد البر بإسناد صحيح من طريق سعيد بن جبير، قال: كان ناس من المهاجرين وجدوا على عمر في إدنائه ابن عباس، فجمعهم ثم سألهم عن ليلة القدر، فأكثروا فيها، فقال بعضهم: كنّا نراها في العشر الأوسط، ثم بلغنا أنّها في العشر الأواخر، فأكثروا فيها؛ فقال بعضهم: ليلة إحدى وعشرين.

وقال بعضهم: ليلة ثلاث وعشرين. وقال بعضهم: ليلة سبع وعشرين. فقال عمر رضي الله عنه: يا ابن عبّاس، تكلّم، فقال: الله أعلم. قال عمر: قد نعلم أنّ الله يعلم، وإنّما نسألك عن علمك. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنّ الله وتر يحبّ الوتر، خلق من خلقه سبع سماوات فاستوى عليهن، وخلق الأرض سبعا، وجعل عدّة الأيّام سبعا، ورمي الجمار سبعا، وخلق الإنسان من سبع، وجعل رزقه من سبع. فقال عمر: خلق الإنسان من سبع، وجعل رزقه من

ص: 355

سبع، هذا أمر ما فهمته. فقال: إنّ الله تعالى يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] حتى بلغ آخر الآيات، وقرأ {أَنّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً} إلى قوله:{وَلِأَنْعامِكُمْ} [عبس: 25 - 32]، ثم قال: والأبّ للدوابّ.

وخرجه ابن سعد في «طبقاته» عن إسحاق الأزرق، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، فذكره بمعناه، وزاد في آخره:«قال: وأمّا ليلة القدر فما نراها إن شاء الله، إلا ليلة ثلاث وعشرين يمضين، أو سبع يبقين» . والظاهر أنّ هذا سمعه سعيد بن جبير من ابن عبّاس، فيكون متّصلا.

وروى عاصم بن كليب، عن أبيه، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: دعا عمر الأشياخ من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال لهم: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر ما قد علمتم: «التمسوها في العشر الأواخر وترا» ، ففي أي الوتر ترونها؟ فقال رجل برأيه: إنها تاسعة، سابعة، خامسة، ثالثة. ثم قال:

يا ابن عبّاس، تكلّم. فقلت: أقول برأيي؟ قال: عن رأيك أسألك. فقلت:

إنّي سمعت الله أكثر من ذكر السّبع، وذكر باقيه بمعنى ما تقدّم. وفي آخره:

قال عمر رضي الله عنه: أعجزتم أن تقولوا مثل ما قال هذا الغلام الذي لم تستو شئون رأسه؟! خرّجه الإسماعيلي في مسند عمر، والحاكم

(1)

، وقال: صحيح الإسناد. وخرّجه الثعلبي في «تفسيره» وزاد: «قال ابن عباس: فما أراها إلا ليلة ثلاث وعشرين لسبع يبقين» . وخرّج علي بن المديني في «كتاب العلل» المرفوع منه، وقال: هو صالح، وليس مما يحتج به.

وروى مسلم الملائي - وهو ضعيف - عن مجاهد، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، أنّ

(1)

أخرجه: الحاكم في «المستدرك» (1/ 437 - 438).

ص: 356

عمر قال له: أخبرني برأيك عن ليلة القدر، فذكر معنى ما تقدّم وفيه أنّ ابن عباس قال: لا أراها إلا في سبع يبقين من رمضان، فقال عمر: وافق رأيي رأيك.

وروي بإسناد فيه ضعف، عن محمد بن كعب، عن ابن عبّاس: أنّ عمر رضي الله عنه جلس في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فتذاكروا ليلة القدر، فذكر معنى ما تقدّم، وزاد فيه: عن ابن عباس أنه قال: وأعطي من المثاني سبعا، ونهى في كتابه عن نكاح الأقربين عن سبع، وقسم الميراث في كتابه على سبع، ونقع في السّجود من أجسادنا على سبع؛ وقال: فأراها في السبع الأواخر من رمضان.

وليس في شيء من هذه الروايات أنّها ليلة سبع وعشرين جزما، بل في بعضها الترديد بين ثلاث وسبع، وفي بعضها أنّها ليلة ثلاث وعشرين؛ لأنّها أوّل السّبع الأواخر على رأيه.

وقد صحّ عن ابن عبّاس أنّه كان ينضح على أهله الماء ليلة ثلاث وعشرين

(1)

. خرّجه عبد الرزّاق، وخرّجه ابن أبي عاصم مرفوعا، والموقوف أصحّ.

وقد استنبط طائفة من المتأخرين من القرآن أنّها ليلة سبع وعشرين من موضعين:

أحدهما: أنّ الله تعالى ذكر ليلة القدر في سورة القدر في ثلاثة مواضع منها، وليلة القدر حروفها تسع حروف، والتسع إذا ضربت في ثلاثة فهي سبع وعشرون.

والثاني: أنّه قال: «سلام هي» فكلمة «هي» هي الكلمة السابعة والعشرون من السورة؛ فإنّ كلماتها كلّها ثلاثون كلمة.

(1)

أخرجه: عبد الرزاق في «مصنفه» (7686).

ص: 357

قال ابن عطية: هذا من ملح التفسير لا من متين العلم، وهو كما قال.

ومما استدلّ به من رجّح ليلة سبع وعشرين بالآيات والعلامات التي رئيت فيها قديما وحديثا؛ وبما وقع فيها من إجابة الدعوات، فقد تقدّم عن أبي بن كعب أنّه استدلّ على ذلك بطلوع الشّمس في صبيحتها لا شعاع لها.

وكان عبدة بن أبي لبابة يقول: هي ليلة سبع وعشرين، ويستدلّ على ذلك بأنّه قد جرّب ذلك بأشياء وبالنجوم

(1)

. خرّجه عبد الرزّاق. وروي عن عبدة أنه ذاق ماء البحر ليلة سبع وعشرين، فإذا هو عذب؛ ذكره الإمام أحمد بإسناده.

وطاف بعض السّلف ليلة سبع وعشرين بالبيت الحرام، فرأى الملائكة في الهواء طائفين فوق رءوس الناس. وروى أبو موسى المديني من طريق أبي الشيخ الأصبهاني بإسناد له عن حمّاد بن شعيب، عن رجل منهم، قال:

كنت بالسّواد، فلمّا كان في العشر الأواخر جعلت أنظر بالليل، فقال لي رجل منهم: إلى أيّ شيء تنظر؟ قلت: إلى ليلة القدر. قال: فنم، فإنّي سأخبرك.

فلما كان ليلة سبع وعشرين جاء وأخذ بيدي، فذهب بي إلى النخل، فإذا النّخل واضع سعفه في الأرض، فقال: لسنا نرى هذا في السّنة كلّها إلاّ في هذه الليلة. وذكر أبو موسى بأسانيد له أنّ رجلا مقعدا دعا الله ليلة سبع وعشرين فأطلقه. وعن امرأة مقعدة كذلك. وعن رجل بالبصرة كان أخرس ثلاثين سنة، فدعا الله ليلة سبع وعشرين، فأطلق لسانه فتكلّم.

وذكر الوزير أبو المظفّر بن هبيرة أنّه رأى ليلة سبع وعشرين - وكانت ليلة جمعة - بابا في السّماء مفتوحا، شاميّ الكعبة، قال: فظننته حيال الحجرة النّبويّة المقدّسة، قال: ولم يزل كذلك إلى أن التفتّ إلى المشرق لأنظر طلوع

(1)

أخرجه: عبد الرزاق في (7693).

ص: 358

الفجر، ثم التفتّ إليه فوجدته قد غاب. قال: وإن وقع في ليلة من أوتار العشر ليلة جمعة، فهي أرجى من غيرها.

واعلم؛ أنّ جميع هذه العلامات لا توجب القطع بليلة القدر.

وقد روى سلمة بن شبيب في كتاب «فضائل رمضان» : حدثنا إبراهيم ابن الحكم، حدثني أبي، قال: حدثني فرقد: أنّ ناسا من الصحابة كانوا في المسجد فسمعوا كلاما من السّماء، ورأوا نورا من السّماء، وبابا من السّماء، وذلك في شهر رمضان، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأوا، فزعم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أمّا النّور فنور ربّ العزّة تعالى، وأمّا الباب فباب السّماء، والكلام كلام الأنبياء، فكلّ شهر رمضان على هذه الحال، ولكن هذه ليلة كشف غطاؤها» . وهذا مرسل ضعيف.

وأما العمل في ليلة القدر؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» . وقيامها إنّما هو إحياؤها بالتهجّد فيها والصّلاة، وقد أمر عائشة بالدّعاء فيها أيضا.

قال سفيان الثوريّ: الدّعاء في تلك الليلة أحبّ إليّ من الصّلاة. قال: وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدّعاء والمسألة لعله يوافق. انتهى.

ومراده أنّ كثرة الدّعاء أفضل من الصّلاة التي لا يكثر فيها الدّعاء، وإن قرأ ودعا كان حسنا.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجّد في ليالي رمضان، ويقرأ قراءة مرتّلة، لا يمرّ بآية فيها رحمة إلا سأل، ولا بآية فيها عذاب إلاّ تعوّذ، فيجمع بين الصّلاة والقراءة والدّعاء والتفكّر. وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها، والله أعلم.

ص: 359

وقد قال الشعبيّ في ليلة القدر: ليلها كنهارها. وقال الشافعي في «القديم» : أستحبّ أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها. وهذا يقتضي استحباب الاجتهاد في جميع زمان العشر الأواخر، ليله ونهاره، والله أعلم.

المحبّون تطول عليهم الليالي فيعدّونها عدّا لانتظار ليالي العشر في كلّ عام، فإذا ظفروا بها نالوا مطلوبهم وخدموا محبوبهم.

قد مزّق الحبّ قميص الصّبر

وقد غدوت حائرا في أمري

آه على تلك الليالي الغرّ

ما كنّ إلاّ كليالي القدر

إن عدن لي من بعد هذا الهجر

وفّيت لله بكلّ نذر

وقام بالحمد خطيب شكري

رياح هذه الأسحار تحمل أنين المذنبين، وأنفاس المحبّين، وقصص التائبين، ثم تعود بردّ الجواب بلا كتاب.

أعلمتم أنّ النّسيم إذا سرى

حمل الحديث إلى الحبيب كما جرى

جهل العذول بأنّني في حبّهم

سهر الدّجي عندي ألذّ من الكرى

فإذا ورد بريد برد السّحر يحمل ملطفات الألطاف، لم يفهمها غير من كتبت إليه.

نسيم صبا نجد متى جئت حاملا

تحيتهم فاطو الحديث عن الرّكب

ولا تذع السّرّ المصون فإنّني

أغار على ذكر الأحبّة من صحبي

يا يعقوب الهجر، قد هبّت ريح يوسف الوصل، فلو استنشقت لعدت بعد العمى بصيرا، ولوجدت ما كنت لفقده فقيرا.

ص: 360

كان لي قلب أعيش به

ضاع منّي في تقلّبه

ربّ! فاردده عليّ فقد

عيل صبري في تطلّبه

وأغثني ما دام بي رمق

يا غياث المستغيث به

لو قام المذنبون في هذه الأسحار على أقدام الانكسار، ورفعوا قصص الاعتذار مضمونها:{يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا} [يوسف: 88] لبرز لهم التوقيع عليها {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ} [يوسف: 92].

أشكو إلى الله كما قد شكى

أولاد يعقوب إلى يوسف

قد مسّني الضّرّ وأنت الّذي

تعلم حالي وترى موقفي

بضاعتي المزجاة محتاجة

إلى سماح من كريم وفي

فقد أتى المسكين مستمطرا

جودك فارحم ذلّه واعطف

فأوف كيلي وتصدّق على

هذا المقلّ البائس الأضعف

قالت عائشة رضي الله عنها للنبيّ صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال:«قولي: اللهم، إنّك عفوّ تحبّ العفو فاعف عنّي»

(1)

.

العفوّ من أسماء الله تعالى، وهو المتجاوز عن سيّئات عباده، الماحي لآثارها عنهم. وهو يحبّ العفو؛ فيحبّ أن يعفو عن عباده، ويحبّ من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض؛ فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه، وعفوه أحبّ إليه من عقوبته.

(1)

أخرجه: أحمد (182، 6/ 171)، والترمذي (3513)، وقال:«حسن صحيح» ، وابن ماجه (3850).

ص: 361

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أعوذ برضاك من سخطك، وعفوك من عقوبتك»

(1)

قال يحيى بن معاذ: لو لم يكن العفو أحبّ الأشياء إليه لم يبتل بالذّنب أكرم النّاس عليه. يشير إلى أنّه ابتلى كثيرا من أوليائه وأحبابه بشيء من الذنوب؛ ليعاملهم بالعفو؛ فإنه يحبّ العفو. قال بعض السّلف الصالح:

لو علمت أحبّ الأعمال إلى الله تعالى لأجهدت نفسي فيه. فرأى قائلا يقول له في منامه: إنّك تريد ما لا يكون، إنّ الله يحبّ أن يعفو ويغفر؛ وإنما أحبّ أن يعفو؛ ليكون العباد كلّهم تحت عفوه، ولا يدلّ عليه أحد منهم بعمل.

وقد جاء في حديث ابن عبّاس مرفوعا: «إن الله ينظر ليلة القدر إلى المؤمنين من أمة محمّد صلى الله عليه وسلم فيعفو عنهم ويرحمهم، إلا أربعة: مدمن خمر، وعاقّا، ومشاحنا، وقاطع رحم» .

لمّا عرف العارفون جلاله خضعوا، ولمّا سمع المذنبون بعفوه طمعوا، ما ثم إلاّ عفو الله أو النار. لولا طمع المذنبين في العفو لاحترقت قلوبهم باليأس من الرّحمة، ولكن إذا ذكرت عفو الله استروحت إلى برد عفوه. كان بعض المتقدّمين يقول في دعائه: اللهم، إنّ ذنوبي قد عظمت فجلّت عن الصّفة، وإنها صغيرة في جنب عفوك؛ فاعف عنّي. وقال آخر منهم: جرمي عظيم، وعفوك كبير؛ فاجمع بين جرمي وعفوك يا كريم.

يا كبير الذّنب عفو اللّ

هـ من ذنبك أكبر

أكبر الأوزار في جن

ب عفو الله يصغر

وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي

(1)

أخرجه: مسلم (2/ 51)(486)، وأبو داود (879)، وابن ماجه (3841)، والترمذي (3493) وحسنه.

ص: 362

ليالي العشر؛ لأنّ العارفين يجتهدون في الأعمال، ثم لا يرون لأنفسهم عملا صالحا، ولا حالا، ولا مقالا، فيرجعون إلى سؤال العفو، كحال المذنب المقصّر. قال يحيى بن معاذ: ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو.

إن كنت لا أصلح للقرب

فشأنكم عفو عن الذّنب

كان مطرّف يقول في دعائه: اللهم، ارض عنّا، فإن لم ترض عنّا فاعف عنّا. من عظمت ذنوبه في نفسه لم يطمع في الرّضا، وكان غاية أمله أن يطمع في العفو. ومن كملت معرفته لم ير نفسه إلاّ في هذه المنزلة.

يا ربّ عبدك قد أتا

ك وقد أساء وقد هفا

يكفيه منك حياؤه

من سوء ما قد أسلفا

حمل الذّنوب على الذّنو

ب الموبقات وأسرفا

وقد استجار بذيل عف

وك من عقابك ملحفا

يا ربّ فاعف وعافه

فلأنت أولى من عفا

***

ص: 363

‌المجلس السادس في وداع رمضان

في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه. ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه»

(1)

. وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة أيضا رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه»

(2)

. وللنسائي في رواية: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر»

(3)

.

وقد سبق في قيام ليلة القدر مثل ذلك من رواية عبادة بن الصّامت.

والتكفير بصيامه قد ورد مشروطا بالتحفّظ ممّا ينبغي أن يتحفّظ منه. ففي «المسند» و «صحيح ابن حبّان» عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

«من صام رمضان فعرف حدوده وتحفّظ ممّا ينبغي له أن يتحفّظ منه، كفّر ذلك ما قبله»

(4)

.

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 33)(2014)، ومسلم (2/ 177)(760)، وأبو داود (1372)، والترمذي (683)، والنسائي (4/ 157)، وابن ماجه (1326)، وأحمد (2/ 503).

(2)

أخرجه: البخاري (3/ 58)(2009)، ومسلم (2/ 176)(759)، وأبو داود (1371)، والترمذي (808)، والنسائي (3/ 201)، وأحمد (2/ 281).

(3)

الحديث بهذا اللفظ عند أحمد (2/ 285)، وأما الذي عند النسائي في «الكبرى» (2512) بلفظ: «من قام رمضان

الحديث»، وحكم ابن حجر على زيادة «وما تأخر» بالشذوذ. انظر:«معرفة الخصال المكفرة للذنوب» (ص 58).

(4)

أخرجه: أحمد (3/ 55)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 304)، وابن حبان (3433). -

ص: 364

والجمهور على أن ذلك إنّما يكفّر الصغائر، ويدلّ عليه ما خرّجه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«الصّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفّرات لما بينهنّ، ما اجتنبت الكبائر»

(1)

.

وفي تأويله قولان:

أحدهما: أن تكفير هذه الأعمال مشروط باجتناب الكبائر، فمن لم يجتنب الكبائر لم تكفّر له هذه الأعمال كبيرة ولا صغيرة.

والثاني: أنّ المراد أنّ هذه الفرائض تكفّر الصغائر خاصّة بكلّ حال، وسواء اجتنبت الكبائر أو لم تجتنب، وأنّها لا تكفّر الكبائر بحال

(2)

.

وقد قال ابن المنذر في قيام ليلة القدر: إنّه يرجى به مغفرة الذنوب؛ كبائرها وصغائرها. وقال غيره مثل ذلك في الصّوم أيضا. والجمهور على أنّ الكبائر لا بدّ لها من توبة نصوح. وهذه المسائل قد ذكرناها مستوفاة في مواضع أخر.

فدلّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه على أنّ هذه الأسباب الثلاثة كلّ واحد منها مكفّر لما سلف من الذّنوب، وهي صيام رمضان، وقيامه، وقيام ليلة القدر.

فقيام ليلة القدر بمجرده يكفّر الذنوب لمن وقعت له، كما في حديث عبادة بن الصّامت، وقد سبق ذكره. وسواء كانت في أوّل العشر أو أوسطه أو آخره، وسواء شعر بها أو لم يشعر. ولا يتأخّر تكفير الذنوب بها إلى انقضاء الشّهر.

وأمّا صيام رمضان وقيامه، فيتوقّف التكفير بهما على تمام الشهر، فإذا تمّ

(4)

- وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 144): «وفيه عبد الله بن قريط، ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا» .

(1)

أخرجه: مسلم (1/ 144)(233)، وأحمد (2/ 400).

(2)

في ص: «بكل حال» .

ص: 365

الشّهر فقد كمل للمؤمن صيام رمضان وقيامه، فيترتّب له على ذلك مغفرة ما تقدّم من ذنبه بتمام السّببين، وهما صيام رمضان وقيامه.

وقد يقال: إنه يغفر لهم عند استكمال القيام في آخر ليلة من رمضان، بقيام رمضان قبل تمام نهارها، وتتأخّر المغفرة بالصيام إلى إكمال النهار بالصّوم، فيغفر لهم بالصوم في ليلة الفطر.

ويدلّ على ذلك ما خرّجه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تعطها أمّة غيرهم: خلوف فم الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتّى يفطروا، ويزيّن الله كلّ يوم جنّته، ويقول: يوشك عبادي أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليك، وتصفّد فيه مردة الشّياطين؛ فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة، فقيل له: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكنّ العامل إنما يوفّى أجره إذا قضى عمله»

(1)

.

وقد روي أنّ الصّائمين يرجعون يوم الفطر مغفورا لهم، وأنّ يوم الفطر يسمّى يوم الجوائز

(2)

؛ وفيه أحاديث ضعيفة. وقال الزّهريّ: إذا كان يوم الفطر خرج النّاس إلى الجبّان اطّلع الله عليهم، فقال: عبادي، لي صمتم، ولي قمتم، ارجعوا مغفورا لكم. قال مورّق العجليّ لبعض إخوانه في المصلّى يوم الفطر: يرجع هذا اليوم قوم كما ولدتهم أمّهاتهم.

وفي حديث أبي جعفر الباقر المرسل: «من أتى عليه رمضان فصام نهاره،

(1)

أخرجه: أحمد (2/ 292)، وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 140):«رواه أحمد والبزار، وفيه هشام بن زياد أبو المقدام، وهو ضعيف» .

وراجع: «مشكل الآثار» (4/ 142)، و «المطالب العالية» (932).

(2)

وساقه مسلم في مقدمة «صحيحه» على سبيل الإنكار.

ص: 366

وصلّى وردا من ليله، وغضّ بصره، وحفظ فرجه ولسانه ويده، وحافظ على صلاته في الجماعة، وبكّر إلى جمعة، فقد صام الشّهر واستكمل الأجر، وأدرك ليلة القدر، وفاز بجائزة الرّبّ». قال أبو جعفر: جائزة لا تشبه جوائز الأمراء.

إذا كمّل الصائمون صيام رمضان وقيامه، فقد وفّوا ما عليهم من العمل، وبقي ما لهم من الأجر وهو المغفرة؛ فإذا خرجوا يوم عيد الفطر إلى الصّلاة قسّمت عليهم أجورهم، فرجعوا إلى منازلهم وقد استوفوا الأجر واستكملوه، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما المرفوع:«إذا كان يوم الفطر هبطت الملائكة إلى الأرض، فيقومون على أفواه السّكك ينادون بصوت يسمعه جميع من خلق الله، إلاّ الجنّ والإنس، يقولون: يا أمّة محمد، اخرجوا إلى ربّ كريم يعطي الجزيل، ويغفر الذّنب العظيم، فإذا برزوا إلى مصلاّهم، يقول الله عز وجل لملائكته: يا ملائكتي، ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ فيقولون: إلهنا وسيّدنا، أن توفّيه أجره، فيقول: إنّي أشهدكم أنّي قد جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم رضائي ومغفرتي، انصرفوا مغفورا لكم»

(1)

. خرّجه سلمة بن شبيب في كتاب «فضائل رمضان» وغيره. وفي إسناده مقال. وقد روي من وجه آخر عن عكرمة، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما موقوفا بعضه. وقد روي معناه مرفوعا من وجوه أخر فيها ضعف؛

من وفّى ما عليه من العمل كاملا وفّي له الأجر كاملا، ومن سلّم ما عليه موفّرا تسلّم ماله نقدا لا مؤخّرا.

ما بعتكم مهجتي إلا بوصلكم

ولا أسلّمها إلاّ يدا بيد

ومن نقص من العمل الذي عليه نقّص من الأجر بحسب نقصه، فلا يلم إلاّ

(1)

أخرجه: الطبراني في «الكبير» - كما في «مجمع الزوائد» (2/ 201)، والشجري في «أماليه» (2/ 47)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 41 - 43)، وقال:«لا يصح» .

ص: 367

نفسه. قال سلمان: الصّلاة مكيال، فمن وفى وفّي له، ومن طفّف فقد علمتم ما قيل في المطفّفين. فالصّيام وسائر الأعمال على هذا المنوال؛ من وفّاها فهو من خيار عباد الله الموفّين، ومن طفّف فيها فويل للمطفّفين. أما يستحيي من يستوفي مكيال شهواته. ويطفّف في مكيال صيامه وصلاته، ألا بعدا لمدين.

في الحديث: «أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته»

(1)

. إذا كان الويل لمن طفّف مكيال الدّنيا، فكيف حال من طفّف مكيال الدّين! {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ} [الماعون: 4 - 5].

غدا توفّى النفوس ما كسبت

ويحصد الزّارعون ما زرعوا

إن أحسنوا أحسنوا لأنفسهم

وإن أساءوا فبئس ما صنعوا

كان السّلف الصّالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثم يهتمّون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من ردّه، وهؤلاء الذين {يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60]. روي عن علي رضي الله عنه، قال: كونوا لقبول العمل أشدّ اهتماما منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول:{إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27]. وعن فضالة بن عبيد، قال: لأن أكون أعلم أنّ الله قد تقبّل منّي مثقال حبّة من خردل أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها؛ لأنّ الله يقول:

{إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].

وقال مالك بن دينار: الخوف على العمل أن لا يتقبّل أشدّ من العمل. وقال

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 56)، وأبو يعلى (1311)، وابن أبي شيبة (1/ 257) من حديث أبي سعيد الخدري، وأحمد (5/ 310)، والطبراني في «الأوسط» (8179)، وابن خزيمة (663) من حديث أبي قتادة. وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 120) عن حديث أبي قتادة:«رجاله رجال الصحيح» . وراجع: «علل ابن أبي حاتم» (487)، و «علل الدارقطني» (8/ 15، 6/ 141).

ص: 368

عطاء السّليمي

(1)

: الحذر: الاتقاء على العمل أن لا يكون لله. وقال عبد العزيز بن أبي روّاد: أدركتهم يجتهدون في العمل الصالح، فإذا فعلوه وقع عليهم الهمّ، أيقبل منهم أم لا.

قال بعض السّلف: كانوا يدعون الله ستّة أشهر أن يبلّغهم شهر رمضان، ثم يدعون الله ستّة أشهر أن يتقبّله منهم.

خرج عمر بن عبد العزيز رحمه الله في يوم عيد فطر، فقال في خطبته: أيّها الناس، إنّكم صمتم لله ثلاثين يوما، وقمتم ثلاثين ليلة، وخرجتم اليوم تطلبون من الله أن يتقبّل منكم. كان بعض السّلف يظهر عليه الحزن يوم عيد الفطر، فيقال له: إنّه يوم فرح وسرور، فيقول: صدقتم، ولكنّي عبد أمرني مولاي أن أعمل له عملا، فلا أدري أيقبله منّي أم لا؟

رأى وهيب بن الورد قوما يضحكون في يوم عيد، فقال: إن كان هؤلاء تقبّل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين، وإن كانوا لم يتقبّل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين. وعن الحسن، قال: إنّ الله جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق قوم ففازوا، وتخلّف آخرون فخابوا. فالعجب من اللاعب الضّاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون.

لعلك غضبان وقلبي غافل

سلام على الدّارين إن كنت راضيا

روي عن عليّ رضي الله عنه أنّه كان ينادي في آخر ليلة من شهر رمضان: يا ليت شعري! من هذا المقبول فنهنّيه؟ ومن هذا المحروم فنعزّيه؟. وعن ابن مسعود أنّه كان يقول: من هذا المقبول منّا فنهنّيه؟ ومن هذا المحروم منّا فنعزّيه؟ أيّها المقبول هنيئا لك، أيّها المردود جبر الله مصيبتك.

(1)

في الأصول: «السلمي» ، وترجمته في «سير أعلام النبلاء» (6/ 86).

ص: 369

ليت شعري من فيه يقبل منّا

فيهنّا يا خيبة المردود

من تولّى عنه بغير قبول

أرغم الله أنفه بخزي شديد

ماذا فات من فاته خير رمضان؟ وأي شيء أدرك من أدركه فيه الحرمان؟ كم بين من حظّه فيه القبول والغفران، ومن كان حظّه فيه الخيبة والخسران. ربّ قائم حظّه من قيامه السّهر، وصائم حظّه من صيامه الجوع والعطش.

ما أصنع؟ هكذا جرى المقدور

الجبر لغيري وأنا المكسور

أسير ذنب مقيّد مهجور

هل يمكن أن يغيّر المقدور

غيره:

سار القوم والشّقا يقعدني

حازوا القرب والجفا يبعدني

حسبي حسبي إلى متى تطردني

أعداي دائي وكلّهم يقصدني

غيره:

أسباب هواك أوهنت أسبابي

من بعد جفاك فالضّنى أولى بي

ضاقت حيلي وأنت تدري ما بي

فارحم، فالعبد واقف بالباب

شهر رمضان تكثر فيه أسباب الغفران؛ فمن أسباب المغفرة فيه: صيامه، وقيامه، وقيام ليلة القدر فيه، كما سبق. ومنها: تفطير الصّوّام، والتخفيف عن المملوك، وهما مذكوران في حديث سلمان المرفوع. ومنها: الذكر. وفي حديث مرفوع: «ذاكر الله في رمضان مغفور له»

(1)

. ومنها: الاستغفار،

(1)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (6170)، وقال في «المجمع» (3/ 143):«وفيه هلال بن عبد الرحمن وهو ضعيف» .

وراجع: «الضعيفة» (3621).

ص: 370

والاستغفار طلب المغفرة. ودعاء الصّائم يستجاب في صيامه وعند فطره؛ ولهذا كان ابن عمر إذا أفطر يقول: اللهم، يا واسع المغفرة اغفر لي. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع في فضل شهر رمضان:«ويغفر فيه إلاّ لمن أبى» ، قالوا: يا أبا هريرة، ومن يأبى؟ قال: يأبى أن يستغفر الله». ومنها:

استغفار الملائكة للصّائمين حتى يفطروا، وقد تقدّم ذكره.

فلما كثرت أسباب المغفرة في رمضان كان الذي تفوته المغفرة فيه محروما غاية الحرمان.

في «صحيح ابن حبّان» عن أبي هريرة رضي الله عنه، «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: آمين، آمين، آمين. قيل: يا رسول الله، إنّك صعدت المنبر فقلت:

آمين آمين آمين؟ قال: إنّ جبريل أتاني، فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين. ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرّهما، فمات، فدخل النار، فأبعده الله، قل: آمين، فقلت:

آمين. ومن ذكرت عنده فلم يصلّ عليك، فمات، فدخل النار فأبعده الله، قل: آمين، فقلت: آمين»

(1)

. وخرّجه الإمام أحمد، والترمذي، وابن حبّان أيضا من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا بلفظ:«رغم أنفه»

(2)

.

وحسّنه الترمذيّ. وقال سعيد عن قتادة: كان يقال: من لم يغفر له في رمضان فلن يغفر له فيما سواه. وفي حديث آخر: «إذا لم يغفر له في رمضان فمتى يغفر لمن لا يغفر له في هذا الشهر؟»

متى يقبل من ردّ في ليلة القدر؟ متى يصلح من لا يصلح في رمضان؟ متى يصح من كان به فيه من داء الجهالة والغفلة مرضان؟ كلّ ما لا يثمر من

(1)

أخرجه: ابن حبان (907).

(2)

أخرجه: أحمد (2/ 254)، والترمذي (3545)، وابن حبان (908).

ص: 371

الأشجار في أوان الثمار؛ فإنّه يقطع ثمّ يوقد في النار. من فرّط في الزّرع في وقت البذار، لم يحصد يوم الحصاد غير النّدم والخسار.

ترحّل الشّهر

(1)

وا لهفاه وانصرما

واختصّ بالفوز في الجنّات من خدما

وأصبح الغافل المسكين منكسرا

مثلي فيا ويحه يا عظم ما حرما

من فاته الزّرع في وقت البذار فما

تراه يحصد إلاّ الهمّ والنّدما

«شهر رمضان شهر أوّله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النّار» .

روي هذا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، من حديث سلمان الفارسي. خرّجه ابن خزيمة في «صحيحه»

(2)

.

وروي عنه أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، خرّجه ابن أبي الدنيا وغيره.

والشهر كلّه شهر رحمة ومغفرة وعتق، ولهذا في الحديث الصحيح:«أنّه تفتح فيه أبواب الرّحمة» .

وفي الترمذي وغيره: «إنّ لله عتقاء من النّار، وذلك كلّ ليلة»

(3)

. ولكنّ الأغلب على أوّله الرحمة، وهي للمحسنين المتقين. قال الله تعالى:{إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. وقال الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156]. فيفاض على المتّقين في أوّل الشّهر خلع الرّحمة والرّضوان، ويعامل أهل الإحسان بالفضل والإحسان.

(1)

في ص، ب:«شهر الصبر» .

(2)

أخرجه: ابن خزيمة (1887)، وهو ضعيف، وأشار ابن خزيمة إلى ضعفه بقوله:«إن صح الخبر» .

(3)

أخرجه: الترمذي (682)، وابن ماجه (1643)، وابن خزيمة (1883)، وابن حبان (3435).

ورجّح البخاري أنه موقوف على مجاهد، وذلك فيما ذكره عنه الترمذي في «سننه» .

ص: 372

وأمّا أوسط الشهر، فالأغلب عليه المغفرة، فيغفر فيه للصّائمين وإن ارتكبوا بعض الذنوب الصغائر فلا يمنعهم ذلك من المغفرة، كما قال الله تعالى:

{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ} [الرّعد: 6].

وأمّا آخر الشهر فيعتق فيه من النار من أوبقته الأوزار، واستوجب النار بالذنوب الكبار.

وفي حديث ابن عباس المرفوع: «لله في كلّ ليلة في شهر رمضان عند الإفطار ألف ألف عتيق من النار، فإذا كان ليلة الجمعة أو يوم الجمعة، أعتق في كل ساعة منها ألف ألف عتيق من النار، كلّهم قد استوجبوا العذاب، فإذا كان آخر ليلة من شهر رمضان أعتق الله في ذلك اليوم بعدد ما أعتق من أول الشهر إلى آخره» . خرّجه سلمة بن شبيب وغيره

(1)

.

وإنما كان يوم الفطر من رمضان عيدا لجميع الأمة؛ لأنّه يعتق فيه أهل الكبائر من الصّائمين من النار، فيلتحق فيه المذنبون بالأبرار. كما أنّ يوم النّحر هو العيد الأكبر؛ لأنّ قبله يوم عرفة، وهو اليوم الذي لا يرى في يوم من الدنيا أكثر عتقا من النار منه، فمن أعتق من النّار في اليومين فله يوم عيد، ومن فاته العتق في اليومين فله يوم وعيد. أنشد الشبلي:

ليس عيد المحبّ قصد المصلّى

وانتظار الأمير والسّلطان

إنّما العيد أن تكون لدى ال

لّه كريما مقرّبا في أمان

ورئي بعض العارفين ليلة عيد في فلاة يبكي على نفسه وينشد:

بحرمة غربتي كم ذا الصّدود

ألا تعطف عليّ ألا تجود

(1)

أخرجه: الديلمي في «مسند الفردوس» (4960).

وقال ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 551): «إسناد هذا الحديث لا يثبت» .

وراجع: «العلل المتناهية» (رقم 880).

ص: 373

سرور العيد قد عمّ النّواحي

وحزني في ازدياد لا يبيد

فإن كنت اقترفت خلال سوء

فعذري في الهوى أن لا أعود

لمّا كانت المغفرة والعتق من النار كل منهما مرتّبا على صيام رمضان وقيامه، أمر الله سبحانه وتعالى عند إكمال العدّة بتكبيره وشكره، فقال:

{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:

185]، فشكر من أنعم على عباده بتوفيقهم للصّيام، وإعانتهم عليه، ومغفرته لهم به، وعتقهم من النّار، أن يذكروه ويشكروه ويتّقوه حقّ تقاته. وقد فسّر ابن مسعود رضي الله عنه تقواه حقّ تقاته بأن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر

(1)

.

فيا أرباب الذّنوب العظيمة، الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة؛ فما منها عوض ولا لها قيمة، فكم يعتق فيها من النّار من ذي جريرة وجريمة، فمن أعتق فيها من النّار فقد فاز بالجائزة العميمة والمنحة الجسيمة.

يا من أعتقه مولاه من النّار، إيّاك أن تعود بعد أن صرت حرّا إلى رقّ الأوزار، أيبعدك مولاك عن النار وأنت تتقرّب منها؟ وينقذك منها وأنت توقع نفسك فيها ولا تحيد عنها؟!

وإنّ امرأ ينجو من النّار بعد ما

تزوّد من أعمالها لسعيد

إن كانت الرّحمة للمحسنين فالمسيء لا ييأس منها، وإن تكن المغفرة مكتوبة للمتقين فالظّالم لنفسه غير محجوب عنها.

إن كان عفوك لا يرجوه ذو خطإ

فمن يجود على العاصين بالكرم

إن كان لا يرجوك إلاّ محسن

فمن الذي يرجو ويدعو المذنب

(1)

أخرجه: ابن أبي شيبة (6/ 326).

ص: 374

إن كان لا يرجوك إلا محسن

فمن يلوذ ويستجير الجاني

وعلى من يعتمد المقصّر في غد

مع ما تقدّم منه من عصيان

(1)

لم لا يرجى العفو من ربّنا

وكيف لا يطمع في حلمه

وفي «الصحيحين» أتى أنه

بعبده أرحم من أمّه

{قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزّمر: 53].

فيا أيّها العاصي - وكلّنا ذلك -، لا تقنط من رحمة الله لسوء أعمالك، فكم يعتق من النار في هذه الأيام من أمثالك. فأحسن الظّنّ بمولاك وتب إليه؛ فإنّه لا يهلك على الله إلاّ هالك.

إذا أوجعتك الذّنوب فداوها

برفع يد في اللّيل واللّيل مظلم

ولا تقنطن من رحمة الله إنّما

قنوطك منها من ذنوبك أعظم

فرحمته للمحسنين كرامة

ورحمته للمذنبين تكرّم

ينبغي لمن يرجو العتق في شهر رمضان من النار أن يأتي بأسباب توجب العتق من النّار، وهي متيسرة في هذا الشهر. وكان أبو قلابة يعتق في آخر الشهر جارية حسناء مزينة يرجو بعتقها العتق من النار.

وفي حديث سلمان المرفوع الذي في «صحيح ابن خزيمة» : «من فطّر فيه صائما كان عتقا له من النار. ومن خفّف فيه عن مملوكه كان له عتقا من النار» . وفيه أيضا: «فاستكثروا فيه من [أربع خصال]: خصلتين ترضون بهما ربّكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما. فأمّا الخصلتان اللتان ترضون بهما ربّكم

(1)

هذان البيتان زيادة من (أ).

ص: 375

فشهادة أن لا إله إلاّ الله، والاستغفار. وأمّا اللتان لا غناء لكم عنهما، فتسألون الله الجنّة، وتعوذون به من النار»

(1)

.

فهذه الخصال الأربع المذكورة في هذا الحديث كلّ منها سبب للعتق والمغفرة.

فأمّا كلمة التوحيد؛ فإنّها تهدم الذّنوب وتمحوها محوا، ولا تبقي ذنبا، ولا يسبقها عمل. وهي تعدل عتق الرّقاب الذي يوجب العتق من النّار. ومن أتى بها أربع مرار: حين يصبح وحين يمسي، أعتقه الله من النار، ومن قالها خالصا من قلبه حرّمه الله على النار.

وأمّا كلمة الاستغفار؛ فمن أعظم أسباب المغفرة، فإنّ الاستغفار دعاء بالمغفرة، ودعاء الصّائم مستجاب في حال صيامه، وعند فطره. وقد سبق حديث أبي هريرة المرفوع:«ويغفر فيه - يعني شهر رمضان - إلاّ لمن أبى» .

قالوا: يا أبا هريرة، ومن يأبى؟ قال: من أبى أن يستغفر الله عز وجل.

قال الحسن: أكثروا من الاستغفار، فإنّكم لا تدرون متى تنزل الرّحمة.

وقال لقمان لابنه: يا بني، عوّد لسانك الاستغفار؛ فإنّ لله ساعات لا يردّ فيهنّ سائلا.

وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار في قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمّد: 19]. وفي بعض الآثار: أنّ إبليس قال: أهلكت النّاس بالذّنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار.

والاستغفار ختام الأعمال الصّالحة كلّها؛ فتختم به الصّلاة والحجّ وقيام

(1)

أخرجه: ابن خزيمة (1887)، والزيادة منه، وتقدم أنه ضعيف.

ص: 376

الليل، ويختم به المجالس؛ فإن كانت ذكرا كان كالطابع عليها، وإن كانت لغوا كان كفّارة لها، فلذلك ينبغي أن يختم صيام رمضان بالاستغفار.

كتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار والصّدقة، صدقة الفطر؛ فإنّ صدقة الفطر طهرة للصّائم من اللغو والرّفث.

والاستغفار يرقع ما تخرّق من الصّيام باللغو والرّفث؛ ولهذا قال بعض العلماء المتقدمين: إنّ صدقة الفطر للصائم كسجدتي السّهو للصّلاة.

وقال عمر بن عبد العزيز في كتابه: قولوا كما قال أبوكم آدم: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، وقولوا كما قال نوح عليه السلام:{وَإِلاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ} [هود: 47]، وقولوا كما قال إبراهيم عليه السلام:{وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]، وقولوا كما قال موسى عليه السلام {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: الآية 16]، وقولوا كما قال ذو النون عليه السلام:{لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].

ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: الغيبة تخرّق الصّيام، والاستغفار يرقّعه؛ فمن استطاع منكم أن يجيء بصوم مرقّع فليفعل. وعن ابن المنكدر: معنى ذلك: الصيام جنّة من النّار ما لم يخرقها، والكلام السيئ يخرق هذه الجنّة، والاستغفار يرقّع ما تخرق منها.

فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع، وعمل صالح له شافع. كم نخرق صيامنا بسهام الكلام، ثم نرقّعه وقد اتّسع الخرق على الرّاقع. كم نرفو خروقه بمخيط الحسنات، ثم نقطعه بحسام السيئات القاطع.

كان بعض السّلف إذا صلّى صلاة استغفر من تقصيره فيها، كما يستغفر المذنب من ذنبه. إذا كان هذا حال المحسنين في عباداتهم، فكيف حال

ص: 377

المسيئين مثلنا في عاداتهم

(1)

؟ ارحموا من حسناته سيئات، وطاعاته كلّها غفلات.

أستغفر الله من صيامي

طول زماني ومن صلاتي

صيامنا كلّه خروق

وصلاته

(2)

أيّما صلاتي

مستيقظ في الدّجى ولكن

أحسن من يقظتي سباتي

وقريب من هذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة في ليلة القدر بسؤال العفو؛ فإنّ المؤمن يجتهد في شهر رمضان في صيامه وقيامه، فإذا قرب فراغه وصادف ليلة القدر، لم يسأل الله تعالى إلاّ العفو، كالمسيء المقصّر. كان صلة بن أشيم يحيي الليل، ثم يقول في دعائه في السّحر: اللهم، إنّي أسألك أن تجيرني من النار، ومثلي يجترئ أن يسألك الجنّة. كان مطرّف يقول في دعائه: اللهم، ارض عنّا، فإن لم ترض عنّا فاعف عنّا. قال يحيى بن معاذ: ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو.

إن كنت لا أصلح للقرب

فشأنكم عفو عن الذّنب

أنفع الاستغفار ما قارنته التّوبة، وهي حلّ عقدة الإصرار، فمن استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود، وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر ويعود، فصومه عليه مردود، وباب القبول عنه مسدود. قال كعب: من صام رمضان وهو يحدّث نفسه أنّه إذا أفطر بعد رمضان أن لا يعصي الله، دخل الجنّة بغير مسألة ولا حساب. ومن صام رمضان وهو يحدّث نفسه أنّه إذا أفطر عصى ربّه، فصيامه عليه مردود. وخرّجه سلمة بن شبيب.

(1)

الأشبه - كما في المطبوع -: «عباداتهم» .

(2)

في (أ): «وصلاتنا» .

ص: 378

ولولا التّقى ثمّ النّهى خشية الرّدى

لعاصيت في حبّ الصّبا كلّ زاجر

قضى ما قضى فيما مضى ثم لا يرى

له عودة أخرى اللّيالي الغوابر

في «سنن أبي داود» وغيره عن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

«لا يقولنّ أحدكم: صمت رمضان كلّه، ولا قمت رمضان كلّه» . قال أبو بكرة: فلا أدري، أكره التّزكية أم لا بدّ من غفلة

(1)

.

أين من كان إذا صام صان الصّيام، وإذا قام استقام في القيام؟ أحسنوا الإسلام ثم رحلوا بسلام، ما بقي إلاّ من إذا صام افتخر بصيامه وصال، وإذا قام أعجب بقيامه وقال: كم بين خليّ وشجيّ، وواجد وفاقد، وكاتم ومبدي.

وأمّا سؤال الجنّة والاستعاذة من النار؛ فمن أهم الدعاء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:

«حولهما ندندن»

(2)

، فالصّائم يرجى استجابة دعائه، فينبغي ألاّ يدعو إلاّ بأهم الأمور. قال أبو مسلم: ما عرضت لي دعوة إلاّ صرفتها إلى الاستعاذة من النار، وقال:{لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ} [الحشر: 20].

في الحديث: «تعرّضوا لنفحات رحمة ربّكم؛ فإنّ لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده»

(3)

، فمن أصابته سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا، فمن أعظم نفحاته مصادفة ساعة إجابة يسأل فيها العبد الجنّة والنّجاة من النّار، فيجاب سؤاله، فيفوز بسعادة الأبد. قال الله تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ} [آل عمران: 185]، وقال:{لا يَسْتَوِي أَصْحابُ}

(1)

أخرجه: أبو داود (2415)، والنسائي (4/ 130)، وأحمد (5/ 40)، وابن حبان (3439). وإسناده ضعيف، وراجع:«الضعيفة» (4819).

(2)

أخرجه: ابن خزيمة (725) من حديث أبي هريرة.

(3)

أخرجه: البيهقي في «شعب الإيمان» (1121)، وأشار إلى أنه ليس بمحفوظ.

ص: 379

{النّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ} [الحشر: 20]

(1)

وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} إلى قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ} [هود: 108، 106].

ليس السّعيد الذي دنياه تسعده

إنّ السّعيد الّذي ينجو من النّار

عباد الله، إنّ شهر رمضان قد عزم على الرّحيل، ولم يبق منه إلاّ القليل.

فمن كان منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومن كان فرّط فليختمه بالحسنى؛ فالعمل بالختام، فاستمتعوا منه فيما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملا صالحا يشهد لكم به عند الملك العلاّم، وودّعوه عند فراقه بأزكى تحيّة وسلام.

سلام من الرّحمن كلّ أوان

على خير شهر قد مضى وزمان

سلام على شهر الصّيام فإنّه

أمان من الرحمن أيّ أمان

لئن فنيت أيّامك الغرّ بغتة

فما الحزن من قلبي عليك بفان

لقد ذهبت أيّامه وما أطعتم، وكتبت عليكم فيه آثامه وما أضعتم، وكأنّكم بالمشمّرين فيه وقد وصلوا وانقطعتم، أترى ما هذا التوبيخ لكم أو ما سمعتم؟!

ما ضاع من أيّامنا هل يغرم

هيهات والأزمان كيف تقوّم

يوم بأرواح يباع ويشترى

وأخوه ليس يسام فيه درهم

قلوب المتّقين إلى هذا الشهر تحنّ، ومن ألم فراقه تئنّ.

دهاك الفراق فما تصنع

أتصبر للبين أم تجزع

إذا كنت تبكي وهم جيرة

فكيف تكون إذا ودّعوا

(1)

هذه الآية زيادة في (أ).

ص: 380

كيف لا يجري للمؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع.

تذكّرت أيّاما مضت ولياليا

خلت فجرت من ذكرهنّ دموع

ألا هل لها يوما من الدّهر عودة

وهل لي إلى وقت الوصال رجوع

وهل بعد إعراض الحبيب تواصل

وهل لبدور قد أفلن طلوع

أين حرق المجتهدين في نهاره؟ أين قلق المتهجّدين في أسحاره؟

اسمع أنين العاشقي

ن إن استطعت له سماعا

راح الحبيب فشيّعته

مدامعي تهمي سراعا

لو كلّف الجبل الأصمّ

فراق إلف ما استطاعا

إذا كان هذا جزع من ربح فيه، فكيف حال من خسر في أيّامه ولياليه؟ ماذا ينفع المفرط فيه بكاؤه، وقد عظمت فيه مصيبته وجلّ عزاؤه؟ كم نصح المسكين فما قبل النّصح! كم دعي إلى المصالحة فما أجاب إلى الصّلح! كم شاهد الواصلين فيه وهو متباعد! كم مرّت به زمر السّائرين وهو قاعد، حتى إذا ضاق به الوقت وحاق به المقت، ندم على التفريط حين لا ينفع النّدم، وطلب الاستدراك في وقت العدم.

أتترك من تحبّ وأنت جار

وتطلبهم وقد بعد المزار

وتبكي بعد نأيهم اشتياقا

وتسأل في المنازل أين ساروا

تركت سؤالهم وهم حضور

وترجو أن تخبّرك الدّيار

فنفسك لم ولا تلم المطايا

ومت كمدا فليس لك اعتذار

يا شهر رمضان ترفّق، دموع المحبّين تدفّق، قلوبهم من ألم الفراق تشقّق، عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق، عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو

ص: 381

من الصّيام كلّ ما تخرّق، عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق، عسى أسير الأوزار يطلق، عسى من استوجب النار يعتق، عسى رحمة المولى لها العاصي يوفّق.

عسى وعسى من قبل وقت التّفرّق

إلى كلّ ما ترجو من الخير ترتقي

فيجبر مكسور ويقبل تائب

ويعتق خطّاء ويسعد من شقي

***

ص: 382

‌وظائف شهر شوّال

وفيه مجالس:

‌المجلس الأول في صيام شوّال كله وإتباع رمضان بصيام ستة أيام من شوّال

خرّج مسلم من حديث أبي أيّوب الأنصاري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

«من صام رمضان، ثم أتبعه ستّا من شوّال، كان كصيام الدّهر»

(1)

.

وقد اختلف في هذا الحديث، ثم في العمل به؛ فمنهم من صحّحه، ومنهم من قال هو موقوف؛ قاله ابن عيينة وغيره، وإليه يميل الإمام أحمد، ومنهم من تكلّم في إسناده.

وأمّا العمل به، فاستحبّ صيام ستة أيام من شوال أكثر العلماء. روي ذلك عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، وطاوس، والشعبيّ، وميمون بن مهران، وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق؛ وأنكر ذلك آخرون.

روي عن الحسن أنّه كان إذا ذكر عنده صيام هذه الستة، قال: لقد رضي الله بهذا الشهر للسنة كلّها. ولعلّه إنما أنكر على من اعتقد وجوب صيامها وأنّه لا يكتفي بصيام رمضان عنها في الوجوب. وظاهر كلامه يدلّ على هذا.

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 169)(1164)، وأحمد (5/ 417 - 419)، وأبو داود (2433)، والترمذي (759)، وابن ماجه (1716).

وراجع: «العلل» للدارقطني (6/ 107)، و «الكامل» (4/ 389)، و «مشكل الآثار» للطحاوي (2342).

ص: 383

وكرهها الثوريّ، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، وعلّل أصحابهما ذلك بمشابهة أهل الكتاب، يعنون في الزّيادة في صيامهم المفروض عليهم ما ليس منه. وأكثر المتأخرين من مشايخهم قالوا: لا بأس به، وعلّلوا بأنّ الفصل

(1)

قد حصل بفطر يوم العيد، حكى ذلك صاحب «الكافي» منهم.

وكان ابن مهدي يكرهها ولا ينهى عنها. وكرهها أيضا مالك، وذكر في «الموطإ» أنّه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها، قال: ولم يبلغني ذلك عن أحد من السّلف، وأنّ أهل العلم يكرهون ذلك، ويخافون بدعته وأن يلحق برمضان ما ليس منه أهل الجهالة لو رأوا أحدا من أهل العلم يفعل ذلك. وقد قيل: إنّه كان يصومها في نفسه، وإنما كرهها على وجه يخشى منه أن يعتقد فريضتها؛ لئلا يزاد في رمضان ما ليس منه.

وأمّا الذين استحبّوا صيامها، فاختلفوا في صفة صيامها، على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنّه يستحبّ صيامها من أوّل الشهر متتابعة، وهو قول الشافعي وابن المبارك. وقد روي في حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:«من صام ستة أيام بعد الفطر متتابعة، فكأنما صام السّنة»

(2)

. خرّجه الطبراني وغيره من طرق ضعيفة. وروي موقوفا، وروي عن ابن عبّاس من قوله بمعناه، بإسناد ضعيف أيضا.

والثاني: أنّه لا فرق بين أن يتابعها أو يفرّقها من الشهر كلّه، وهما سواء، وهو قول وكيع وأحمد.

(1)

في الأصول: «الفضل» بالضاد المعجمة، والأشبه ما أثبته بالصاد المهملة.

(2)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (7607).

وذكره المنذري في «الترغيب والترهيب» ، وقال:«في إسناده نظر» وراجع: «ضعيف الترغيب والترهيب» للألباني (607) و «مجمع الزوائد» (3/ 183).

ص: 384

والثالث: أنه لا يصام عقيب يوم الفطر؛ فإنّها أيام أكل وشرب، ولكن يصام ثلاثة أيام قبل أيام البيض أو بعدها. وهذا قول معمر وعبد الرّزّاق. ويروى عن عطاء، حتى روي عنه أنّه كره لمن عليه صيام من قضاء رمضان أن يصومه، ثم يصله بصيام تطوّع. وأمر بالفصل بينهما؛ وهو قول شاذ.

وأكثر العلماء على أنّه لا يكره صيام ثاني يوم الفطر، وقد دلّ عليه حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنّه قال لرجل:«إذا أفطرت فصم» .

وقد ذكرناه في صيام آخر شعبان.

وقد سرد طائفة من الصّحابة والتابعين الصّوم إلا يوم الفطر والأضحى. وقد روي عن أم سلمة أنّها كانت تقول لأهلها: من كان عليه [قضاء من]

(1)

رمضان فليصمه الغد من يوم الفطر، فمن صام الغد من يوم الفطر فكأنّما صام رمضان.

وفي إسناده ضعف. وعن الشعبي، قال: لأن أصوم يوما بعد رمضان أحبّ إليّ من أن أصوم الدّهر كلّه. ويروى بإسناد ضعيف عن ابن عمر مرفوعا: «من صام بعد الفطر يوما فكأنّما صام السّنة» . وبإسناد ضعيف عن ابن عبّاس رضي الله عنهما مرفوعا: «الصّائم بعد رمضان كالكارّ بعد الفارّ»

(2)

.

وأمّا صيام شوّال كلّه، ففي حديث رجل من قريش سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:

«من صام رمضان وشوّالا والأربعاء والخميس، دخل الجنّة»

(3)

. خرّجه الإمام أحمد والنسائيّ.

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي من حديث مسلم

(1)

زيادة من (أ).

(2)

أخرجه: البيهقي في «شعب الإيمان» (3737).

(3)

أخرجه: أحمد (4/ 78 /، 3/ 416)، والبيهقي في «شعب الإيمان» (3780)، وإسناده ضعيف، وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 190): وفيه من لم يسم، وبقية رجاله ثقات».

ص: 385

القرشي، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّه سئل عن صيام الدّهر، فقال:«إنّ لأهلك عليك حقّا، فصم رمضان والذي يليه، وكلّ أربعاء وخميس، فإذا أنت قد صمت الدّهر وأفطرت»

(1)

.

وخرّج ابن ماجه بإسناد منقطع أنّ أسامة بن زيد كان يصوم أشهر الحرم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صم شوّالا» . فترك أشهر الحرم، ثم لم يزل يصوم شوّالا حتّى مات

(2)

.

وخرّجه أبو يعلى الموصلي بإسناد متّصل، عن أسامة، قال: كنت أصوم شهرا من السّنة، فقال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم:«أين أنت من شوّال؟» فكان أسامة إذا أفطر أصبح الغد صائما من شوّال حتى يأتي على آخره.

وصيام شوّال كصيام شعبان؛ لأنّ كلا الشّهرين حريم لشهر رمضان، وهما يليانه. وقد ذكرنا في فضل صيام شعبان أنّ الأظهر أنّ صيامهما أفضل من صيام الأشهر الحرم، ولا خلاف في ذلك.

وإنما كان صيام رمضان واتباعه بستّ من شوّال يعدل صيام الدّهر؛ لأنّ الحسنة بعشر أمثالها، وقد جاء ذلك مفسّرا من حديث ثوبان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«صيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستّة أيام بشهرين، فذلك صيام سنة»

(3)

. يعني رمضان وستّة أيام بعده. خرّجه الإمام أحمد والنسائي وهذا لفظه، وابن حبّان في «صحيحه» ، وصحّحه أبو حاتم الرازي. وقال الإمام أحمد: ليس في أحاديث الباب أصحّ منه. وتوقّف فيه في رواية أخرى.

(1)

أخرجه: أبو داود (2432)، والترمذي (748) وأشار الترمذي إلى ضعفه.

(2)

أخرجه: ابن ماجه (1744).

(3)

أخرجه: أحمد (5/ 280)، والنسائي في «الكبرى» (2873)، وابن ماجه (1715)، وابن خزيمة (2115)، وابن حبان (3635)، وصححه الألباني كما في «صحيح الجامع» .

وراجع: «العلل» لابن أبي حاتم (744 - 745).

ص: 386

ولا فرق في ذلك بين أن يكون شهر رمضان ثلاثين أو تسعا وعشرين.

وعلى هذا حمل بعضهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «شهرا عيد لا ينقصان؛ رمضان، وذو الحجّة»

(1)

. وقال: المراد كمال آخره، سواء كان ثلاثين أو تسعا وعشرين.

وأنّه إذا أتبع بستّة أيّام من شوّال، فإنّه يعدل صيام الدّهر على كلّ حال.

وكره إسحاق بن راهويه أن يقال لشهر رمضان: إنّه ناقص، وإن كان تسعا وعشرين؛ لهذا المعنى، فإن قال قائل: فلو صام هذه الستة أيام من غير شوّال يحصل له هذا الفضل، فكيف خصّ صيامها من شوّال؟ قيل: صيامها من شوّال يلتحق بصيام رمضان في الفضل، فيكون له أجر صيام الدّهر فرضا. ذكر ذلك ابن المبارك، وذكر أنّه في بعض الحديث حكاه عنه الترمذي في جامعه.

ولعلّه أشار إلى ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها: أنّ من صام الغد من يوم الفطر، فكأنّما صام رمضان.

‌وفي معاودة الصّيام بعد رمضان فوائد عديدة:

منها: أنّ صيام ستة أيّام من شوّال بعد رمضان يستكمل بها أجر صيام الدّهر كلّه، كما سبق.

ومنها: أنّ صيام شوّال وشعبان كصلاة السّنن الرواتب قبل الصّلاة المفروضة وبعدها، فيكمل بذلك ما حصل في الفرض من خلل ونقص. فإن الفرائض تكمل بالنوافل يوم القيامة، كما ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعدّدة

(2)

.

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 35)(1912)، ومسلم (3/ 127)(1089)، وأحمد (47، 5/ 38، 50)، وأبو داود (2323)، والترمذي (692)، وابن ماجه (1659) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

(2)

ورد ذلك من حديث أبي هريرة عند: أحمد (4/ 103، 425، 2/ 290)، وأبي داود (864، 865)، والنسائي (233، 1/ 232)، وابن ماجه (1426، 1425).

ص: 387

وأكثر النّاس في صيامه للفرض نقص وخلل، فيحتاج إلى ما يجبره ويكمله من الأعمال؛ ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول الرّجل: صمت رمضان كلّه، أو قمته كلّه. قال الصّحابي: فلا أدري، أكره التّزكية أم لا بدّ من غفلة

(1)

.

وكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يقول: من لم يجد ما يتصدّق به فليصم. يعني من لم يجد ما يخرجه صدقة للفطر في آخر رمضان فليصم بعد الفطر؛ فإنّ الصّيام يقوم مقام الإطعام في التكفير للسيئات، كما يقوم مقامه في كفّارات الأيمان وغيرها من الكفّارات، مثل كفّارة القتل، والوطء في رمضان، والظّهار.

ومنها: أنّ معاودة الصّيام بعد صيام رمضان علامة على قبول صوم رمضان؛ فإنّ الله تعالى إذا تقبّل عمل عبد وفّقه لعمل صالح بعده، كما قال بعضهم:

ثواب الحسنة الحسنة بعدها، فمن عمل حسنة ثم أتبعها بحسنة بعدها، كان ذلك علامة على قبول الحسنة الأولى. كما أنّ من عمل حسنة، ثم أتبعها بسيئة، كان ذلك علامة ردّ الحسنة وعدم قبولها.

ومنها: أنّ صيام رمضان يوجب مغفرة ما تقدّم من الذّنوب، كما سبق ذكره؛ وأنّ الصّائمين لرمضان يوفّون أجورهم في يوم الفطر، وهو يوم الجوائز.

فيكون معاودة الصّيام بعد الفطر شكرا لهذه النّعمة، فلا نعمة أعظم من مغفرة الذنوب. كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتورّم قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فيقول: «أفلا أكون عبدا شكورا؟»

(2)

.

(1)

أخرجه: أحمد (52، 48، 41، 40، 5/ 39)، وأبو داود (2415)، والنسائي (4/ 130)، وقد تقدم.

(2)

أخرجه: البخاري (8/ 124، 6/ 169، 2/ 63)(1130)(4836)(4837)(6471)، ومسلم (8/ 141)(2819)، وأحمد (255، 4/ 251)، والترمذي (4012)، وفي «الشمائل» (261)، والنسائي (3/ 219)، وابن ماجه (1419)، وابن خزيمة (1183، 1182).

ص: 388

وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده بشكر نعمة صيام رمضان بإظهار ذكره، وغير ذلك من أنواع شكره، فقال:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. فمن جملة شكر العبد لربّه على توفيقه لصيام رمضان وإعانته عليه، ومغفرة ذنوبه أن يصوم له شكرا عقيب ذلك.

كان بعض السّلف إذا وفّق لقيام ليلة من الليالي أصبح في نهارها صائما، ويجعل صيامه شكرا للتوفيق للقيام. وكان وهيب بن الورد يسأل عن ثواب شيء من الأعمال، كالطواف ونحوه، فيقول: لا تسألوا عن ثوابه، ولكن سلوا ما الذي على من وفّق لهذا العمل من الشكر؛ للتوفيق والإعانة عليه.

إذا أنت لم تزدد على كلّ نعمة

لموليكها شكرا فلست بشاكر

كلّ نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا يحتاج إلى شكر عليها، ثم التوفيق للشكر عليها نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبدا، فلا يقدر العباد على القيام بشكر النعم.

وحقيقة الشّكر الاعتراف بالعجز عن الشكر، كما قيل:

إذا كان شكري نعمة الله نعمة

عليّ له في مثلها يجب الشّكر

فكيف بلوغ الشّكر إلاّ بفضله

وإن طالت الأيّام واتّصل العمر

قال أبو عمرو الشيباني: قال موسى عليه السلام يوم الطّور: يا ربّ، إن أنا صليت فمن قبلك، وإن أنا تصدّقت فمن قبلك، وإن بلّغت رسالاتك فمن قبلك، فكيف أشكرك؟ قال: يا موسى، الآن شكرتني.

فأمّا مقابلة نعمة التوفيق لصيام رمضان بارتكاب المعاصي بعده، فهو من فعل من بدّل نعمة الله كفرا. فإن كان قد عزم في صيامه على معاودة

ص: 389

المعاصي بعد انقضاء الصيام، فصيامه عليه مردود، وباب الرّحمة في وجهه مسدود.

قال كعب: من صام رمضان وهو يحدّث نفسه أنّه إذا أفطر رمضان أن لا يعصي الله، دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب، ومن صام رمضان وهو يحدّث نفسه أنّه إذا أفطر عصى ربّه، فصيامه عليه مردود.

ومنها: أنّ الأعمال التي كان العبد يتقرّب بها إلى ربّه في شهر رمضان لا تنقطع بانقضاء رمضان، بل هي باقية بعد انقضائه ما دام العبد حيّا. وهذا معنى الحديث المتقدّم أنّ الصائم بعد رمضان كالكارّ بعد الفارّ، يعني كالذي يفرّ من القتال في سبيل الله ثم يعود إليه. وذلك لأنّ كثيرا من الناس يفرح بانقضاء شهر رمضان؛ لاستثقال الصّيام وملله وطوله عليه. ومن كان كذلك فلا يكاد يعود إلى الصّيام سريعا، فالعائد إلى الصّيام بعد فطره يوم الفطر يدلّ عوده على رغبته في الصيام، وأنّه لم يملّه ولم يستثقله ولا تكرّه به.

وفي حديث خرّجه الترمذي مرفوعا: «أحبّ الأعمال إلى الله الحالّ المرتحل»

(1)

. وفسّر بصاحب القرآن يضرب من أوّله إلى آخره، ومن آخره إلى أوّله، كلّما حلّ ارتحل. والعائد إلى الصّيام سريعا بعد فراغ صيامه، شبيه بقارئ القرآن إذا فرغ من قراءته ثم عاد إليه، في المعنى، والله أعلم.

قيل لبشر: إنّ قوما يتعبّدون ويجتهدون في رمضان. فقال: بئس القوم قوم لا يعرفون لله حقّا إلاّ في شهر رمضان، إن الصّالح الذي يتعبّد ويجتهد السّنة كلّها. وسئل الشّبلي: أيّما أفضل، رجب أو شعبان؟ فقال: كن ربّانيّا ولا تكن شعبانيّا ثم أنشد:

ص: 390

إذا كنت في حرب الهوى متجردا

فكلّ أرض ثغر لي وطرسوس

كان النبي صلى الله عليه وسلم عمله ديمة. وسئلت عائشة رضي الله عنها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخصّ يوما من الأيام؟ فقالت: لا، كان عمله ديمة

(1)

. وقالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة

(2)

. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقضي ما فاته من أوراده في رمضان في شوال، فترك في عام اعتكاف العشر الأواخر من رمضان، ثم قضاه في شوال، فاعتكف العشر الأول منه

(3)

.

وسأل رجلا: هل صام من سرر شعبان شيئا؟ فقال: لا، فأمره أن يصوم إذا أفطر. يعني يقضي ما فاته من صيام شعبان في شوال

(4)

.

وقد تقدّم عن أمّ سلمة أنّها كانت تأمر أهلها: من كان عليه قضاء من رمضان أن يقضيه الغد من يوم الفطر.

فمن كان عليه قضاء من شهر رمضان فليبدأ بقضائه في شوّال؛ فإنه أسرع لبراءة ذمته، وهو أولى من التطوّع بصيام ست من شوّال. فإنّ العلماء اختلفوا فيمن عليه صيام مفروض؛ هل يجوز أن يتطوّع قبله أم لا؟

(1)

أخرجه: البخاري (8/ 122، 3/ 54)(1987)(6466)، ومسلم (2/ 189)(783)، وأحمد (278، 189، 174، 55، 6/ 43)، وأبو داود (1370)، والترمذي في «الشمائل» (310)، وابن خزيمة (1281).

(2)

أخرجه: البخاري (4/ 231، 3/ 59، 2/ 66)(1147)(2013)، ومسلم (2/ 166)(738)، وأبو داود (1341)، والنسائي (3/ 234)، والترمذي (439)، وفي «الشمائل» (270)، وابن خزيمة (1166، 49).

(3)

ورد ذلك من حديث عائشة عند: البخاري (67، 66، 3/ 63)(2033)، ومسلم (3/ 175)(1173)، وأحمد (226، 6/ 84)، وأبو داود (2464)، والترمذي (791)، والنسائي (2/ 44)، وابن ماجه (1771).

(4)

أخرجه: البخاري (3/ 54)(1983)، ومسلم (169، 168، 3/ 166)(1161)، وأحمد (446، 443، 442، 439، 434، 432، 4/ 428)، وأبو داود (2328).

ص: 391

وعلى قول من جوّز التطوّع قبل القضاء فلا يحصل مقصود صيام ستة أيّام من شوّال إلاّ لمن أكمل صيام رمضان، ثم أتبعه بستّ من شوّال.

فمن كان عليه قضاء من رمضان، ثم بدأ بصيام ستّ من شوّال تطوّعا، لم يحصل له ثواب من صام رمضان، ثم أتبعه بستّ من شوال، حيث لم يكمل عدة رمضان، كما لا يحصل لمن أفطر رمضان لعذر بصيام ستّة أيام من شوال أجر صيام السّنة بغير إشكال.

ومن بدأ بالقضاء في شوّال، ثم أراد أن يتبع ذلك بصيام ست من شوّال بعد تكملة قضاء رمضان كان حسنا؛ لأنّه يصير حينئذ قد صام رمضان وأتبعه بستّ من شوال. ولا يحصل له فضل صيام ستّ من شوّال بصوم قضاء رمضان؛ لأنّ صيام الست من شوّال إنما يكون بعد إكمال عدّة رمضان.

عمل المؤمن لا ينقضي حتى يأتيه أجله. قال الحسن: إنّ الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلا دون الموت، ثم قرأ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

هذه الشهور والأعوام والليالي والأيام كلّها مقادير للآجال، ومواقيت للأعمال ثم تنقضي سريعا، وتمضي جميعا. والذي أوجدها وابتدعها وخصّها بالفضائل وأودعها باق لا يزول، ودائم لا يحول؛ هو في جميع الأوقات إله واحد، ولأعمال عباده رقيب مشاهد. فسبحان من قلّب عباده في اختلاف الأوقات بين وظائف الخدم؛ ليسبغ عليهم فيها فواضل النّعم، ويعاملهم بنهاية الجود والكرم.

لمّا انقضت الأشهر الثلاثة الكرام التي أولها الشهر الحرام، وآخرها شهر الصّيام، أقبلت بعدها الأشهر الثلاثة، أشهر الحج إلى البيت الحرام، فكما أنّ من صام رمضان وقامه غفر له ما تقدّم من ذنبه؛ فمن حجّ البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، فما يمضي من عمر المؤمن ساعة من

ص: 392

الساعات إلاّ ولله فيها عليه وظيفة من وظائف الطاعات؛ فالمؤمن يتقلّب بين هذه الوظائف، ويتقرّب بها إلى مولاه وهو راج خائف.

المحبّ لا يملّ من التقرّب بالنوافل إلى مولاه، ولا يأمل إلا قربه ورضاه.

ما للمحبّ سوى إرادة حبّه

إنّ المحبّ بكلّ برّ يضرع

كلّ وقت يخليه العبد من طاعة مولاه فقد خسره، وكلّ ساعة يغفل فيها عن ذكر الله تكون عليه يوم القيامة ترة. فوا أسفاه على زمان ضاع في غير طاعته! وا حسرتاه على وقت فات في غير خدمته!.

من فاته أن يراك يوما

فكلّ أوقاته فوات

وحيثما كنت من بلاد

فلي إلى وجهك التفات

إليكم هجرتي وقصدي

وأنتم الموت والحياة

أمنت أن توحشوا فؤادي

فآنسوا مقلتي ولات

(1)

من عمل طاعة من الطاعات وفرغ منها، فعلامة قبولها أن يصلها بطاعة أخرى، وعلامة ردّها أن يعقب تلك الطاعة بمعصية. ما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها! وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلوها. وما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها وتعفوها! ذنب واحد بعد التوبة أقبح من سبعين ذنبا قبلها.

النكسة أصعب من المرض، وربما أهلكت. سلوا الله الثّبات على الطّاعات إلى الممات، وتعوّذوا به من تقلّب القلوب، ومن الحور بعد الكور. ما أوحش ذلّ المعصية بعد عزّ الطّاعة، وأفحش فقر الطمع بعد غنى القناعة.

ارحموا عزيز قوم بالمعاصي ذلّ، وغنيّ قوم بالذّنوب افتقر.

ترى الحيّ الأولى بانوا

على العهد كما كانوا

(1)

هذان البيتان من (ص).

ص: 393

أم الدّهر بهم خانوا

ودهر المرء خوّان

إذا عزّ بغير اللّ

هـ يوما معشر هانوا

يا شبّان التّوبة، لا ترجعوا إلى ارتضاع ثدي الهوى من بعد الفطام، فالرّضاع إنّما يصلح للأطفال لا للرجال. ولكن لا بدّ من الصّبر على مرارة الفطام؛ فإن صبرتم تعوّضتم عن لذّة الهوى بحلاوة الإيمان في القلوب. من ترك لله شيئا لم يجد فقده وعوّضه الله خيرا منه. {إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 70]. وفي الحديث: «النظر سهم مسموم من سهام إبليس؛ من تركه من خوف الله أعطاه الله إيمانا يجد حلاوته في قلبه» .

خرّجه الإمام أحمد

(1)

.

وهذا الخطاب للشباب. فأمّا الشيخ إذا عاود المعاصي بعد انقضاء رمضان فهو أقبح وأقبح؛ لأنّ الشاب يؤمّل معاودة التّوبة في آخر عمره، وهو مخاطر؛ فإنّ الموت قد يعاجله، وقد يطرقه بغته. فأمّا الشيخ فقد شارف مركبه ساحل بحر المنون فماذا يؤمّل؟

نعى لك ظلّ الشّباب المشيب

ونادتك باسم سواك الخطوب

فكن مستعدّا لداعي الفناء

فكلّ الّذي هو آت قريب

ألسنا نرى شهوات النّفو

س تفنى وتبقى علينا الذّنوب

يخاف على نفسه من يتوب

فكيف يكن حال من لا يتوب

***

(1)

لا يوجد في المسند بهذا اللفظ، وإنما رواه الحاكم (4/ 349)(7875) عن حذيفة، ورواه الطبراني (10/ 173)(10362) عن ابن مسعود، قال الهيثمي (8/ 63):«فيه عبد الله بن إسحاق الواسطي وهو ضعيف» .

ص: 394

‌المجلس الثاني في ذكر الحج وفضله والحث عليه

في «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«أفضل الأعمال إيمان بالله ورسوله، ثم جهاد في سبيل الله، ثم حجّ مبرور»

(1)

.

هذه الأعمال الثلاثة ترجع في الحقيقة إلى عملين:

أحدهما: الإيمان بالله ورسوله، وهو التّصديق الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، كما فسّر النبيّ صلى الله عليه وسلم الإيمان بذلك في حديث سؤال جبريل له، وفي غيره من الأحاديث. وقد ذكر الله تعالى الإيمان بهذه الأصول في مواضع كثيرة من كتابه؛ كأوّل البقرة، ووسطها، وآخرها.

والعمل الثاني: الجهاد في سبيل الله تعالى. وقد جمع الله بين هذين الأصلين في مواضع من كتابه، كقوله تعالى:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} الآية [الصف: 10 - 11]، وفي قوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ} [الحجرات: 15].

وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه أنّ أفضل الأعمال الإيمان بالله والجهاد في سبيله؛ فالإيمان المجرّد تدخل فيه أعمال الجوارح عند السّلف

(1)

أخرجه: البخاري (1/ 13)(26)، ومسلم (1/ 62)(83)، وأحمد (268، 2/ 264)، والنسائي (8/ 93، 6/ 19، 5/ 113).

ص: 395

وأهل الحديث، والإيمان المقرون بالعمل يراد به التصديق مع القول، وخصوصا إن قرن الإيمان بالله بالإيمان برسوله، كما في هذا الحديث.

فالإيمان القائم بالقلوب أصل كلّ خير، وهو خير ما أوتيه العبد في الدنيا والآخرة، وبه يحصل له سعادة الدّنيا والآخرة، والنّجاة من شقاوة الدّنيا والآخرة. ومتى رسخ الإيمان في القلب انبعثت الجوارح كلّها بالأعمال الصالحة، واللسان بالكلم الطيب. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ألا وإنّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهي القلب»

(1)

. ولا صلاح للقلب بدون الإيمان بالله، وما يدخل في مسمّاه من معرفة الله وتوحيده، وخشيته، ومحبّته، ورجائه، والإنابة إليه، والتوكّل عليه.

قال الحسن: ليس الإيمان بالتمنّي، ولا بالتحلّي، ولكنّه بما وقر في الصدور، وصدقته الأعمال. ويشهد لذلك قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4]. وفي هذا يقول بعضهم:

ما كلّ من زوّق لي قوله

يغرّني يا صاح تزويقه

من حقّق الإيمان في قلبه

لا بدّ أن يظهر تحقيقه

فإذا ذاق العبد حلاوة الإيمان، ووجد طعمه وحلاوته، ظهر ثمرة ذلك على لسانه وجوارحه، فاستحلى اللسان ذكر الله وما والاه، وأسرعت الجوارح إلى

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 69، 1/ 20)(52)، ومسلم (51، 5/ 50)(1599)، وأحمد (275/ 4، 274، 271، 270، 69)، وأبو داود (3330، 3329)، والترمذي (1205)، والنسائي (8/ 327، 7/ 241)، وابن ماجه (3984).

ص: 396

طاعة الله، فحينئذ يدخل حبّ الإيمان في القلب، كما يدخل حبّ الماء البارد الشّديد برده في اليوم الشّديد حرّه للظمآن الشديد عطشه، ويصير الخروج من الإيمان أكره إلى القلوب من الإلقاء في النار، وأمرّ عليها من الصّبر.

ذكر ابن المبارك عن أبي الدّرداء رضي الله عنه أنّه دخل المدينة، فقال لهم: ما لي لا أرى عليكم يا أهل المدينة حلاوة الإيمان؟ والذي نفسي بيده، لو أنّ دبّ الغابة وجد طعم الإيمان لرئي عليه حلاوة الإيمان.

لو ذاق طعم الإيمان رضوى

لكاد من وجده يميد

قد حمّلوني تكليف عهد

يعجز عن حمله الحديد

فالإيمان بالله ورسوله وظيفة القلب واللسان، ثم يتبعهما عمل الجوارح، وأفضلها الجهاد في سبيل الله، وهو نوعان:

أفضلهما: جهاد المؤمن لعدوّه الكافر، وقتاله في سبيل الله؛ فإنّ فيه دعوة له إلى الإيمان بالله ورسوله، ليدخل في الإيمان، قال الله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران: 110]. قال أبو هريرة رضي الله عنه في هذه الآية: يجيئون بهم في السّلاسل حتّى يدخلوهم الجنّة

(1)

. وفي الحديث المرفوع: «عجب ربّك من قوم يقادون إلى الجنّة بالسّلاسل»

(2)

.

فالجهاد في سبيل الله دعاء الخلق إلى الإيمان بالله ورسوله بالسيف واللسان، بعد دعائهم إليه بالحجة والبرهان. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في أوّل الأمر

(1)

أخرجه: البخاري (6/ 47)(4557)، والنسائي في «الكبرى» (11005)، والطبري (44/ 4)، والحاكم (4/ 84).

(2)

أخرجه: البخاري (4/ 73)(3010)، وأحمد (457، 406، 2/ 302)، وأبو داود (2677)، وابن حبان (134).

ص: 397

لا يقاتل قوما حتى يدعوهم. فالجهاد به تعلو كلمة الإيمان، وتتسع رقعة الإسلام، ويكثر الداخلون فيه، وهو وظيفة الرّسل وأتباعهم، وبه تصير كلمة الله هي العليا. والمقصود منه أن يكون الدّين كله لله، والطاعة له، كما قال تعالى:{وَقاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ} [الأنفال: 39]. والمجاهد في سبيل الله هو المقاتل لتكون كلمة الله هي العليا خاصّة.

والنوع الثاني من الجهاد: جهاد النفس في طاعة الله، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:

«المجاهد من جاهد نفسه في الله» . وقال بعض الصحابة لمن سأله عن الغزو: ابدأ بنفسك فاغزها، وابدأ بنفسك فجاهدها.

وأعظم مجاهدة النفس على طاعة الله عمارة بيوته بالذّكر والطاعة، قال الله تعالى:{إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ} [التّوبة: 18]. وفي حديث أبي سعيد المرفوع: «إذا رأيتم الرّجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان»

(1)

ثم تلا هذه الآية. خرّجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه.

وقال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ} الآية [النور: 36 - 37].

والنوع الأوّل من الجهاد أفضل من هذا الثاني، قال الله تعالى:{أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا}

(1)

أخرجه: أحمد (76، 3/ 68)، والترمذي (3093، 2617)، وابن ماجه (802)، وابن خزيمة (1502)، والحاكم (1/ 212 - 213).

وفي إسناده دراج أبو السمح وهو ضعيف.

ص: 398

{يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ} [التوبة: 19 - 20].

وفي «صحيح مسلم» ، عن النّعمان بن بشير، قال: «كنت عند منبر النّبي صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلاّ أن أسقي الحاجّ.

وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام، إلاّ أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل ممّا قلتم. فزجرهم عمر، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يوم الجمعة، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عز وجل:

{أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ،} إلى آخر الآية [التّوبة: 19]»

(1)

.

فهذا الحديث الذي فيه ذكر سبب نزول هذه الآية يبين أن المراد أفضل ما يتقرب به إلى الله عز وجل من أعمال النوافل والتطوع، وأنّ الآية تدلّ على أنّ أفضل ذلك الجهاد مع الإيمان. فدلّ على أنّ التطوّع بالجهاد أفضل من التطوّع بعمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ. وعلى مثل هذا يحمل حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

هذا، وإنّ الجهاد أفضل من الحجّ المتطوّع به، فإنّ فرض الحجّ تأخّر عند كثير من العلماء إلى السّنة التاسعة، ولعلّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام قبل أن يفرض الحجّ بالكليّة، فكان حينئذ تطوّعا.

وقد قيل: إن الجهاد كان في أوّل الإسلام فرض عين، فلا إشكال في هذا على تقديمه على الحجّ قبل افتراضه. فأما بعد أن صار الجهاد فرض كفاية والحجّ فرض عين؛ فإنّ الحجّ المفترض حينئذ يكون أفضل من الجهاد. قال

(1)

أخرجه: مسلم (6/ 36)(1879)، وأحمد (4/ 269).

ص: 399

عبد الله بن عمرو بن العاص: حجّة قبل الغزو أفضل من عشر غزوات، وغزوة بعد حجّة أفضل من عشر حجات. وروي ذلك مرفوعا

(1)

من وجوه متعدّدة، في أسانيدها مقال.

وقال الصّبيّ بن معبد: كنت نصرانيّا فأسلمت، فسألت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: الجهاد أفضل أم الحجّ؟ فقالوا: الحجّ.

والمراد - والله أعلم - أنّ الحجّ أفضل لمن لم يحجّ حجّة الإسلام، مثل هذا الذي أسلم. وقد يكون المراد بحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ جنس الجهاد أشرف من جنس الحجّ، فإن عرض للحج وصف يمتاز به على الجهاد، وهو كونه فرض عين، صار ذلك الحجّ المخصوص أفضل من الجهاد، وإلاّ فالجهاد أفضل، والله أعلم.

وقد دلّ حديث أبي هريرة رضي الله عنه على أنّ أفضل الأعمال بعد الجهاد في سبيل الله جنس عمارة المساجد؛ بذكر الله وطاعته، فيدخل في ذلك الصلاة والذّكر والتلاوة والاعتكاف وتعليم العلم النافع واستماعه. وأفضل ذلك عمارة أفضل المساجد وأشرفها، وهو المسجد الحرام، وبالزّيارة والطّواف؛ فلهذا خصّه بالذكر وجعل قصده للحجّ أفضل الأعمال بعد الجهاد. وقد خرّجه ابن المنذر ولفظه:«ثم حجّ مبرور أو عمرة» .

وقد ذكر الله تعالى هذا البيت في كتابه بأعظم ذكر وأفخم تعظيم وثناء، قال الله تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]. الآيات. وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً}

(1)

أخرجه: أبو نعيم في «الحلية» (5/ 188)، وإسناده ضعيف.

ص: 400

{وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً} [آل عمران:

96 -

97]. وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 26 - 27].

فعمارة سائر المساجد - سوى المسجد الحرام - وقصدها للصّلاة فيها، وأنواع العبادات من الرّباط في سبيل الله تعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة:«فذلكم الرّباط، فذلكم الرّباط، فذلكم الرّباط»

(1)

.

فأمّا المسجد الحرام بخصوصه فقصده لزيارته وعمارته بالطّواف الذي خصّه الله به من نوع الجهاد في سبيل الله عز وجل.

وفي «صحيح البخاري» عن عائشة رضي الله عنها، قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال:«لكنّ أفضل الجهاد حجّ مبرور»

(2)

، يعني أفضل جهاد النساء. ورواه بعضهم:«لكنّ أفضل الجهاد حجّ مبرور» فيكون صريحا في هذا المعنى. وقد خرّجه البخاري بلفظ آخر، وهو:

«جهادكنّ الحجّ» ؛ وهو كذلك.

وفي «المسند» و «سنن ابن ماجه» عن أمّ سلمة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«الحجّ جهاد كلّ ضعيف»

(3)

. وخرّج البيهقيّ وغيره من حديث

(1)

أخرجه: مسلم (1/ 151)(251)، ومالك (118)، وأحمد (301، 277، 2/ 235، 438، 303)، والترمذي (51)، والنسائي (1/ 89).

(2)

أخرجه: البخاري (39، 4/ 18، 3/ 24، 2/ 164)(1520)، وأحمد (68، 6/ 67، 166، 165، 120، 71)، والنسائي (5/ 114)، وابن ماجه (2901).

(3)

أخرجه: أحمد (303، 301، 6/ 294)، وابن ماجه (2902).

وقال البخاري - كما في «العلل الكبير» للترمذي (220): «هو حديث مرسل» .

ص: 401

أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «جهاد الكبير، والضعيف، والمرأة، الحجّ والعمرة»

(1)

.

وفي حديث مرسل: «الحجّ جهاد، والعمرة تطوّع»

(2)

. وفي حديث آخر مرسل خرّجه عبد الرزّاق: أنّ رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنّي جبان لا أطيق لقاء العدوّ. قال: أفلا أدلّك على جهاد لا قتال فيه؟ قال: بلى. قال: عليك بالحجّ والعمرة

(3)

.

وخرّج أيضا من مراسيل علي بن الحسين أنّ رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد، فقال: ألا أدلّك على جهاد لا شوكة فيه؟ الحجّ

(4)

.

وفيه عن عمر أنّه قال: إذا وضعتم السّروج - يعني من سفر الجهاد - فشدّوا الرّحال إلى الحجّ والعمرة؛ فإنّه أحد الجهادين. وذكره البخاري تعليقا

(5)

.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إنما هو سرج ورحل؛ فالسّرج في سبيل الله، والرّحل في الحج. خرّجه الإمام أحمد في مناسكه.

وإنّما كان الحجّ والعمرة جهادا؛ لأنّه يجهد المال والنفس والبدن، كما قال

(1)

أخرجه: أحمد (2/ 421)، والنسائي (5/ 113)، والبيهقي في «السنن» (9، 4/ 350 / 23)، وضعفه الألباني في «تخريج الترغيب» (2/ 106).

(2)

أخرجه: ابن ماجه (2989)، والطبراني في «الأوسط» (6723) عن طلحة بن عبيد الله مرفوعا به.

وقال أبو حاتم - كما في «العلل» لابنه (850) -: «هذا حديث باطل» وقد روي مرسلا من طريق معاوية بن إسحاق عن أبي صالح الحنفي مرفوعا كما عند البيهقي في «سننه» (4/ 348).

وراجع: «الضعيفة» للألباني (200).

(3)

أخرجه: عبد الرزاق في «المصنف» (8810) وهو من مراسيل عبد الكريم الجزري.

(4)

أخرجه: عبد الرزاق في «المصنف» (8809)، والطبراني في «الكبير» (2910).

(5)

أخرجه: عبد الرزاق في «المصنف» (8808)، وذكره البخاري في «صحيحه» (2/ 163) تعليقا.

ص: 402

أبو الشّعثاء: نظرت في أعمال البرّ، فإذا الصّلاة تجهد البدن دون المال، والصّيام كذلك، والحجّ يجهدهما، فرأيته أفضل.

وروى عبد الرزّاق بإسناده، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنّ رجلا سأله عن الحجّ، قال: إنّ الحاجّ يشفع في أربعمائة بيت من قومه، ويبارك في أربعين من أمهات البعير الذي حمله، ويخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه. فقال له رجل: يا أبا موسى، إنّي كنت أعالج الحجّ، وقد كبرت وضعفت، فهل من شيء يعدل الحجّ؟ فقال له: هل تستطيع أن تعتق سبعين رقبة مؤمنة من ولد إسماعيل؟ فأمّا الحلّ والرّحيل فلا أجد له عدلا، أو قال: مثلا

(1)

.

وبإسناده عن طاوس أنّه سئل: هل الحجّ بعد الفريضة أفضل أم الصّدقة؟ قال: فأين الحلّ والرّحيل، والسّهر والنّصب، والطّواف بالبيت، والصّلاة عنده، والوقوف بعرفة، وجمع ورمي الجمار؟ كأنه يقول: الحجّ أفضل

(2)

.

وقد اختلف العلماء في تفضيل الحجّ تطوّعا على الصدقة:

فمنهم: من رجّح الحجّ، كما قاله طاوس وأبو الشعثاء، وقاله الحسن أيضا. ومنهم: من رجّح الصّدقة، وهو قول النّخعي. ومنهم: من قال: إن كان ثمّ رحم محتاجة أو زمن مجاعة، فالصّدقة أفضل، وإلاّ فالحجّ؛ وهو نصّ أحمد. وروي عن الحسن معناه، وأنّ صلة الرّحم والتنفيس عن المكروب أفضل من التطوّع بالحجّ.

وفي كتاب عبد الرزّاق بإسناد ضعيف: عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه: عبد الرزاق في «المصنف» (8807)، وفيه رجل لم يسم.

(2)

أخرجه: عبد الرزاق في «المصنف» (8822).

ص: 403

سئل عن رجل حجّ فأكثر، أيجعل نفقته في صلة أو عتق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

«طواف سبع لا لغو فيه يعدل رقبة»

(1)

. وهذا يدلّ على تفضيل الحجّ.

واستدلّ من رأى ذلك أيضا بأنّ النّفقة في الحجّ أفضل من النفقة في سبيل الله. وفي «مسند الإمام أحمد» ، عن بريدة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

«النفقة في الحجّ كالنّفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف»

(2)

.

وخرّجه الطبراني من حديث أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«النفقة في سبيل الله؛ الدّرهم فيه بسبعمائة»

(3)

. ويدلّ عليه قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} [البقرة: 195 - 196]، ففيه دليل على أنّ النّفقة في الحجّ والعمرة تدخل في جملة النّفقة في سبيل الله.

وقد كان بعض الصحابة جعل بعيره في سبيل الله، فأرادت امرأته أن تحجّ عليه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«حجّي عليه؛ فإنّ الحجّ في سبيل الله»

(4)

. وقد خرّجه أهل المسانيد والسنن من وجوه متعدّدة، وذكره البخاري تعليقا. وهذا يستدلّ به على أنّ الحجّ يصرف فيه من سهم سبيل الله المذكور في آية الزكاة، كما هو أحد قولي العلماء، فيعطى من الزّكاة من لم يحجّ ما يحجّ به. وفي إعطائه لحجّ التطوّع اختلاف بينهم أيضا.

(1)

أخرجه: عبد الرزاق في «المصنف» (8833).

(2)

أخرجه: أحمد (5/ 354)، والطبراني في «الأوسط» (5274).

وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 208): «وفيه أبو زهير، ولم أجد من ذكره» .

(3)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (5694).

وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 208): «وفيه من لم أعرفه» .

(4)

أخرجه: أحمد (6/ 405 - 406)، وأبو داود (1989) من حديث أم معقل الأسدية رضي الله عنها.

ص: 404

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «الحجّ المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنّة»

(1)

.

وفي «المسند» أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجّة برّة تفضل سائر الأعمال ما

(2)

بين مطلع الشمس إلى مغربها»

(3)

. وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه»

(4)

.

فمغفرة الذنوب بالحجّ، ودخول الجنّة به مرتب على كون الحجّ مبرورا.

وإنما يكون مبرورا باجتماع أمرين فيه:

أحدهما: الإتيان فيه بأعمال البرّ؛ والبرّ يطلق بمعنيين:

أحدهما: بمعنى الإحسان إلى الناس، كما يقال: البرّ والصّلة، وضدّه العقوق. وفي «صحيح مسلم» أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البرّ، فقال: «البر:

حسن الخلق»

(5)

. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إنّ البرّ شيء هيّن؛ وجه طليق وكلام ليّن.

وهذا يحتاج إليه في الحجّ كثيرا، أعني معاملة الناس بالإحسان بالقول والفعل. قال بعضهم: إنما سمّي السفر سفرا؛ لأنّه يسفر عن أخلاق الرجال.

وفي «المسند» عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «الحجّ

(1)

أخرجه: البخاري (1773)، ومسلم (4/ 107)(1349)، وأحمد (334، 3/ 325).

(2)

في «المسند» : «كما» .

(3)

أخرجه: أحمد (4/ 342) عن ماعز.

(4)

أخرجه: البخاري (3/ 14)(1521)، ومسلم (4/ 107)(1350)، وأحمد (2/ 248، 484، 410)، والترمذي (811)، والنسائي (5/ 114)، وابن ماجه (2889).

(5)

أخرجه: مسلم (7، 8/ 6)(2553)، وأحمد (4/ 182)، والترمذي (2389).

ص: 405

المبرور ليس له جزاء إلاّ الجنّة. قالوا: وما برّ الحجّ يا رسول الله؟ قال:

«إطعام الطعام، وإفشاء السّلام»

(1)

. وفي حديث آخر: «وطيب الكلام»

(2)

.

وسئل سعيد بن جبير: أيّ الحاج أفضل؟ قال: من أطعم الطعام وكفّ لسانه. قال الثوريّ: سمعت أنّه من بر الحج. وفي مراسيل خالد بن معدان عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ما يصنع من يؤمّ هذا البيت إذا لم يكن فيه خصال ثلاثة:

ورع يحجزه عمّا حرّم الله، وحلم يضبط به جهله، وحسن صحابة لمن يصحب؛ وإلاّ فلا حاجة لله بحجّه»

(3)

. وقال أبو جعفر الباقر: ما يعبأ من يؤمّ هذا البيت إذا لم يأت بثلاث: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يكفّ به غضبه، وحسن الصحابة لمن يصحبه من المسلمين.

فهذه الثلاثة يحتاج إليها في الأسفار، خصوصا في سفر الحجّ، فمن كمّلها فقد كمل حجّه وبرّ.

ومن أجمع خصال البرّ التي يحتاج إليها الحاجّ ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم أبا جريّ الهجيمي، فقال:«لا تحقرنّ من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تعطي صلة الحبل، ولو أن تعطي شسع النّعل، ولو أن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منطلق، ولو أن تلقى أخاك المسلم فتسلّم عليه، ولو أن تؤنس الوحشان في الأرض»

(4)

.

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 325).

وقال الحافظ في «فتح الباري» (3/ 382): «في إسناده ضعف» .

(2)

أخرجه: الطيالسي (1824)، وفي إسنادة طلحة بن عمرو وهو متروك.

(3)

أخرجه: ابن أبي الدنيا في كتاب «الحلم» (53) مرسلا.

(4)

أخرجه: أحمد (5/ 63 - 64).

وراجع: «العلل» لابن أبي حاتم (2494)، و «التاريخ الكبير» للبخاري (2/ 205/1 - 206)، والصغير (1/ 144 - 145)، و «السلسلة الصحيحة» (770)(1109)(1352).

ص: 406

وفي الجملة، فخير الناس أنفعهم للنّاس، وأصبرهم على أذى الناس، كما وصف الله المتّقين بذلك في قوله تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرّاءِ وَالضَّرّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].

والحاجّ يحتاج إلى مخالطة الناس، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.

قال ربيعة: المروءة في السّفر بذل الزّاد، وقلّة الخلاف على الأصحاب، وكثرة المزاح في غير مساخط الله عز وجل. وجاء رجلان إلى ابن عون يودّعانه، ويسألانه أن يوصيهما، فقال لهما: عليكما بكظم الغيظ، وبذل الزّاد. فرأى أحدهما في المنام أنّ ابن عون أهدى إليهما حلّتين.

والإحسان إلى الرفقة في السفر أفضل من العبادة القاصرة، لا سيّما إن احتاج العابد إلى خدمة إخوانه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في حرّ شديد، ومعه من هو صائم ومفطر، فسقط الصّوّام وقام المفطرون فضربوا الأبنية، وسقوا الرّكاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ذهب المفطرون اليوم بالأجر»

(1)

.

وروي أنّه صلى الله عليه وسلم كان في سفر، فرأى رجلا صائما، فقال له:«ما حملك على الصّوم في السفر؟» فقال: معي ابناي يرحلان بي ويخدماني، فقال له:

«ما زال لهما الفضل عليك» .

وفي «مراسيل أبي داود» عن أبي قلابة رضي الله عنه، قال: قدم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفر يثنون على صاحب لهم، قالوا: ما رأينا مثل فلان قطّ؛ ما كان في مسير إلاّ كان في قراءة، ولا نزلنا منزلا إلاّ كان في صلاة، قال:

«فمن كان يكفيه ضيعته؟» حتى ذكر «ومن كان يعلف دابّته» ، قالوا: نحن.

(1)

أخرجه: البخاري (4/ 42)(2890)، ومسلم (144، 3/ 143)(1119)، والنسائي (182/ 4)، وابن خزيمة (2033، 2032) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 407

قال: «فكلّكم خير منه»

(1)

. وقال مجاهد: صحبت ابن عمر في السّفر لأخدمه، فكان يخدمني.

وكان كثير من السّلف يشترط على أصحابه في السّفر أن يخدمهم اغتناما لأجر ذلك؛ منهم عامر بن عبد قيس، وعمرو بن عتبة بن فرقد مع اجتهادهما في العبادة في أنفسهما. وكذلك كان إبراهيم بن أدهم يشترط على أصحابه في السّفر الخدمة والأذان.

وكان رجل من الصالحين يصحب إخوانه في سفر الجهاد وغيره، فيشترط عليهم أن يخدمهم، فكان إذا رأى رجلا يريد أن يغسل ثوبه قال له: هذا من شرطي، فيغسله، وإذا رأى من يريد أن يغسل رأسه قال له: هذا من شرطي فيغسله. فلمّا مات نظروا في يده فإذا فيها مكتوب: من أهل الجنة، فنظروا إليها فإذا هي كتابة بين الجلد واللحم.

وترافق بهيم العجليّ - وكان من العابدين البكّائين - ورجل تاجر موسر في الحج، فلمّا كان يوم خروجهم للسّفر بكى بهيم حتى قطرت دموعه على صدره، ثم قطرت على الأرض. وقال: ذكرت بهذه الرّحلة الرحلة إلى الله، ثم علا صوته بالنّحيب، فكره رفيقه التاجر منه ذلك، وخشي أن يتنغّص عليه سفره معه بكثرة بكائه. فلمّا قدما من الحجّ جاء الرجل الذي رافق بينهما إليهما ليسلّم عليهما، فبدأ بالتاجر فسلّم عليه، وسأله عن حاله مع بهيم، فقال له:

والله ما ظننت أنّ في هذا الخلق مثله، كان والله يتفضّل عليّ في النفقة وهو معسر وأنا موسر، ويتفضّل عليّ في الخدمة وهو شيخ ضعيف وأنا شابّ، ويطبخ لي وهو صائم وأنا مفطر.

(1)

أخرجه: أبو داود في «المراسيل» (306)، وسعيد بن منصور في «سننه» (2919).

ص: 408

فسأله عمّا كان يكرهه منه من كثرة بكائه؟ فقال: ألفت والله ذلك البكاء وأشرب حبّه قلبي حتّى كنت أساعده عليه، حتى تأذّى بنا الرّفقة، ثم ألفوا ذلك، فجعلوا إذا سمعونا نبكي بكوا، ويقول بعضهم لبعض: ما الذي جعلهما أولى بالبكاء منّا والمصير واحد؟ فجعلوا والله يبكون ونبكي.

ثم خرج من عنده فدخل على بهيم، فسلّم عليه، وقال له: كيف رأيت صاحبك؟ قال: خير صاحب، كثير الذّكر لله، طويل التّلاوة للقرآن، سريع الدّمعة، متحمّل لهفوات الرّفيق، فجزاك الله عنّي خيرا.

وكان ابن المبارك يطعم أصحابه في الأسفار أطيب الطّعام وهو صائم، وكان إذا أراد الحجّ من بلده مرو جمع أصحابه، وقال: من يريد منكم الحجّ؟ فيأخذ منهم نفقاتهم فيضعها عنده في صندوق ويقفل عليه، ثم يحملهم وينفق عليهم أوسع النّفقة، ويطعمهم أطيب الطعام، ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من الهدايا والتحف، ثم يرجع بهم إلى بلده، فإذا وصلوا صنع لهم طعاما، ثم جمعهم عليه، ودعا بالصندوق الذي فيه نفقاتهم فردّ إلى كلّ واحد نفقته.

والمعنى الثاني: مما يراد بالبرّ فعل الطّاعات كلّها وضدّه الإثم. وقد فسّر الله تعالى البرّ بذلك في قوله: {وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ} إلى آخر الآية [البقرة: 177].

فتضمّنت الآية أنّ أنواع البرّ ستّة أنواع، من استكملها فقد استكمل البرّ:

أوّلها: الإيمان بأصول الإيمان الخمسة. وثانيها: إيتاء المال المحبوب لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السّبيل والسّائلين وفي الرقاب. وثالثها: إقام الصلاة ورابعها: إيتاء الزّكاة. وخامسها: الوفاء بالعهد: وسادسها: الصّبر على البأساء والضّرّاء وحين البأس.

ص: 409

وكلّها يحتاج الحاجّ إليها، فإنّه لا يصحّ حجّه بدون الإيمان، ولا يكمل حجّه ويكون مبرورا بدون إقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة؛ فإنّ أركان الإسلام بعضها مرتبط ببعض، فلا يكمل الإيمان والإسلام حتى يؤتى بها كلها، ولا يكمل برّ الحجّ بدون الوفاء بالعهود في المعاقدات والمشاركات المحتاج إليها في سفر الحجّ، وإيتاء المال المحبوب لمن يحبّ الله إيتاءه، ويحتاج مع ذلك إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في السّفر.

فهذه خصال البّر، ومن أهمّها للحاجّ إقام الصّلاة. فمن حجّ من غير إقام الصّلاة، لا سيّما إن كان حجّه تطوّعا، كان بمنزلة من سعى في ربح درهم، وضيّع رأس ماله وهو ألوف كثيرة. وقد كان السّلف يواظبون في الحجّ على نوافل الصّلاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يواظب على قيام الليل على راحلته في أسفاره كلها ويوتر عليها.

وحجّ مسروق، فما نام إلاّ ساجدا. وكان محمد بن واسع يصلّي في طريق مكّة ليله أجمع في محمله، يومئ إيماء، ويأمر حاديه أن يرفع صوته خلفه حتى يشغل عنه بسماع صوت الحادي، فلا يتفطّن له.

وكان المغيرة بن حكيم الصّنعاني يحجّ من اليمن ماشيا، وكان له ورد بالليل يقرأ فيه كلّ ليلة ثلث القرآن، فيقف فيصلّي حتى يفرغ من ورده، ثم يلحق بالركب متى لحق، فربما لم يلحقهم إلاّ في آخر النهار. سلام الله على تلك الأرواح، رحمة الله على تلك الأشباح، ما مثلنا ومثلهم إلاّ كما قال القائل:

نزلوا بمكّة في قبائل هاشم

ونزلت بالبيداء أبعد منزل

فنحن ما نأمر إلا بالمحافظة على الصّلاة في أوقاتها ولو بالجمع بين الصّلاتين المجموعتين في وقت إحداهما بالأرض؛ فإنّه لا يرخّص لأحد أن

ص: 410

يصلّي صلاة الليل في النّهار، ولا صلاة النّهار في الليل، ولا أن يصلّي على ظهر راحلته المكتوبة، إلاّ من خاف الانقطاع عن رفقته أو نحو ذلك ممن يخاف على نفسه.

فأمّا المريض ومن كان في ماء وطين، ففي صلاته على الرّاحلة اختلاف مشهور للعلماء، وفيه روايتان عن الإمام أحمد، وأن يكون بالطهارة الشرعيّة بالوضوء بالماء مع القدرة عليه والتيمّم عند العجز حسّا أو شرعا. ومتى علم الله من عبد حرصه على إقام الصّلاة على وجهها أعانه.

قال بعض العلماء: كنت في طريق الحجّ، وكان الأمير يقف للنّاس كلّ يوم لصلاة الفجر، فينزل فيصلّي، ثم نركب، فلمّا كان ذات يوم قرب طلوع الشّمس

(1)

، ولم يقفوا للنّاس فناديتهم؛ فلم يلتفتوا إلى ذلك، فتوضّأت على المحمل، ثم نزلت للصّلاة على الأرض، ووطّنت نفسي على المشي إلى وقت نزولهم للضحى، وكانوا لا ينزلون إلاّ قريب وقت الظهر، مع علمي بمشقّه ذلك عليّ وأنّي لا قدرة لي عليه، فلمّا صلّيت وقضيت صلاتي، نظرت إلى رفقتي فإذا هم وقوف، وقد كانوا لو سئلوا ذلك لم يفعلوه، فسألتهم عن سبب وقوفهم، فقالوا: لمّا نزلت تعرقلت مقاود الجمال بعضها في بعض، فنحن في تخليصها إلى الآن.

قال: فجئت وركبت وحمدت الله عز وجل، وعلمت أنّه ما قدّم أحد حقّ الله تعالى على هوى نفسه وراحتها، إلاّ ورأى سعادة الدّنيا والآخرة، ولا عكس أحد ذلك فقدّم حظّ نفسه على حقّ ربّه إلاّ ورأى الشّقاوة في الدّنيا والآخرة. واستشهد بقول القائل:

(1)

في ب: «الفجر» .

ص: 411

والله ما جئتكم زائرا

إلاّ وجدت الأرض تطوى لي

ولا ثنيت العزم عن بابكم

إلاّ تعثّرت بأذيالي

ومن أعظم أنواع برّ الحجّ كثرة ذكر الله تعالى فيه، وقد أمر الله تعالى بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحجّ مرة بعد أخرى. وقد روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ الحاج أفضل؟ قال: «أكثرهم لله ذكرا»

(1)

. خرّجه الإمام أحمد. وروي مرسلا من وجوه متعددة.

وخصوصا كثرة الذّكر في حال الإحرام بالتلبية والتكبير. وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الحجّ العجّ والثّجّ»

(2)

. وفي حديث جبير بن مطعم المرفوع: «عجوا التكبير عجّا وثجوا الإبل ثجّا»

(3)

. فالعجّ:

رفع الصّوت بالتكبير والتلبية. والثّجّ: إراقة دماء الهدايا والنّسك.

والهدي من أفضل الأعمال، قال الله تعالى:{وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ} [الحجّ: 36]. الآية. وقال تعالى: {ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} الآية [الحجّ: 32]. وأهدى النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع مائة بدنة. وكان يبعث بالهدي إلى منى، فتنحر عنه وهو مقيم بالمدينة.

الأمر الثاني مما يكمل به برّ الحجّ: اجتناب أفعال الإثم فيه؛ من الرّفث

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 438).

(2)

أخرجه: الترمذي (2998، 827)، وابن ماجه (2924) وأشار الترمذي إلى ضعفه في الموضعين.

وراجع: «نصب الراية» (3/ 8)، و «الصحيحة» (1500).

(3)

أخرجه: البغوي عن ابن أخ لجبير بن مطعم، كما ذكر ذلك الهندي في «كنز العمال» (11983).

ص: 412

والفسوق والمعاصي، قال الله تعالى:{فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزّادِ التَّقْوى} [البقرة: 197].

وفي الحديث الصحيح: «من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه»

(1)

. وقد سبق حديث: «من لم يكن له ورع يحجزه عن معاصي الله فليس لله حاجة في حجّه» . فما تزوّد حاجّ ولا غيره أفضل من زاد التّقوى، ولا دعي للحاجّ عند توديعه بأفضل من التقوى.

وقد روي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ودّع غلاما للحج، فقال له:«زوّدك الله التّقوى»

(2)

. قال بعض السّلف لمن ودّعه: اتق الله، فمن اتّقى الله فلا وحشة عليه. وقال آخر لمن ودّعه للحجّ: أوصيك بما وصّى به النبي صلى الله عليه وسلم معاذا حين ودّعه: «اتّق الله حيثما كنت، وأتبع السّيئة الحسنة تمحها، وخالق النّاس بخلق حسن»

(3)

. وهذه وصيّة جامعة لخصال البرّ كلّها. ولأبي الدّرداء رضي الله عنه:

يريد المرء أن يوتى مناه

ويأبى الله إلاّ ما أرادا

يقول المرء فائدتي ومالي

وتقوى الله أفضل ما استفادا

ومن أعظم ما يجب على الحاجّ اتقاؤه من الحرام: أن يطيّب نفقته في الحجّ، وأن لا يجعلها من كسب حرام. وقد خرّج الطبراني وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «إذا خرج الرجل حاجّا بنفقة طيّبة، ووضع رجله في

(1)

أخرجه: البخاري (3/ 14)(1521)، ومسلم (4/ 107)(1350) من حديث أبي هريرة.

(2)

أخرجه: الترمذي (3444) بمعناه، وقال:«هذا حديث حسن غريب» .

(3)

أخرجه: الترمذي (1987)، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» .

وراجع: «العلل» لعبد الله بن أحمد (5086)(5087)، و «العلل» للدارقطني (6/ 41 - 72)، و «الحلية» لأبي نعيم (4/ 376).

ص: 413

الغرز، فنادى: لبّيك اللهم لبّيك، ناداه مناد من السّماء: لبّيك وسعديك، زادك حلال وراحلتك حلال، وحجّك مبرور غير مأزور. وإذا خرج الرّجل بالنّفقة الخبيثة فوضع رجله في الغرز، فنادى: لبّيك اللهم لبّيك، ناداه مناد من السّماء: لا لبّيك ولا سعديك؛ زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجّك غير مبرور»

(1)

.

مات رجل في طريق مكّة، فحفروا له فدفنوه، ونسوا الفأس في لحده، فكشفوا عنه التراب ليأخذوا الفأس، فإذا رأسه وعنقه قد جمعا في حلقه الفأس، فردّوا عليه التّراب ورجعوا إلى أهله فسألوهم عنه، فقالوا: صحب رجلا فأخذ ماله، فكان منه يحجّ ويغزو.

إذا حججت بمال أصله سحت

فما حججت ولكن حجّت العير

لا يقبل الله إلاّ كلّ طيّبة

ما كلّ من حجّ بيت الله مبرور

ومما يجب اجتنابه على الحاج وبه يتمّ برّ حجّه أن لا يقصد بحجّه رياء ولا سمعة ولا مباهاة ولا فخرا ولا خيلاء، ولا يقصد به إلاّ وجه الله ورضوانه، ويتواضع في حجّه ويستكين ويخشع لربّه. روي عن أنس رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم حجّ على رحل رثّ وقطيفة ما تساوي أربعة دراهم، وقال:«اللهم اجعلها حجّة لا رياء فيها ولا سمعة»

(2)

.

وقال عطاء: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصّبح بمنى غداة عرفة، ثم غدا إلى

(1)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (5228)، والبزار (1079 - كشف)، وفي إسناده سليمان ابن داود، وهو ضعيف.

وقد ضعف الحديث المؤلف في «جامع العلوم والحكم» (186، 121).

(2)

أخرجه: ابن ماجه (2890)، والترمذي في «الشمائل» (340، 334)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 308).

ص: 414

عرفات وتحته قطيفة اشتريت له بأربعة دراهم، وهو يقول:«اللهم اجعلها حجّة مبرورة متقبّلة لا رياء فيها ولا سمعة» . وقال عبد الله بن الحارث: ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم رحلا فاهتزّ به، فتواضع لله عز وجل، وقال:«لبّيك، لا عيش إلاّ عيش الآخرة»

(1)

. قال رجل لابن عمر: ما أكثر الحاجّ! فقال ابن عمر:

ما أقلّهم! ثم رأى رجلا على بعير على رحل رثّ، خطامه حبل، فقال: لعلّ هذا. وقال شريح: الحاجّ قليل والركبان كثير، ما أكثر من يعمل الخير، ولكن ما أقلّ الذين يريدون وجهه!

خليلي قطّاع الفيافي إلى الحمى

كثير وأمّا الواصلون قليل

وجوه عليها للقبول علامة

وليس على كلّ الوجوه قبول

كان بعض المتقدّمين يحجّ ماشيا على قدميه كلّ عام، فكان ليلة نائما في فراشه، فطلبت منه أمّه شربة ماء، فصعب على نفسه القيام من فراشه ليسقي أمّه الماء، فتذكّر حجّه ماشيا كلّ عام، وأنّه لا يشقّ عليه، فحاسب نفسه، فرأى أنّه لا يهوّنه عليه إلاّ رؤية الناس له ومدحهم إياه، فعلم أنّه كان مدخولا.

قال بعض التابعين: ربّ محرم يقول: لبيك اللهم لبيك، فيقول الله له:

لا لبيك ولا سعديك، هذا مردود عليك. قيل له: لم؟ قال: لعلّه اشترى ناقة بخمسمائة درهم، ورحلا بمائتي درهم، ومفرشا بكذا وكذا. ثمّ ركب ناقته، ورجّل رأسه، ونظر في عطفيه، فذلك الذي يردّ عليه. ومن هنا استحبّ للحاجّ أن يكون شعثا أغبر.

وفي حديث المباهاة يوم عرفة: أنّ الله تعالى يقول لملائكته: «انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبرا ضاحين، اشهدوا أنّي قد غفرت لهم» .

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 216) عن أنس رضي الله عنه.

ص: 415

قال عمر يوما وهو بطريق مكّة: تشعثون وتغبرون وتتفلون وتضحون، لا تريدون بذلك شيئا من عرض الدّنيا، ما نعلم سفرا خيرا من هذا؛ يعني الحجّ. وعنه قال:«إنّما الحاجّ الشّعث التّفل»

(1)

. وقال ابن عمر لرجل رآه قد استظلّ في إحرامه: اضح لمن أحرمت له. أي ابرز للضّحى، وهو حرّ الشمس.

أتاك الوافدون إليك شعثا

يسوقون المقلّدة الصّواف

فكم من قاصد للرّبّ رغبا

ورهبا بين منتعل وحاف

سبحان من جعل بيته الحرام مثابة للنّاس وأمنا، يتردّدون إليه، ويرجعون عنه، ولا يرون أنّه قضوا منه وطرا. لمّا أضاف الله تعالى ذلك البيت إلى نفسه ونسبه إليه، بقوله عز وجل لخليله:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ} [الحجّ: 26]، تعلّقت قلوب المحبّين ببيت محبوبهم، فكلّما ذكر لهم ذلك البيت الحرام حنّوا، وكلّما تذكّروا بعدهم عنه أنّوا:

لا يذكر الرّمل إلاّ حنّ مغترب

له بذي الرّمل أوطار وأوطان

تهفو إلى البان من قلبي نوازعه

وما بي البان بل من داره البان

رأى بعض الصالحين الحاجّ في وقت خروجهم، فوقف يبكي ويقول:

وا ضعفاه! وينشد على إثر ذلك:

فقلت دعوني واتّباعي ركابكم

أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد

ثم تنفّس وقال: هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت، فكيف تكون

(1)

أخرجه: البزار (1099 - كشف) عن عمر رضي الله عنه مرفوعا وكذلك أخرجه: الترمذي (2998)، وابن ماجه (2896)، وأشار الترمذي إلى ضعفه.

ص: 416

حسرة من انقطع عن الوصول إلى ربّ البيت؟! يحقّ لمن رأى الواصلين وهو منقطع أن يقلق، ولمن شاهد السائرين إلى ديار الأحبّة وهو قاعد أن يحزن.

يا سائق العيس ترفّق واستمع

منّي وبلّغ إن وصلت

(1)

عنّي

عرّض بذكري عندهم لعلّهم

إن سمعوك سائلوك عنّي

قل: ذلك المحبوس عن قصدكم

معذّب القلب بكلّ فنّ

يقول أمّلت بأن أزوركم

في جملة الوفد فخاب ظنّي

أقعدني الحرمان عن قصدكم

ورمت أن أسعى فلم يدعني

ينبغي للمنقطعين طلب الدّعاء من الواصلين؛ لتحصل المشاركة، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال لعمر لما أراد العمرة:«يا أخي، أشركنا في دعائك»

(2)

. وفي «مسند البزار» عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «اللهم، اغفر للحاجّ، ولمن استغفر له الحاجّ»

(3)

. وفي الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول في الطّواف: اللهم! اغفر لفلان بن فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«من هذا؟» قال: رجل حمّلني أن أدعو له بين الرّكن والمقام. فقال: «قد غفر لصاحبك»

(4)

.

(1)

في ب: «وبلغ السّلام إن وصلت» .

(2)

أخرجه: أحمد (1/ 29)، وأبو داود (1498)، والترمذي (3562)، وابن ماجه (2894).

وقال الترمذي: «حسن صحيح» ، ولكن ضعفه الألباني.

وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 211): «وفيه عاصم بن عبيد الله بن عاصم، وفيه كلام كثير، وقد وثق» .

(3)

أخرجه: ابن خزيمة (2516)، والحاكم (1/ 441)، والبيهقي (5/ 261).

وقال الهيثمي (3/ 211): «رواه البزار والطبراني في «الصغير» ، وفيه شريك بن عبد الله النخعي، وهو ثقة، وفيه كلام، وبقية رجاله رجال الصحيح».

قلت: شريك يخطئ كثيرا كما في «التقريب» .

(4)

أخرجه: الطبراني في «الكبير» (12299). -

ص: 417

ألا قل لزوّار دار الحبيب

هنيئا لكم في الجنان الخلود

أفيضوا علينا من الماء فيضا

فنحن عطاش وأنتم ورود

لئن سار القوم وقعدنا، وقربوا وبعدنا، فما يؤمننا أن نكون ممّن {كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ} [التّوبة: 46].

لله درّ ركائب سارت بهم

تطوي القفار الشّاسعات على الدّجا

رحلوا إلى البيت الحرام وقد شجا

قلب المتيّم منهم ما قد شجا

نزلوا بباب لا يخيب نزيله

وقلوبهم بين المخافة والرّجا

على أنّ المتخلّف لعذر شريك للسّائر، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا رجع من غزوة تبوك: «إنّ بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا، ولا قطعتم واديا، إلاّ كانوا معكم، خلّفهم

(1)

العذر».

يا سائرين إلى البيت العتيق لقد

سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا

إنّا أقمنا على عذر وقد رحلوا

ومن أقام على عذر كمن راحا

وربّما سبق بعض من سار بقلبه وهمّته وعزمه بعض السائرين ببدنه.

رأى بعض الصالحين في منامه عشيّة عرفة بعرفة قائلا يقول له: ترى هذا الزّحام بالموقف؟ قال: نعم. قال: ما حجّ منهم إلاّ رجل تخلّف عن الموقف، فحجّ بهمّته، فوهب الله له أهل الموقف. ما الشأن فيمن سار ببدنه، إنما الشأن فيمن قعد بدنه وسار بقلبه، حتى سبق الرّكب.

(4)

- قال الهيثمي في «المجمع» (10/ 152): «وفيه الحارث ابن عمران الجعفري، وهو ضعيف» .

(1)

الحديث أخرجه البخاري (4/ 31)(4423) عن أنس. ومسلم (6/ 49)(1911) عن جابر، وعندهما:«حبسهم» مكان «خلفهم» .

ص: 418

من لي بمثل سيرك المذلّل

تمشي رويدا وتجي في الأوّل

يا سائرين إلى دار الأحباب قفوا للمنقطعين، تحمّلوا معكم رسائل المحصرين، خذوا نظرة منّي فلاقوا بها الحمى.

يا سائرين إلى الحبيب ترفّقوا

فالقلب بين رحالكم خلّفته

ما لي سوى قلبي وفيك أذبته

ما لي سوى دمعي وفيك سكبته

كان عمر بن عبد العزيز إذا رأى من يسافر إلى المدينة النبوية يقول له:

أقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم منّي السّلام. وروي أنّه كان يبرد عليه البريد من الشام.

هذه الخيف وهاتيك منى

فترفّق أيّها الحادي بنا

واحبس الرّكب علينا ساعة

نندب الرّبع ونبكي الدّمنا

فلذا الموقف أعددنا البكا

ولذا اليوم الدّموع تقتنى

أتراكم في النّقا والمنحنى

أهل سلع تذكرونا ذكرنا

انقطعنا ووصلتم فاعلموا

واشكروا المنعم يا أهل منى

قد خسرنا وربحتم فصلوا

بفضول الرّبح من قد غبنا

سار قلبي خلف أحمالكم

غير أنّ العذر عاق البدنا

ما قطعتم واديا إلاّ وقد

جئته أسعى بأقدام المنى

آه! وا شوقي إلى ذاك الحمى

شوق محروم وقد ذاق العنا

سلّموا عنّي على أربابه

أخبروهم أنّني حلف الضّنا

أنا مذ غبتم على تذكاركم

أترى عندكم ما عندنا

بيننا يوم أثيلات النّقا

كان عن غير تراض بيننا

زمنا كان وكنّا جيرة

فأعاد الله ذاك الزّمنا

ص: 419

من شاهد تلك الدّيار، وعاين تلك الآثار، ثم انقطع عنها، لم يمت إلاّ بالأسف عليها، والحنين إليها.

ما أذكر عيشنا الّذي قد سلفا

إلاّ وجف القلب وكم قد وجفا

واها لزماننا الّذي كان صفا

وا أسفا [وهل يردّ فائتا]

(1)

وا أسفا

من يرجع دهرنا بأرض الجزع

بين الأثلاث والرّبا في سلع

قالوا اصبر وليس ذا في وسعي

يا حزن أقم وأنت سر يا دمعي

يا ليتنا بزمزم والحجر

يا جيرتنا قبيل يوم النّفر

هل يرجع صافي ما مضى من عمري

أدري ما كان، ليتني لا أدري

***

(1)

في أ: «لردّه» .

ص: 420

‌المجلس الثالث فيما يقوم مقام الحجّ والعمرة عند العجز عنهما يذكر بعد خروج الحاج

في «صحيح البخاري» عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا:«ذهب أهل الدّثور من الأموال بالدّرجات العلى والنّعيم المقيم، يصلّون كما نصلّي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل أموال يحجّون بها ويعتمرون، ويجاهدون، ويتصدّقون. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أحدّثكم بما إن أخذتم به لحقتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم، وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه؛ إلاّ من عمل مثله: تسبّحون وتحمدون وتكبّرون خلف كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين»

(1)

.

وفي «المسند» و «سنن النسائي» عن أبي الدّرداء رضي الله عنه، قال: قلنا:

يا رسول الله، ذهب الأغنياء بالأجر، يحجّون ولا نحجّ، ويجاهدون ولا نجاهد، وبكذا وبكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألا أدلّكم على شيء إن أخذتم به جئتم من أفضل ما يجيء به أحد منهم: أن تكبروا الله أربعا وثلاثين، وتسبحوه ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين في دبر كلّ صلاة»

(2)

.

(1)

أخرجه: البخاري (8/ 89، 1/ 213)(843)، ومسلم (2/ 97)(595)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (146)، وابن خزيمة (749).

(2)

أخرجه: أحمد (6/ 446، 5/ 196)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (149، 147، 151، 150).

ص: 421

المال لمن استعان به على طاعة الله وأنفقه في سبيل الخيرات المقرّبة إلى الله، سبب موصل له إلى الله، وهو لمن أنفقه في معاصي الله، واستعان به على نيل أغراضه المحرّمة، أو اشتغل به عن طاعة الله، سبب قاطع له عن الله، كما قال أبو سليمان الدّاراني: الدنيا حجاب عن الله لأعدائه، ومطية موصلة إليه لأوليائه، فسبحان من جعل شيئا واحدا سببا للاتصال به والانقطاع عنه.

وقد مدح الله في كتابه القسم الأول، وذمّ القسم الثاني، فقال في مدح الأولين:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274]. وقال:

{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29 - 30]، والآيات في المعنى كثيرة جدّا.

وقال في ذمّ الآخرين: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ} [المنافقون: 9 - 10].

وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس أحد لا يؤتى زكاة ماله إلاّ سأل الرّجعة عند الموت، ثم تلا هذه الآية. وأخبر الله عن أهل النّار الذين يؤتى أحدهم كتابه بشماله أنّه يقول:{ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29].

والأحاديث في مدح من أنفق ماله في سبيل الطاعات، وفي ذمّ من لم يؤدّ حقّ الله منه كثيرة جدّا. وقد قال صلى الله عليه وسلم:«نعم المال الصّالح للرّجل الصّالح»

(1)

.

(1)

أخرجه: أحمد (202، 4/ 197)، والبخاري في «الأدب المفرد» (299).

ص: 422

وقال: «الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة، إلاّ من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه، وقليل ما هم»

(1)

. وقال: «إنّ هذا المال خضرة حلوة؛ فمن أخذه بحقّه ووضعه في حقّه، فنعم المعونة هو. وإن أخذه بغير حقّه، كان كالذي يأكل ولا يشبع»

(2)

.

فالمؤمن الذي يأخذ المال من حقّه ويضعه في حقّه، فله أجر ذلك كلّه، وكلما أنفق منه يبتغي به وجه الله فهو له صدقة يؤجر عليها، حتى ما يطعم نفسه فهو له صدقة، وما يطعم ولده فهو له صدقة، وما يطعم أهله فهو له صدقة، وما يطعم خادمه فهو له صدقة. وكان عامة أهل الأموال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا القسم.

قال أبو سليمان: كان عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف خازنين من خزان الله تعالى في أرضه، ينفقان في طاعته، وكانت معاملتهما لله بقلوبهما.

ورأس المنفقين أموالهم في سبيل الله من هذه الأمة أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه، وفيه نزلت هذه الآية {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى} [الليل: 17 - 22].

وفي «صحيح الحاكم» عن ابن الزّبير، قال: قال أبو قحافة لأبي بكر: أراك تعتق رقابا ضعافا، فلو أنّك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا، يمنعونك ويقومون دونك. فقال أبو بكر: يا أبت، إنّي إنّما أريد ما أريد. قال: وإنّما نزلت هذه الآيات فيه {فَأَمّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى} [الليل: 5] إلى آخر السورة

(3)

.

(1)

هو جزء من حديث طويل عند: البخاري (117، 8/ 74، 3/ 152)(2388)، ومسلم (75/ 3)(94)، وأحمد (166، 161، 5/ 152)، والترمذي (2644) عن أبي ذر.

(2)

أخرجه: البخاري (8/ 116، 113، 4/ 6، 2/ 152)(1465)(1472)(2750)(2842)، ومسلم (3/ 94)(1052)، وأحمد (3/ 434)، والنسائي (100، 5/ 60، 101)، والترمذي (2463) من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.

(3)

أخرجه: الحاكم (2/ 525).

ص: 423

وروي من وجه آخر عن ابن الزبير، وخرّجه الإسماعيلي، ولفظه أن أبا بكر كان يبتاع الضّعفة فيعتقهم، فقال له أبو قحافة: يا بني، لو ابتعت من يمنع ظهرك. فقال: يا أبت، منع ظهري أريد. ونزلت فيه {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17]، إلى آخر السورة.

وخرّج أبو داود والترمذي من حديث عمر، قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدّق، ووافق ذلك عندي مالا، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوما.

قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت:

مثله. وإنّ أبا بكر أتى بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر: ما أبقيت لأهلك؟ قال:

أبقيت لهم الله ورسوله. فقلت: لا أسابقه إلى شيء أبدا

(1)

.

وخرّج الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما نفعني مال قطّ ما نفعني مال أبي بكر» . فبكى أبو بكر، وقال: هل أنا ومالي إلاّ لك يا رسول الله

(2)

. وخرّجه الترمذي بدون هذه الزيادة في آخره.

وكان من المنفقين أموالهم في سبيل الله، عثمان بن عفان، ففي الترمذي، عن عبد الرحمن بن خباب، قال: شهدت النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يحثّ على جيش العسرة، فقام عثمان، فقال: يا رسول الله، عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حضّ على الجيش، فقام عثمان، فقال: يا رسول الله، عليّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. ثم حضّ على الجيش، فقام عثمان، فقال: يا رسول الله، عليّ ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله. قال:

(1)

أخرجه: أبو داود (1678)، والترمذي (3675)، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» .

(2)

أخرجه: أحمد (2/ 253)، والنسائي في فضائل الصحابة (9)، وابن ماجه (94).

وصححه الألباني في «تخريج مشكلة الفقر» (13).

ص: 424

فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل عن المنبر، وهو يقول:«ما على عثمان ما فعل بعد هذه، ما على عثمان ما فعل بعد هذه»

(1)

.

وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه، أنّ عثمان جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار حين جهّز جيش العسرة، فنثرها في حجره. قال: فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلّبها في حجره ويقول: «ما ضرّ عثمان ما عمل بعد هذا اليوم، مرتين»

(2)

.

وكان منهم أيضا عبد الرحمن بن عوف: وفي «مسند الإمام أحمد» أنّه قدم له عير إلى المدينة، فارتجت لها المدينة، فسألت عائشة عنها، وحدثت حديثا عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، فبلغ عبد الرحمن فجعلها كلّها في سبيل الله بأقتابها وأحلاسها، وكانت سبعمائة راحلة

(3)

. وخرّجه ابن سعد من وجه آخر فيه انقطاع، وعنده أنّها كانت خمسمائة راحلة

(4)

.

وخرّج الترمذي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة رضي الله عنها، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول - تعني لأزواجه:«إنّ أمركنّ لما يهمّني بعدي، ولن يصبر عليكنّ إلاّ الصّابرون» . قال: ثم تقول عائشة لأبي سلمة:

سقى الله أباك من سلسبيل الجنّة. وكان قد وصل أزواج النّبيّ صلى الله عليه وسلم بحديقة بيعت بأربعين ألفا. وقال: حسن غريب. وخرّجه الحاكم وصححه. وخرّج الإمام أحمد أوّله

(5)

.

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 75)، والترمذي (3700)، وقال:«حديث غريب» .

وراجع: سؤالات ابن الجنيد ليحيى بن معين (612).

(2)

أخرجه: أحمد (5/ 63)، والترمذي (3701)، والحاكم (3/ 102)، وقال الترمذي:«حسن غريب» .

(3)

أخرجه: أحمد (6/ 115) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

أخرجه: ابن سعد في «الطبقات» (3/ 93).

(5)

أخرجه: الترمذي (3749)، والحاكم (3/ 312).

ص: 425

وخرّج الإمام أحمد أيضا والحاكم من حديث أمّ بكر بنت المسور بن مخرمة: أنّ عبد الرحمن بن عوف باع أرضا له من عثمان بأربعين ألف دينار، فقسمها في فقراء بني زهرة وفي المهاجرين وأمّهات المؤمنين. قال المسور:

فأتيت عائشة رضي الله عنها بنصيبها من ذلك، فقالت لنا: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يحنو عليكنّ بعدي إلاّ الصّابرون، سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنّة»

(1)

.

وخرّج الإمام أحمد والحاكم من حديث أمّ سلمة رضي الله عنها: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأزواجه: «إنّ الذي يحنو عليكن بعدي هو الصّادق البارّ، اللهمّ اسق عبد الرحمن بن عوف من سلسبيل الجنّة»

(2)

. وخرّجه ابن سعد

(3)

، وزاد: إنّ إبراهيم بن سعد، قال: حدثني بعض أهلي من ولد عبد الرحمن بن عوف: أنّ عبد الرحمن بن عوف باع أمواله من كيدمة، وهو سهمه من بني النّضير، بأربعين ألف دينار، فقسمها على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

وخرّج الترمذي من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن: أنّ أباه عبد الرحمن بن عوف أوصى بحديقة لأمّهات المؤمنين بيعت بأربعمائة ألف. وخرّجه الحاكم، ولفظه:«بيعت بأربعين ألف دينار»

(4)

.

وأخبار الأجواد المنفقين أموالهم في سبيل الله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يطول ذكرها جدّا، فكان الفقراء من الصّحابة كلّما رأوا أصحاب الأموال

(1)

أخرجه: أحمد (135، 6/ 104)، والحاكم (3/ 310)، وصححه، فتعقبه الذهبي بقوله:«ليس بمتصل» .

(2)

أخرجه: أحمد (302، 6/ 299)، والحاكم (3/ 311)، وصححه.

(3)

أخرجه: ابن سعد في «الطبقات» (3/ 63).

(4)

أخرجه: الترمذي (3750)، والحاكم (3/ 312).

وقال الترمذي: «حسن غريب» ، وحسنه الألباني.

وراجع: «تخريج المشكاة» (6122، 6121).

ص: 426

منهم ينفقون أموالهم فيما يحبّه الله؛ من الحجّ والاعتمار والجهاد في سبيل الله والعتق والصّدقة والبرّ والصّلة وغير ذلك من أنواع البرّ والطاعات والقربات، حزنوا لما فاتهم من مشاركتهم في هذه الفضائل.

وقد ذكرهم الله تعالى في كتابه بذلك، فقال تعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ} [التوبة: 91 - 92].

نزلت هذه الآية بسبب قوم من فقراء المسلمين أتوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يتجهّز إلى غزوة تبوك، فطلبوا منه أن يحملهم، فقال لهم: لا أجد ما أحملكم عليه، فرجعوا يبكون حزنا على ما فاتهم من الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1)

. قال بعض العلماء: هذا والله بكاء الرجال، بكوا على فقدهم رواحل يتحمّلون عليها إلى الموت في مواطن تراق فيها الدّماء في سبيل الله، وتنزع فيها رءوس الرّجال عن كواهلها بالسيوف. فأمّا من بكى على فقد حظّه من الدّنيا وشهواته العاجلة، فذلك شبيه ببكاء الأطفال والنساء على فقد حظوظهم العاجلة.

سهر العيون لغير وجهك باطل

وبكاؤهنّ لغير فقدك ضائع

إنما يحسن البكاء والأسف على فوات الدّرجات العلى والنّعيم المقيم. قال بعضهم: يرى رجل في الجنّة يبكي، فيسأل عن حاله، فيقول: كانت لي نفس واحدة قتلت في سبيل الله، ووددت أنّه كانت لي نفوس كثيرة تقتل كلّها في سبيله.

(1)

راجع: تفسير ابن كثير (4/ 138 - 139).

ص: 427

غزا قوم في سبيل الله، فلمّا صافّوا عدوّهم واقتتلوا، رأى كلّ واحد منهم زوجته من الحور قد فتحت بابا من السّماء، وهي تستدعي صاحبها إليها وتحثّه على القتال، فقتلوا كلّهم إلاّ واحدا. وكان كلّما قتل منهم واحد غلّق باب وغابت منه المرأة، فأفلت آخرهم، فأغلقت تلك المرأة الباب الباقي. وقالت:

ما فاتك يا شقي! فكان يبكي على حاله إلى أن مات، ولكنّه أورثه ذلك طول الاجتهاد والحزن والأسف.

على مثل ليلى يقتل المرء نفسه

وإن كان من ليلى على الهجر طاويا

لما سمع الصّحابة رضي الله عنهم قول الله عز وجل {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ} [البقرة: 148]{سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21] فهموا من ذلك أنّ المراد أن يجتهد كلّ واحد منهم أن يكون هو السابق لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارع إلى بلوغ هذه الدرجة العالية، فكان أحدهم إذا رأى من يعمل عملا يعجز عنه، خشي أن يكون صاحب ذلك العمل هو السابق له، فيحزن لفوات سبقه. فكان تنافسهم في درجات الآخرة واستباقهم إليها، كما قال تعالى:{وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ} [المطفّفين: 26]. ثم جاء من بعدهم، فعكس الأمر، فصار تنافسهم في الدنيا الدنية وحظوظها الفانية.

قال الحسن: إذا رأيت الرجل ينافسك في الدّنيا فنافسه في الآخرة. وقال وهيب بن الورد: إن استطعت ألا يسبقك إلى الله أحد فافعل. وقال بعض السّلف: لو أنّ رجلا سمع بأحد أطوع لله منه، كان ينبغي له أن يحزنه ذلك.

وقال غيره: لو أنّ رجلا سمع برجل أطوع لله منه فانصدع قلبه فمات، لم يكن ذلك بعجب. قال رجل لمالك بن دينار: رأيت في المنام مناديا ينادي: أيّها الناس، الرّحيل الرحيل، فما رأيت أحدا يرتحل إلاّ محمد بن واسع؛ فصاح

ص: 428

مالك وغشي عليه {وَالسّابِقُونَ السّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة: 10 - 12]. قال عمر بن عبد العزيز في حجة حجّها عند دفع الناس من عرفة: ليس السّابق اليوم من سبق به بعيره، إنّما السّابق من غفر له.

كان رأس السّابقين إلى الخيرات من هذه الأمّة أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه، قال عمر: ما استبقنا إلى شيء من الخير إلاّ سبقنا أبو بكر، وكان سبّاقا بالخيرات.

ثم كان السّابق بعده إلى الخيرات عمر، وفي آخر حجّة حجّها عمر جاء رجل لا يعرف، كانوا يرونه من الجن، فرثاه بأبيات منها:

فمن يسع أو يركب جناحي نعامة

ليدرك ما قدّمت بالأمس يسبق

صاحب الهمّة العالية والنفس الشريفة التوّاقة لا يرضى بالأشياء الدنية الفانية، وإنّما همّته المسابقة إلى الدّرجات الباقية الزاكية، التي لا تفنى ولا يرجع عن مطلوبه، ولو تلفت نفسه في طلبه. ومن كان في الله تلفه كان على الله خلفه. قيل لبعض المجتهدين في الطاعات: لم تعذّب هذا الجسد؟ قال: كرامته أريد.

وإذا كانت النّفوس كبارا

تعبت في مرادها الأجسام

قال عمر بن عبد العزيز: إنّ لي نفسا توّاقة، ما نالت شيئا إلاّ تاقت إلى ما هو أفضل منه، وإنّها لمّا نالت هذه المنزلة - يعني الخلافة - وليس في الدنيا منزلة أعلى منها، تاقت إلى ما هو أعلى من الدنيا، يعني الآخرة.

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم

قيمة كلّ إنسان ما يطلب؛ فمن كان يطلب الدنيا فلا أدنى منه؛ فإنّ الدنيا دنيّة، وأدنى منها من يطلبها، وهي خسيسة؛ وأخسّ منها من يخطبها. قال بعضهم: القلوب جوّالة، فقلب يجول حول العرش، وقلب يجول حول

ص: 429

الحشّ. الدّنيا كلّها حشّ، وكلّ ما فيها من مطعم ومشرب يئول إلى الحشّ، وما فيها من أجسام ولباس يصير ترابا، كما قيل:

وكلّ الّذي فوق التّراب تراب

وقال بعضهم في يوم عيد لإخوانه: هل تنظرون إلاّ خرقا تبلى، أو لحما يأكله الدّود غدا. وأمّا من كان يطلب الآخرة فقدره خطير؛ لأنّ الآخرة خطيرة شريفة؛ ومن يطلبها أشرف منها، كما قيل:

أثامن بالنّفس النّفيسة ربّها

وليس لها في الخلق كلّهم ثمن

بها تدرك الأخرى فإن أنا بعتها

بشيء من الدّنيا فذاك هو الغبن

لئن ذهبت نفسي بدنيا أصبتها

لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثّمن

وأمّا من كان يطلب الله فهو أكبر النّاس عنده، كما أنّ مطلوبه أكبر من كلّ شيء، كما قيل:

له همم لا منتهى لكبارها

وهمّته الصّغرى أجلّ من الدّهر

قال الشّبليّ: من ركن إلى الدنيا أحرقته بنارها، فصار رمادا تذروه الرّياح؛ ومن ركن إلى الآخرة أحرقته بنورها، فصار سبيكة ذهب ينتفع به؛ ومن ركن إلى الله أحرقه بنور التوحيد، فصار جوهرا لا قيمة له. العالي الهمّة يجتهد في نيل مطلوبه، ويبذل وسعه في الوصول إلى رضا محبوبه. فأمّا خسيس الهمّة فاجتهاده في متابعة هواه، ويتّكل على مجرّد العفو، فيفوته إن حصل له العفو منازل السّابقين المقرّبين. قال بعض السّلف: هب أنّ المسيء عفي عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين؟

فيا مذنبا يرجو من الله عفوه

أترضى بسبق المتقين إلى الله

ص: 430

لمّا تنافس المتنافسون في نيل الدّرجات، غبط بعضهم بعضا بالأعمال الصّالحات. قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا حسد إلاّ في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في سبيل الله آناء اللّيل وآناء النّهار، ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء اللّيل وآناء النّهار»

(1)

.

وفي رواية: «لا تحاسد إلاّ في اثنتين؛ رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء اللّيل والنّهار، يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل؛ ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه في حقّه، يقول: لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت كما يفعل» . وهذا الحديث في «الصحيحين» .

وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّما مثل هذه الأمّة كأربعة نفر؛ رجل آتاه الله مالا وعلما، فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقّه؛ ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، وهو يقول: لو كان لي مثل هذا لعملت فيه مثل الّذي يعمل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهما في الأجر سواء. ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما، فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقّه. ورجل لم يؤته الله علما ولا مالا، فهو يقول: لو كان لي مال هذا عملت فيه مثل الّذي يعمل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهما في الوزر سواء»

(2)

.

وروى حميد بن زنجويه بإسناده، عن زيد بن أسلم، قال: يؤتى يوم القيامة بفقير وغنيّ اصطحبا في الله، فيوجد للغني فضل عمل فيما كان يصنع في ماله، فيرفع على صاحبه، فيقول الفقير: يا ربّ، لم رفعته وإنما اصطحبنا

(1)

أخرجه: البخاري (9/ 189، 6/ 236)(5025)(7529)، ومسلم (2/ 201)(815)، وأحمد (152، 88، 36، 2/ 8)، والترمذي (1936)، والنسائي في «فضائل القرآن» (97)، وابن ماجه (4209).

(2)

أخرجه: أحمد (4/ 231)، والترمذي (2325) عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه.

وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» .

ص: 431

فيك، وعملنا لك؟ فيقول الله تعالى: له فضل عمل بما صنع في ماله، فيقول: يا ربّ، لقد علمت لو أعطيتني مالا لصنعت مثل ما صنع، فيقول:

صدق، فارفعوه إلى منزلة صاحبه.

ويؤتى بمريض وصحيح اصطحبا في الله، فيرفع الصّحيح بفضل عمله، فيقول المريض: لم رفعته عليّ؟ فيقول: بما كان يعمل في صحته. فيقول:

يا ربّ، لقد علمت لو أصححتني لعملت كما عمل، فيقول الله: صدق فارفعوه إلى درجة صاحبه. ويؤتى بحرّ ومملوك اصطحبا فيقول مثل ذلك.

ويؤتى بحسن الخلق وسيّئ الخلق، فيقول: يا ربّ، لم رفعته عليّ، وإنّما اصطحبنا فيك وعملنا؟ فيقول: بحسن خلقه، فلا يجد له جوابا.

العاقل يغبط من أنفق ماله في سبيل الخيرات ونيل علوّ الدّرجات، والجاهل يغبط من أنفق ماله في الشّهوات وتوصّل به إلى اللّذّات المحرّمات. قال الله تعالى حاكيا عن قارون:{فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ} [القصص: 79 - 80]. إلى قوله تعالى: {تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

فلمّا رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم تأسّف أصحابه الفقراء وحزنهم على ما فاتهم من إنفاق إخوانهم الأغنياء أموالهم في سبيل الله تقرّبا إليه وابتغاء لمرضاته، طيّب قلوبهم ودلّهم على عمل يسير يدركون به من سبقهم ولا يلحقهم معه أحد بعدهم، ويكونون به خيرا ممّن هم معه إلاّ من عمل مثل عملهم، وهو الذّكر عقيب الصّلوات المفروضات، وقد اختلفت الروايات في أنواعه وعدده. والأخذ بكلّ ما ورد من ذلك حسن وله فضل عظيم.

ص: 432

وفي حديث أبي هريرة أنّهم يسبّحون ويحمدون ويكبّرون خلف كلّ صلاة ثلاثا وثلاثين

(1)

. وقد فسّره أبو صالح راويه عنه بالجمع، وهو أن يقول:

سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ثلاثا وثلاثين مرّة، فيكون جملة ذلك تسعا وتسعين.

وقد يستشكل على هذا حديث أنّ رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عمّا يعدل الجهاد، فقال:«هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تصوم فلا تفطر، وتقوم ولا تفتر»

(2)

. وهو حديث ثابت صحيح أيضا. فلم يجعل للجهاد عدلا سوى الصّيام الدّائم والقيام الدّائم. وفي هذا الحديث قد جعل الذّكر عقيب الصّلوات عدلا له.

والجمع بين ذلك كلّه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل للجهاد في زمانه عملا يعدله، بحيث إذا انقضى الجهاد انقضى ذلك العمل، واستوى العامل مع المجاهد في الأجر، وإنّما جعل الذي يعدل الجهاد الذكر الكثير المستدام في بقية عمر المؤمن من غير قطع له حتى يأتي صاحبه أجله، فإذا استمرّ على هذا الذّكر في أوقاته إلى أن مات عليه عدل ذكره هذا الجهاد.

وقد دلّ على ذلك أيضا ما خرّجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أبي الدّرداء رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا أنبّئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذّهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا:

(1)

أخرجه: البخاري (8/ 89، 1/ 213)(843)(6329)، ومسلم (2/ 97)(595)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (146)، وابن خزيمة (749) وقد تقدم.

(2)

أخرجه: البخاري (4/ 18)(2785)، وأحمد (2/ 344)، والنسائي (6/ 19).

ص: 433

بلى، يا رسول الله، قال: ذكر الله عز وجل»

(1)

. وخرّجه مالك في «الموطإ» موقوفا.

وخرّج الإمام أحمد والترمذي أيضا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال:

الذّاكرون الله كثيرا. قلت: يا رسول الله، ومن الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتّى ينكسر ويختصب دما، لكان الذّاكرون الله عز وجل أفضل منه درجة»

(2)

. وقد روي هذا المعنى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه وطائفة من الصّحابة موقوفا. وأن الذّكر لله أفضل من الصّدقة بعدّته دراهم ودنانير، ومن النفقة في سبيل الله.

وقيل لأبي الدّرداء رضي الله عنه: رجل أعتق مائة نسمة. قال: إن مائة نسمة من مال رجل كثير، وأفضل من ذلك إيمان ملزوم بالليل والنهار، وأن لا يزال لسان أحدكم رطبا من ذكر الله عز وجل. وعنه قال: لأن أقول: لا إله إلاّ الله والله أكبر مائة مرة أحبّ إليّ من أن أتصدّق بمائة دينار. ويروى مرفوعا وموقوفا من غير وجه.

من فاته اللّيل أن يكابده، وبخل بماله أن ينفقه، وجبن عن عدوّه أن يقاتله، فليكثر من: سبحان الله وبحمده؛ فإنّها أحبّ إلى الله من جبل ذهب أو فضّة ينفقه في سبيل الله عز وجل، وذكر الله من أفضل أنواع الصّدقة.

(1)

أخرجه: أحمد (6/ 447، 5/ 195)، والترمذي (3377)، وابن ماجه (3790).

وصححه الألباني في «تخريج المشكاة» (2269)، و «تخريج الترغيب» (2/ 228).

(2)

أخرجه: أحمد (3/ 75)، والترمذي (3373)، وقال:«غريب» .

وضعفه الألباني. وراجع: «التعليق الرغيب» (2/ 228).

ص: 434

وخرّج الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: «ما صدقة أفضل من ذكر الله عز وجل»

(1)

.

وقد قال طائفة من السّلف في قول الله عز وجل: {وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً} [الحديد: 18]: إنّ القرض الحسن قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وفي مراسيل الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

«ما أنفق عبد نفقة أفضل عند الله عز وجل من قول ليس من القرآن وهو من القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر» .

وروى عبد الرزّاق في كتابه، عن معمر، عن قتادة، قال:«قال ناس من فقراء المؤمنين: يا رسول الله، ذهب أصحاب الدّثور بالأجور؛ يتصدّقون ولا نتصدّق، وينفقون ولا ننفق. فقال: أرأيتم لو أنّ مال الدنيا وضع بعضه على بعض أكان بالغا السّماء؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: أفلا أخبركم بشيء أصله في الأرض وفرعه في السّماء؛ أن تقولوا في دبر كلّ صلاة: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، عشر مرات؛ فإنّ أصلهنّ في الأرض وفرعهن في السّماء»

(2)

.

وقد كان بعض الصّحابة يظنّ أن لا صدقة إلاّ بالمال، فأخبره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّ الصّدقة لا تختصّ بالمال، وأن الذّكر وسائر أعمال المعروف صدقة، كما في «صحيح مسلم» عن أبي ذرّ رضي الله عنه، «أنّ ناسا من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قالوا:

يا رسول الله، ذهب أهل الدّثور بالأجور، يصلّون كما نصلّي، ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون بفضول أموالهم. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أوليس قد جعل الله لكم ما تتصدّقون به؟ إنّ بكلّ تسبيحة صدقة، وكلّ تكبيرة صدقة، وكلّ تهليلة

(1)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (7414).

(2)

أخرجه: عبد الرزاق في «المصنف» (3188)، وهو مرسل.

ص: 435

صدقة؛ وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة؛ وفي بضع أحدكم صدقة»

(1)

.

وفي «المسند» عنه أنّه قال: «يا رسول الله، الأغنياء يتصدّقون ولا نتصدّق. قال: وأنت فيك صدقة؛ رفعك العظم عن الطّريق صدقة، وهدايتك الطريق صدقة، وعونك الضعيف بفضل قوّتك صدقة، وبيانك عن الأرتم صدقة، ومباضعتك امرأتك صدقة»

(2)

.

وفي المعنى أحاديث كثيرة جدّا يطول ذكرها.

واعلم أنّ من عجز عن عمل خير، وتأسّف عليه، وتمنى حصوله، كان شريكا لفاعله في الأجر، كما تقدّم في الذي قال:«لو كان لي مال لعملت فيه ما عمل فلان» أنّهما سواء في الأجر والوزر. وقد قيل: إنّهما سواء في أصل الأجر دون المضاعفة؛ فإنّها تختصّ بالعامل، فمن هنا كان أرباب الهمم العالية لا يرضون بمجرّد هذه المشاركة، ويطلبون أن يعملوا أعمالا تقاوم الأعمال التي عجزوا عنها؛ ليفوزوا بثواب يقاوم ثواب تلك الأعمال، ويضاعف لهم كما يضاعف لأولئك، فيستووا هم وأولئك العمّال في الأجر كلّه.

وقد كان بعض من يقعد عن الجهاد من امرأة وضعيف في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم يسأله عن عمل يعدل الجهاد.

وفات بعض النساء الحجّ مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلمّا قدم سألته عمّا يجزئ من تلك الحجّة، قال:«اعتمري في رمضان؛ فإنّ عمرة في رمضان تعدل حجّة» ، أو «حجّة معي»

(3)

.

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 82)(1006).

(2)

أخرجه: أحمد (5/ 154).

(3)

أخرجه: البخاري (24، 3/ 4)(1863)، ومسلم (4/ 61)(1256)، وأحمد (1/ 229، 308)، وأبو داود (1990)، وابن خزيمة (3077) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 436

وقالت عائشة: «يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: جهادكنّ الحجّ والعمرة»

(1)

.

وكان منهم من إذا تخلّف عن الغزو اجتهد في مشاركة الغزاة في أجرهم؛ فإمّا أن يخرج مكانه رجلا بماله؛ وإمّا أن يعين غازيا؛ وإمّا أن يخلفه في أهله بخير. فإنّ من فعل هذا كلّه فقد غزا.

تصدّق بعض الأغنياء بمال كثير، فبلغ ذلك طائفة من الصّالحين، فاجتمعوا في مكان، وحسبوا ما تصدّق به من الدّراهم، وصلّوا بدل كلّ درهم تصدّق به لله ركعة. هكذا يكون استباق الخيرات والتنافس في علوّ الدرجات.

كذاك الفخر يا همم الرّجال

تعالي فانظري كيف التّغالي

سبحان من فضّل هذه الأمّة وفتح لها على يدي نبيّها، نبيّ الرّحمة، أبواب الفضائل الجمّة؛ فما من عمل عظيم يقوم به قوم ويعجز عنه آخرون، إلاّ وقد جعل الله عملا يقاومه، أو يفضل عليه، فتتساوى الأمّة كلّها في القدرة عليه.

لمّا كان الجهاد أفضل الأعمال ولا قدرة لكثير من النّاس عليه، كان الذّكر الكثير الدّائم يساويه ويفضل عليه، وكان العمل في عشر ذي الحجّة يفضل عليه، إلاّ من خرج بنفسه وماله ولم يرجع منهما بشيء.

لمّا كان الحجّ من أفضل الأعمال، والنّفوس تتوق إليه؛ لما وضع الله في القلوب من الحنين إلى ذلك البيت المعظّم، وكان كثير من النّاس يعجز عنه، ولا سيما كلّ عام، شرع الله لعباده أعمالا يبلغ أجرها أجر الحجّ، فيتعوّض بذلك العاجزون عن التطوّع بالحجّ.

(1)

أخرجه: البخاري (4/ 39)(2875)، وأحمد (6/ 75).

ص: 437

ففي الترمذيّ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«من صلّى الصّبح، ثمّ جلس في مصلاّه يذكر الله حتّى تطلع الشّمس، ثم صلى ركعتين، كان له مثل أجر حجة وعمرة تامّة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تامّة، تامّة، تامّة»

(1)

.

شهود الجمعة يعدل حجّة تطوّع؛ قال سعيد بن المسيب: هو أحبّ إليّ من حجّة نافلة. وقد جعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم المبكّر إليها كالمهدي هديا إلى بيت الله الحرام. وفي حديث ضعيف: «الجمعة حجّ المساكين»

(2)

.

وفي «تاريخ ابن عساكر» : عن الأوزاعي، قال: مرّ يونس بن ميسرة بن حلبس بمقابر «باب توما» ، فقال: السّلام عليكم يا أهل القبور، أنتم لنا سلف، ونحن لكم تبع، فرحمنا الله وإياكم، وغفر لنا ولكم، فكأن قد صرنا إلى ما صرتم إليه. فردّ الله الرّوح إلى رجل منهم، فأجابه، فقال: طوبى لكم يا أهل الدنيا حين تحجّون في الشهر أربع مرار. قال: وإلى أين يرحمك الله؟ قال: إلى الجمعة، أما تعلمون أنّها حجّة مبرورة متقبّلة. قال: ما خير ما قدّمتم؟ قال: الاستغفار يا أهل الدنيا. قال: فما يمنعك أن تردّ السّلام؟ قال: يا أهل الدنيا، السّلام والحسنات قد رفعت عنّا، فلا في حسنة نزيد، ولا في سيئة ننقص؛ غلقت رهوننا، يا أهل الدنيا.

في «سنن أبي داود» ، عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم، قال:«من تطهّر في بيته، ثم خرج إلى المسجد لأداء صلاة مكتوبة، فأجره مثل أجر الحاجّ المحرم. ومن خرج لصلاة الضحى، كان له مثل أجر المعتمر»

(3)

.

(1)

أخرجه: الترمذي (586)، وقال:«حسن غريب» .

(2)

أخرجه: ابن الجوزي في «الموضوعات» (1355، 1244)، وذكره الألباني في «الضعيفة» (191)، وقال:«موضوع» .

(3)

أخرجه: أبو داود (558).

ص: 438

وفي حديث أنس: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم وصّى رجلا ببرّ أمّه، وقال له:«أنت حاجّ ومعتمر ومجاهد» ، يعني إذا برّها.

وقال بعض الصحابة: الخروج إلى العيد يوم الفطر يعدل عمرة، ويوم الأضحى يعدل حجّة.

قال الحسن: مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجّة بعد حجّة.

وقال عقبة بن عبد الغافر: صلاة العشاء في جماعة تعدل حجّة، وصلاة الغداة في جماعة تعدل عمرة. وقال أبو هريرة لرجل: بكورك إلى المسجد أحبّ إليّ من غزوتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكره الإمام أحمد.

أداء الواجبات كلّها أفضل من التنفّل بالحجّ والعمرة وغيرهما؛ فإنّه ما تقرّب العباد إلى الله تعالى بأحبّ إليه من أداء ما افترض عليهم. وكثير من الناس يهون عليه التنفّل بالحجّ والصّدقة ولا يهون عليه أداء الواجبات من الديون وردّ المظالم، وكذلك يثقل على كثير من النّفوس التنزّه عن كسب الحرام والشبهات، ويسهل عليها إنفاق ذلك في الحجّ والصّدقة. قال بعض السّلف:

ترك دانق ممّا يكرهه الله أحبّ إليّ من خمسمائة حجّة.

كفّ الجوارح عن المحرّمات أفضل من التطوّع بالحجّ وغيره، وهو أشقّ على النفوس. قال الفضيل بن عياض: ما حجّ ولا رباط ولا جهاد أشدّ من حبس اللسان، ولو أصبحت يهمّك لسانك أصبحت في همّ شديد. ليس الاعتبار بأعمال البرّ بالجوارح، إنّما الاعتبار ببرّ القلوب وتقواها، وتطهيرها عن الآثام. سفر الدنيا يقطع بسير الأبدان، وسفر الآخرة يقطع بسير القلوب.

قال رجل لبعض العارفين: قد قطعت إليك مسافة، قال: ليس هذا الأمر بقطع المسافات، فارق نفسك بخطوة وقد وصلت إلى مقصودك. سير القلوب

ص: 439

أبلغ من سير الأبدان. كم من واصل ببدنه إلى البيت وقلبه منقطع عن ربّ البيت، وكم من قاعد على فراشه في بيته وقلبه متّصل بالمحلّ الأعلى.

جسمي معي غير أنّ الرّوح عندكم

فالجسم في غربة والرّوح في وطن

قال بعض العارفين: عجبا لمن يقطع المفاوز والقفار؛ ليصل إلى البيت فيشاهد فيه آثار الأنبياء، كيف لا يقطع هواه ليصل إلى قلبه فيرى فيه أثر «ويسعني قلب عبدي المؤمن» .

أيّها المؤمن، إنّ لله بين جنبيك بيتا لو طهّرته لأشرق ذلك البيت بنور ربّه وانشرح وانفسح. أنشد الشّبليّ:

إنّ بيتا أنت ساكنه

غير محتاج إلى السّرج

ومريضا أنت عائده

قد أتاه الله بالفرج

وجهك المأمول حجّتنا

يوم يأتي النّاس بالحجج

تطهير القلب: تفريغه من كلّ ما يكرهه الله تعالى من أصنام النّفس والهوى، ومتى بقيت فيه من ذلك بقيّة، فالله أغنى الأغنياء عن الشّرك، وهو لا يرضى بمزاحمة الأصنام. قال سهل بن عبد الله: حرام على قلب أن يدخله النّور وفيه شيء ممّا يكرهه الله.

أردناكم صرفا فلمّا مزجتم

بعدتم بمقدار التفاتكم عنّا

وقلنا لكم لا تسكنوا القلب غيرنا

فأسكنتم الأغيار ما أنتم منّا

إخواني، إن حبستم العام عن الحجّ فارجعوا إلى جهاد النّفوس، فهو الجهاد الأكبر، أو أحصرتم عن أداء النّسك فأريقوا على تخلّفكم من الدّموع ما تيسّر؛ فإنّ إراقة الدّماء لازمة للمحصر. ولا تحلقوا رءوس أديانكم بالذنوب؛ فإنّ الذنوب حالقة الدّين ليست حالقة الشعر. وقوموا لله باستشعار الرّجاء والخوف

ص: 440

مقام القيام بأرجاء الخيف والمشعر. ومن كان قد بعد عن حرم الله، فلا يبعد نفسه بالذنوب عن رحمة الله، فإنّ رحمة الله قريب ممّن تاب إليه واستغفر.

ومن عجز عن حجّ البيت أو

(1)

البيت منه بعيد، فليقصد ربّ البيت؛ فإنّه ممن دعاه ورجاه أقرب من حبل الوريد.

إليك قصدي ربّ البيت والحجر

فأنت سؤلي من حجّي ومن عمري

وفيك سعيي وتطوافي ومزدلفي

والهدي جسمي الذي يغني عن الجزر

ومسجد الخيف خوفي من تباعدكم

ومشعري ومقامي دونكم خطري

زادي رجائي لكم والشّوق راحلتي

والماء من عبراتي والهوى سفري

***

(1)

في ص، أ:«لأن» .

ص: 441

‌وظيفة شهر ذي القعدة

خرّج الإمام أحمد بإسناده عن رجل من باهلة، قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة مرّة، فقال: من أنت؟ قلت: أما تعرفني؟ قال: ومن أنت؟ قلت: أنا الباهليّ الذي أتيتك عام أوّل. فقال: إنّك أتيتني وجسمك ولونك وهيئتك حسنة، فما بلغ بك ما أرى؟ قلت: والله ما أفطرت بعدك إلاّ ليلا. قال: من أمرك أن تعذّب نفسك؟ من أمرك أن تعذّب نفسك؟ ثلاث مرات، صم شهر الصّبر. قلت: إنّي أجد قوّة، وإنّي أحبّ أن تزيدني. قال: صم يوما من الشهر. قلت: إنّي أجد قوّة، وإنّي أحب أن تزيدني. قال: فيومين من الشهر.

قلت: إنّي أجد قوّة، وإني أحبّ أن تزيدني. قال: فثلاثة أيام من الشهر. قال:

وألحّ عند الرابعة فما كاد. فقلت: إنّي أجد قوّة وإني أحبّ أن تزيدني. قال:

فمن الحرم وأفطر»

(1)

. وخرّجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بمعناه، وفي ألفاظهم زيادة ونقص. وفي بعض الروايات:«صم الحرم وأفطر» .

في هذا الحديث دليل على أنّ من تكلّف من العبادة ما يشقّ عليه حتّى تأذّى بذلك جسده؛ فإنّه غير مأمور بذلك، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم له:«من أمرك أن تعذّب نفسك؟» ، وأعادها عليه ثلاث مرار. وهذا كما قال لمن رآه يمشي في الحجّ وقد أجهد نفسه:«إنّ الله لغنيّ عن تعذيب هذا نفسه، فمروه فليركب»

(2)

.

وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص حيث كان يصوم النّهار، ويقوم الليل،

(1)

أخرجه: أحمد (5/ 28)، وأبو داود (2428)، والنسائي في «الكبرى» (2756)، وابن ماجه (1741).

(2)

أخرجه: البخاري (8/ 177)(1865)، ومسلم (5/ 79)(1642)، وأبو داود (3301)، والنسائي (7/ 30).

ص: 442

ويختم القرآن في كلّ ليلة ولا ينام مع أهله، فأمره أن يصوم ويفطر، ويقرأ القرآن في كلّ سبع. وقال له:«إنّ لنفسك عليك حقّا، وإنّ لأهلك عليك حقّا، فآت كلّ ذي حقّ حقّه»

(1)

.

ولمّا بلغه عن بعض أصحابه أنه قال: أنا أصوم ولا أفطر، وقال آخر منهم:

أنا أقوم ولا أنام، وقال آخر منهم: لا أتزوّج النّساء. فخطب، وقال:«ما بال رجال يقولون كذا وكذا، لكنّي أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللّحم، وأتزوّج النساء؛ فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»

(2)

.

وسبب هذا أنّ الله تعالى خلق ابن آدم محتاجا إلى ما يقوم به بدنه؛ من مأكل ومشرب ومنكح وملبس، وأباح له من ذلك كلّه ما هو طيّب حلال، تقوى به النفس ويصحّ به الجسد، ويتعاونان على طاعة الله عز وجل، وحرّم من ذلك ما هو ضارّ خبيث يوجب للنفس طغيانها وعماها وقسوتها وغفلتها وأشرها وبطرها، فمن أطاع نفسه في تناول ما تشتهيه ممّا حرّمه الله عليه، فقد تعدّى وطغى وظلم نفسه، ومن منعها حقّها من المباح حتى تضرّرت بذلك، فقد ظلمها ومنعها حقّها؛ فإن كان ذلك سببا لضعفها وعجزها عن أداء شيء من فرائض الله عليه، ومن حقوق الله عز وجل أو حقوق عباده، كان بذلك عاصيا، وإن كان ذلك سببا للعجز عن نوافل هي أفضل ممّا فعله، كان بذاك مفرطا مغبونا خاسرا.

وقد كان رجل في زمن التابعين يصوم ويواصل حتى يعجز عن القيام؛ فكان يصلّي الفرض جالسا، فأنكروا ذلك عليه، حتى قال عمرو بن ميمون: لو أدرك

(1)

أخرجه: أحمد (198، 2/ 188)، والبخاري (8/ 38، 7/ 40، 3/ 51)(1974)(5199)(6134)، ومسلم (163، 3/ 162)(1159)، والنسائي (4/ 210)، وأبو داود (1388) بمعناه.

(2)

أخرجه: البخاري (7/ 2)(5063)، ومسلم (4/ 129)(1401)، والنسائي (6/ 60).

ص: 443

هذا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لرجموه. وكان ابن مسعود يقلّ الصّيام، ويقول: إنّه يضعفني عن قراءة القرآن، وقراءة القرآن أحبّ إليّ.

وأحرم رجل من الكوفة، فقدم مكّة وقد أصابه الجهد، فرآه عمر بن الخطاب وهو سيئ الهيئة، فأخذ عمر بيده وجعل يدور به الحلق، ويقول للناس: انظروا إلى ما يصنع هذا بنفسه وقد وسّع الله عليه!

فمن تكلّف من التطوّع ما يتضرّر به في جسمه، كما فعل هذا الباهليّ، أو منع به حقّا واجبا عليه، كما فعل عبد الله بن عمرو بن العاص وغيره ممن عزم على ترك المباحات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنّه ينهى عن ذلك. ومن احتمل بدنه ذلك ولم يمنعه من حقّ واجب عليه لم ينه عن ذلك إلاّ أن يمنعه عمّا هو أفضل من ذلك من النوافل؛ فإنّه يرشد إلى عمل الأفضل. وأحوال الناس تختلف فيما تحمّل أبدانهم من العمل.

كان سفيان الثوري يصوم ثلاثة أيام من الشهر فيرى أثر ذلك عليه، وكان غيره في زمنه يصوم الدّهر فلا يظهر عليه أثره. وكان كثير من المتقدّمين يحملون على أنفسهم من الأعمال ما يضرّ بأجسادهم ويحتسبون أجر ذلك عند الله، وهؤلاء قوم أهل صدق وجدّ واجتهاد فيحيّون على ذلك، ولكن لا يقتدى بهم، وإنّما يقتدى بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنّ خير الهدي هديه، ومن أطاعه فقد اهتدى، ومن اقتدى به وسلك وراءه وصل إلى الله عز وجل.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن التعسير ويأمر بالتيسير، ودينه الذي بعث به يسر. وكان يقول:«خير دينكم أيسره» . ورأى رجلا يكثر الصّلاة، فقال:

«إنّكم أمّة أريد بكم اليسر» . ولم يكن أكثر تطوّع النبي صلى الله عليه وسلم وخواصّ أصحابه بكثرة الصّوم والصّلاة، بل ببرّ القلوب وطهارتها وسلامتها وقوّة

ص: 444

تعلّقها بالله، خشية له ومحبّة، وإجلالا وتعظيما، ورغبة فيما عنده، وزهدا فيما يفنى.

وفي «المسند» عن عائشة رضي الله عنها: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّي أعلمكم بالله وأتقاكم له قلبا»

(1)

.

قال ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرا منكم. قالوا: ولم؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدّنيا وأرغب في الآخرة. وقال بكر المزنيّ: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في صدره. قال بعض العلماء المتقدّمين: الذي وقر في صدره هو حبّ الله والنصيحة لخلقه. وسئلت فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر بن عبد العزيز بعد وفاته عن عمله، فقالت: والله، ما كان بأكثر الناس صلاة ولا بأكثرهم صياما، ولكن والله، ما رأيت أحدا أخوف لله من عمر، لقد كان يذكر الله في فراشه فينتفض انتفاض العصفور من شدّة الخوف، حتى نقول: ليصبحنّ الناس ولا خليفة لهم.

قال بعض السلف: ما بلغ من بلغ عندنا بكثرة صلاة ولا صيام، ولكن بسخاوة النفوس، وسلامة الصّدور، والنّصح للأمّة. وزاد بعضهم: واحتقار أنفسهم. وذكر لبعضهم شدّة اجتهاد بني إسرائيل في العبادة، فقال: إنّما يريد الله منكم صدق النّيّة فيما عنده. فمن كان بالله أعرف، وله أخوف، وفيما عنده أرغب؛ فهو أفضل ممّن دونه في ذلك، وإن كثر صومه وصلاته.

قال أبو الدّرداء رضي الله عنه: يا حبّذا نوم الأكياس وفطرهم، كيف يسبق سهر الجاهلين وصيامهم. ولهذا المعنى كان فضل العلم النافع الدّالّ على معرفة الله

(1)

أخرجه: أحمد (6/ 61).

ص: 445

وخشيته ومحبّته ومحبّه ما يحبّه وكراهة ما يكرهه، لا سيما عند غلبة الجهل، والتعبّد به، أفضل من التطوّع بأعمال الجوارح.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: أنتم في زمان العمل فيه أفضل من العلم، وسيأتي زمان العلم فيه أفضل من العمل. وقال مطرّف: فضل العلم أحبّ إليّ من فضل العبادة؛ وخير دينكم الورع.

وخرّجه الحاكم وغيره مرفوعا

(1)

. ونصّ كثير من الأئمة على أنّ طلب العلم أفضل من صلاة النّافلة، وكذلك الاشتغال بتطهير القلوب أفضل من الاستكثار من الصّوم والصّلاة مع غشّ القلوب ودغلها. ومثل من يستكثر من الصّوم والصّلاة مع دغل القلب وغشّه، كمثل من بذر بذرا في أرض دغلة كثيرة الشّوك، فلا يزكو ما ينبت فيها من الزرع بل يمحقه دغل الأرض ويفسده، فإذا نظّفت الأرض من دغلها زكا ما ينبت فيها ونما.

قال يحيى بن معاذ: كم من مستغفر ممقوت وساكت مرحوم؛ هذا استغفر وقلبه فاجر، وهذا سكت وقلبه ذاكر. وقال غيره: ليس الشأن فيمن يقوم الليل، إنّما الشأن فيمن ينام على فراشه ثم يصبح وقد سبق الركب. من سار على طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ومنهاجه وإن اقتصد، فإنّه يسبق من سار على غير طريقه وإن اجتهد.

من لي بمثل سيرك المذلّل

تمشي رويدا وتجي في الأوّل

والمقصود أنّ هذا الباهليّ لمّا رآه النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد أنهكه الصّوم وغيّر هيئته، وأضرّ

(1)

أخرجه: الحاكم (1/ 92)، عن سعد بن أبي وقاص مرفوعا، وقد روى عن حذيفة بن اليمان مرفوعا.

وراجع: «مجمع الزوائد» (1/ 120)، و «صحيح الجامع» (4090).

ص: 446

به في جسده، أمره أوّلا أن يقتصر على صيام شهر الصّبر، وهو شهر رمضان؛ فإنّه الشهر الذي افترض الله صيامه على المسلمين، واكتفى منهم بصيامه من السّنة كلّها؛ وصيامه كفّارة لما بين الرّمضانين إذا اجتنبت الكبائر. فطلب منه الباهليّ أن يزيده من الصّيام ويأمره بالتطوّع، وأخبره أنّه يجد قوّة على الصّيام، فقال له:«صم يوما من الشهر» ، فاستزاده، وقال: إنّي أجد قوّة، فقال:«صم يومين من الشهر» ، فاستزاده، وقال: إني أجد قوّة، فقال:«صم ثلاثة أيّام من الشهر» .

قال: وألحّ عند الثالثة، فما كاد، يعني ما كاد يزيده على الثلاثة أيّام من الشهر.

وهكذا قال لعبد الله بن عمرو بن العاص أيضا؛ ففي «صحيح مسلم» عنه «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال له: صم يوما - يعني من الشهر - ولك أجر ما بقي، قال:

إنّي أطيق أكثر من ذلك، قال: صم يومين ولك أجر ما بقي، قال: إنّي أطيق أكثر من ذلك، قال: صم ثلاثة أيام ولك أجر ما بقي»

(1)

.

ففي هذا أنّ صيام ثلاثة أيام من الشهر يحصل به أجر صيام الشهر كلّه، وكذلك صيام يومين منه. ووجه ذلك أنّ الصّيام يضاعف ما لا يضاعف غيره من الأعمال، وقد سبق ذكر ذلك عند الكلام على حديث «كلّ عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الله عز وجل: إلاّ الصّيام فإنّه لي وأنا أجزي به».

فالصّيام لا يعلم منتهى مضاعفته إلاّ الله عز وجل. وكلّما قوي الإخلاص فيه وإخفاؤه وتنزيهه من المحرّمات والمكروهات كثرت مضاعفته، فلا يستنكر أن يصوم الرجل يوما من الشهر فيضاعف له بثواب ثلاثين يوما، فيكتب له صيام الشهر كلّه وكذلك إذا صام يومين من الشهر. وأمّا إذا صام منه ثلاثة أيام فهو ظاهر؛ لأنّ الحسنة بعشر أمثالها.

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 166)(1159).

ص: 447

وخرّج الترمذي والنسائي عن أبي ذرّ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صام من كل شهر ثلاثة أيام كان كمن صام الدهر، فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك: {مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} [الأنعام: 160]، اليوم بعشرة أيام»

(1)

.

وفي «الصحيحين» عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«صم من الشّهر ثلاثة أيّام؛ فإنّ الحسنة بعشر أمثالها، وذلك مثل صيام الدّهر» . وفي رواية فيهما أيضا: «إنّ بحسبك أن تصوم من كلّ شهر ثلاثة أيام؛ فإنّ لك بكلّ حسنة عشر أمثالها، فإذن ذلك صيام الدّهر كلّه»

(2)

.

وفي «المسند» عن قرّة المزني، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر صيام الدّهر وإفطاره»

(3)

. يعني صيامه في مضاعفة الله، وإفطاره في رخصة الله، كما كان أبو هريرة وأبو ذرّ رضي الله عنهما يقولان ذلك، وكانا يصومان ثلاثة أيام من كلّ شهر، ويقولان في سائر أيام الشهر: نحن صيام، ويتأوّلان أنّهما صيام في مضاعفة الله، وهما مفطران في رخصة الله. وقد وصّى النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بصيام ثلاثة أيام من كل شهر؛ منهم أبو هريرة وأبو الدّرداء وأبو ذرّ وغيرهم.

وفي «المسند» أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر: «هو صوم حسن»

(4)

. وفيه أيضا عن أبي ذرّ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(1)

أخرجه: النسائي (4/ 219)، والترمذي (761)، وقال:«حسن صحيح» .

وقد رواه بعضهم عن أبي هريرة ولكن حديث أبي ذر أشبه بالصواب وراجع: «العلل» لابن أبي حاتم (690)، و «العلل» للدارقطني (6/ 284).

(2)

أخرجه: البخاري (4/ 195، 3/ 51، 2/ 68)(1975)(1976)(3418)(5052)، ومسلم (165، 3/ 162)(1159) بألفاظ مختلفة.

(3)

أخرجه: أحمد (5/ 34، 4/ 19)، وصححه الألباني في «صحيح الترغيب» (1021).

(4)

أخرجه: أحمد (217، 4/ 22)، والنسائي (4/ 219)، وابن خزيمة (2125) عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، وصححه الألباني.

ص: 448

«صوم شهر الصّبر وثلاثة أيام من كلّ شهر صوم الدّهر، ويذهب مغلة الصّدر.

قلت: وما مغلة الصدر؟ قال: رجس الشيطان»

(1)

. وفيه أيضا: عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«صيام شهر الصّبر وثلاثة أيام من كلّ شهر يذهبن كثيرا من وحر الصّدر»

(2)

. وفي غير هذه الرواية: «وغر الصّدر» ، وهما بمعنى واحد، يقال: وحر صدره ووغر، إذا كان فيه غلّ وغشّ. وقيل: الوحر:

الغلّ، والوغر: الغيظ.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحرّى صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر، وكذلك كان إبراهيم عليه السلام. كما خرّجه ابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا، قال:«صيام إبراهيم ثلاثة أيام من كلّ شهر، صام الدّهر وأفطر الدّهر» .

وفي «السنن» عن حفصة رضي الله عنها: «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم العشر وعاشوراء وثلاثة أيّام من كلّ شهر» وفي إسناده اختلاف

(3)

.

وفي «صحيح مسلم» عن عائشة رضي الله عنها «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كلّ شهر. قيل لها: من أيّه كان يصوم؟ قالت: كان لا يبالي من أيّه صام»

(4)

ففي هذا الحديث أنّه صلى الله عليه وسلم لم يكن يبالي من أيّ الشهر صام الأيام الثلاثة.

(1)

أخرجه: أحمد (5/ 154).

(2)

أخرجه: أحمد (5/ 363).

وقد روى عن عليّ مرفوعا كما في «مسند البزار» (862 - البحر الزخار)، و «مسند أبي يعلى» (442).

ورجح أبو حاتم في «العلل» لابنه (706) أنه موقوف على عليّ رضي الله عنه.

(3)

أخرجه: النسائي (4/ 220).

وقال الزيلعي في «نصب الراية» : «ضعيف» . وراجع: «الإرواء» (954).

(4)

أخرجه: مسلم (3/ 166)(1160)، وابن ماجه (1709).

ص: 449

وقد روي في صفة صيام النبي صلى الله عليه وسلم للأيام الثلاثة من الشهر أنواع أخر:

أحدها: ما خرّجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والإثنين، ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء والخميس

(1)

. وقال: حديث حسن. وذكر أنّ بعضهم رواه موقوفا، يعني من فعل عائشة رضي الله عنها، غير مرفوع.

الثاني: ما خرّجه أبو داود وغيره من حديث حفصة «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم ثلاثة أيام من كلّ شهر؛ الإثنين والخميس، والإثنين من الجمعة الأخرى»

(2)

.

فعلى هذه الرواية كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعلها من أوّل الشهر ولا يوالي بينها، بل كان يتحرّى بها يوم الإثنين مرتين والخميس مرة.

الثالث: عكس الثاني؛ خرّجه النسائي من حديث حفصة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يصوم من كلّ شهر ثلاثة أيام؛ أوّل إثنين من الشهر، ثم الخميس، ثم الخميس الذي يليه»

(3)

.

وفي رواية له أيضا: أو إثنين من الشهر، وخميسين

(4)

. وخرّج أبو داود من حديث أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى ذلك

(5)

. وفي رواية في المسند «الإثنين

(1)

أخرجه: الترمذي (746)، وذكر أن بعضهم رواه موقوفا، ورجّح الوقف الحافظ ابن حجر في «الفتح» (4/ 227).

(2)

أخرجه: أبو داود (2451)، والنسائي (4/ 203 - 204).

(3)

أخرجه: النسائي (4/ 220).

(4)

أخرجه: النسائي (4/ 220 - 221).

(5)

أخرجه: أبو داود (2437).

وراجع: «العلل» لابن أبي حاتم (671)، والتعليق على «المسند» (5/ 271 - طبعة الرسالة).

ص: 450

والجمعة والخميس»؛ وكأنها غير محفوظة، فإن كانت محفوظة فهي نوع رابع.

والنوع الخامس: ما خرّجه أبو داود والنسائي والترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من غرّة كلّ شهر ثلاثة أيام

(1)

، وحسّنه الترمذي، وذكر أنّ بعضهم لم يرفعه، يعني أنه وقفه على ابن مسعود، وظاهر هذا أنّه كان يوالي بين الأيام الثلاثة من أوّل كلّ شهر.

والنوع السادس: أنه كان يصوم أيّام البيض، فخرّج النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما، «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع صيام أيام البيض في حضر ولا سفر»

(2)

.

وخرّج الترمذيّ والنسائي عن أبي ذرّ رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمره بصيام أيام البيض؛ ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة

(3)

. وفي السّنن الأربعة خلا الترمذي، عن قتادة بن ملحان، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه

(4)

. وخرّج النسائي من حديث جرير البجلي عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه أيضا

(5)

.

وقد روي عن الحسن أنّه كان يصوم خمسة أيام من أولّ الشهر، ويقول:

ما يدريني لعلي لا أدرك البيض. وفي كتاب «مناقب الحسن» لأبي حيان التوحيدي أنّ رجلا سأل الحسن: لأيّ شيء استحبّ صيام أيّام البيض؟ فلم

(1)

أخرجه: أبو داود (2450)، والنسائي (4/ 204)، والترمذي (742).

(2)

أخرجه: النسائي (4/ 198).

وراجع: «الصحيحة» (580).

(3)

أخرجه: الترمذي (761) وحسنه، والنسائي (4/ 222 - 223).

(4)

أخرجه: أحمد (5/ 27)، وأبو داود (2449)، والنسائي (4/ 224 - 225)، وابن ماجه (1707).

(5)

أخرجه: النسائي (4/ 221) عن جرير بن عبد الله البجلي.

ص: 451

يدر ما يقول. فقال أعرابي عنده: لأنّ القمر ينكسف في لياليهنّ، فيكون الناس عند حدوث الآيات على عبادة. فقال الحسن: خذوها من غير فقيه. وفي حديث الباهلي أنّه قال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: إنّي أجد قوّة وإني أحبّ أن تزيدني، فقال له:«فمن الحرم وأفطر» . وفي رواية: «صم الحرم وأفطر» .

وفي رواية، قال:«صم الأشهر الحرم»

(1)

.

فهذا دليل على فضل صيام الأشهر الحرم الأربعة التي ذكرها الله تعالى في كتابه بقوله: {مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التّوبة: 36]، وقد فسّرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة بأنّها ثلاثة متواليات؛ ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ وشهر رجب. وقد ذكرناه في وظيفة شهر رجب، وذكرنا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ العمل الصالح والأجر في هذه الحرم أعظم. وذكرنا في وظائف المحرّم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«أفضل الصّيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرّم» . وسيأتي في وظائف ذي الحجة ذكر فضل صيام عشر ذي الحجة إن شاء الله تعالى.

وقد كان كثير من السّلف يصوم الأشهر الحرم كلّها؛ روي ذلك عن ابن عمر

(2)

والحسن البصريّ وأبي إسحاق السّبيعيّ.

وقال سفيان الثوري: الأشهر الحرم أحبّ إليّ أن أصوم منها. وروى خلاّد الصّفّار عن أبي مسلم، قال: صيام يوم من أشهر الحجّ - أو قال: أشهر الحرم - يعدل شهرا، وصيام يوم من غير الأشهر الحرم يعدل عشرا. وروي عن النّخعي نحوه، لكنه قال: من المحرّم، فيحتمل أنه أراد جنس الأشهر المحرّمة. وروي معناه مرفوعا من حديث أنس، وإسناده ضعيف جدّا.

(1)

تقدم.

(2)

أخرجه: عبد الرزاق في «المصنف» (7857، 7856)، من فعل ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 452

ويروى بإسناد مجهول عن أنس مرفوعا: «من صام من شهر حرام الخميس والجمعة والسبت، كتب الله له عبادة تسعمائة سنة»

(1)

. وقال كعب:

اختار الله الزمان؛ فأحبّه إليه الأشهر الحرم. ويروى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا ولا يصحّ

(2)

.

وعن قيس بن عباد أنّه قال: ليس في الأشهر الحرم شهر إلاّ في اليوم العاشر منه خير، قال: ففي ذي الحجّة في العاشر النّحر يوم الحجّ الأكبر، وفي المحرّم العاشر عاشوراء، وفي العاشر من رجب {يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ} [الرّعد: 39] قال الراوي: ونسيت ما قال في ذي القعدة.

وقد تقدّم في ذكر وظيفة رجب أنّه روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّه ذكر من عجائب الدنيا بأرض عاد عمود من نحاس، عليه شجرة من نحاس؛ فإذا كان في الأشهر الحرم قطر منها الماء، فملئوا منه حياضهم، وسقوا مواشيهم وزروعهم، فإذا ذهبت الأشهر الحرم انقطع الماء.

وذو القعدة من الأشهر الحرم بغير خلاف، وهو أوّل الأشهر الحرم المتوالية. وهل هو أول الحرم مطلقا أم لا؟ فيه اختلاف ذكرناه في وظيفة رجب. وهو أيضا من أشهر الحجّ التي قال الله تعالى فيها:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} [البقرة: 197].

وقيل: إنّ تحريم ذي القعدة كان في الجاهلية لأجل السير إلى الحج، وسمّي ذا القعدة لقعودهم فيه عن القتال؛ وتحريم المحرّم لرجوع النّاس فيه من الحجّ

(1)

أخرجه: أبو نعيم في «أخبار أصبهان» (1/ 284 - 285)، والطبراني في «الأوسط» (1789) بلفظ: «

عبادة سنتين»، وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 191):«فيه يعقوب بن موسى المدني مجهول، ومسلمة بن راشد الحماني قال فيه أبو حاتم: مضطرب الحديث» .

(2)

أخرجه ابن عدي في «الكامل» (1589).

ص: 453

إلى بلادهم؛ وتحريم ذي الحجة لوقوع حجّهم فيه؛ وتحريم رجب كان للاعتمار فيه من البلاد القريبة.

ومن خصائص ذي القعدة: أنّ عمر النبيّ صلى الله عليه وسلم كلّها كانت في ذي القعدة، سوى عمرته التي قرنها بحجّته، مع أنّه صلى الله عليه وسلم أحرم بها أيضا في ذي القعدة، وفعلها في ذي الحجّة مع حجّته. وكانت عمره صلى الله عليه وسلم أربعا: عمرة الحديبية ولم يتمّها، بل تحلّل منها ورجع. وعمرة القضاء من قابل. وعمرة الجعرّانة عام الفتح، لمّا قسم غنائم حنين؛ وقيل: إنها كانت في آخر شوال، والمشهور أنها كانت في ذي القعدة، وعليه الجمهور. وعمرته في حجّة الوداع، كما دلّت عليه النصوص الصحيحة، وعليه جمهور العلماء أيضا.

وقد روي عن طائفة من السّلف؛ منهم ابن عمر وعائشة وعطاء تفضيل عمرة ذي القعدة وشوّال على عمرة رمضان؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة، وفي أشهر الحجّ حيث يجب عليه الهدي إذا حجّ من عامه؛ لأنّ الهدي زيادة نسك، فيجتمع نسك العمرة مع نسك الهدي.

ولذي القعدة فضيلة أخرى، وهي أنّه قد قيل: إنّه الثلاثون يوما الذي واعد الله فيه موسى عليه السلام، قال ليث عن مجاهد في قوله تعالى:{وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]، قال: ذو القعدة {وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142] قال: عشر ذي الحجة.

يا من لا يقلع عن ارتكاب الحرام؛ لا في شهر حلال ولا في شهر حرام.

يا من هو في الطّاعات إلى وراء، وفي المعاصي إلى قدّام. يا من هو في كلّ يوم من عمره شرّ ممّا كان قبله من الأيام، متى تستفيق من هذا المنام؟! متى تتوب من هذا الإجرام؟! يا من أنذره الشيب بالموت وهو مقيم على الآثام، أما

ص: 454

كفاك واعظ الشّيب مع واعظ القرآن والإسلام؟ الموت خير لك من الحياة على هذه الحال، والسّلام.

يا غاديا في غفلة ورائحا

إلى متى تستحسن القبائحا

وكم إلى كم لا تخاف موقفا

يستنطق الله به الجوارحا

وا عجبا منك وأنت مبصر

كيف تجنّبت الطّريق الواضحا

وكيف ترضى أن تكون خاسرا

يوم يفوز من يكون رابحا

***

ص: 455

‌وظائف شهر ذي الحجّة

ويشتمل على مجالس:

‌المجلس الأوّل في فضل عشر ذي الحجّة

خرّج البخاري من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ما من أيّام العمل الصّالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام - يعني أيّام العشر - قالوا:

يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلاّ رجل خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء»

(1)

.

الكلام في فضل عشر ذي الحجّة في فصلين: في فضل العمل فيه، وعليه دلّ هذا الحديث، وفي فضله في نفسه.

‌الفصل الأول في فضل العمل فيه

وقد دلّ هذا الحديث على أنّ العمل في أيّامه أحبّ إلى الله من العمل في أيّام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحبّ إلى الله فهو أفضل عنده.

وقد ورد هذا الحديث بلفظ: «ما من أيام العمل فيها أفضل من أيام العشر» .

وروي بالشك في لفظه «أحبّ» أو «أفضل» .

(1)

أخرجه: البخاري (2/ 24 - 25)(969)، وأبو داود (2438)، والترمذي (757)، وابن ماجه (1727).

ص: 456

وإذا كان العمل في أيّام العشر أفضل وأحبّ إلى الله من العمل في غيره من أيّام السّنة كلّها، صار العمل فيه - وإن كان مفضولا - أفضل من العمل في غيره وإن كان فاضلا؛ ولهذا قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال:«ولا الجهاد» ، ثم استثنى جهادا واحدا هو أفضل الجهاد؛ فإنّه صلى الله عليه وسلم سئل: أيّ الجهاد أفضل؟ قال: «من عقر جواده وأهريق دمه»

(1)

، وصاحبه أفضل الناس درجة عند الله.

سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يدعو، يقول: اللهم، أعطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين. فقال له:«إذن يعقر جوادك وتستشهد»

(2)

. فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في العشر.

وأمّا بقية أنواع الجهاد فإنّ العمل في عشر ذي الحجّة أفضل وأحبّ إلى الله عز وجل منها، وكذلك سائر الأعمال، وهذا يدلّ على أنّ العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره. وقد روي في حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما هذا زيادة:«والعمل فيهن يضاعف بسبعمائة» وفي إسنادها ضعف.

وقد ورد في قدر المضاعفة روايات متعدّدة مختلفة، فخرّج الترمذي وابن ماجه من رواية النّهّاس بن قهم، عن قتادة، عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من أيّام أحبّ إلى الله أن يتعبّد له فيها من عشر ذي الحجّة، يعدل صيام كلّ يوم منها [بصيام سنة]

(3)

، وقيام كلّ ليلة

(1)

أخرجه: أبو داود (1449)، والنسائي (5/ 58) بمعناه.

(2)

أخرجه: الحاكم (2/ 74)، وابن حبان (4639).

وراجع: «التاريخ الكبير» للبخاري (1/ 222)، و «التمهيد» لابن عبد البر (1/ 237)، و «علل الدارقطني» (4/ 342).

(3)

في الأصول: «السنة» ، والمثبت من مصادر التخريج.

ص: 457

منها بقيام ليلة القدر»

(1)

. والنّهّاس بن قهم ضعفوه. وذكر الترمذي عن البخاري أنّ الحديث يروى عن قتادة عن سعيد مرسلا.

وروى ثوير بن أبي فاختة - وفيه ضعف - عن مجاهد، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:«ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة ليس العشر؛ فإنّ العمل فيها يعدل عمل سنة» . وروى أبو عمرو النيسابوري في «كتاب الحكايات» بإسناده، عن حميد، قال: سمعت ابن سيرين وقتادة يقولان: صوم كلّ يوم من العشر يعدل سنة. وقد روي في المضاعفة أكثر من ذلك؛ فروى هارون بن موسى النّحوي، قال: سمعت الحسن يحدّث عن أنس بن مالك، قال: كان يقال في أيّام العشر: بكلّ يوم ألف يوم، ويوم عرفة عشرة آلاف. قال الحاكم:

هذا من المسانيد التي لا يذكر سندها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروي في المضاعفة أقلّ من سنة، قال حميد بن زنجويه، حدثنا يحيى بن عبد الله الحرّاني، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم، عن راشد بن سعد: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صيام كلّ يوم من أيّام العشر كصيام شهر»

(2)

. وهذا مرسل ضعيف الإسناد. وروى عبد الرزّاق في كتابه عن جعفر، عن هشام، عن الحسن، قال: صيام يوم من العشر يعدل شهرين

(3)

. وقال عبد الكريم عن مجاهد: العمل في العشر يضاعف.

وفي المضاعفة أحاديث أخر مرفوعة، لكنها موضوعة، فلذلك أعرضنا عنها وعمّا أشبهها من الموضوعات في فضائل العشر، وهي كثيرة. وقد دلّ حديث

(1)

أخرجه: الترمذي (758)، وابن ماجه (1728).

وراجع: «علل الدارقطني» (9/ 199 - 203).

(2)

عزاه في «كنز العمال» (12117) إلى ابن زنجويه فقط.

(3)

أخرجه: عبد الرزاق في «مصنفه» (8126).

ص: 458

ابن عبّاس على مضاعفة جميع الأعمال الصالحة في العشر من غير استثناء شيء منها.

وقد روي في خصوص صيام أيّامه وقيام لياليه وكثرة الذّكر فيه، ما يذكر مما يحسن ذكره دون ما لا يحسن؛ لعدم صحّته. وقد سبق حديث أبي هريرة في ذلك، ومرسل راشد بن سعد، وما روي عن الحسن، وابن سيرين، وقتادة في صومه.

وفي «المسند» و «السّنن» عن حفصة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم: «كان لا يدع صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كلّ شهر»

(1)

؛ وفي إسناده اختلاف.

وروي عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يدع صيام تسع ذي الحجّة»

(2)

.

وممن كان يصوم العشر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وقد تقدّم عن الحسن وابن سيرين وقتادة ذكر فضل صيامه، وهو قول أكثر العلماء، أو كثير منهم.

وفي «صحيح مسلم» عن عائشة رضي الله عنها، قالت:«ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما العشر قطّ» . وفي رواية: «في العشر قطّ»

(3)

.

وقد اختلف جواب الإمام أحمد عن هذا الحديث؛ فأجاب مرّة بأنّه قد روي خلافه، وذكر حديث حفصة، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة؛

(1)

أخرجه: أحمد (6/ 287)، والنسائي (4/ 220)، وقال الزيلعي في «نصب الراية»:«ضعيف» .

وراجع: «الإرواء» (954).

(2)

أخرجه: أبو داود (2437).

(3)

أخرجه: مسلم (3/ 176)(1176)، وأحمد (190، 124، 6/ 42)، وأبو داود (2439)، والترمذي (756)، وابن خزيمة (2103)، وابن ماجه (1729).

ص: 459

فأسنده الأعمش، ورواه منصور عن إبراهيم مرسلا، وكذلك أجاب غيره من العلماء بأنّه إذا اختلفت عائشة وحفصة في النفي والإثبات أخذ بقول المثبت؛ لأنّ معه علما خفي على النّافي.

وأجاب أحمد مرّة أخرى بأنّ عائشة أرادت أنّه لم يصم العشر كاملا، يعني وحفصة أرادت أنّه كان يصوم غالبه؛ فينبغي أن يصام بعضه ويفطر بعضه.

وهذا الجمع يصحّ في رواية من روى: «ما رأيته صائما العشر» . وأمّا من روى: «ما رأيته صائما في العشر» فيبعد أو يتعذّر هذا الجمع فيه.

وكان ابن سيرين يكره أن يقال: صام العشر؛ لأنه يوهم دخول يوم النّحر فيه، وإنما يقال: صام التّسع، ولكن الصّيام إذا أضيف إلى العشر فالمراد صيام ما يجوز صومه منه. وقد سبق حديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم العشر. ولو نذر صيام العشر، فينبغي أن ينصرف إلى التسع أيضا، فلا يلزم بفطر يوم النّحر قضاء ولا كفّارة؛ فإنّه غلب استعماله عرفا في التسع.

ويحتمل أن يخرّج في لزوم القضاء والكفّارة خلاف؛ فإنّ أحمد قال فيمن نذر صوم شوّال فأفطر يوم الفطر وصام باقيه، أنّه يلزمه قضاء يوم وكفّارة.

وقال القاضي أبو يعلى: هذا إذا نوى صوم جميعه، فأمّا إن أطلق لم يلزمه شيء؛ لأنّ يوم الفطر مستثنى شرعا. وهذه قاعدة من قواعد الفقه، وهي أنّ العموم هل يخصّ بالشرع أم لا؟ ففي المسألة خلاف مشهور.

وأمّا قيام ليالي العشر؛ فمستحبّ، وقد سبق الحديث في ذلك، وقد ورد في خصوص إحياء ليلتي العيدين أحاديث لا تصحّ، وورد إجابة الدّعاء فيهما، واستحبّه الشافعيّ وغيره من العلماء. وكان سعيد بن جبير، وهو الذي روى هذا الحديث عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، إذا دخل العشر اجتهد اجتهادا حتّى ما يكاد يقدر عليه. وروي عنه أنّه قال: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر؛ تعجبه العبادة.

ص: 460

وأمّا استحباب الإكثار من الذكر فيها؛ فقد دلّ عليه قول الله عز وجل:

{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ} [الحجّ: 28]، فإنّ الأيام المعلومات هي أيام العشر عند جمهور العلماء. وسيأتي ذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

وفي «مسند الإمام أحمد» عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما من أيام أعظم [عند الله] ولا أحبّ إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التّهليل والتكبير والتحميد»

(1)

.

فإن قيل: فإذا كان العمل في أيام العشر أفضل من العمل في غيرها، وإن كان ذلك العمل أفضل في نفسه ممّا عمل في العشر؛ لفضيلة العشر في نفسه، فيصير العمل المفضول فيه فاضلا حتى يفضل على الجهاد الذي هو أفضل الأعمال، كما دلّت على ذلك النّصوص الكثيرة، وهو قول الإمام أحمد وغيره من العلماء، فينبغي أن يكون الحجّ أفضل من الجهاد؛ لأنّ الحجّ مخصوص بالعشر، وهو من أفضل ما عمل في العشر، أو أفضل ما عمل فيه. فكيف كان الجهاد أفضل من الحج؟ فإنه ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه «أنّ رجلا قال: يا رسول الله، أيّ الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قال:

ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: حجّ مبرور»

(2)

.

قيل: التطوّع بالجهاد أفضل من التطوّع بالحجّ عند جمهور العلماء، وقد نصّ عليه الإمام أحمد، وهو مروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وروي فيه أحاديث مرفوعة، في أسانيدها مقال. وحديث أبي هريرة هذا صريح في ذلك.

(1)

أخرجه: أحمد (131، 2/ 75)، وأصل الحديث في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وقد تقدم.

(2)

أخرجه: البخاري (1/ 13)(26)، ومسلم (1/ 62)(83)، والنسائي (5/ 113)، والترمذي (1658).

ص: 461

ويمكن الجمع بينه وبين حديث ابن عبّاس بوجهين:

أحدهما: أنّ حديث ابن عبّاس قد صرّح فيه بأنّ جهاد من لا يرجع من نفسه وماله بشيء يفضل على العمل في العشر، فيمكن أن يقال: الحجّ أفضل من الجهاد، إلاّ جهاد من لم يرجع من نفسه وماله بشيء، ويكون هو المراد من حديث أبي هريرة، ويجتمع حينئذ الحديثان.

والثاني - وهو الأظهر -: أنّ العمل المفضول قد يقترن به ما يصير أفضل من الفاضل في نفسه، كما تقدّم. وحينئذ فقد يقترن بالحجّ ما يصير به أفضل من الجهاد، وقد يتجرّد عن ذلك، فيكون الجهاد حينئذ أفضل منه، فإن كان الحجّ مفروضا فهو أفضل من التطوّع بالجهاد؛ فإنّ فروض الأعيان أفضل من فروض الكفايات عند جمهور العلماء. وقد روي هذا في الحجّ والجهاد بخصوصهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وروي مرفوعا من وجوه متعدّدة، في أسانيدها لين. وقد دلّ على ذلك ما حكاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربّه عز وجل، أنّه قال:«ما تقرّب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه»

(1)

.

وإن كان الحاج ليس من أهل الجهاد فحجّه أفضل من جهاده، كالمرأة.

وفي «صحيح البخاري» عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت: «يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: أفضل الجهاد حجّ مبرور

(2)

. وفي رواية له: «جهادكنّ الحجّ» . وفي رواية له أيضا: «نعم الجهاد الحجّ» .

وكذلك إذا استغرق العشر كلّه عمل الحجّ وأتي به على أكمل وجوه البرّ من أداء الواجبات واجتناب المحرّمات، وانضمّ إلى ذلك الإحسان إلى الناس ببذل

(1)

أخرجه: البخاري (8/ 131)(6502)، وهو جزء من حديث أبي هريرة وطرفه: «من عاد لي وليّا فقد آذنته بالحرب

».

(2)

أخرجه: البخاري (2/ 164)(1520)، والنسائي (5/ 114 - 115).

ص: 462

السّلام وإطعام الطعام، وضمّ إليه كثرة ذكر الله عز وجل، والعجّ والثّجّ، وهو رفع الصّوت بالتلبية وسوق الهدي؛ فإنّ هذا الحجّ على هذا الوجه قد يفضل على الجهاد.

وإن وقع عمل الحجّ في جزء يسير من العشر ولم يؤت به على الوجه المبرور، فالجهاد أفضل منه.

وقد روي عن عمر وابن عمر وأبي موسى الأشعري ومجاهد ما يدلّ على تفضيل الحجّ على الجهاد وسائر الأعمال، وينبغي حمله على الحجّ المبرور الذي كمل برّه واستوعب فعله أيّام العشر، والله أعلم.

فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصّالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام» . هل يقتضي تفضيل كلّ عمل صالح وقع في شيء من أيام العشر على جميع ما يقع في غيرها، وإن طالت مدته أم لا؟

قيل: الظاهر - والله أعلم - أنّ المراد أنّ العمل في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها، فكلّ عمل صالح يقع في هذا العشر فهو أفضل من عمل في عشرة أيام سواها، من أيّ شهر كان، فيكون تفضيلا للعمل في كلّ يوم منه على العمل في كلّ يوم من أيّام السّنة غيره.

وقد قيل: إنّما يفضل العمل فيها على الجهاد إذا كان العمل فيها مستغرقا لأيام العشر، فيفضل على جهاد في عدد تلك الأيّام من غير العشر. وإن كان العمل مستغرقا لبعض أيّام العشر، فهو أفضل من جهاد في نظير ذلك الزمان من غير العشر.

واستدلّ على ذلك بأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل العمل الدّائم الذي لا يفتر من صيام وصلاة معادلا للجهاد في أيّ وقت كان، فإذا وقع ذلك العمل الدّائم في العشر، كان أفضل من الجهاد في مثل أيامه؛ لفضل العشر وشرفه؛ ففي

ص: 463

«الصحيحين» عن أبي هريرة، قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:

دلّني على عمل يعدل الجهاد. قال: لا أجده. قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك، فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟»

(1)

. ولفظه للبخاري، ولمسلم معناه، وزاد: ثم قال: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصّائم القائم القانت بآيات الله، الذي لا يفتر من صلاة ولا صيام، حتى يرجع المجاهد في سبيل الله» . وللبخاري: «مثل المجاهد في سبيل الله - والله أعلم بمن يجاهد في سبيله - كمثل الصائم القائم» . وللنسائي: «كمثل الصائم القائم الخاشع الراكع السّاجد»

(2)

.

ويدلّ على أنّ المراد تفضيله على جهاد في مثل أيّامه خاصّة ما في صحيح ابن حبّان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة. فقال رجل: يا رسول الله، هو أفضل أم عدّتهن جهادا في سبيل الله؟ قال: هو أفضل من عدتهنّ جهادا في سبيل الله»

(3)

. فلم يفضّل العمل في العشر إلاّ على الجهاد في عدّة أيام العشر لا مطلقا.

وأمّا ما تقدّم من أنّ كلّ يوم منه يعدل سنة أو شهرين أو ألف يوم، فكلّها من أحاديث الفضائل، ليست بقوية.

ثم إنّ أكثر ما ورد ذلك في صيامها، والصيام له خصوصيّة في المضاعفة، فإنّه لله، والله يجزي به. وإن قيل: إنه لا يختص بالصّوم، بل يعمّ سائر الأعمال، فإنّما يدلّ على تفضيل كلّ عمل في العشر على مثل ذلك العمل في غيره سنة، فلا يدخل فيه إلاّ تفضيل من جاهد في العشر على ما جاهد في غيره سنة.

(1)

أخرجه: البخاري (4/ 18)(2785)، ومسلم (6/ 35)(1878)، والنسائي (6/ 19).

(2)

أخرجه: النسائي (6/ 18).

(3)

أخرجه: ابن حبان (3853).

ص: 464

وإذا قيل: يلزم من تفضيل العمل في هذا العشر على كلّ عشر غيره أن يكون صيام هذا العشر أفضل من صوم عشر رمضان، وقيام لياليه أفضل من قيام لياليه.

قيل: أمّا صيام رمضان فأفضل من صيامه بلا شكّ؛ فإنّ صوم الفرض أفضل من النّفل بلا تردّد، وحينئذ فيكون المراد أنّ ما فعل في العشر من فرض فهو أفضل ممّا فعل في عشر غيره من فرض، فقد تضاعف صلواته المكتوبة على صلوات عشر رمضان، وما فعل فيه من نفل فهو أفضل ممّا فعل في غيره من نفل.

وقد اختلف عمر وعلي رضي الله عنهما في قضاء رمضان في عشر ذي الحجّة، فكان عمر يستحبه لفضل أيامه، فيكون قضاء رمضان فيه أفضل من غيره، وهذا يدلّ على مضاعفة الفرض فيه على النّفل. وكان عليّ ينهى عنه. وعن أحمد في ذلك روايتان. وقد علّل قول عليّ بأنّ القضاء فيه يفوت به فضل صيامه تطوّعا، وبهذا علّله الإمام أحمد وغيره.

وقد قيل: إنه يحصل به فضيلة صيام التطوّع أيضا، وهذا على قول من يقول: إن نذر صيام شهر، فصام رمضان، أجزأه عن نذره فيه، وفرضه متوجّه، وقد علّل بغير ذلك.

وأمّا قيام لياليه وتفضيل قيامه على قيام عشر رمضان، فيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

***

‌الفصل الثاني في فضل عشر ذي الحجّة على غيره من أعشار الشهور

قد سبق حديث ابن عمر المرفوع: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحبّ إليه العمل فيهنّ من هذه الأيام العشر» . وفي «صحيح ابن حبان» عن جابر عن

ص: 465

النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجّة» ، وقد تقدّم. ورويناه من وجه آخر بزيادة، وهي:«ولا ليالي أفضل من لياليهنّ» .

قيل: يا رسول الله، هنّ أفضل من عدتهنّ جهادا في سبيل الله؟ قال:«هنّ أفضل من عدتهنّ جهادا في سبيل الله، إلاّ من عفّر وجهه تعفيرا. وما من يوم أفضل من يوم عرفة» . خرّجه الحافظ أبو موسى المديني من جهة أبي نعيم الحافظ بالإسناد الذي خرّجه به ابن حبان.

وخرّج البزار وغيره من حديث جابر أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «أفضل أيام الدّنيا أيام العشر. قالوا: يا رسول الله، ولا مثلهنّ في سبيل الله؟ قال:

ولا مثلهنّ في سبيل الله، إلاّ من عفّر وجهه بالتراب»

(1)

. وروي مرسلا، وقيل: إنه أصحّ. وقد سبق ما روي عن ابن عمر، قال: ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة، ليس العشر. وهو يدلّ على أنّ أيامّ العشر أفضل من يوم الجمعة الذي هو أفضل الأيام.

وقال سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن كعب، قال: اختار الله الزّمان، فأحبّ الزّمان إلى الله الشهر الحرام، وأحبّ الأشهر الحرم إلى الله ذو الحجّة، وأحبّ ذي الحجّة إلى الله العشر الأول. ورواه بعضهم عن سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة، ورفعه؛ ولا يصحّ ذلك.

وقال مسروق في قوله تعالى {وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2]: هي أفضل أيّام السنة

(2)

. خرّجه عبد الرزاق وغيره. وأيضا فأيّام هذا العشر يشتمل على يوم عرفة. وقد روي أنّه أفضل أيّام الدنيا، كما في حديث جابر الذي ذكرناه، وفيه:«يوم النّحر» . وفي حديث عبد الله بن قرط، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:

(1)

أخرجه: البزار (1128 - كشف)، والشجري في «الأمالي» (2/ 62).

(2)

أخرجه: عبد الرزاق في «مصنفه» (8120).

ص: 466

«أعظم الأيّام عند الله يوم النّحر، ثم يوم القرّ»

(1)

. خرّجه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما. وهذا كلّه يدلّ على أنّ عشر ذي الحجّة أفضل من غيره من الأيام من غير استثناء؛ هذا في أيامه.

فأمّا لياليه فمن المتأخرين من زعم أنّ ليالي عشر رمضان أفضل من لياليه؛ لاشتمالها على ليلة القدر، وهذا بعيد جدّا.

ولو صحّ حديث أبي هريرة «قيام كلّ ليلة منها بقيام ليلة القدر»

(2)

لكان صريحا في تفضيل لياليه على ليالي عشر رمضان، فإنّ عشر رمضان فضّل بليلة واحدة فيه، وهذا جميع لياليه متساوية لها في القيام على هذا الحديث. ولكن حديث جابر الذي خرّجه أبو موسى صريح في تفضيل لياليه كتفضيل أيّامه أيضا. والأيّام إذا أطلقت دخلت فيها الليالي تبعا، وكذلك الليالي تدخل أيّامها تبعا.

وقد أقسم الله تعالى بلياليه، فقال:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2]، وهذا يدلّ على فضيلة لياليه أيضا، لكن لم يثبت أنّ لياليه ولا شيئا منها يعدل ليلة القدر.

وقد زعم طوائف من أصحابنا أنّ ليلة الجمعة أفضل من ليلة القدر، ولكن لا يصحّ ذلك عن أحمد؛ فعلى قول هؤلاء لا يستبعد تفضيل ليالي هذا العشر على ليلة القدر.

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 350)، وأبو داود (1765)، والحاكم (4/ 221)، وابن خزيمة (2917، 2866).

وصححه الألباني في «الإرواء» (2018).

(2)

أخرجه: الترمذي (758)، وابن ماجه (1728) وتقدم تضعيف المؤلف له.

وراجع: «علل الدارقطني» (9/ 199).

ص: 467

والتحقيق ما قاله بعض أعيان المتأخّرين من العلماء، أن يقال: مجموع هذا العشر أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها، والله أعلم.

وما تقدّم عن كعب يدلّ على أنّ شهر ذي الحجة أفضل الأشهر الحرم الأربعة، وكذا قال سعيد بن جبير؛ راوي هذا الحديث عن ابن عبّاس:«ما من الشهور شهر أعظم حرمة من ذي الحجة» .

وفي «مسند البزار» عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«سيد الشهور رمضان، وأعظمها حرمة ذو الحجة»

(1)

. وفي إسناده ضعف.

وفي «مسند الإمام أحمد» ، عن أبي سعيد الخدري أيضا: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجّة الوداع في خطبته يوم النّحر: «ألا إنّ أحرم الأيام يومكم هذا، ألا وإنّ أحرم الشّهور شهركم هذا، ألا وإنّ أحرم البلاد بلدكم هذا»

(2)

.

وروي ذلك أيضا عن جابر، ووابصة بن معبد، ونبيط بن شريط، وغيرهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كلّه يدلّ على أنّ شهر ذي الحجّة أفضل الأشهر الحرم، حيث كان أشدّها حرمة. وقد روي عن الحسن أنّ أفضلها المحرّم، وسنذكره عند ذكر شهر المحرّم، إن شاء الله تعالى.

وأمّا من قال: إنّ أفضلها رجب، فقوله مردود.

ولعشر ذي الحجّة فضائل أخر غير ما تقدّم؛ فمن فضائله: أنّ الله تعالى

(1)

أخرجه: البزار (960 - كشف)، وفي إسناده يزيد بن عبد الملك النوفلي، قال البزار:«فيه لين» .

وراجع: «الضعيفة» (3727).

(2)

أخرجه: أحمد (3/ 80)، وابن ماجه (3931).

وأصل الحديث في «الصحيحين» من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

ص: 468

أقسم به جملة، وببعضه خصوصا. قال تعالى:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2]؛ فأمّا الفجر فقيل: إنّه أراد جنس الفجر. وقيل: المراد طلوع الفجر، أو صلاة الفجر، أو النّهار كلّه؛ فيه اختلاف بين المفسرين. وقيل: إنه أريد به فجر معين. ثم قيل: إنّه أريد به فجر أوّل يوم من عشر ذي الحجّة.

وقيل: بل أريد به فجر آخر يوم منه، وهو يوم النّحر. وعلى جميع هذه الأقوال، فالعشر يشتمل على الفجر الذي أقسم به.

وأمّا «الليالي العشر» فهي عشر ذي الحجة؛ هذا الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين من السّلف وغيرهم، وهو الصحيح عن ابن عبّاس؛ روي عنه من غير وجه. والرواية عنه «أنه عشر رمضان» إسنادها ضعيف.

وفيه حديث مرفوع خرّجه الإمام أحمد، والنّسائي في التفسير، من رواية زيد بن الحباب، حدثنا عيّاش بن عقبة، حدثنا خير بن نعيم، عن أبي الزّبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«العشر عشر الأضحى، والوتر يوم عرفة، والشّفع يوم النّحر»

(1)

، وهو إسناد حسن.

وكذا فسّر «الشّفع» و «الوتر» ابن عبّاس في رواية عكرمة وغيره. وفسّرهما أيضا بذلك عكرمة والضحاك وغير واحد. وقد قيل في «الشّفع» و «الوتر» أقوال كثيرة، وأكثرها لا يخرج عن أن يكون العشر أو بعضه مشتملا على «الشفع» و «الوتر» ، أو أحدهما؛ كقول من قال: «هي الصّلاة، منها شفع

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 327)، والبزار (2286 - كشف)، وابن جرير في «تفسيره» (169/ 30) بالجملة الأولى فقط.

وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (8/ 413): «هذا إسناد رجاله لا بأس بهم، وعندي أن المتن في رفعه نكارة، والله أعلم» .

وراجع «الضعيفة» للألباني (3938).

ص: 469

ومنها وتر»

(1)

. وقد خرّجه الإمام أحمد والترمذي من حديث عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقول من قال: هي المخلوقات، منها شفع ومنها وتر، يدخل فيها أيام العشر. وقول من قال: الشّفع الخلق كلّه، والوتر الله، فإنّ أيام العشر من جملة المخلوقات.

ومن فضائله أيضا: أنّه من جملة الأربعين التي واعدها الله عز وجل لموسى عليه السلام، قال الله تعالى:{وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]، لكن هل عشر ذي الحجّة خاتمة الأربعين، فيكون هو العشر الذي أتمّ به الثلاثون، أم هو أوّل الأربعين، فيكون من جملة الثلاثين التي أتمّت بعشر؛ فيه اختلاف بين المفسرين.

روى عبد الرزّاق، عن معمر، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، قال:

«ما من عمل في أيّام السّنة أفضل منه في العشر من ذي الحجّة، وهي العشر التي أتمّها الله لموسى عليه السلام»

(2)

.

ومن فضائله: أنّه خاتمة الأشهر المعلومات، أشهر الحجّ التي قال الله فيها:

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} [البقرة: 197]؛ وهي شوّال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجّة. وروي ذلك عن عمر، وابنه عبد الله، وعليّ، وابن مسعود، وابن عبّاس، وابن الزبير وغيرهم؛ وهو قول أكثر التابعين؛ ومذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة وأبي يوسف وأبي ثور وغيرهم، لكن الشافعي وطائفة

(1)

أخرجه: أحمد (442، 438، 4/ 437)، والترمذي (3342)، وقال:«غريب» .

قلت: وفي إسناده رجل لم يسم.

وقد روي موقوفا على عمران بن حصين رضي الله عنه ورجح الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (415/ 8) الوقف، وراجع «فتح الباري» (8/ 702).

(2)

أخرجه: عبد الرزاق في «مصنفه» (8119)، وهو مرسل.

ص: 470

أخرجوا منه يوم النّحر، وأدخله فيه الأكثرون؛ لأنّه يوم الحجّ الأكبر، وفيه تقع أكثر أفعال مناسك الحج. وقالت طائفة: ذو الحجة كلّه من أشهر الحج، وهو قول مالك، والشافعي في القديم؛ ورواية عن ابن عمر أيضا؛ وروي عن طائفة من السّلف. وفيه حديث مرفوع خرّجه الطبراني، لكنه لا يصح

(1)

. والكلام في هذه المسألة يطول، وليس هذا موضعه.

ومن فضائله: أنّه الأيّام المعلومات التي شرع الله ذكره فيها على ما رزق من بهيمة الأنعام، قال الله تعالى:{وَأَذِّنْ فِي النّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ} [الحج: 27 - 28].

وجمهور العلماء على أنّ هذه الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجّة؛ منهم ابن عمر وابن عبّاس والحسن وعطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة والنّخعيّ؛ وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه.

وروي عن أبي موسى الأشعري أنّ الأيّام المعلومات هي تسع ذي الحجّة غير يوم النّحر، وأنّه قال: لا يردّ فيهنّ الدّعاء. خرّجه جعفر الفريابيّ وغيره.

وقالت طائفة: هي أيّام الذّبح. وروي عن طائفة من السّلف، وهو قول مالك وأبي يوسف، وجعلوا ذكر الله فيها ذكره على الذّبح؛ وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما. ونقل المرّوذيّ عن أحمد أنّه استحسنه. والقول الأول أظهر.

(1)

أخرج الطبراني في «الأوسط» (1584) عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ: «شوال وذو القعدة وذو الحجة» . وأخرجه أيضا برقم (7060) عن ابن عمر رضي الله عنهما بمعناه.

وقال في «مجمع الزوائد» (3/ 218): «رواه الطبراني في «الصغير» و «الأوسط» ، وفيه حصين بن مخارق، قال الطبراني: كوفي ثقة، وضعفه الدارقطني، وبقية رجاله موثقون».

ص: 471

وذكر الله على بهيمة الأنعام لا يختصّ بحال ذبحها، كما قال تعالى:

{كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ} [الحجّ: 37]. وقال تعالى:

{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ} [الحجّ: 34]. وأيضا فقد قال الله تعالى بعد هذا: {فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 28 - 29]. فجعل هذا كلّه بعد ذكره في الأيّام المعلومات وقضاء التّفث، وهو شعث الحجّ وغباره ونصبه. والطّواف بالبيت إنّما يكون في يوم النّحر وما بعده، ولا يكون قبله. وقد جعل الله سبحانه هذا مرتّبا على ذكره في الأيّام المعلومات بلفظة «ثم» ، فدلّ على أن المراد بالأيّام المعلومات ما قبل يوم النّحر، وهو عشر ذي الحجّة.

وأمّا قوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ} [الحجّ: 28]، فقيل: إنّ المراد ذكره عند ذبحها، وهو حاصل بذكره في يوم النّحر؛ فإنّه أفضل أيّام النّحر. والأصحّ أنّه إنّما أريد ذكره شكرا على نعمة تسخير بهيمة الأنعام لعباده؛ فإنّ لله تعالى على عباده في بهيمة الأنعام نعما كثيرة قد عدّد بعضها في مواضع من القرآن.

والحاجّ لهم خصوصيّة في ذلك عن غيرهم؛ فإنّهم يسيرون عليها إلى الحرم؛ لقضاء نسكهم، كما قال تعالى:{وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحجّ: 27]، وقال تعالى:{وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [النّحل: 7]. ويأكلون من لحومها، ويشربون من ألبانها، وينتفعون بأصوافها وأوبارها وأشعارها.

ويختصّ عشر ذي الحجّة في حقّ الحاج بأنّه زمن سوقهم للهدي الذي به يكمل فضل الحج، ويأكلون من لحومه في آخر العشر، وهو يوم النّحر.

ص: 472

وأفضل سوق الهدي من الميقات، ويشعر ويقلّد عند الإحرام، وتقارنه التلبية، وهي من الذّكر لله في الأيّام المعلومات. وفي الحديث:«أفضل الحجّ العجّ والثّجّ»

(1)

. وفي حديث آخر: «عجّوا التّكبير عجّا، وثجّوا الإبل ثجّا»

(2)

.

فيكون كثرة ذكر الله في أيّام العشر شكرا على هذه النّعمة المختصّة ببهيمة الأنعام، التي بعضها يتعلّق بدين الحاج، وبعضها بدنياهم.

وأفضل الأعمال ما كثر ذكر الله تعالى فيها؛ خصوصا الحجّ. وقد أمر الله تعالى بذكره كثيرا في الحجّ؛ قال تعالى: {فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198 - 199]؛ فهذا الذّكر يكون في عشر ذي الحجّة. ثمّ قال تعالى: {فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة: 200]، وهذا يقع في يوم النّحر، وهو خاتمة العشر أيضا. ثم أمر بذكره بعد العشر في الأيام المعدودات، وهي أيّام التشريق.

وفي «السّنن» عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّما جعل الطّواف بالبيت، والسعي بين الصّفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله عز وجل»

(3)

.

وفي «مسند الإمام أحمد» ، عن معاذ بن أنس: «أنّ رجلا قال:

(1)

أخرجه: الترمذي (827)، واستغربه، وابن ماجه (975).

وراجع: «نصب الراية» (3/ 8)، و «التلخيص الحبير» (2/ 457 - 458)، و «الصحيحة» (1500).

(2)

تقدم.

(3)

أخرجه: الترمذي (902)، وأبو داود (1888).

وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» .

وراجع: «ضعيف أبي داود» للألباني (328).

ص: 473

يا رسول الله، أيّ الجهاد أعظم أجرا؟ قال: أكثرهم لله ذكرا. قال: فأيّ الصائمين أعظم أجرا؟ قال: أكثرهم لله ذكرا. قال: ثم ذكر الصّلاة، والزّكاة، والحجّ، والصّدقة؛ كلّ ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أكثرهم لله ذكرا. فقال أبو بكر: يا أبا حفص، ذهب الذّاكرون بكلّ خير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

أجل»

(1)

.

وقد خرّجه ابن المبارك، وابن أبي الدنيا من وجوه أخر مرسلة، وفي بعضها:«أي الحاج خير؟ قال: أكثرهم ذكرا لله» . وفي بعضها: «أيّ الحاج أعظم أجرا؟ قال: أكثرهم لله ذكرا» ، وذكر بقية الأعمال، بمعنى ما تقدّم.

فهذا كلّه بالنسبة إلى الحاج.

فأمّا أهل الأمصار فإنّهم يشاركون الحاج في عشر ذي الحجة؛ في الذّكر، وإعداد الهدي. فأمّا إعداد الهدي فإنّ العشر تعدّ فيه الأضاحي، كما يسوق أهل الموسم الهدي، ويشاركونهم في بعض إحرامهم؛ فإنّ من دخل عليه العشر وأراد أن يضحي، فلا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئا، كما روت ذلك أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم. خرّج حديثها مسلم

(2)

، وأخذ بذلك الشافعي، وأحمد، وعامّة فقهاء الحديث. ومنهم من شرط أن يكون قد اشترى هديه قبل العشر، وأكثرهم لم يشرطوا ذلك.

وخالف فيه مالك، وأبو حنيفة، وكثير من الفقهاء، وقالوا: لا يكره شيء من ذلك. واستدلّوا بحديث عائشة: «كنت أفتل قلائد الهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحرم عليه شيء أحلّه الله له»

(3)

.

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 438).

وأشار الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 74) إلى ضعفه.

(2)

أخرجه: مسلم (6/ 83)(1977).

(3)

أخرجه: مسلم (4/ 89)(1321)، وأحمد (6/ 35).

ص: 474

وأجاب كثير من أهل القول الأول: بأنه يجمع بين الحديثين؛ فيؤخذ بحديث أم سلمة فيمن يريد أن يضحي في مصره. وبحديث عائشة فيمن أرسل بهديه مع غيره، وأقام في بلده.

وكان ابن عمر إذا ضحّى يوم النّحر حلق رأسه، ونصّ أحمد على ذلك.

واختلف العلماء في التعريف بالأمصار عشيّة عرفة، وكان الإمام أحمد لا يفعله ولا ينكر على من فعله؛ لأنّه روي عن ابن عباس وغيره من الصحابة.

وأما مشاركتهم لهم في الذكر في الأيام المعلومات؛ فإنّه يشرع للنّاس كلهم الإكثار من ذكر الله ففي أيام العشر خصوصا، وقد سبق حديث ابن عمر المرفوع:«فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» .

واختلف العلماء: هل يشرع إظهار التكبير والجهر به في الأسواق في العشر، فأنكره طائفة، واستحبّه أحمد والشافعيّ، لكنّ الشافعيّ خصّه بحال رؤية بهيمة الأنعام، وأحمد يستحبّه مطلقا.

وقد ذكر البخاري في «صحيحه» عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يخرجان إلى السّوق في العشر، فيكبّران ويكبّر الناس بتكبيرهما

(1)

. ورواه عفان: حدثنا سلام أبو المنذر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: كان أبو هريرة وابن عمر يأتيان السّوق أيّام العشر فيكبّران ويكبّر الناس [بتكبيرهما]

(2)

معهما، ولا يأتيان لشيء إلا لذلك.

وروى جعفر الفريابي في «كتاب العيدين» ، حدثنا إسحاق بن راهويه، أخبرنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، قال: رأيت سعيد بن جبير ومجاهدا وعبد الرحمن بن أبي ليلى، أو اثنين من هؤلاء الثلاثة، ومن رأينا من فقهاء

(1)

ذكره: البخاري (2/ 24) معلقا.

(2)

من (ص).

ص: 475

الناس، يقولون في أيام العشر: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

لما كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كلّ أحد قادرا على مشاهدته في كلّ عام، فرض على المستطيع الحجّ مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركا بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحجّ في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته، يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج.

ليالي العشر أوقات الإجابه

فبادر رغبة تلحق ثوابه

ألا لا وقت للعمّال فيه

ثواب الخير أقرب للإصابه

من اوقات الليالي العشر حقّا

فشمّر واطلبن فيها الإنابه

احذروا المعاصي؛ فإنّها تحرم المغفرة في مواسم الرّحمة. روى المرّوذيّ في «كتاب الورع» بإسناده عن عبد الملك بن عمير، عن رجل؛ إمّا من الصحابة أو من التابعين، أنّ آتيا أتاه في منامه في العشر من ذي الحجة، فقال:

ما من مسلم إلاّ يغفر له في هذه الأيام، كلّ يوم خمس مرار، إلاّ أصحاب الشاه، يقولون: مات، ما موته؟! يعني أصحاب الشطرنج. فإذا كان اللعب بالشطرنج مانعا من المغفرة، فما الظنّ بالإصرار على الكبائر المجمع عليها؟

طاعة الله خير ما لزم العب

د فكن طائعا ولا تعصينّه

ما هلاك النّفوس إلاّ المعاصي

فاجتنب ما نهاك لا تقربنّه

إنّ شيئا هلاك نفسك فيه

ينبغي أن تصون نفسك عنّه

المعاصي سبب البعد والطّرد، كما أنّ الطاعات أسباب القرب والودّ.

أيضمن لي فتى ترك المعاصي

وأرهنه الكفالة بالخلاص

ص: 476

أطاع الله قوم فاستراحوا

ولم يتجرّعوا غصص المعاصي

إخوانكم في هذه الأيام قد عقدوا الإحرام، وقصدوا البيت الحرام، وملئوا الفضاء بالتّلبية والتكبير والتهليل والتحميد والإعظام، لقد ساروا وقعدنا، وقربوا وبعدنا، فإن كان لنا معهم نصيب سعدنا.

أتراكم في النّقا والمنحنى

أهل سلع تذكرونا ذكرنا

انقطعنا ووصلتم فاعلموا

واشكروا المنعم يا أهل منى

قد خسرنا وربحتم فصلوا

بفضول الرّبح من قد غبنا

سار قلبي خلف أحمالكم

غير أنّ العذر عاق البدنا

ما قطعتم واديا إلاّ وقد

جئته أسعى بأقدام المنى

أنا مذ غبتم على تذكاركم

أترى عندكم ما عندنا

القاعد لعذر شريك السّائر، وربما سبق السائر بقلبه السّائرين بأبدانهم. رأى بعضهم في المنام عشيّة عرفة في الموقف قائلا يقول له: أترى هذا الزّحام على هذا الموقف؟ فإنه لم يحجّ منهم أحد إلاّ رجل تخلّف عن الموقف، فحجّ بهمّته فوهب له أهل الموقف.

يا سائرين إلى البيت العتيق لقد

سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا

إنّا أقمنا على عذر وقد رحلوا

ومن أقام على عذر كمن راحا

الغنيمة الغنيمة بانتهاز الفرصة في هذه الأيام العظيمة، فما منها عوض ولا لها قيمة. المبادرة المبادرة بالعمل، والعجل العجل قبل هجوم الأجل، قبل أن يندم المفرّط على ما فعل، قبل أن يسأل الرجعة ليعمل صالحا فلا يجاب إلى ما سأل، قبل أن يحول الموت بين المؤمّل وبلوغ الأمل، قبل أن يصير المرء مرتهنا في حفرته بما قدّم من عمل.

ص: 477

ليس للميت في قبره

فطر ولا أضحى ولا عشر

ناء عن الأهل على قربه

كذاك من مسكنه القبر

يا من طلع فجر شيبه بعد بلوغ الأربعين، يا من مضى عليه بعد ذلك ليالي عشر سنين حتى بلغ الخمسين، يا من هو في معترك المنايا ما بين الستين والسبعين، ما تنتظر بعد هذا الخبر إلا أن يأتيك اليقين؟ يا من ذنوبه بعدد الشّفع والوتر! أما تستحيي من الكرام الكاتبين؟ أم أنت ممن يكذّب بالدّين؟ يا من ظلمة قلبه كالليل إذا يسري! أما آن لقلبك أن يستنير أو يلين؟ تعرّض لنفحات مولاك في هذا العشر؛ فإنّ لله فيه نفحات يصيب بها من يشاء، فمن أصابته سعد بها آخر الدّهر.

جنحت شمس حياتي

وتدلّت للغروب

وتولّى ليل رأسي

وبدا فجر المشيب

ربّ خلّصني فقد لجج

ت في بحر الذّنوب

وأنلني العفو يا أق

رب من كلّ قريب

***

ص: 478

‌المجلس الثاني في فضل يوم عرفة مع عيد النّحر

في «الصحيحين» عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّ رجلا من اليهود قال له:

يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتّخذنا ذلك اليوم عيدا. فقال: أيّ آية؟ قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3]. فقال عمر: إنّي لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه؛ نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بعرفة يوم جمعة

(1)

.

وخرّج الترمذي عن ابن عباس نحوه، وقال فيه: نزلت في يوم عيد من يوم جمعة ويوم عرفة

(2)

.

العيد هو موسم الفرح والسرور، وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدنيا إنما هو بمولاهم، إذا فازوا بإكمال طاعته، وحازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله ومغفرته، كما قال تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]. قال بعض العارفين: ما فرح أحد بغير الله إلاّ بغفلته عن الله؛ فالغافل يفرح بلهوه وهواه، والعاقل يفرح بمولاه.

وأنشد سمنون في هذا المعنى:

وكان فؤادي خاليا قبل حبّكم

وكان بذكر الخلق يلهو ويمرح

فلمّا دعا قلبي هواك أجابه

فلست أراه عن فنائك يبرح

(1)

أخرجه: البخاري (1/ 18)(45)، ومسلم (8/ 238)(3017)، والنسائي (8، 5/ 251 / 114).

(2)

أخرجه: الترمذي (3044)، وقال:«حسن غريب من حديث ابن عباس، وهو صحيح» .

ص: 479

رميت ببعد منك إن كنت كاذبا

وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح

وإن كان شيء في البلاد بأسرها

إذا غبت عن عيني لعيني يملح

فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل

فلست أرى قلبي لغيرك يصلح

لمّا قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان لهم يومان يلعبون فيهما، فقال:«إنّ الله قد أبدلكم يومين خيرا منهما؛ يوم الفطر، والأضحى»

(1)

. فأبدل الله هذه الأمة بيومي اللعب واللهو يومي الذّكر والشّكر والمغفرة والعفو.

ففي الدنيا للمؤمنين ثلاثة أعياد: عيد يتكرّر كلّ أسبوع، وعيدان يأتيان في كلّ عام مرّة مرة، من غير تكرر في السنة.

فأمّا العيد المتكرّر، فهو يوم الجمعة، وهو عيد الأسبوع، وهو مترتب على إكمال الصّلوات المكتوبات؛ فإنّ الله عز وجل فرض على المؤمنين في كلّ يوم وليلة خمس صلوات، وأيام الدنيا تدور على سبعة أيام، فكلّما كمل دور أسبوع من أيام الدنيا، واستكمل المسلمون صلواتهم فيه، شرع لهم في يوم استكمالهم - وهو اليوم الذي كمل فيه الخلق، وفيه خلق آدم وأدخل الجنّة وأخرج منها، وفيه ينتهي أمد الدنيا فتزول وتقوم الساعة، وفيه الاجتماع على سماع الذّكر والموعظة وصلاة الجمعة -، وجعل ذلك لهم عيدا؛ ولهذا نهي عن إفراده بالصّيام.

وفي شهود الجمعة شبه من الحجّ، وروي أنّها حجّ المساكين

(2)

. وقال سعيد بن المسيّب: شهود الجمعة أحبّ إليّ من حجة نافلة.

(1)

أخرجه: أحمد (250، 235، 178، 3/ 103)، والنسائي (3/ 179).

(2)

تقدم، وأنه حديث موضوع.

وراجع: «السلسلة الضعيفة» (191)(192).

ص: 480

والتبكير إليها يقوم مقام الهدي على قدر السّبق؛ فأوّلهم كالمهدي بدنة ثم بقرة، ثم كبشا، ثم دجاجة، ثم بيضة.

وشهود الجمعة يوجب تكفير الذنوب إلى الجمعة الأخرى إذا سلم ما بين الجمعتين من الكبائر، كما أنّ الحجّ المبرور يكفّر ذنوب تلك السنة إلى الحجة الأخرى. وقد روي:«إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام»

(1)

. وروي:

«إنّ الله تعالى يغفر يوم الجمعة لكلّ مسلم»

(2)

. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة»

(3)

. وفي «المسند» عنه صلى الله عليه وسلم أنّه قال في يوم الجمعة: «هو أفضل عند الله من يوم الفطر ويوم الأضحى»

(4)

.

فهذا عيد الأسبوع، وهو متعلّق بإكمال الصلوات المكتوبة، وهي أعظم أركان الإسلام ومبانيه بعد الشهادتين.

وأمّا العيدان اللذان لا يتكرران في كلّ عام، وإنما يأتي كلّ واحد منهما في العام مرّة واحدة:

فأحدهما: عيد الفطر من صوم رمضان، وهو مرتب على إكمال صيام رمضان، وهو الرّكن الرابع

(5)

من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا استكمل

(1)

أخرجه: ابن عدي في «الكامل» (6/ 504)، وابن حبان في «المجروحين» (2/ 123)، وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 140)، وهو ضعيف.

وراجع: «الضعيفة» (2565).

(2)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (4817) من حديث أنس رضي الله عنه.

وأخرجه: الخطيب في «تاريخه» (6/ 46 - بشار) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه: الترمذي (3339)، وأشار إلى ضعف إسناده، ولكن معناه ثابت من حديث أبي هريرة عند مسلم (3/ 6) (854) بلفظ: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة

».

(4)

«مسند الإمام أحمد» (3/ 430).

(5)

في أ، ص:«الثالث» .

ص: 481

المسلمون صيام شهرهم المفروض عليهم، واستوجبوا من الله المغفرة والعتق من النار؛ فإنّ صيامه يوجب مغفرة ما تقدّم من الذنوب، وآخره عتق من النار، يعتق فيه من النار من استحقّها بذنوبه، فشرع الله تعالى لهم عقيب إكمالهم لصيامهم عيدا يجتمعون فيه على شكر الله وذكره وتكبيره على ما هداهم له.

وشرع لهم في ذلك العيد الصّلاة والصّدقة. وهو يوم الجوائز يستوفي الصائمون فيه أجر صيامهم، ويرجعون من عيدهم بالمغفرة.

والعيد الثاني: عيد النّحر، وهو أكبر العيدين وأفضلهما، وهو مترتب على إكمال الحجّ، وهو الركن الخامس

(1)

من أركان الإسلام ومبانيه، فإذا أكمل المسلمون حجّهم غفر لهم. وإنما يكمل الحجّ بيوم عرفة والوقوف فيه بعرفة؛ فإنّه ركن الحجّ الأعظم، كما قال صلى الله عليه وسلم:«الحجّ عرفة»

(2)

.

ويوم عرفة هو يوم العتق من النار، فيعتق الله فيه من النار من وقف بعرفة ومن لم يقف بها من أهل الأمصار من المسلمين، فلذلك صار اليوم الذي يليه عيدا لجميع المسلمين في جميع أمصارهم؛ من شهد الموسم منهم ومن لم يشهده؛ لاشتراكهم في العتق والمغفرة يوم عرفة.

وإنما لم يشترك المسلمون كلّهم في الحجّ كلّ عام، رحمة من الله وتخفيفا على عباده، فإنّه جعل الحجّ فريضة العمر لا فريضة كلّ عام، وإنما هو في كل عام فرض كفاية، بخلاف الصيام؛ فإنه فريضة كلّ عام على كلّ مسلم. فإذا كمل يوم

(1)

في أ، ص:«الرابع» .

(2)

أخرجه: أحمد (335، 310، 4/ 309)، وأبو داود (1949)، والترمذي (889)، وابن ماجه (3015)، والنسائي (264، 5/ 256).

وقال أبو داود: «هذا الحديث أصل من الأصول» .

وراجع: «الإرواء» (1064)، و «سؤالات الآجري» (343).

ص: 482

عرفة، وأعتق الله عباده المؤمنين من النار، اشترك المسلمون كلّهم في العيد عقب ذلك. وشرع للجميع التقرّب إليه بالنّسك، وهو إراقة دماء القرابين.

فأهل الموسم يرمون الجمرة، فيشرعون في التحلّل من إحرامهم بالحجّ، ويقضون تفثهم، ويوفون نذورهم، ويقرّبون قرابينهم من الهدايا، ثم يطوفون بالبيت العتيق. وأهل الأمصار يجتمعون على ذكر الله وتكبيره والصلاة له.

قال مخنف بن سليم - وهو معدود من الصحابة -: الخروج يوم الفطر يعدل عمرة، والخروج يوم الأضحى يعدل حجة. ثم ينسكون عقيب ذلك نسكهم، ويقرّبون قرابينهم بإراقة دماء ضحاياهم؛ فيكون ذلك شكرا منهم لهذه النعم.

والصلاة والنّحر الذي يجتمع في عيد النّحر أفضل من الصّلاة والصّدقة الذي في عيد الفطر، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل شكره لربّه على إعطائه الكوثر أن يصلّي لربّه وينحر، وقيل له:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ} [الأنعام: 162]. ولهذا ورد الأمر بتلاوة هذه الآية عند ذبح الأضاحي.

والأضاحي سنّة إبراهيم ومحمد - صلّى الله عليهما وسلم -، فإنّ الله شرعها لإبراهيم حين فدى ولده الذي أمره بذبحه، بذبح عظيم. وفي حديث زيد بن أرقم، «قيل: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: سنّة إبراهيم. قيل له: فما لنا بها؟ قال: بكلّ شعرة حسنة. قيل: فالصّوف؟ قال: بكلّ شعرة من الصّوف حسنة». خرّجه ابن ماجه وغيره

(1)

.

ص: 483

فهذه أعياد المسلمين في الدنيا، وكلّها عند إكمال طاعة مولاهم الملك الوهّاب، وحيازتهم لما وعدهم من الأجر والثواب.

مرّ قوم براهب في دير، فقالوا له: متى عيد أهل هذا الدّير؟ قال: يوم يغفر لأهله.

ليس العيد لمن لبس الجديد، إنّما العيد لمن طاعاته تزيد. ليس العيد لمن تجمّل باللباس والركوب، إنّما العيد لمن غفرت له الذنوب. في ليلة العيد تفرّق خلع العتق والمغفرة على العبيد؛ فمن ناله منها شيء فله عيد، وإلاّ فهو مطرود بعيد.

كان بعض العارفين ينوح على نفسه ليلة العيد بهذه الأبيات:

بحرمة غربتي كم ذا الصّدود

ألا تعطف عليّ ألا تجود

سرور العيد قد عمّ النّواحي

وحزني في ازدياد لا يبيد

فإن كنت اقترفت خلال سوء

فعذري في الهوى أن لا أعود

وأنشد غيره:

للناس عشر وعيد

وأنا فقير وحيد

يا غايتي ومناي

قد لذّ لي ما تريد

وأنشد الشّبليّ:

ليس عيد المحبّ قصد المصلّى

وانتظار الأمير والسلطان

إنّما العيد أن تكون لدى الح

بّ كريما مقرّبا في أمان

وأنشد:

إذا ما كنت لي عيدا

فما أصنع بالعيد

ص: 484

جرى حبّك في قلبي

كجري الماء في العود

وأنشد:

قالوا غدا العيد ماذا أنت لابسه

فقلت خلعة ساق حسنه برعا

صبر وفقرهما ثوبان تحتهما

قلب يرى إلفه الأعياد والجمعا

أحرى الملابس أن تلقى الحبيب به

يوم التزاور في الثّوب الّذي خلعا

الدّهر لي مأتم إن غبت يا أملي

والعيد ما كنت لي مرأى ومستمعا

وأمّا أعياد المؤمنين في الجنة فهي أيام زيارتهم لربّهم عز وجل، فيزورونه ويكرمهم غاية الكرامة، ويتجلّى لهم فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا هو أحبّ إليهم من ذلك. وهو الزّيادة التي قال الله تعالى فيها:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ} [يونس: 26]. ليس للمحبّ عيد سوى قرب محبوبه.

إنّ يوما جامعا شملي بهم

ذاك عيد ليس لي عيد سواه

كلّ يوم كان للمسلمين عيدا في الدنيا، فإنّه عيد لهم في الجنّة، يجتمعون فيه على زيارة ربّهم، ويتجلّى لهم فيه. ويوم الجمعة يدعى في الجنّة يوم المزيد، ويوما الفطر والأضحى يجتمع أهل الجنة فيهما للزيارة. وروي أنه يشارك النساء الرجال فيهما، كما كن يشهدن العيدين مع الرجال دون الجمعة.

فهذا لعموم أهل الجنة، فأمّا خواصّهم فكلّ يوم لهم عيد يزورون ربّهم كلّ يوم مرتين؛ بكرة وعشيّا.

الخواصّ كانت أيام الدّنيا كلّها لهم أعيادا، فصارت أيامهم في الآخرة كلّها أعيادا.

قال الحسن: كلّ يوم لا يعصى الله فيه فهو عيد، كلّ يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكره وشكره فهو له عيد.

ص: 485

أركان الإسلام التي بني الإسلام عليها خمسة: الشهادتان، والصّلاة، والزّكاة، وصيام رمضان، والحجّ. فأعياد عموم المسلمين في الدنيا عند إكمال دور الصلاة، وإكمال الصيام، والحج، يجتمعون عند ذلك اجتماعا عامّا. فأمّا الزّكاة فليس لها وقت معين ليتّخذ عيدا، بل كلّ من ملك نصابا فحوله بحسب ملكه. وأمّا الشهادتان فإكمالهما يحصل بتحقيقهما والقيام بحقوقهما؛ وخواصّ المؤمنين يجتهدون على ذلك في كلّ وقت، فلذلك كانت أوقاتهم كلّها أعيادا لهم في الدنيا والآخرة، كما أنشد الشّبليّ:

عيدي مقيم وعيد الناس منصرف

والقلب منّي عن اللذّات منحرف

ولي قرينان مالي منهما خلف

طول الحنين وعين دمعها يكف

ولمّا كان عيد النّحر أكبر العيدين وأفضلهما، ويجتمع فيه شرف المكان والزمان لأهل الموسم، كانت لهم فيه معه أعياد قبله وبعده؛ فقبله يوم عرفة، وبعده أيّام التشريق. وكلّ هذه الأيّام أعياد لأهل الموسم، كما في حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«يوم عرفة، يوم النّحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب»

(1)

خرّجه أهل السنن وصححه الترمذي.

ولهذا لا يشرع لأهل الموسم صوم يوم عرفة؛ لأنّه أوّل أعيادهم وأكبر مجامعهم، وقد أفطره النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة والناس ينظرون إليه. وروي عنه أنّه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة.

وروي عن سفيان بن عيينة أنه سئل عن النهي عن صيام يوم عرفة بعرفة، فقال: لأنهم زوّار الله وأضيافه، ولا ينبغي للكريم أن يجوّع أضيافه. وهذا

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 152)، وأبو داود (2419)، والترمذي (773)، والنسائي (5/ 252).

ص: 486

المعنى يوجد في العيدين وأيام التشريق أيضا؛ فإنّ الناس كلّهم فيها في ضيافة الله عز وجل، لا سيما عيد النّحر؛ فإنّ الناس يأكلون من لحوم نسكهم؛ أهل الموقف وغيرهم.

وأيام التشريق الثلاثة هي أيام عيد أيضا، ولهذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم من ينادي بمكّة:«إنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل، فلا يصومنّ أحد» . وقد يجتمع في يوم واحد عيدان، كما إذا اجتمع يوم الجمعة مع يوم عرفة أو يوم النّحر، فيزداد ذلك اليوم حرمة وفضلا؛ لاجتماع عيدين فيه. وقد كان ذلك؛ اجتمع للنبي صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة، فكان يوم جمعة، وفيه نزلت هذه الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3].

وإكمال الدين في ذلك اليوم حصل من وجوه:

منها: أنّ المسلمين لم يكونوا حجّوا حجّة الإسلام بعد فرض الحجّ قبل ذلك، ولا أحد منهم؛ هذا قول أكثر العلماء أو كثير منهم؛ فكمل بذلك دينهم لاستكمالهم عمل أركان الإسلام كلّها.

ومنها: أنّ الله تعالى أعاد الحجّ على قواعد إبراهيم عليه السلام، ونفى الشرك وأهله، فلم يختلط بالمسلمين في ذلك الموقف منهم أحد. قال الشعبي:

نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة حين وقف موقف إبراهيم، واضمحلّ الشّرك، وهدّمت منار الجاهلية، ولم يطف بالبيت عريان. وكذا قال قتادة وغيره. وقد قيل: إنه لم ينزل بعدها تحليل ولا تحريم؛ قاله أبو بكر بن عياش.

وأمّا إتمام النّعمة فإنّما حصل بالمغفرة، فلا تتم النّعمة بدونها، كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً}

ص: 487

{مُسْتَقِيماً} [الفتح: 2]، وقال تعالى في آية الوضوء:{وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6]. ومن هنا استنبط محمد بن كعب القرظيّ أنّ الوضوء يكفّر الذنوب، كما وردت السّنّة بذلك صريحا. ويشهد له أيضا «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يدعو ويقول: اللهم إني أسألك تمام النّعمة. فقال له: تمام النّعمة النّجاة من النّار، ودخول الجنة»

(1)

. فهذه الآية تشهد لما روي في يوم عرفة أنّه يوم المغفرة والعتق من النار.

فيوم عرفة له فضائل متعددة:

منها: أنه يوم إكمال الدّين وإتمام النّعمة.

ومنها: أنّه عيد لأهل الإسلام، كما قاله عمر بن الخطاب وابن عباس؛ فإنّ ابن عباس قال: نزلت في يوم عيدين؛ يوم جمعة ويوم عرفة

(2)

. وروي عن عمر أنه قال: وكلاهما بحمد الله لنا عيد. خرّجه ابن جرير في «تفسيره»

(3)

. ويشهد له حديث عقبة بن عامر المتقدّم، لكنّه عيد لأهل الموقف خاصّة. ويشرع صيامه لأهل الأمصار عند جمهور العلماء، وإن خالف فيه بعض السلف.

ومنها: أنّه قد قيل: إنه الشّفع الذي أقسم الله به في كتابه، وأنّ الوتر يوم النّحر. وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر. خرّجه الإمام أحمد والنسائي في تفسيره

(4)

. وقيل: إنّه الشاهد الذي أقسم الله به في كتابه، فقال تعالى:{وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3].

(1)

أخرجه: أحمد (5/ 231)، والترمذي (3527)، وهو ضعيف.

وراجع: «الضعيفة» (4520).

(2)

أخرجه: ابن جرير في «تفسيره» (6/ 82).

(3)

أخرجه: ابن جرير في «تفسيره» (6/ 83).

(4)

أخرجه: أحمد (3/ 327)، والنسائي في «الكبرى» (11608، 4086).

ص: 488

وفي «المسند» عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا: «الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم الجمعة»

(1)

. وخرّجه الترمذي مرفوعا. وروي ذلك عن علي من قوله. وخرّج الطبراني من حديث أبي مالك الأشعريّ مرفوعا: «الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة»

(2)

. وعلى هذا فإذا وقع يوم عرفة في يوم جمعة فقد اجتمع في ذلك اليوم شاهد ومشهود.

ومنها: أنّه روي أنه أفضل الأيام؛ خرّجه ابن حبّان في صحيحه، من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«أفضل الأيام يوم عرفة» . وذهب إلى ذلك طائفة من العلماء. ومنهم من قال: يوم النّحر أفضل الأيام؛ لحديث عبد الله بن قرط، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«أعظم الأيام عند الله يوم النّحر، ثم يوم القرّ»

(3)

. خرّجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان في صحيحه، ولفظه: أفضل الأيّام.

ومنها: أنّه روي عن أنس بن مالك أنّه قال: كان يقال: يوم عرفة بعشرة آلاف يوم، يعني في الفضل. وقد ذكرناه في فضل العشر. وروي عن عطاء، قال: من صام يوم عرفة كان له كأجر ألفي يوم.

ومنها: أنّه يوم الحجّ الأكبر

(4)

عند جماعة من السلف، منهم عمر وغيره.

(1)

أخرجه: أحمد (2/ 298)، والترمذي (3339)، وأشار إلى ضعفه.

وقد تقدم.

(2)

أخرجه: الطبراني في «الكبير» (3458).

وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 173 - 174): «وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش عن أبيه، قال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه شيئا» .

(3)

أخرجه: أحمد (4/ 350)، وأبو داود (1765) وصححه الألباني في «الإرواء» (2018) وقد تقدم.

(4)

روى ذلك مرفوعا، ذكره ابن عبد البر في «التمهيد» (1/ 126) بدون إسناد.

ص: 489

وخالفهم آخرون، وقالوا: يوم الحجّ الأكبر يوم النّحر. وروي ذلك عن النبي

(1)

صلى الله عليه وسلم.

ومنها: أنّ صيامه كفّارة سنتين، وسنذكر الحديث في ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ومنها: أنه يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عنها، والعتق من النار، والمباهاة بأهل الموقف؛ كما في «صحيح مسلم» عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدا من النّار من يوم عرفة، وإنّه ليدنو، ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟»

(2)

.

وفي «المسند» عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إن الله تعالى يباهي ملائكته عشيّة عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبرا»

(3)

.

وفيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إنّ الله يباهي بأهل عرفات، يقول:

انظروا إلى عبادي شعثا غبرا». وخرّجه ابن حبان في «صحيحه»

(4)

. وخرّج فيه أيضا من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله تبارك وتعالى إلى السّماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثا غبرا ضاحين، جاءوا من كلّ فجّ عميق، يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم ير أكثر عتيقا من النّار من يوم عرفة»

(5)

.

(1)

أخرجه: الترمذي (957 - 958)، ورجّح وقفه على عليّ رضي الله عنه.

وراجع: «التمهيد» لابن عبد البر (1/ 125)، و «صحيح مسلم» (4/ 107).

(2)

أخرجه: مسلم (4/ 107)(1348)، والنسائي (5/ 251 - 252).

(3)

أخرجه: أحمد (2/ 224).

(4)

أخرجه: أحمد (2/ 305)، وابن خزيمة (2839)، وابن حبان (3852)، والحاكم (465/ 1)، والبيهقي (5/ 58).

(5)

أخرجه: ابن حبان (3853)، وأبو يعلى الموصلي في «مسنده» (2090).

وراجع: «مجمع الزوائد» (3/ 253).

ص: 490

وخرّجه ابن منده في «كتاب التوحيد» ولفظه: «إذا كان يوم عرفة ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبرا من كل فجّ عميق، أشهدكم أنّي قد غفرت لهم. فتقول الملائكة: يا ربّ، فلان مرهّق، فيقول: قد غفرت لهم. فما من يوم أكثر عتيقا من النار من يوم عرفة»

(1)

. وقال: إسناد حسن متصل، انتهى. ورويناه من وجه آخر بزيادة فيه، وهي:«أشهدكم يا عبادي أنّي قد غفرت لمحسنهم، وتجاوزت عن مسيئهم» .

ورويناه من رواية إسماعيل بن رافع - وفيه مقال - عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«يهبط الله إلى السماء الدنيا عشيّة عرفة، ثم يباهي بكم الملائكة، فيقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثا من كلّ فجّ عميق، يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانت ذنوبهم كعدد الرّمل لغفرتها؛ أفيضوا عبادي مغفورا لكم ولمن شفعتم فيه»

(2)

.

وخرّجه البزار في «مسنده» بمعناه، من حديث مجاهد عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا نعلم له طريقا أحسن من هذا الطريق. وخرجه الطبراني وغيره من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم مختصرا.

ورويناه من طريق الوليد بن مسلم، قال: أخبرني أبو بكر بن أبي مريم، عن الأشياخ: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل يدنو إلى السّماء الدنيا عشيّة عرفة، فيقبل على ملائكته، فيقول: ألا إنّ لكلّ وفد جائزة، وهؤلاء وفدي شعثا غبرا، أعطوهم ما سألوا، وأخلفوا لهم ما أنفقوا. حتى إذا كان عند غروب

(1)

أخرجه: ابن خزيمة (2840) من طريق مرزوق أبي بكر مولى طلحة الباهلي عن أبي الزبير عن جابر. ثم قال: «أنا أبرأ من عهدة مرزوق» .

وراجع: «الضعيفة» (679).

(2)

عزاه في «كنز العمال» (12103) إلى ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه.

ص: 491

الشمس أقبل عليهم، فقال: ألا إنّي قد وهبت مسيئكم لمحسنكم، وأعطيت محسنكم ما سأل، أفيضوا بسم الله».

وروى إبراهيم بن الحكم بن أبان، حدثنا أبي، حدثنا فرقد، قال: إنّ أبواب السماء تفتح كلّ ليلة ثلاث مرات، وفي ليلة الجمعة سبع مرات، وفي ليلة عرفة تسع مرات. وروينا من طريق نفيع أبي داود، عن ابن عمر مرفوعا وموقوفا:«إذا كان عشية يوم عرفة لم يبق أحد في قلبه مثقال ذرّة من إيمان إلاّ غفر له. قيل له: أللمعرّف خاصّة أم للناس عامّة؟ قال: بل للناس عامّة» .

وخرّجه مالك في «الموطإ» من مراسيل طلحة بن عبيد الله بن كريز أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما رئي الشيطان يوما هو فيه أصغر، ولا أدحر ولا أحقر، ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزّل الرحمة، وتجاوز الله عن الذّنوب العظام، إلاّ ما رئي يوم بدر. قيل: وما رأى يوم بدر؟ قال: رأى جبريل عليه السلام وهو يزع الملائكة»

(1)

.

وروى أبو عثمان الصّابوني بإسناد له عن رجل كان أسيرا ببلاد الروم، فهرب من بعض الحصون، قال: فكنت أسير بالليل وأكمن بالنّهار، فبينا أنا ذات ليلة أمشي بين جبال وأشجار إذا أنا بحسّ، فراعني ذلك، فنظرت فإذا راكب بعير، فازددت رعبا، وذلك أنّه لا يكون ببلاد الروم بعير، فقلت:

سبحان الله! في بلاد الروم راكب بعير، إنّ هذا لعجب. فلمّا انتهى إليّ قلت:

يا عبد الله، من أنت؟ قال: لا تسأل. قلت: إنّي أرى عجبا، فأخبرني. فقال:

لا تسأل. فأبيت عليه، فقال: أنا إبليس، وهذا وجهي من عرفات، وافقتهم عشيّة اليوم أطلع عليهم، فنزلت عليهم الرحمة والمغفرة، ووهب بعضهم

(1)

أخرجه: مالك في «الموطأ» (272) مرسلا.

ص: 492

لبعض، فداخلني الهمّ والحزن والكآبة؛ وهذا وجهي إلى قسطنطينيّة أنفرج بما أسمع من الشرك بالله وادّعاء أنّ له ولدا. فقلت: أعوذ بالله منك. فلمّا قلت هذه الكلمات لم أر أحدا.

ويشهد لهذه الحكاية حديث عبّاس بن مرداس الذي خرّجه أحمد وابن ماجه في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأمّته عشيّة عرفة، ثم بالمزدلفة، فأجيب فضحك صلى الله عليه وسلم، وقال:«إنّ إبليس حين علم أنّ الله قد غفر لأمتي واستجاب دعائي أهوى يحثي التراب على رأسه، ويدعو بالويل والثّبور؛ فضحكت من الخبيث من جزعه»

(1)

.

ويروى عن علي بن الموفق أنّه وقف بعرفة في بعض حجّاته، فرأى كثرة الناس، فقال: اللهم، إن كنت لم تتقبّل منهم أحدا فقد وهبته حجّي. فرأى ربّ العزّة في منامه، وقال له: يا ابن الموفق! أتتسخّى عليّ؟ قد غفرت لأهل الموقف ولأمثالهم، وشفّعت كلّ واحد منهم في أهل بيته وذريته وعشيرته، وأنا أهل التقوى وأهل المغفرة. ويروى نحوه عن غيره أيضا من الشيوخ.

فمن طمع في العتق من النار ومغفرة ذنوبه في يوم عرفة، فليحافظ على الأسباب التي يرجى بها العتق والمغفرة:

فمنها: صيام ذلك اليوم؛ ففي «صحيح مسلم» عن أبي قتادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«صيام يوم عرفة؛ أحتسب على الله أن يكفّر السّنة التي قبله والتي بعده»

(2)

.

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 14)، وابن ماجه (3013)، وأبو داود (5234) مختصرا.

قال البوصيري في «مصباح الزجاجة» : «في إسناده عبد الله بن كنانة، قال البخاري: لم يصح حديثه، ولم أر من تكلم فيه بجرح ولا توثيق» .

(2)

أخرجه: مسلم (3/ 167)(1162)، وأبو داود (2425).

ص: 493

ومنها: حفظ جوارحه عن المحرّمات في ذلك اليوم؛ ففي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال:«يوم عرفة، هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره ولسانه غفر له»

(1)

.

ومنها: الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاص وصدق؛ فإنّها أصل دين الإسلام الذي أكمله الله تعالى في ذلك اليوم، وأساسه. وفي «المسند» عن عبد الله بن عمرو، قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير، وهو على كلّ شيء قدير» . وخرّجه الترمذي، ولفظه:«خير الدّعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير»

(2)

. وخرّجه الطبراني من حديث عليّ وابن عمر مرفوعا أيضا

(3)

.

وخرّج الإمام أحمد من حديث الزّبير بن العوام، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ} الآية [آل عمران: 18]، ويقول:«وأنا على ذلك من الشاهدين، يا رب»

(4)

. ويروى من حديث عبادة بن الصامت، قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، فكان أكثر قوله:{شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ} الآية [آل عمران: 18].

(1)

أخرجه: أحمد (1/ 329)، وابن خزيمة (2832)، وأشار إلى ضعفه.

(2)

أخرجه: أحمد (2/ 210)، والترمذي (3585)، وقال:«غريب» .

وراجع: «الصحيحة» (1503).

(3)

أخرجه: الطبراني في «الدعاء» (874) عن علي، وعن ابن عمر (برقم 875).

(4)

أخرجه: أحمد (1/ 166)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (6/ 325):«رواه أحمد والطبراني، وفي أسانيدهما مجاهيل» .

ص: 494

ثم قال: أي رب، وأنا أشهد. فتحقيق كلمة التوحيد يوجب العتق من النار، فإنّها تعدل عتق الرّقاب، وعتق الرقاب يوجب العتق من النار.

كما ثبت في الصحيح أنّ من قالها مائة مرّة كانت له عدل عشر رقاب. وثبت أيضا أنّ من قالها عشر مرات كان كمن أعتق أربعة من ولد إسماعيل

(1)

.

وفي «سنن أبي داود» وغيره عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من قال حين يصبح أو يمسي: اللهمّ إنّي أصبحت أشهدك وأشهد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنّك أنت الله لا إله إلاّ أنت وأنّ محمدا عبدك ورسولك، أعتق الله ربعه من النّار، ومن قالها مرّتين أعتق الله نصفه من النّار، ومن قالها ثلاث مرات أعتق الله ثلاثة أرباعه من النّار، ومن قالها أربع مرار أعتقه الله من النار»

(2)

. ويروى من مراسيل الزّهري: «من قال في يوم عشرة آلاف مرّة لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعتقه الله من النار» . كما أنه لو جاء بدية من قتله عشرة آلاف قبلت منه.

ومنها: أن يعتق رقبة إن أمكنه؛ فإنّ من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكلّ عضو منها عضوا منه من النار. كان حكيم بن حزام رضي الله عنه يقف بعرفة ومعه مائة بدنة مقلّدة، ومائة رقيق، فيعتق رقيقه، فيضجّ الناس بالبكاء والدّعاء، ويقولون: ربّنا، هذا عبدك قد أعتق عبيده، ونحن عبيدك فأعتقنا. وجرى للناس مرّة مع الرشيد نحو هذا. وكان أبو قلابة يعتق جارية في عيد الفطر يرجو أن يعتق بذلك من النار.

(1)

أخرجه: البخاري (8/ 107)(6404)، ومسلم (2693)، وأحمد (5/ 418)، والترمذي (3553).

(2)

أخرجه: أبو داود (5069)، وإسناده ضعيف. وراجع:«الضعيفة» (1041).

ص: 495

ومنها: كثرة الدّعاء بالمغفرة، والعتق؛ فإنّه يرجى إجابة الدّعاء فيه. روى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي، قال: ليس في الأرض يوم إلاّ لله فيه عتقاء من النّار، وليس يوم أكثر فيه عتقا للرقاب من يوم عرفة. فأكثر فيه أن تقول: اللهم أعتق رقبتي من النار، وأوسع لي من الرزق الحلال، واصرف عنّي فسقة الجنّ والإنس، فإنّه عامّة دعائي اليوم.

وليحذر من الذّنوب التي تمنع المغفرة فيه والعتق:

فمنها: الاختيال؛ روينا من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما يرى يوم أكثر عتيقا ولا عتيقة من يوم عرفة، لا يغفر الله فيه لمختال» . وخرّجه البزار والطبراني وغيرهما. والمختال: هو المتعاظم في نفسه المتكبّر، قال الله تعالى:{وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23]. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:

«إنّ الله لا ينظر إلى من جرّ ثوبه خيلاء»

(1)

.

ومنها: الإصرار على الكبائر، روى جعفر السراج بإسناده، عن يونس بن عبد الأعلى، أنّه حجّ سنة فرأى أمير الحاج في منامه أنّ الله قد غفر لأهل الموسم سوى رجل فسق بغلام، فأمر بالنداء بذلك في الموسم. وروى ابن أبي الدنيا وغيره أنّ رجلا رأى في منامه أنّ الله قد غفر لأهل الموقف كلّهم، إلاّ رجلا من أهل بلخ، فسأل عنه حتى وقع عليه، فسأله عن حاله، فذكر أنه كان مدمنا لشرب الخمر، فجاء ليلة وهو سكران، فعاتبته أمّه وهي تسجر تنّورا، فاحتملها فألقاها فيه حتى احترقت.

يا من يطمع في العتق من النار ثم يمنع نفسه الرحمة بالإصرار على كبائر الإثم والأوزار، تالله ما نصحت نفسك، ولا وقف في طريقك غيرك، توبق

(1)

أخرجه: البخاري (7/ 183)(5783).

ص: 496

نفسك بالمعاصي، فإذا حرمت المغفرة قلت أنّى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم.

فنفسك لم ولا تلم المطايا

ومت كمدا فليس لك اعتذار

إن كنت تطمع في العتق فاشتر نفسك من الله، ف {إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التّوبة: 111]، من كرمت عليه نفسه هان عليه كلّ ما يبذل في افتكاكها من النار.

اشترى بعض السّلف نفسه من الله ثلاث مرار أو أربعا؛ يتصدّق كلّ مرّة بوزن نفسه فضة.

واشترى عامر بن عبد الله بن الزبير نفسه من الله بديته ستّ مرات تصدّق بها. واشترى حبيب العجمي نفسه من الله بأربعين ألف درهم تصدّق بها. وكان أبو هريرة يسبّح كلّ يوم اثنتي عشر ألف تسبيحة بقدر ديته يفتكّ بذلك نفسه.

بدم المحبّ يباع وصلهم

فمن الذي يبتاع بالثمن

من عرف ما يطلب هان عليه كلّ ما يبذل. ويحك! قد رضينا منك في فكاك نفسك بالنّدم، وقنعنا منك في ثمنها بالتوبة والحزن. وفي هذا الموسم قد رخص السّعر، من ملك سمعه وبصره ولسانه غفر له. مدّ إليه يد الاعتذار، وقم على بابه بالذّلّ والانكسار، ارفع قصّة ندمك مرقومة على صحيفة خدّك بمداد الدّموع الغزار، وقل:{رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ} [الأعراف: 23]. قال يحيى بن معاذ: العبد يوحش فيما بينه وبين سيده بالمخالفات، ولا يفارق بابه بحال؛ لعلمه بأنّ عزّ العبيد في ظلّ مواليهم. وأنشأ يقول:

قرّة عيني لا بدّ لي منك وإن

أوحش بيني وبينك الزّلل

ص: 497

قرة عيني أنا الغريق فخذ

كفّ غريق عليك يتّكل

كانت أحوال الصّادقين في الموقف بعرفة تتنوّع؛ فمنهم من كان يغلب عليه الخوف أو الحياء. وقف مطرّف بن عبد الله بن الشّخّير، وبكر المزني، بعرفة، فقال أحدهما: اللهم، لا تردّ أهل الموقف من أجلي. وقال الآخر: ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله، لولا أنّي فيهم!

وقف الفضيل بعرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثّكلى المحترقة، قد حال البكاء بينه وبين الدعاء، فلمّا كادت الشمس أن تغرب رفع رأسه إلى السماء، وقال: وا سوءتاه منك وإن عفوت! وقال الفضيل أيضا لشعيب بن حرب بالموسم: إن كنت تظنّ أنّه شهد الموقف أحد شرّا منّي ومنك فبئس ما ظننت.

دعا بعض العارفين بعرفة، فقال: اللهم، إن كنت لم تقبل حجّي وتعبي ونصبي فلا تحرمني أجر المصيبة على تركك القبول منّي. وقف بعض الخائفين بعرفة إلى أن قرب غروب الشمس، فنادى: الأمان الأمان، قد دنا الانصراف، فليت شعري ما صنعت في حاجة المساكين!

وإنّي من خوفكم والرّجا

أرى الموت والعيش فيكم عيانا

فمنّوا على تائب خائف

أتاكم ينادي الأمان الأمانا

إذا طلب الأسير الأمان من الملك الكريم أمّنه.

الأمان الأمان وزري ثقيل

وذنوبي إذا عددن تطول

أوبقتني وأوثقتني ذنوبي

فترى لي إلى الخلاص سبيل؟

وقف بعض العارفين الخائفين بعرفة، فمنعه الحياء من الدّعاء، فقيل له: لم

ص: 498

لا تدعو؟ فقال: ثمّ وحشة. فقيل له: هذا يوم العفو عن الذّنوب، فبسط يديه ووقع ميتا.

حدا بها الحادي إلى نعمان

فاستذكرت عهدا لها بالبان

فسالت الرّوح من الأجفان

تشوّقا إلى الزّمان الفاني

غيره:

قد لجّ بي الغرام حتّى قالوا

قد جنّ بهم وهكذا البلبال

الموت إذا رضيته سلسال

في مثل هواك ترخص الآجال

وقف بعض الخائفين بعرفات، وقال: إلهي، النّاس يتقرّبون إليك بالبدن، وأنا أتقرّب إليك بنفسي، ثم خرّ ميتا.

للناس حجّ ولي حجّ إلى سكني

تهدى الأضاحي وأهدي مهجتي ودمي

ما يرضى المحبّون لمحبوبهم بإراقة دماء الهدايا، وإنما يهدون له الأرواح.

أرى موسم الأعياد أنس الأجانب

وما العيد عندي غير قرب الحبائب

إذا قرّبوا بدنا فقرباني الهوى

فإن قبلوا قلبي وإلاّ فقالبي

وما بدم الأنعام أقضي حقوقهم

ولكن بما بين الحشا والتّرائب

كان أبو عبيدة الخوّاص قد غلب عليه الشوق والقلق حتى يضرب على صدره في الطريق، ويقول: وا شوقاه إلى من يراني ولا أراه. وكان بعد ما كبر يأخذ بلحيته ويقول: يا ربّ، قد كبرت فأعتقني. ورئي بعرفة وقد ولع به الوله وهو يقول:

سبحان من لو سجدنا بالعيون له

على حمى الشّوك والمحمى من الإبر

لم نبلغ العشر من معشار نعمته

ولا العشير ولا عشرا من العشر

هو الرفيع فلا الأبصار تدركه

سبحانه من مليك نافذ القدر

ص: 499

سبحان من هو أنسي إذ خلوت به

في جوف ليلي وفي الظّلمات والسّحر

أنت الحبيب وأنت الحبّ يا أملي

من لي سواك ومن أرجوه يا ذخري

ومن العارفين من كان في الموقف يتعلّق بأذيال الرجاء؛ قال ابن المبارك:

جئت إلى سفيان الثوري عشيّة عرفة، وهو جاث على ركبتيه، وعيناه تهملان، فالتفت إليّ، فقلت له: من أسوأ هذا الجمع حالا؟ قال: الذي يظنّ أنّ الله لا يغفر لهم. وروي عن الفضيل أنّه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشيّة عرفة، فقال: أرأيتم لو أنّ هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقا، يعني سدس درهم، أكان يردّهم؟ قالوا: لا. قال: والله، للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق.

وإنّي لأدعو الله أسأل عفوه

وأعلم أنّ الله يعفو ويغفر

لئن أعظم النّاس الذّنوب فإنّها

وإن عظمت في رحمة الله تصغر

وعمّا قليل يقف إخوانكم بعرفة في ذلك الموقف، فهنيئا لمن رزقه، يجأرون إلى الله بقلوب محترقة، ودموع مستبقة؛ فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه، ومحبّ ألهبه الشّوق وأحرقه، وراج أحسن الظّنّ بوعد الله وصدّقه، وتائب نصح لله في التّوبة وصدقه، وهارب لجأ إلى باب الله وطرقه؛ فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه، ومن أسير للأوزار فكّه وأطلقه. وحينئذ يطّلع عليهم أرحم الرّحماء، ويباهي بجمعهم أهل السّماء، ويدنو ثم يقول: ما أراد هؤلاء؟ لقد قطعنا عند وصولهم الحرمان، وأعطاهم نهاية سؤلهم الرحمن، هو الذي أعطى ومنع، ووصل وقطع.

ما أصنع هكذا جرى المقدور

الجبر لغيري وأنا المكسور

أسير ذنب مقيد ما سور

هل يمكن أن يبدل المسطور

من فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقّه الذي عرفه. من عجز عن

ص: 500

المبيت بمزدلفة فليبت عزمه على طاعة الله، وقد قرّبه وأزلفه. من لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف، فليقم لله بحقّ الرجاء والخوف. من لم يقدر على نحر هديه بمنى فليذبح هواه هنا وقد بلغ المنى. من لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد فليقصد ربّ البيت؛ فإنّه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد.

نفحت في هذه الأيام نفحة من نفحات الأنس من رياض القدس على كلّ قلب أجاب إلى ما دعي، يا همم العارفين، بغير الله لا تقنعي. يا عزائم الناسكين، لجميع أنساك السالكين اجمعي، لحبّ مولاك أفردي، وبين خوفه ورجائه أقرني، وبذكره تمتعي.

يا أسرار المحبين، بكعبة الحبّ طوفي واركعي، وبين صفاء الصفا ومروة المروة اسعي وأسرعي، وفي عرفات العرفان قفي وتضرّعي، ثم إلى مزدلفة الزّلفى فادفعي، ثم إلى منى نيل المنى فارجعي. فإذا قرّب القرابين فقرّبي الأرواح ولا تمنعي؛ لقد وضح اليوم الطريق، ولكن قلّ السّالك على التحقيق وكثر المدّعي.

لئن لم أحجّ البيت إذ شطّ ربعه

حججت إلى من لا يغيب عن الذّكر

فأحرمت من وقتي بخلع نقائصي

(1)

أطوف وأسعى في اللطائف والبرّ

صفاي صفائي عن صفاتي ومروتي

مروءة قلب عن سوى حبّه قفر

(2)

وفي عرفات الأنس بالله موقفي

ومزدلفي الزّلفى لديه إلى الحشر

وبتّ المنى منّي

(3)

مبيتي في منى

ورمي جماري جمر شوقي في صدري

وإشعار هديي ذبح نفسي بقهرها

وحلقي بمحق الكائنات عن السّرّ

ومن رام نفرا بعد نسك فإنّني

مقيم على نسكي حياتي بلا نفر

***

(1)

في أ: «شمائلي» .

(2)

في ب: «فقر» .

(3)

في أ: «ونيل المنى بمنى» .

ص: 501

‌المجلس الثالث في أيام التشريق

خرّج مسلم في «صحيحه» من حديث نبيشة الهذلي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

«أيّام منى أيّام أكل وشرب، وذكر لله عز وجل»

(1)

. وخرّجه أهل السّنن والمسانيد من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ وفي بعضها أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث في أيّام منى مناديا ينادي: «لا تصوموا هذه الأيام؛ فإنّها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل»

(2)

. وفي رواية للنسائي: «أيّام أكل وشرب وصلاة»

(3)

. وفي رواية للدّارقطني بإسناد فيه ضعف: «أيّام أكل وشرب وبعال»

(4)

. وفي رواية للإمام أحمد: «من كان صائما فليفطر؛ فإنّها أيام أكل وشرب»

(5)

. وفي رواية: «إنها ليست أيّام صيام»

(6)

.

أيّام منى هي الأيّام المعدودات التي قال الله عز وجل فيها: {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ} [البقرة: 203]. وهي ثلاثة أيام بعد يوم النّحر، وهي أيّام التشريق، هذا قول ابن عمر وأكثر العلماء. وروي عن ابن عباس وعطاء أنّها

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 153)(1142)، وأحمد (76، 5/ 75)، وأبو داود (2830، 2813)، والنسائي (7/ 170)، وابن ماجه (3167، 3160).

(2)

أخرجه: أحمد (3/ 494) عن حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه.

(3)

أخرجها: النسائي في «الكبرى» (2914) من حديث عبد الله بن عمرو.

(4)

أخرجها: الدارقطني في «سننه» (2/ 212) وفي إسنادها الواقدي، وقال الدارقطني بعد رواية هذا الحديث:«الواقدي ضعيف» .

(5)

أخرجه: أحمد (5/ 224) عن رجل من الصحابة.

(6)

راجع: «مجمع الزوائد» (3/ 202 - 203).

ص: 502

أربعة أيام: يوم النّحر، وثلاثة أيّام بعده، وسمّاها عطاء أيّام التشريق؛ والأوّل أظهر.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أيّام منى ثلاثة، {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]» . خرّجه أهل السّنن الأربعة من حديث عبد الرحمن بن يعمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

، وهذا صريح في أنّها أيام التشريق.

وأفضلها أولها، وهو يوم القرّ؛ لأنّ أهل منى يستقرون فيه، ولا يجوز فيه النّفر. وفي حديث عبد الله بن قرط عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أعظم الأيّام عند الله يوم النّحر، ثم يوم القر»

(2)

. وقد روي عن سعيد بن المسيّب أنّ يوم الحجّ الأكبر هو يوم القرّ، وهو غريب.

ثم يوم النّفر الأوّل، وهو أوسطها. ثم يوم النّفر الثاني، وهو آخرها.

قال الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203].

قال كثير من السّلف: يريد أن المتعجّل والمتأخّر يغفر له ويذهب عنه الإثم الذي كان عليه قبل حجّه، إذا حجّ فلم يرفث ولم يفسق، ورجع من ذنوبه كيوم ولدته أمّه. ولهذا قال تعالى:{لِمَنِ اتَّقى} [البقرة: 203]، فتكون التقوى شرطا لذهاب الإثم على هذا التقدير، وتصير الآية دالّة على ما صرّح به قول النبي صلى الله عليه وسلم:«من حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمّه»

(3)

.

(1)

أخرجه: أحمد (335، 310، 4/ 309)، وأبو داود (1949)، والترمذي (890، 889)، والنسائي (264، 5/ 256)، وابن ماجه (3015)، وطرفه: «الحج عرفة

»، وهو حديث صحيح.

وراجع: «سؤالات الآجري» (343).

(2)

تقدم.

(3)

أخرجه: البخاري (2/ 164، 3/ 14)(1521)(1819)، ومسلم (108، 4/ 107)، -

ص: 503

وقد أمر الله تعالى بذكره في هذه الأيّام المعدودات، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:

«إنّها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل» .

وذكر الله عز وجل المأمور به في أيّام التشريق أنواع متعددة:

منها: ذكر الله عز وجل عقيب الصّلوات المكتوبات بالتكبير في أدبارها، وهو مشروع إلى آخر أيّام التشريق عند جمهور العلماء. وقد روي عن عمر وعلي وابن عباس. وفيه حديث مرفوع في إسناده ضعف.

ومنها: ذكره بالتّسمية والتكبير عند ذبح النّسك؛ فإنّ وقت ذبح الهدايا والأضاحي يمتدّ إلى آخر أيّام التشريق عند جماعة من العلماء، وهو قول الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، وفيه حديث مرفوع:«كلّ أيام منى ذبح»

(1)

، وفي إسناده مقال. وأكثر الصّحابة على أنّ الذبح يختصّ بيومين من أيّام التشريق مع يوم النّحر، وهو المشهور عن أحمد، وقول مالك، وأبي حنيفة، والأكثرين.

ومنها: ذكر الله عز وجل على الأكل والشرب؛ فإنّ المشروع في الأكل والشرب أن يسمّي الله في أوله، ويحمده في آخره. وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله عز وجل يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشّربة فيحمده عليها»

(2)

. وقد روي أنّ من سمى على أوّل طعامه وحمد الله على آخره، فقد أدّى ثمنه، ولم يسأل بعد عن شكره.

(3)

- (1350) وأحمد (494، 484، 410، 2/ 248)، والترمذي (811)، والنسائي (114/ 5)، وابن ماجه (2889). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 82).

(2)

أخرجه: مسلم (8/ 87)(2734)، والترمذي (1816)، عن أنس رضي الله عنه.

ص: 504

ومنها: ذكره بالتكبير عند رمي الجمار في أيّام التشريق، وهذا يختصّ به أهل الموسم.

ومنها: ذكر الله تعالى المطلق؛ فإنّه يستحبّ الإكثار منه في أيّام التشريق، وقد كان عمر يكبّر بمنى في قبته، فيسمعه النّاس فيكبّرون فترتج منى تكبيرا.

وقد قال الله تعالى: {فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ} [البقرة: 200 - 201].

وقد استحبّ كثير من السّلف كثرة الدّعاء بهذا في أيام التشريق. قال عكرمة: كان يستحبّ أن يقال في أيام التشريق: {رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ} [البقرة: 201]. وعن عطاء، قال: ينبغي لكلّ من نفر أن يقول حين ينفر متوجها إلى أهله

(1)

: {رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النّارِ} [البقرة: 201]. خرّجهما عبد بن حميد في «تفسيره» .

وهذا الدعاء من أجمع الأدعية للخير، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر منه، وروي أنّه كان أكثر دعائه

(2)

، وكان إذا دعا بدعاء جعله معه؛ فإنّه يجمع خيري الدنيا والآخرة. قال الحسن: الحسنة في الدنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة الجنة.

وقال سفيان: الحسنة في الدنيا العلم والرزق الطيّب، وفي الآخرة الجنة.

ص: 505

والدّعاء من أفضل أنواع ذكر الله عز وجل.

وقد روى زياد الجصّاص عن أبي كنانة القرشي أنّه سمع أبا موسى الأشعريّ، يقول في خطبته يوم النّحر: بعد يوم النّحر ثلاثة أيام التي ذكر الله الأيام المعدودات لا يردّ فيهن الدّعاء، فارفعوا رغبتكم إلى الله عز وجل.

وفي الأمر بالذكر عند انقضاء النّسك معنى، وهو أنّ سائر العبادات تنقضي ويفرغ منها، وذكر الله باق لا ينقضي ولا يفرغ منه، بل هو مستمر للمؤمنين في الدنيا والآخرة.

وقد أمر الله تعالى بذكره عند انقضاء الصلاة، قال الله تعالى:{فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ} [النّساء: 103]، وقال تعالى في صلاة الجمعة:{فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً} [الجمعة: 10]، وقال الله تعالى:{فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7 - 8].

روي عن ابن مسعود، قال: فإذا فرغت من الفرائض فانصب. وعنه في قوله تعالى: {وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشّرح: 8] قال: في المسألة، وأنت جالس.

وقال الحسن: أمره إذا فرغ من غزوة أن يجتهد في الدّعاء والعبادة، والأعمال كلّها يفرغ منها، والذّكر لا فراغ له ولا انقضاء؛ والأعمال

(1)

تنقطع بانقطاع الدّنيا ولا يبقى منها شيء في الآخرة، والذّكر لا ينقطع. المؤمن يعيش على الذكر، ويموت عليه، وعليه يبعث.

أحسبتم أنّ الليالي غيّرت

عهد الهوى لا كان من يتغيّر

يفنى الزّمان وليس يفنى ذكركم

وعلى محبّتكم أموت وأحشر

(1)

في ص، ب:«الأعمار» .

ص: 506

قال ذو النون: ما طابت الدنيا إلاّ بذكره، ولا الآخرة إلاّ بعفوه، ولا الجنّة إلاّ برؤيته.

بذكر الله ترتاح القلوب

ودنيانا بذكراه تطيب

إذا ذكر المحبوب عند حبيبه

ترنّح نشوان وحنّ طروب

فأيّام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيم أبدانهم بالأكل والشّرب، ونعيم قلوبهم بالذّكر والشكر؛ وبذلك تتم النّعمة، وكلما أحدثوا شكرا على النّعمة كان شكرهم نعمة أخرى، فيحتاج إلى شكر آخر، ولا ينتهي الشكر أبدا.

إذا كان شكري نعمة الله نعمة

عليّ له في مثلها يجب الشّكر

فكيف بلوغ الشّكر إلاّ بفضله

وإن طالت الأيّام واتّصل العمر

وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل» إشارة إلى أنّ الأكل في أيّام الأعياد والشّرب إنّما يستعان به على ذكر الله تعالى وطاعته، وذلك من تمام شكر النّعمة أن يستعان بها على الطاعات. وقد أمر الله تعالى في كتابه بالأكل من الطيبات، والشكر له [بعمل الطّاعات]

(1)

، فمن استعان بنعم الله على معاصيه فقد كفر نعمة الله وبدّلها كفرا، وهو جدير أن يسلبها، كما قيل:

إذا كنت في نعمة فارعها

فإنّ المعاصي تزيل النّعم

وداوم عليها بشكر الإله

فشكر الإله يزيل النّقم

وخصوصا نعمة الأكل من لحوم بهيمة الأنعام، كما في أيام التشريق؛ فإنّ هذه البهائم مطيعة لله لا تعصيه، وهي مسبحة له قانتة، كما قال تعالى:{وَإِنْ}

(1)

من (أ).

ص: 507

{مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]. وأنّها تسجد له، كما أخبر بذلك في سورة «النحل» وسورة «الحج» ، وربما كانت أكثر ذكرا لله من بعض بني آدم. وفي «المسند» مرفوعا:«ربّ بهيمة خير من راكبها، وأكثر لله منه ذكرا»

(1)

.

وقد أخبر الله تعالى في كتابه أنّ كثيرا من الجنّ والإنس كالأنعام بل هم أضلّ. فأباح الله عز وجل ذبح هذه البهائم المطيعة الذاكرة له لعباده المؤمنين حتى تتقوّى بها أبدانهم، وتكمل لذّاتهم في أكلهم اللحوم، فإنّها من أجلّ الأغذية وألذّها، مع أنّ الأبدان تقوم بغير اللحم من النباتات وغيرها، لكن لا تكمل القوّة والعقل واللذة إلاّ باللحم، فأباح للمؤمنين قتل هذه البهائم والأكل من لحومها؛ ليكمل بذلك قوّة عباده وعقولهم، فيكون ذلك عونا لهم على علوم نافعة وأعمال صالحة يمتاز بها بنو آدم على البهائم، وعلى ذكر الله عز وجل، وهو أكثر من ذكر البهائم، فلا يليق بالمؤمن مع هذا إلاّ مقابلة هذه النّعم بالشكر عليها، والاستعانة بها على طاعة الله عز وجل، وذكره حيث فضّل الله ابن آدم على كثير من المخلوقات، وسخّر له هذه الحيوانات، قال الله تعالى:{فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحجّ: 36].

فأمّا من قتل هذه البهائم المطيعة الذّاكرة لله عز وجل، ثم استعان بأكل لحومها على معاصي الله عز وجل، ونسي ذكر الله عز وجل، فقد قلب الأمر وكفر النّعمة، فلا كان من كانت البهائم خيرا منه وأطوع.

نهارك يا مغرور سهو وغفلة

وليلك نوم والرّدى لك لازم

(1)

أخرجه: أحمد (441، 440، 3/ 439)، وضعفه الألباني.

وراجع: «الصحيحة» (21).

ص: 508

وتتعب فيما سوف تكره غبّه

كذلك في الدّنيا تعيش البهائم

وإنّما نهي عن صيام أيام التشريق؛ لأنّها أعياد للمسلمين مع يوم النّحر، فلا تصام بمنى ولا غيرها عند جمهور العلماء، خلافا لعطاء، في قوله: إنّ النهي مختصّ بأهل منى، وإنما نهي عن التطوّع بصيامها، سواء وافق عادة أو لم يوافق.

فأمّا صيامها عن قضاء فرض أو نذر، أو صيامها بمنى للمتمتع إذا لم يجد الهدي، ففيه اختلاف مشهور بين العلماء، ولا فرق بين يوم منها ويوم عند الأكثرين، إلاّ عند مالك؛ فإنّه قال: في اليوم الثالث منها يجوز صيامه عن نذر خاصة.

وفي النهي عن صيام هذه الأيام والأمر بالأكل فيها والشّرب سرّ حسن، وهو أن الله تعالى لمّا علم ما يلاقي الوافدون إلى بيته من مشاق السّفر وتعب الإحرام وجهاد النفوس على قضاء المناسك، شرع لهم الاستراحة عقيب ذلك بالإقامة بمنى يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وأمرهم بالأكل فيها من لحوم نسكهم؛ فهم في ضيافة الله عز وجل فيها؛ لطفا من الله بهم، ورأفة ورحمة.

وشاركهم أيضا أهل الأمصار في ذلك؛ لأنّ أهل الأمصار شاركوهم في النّصب لله والاجتهاد في عشر ذي الحجّة؛ بالصّوم والذّكر والاجتهاد في العبادات، وشاركوهم في حصول المغفرة وفي التقرّب إلى الله تعالى بإراقة دماء الأضاحي، فشاركوهم في أعيادهم، واشترك الجميع في الراحة في أيام الأعياد بالأكل والشّرب، كما اشتركوا جميعا في أيام العشر في الاجتهاد في الطاعة والنّصب، وصار المسلمون كلّهم في ضيافة الله عز وجل في هذه الأيام، يأكلون من رزقه، ويشكرونه على فضله.

ونهوا عن صيامها؛ لأنّ الكريم لا يليق به أن يجيع أضيافه، فكأنّه قيل

ص: 509

للمؤمنين في هذه الأيام: قد فرغ عملكم الذي عملتموه، فما بقي لكم إلاّ الرّاحة؛ فهذه الراحة بذاك التعب، كما أريح الصائمون لله في شهر رمضان بأمرهم بإفطار يوم عيد الفطر.

ويؤخذ من هذا إشارة إلى حال المؤمن في الدنيا؛ فإنّ الدّنيا كلها أيام سفر كأيّام الحجّ، وهي زمان إحرام المؤمن عمّا حرّم الله عليه من الشهوات، فمن صبر في مدّة سفره على إحرامه وكفّ عن الهوى، فإذا انتهى سفر عمره ووصل إلى منى المنى، فقد قضى تفثه ووفّى نذره، فصارت أيّامه كلّها كأيّام منى، أيّام أكل وشرب وذكر لله عز وجل، وصار في ضيافة الله عز وجل في جواره أبد الأبد، ولهذا يقال لأهل الجنة:{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطّور:

19] {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيّامِ الْخالِيَةِ} [الحاقّة: 24]. وقد قيل:

إنّها نزلت في الصّوّام في الدنيا.

وقد صمت عن لذات دهري كلّها

ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

قال بعض السلف: صم الدنيا اجعل فطرك الموت.

فصم يومك الأدنى لعلّك في غد

تفوز بعيد الفطر والنّاس صوّم

من صام اليوم عن شهواته أفطر عليها غدا بعد وفاته، ومن تعجّل ما حرّم عليه من لذّاته عوقب بحرمان نصيبه من الجنة وفواته؛ شاهد ذلك من شرب الخمر في الدّنيا لم يشربها في الآخرة، ومن لبس الحرير لم يلبسه في الآخرة.

أنت في دار شتات

فتأهّب لشتاتك

واجعل الدّنيا كيوم

صمته عن شهواتك

وليكن فطرك عند اللّ

هـ في يوم وفاتك

ص: 510

قال الله تعالى: {وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25].

الجنّة ضيافة الله أعدّها لعباده المؤمنين نزلا، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إليها بالإيمان والإسلام والإحسان، فمن أجابه دخل الجنّة وأكل من تلك الضيافة، ومن لم يجب حرم.

خرّج الترمذي عن جابر، قال: «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فقال:

رأيت في المنام كأنّ جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجليّ، فقال أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا، فقال: اسمع سمعت أذنك، واعقل عقل قلبك؛ إنّما مثلك ومثل أمّتك كمثل ملك اتخذ دارا، ثم بنى فيها بيتا، وجعل فيها مائدة، ثم بعث رسولا يدعو النّاس إلى طعامه؛ فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله تعالى: هو الملك، والدّار هي الإسلام، والبيت الجنّة، وأنت يا محمّد رسول، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنّة، ومن دخل الجنّة أكل ما فيها»

(1)

.

وخرّجه البخاري بمعناه، ولفظه:«مثله كمثل رجل بنى دارا، وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيا، فمن أجاب الدّاعي دخل الدّار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الدّاعي لم يدخل الدّار ولم يأكل من المأدبة؛ والدّار الجنة، والدّاعي محمد صلى الله عليه وسلم»

(2)

.

(1)

أخرجه: الترمذي (2860)، وقال:«وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد أصح من هذا، وهو حديث مرسل» ، وعلقه البخاري (9/ 115).

(2)

أخرجه: البخاري (9/ 114 - 115)(7281).

ص: 511

في بعض الآثار الإسرائيلية يقول الله تعالى: «ابن آدم، ما أنصفتني، أذكرك وتنساني، وأدعوك إليّ فتفر منيّ إلى غيري، وأذهب عنك البلايا وأنت منعكف على الخطايا، ابن آدم، ما يكون اعتذارك غدا إذا جئتني؟» . طوبى لمن أجاب مولاه، {يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ} [الأحقاف: 31].

يا نفس ويحك قد أتاك هداك

أجيبي فداعي الحقّ قد ناداك

كم قد دعيت إلى الرّشاد فتعرضي

وأجبت داعي الغيّ حين دعاك

كلّ ما في الدنيا يذكّر بالآخرة؛ فمواسمها وأعيادها وأفراحها تذكّر بمواسم الآخرة وأعيادها وأفراحها. صنع عبد الواحد بن زيد طعاما لإخوانه، فقام عتبة الغلام على رءوس الجماعة يخدمهم وهو صائم، فجعل عبد الواحد ينظر إليه ويسارقه النظر ودموع عتبة تجري، فسأله بعد ذلك عن بكائه حينئذ، فقال:

ذكرت موائد الجنّة والولدان قائمون علي رءوسهم؛ فصعق عبد الواحد. أبدان العارفين في الدنيا وقلوبهم في الآخرة.

جسمي معي غير أنّ الرّوح عندكم

فالجسم في غربة والرّوح في وطن

أعياد الناس تنقضي، فأمّا أعياد العارفين فدائمة. قال الحسن: كلّ يوم لا تعصي الله فيه فهو لك عيد. جاء بعضهم إلى بعض العارفين فسلّم عليه، وقال له: أريد أن أكلمك، قال: اليوم لنا عيد، فتركه، ثم جاءه يوما آخر، فقال له مثل ذلك، ثم جاء يوما آخر، فقال له مثل ذلك. فقال له: ما أكثر أعيادك! قال: يا بطّال! أما علمت أنّ كلّ يوم لا نعصي الله فيه فهو لنا عيد.

أوقات العارفين كلّها فرح وسرور بمناجاة مولاهم وذكره، فهي أعياد. وكان الشّبلي ينشد:

ص: 512

إذا ما كنت لي عيدا

فما أصنع بالعيد

جرى حبّك في قلبي

كجري الماء في العود

وأنشد أيضا:

عيدي مقيم وعيد النّاس منصرف

والقلب منّي عن اللّذات منحرف

ولي قرينان ما لي منهما خلف

طول الحنين وعين دمعها يكف

***

ص: 513

‌المجلس الرابع في ذكر ختام العام

خرّج الإمام أحمد من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا تتمنّوا الموت؛ فإنّ هول المطّلع شديد، وإنّ من السّعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة»

(1)

.

تمني الموت يقع على وجوه:

منها: تمنيه لضرّ دنيوي ينزل بالعبد، فينهى حينئذ عن تمني الموت.

وفي «الصحيحين» : عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضرّ نزل به، فإن كان لا بدّ فاعلا، فليقل: اللهمّ، أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفّني إذا كانت الوفاة خيرا لي»

(2)

.

ووجه كراهته في هذه الحال أنّ المتمني للموت لضرّ نزل به، إنّما يتمنّاه تعجيلا للاستراحة من ضرّه، وهو لا يدري إلى ما يصير بعد الموت، فلعله يصير إلى ضرّ أعظم من ضرّه، فيكون كالمستجير من الرّمضاء بالنار. وفي الحديث: عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّما يستريح من غفر له»

(3)

.

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 332)، وحسنه المنذري في «الترغيب والترهيب» (4/ 257)، والهيثمي في «المجمع» (334، 10/ 203).

وراجع: «التاريخ الكبير» للبخاري (2/ 285).

(2)

أخرجه: البخاري (7/ 156)(6351)، ومسلم (8/ 64)(2680)، والترمذي (971)، وأبو داود (3109، 3108)، والنسائي (4/ 3).

(3)

أخرجه: أحمد (102، 6/ 69).

ص: 514

فلهذا لا ينبغي له أن يدعو بالموت إلا أن يشترط أن يكون خيرا له عند الله عز وجل، وكذلك كلّ ما لا يعلم العبد فيه الخيرة له، كالغنى والفقر وغيرهما، كما يشرع له استخارة الله تعالى فيما يريد أن يعمله مما لا يعلم وجه الخيرة فيه، وإنما يسأل الله عز وجل على وجه الجزم والقطع مما يعلم أنّه خير محض، كالمغفرة والرّحمة والعفو والعافية والتّقى والهدى ونحو ذلك.

ومنها: تمنيه خوف الفتنة في الدّين، فيجوز حينئذ. وقد تمنّاه ودعا به خشية فتنة الدّين خلق من الصحابة وأئمة الإسلام. وفي حديث المنام:«وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون»

(1)

.

ومنها: تمني الموت عند حضور أسباب الشهادة اغتناما لحصولها، فيجوز ذلك أيضا. وسؤال الصحابة الشهادة وتعرّضهم لها عند حضور الجهاد كثير مشهور، وكذلك سؤال معاذ لنفسه وأهل بيته الطاعون لمّا وقع بالشام.

ومنها: تمني الموت لمن وثق بعمله شوقا إلى لقاء الله عز وجل، فهذا يجوز أيضا، وقد فعله كثير من السّلف. قال أبو الدّرداء: أحبّ الموت اشتياقا إلى ربّي. وقال أبو عنبة الخولاني: كان من قبلكم لقاء الله أحبّ إليه من الشهد. وقال بعض العارفين: طالت عليّ الأيام والليالي بالشوق إلى لقاء الله عز وجل.

(1)

أخرجه: أحمد (1/ 368)، والترمذي (3233)، وهو قطعة من حديث «اختصام الملإ الأعلى» .

وصححه الترمذي، ونقل عن البخاري أنه صححه أيضا.

وراجع: «العلل» لابن أبي حاتم (26)، وكذا للدارقطني (6/ 54 - 57)، و «جامع التحصيل» (ص 223)، و «زاد المعاد» (1/ 136 - 137)، و «النقد البناء» (ص 145).

وقد أسهب ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 31 - 35) في بيان علله ونقل عن البيهقي أنه قال: «روي من أوجه كلها ضعاف» .

ص: 515

وقال بعضهم: طال شوقي إليك فعجّل قدومي عليك. وقال بعضهم:

لا تطيب نفسي بالموت إلاّ إذا ذكرت لقاء الله عز وجل؛ فإنني أشتاق حينئذ إلى الموت؛ كشوق الظمآن الشديد ظمؤه في اليوم الحارّ الشديد حرّه إلى الماء البارد الشديد برده، وفي هذا يقول بعضهم:

أشتاق إليك يا قريبا نائي

شوق ظام إلى زلال الماء

وقد دلّ على جواز ذلك قول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [البقرة: 94] وقوله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلّهِ مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [الجمعة: 6]، فدلّ ذلك على أنّ أولياء الله لا يكرهون الموت بل يتمنونه، ثم أخبر أنهم {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الجمعة: 7]، فدلّ على أنّه إنما يكره الموت من له ذنوب يخاف القدوم عليها، كما قال بعض السلف: ما يكره الموت إلا مريب. وفي حديث عمّار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أسألك لذّة النّظر إلى وجهك وشوقا إلى لقائك، في غير ضرّاء مضرّة، ولا فتنة مضلّة»

(1)

.

فالشوق إلى لقاء الله تعالى إنما يكون بمحبة الموت، وذلك لا يقع غالبا إلاّ عند خوف ضرّاء مضرّة في الدنيا، أو فتنة مضلّة في الدين. فأمّا إذا خلا عن ذلك، كان شوقا إلى لقاء الله عز وجل، وهو المسئول في هذا الحديث. وفي «المسند» عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا يتمنين الموت إلاّ من وثق بعمله»

(2)

.

فالمطيع لله مستأنس بربّه، فهو يحبّ لقاء الله، والله يحبّ لقاءه. والعاصي

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 264)، والنسائي (3/ 54 - 55).

وصححه الألباني في «صفة الصلاة» ، وفي «تخريج الكلم الطيب» (105).

(2)

أخرجه: أحمد (2/ 350)، وراجع: التعليق على «المسند» طبعة الرسالة.

ص: 516

مستوحش، بينه وبين مولاه وحشة الذّنوب، فهو يكره لقاء ربّه ولا بدّ له منه.

قال ذو النون: كلّ مطيع مستأنس، وكلّ عاص مستوحش. وفي هذا يقول بعضهم:

أمستوحش أنت مما جنيت

فأحسن إذا شئت واستأنس

قال أبو بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما في وصيته له عند الموت: إن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحبّ إليك من الموت ولا بدّ لك منه، وإن ضيعتها لم يكن غائب أكره إليك من الموت ولن تعجزه. قال أبو حازم: كلّ عمل تكره الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرّك متى متّ. العاصي يفرّ من الموت لكراهية لقاء الله، وأين يفرّ من هو في قبضة من يطلبه.

أين المفرّ والإله الطّالب

والمجرم المغلوب ليس الغالب

سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله؟ قال: أمّا المطيع فكقدوم الغائب على أهله المشتاقين إليه، أمّا العاصي فكقدوم الآبق على سيّده الغضبان. رئي بعض الصالحين في النوم، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: خيرا، لم تر مثل الكريم إذا حلّ به المطيع. الدنيا كلّها شهر صيام المتقين، وعيد فطرهم يوم لقاء ربهم، كما قيل:

وقد صمت عن لذّات دهري كلّها

ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي

ومنها: تمني الموت على غير الوجوه المتقدّمة، فقد اختلف العلماء في كراهته واستحبابه، وقد رخص فيه جماعة من السلف، وكرهه آخرون، وحكى بعض أصحابنا عن أحمد في ذلك روايتين ولا يصحّ؛ فإنّ أحمد إنما نصّ على كراهة تمني الموت؛ لضرر الدنيا، وعلى جواز تمنيه خشية الفتنة في الدّين.

وربما أدخل بعضهم في هذا الاختلاف القسم الذي قبله، وفي ذلك نظر.

ص: 517

واستدلّ من كرهه بعموم النّهي عنه، كما في حديث جابر الذي ذكرناه، وفي معناه أحاديث أخر يأتي بعضها إن شاء الله تعالى.

وقد علّل النهي عن تمني الموت في حديث جابر بعلتين:

إحداهما: أنّ هول المطّلع شديد، وهول المطّلع هو ما يكشف للميت عند حضور الموت من الأهوال التي لا عهد له بشيء منها في الدنيا؛ من رؤية الملائكة، ورؤية أعماله من خير أو شرّ، وما يبشّر به عند ذلك من الجنّة والنار، هذا مع ما يلقاه من شدّة الموت وكربه وغصصه.

وفي الحديث الصحيح: «إذا حملت الجنازة وكانت صالحة، قالت:

قدّموني قدّموني، وإن كانت غير ذلك، قالت: يا ويلها! أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كلّ شيء إلاّ الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق»

(1)

.

قال الحسن: لو علم ابن آدم أنّ له في الموت راحة وفرحا لشقّ عليه أن يأتيه الموت؛ لما يعلم من فظاعته وشدّته وهوله، فكيف وهو لا يعلم ما له في الموت نعيم دائم أو عذاب مقيم.

بكى النّخعي عند احتضاره، وقال: أنتظر ملك الموت لا أدري يبشرني بالجنة أو النار. فالمتمني للموت كأنّه يستعجل حلول البلاء، وإنما أمرنا بسؤال العافية. وسمع ابن عمر رجلا يتمنى الموت، فقال: لا تتمنّ الموت؛ فإنّك ميت، ولكن سل الله العافية. قال إبراهيم بن أدهم: إن للموت كأسا لا يقوى عليها إلا خائف وجل مطيع لله كان يتوقّعها.

وقال أبو العتاهية:

ألا للموت كاس أيّ كاس

وأنت لكأسه لا بدّ حاسي

(1)

أخرجه: البخاري (2/ 108)(1314)، والنسائي (1/ 41).

ص: 518

إلى كم والممات إلى قريب

تذكّر بالممات

(1)

وأنت ناسي

جزع الحسن بن عليّ رضي الله عنهما عند موته، وقال: إني أريد أن أشرف على ما لم أشرف عليه قطّ. وبكى الحسن البصريّ عند موته، وقال: نفيسة ضعيفة وأمر مهول عظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون. وكان حبيب العجمي عند موته يبكي ويقول: إنّي أريد أن أسافر سفرا ما سافرته قطّ، وأسلك طريقا ما سلكته قطّ، وأزور سيدي ومولاي وما رأيته قطّ، وأشرف على أهوال ما شاهدتها قطّ.

فهذا كلّه من هول المطّلع الذي قطع قلوب الخائفين

(2)

، حتى قال عمر عند موته: لو أنّ لي ما في الأرض لافتديت به من هول المطّلع. ومن هول المطّلع ما يكشف للميت عند نزوله قبره من فتنة القبر؛ فإنّ الموتى يفتنون بالمسألة في قبورهم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدّجّال، وما يكشف لهم في قبورهم عن منازلهم من الجنة والنار، وما يلقون من ضمّة القبر وضيقته وهوله وعذابه إن لم يعاف الله من ذلك.

[ولأبي العتاهية:

لأبكينّ على نفسي وحقّ ليه

يا عين لا تبخلي عنّي بعبرتيه

يا هول مطّلعي، يا ضيق مضطجعي

يا نأي منتجعي، يا بعد شقّتيه]

(3)

رئي بعض الصّالحين في المنام بعد موته فسئل عن حاله، فأنشد:

وليس يعلم ما في القبر داخله

إلاّ الإله وساكن الأجداث

(1)

في ب: «بالمعاد» .

(2)

في أ: «الذي لقلوب الخائفين قطع» .

(3)

ليس في أ، ب.

ص: 519

[كان سفيان الثوري ينشد:

إنّ امرأ يصفو له عيشه

لغافل عمّا تجنّ القبور

نحن بنو الأرض وسكانها

منها خلقنا وإليها نصير]

(1)

والعلة الثانية: أنّ المؤمن لا يزيده عمره إلاّ خيرا، فمن سعادته أن يطول عمره ويرزقه الله الإنابة إليه، والتوبة من ذنوبه السالفة، والاجتهاد في العمل الصالح؛ فإذا تمنى الموت، فقد تمنى انقطاع عمله الصالح، فلا ينبغي له ذلك. وروى إبراهيم الحربيّ من رواية ابن لهيعة، عن ابن الهاد، عن ابن المطلب، عن أبيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«السّعادة كلّ السّعادة طول العمر في طاعة الله عز وجل»

(2)

.

وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، ففي «صحيح البخاري» عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا يتمنّينّ أحدكم الموت؛ إمّا محسنا، فلعلّه يزداد خيرا، وإمّا مسيئا فلعلّه أن يستعتب»

(3)

.

وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يتمنّينّ أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنّه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنّه لا يزيد المؤمن عمره إلاّ خيرا»

(4)

.

وفي «مسند الإمام أحمد» عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

«لا يتمنين أحدكم الموت، ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إلا أن يكون قد وثق

(1)

ليس في أ، ب.

(2)

أخرجه: الخطيب في «تاريخ بغداد» (6/ 16 - 17)، وفي إسناده ضعف.

وراجع: «الضعيفة» (2407).

(3)

أخرجه: البخاري (7/ 157)(5673)، والنسائي (4/ 2).

(4)

أخرجه: مسلم (8/ 65)(2682).

ص: 520

بعمله؛ فإنّه إن مات أحدكم انقطع عنه عمله، وإنّه لا يزيد المؤمن عمره إلاّ خيرا»

(1)

. وفيه عن أمّ الفضل رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع العباس وهو يشتكي يتمنى الموت، فقال:«لا تتمنّ الموت؛ فإنّك إن كنت محسنا تزداد إحسانا إلى إحسانك، وإن كنت مسيئا فأن تؤخّر تستعتب من إساءتك خير لك»

(2)

.

وفيه أيضا: عن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: جلسنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكّرنا ورقّقنا، فبكى سعد بن أبي وقاص، فأكثر البكاء، وقال: يا ليتني متّ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا سعد، إن كنت خلقت للجنّة فما طال من عمرك وحسن من عملك، فهو خير لك»

(3)

.

وفي المعنى أحاديث أخر كثيرة، وكلّها تدلّ على النّهي عن تمني الموت بكل حال، وأنّ طول عمر المؤمن خير له، فإنّه يزداد فيه خيرا. وهذا قد قيل:

إنه يدخل فيه تمنيه للشوق إلى لقاء الله، وفيه نظر، فإنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد تمنّاه في تلك الحال.

واختلف السالكون: أيما أفضل؛ من تمنّى الموت شوقا إلى لقاء الله، أو من تمنى الحياة رغبة في طاعة الله، أو من فوّض الأمر إلى الله ورضي باختياره له ولم يختر لنفسه شيئا.

واستدلّ طائفة من الصحابة على تفضيل الموت على الحياة بقول الله عز وجل: {وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ} [آل عمران: 198]. ولكن الأحاديث الصحيحة تدلّ على أنّ عمر المؤمن كلما طال ازداد بذلك ما له عند الله من الخير، فلا ينبغي له أن يتمنّى انقطاع ذلك، اللهم إلا أن يخشى الفتنة على

(1)

تقدم.

(2)

أخرجه: أحمد (6/ 339).

(3)

أخرجه: أحمد (5/ 267)، وقال الحافظ في «الفتح» (10/ 130):«سنده ليّن» .

ص: 521

دينه؛ فإنه إذا خشي الفتنة على دينه، فقد خشي أن يفوته ما عند الله من الخير ويتبدّل ذلك بالشر، عياذا بالله من ذلك، والموت خير من الحياة على هذه الحال.

قال ميمون بن مهران: لا خير في الحياة إلا لتائب أو رجل يعمل في الدّرجات. يعني أنّ التائب يمحو بالتوبة ما سلف من السيئات، والعامل يجتهد في علو الدّرجات، ومن عداهما فهو خاسر، كما قال تعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]. فأقسم الله تعالى أنّ كلّ إنسان خاسر إلاّ من اتّصف بهذه الأوصاف الأربعة: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر على الحق. فهذه السورة ميزان للأعمال يزن المؤمن بها نفسه فيبين له بها ربحه من خسرانه، ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: لو فكّر النّاس كلّهم فيها لكفتهم.

رأى بعض المتقدمين النبي صلى الله عليه وسلم في منامه، فقال له: أوصني. فقال له:

«من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه شرّا من أمسه فهو ملعون، ومن لم يتفقّد الزّيادة في عمله فهو في نقصان، ومن كان في نقصان فالموت خير له» .

قال بعضهم: كان الصّدّيقون يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس. يشير إلى أنّهم كانوا لا يرضون كل يوم إلا بالزّيادة من عمل الخير، ويستحيون من فقد ذلك ويعدّونه خسرانا، كما قيل:

أليس من الخسران أنّ لياليا

تمرّ بلا نفع وتحسب من عمري

فالمؤمن القائم بشروط الإيمان لا يزداد بطول عمره إلاّ خيرا، ومن كان كذلك فالحياة خير له من الموت. وفي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل الحياة

ص: 522

زيادة لي في كلّ خير، والموت راحة لي من كلّ شرّ»

(1)

. خرّجه مسلم. وفي «الترمذي» عنه صلى الله عليه وسلم «أنّه سئل: أيّ النّاس خير؟ قال: من طال عمره وحسن عمله» . قيل: فأيّ النّاس شرّ؟ قال: من طال عمره وساء عمله»

(2)

.

وفي «المسند» وغيره: «أنّ نفرا ثلاثة قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، فكانوا عند طلحة، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثا، فخرج فيه أحدهم فاستشهد، ثم بعث بعثا آخر، فخرج آخر منهم فاستشهد، ثم مات الثالث على فراشه. قال طلحة:

فرأيتهم في الجنّة، فرأيت الميّت على فراشه أمامهم، ورأيت الذي استشهد آخرا يليه، ورأيت الذي استشهد أوّلهم آخرهم. فأتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال: وما أنكرت من ذلك؟ ليس أفضل عند الله عز وجل من مؤمن يعمّر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله»

(3)

. وفي رواية، قال: «أليس قد مكث هذا بعده سنة؟ قالوا: بلى، قال: وأدرك رمضان فصامه؟ قالوا: بلى. قال:

وصلّى كذا وكذا سجدة في السّنة؟ قالوا: بلى. قال: فلما بينهما أبعد ما بين السّماء والأرض».

قيل لبعض السّلف: طاب الموت. قال: لا تفعل، لساعة تعيش فيها تستغفر الله خير لك من موت الدّهر. وقيل لشيخ كبير منهم: تحبّ الموت؟ قال:

لا. قيل: ولم؟ قال: ذهب الشباب وشرّه، وجاء الكبر وخيره؛ فإذا قمت قلت:

بسم الله، وإذا قعدت قلت: الحمد لله، فأنا أحبّ أن يبقى لي هذا. وقيل لشيخ آخر منهم: ما بقي ممّا تحبّ له الحياة؟ قال: البكاء على الذنوب. ولهذا كان السّلف الصالح يتأسّفون عند موتهم على انقطاع أعمالهم عنهم بالموت.

(1)

أخرجه: مسلم (8/ 81)(2720).

(2)

أخرجه: أحمد (43، 5/ 40 - 50، 49، 48، 47، 44)، والترمذي (2330)، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» .

(3)

أخرجه: أحمد (1/ 163)، وأبو يعلى (634)، وابن ماجه (3925) بمعناه.

ص: 523

وبكى معاذ عند موته وقال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالرّكب عند حلق الذّكر. وبكى عبد الرحمن بن الأسود عند موته، وقال: وا أسفاه على الصوم والصلاة، ولم يزل يتلو القرآن حتى مات. وبكى يزيد الرقاشي عند موته، وقال: أبكي على ما يفوتني من قيام الليل وصيام النّهار، ثم بكى وقال: من يصلي لك يا يزيد بعدك؟ ومن يصوم ومن يتقرّب لك بالأعمال الصالحة؟ ومن يتوب لك من الذنوب السّالفة؟ وجزع بعضهم عند موته، وقال: إنما أبكي على أن يصوم الصائمون لله ولست فيهم، ويصلّي المصلّون ولست فيهم، ويذكر الذّاكرون ولست فيهم، فذلك الذي أبكاني.

تحمّل أصحابي ولم يجدوا وجدي

وللنّاس أشجان ولي شجن وحدي

أحبّكم ما دمت حيّا فإن أمت

فوا أسفي ممّن يحبّكم بعدي

في «الترمذي» عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «ما من ميت مات إلا ندم؛ إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون استعتب»

(1)

. إذا كان المحسن يندم على ترك الزّيادة، فكيف يكون حال المسيء؟ رأى بعض المتقدمين في المنام قائلا يقول له:

يا خدّ إنّك إن توسّد ليّنا

وسّدت بعد الموت صمّ الجندل

فاعمل لنفسك في حياتك صالحا

فلتندمنّ غدا إذا لم تفعل

ورأى آخر في المنام قائلا يقول له:

إن كنت لا ترتاب أنّك ميّت

ولست لبعد الموت ما أنت تعمل

فعمرك ما يغني وأنت مفرّط

واسمك في الموتى معدّ محصّل

(1)

أخرجه: الترمذي (2403)، وأشار إلى ضعفه.

ص: 524

رئي بعض الموتى في المنام، فقال: ما عندنا أكثر من الندامة، ولا عندكم أكثر من الغفلة. وجد على قبر مكتوب:

ندمت على ما كان منّي ندامة

ومن يتّبع ما تشتهي النّفس يندم

ألم تعلموا أنّ الحساب أمامكم

وأنّ وراكم طالبا ليس يسأم

فخافوا لكيما تأمنوا بعد موتكم

ستلقون ربّا عادلا ليس يظلم

فليس لمغرور بدنياه راحة

سيندم إن زلّت به النّعل فاعلموا

الموتى في قبورهم يتحسّرون على زيادة في أعمالهم بتسبيحة أو بركعة، ومنهم من يسأل الرجعة إلى الدنيا لذلك، فلا يقدرون على ذلك، قد حيل بينهم وبين العمل، وغلقت منهم الرهون. ورئي بعضهم في المنام فقال: قدمنا على أمر عظيم، نعلم ولا نعمل، وأنتم تعملون ولا تعلمون، والله لتسبيحة أو تسبيحتان، أو ركعة أو ركعتان في صحيفة أحدنا أحبّ إليه من الدنيا وما فيها.

قال بعض السّلف: كلّ يوم يعيش فيه المؤمن غنيمة. وقال بعضهم: بقيّة عمر المؤمن لا قيمة له، يعني أنه يمكنه أن يمحو فيه ما سلف منه من الذنوب بالتوبة، وأن يجتهد فيه في بلوغ الدّرجات العالية بالعمل الصالح. فأمّا من فرط في بقية عمره فإنّه خاسر، فإن ازداد فيه من الذنوب فذلك هو الخسران المبين.

الأعمال بالخواتيم؛ من أصلح فيما بقي غفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أخذ بما بقي وما مضى.

يا بائع عمره مطيعا أمله

في معصية الله كفعل الجهله

إن ساومك الجهل بباقيه فقل

باقي عمر المؤمن لا قيمة له

ما مضى من العمر وإن طالت أوقاته ذهبت لذّاته وبقيت تبعاته، وكأنّه لم يكن إذا جاء الموت وميقاته؛ قال الله عز وجل:{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ}

ص: 525

{سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 205 - 207]. تلا بعض السّلف هذه الآية وبكى، وقال: إذا جاء الموت لم يغن عن المرء ما كان فيه من اللذّة والنعيم. وفي هذا المعنى ما أنشده أبو العتاهية للرشيد حين بنى قصره واستدعى إليه ندماءه:

عش ما بدا لك سالما

في ظلّ شاهقة القصور

يسعى عليك بما اشتهيت

لدى الرّواح وفي البكور

فإذا النّفوس تقعقعت

في ضيق حشرجة الصّدور

فهناك تعلم موقنا

ما كنت إلاّ في غرور

في «صحيح البخاري» عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«أعذر الله إلى من بلّغه ستين من عمره»

(1)

. وفي الترمذي: «أعمار أمّتي ما بين السّتين إلى السّبعين، وأقلّهم من يجوز ذلك»

(2)

. وفي رواية: «حصاد أمّتي من بلغ الخمسين، فقد تنصّف المائة فماذا ينتظر» .

لهفي على خمسين عاما مضت

كانت أمامي ثمّ خلفتها

لو كان عمري مائة هدّني

تذكّري أنّي تنصّفتها

في بعض الكتب السّالفة: إنّ لله مناديا ينادي كلّ يوم: أبناء الخمسين، زرع دنا حصاده، أبناء الستين، هلموا إلى الحساب. أبناء السّبعين، ماذا قدّمتم وماذا أخرتم؟ أبناء الثمانين: لا عذر لكم. ليت الخلق لم يخلقوا، وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا، وتجالسوا بينهم فتذاكروا ما عملوا، ألا أتتكم السّاعة

(1)

أخرجه: البخاري (8/ 111)(6419).

(2)

أخرجه: الترمذي (3550، 2331)، وحسنه ابن ماجه (4236).

وصححه الألباني في «الصحيحة» (757).

ص: 526

فخذوا حذركم. وقال وهب: إن لله مناديا ينادي في السّماء الرابعة كلّ صباح:

أبناء الأربعين، زرع دنا حصاده. أبناء الخمسين: ماذا قدّمتم وماذا أخّرتم؟ أبناء الستين: لا عذر لكم.

وفي حديث: «إنّ الله تعالى يقول للحفظة: ارفقوا بالعبد ما دامت حداثته، فإذا بلغ الأربعين حقّقا وتحفّظا» . فكان بعض رواته يبكي عند روايته، ويقول:

حين كبرت السّنّ، ورقّ العظم، وقع التحفّظ.

قال مسروق: إذا أتتك الأربعون فخذ حذرك. وقال النّخعي: كان يقال لصاحب الأربعين: احتفظ بنفسك.

وكان كثير من السّلف إذا بلغ الأربعين تفرّغ للعبادة. وقال عمر بن عبد العزيز: تمّت حجّة الله على ابن الأربعين، فمات لها. ورأى في منامه قائلا يقول له:

إذا ما أتتك الأربعون فعندها

فاخش الإله وكن للموت حذّارا

يا أبناء العشرين، كم مات من أقرانكم وتخلفتم. يا أبناء الثلاثين، أصبتم بالشباب على قرب من العهد، فما تأسفتم. يا أبناء الأربعين، ذهب الصّبا وأنتم على اللهو قد عكفتم. يا أبناء الخمسين، تنصفتم المائة وما أنصفتم.

يا أبناء الستين، أنتم على معترك المنايا قد أشرفتم، أتلهون وتلعبون، لقد أسرفتم!!

وإذا تكامل للفتى من عمره

خمسون وهو إلى التّقى لا يجنح

عكفت عليه المخزيات فما له

متأخّر عنها ولا متزحزح

وإذا رأى الشيطان غرّة وجهه

حيّا وقال فديت من لا يفلح

ص: 527

قال الفضيل لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة. قال له: أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربّك يوشك أن تصل.

وإنّ امرأ قد سار ستين حجّة

إلى منهل من ورده لقريب

يا من يفرح بكثرة مرور السنين عليه، إنما تفرح بنقص عمرك. قال أبو الدّرداء والحسن رضي الله عنهما: إنما أنت أيام، كلّما مضى منك يوم مضى بعضك.

وأنشد بعضهم:

إنّا لنفرح بالأيّام نقطعها

وكلّ يوم مضى يدني من الأجل

فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا

فإنّما الرّبح والخسران في العمل

قال بعض الحكماء: كيف يفرح بالدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟! كيف يفرح من يقوده عمره إلى أجله، وحياته إلى موته؟!

نجد سرورا بالهلال إذا بدا

وما هو إلاّ السّيف للحتف ينتضى

إذا قيل تمّ الشّهر فهو كناية

وترجمة عن شطر عمر قد انقضى

قال الحسن: الموت معقود بنواصيكم، والدنيا تطوى من ورائكم.

نسير إلى الآجال في كلّ لحظة

وأعمارنا تطوى وهنّ مراحل

ترحّل من الدنيا بزاد من التّقى

فعمرك أيّام وهنّ قلائل

(1)

قال بعض الحكماء: من كانت الليالي مطاياه سارتا به وإن لم يسر.

وما هذه الأيام إلاّ مراحل

يحثّ بها حاد إلى الموت قاصد

وأعجب شيء لو تأمّلت أنّها

منازل تطوى والمسافر قاعد

(1)

هذان البيتان من (ص، ب).

ص: 528

[قال بعض الحكماء: قد اعتورك الليل والنّهار، يدفعك الليل إلى النهار، ويدفعك النهار إلى الليل، حتى يأتيك الموت:

أيا ويح نفسي من نهار يقودها

إلى عسكر الموتى وليل يذودها]

(1)

يا من كلّما طال عمره ازداد ذنبه، يا من كلّما ابيضّ شعره بمرور الأيام اسودّ بالآثام قلبه.

شيخ كبير له ذنوب

تعجز عن حملها المطايا

قد بيّضت شعره الليالي

وسوّدت قلبه الخطايا

يا من تمرّ عليه سنة بعد سنة وهو مستثقل في نوم الغفلة والسّنة. يا من يأتي عليه عام بعد عام وقد غرق في بحار الخطايا فعام

(2)

. يا من يشاهد الآيات والعبر كلّما توالت عليه الأعوام والشهور، ويسمع الآيات والسور، ولا ينتفع بما يسمع ولا بما يرى من عظائم الأمور، ما الحيلة فيمن سبق عليه الشقاء في الكتاب المسطور {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحجّ: 46]، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ} [النّور: 40].

خليليّ كم من ميت قد حضرته

ولكنّني لم أنتفع بحضوري

وكم من ليالي قد أرتني عجائبا

لهنّ وأيام خلت وشهور

وكم من سنين قد طوتني كثيرة

وكم من أمور قد جرت وأمور

ومن لم يزده السّنّ

(3)

ما عاش عبرة

فذاك الّذي لا يستنير بنور

***

(1)

ليس في (ب).

(2)

في (أ): «في بحر الخطايا فهام» .

(3)

في (أ): «العمر» .

ص: 529

‌فصل ويلتحق بوظائف شهور السنة الهلاليّة وظائف فصول السنة الشّمسيّة

وفيه ثلاثة مجالس:

‌المجلس الأول في ذكر فصل الربيع

خرّجا في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إنّ أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض.

قيل: ما بركات الأرض؟ قال: زهرة الدنيا. فقال له رجل: هل يأتي الخير بالشّرّ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننت أنه سينزل عليه. ثم جعل يمسح عن جبينه. قال: أين السائل؟ قال: أنا. قال: لا يأتي الخير إلاّ بالخير؛ إنّ هذا المال خضرة حلوة، وإنّ كلّ ما أنبت الرّبيع يقتل حبطا أو يلمّ، إلا آكلة الخضر، أكلت، حتى إذا امتدّت خاصرتاها استقبلت الشمس، فاجترّت وثلطت وبالت، ثم عادت فأكلت؛ وإنّ هذا المال خضرة حلوة، من أخذه بحقّه، ووضعه في حقّه، فنعم المعونة هو، وإن أخذه بغير حقّه كان كالذي يأكل ولا يشبع»

(1)

.

(1)

أخرجه: البخاري (2/ 150)(1465)(2842)(6427)، ومسلم (3/ 101)(1052)، والنسائي (91، 5/ 90).

ص: 530

كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّف على أمّته من فتح الدنيا عليهم، فيخاف عليهم الافتتان بها. ففي «الصحيحين» عن عمرو بن عوف أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار لما جاءه مال البحرين:«أبشروا وأمّلوا ما يسرّكم، فو الله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدّنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم؛ فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما أهلكتهم»

(1)

.

وكان آخر خطبة خطبها على المنبر حذّر فيها من زهرة الدنيا، ففي «الصحيحين» عن عقبة بن عامر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، فقال:«إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي، ولكني أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها، فتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم» قال عقبة: فكان آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر

(2)

.

وفي «صحيح مسلم» عن عبد الله بن عمرو أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم، أيّ قوم أنتم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف:

نقول كما أمرنا الله عز وجل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك، تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون»

(3)

.

وفي «المسند» عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«لا تفتح الدنيا على أحد إلاّ ألقى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة. قال عمر: وأنا أشفق من ذلك»

(4)

.

وفيه أيضا عن أبي ذرّ، أنّ أعرابيّا قال: يا رسول الله! أكلتنا الضّبع - يعني السّنة والجدب - فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «غير ذلك أخوف منّي عليكم حين تصبّ

(1)

أخرجه: البخاري (8/ 112)(3158)(4015)، ومسلم (8/ 212)(2961).

(2)

أخرجه: البخاري (8/ 112 - 151، 113)(4042)، ومسلم (7/ 68)(2296).

(3)

أخرجه: مسلم (8/ 212)(2962).

(4)

أخرجه: أحمد (1/ 16).

ص: 531

عليكم الدنيا صبّا، فليت أمتي لا يلبسون الذّهب»

(1)

. وفي رواية:

«الديباج»

(2)

.

وفيه أيضا: عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«ما أخشى عليكم الفقر، ولكنّي أخشى عليكم التكاثر»

(3)

.

ويروى من حديث عوف بن مالك وأبي الدّرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

«آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده، لتصبّنّ عليكم الدنيا صبّا حتى لا يزيغ قلب أحدكم إن أزاغه إلاّ هي»

(4)

. وفي رواية عوف: «فإنّ الله فاتح عليكم فارس والروم»

(5)

. وفي المعنى أحاديث أخر.

وفي «الترمذي» أنّه صلى الله عليه وسلم قال: «لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المال»

(6)

فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض» ، ثم فسّره بزهرة الدنيا؛ ومراده: ما يفتح على أمّته منها من ملك فارس والروم وغيرهم من الكفار الذين ورثت هذه الأمة ديارهم وأموالهم وأراضيهم التي تخرج منها زروعهم وثمارهم وأنهارهم ومعادنهم، وغير ذلك مما يخرج من بركات الأرض.

(1)

أخرجه: أحمد (5/ 152 - 178، 155، 153).

(2)

أخرجه: الطبراني في «الأوسط» (9437) عن حذيفة رضي الله عنه.

وقال في «مجمع الزوائد» (5/ 143): «وفيه عبيدة بن معتب وهو متروك» ، وصححه الألباني.

وراجع: «الصحيحة» (2216).

(3)

أخرجه: أحمد (2/ 308)، والحاكم (2/ 534)، وابن حبان (3222).

(4)

أخرجه: ابن ماجه (5) من حديث أبي الدرداء، وحسنه الألباني.

وراجع: «الصحيحة» (688).

(5)

أخرجه: أحمد (6/ 24).

(6)

أخرجه: أحمد (4/ 160)، والترمذي (2336)، وقال:«حسن صحيح غريب» .

ص: 532

وهذا من أعظم المعجزات، وهو إخباره بظهور أمته على كنوز فارس والروم وأموالهم وديارهم. ووقع على ما أخبر به؛ ولكنّه لما سمّى ذلك «بركات الأرض» وأخبر أنه «أخوف ما يخافه عليهم» أشكل ذلك على بعض من سمعه حيث سمّاه بركة، ثم خاف منه أشدّ الخوف؛ فإنّ البركة إنّما هي خير ورحمة.

وقد سمّى الله تعالى المال خيرا في مواضع كثيرة من القرآن، فقال تعالى:

{وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، وقال:{إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]، وقال تعالى عن سليمان عليه السلام:{إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32].

فلمّا سأله السائل: هل يأتي الخير بالشر؟ صمت النبيّ صلى الله عليه وسلم حتّى ظنّوا أنّه أوحي إليه، والظاهر أنّ الأمر كان كذلك، ويدلّ عليه أنّه ورد في رواية لمسلم في هذا الحديث:«فأفاق يمسح عنه الرّحضاء»

(1)

وهو العرق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه يتحدّر منه مثل الجمان من العرق من شدّة الوحي وثقله عليه؛ وفي هذا دليل علي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سئل عن شيء لم يكن أوحي إليه فيه شيء انتظر الوحي فيه.

ولم يتكلّم فيه بشيء حتى يوحى إليه فيه، فلمّا نزل عليه جواب ما سئل عنه، قال: أين السائل؟ قال: ها أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنّ الخير لا يأتي إلاّ بالخير» . وفي رواية لمسلم، فقال:«أو خير هو؟»

(1)

وفي ذلك دليل على أنّ المال ليس بخير على الإطلاق، بل منه خير ومنه شرّ.

ثم ضرب مثل المال ومثل من يأخذه بحقّه ويصرفه في حقه، ومن يأخذه

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 101 - 102)(1465). ونحوه في البخاري (1052).

ص: 533

من غير حقّه ويصرفه في غير حقّه؛ فالمال في حقّ الأوّل خير، وفي حقّ الثاني شرّ، فتبيّن بهذا أنّ المال ليس بخير مطلق، بل هو خير مقيّد، فإن استعان به المؤمن على ما ينفعه في آخرته كان خيرا له، وإلاّ كان شرّا له.

فأمّا المال، فقال: إنه خضرة حلوة، وقد وصف المال والدنيا بهذا الوصف في أحاديث كثيرة.

ففي «الصحيحين» عن حكيم بن حزام، أنّه سأل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«يا حكيم، إنّ هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه؛ وكان كالذي يأكل ولا يشبع»

(1)

.

وفي «صحيح مسلم» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«إنّ الدّنيا خضرة حلوة، وإنّ الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون؛ فاتّقوا الدنيا، واتقوا النّساء؛ فإنّ أوّل فتنة بني إسرائيل كانت في النساء»

(2)

.

واستخلافهم فيها هو ما أورثهم الله منها مما كان في أيدي الأمم من قبلهم كفارس والروم، وحذّرهم من فتنة الدنيا، وفتنة النّساء خصوصا؛ فإنّ النّساء أوّل ما ذكره الله تعالى من شهوات الدنيا ومتاعها في قوله تعالى:

{زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا} [آل عمران: 14].

وفي «المسند» و «الترمذي» عن خولة بنت قيس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ

(1)

أخرجه: البخاري (2/ 152)(1472)، ومسلم (3/ 94)(1035).

(2)

أخرجه: مسلم (8/ 89)(2742)، والترمذي (2191).

ص: 534

هذا المال خضرة حلوة، فمن أصابه بحقّه بورك له فيه، وربّ متخوّض فيما شاءت نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلاّ النار»

(1)

.

وفي «المسند» أيضا عن خولة بنت ثامر الأنصارية، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

«إنّ الدّنيا خضرة حلوة، وإنّ رجالا سيتخوّضون في مال الله بغير حقّ، لهم النّار يوم القيامة»

(2)

. وخرّج البخاري من قوله: «إنّ رجالا»

(3)

، إلى آخره.

وفي «المسند» أيضا عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إن هذه الدنيا خضرة حلوة، فمن آتيناه منها شيئا بطيب نفس أو طيب طعمة ولا إشراف، بورك له فيه، ومن آتيناه منها شيئا بغير طيب نفس منّا وغير طيب طعمة وإشراف منه لم يبارك له فيه»

(4)

. وفي المعنى أحاديث أخر.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن مما ينبت الربيع يقتل حبطا، أو يلمّ، إلاّ آكلة الخضر» ، مثل آخر ضربه صلى الله عليه وسلم لزهرة الدّنيا وبهجة منظرها وطيب نعيمها وحلاوته في النفوس، فمثله كمثل نبات الربيع، وهو المرعى الخضر الذي ينبت في زمان الربيع؛ فإنّه يعجب الدّوابّ التي ترعى فيه وتستطيبه وتكثر من الأكل منه أكثر من قدر حاجتها؛ لاستحلائها له؛ فإمّا أن يقتلها فتهلك وتموت حبطا - والحبط: انتفاخ البطن من كثرة الأكل - أو يقارب قتلها، ويلمّ به، فتمرض منه مرضا مخوفا مقاربا للموت.

(1)

أخرجه: أحمد (378، 6/ 364)، والترمذي (2374)، وقال:«هذا حديث حسن صحيح» .

(2)

أخرجه: أحمد (6/ 410).

(3)

أخرجه: البخاري (4/ 104).

(4)

«المسند (6/ 68)» ، وروى بعضه البزار (920 - كشف) وقال:«لا نعلم أسنده إلا شريك، ورواه غيره عن عروة مرسلا» .

وراجع: «مجمع الزوائد» (10/ 246، 3/ 99).

ص: 535

فهذا مثل من يأخذ من الدنيا بشره وجوع نفس من حيث لاحت له، لا بقليل يقنع ولا بكثير يشبع، ولا يحلل ولا يحرّم، بل الحلال عنده ما حلّ بيده وقدر عليه، والحرام عنده ما منع منه وعجز عنه. فهذا هو المتخوّض في مال الله ورسوله فيما شاءت نفسه، وليس له إلاّ النّار يوم القيامة، كما في حديث خولة المتقدّم.

والمراد ب «مال الله ومال رسوله» الأموال التي يجب على ولاة الأمور حفظها وصرفها في طاعة الله ورسوله من أموال الفيء والغنائم، ويتبع ذلك مال الخراج والجزية، وكذلك أموال الصّدقات التي تصرف للفقراء والمساكين، كمال الزكاة والوقف ونحو ذلك.

وفي هذا تنبيه على أن من تخوّض من الدنيا في الأموال المحرم أكلها، كمال الرّبا، ومال الأيتام الذي من أكله أكل نارا، والمغصوب، والسّرقة، والغشّ في البيوع، والخداع والمكر وجحد الأمانات والدعاوى الباطلة، ونحوها من الحيل المحرمة؛ أولى أن يتخوّض صاحبها في نار جهنم غدا.

فكلّ هذه الأموال وما أشبهها يتوسّع بها أهلها في الدنيا ويتلذّذون بها، ويتوصّلون بها إلى لذّات الدنيا وشهواتها، ثم ينقلب ذلك بعد موتهم فيصير جمرا من جمر جهنّم في بطونهم، فما تفي لذّتها بتبعتها، كما قيل:

تفنى اللّذاذة ممّن نال لذّتها

من الحرام ويبقى الإثم والعار

تبقى عواقب سوء من مغبّتها

لا خير في لذّة من بعدها النّار

فلهذا شبّه النبيّ صلى الله عليه وسلم من يأخذ الدنيا بغير حقّها، ويضعها في غير حقّها، بالبهائم الراعية من خضراء الربيع حتى تنتفخ بطونها من أكله؛ فإمّا أن يقتلها، وإمّا أن يقارب قتلها. فكذلك من أخذ الدنيا من غير حقّها ووضعها في غير وجهها؛ إمّا أن يقتله ذلك فيموت به قلبه ودينه، وهو من مات على ذلك من

ص: 536

غير توبة منه وإصلاح حال، فيستحقّ النّار بعمله؛ قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمّد: 12]. وهذا هو الميت حقيقة؛ فإنّ الميت من مات قلبه، كما قيل:

ليس من مات فاستراح بميت

إنّما الميت ميّت الأحياء

وإمّا أن يقارب موته ثم يعافى، وهو من أفاق من هذه السكرة وتاب، وأصلح عمله قبل موته. وقد قال علي رضي الله عنه في كلامه المشهور في أقسام حملة العلم: أو منهوم باللذات سلس القياد للشهوات، أو مغرى بجمع الأموال والادخار، وليسوا من رعاة الدين أقرب شبها بهم الأنعام السارحة.

وفي الأبيات المشهورة التي كان عمر بن عبد العزيز ينشدها كثيرا.

نهارك يا مغرور سهو وغفلة

وليلك نوم والرّدى لك لازم

وتتعب فيما سوف تكره غبّه

كذلك في الدّنيا تعيش البهائم

وأمّا استثناؤه صلى الله عليه وسلم من ذلك «آكلة الخضر» فمراده بذلك مثل المقتصد الذي يأخذ من الدنيا بحقّها مقدار حاجته، فإذا نفد واحتاج عاد إلى الأخذ منها قدر الحاجة بحقّه. و «آكلة الخضر»: دويبة تأكل من الخضر بقدر حاجتها إذا احتاجت إلى الأكل، ثم تصرفه عنها فتستقبل عين الشمس، فتصرف بذلك ما في بطنها وتخرج منه ما يؤذيها من الفضلات. وقد قيل: إنّ الخضر ليس من نبات الربيع عند العرب، إنما هو من كلإ الصيف بعد يبس العشب وهيجه واصفراره، والماشية من الإبل لا تستكثر منه، بل تأخذ منه قليلا قليلا، ولا تحبط بطونها منه.

فهذا مثل المؤمن المقتصد من الدنيا؛ يأخذ من حلالها وهو قليل بالنسبة إلى حرامها، قدر بلغته وحاجته، ويجتزئ من متاعها بأدونه وأخشنه، ثم لا يعود

ص: 537

إلى الأخذ منها إلاّ إذا نفد ما عنده وخرجت فضلاته، فلا يوجب له هذا الأخذ ضررا ولا مرضا ولا هلاكا، بل يكون ذلك بلاغا له، ويتبلّغ به مدّة حياته، ويعينه على التزوّد لآخرته.

وفي هذا إشارة إلى مدح من أخذ من حلال الدنيا بقدر بلغته وقنع بذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم:«قد أفلح من هداه الله إلى الإسلام، وكان عيشه كفافا فقنع به»

(1)

وقال صلى الله عليه وسلم: «خير الرّزق ما يكفي»

(2)

. وقال: «اللهم اجعل رزق آل محمّد قوتا»

(3)

.

خذ من الرّزق ما كفى

ومن العيش ما صفا

كلّ هذا سينقضي

كسراج إذا انطفا

ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا المال خضرة حلوة» فأعاد مرّة ثانية تحذيرا من الاغترار به، فخضرته بهجة منظره، وحلاوته طيب طعمه؛ فلذلك تشتهيه النفوس وتسارع إلى طلبه، ولكن لو فكرت في عواقبه لهربت منه. الدنيا في الحال حلوة خضرة، وفي المآل مرّة كدرة؛ نعمت المرضعة، وبئست الفاطمة!

إنّما الدّنيا نهار

ضوؤه ضوء معار

بينما عيشك غضّ

ناعم فيه اخضرار

إذ رماه زمناه

فإذا فيه اصفرار

وكذاك اللّيل يأتي

ثم يمحوه النّهار

(1)

أخرجه: مسلم (3/ 102)(1054)، والترمذي (2348)، وأحمد (173، 2/ 168)، ابن ماجه (4138).

(2)

أخرجه: أحمد (187، 180، 1/ 172) عن سعد بن أبي وقاص.

(3)

أخرجه: البخاري (8/ 122)(6460)، ومسلم (3/ 103)(1055)، والترمذي (2361)، وابن ماجه (4139) عن أبي هريرة.

ص: 538

مثل حرام الدّنيا كشجرة الدّفلى، تعجب من رآها، وتقتل من أكلها.

نرى الدّنيا وزهرتها فنصبوا

وما يخلو من الشّهوات قلب

فضول العيش أكثره هموم

وأكثر ما يضرّك ما تحبّ

إذا اتفق القليل وفيه سلم

فلا ترد الكثير وفيه حرب

الذي بشّر أمّته بفتح الدنيا عليهم حذّرهم من الاغترار بزهرتها، وخوّفهم من خضرتها وحلاوتها، وأخبرهم بخرابها وفنائها، وأنّ بين أيديهم دارا لا تنقطع خضرتها وحلاوتها؛ فمن وقف مع زهرة هذه العاجلة انقطع وهلك، ومن لم يقف معها وسار إلى تلك، وصل ونجا.

في «المسند» عن ابن عباس: «أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: اضرب له مثلا، فقال: إنّ مثله ومثل أمّته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة، فلم يكن معهم من الزّاد ما يقطعون به المفازة، ولا ما يرجعون به، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلّة حبرة، فقال: أرأيتم إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أتتبعوني؟ قالوا: نعم. قال: فانطلق بهم فأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا، فقال لهم: ألم ألقكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتّبعوني؟ قالوا: بلى. قال:

فإنّ بين أيديكم رياضا هي أعشب من هذه، وحياضا هي أروى من هذه، فاتّبعوني. قال: فقالت طائفة صدق والله، لنتّبعنّه. وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه

(1)

.

(1)

أخرجه: أحمد (1/ 267)، وفي إسناده: علي بن زيد بن جدعان، ويوسف بن مهران وهما ضعيفان.

ورواه البزار (2407 - كشف)، والطبراني في «الكبير» (12940).

ص: 539

وقد خرّجه ابن أبي الدنيا وغيره عن الحسن مرسلا بسياق أبسط من هذا، وفيه «أنّهم لما رتعوا وسمنوا وأعجبهم المنزل صاح بهم، فقال: ارتحلوا؛ فإنّ هذه الروضة ذاهبة، وإنّ هذا الماء غائر ذاهب، وإنّ أمامكم روضة أعشب من هذه، وماء أروى من هذا الماء. فكره ذلك عامّة الناس، وقالوا: ما نريد بدلا، وهم أكثر الناس. وقال آخرون: والله إنّ آخر قوله كأوّله، ارتحلوا، فأبوا، فارتحل قوم فنجوا، ولم يشعر الذين أقاموا حتى طرقهم العدوّ ليلا، فأصبحوا من بين قتيل وأسير» .

الدنيا خضراء الدّمن. ومعنى ذلك أن خضرتها نابتة على مزبلة منتنة.

يا دني الهمّة، قنعت بروضة على مزبلة، والملك يدعوك إلى فردوسه الأعلى {أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ} [التّوبة: 38]، أرضيتم بخرابات البلى من الفردوس؟ يا لها صفقة غبن ما أخسرها! أتقنع بخسائس الحشائش والرّياض معشبة بين يديك؟

فإن حننت للحمى وروضه

فبالغضى ماء وروضات أخر

وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أخذه بحقه ووضعه في حقه، فنعم المعونة هو؛ ومن أخذه بغير حقّه، كان كالذي يأكل ولا يشبع» . تقسيم لمن يأخذ المال إلى قسمين:

فأحدهما: يشبه حال آكلة الخضر، وهو من أخذه بحقه ووضعه في حقّه؛ وذكر أنه نعم المعونة هو؛ فإنّه نعم العون لمن هذه صفته على الآخرة، كما في حديث عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«نعم المال الصّالح للرجل الصّالح»

(1)

، وهو الذي يأخذه بحقه ويضعه في حقه، فهذا يوصله ماله

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 197).

ص: 540

إلى الله عز وجل، فمن أخذ من المال بحقّه ما يقوّيه على طاعة الله، ويستعين به عليها، كان أخذه طاعة، ونفقته طاعة.

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك»

(1)

. وفي حديث آخر: «ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت أهلك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة»

(2)

. فما أخذ من الدّنيا بنيّة التقوّي على طلب الآخرة فهو داخل في قسم إرادة الآخرة والسّعي لها، لا في إرادة الدنيا والسعي لها.

قال الحسن: ليس من حب الدنيا طلبك ما يصلحك فيها، ومن زهدك فيها ترك الحاجة يسدّها عنك تركها. ومن أحبّ الدنيا وسرّته ذهب خوف الآخرة من قلبه. وقال سعيد بن جبير: متاع الغرور ما يلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يلهك فليس بمتاع الغرور، ولكنّه بلاغ إلى ما هو خير منه. وقال بعض العارفين: كلّ ما أصبت من الدنيا تريد به الدنيا فهو مذموم، وكلّ ما أصبت منها تريد به الآخرة فليس من الدنيا. وقال أبو سليمان: الدنيا حجاب عن الله لأعدائه، ومطيّة موصلة إليه لأوليائه، فسبحان من جعل شيئا واحدا سببا للاتصال به والانقطاع عنه.

والقسم الثاني: يشبه حاله حال البهائم التي ترعى مما ينبت الربيع، فيقتلها حبطا أو يلمّ، وهو من يأخذ المال بغير حقّه، فيأخذه من الوجوه المحرمة، فلا

(1)

أخرجه: البخاري (2/ 103)(1296)، ومسلم (5/ 71)(1628)، وأبو داود (2864).

(2)

أخرجه: أحمد (4/ 131) عن المقدام بن معديكرب.

وصححه الألباني، وراجع:«الصحيحة» (452).

ص: 541

يقنع منه بقليل ولا بكثير، ولا تشبع نفسه منه، ولهذا قال:«وكان كالّذي يأكل ولا يشبع» . و «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوّذ من نفس لا تشبع»

(1)

.

وفي حديث زيد بن ثابت، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«من كانت الدّنيا همّه، فرّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدّنيا إلاّ ما كتب له»

(2)

. فمن كان فقره بين عينه لم يزل خائفا من الفقر، لا يستغني قلبه بشيء، ولا يشبع من الدنيا؛ فإنّ الغنى غنى القلب، والفقر فقر النفس.

وفي حديث خرّجه «الطبراني» مرفوعا: «الغنى في القلب، والفقر في القلب، ومن كان الغنى في قلبه فلا يضرّه ما لقي من الدّنيا، ومن كان الفقر في قلبه فلا يغنيه ما أكثر له منها، وإنما يضرّ نفسه»

(3)

.

وعن عيسى عليه السلام، قال: مثل طالب الدنيا كشارب البحر، كلما زاد شربا منه زاد عطشا حتى يقتله. قال يحيى بن معاذ: من كان غناه في قلبه لم يزل غنيّا، ومن كان غناه في كسبه لم يزل فقيرا، ومن قصد المخلوقين لحوائجه لم يزل محروما.

ويشهد لذلك كلّه الحديث الصحيح، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التّراب، ويتوب الله على من تاب»

(4)

.

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 283)، والنسائي (8/ 263) عن أنس رضي الله عنه، ورواه أيضا أحمد (198/ 2، 167)، والترمذي (3482) عن ابن عمرو رضي الله عنهما. وقال الترمذي:«حسن صحيح» .

(2)

أخرجه: أحمد (5/ 183)، وأبو داود (3660)، وابن ماجه (4105)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (948).

(3)

أخرجه: الطبراني في «الكبير» (1643)، وابن حبان (685)، والحاكم (4/ 327).

وراجع: «المجمع» (10/ 237).

(4)

أخرجه: البخاري (8/ 115)(6439)، ومسلم (3/ 99)(1048)، عن أنس رضي الله عنه.

ص: 542

لو فكّر الطامع في عاقبة الدنيا لقنع، ولو تذكّر الجائع إلى فضول مآلها لشبع.

هب أنّك قد ملكت الأرض طرّا

ودان لك العباد فكان ماذا

أليس إذا مصيرك جوف قبر

(1)

ويحثي التّرب هذا ثمّ هذا

وقد ضرب الله تعالى في كتابه مثل الدنيا وخضرتها ونضرتها وبهجتها وبهجتها وسرعة تقلّبها وزوالها، وجعل مثلها كمثل نبات الأرض النابت من مطر السماء في تقلّب أحواله ومآله.

قال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف: 45].

وقال تعالى: {إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].

وقال تعالى: {اِعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ} [الزمر: 21].

فالدّنيا وجميع ما فيها من الخضرة والبهجة والنّضرة تتقلّب أحواله وتتبدّل،

ص: 543

ثم تصير حطاما يابسا. وقد عدّد سبحانه زينة الدّنيا ومتاعها المبهج في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].

وهذا كلّه يصير ترابا، ما خلا الذهب والفضة، ولا ينتفع بأعيانهما، بل هما قيم الأشياء، فلا ينتفع صاحبهما بإمساكهما، وإنما ينتفع بإنفاقهما، ولهذا قال الحسن: بئس الرفيق الدّرهم والدّينار، لا ينفعانك حتى يفارقانك.

وأجسام بني آدم، بل وسائر الحيوانات، كنبات الأرض تتقلّب من حال إلى حال، ثم تجفّ وتصير ترابا، قال الله تعالى:{وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً} [نوح: 17 - 18].

وما المرء إلاّ كالنّبات وزهره

يعود رفاتا بعد ما هو ساطع

فينتقل ابن آدم [في أطواره إلى الشّباب، ثم ينتقل]

(1)

من الشباب إلى الهرم، ومن الصحة إلى السّقم، ومن الوجود إلى العدم، كما قيل:

وما حالاتنا إلاّ ثلاث

شباب ثمّ شيب ثمّ موت

وآخر ما يسمّى المرء شيخا

ويتلوه من الأسماء ميت

مدة الشباب قصيرة كمدة زهر الربيع وبهجته ونضارته، فإذا يبس وابيضّ فقد آن ارتحاله، كما أنّ الزرع إذا ابيضّ فقد آن حصاده. وأجلّ زهور الربيع الورد، ومتى كثر فيه البياض فقد قرب زمن انتقاله. قال وهيب بن الورد:

إنّ لله ملكا ينادي في السّماء كلّ يوم: أبناء الخمسين، زرع دنا حصاده.

(1)

زيادة من (أ).

ص: 544

وفي حديث مرفوع: «إنّ لكلّ شيء حصادا، وحصاد أمّتي ما بين السّتّين إلى السّبعين»

(1)

.

قد يبلغ الزّرع منتهاه

لا بدّ للزّرع من حصاد

وقد يدرك الزرع آفة قبل بلوغ حصاده فيهلك، كما أشير إليه في قوله تعالى:

{حَتّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} الآية [يونس: 24]. قال ميمون بن مهران لجلسائه: يا معشر الشيوخ، ما ينتظر بالزّرع إذا ابيضّ؟ قالوا:

الحصاد، فنظر إلى الشباب، فقال: يا معشر الشباب، إنّ الزّرع قد تدركه الآفة قبل أن يستحصد.

وقال بعضهم: أكثر من يموت الشباب، وآية ذلك أنّ الشيوخ في الناس قليل.

أيا ابن آدم لا تغررك عافية

عليك ضافية فالعمر معدود

ما أنت إلاّ كزرع عند خضرته

بكلّ شيء من الآفات مقصود

فإن سلمت من الآفات أجمعها

فأنت عند كمال الأمر محصود

كلّ ما في الدنيا فهو مذكّر بالآخرة، ودليل عليه؛ فنبات الأرض واخضرارها في الربيع بعد محولها ويبسها في الشتاء، وإيناع الأشجار واخضرارها بعد كونها خشبا يابسا يدلّ على بعث الموتى من الأرض، وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه في مواضع كثيرة، قال الله تعالى:{وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ}

(1)

أخرجه: ابن عساكر عن أنس كما في «كنز العمال» (42695)، وضعفه الألباني في «الضعيفة» (4321).

ص: 545

{وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 5 - 7].

وقال الله تعالى: {وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9 - 11]. وقال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 57].

قال أبو رزين للنبي صلى الله عليه وسلم: «كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: هل مررت بواد أهلك محلا، ثم مررت به يهتزّ خضرا؟ قال: نعم. قال:

كذلك يخرج الله الموتى، وذلك آيته في خلقه». خرّجه الإمام أحمد

(1)

.

وقصر مدّة الزّرع والثمار وعود الأرض بعد ذلك إلى يبسها، والشجر إلى حالها الأول، كعود ابن آدم بعد كونه حيّا إلى التراب الذي خلق منه.

وفصول السنة تذكّر بالآخرة؛ فشدّة حرّ الصيف يذكّر بحرّ جهنم، وهو من سمومها؛ وشدة برد الشتاء يذكّر بزمهرير جهنّم وهو من زمهريرها، والخريف يكمل فيه اجتناء الثمرات التي تبقى وتدّخر في البيوت، فهو منبّه على اجتناء ثمرات الأعمال في الآخرة. وأمّا الرّبيع فهو أطيب فصول السّنة، وهو يذكّر بنعيم الجنة وطيب عيشها، فينبغي أن يحثّ المؤمن على الاستعداد لطلب الجنّة بالأعمال الصّالحة.

كان بعض السّلف يخرج في أيام الرّياحين والفواكه إلى السوق، فيقف وينظر ويعتبر، ويسأل الله الجنّة. ومرّ سعيد بن جبير بشباب من أبناء الملوك

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 11).

ص: 546

جلوس في مجالسهم في زينتهم، فسلّموا عليه، فلمّا بعد عنهم بكى واشتدّ بكاؤه، وقال: ذكّرني هؤلاء شباب أهل الجنّة.

تزوّج صلة بن أشيم بمعاذة العدويّة، وكانا من كبار الصالحين، فأدخله ابن أخيه الحمّام، ثم أدخله على زوجته في بيت مطيّب منجّد، فقاما يصليان إلى الصباح، فسأله ابن أخيه عن حاله، فقال: أدخلتني بالأمس بيتا أذكرتني به النّار - يعني الحمّام - وأدخلتني الليلة بيتا أذكرتني به الجنّة، فلم يزل فكري في الجنة والنار إلى الصباح.

دعا عبد الواحد بن زيد إخوانه إلى طعام صنعه لهم، فقام على رءوسهم عتبة الغلام يخدمهم وهو صائم، وهم يأكلون، فجعلت عيناه تهملان. فسأله عبد الواحد عن سبب بكائه، فقال: ذكرت موائد أهل الجنّة إذا أكلوا وقام الولدان على رءوسهم، إنما خلقت الدّنيا مرآة لننظر بها إلى الآخرة لا لننظر إليها ونوقف معها.

كفى حزنا أن لا أعاين بقعة

من الأرض إلاّ ازددت شوقا إليكم

وإني متى ما طاب لي خفض عيشة

تذكّرت أيّاما مضت لي لديكم

تدقيق النظر والفكر في حال النبات يستدلّ به المؤمن على عظمة خالقه وكمال قدرته ورحمته، فتزداد القلوب هيمانا في محبّته، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99].

زمان الربيع كلّه واعظ يذكّر بعظمة موجده وكمال قدرته، ويشوّق إلى طيب

ص: 547

مجاورته في دار كرامته، كما قال ابن سمعون في وصف الربيع: أرضه حرير، وأنفاسه عبير، وأوقاته كلّها وعظ وتذكير.

[وقال غيره: الأرض فيه زمرّدة، والأشجار حلل ووشي، والهواء مسك، والنّسيم عبير

(1)

، والماء راح، والطير قيان، والكلّ دالّ على كمال الصّانع، شاهد له بالواحدنية]

(2)

.

أنشد بعضهم في وصف زمان الربيع:

يا قومنا فاح الرّبيع

ولاح للأحباب نجد

الزّهر مسك والرّياض

أريضة والماء جعد

والظّلّ منثور وفي

جيد الشقائق منه عقد

هذا النّسيم معنبر

وضباب هذا النّوء ندّ

والغصن يرقص والغدي

ر مصفّق والورق تشدو

والجوّ بعض منه يا

قوت وبعض لازورد

والكلّ يشهد أنّ صا

نعه قدير وهو فرد

وأنشد آخر:

الطّلّ في سلك الغصون كلؤلؤ

رطب يصافحه النّسيم فيسقط

والطّير يقرأ والغدير صحيفة

والرّيح يكتب والغمام ينقّط

رئي بعض الشعراء المتقدّمين في المنام بعد موته، فسئل عن حاله، فقال:

غفر لي بأبيات قلتها في النّرجس، وهي:

تفكّر في نبات الأرض وانظر

إلى آثار ما صنع المليك

(1)

في (أ): «عنبر» .

(2)

ليس في (ب).

ص: 548

عيون من لجين ناظرات

بأحداق هي الذّهب السّبيك

على قضب الزّبرجد شاهدات

بأنّ الله ليس له شريك

وأنّ محمدا أزكى البرايا

إلى الثقلين أرسله المليك

(1)

سبحان من سبّحت المخلوقات بحمده، فملأ الأكوان تحميده، وأفصحت الكائنات بالشهادة بوحدانيته، فوضح توحيده، يسبّحه النبات جمعه وفريده، والشّجر عتيقه وجديده، ويمجّد رهبان الأطيار في صوامع الأشجار، فيطرب السّامع تمجيده، كلّما درّس الهزار درس شكره فالبلبل بالحمد معيده، وكلّما أقام خطيب الحمام النّوح على منابر الدّوح هيّج المستهام نوحه وتغريده.

{أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت: 19].

وا عجبا للمتقلب بين مشاهدة حكمه وتناول نعمه، ثم لا يشكر نعمه ولا يبصر حكمه، وأعجب من ذلك أن يعصى المنعم بنعمه، هذا عود شجر الكرم يكون يابسا طول الشتاء، ثم إذا جاء الرّبيع دبّ فيه الماء واخضر، ثم يخرج الحصرم فينتفع الناس به حامضّا، ويتناولون منه طبخا واعتصارا، ثم ينقلب حلوا فينتفع الناس به حلوا رطبا ويابسا، ويستخرجون منه ما ينتفعون بحلاوته طول العام، وما يأتدمون بحمضه وهو نعم الإدام.

فهذه التنقّلات توجب للعاقل الدّهش والتعجّب من صنع صانعه وقدرة خالقه، فينبغي له أن يفرغ عقله للتفكّر في هذه النعم والشكر عليها. وأمّا الجاهل فيأخذ العنب فيجعله خمرا فيغطي به العقل الذي ينبغي أن يستعمل في الفكر والشّكر، حتى ينسى خالقه المنعم عليه بهذه النّعم كلّها، فلا يستطيع بعد السّكر أن يذكره ولا يشكره، بل ينسى من خلقه ورزقه، فلا يعرفه في سكره بالكلّيّة، وهذه نهاية كفران النّعم.

(1)

هذا البيت من (أ).

ص: 549

فوا عجبا كيف يعصى الإله

أم كيف يجحده الجاحد

ولله في كلّ تحريكة

وتسكينة أبدا شاهد

وفي كلّ شيء له آية

تدلّ على أنّه واحد

ومن وجوه الاعتبار في النّظر إلى الأرض التي أحياها الله بعد موتها في فصل الربيع بما ساق إليها من قطر السماء، أنه يرجى من كرمه أن يحيي القلوب الميتة بالذنوب وطول الغفلة، بسماع الذّكر النازل من السماء، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] إلى قوله: {اِعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} [الحديد: 17]، ففيه إشارة إلى أنّ من قدر على إحياء الأرض بعد موتها بوابل القطر، فهو قادر على إحياء القلوب الميتة القاسية بالذكر. عسى لمحة من لمحات عطفه، ونفحة من نفحات لطفه، وقد صلح من القلوب كل ما فسد، فهو اللطيف الكريم:

عسى فرج يأتي به الله إنّه

له كلّ يوم في خليقته أمر

إذا اشتدّ عسر فارج يسرا فإنّه

قضى الله أنّ العسر يتبعه اليسر

(1)

عسى من أحيا الأرض الميتة بالقطر أن يحيي القلوب الميتة بالذّكر. عسى نفحة من نفحات رحمته تهب؛ فمن أصابته سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا.

إذا ما تجدّد فصل الرّبيع

تجدّد للقلب فضل

(2)

الرّجاء

عسى الحال يصلح بعد الذنوب

كما الأرض تهتزّ بعد الشتاء

ومن ذا الذي ليس يرجوك ربّ

وربع عطائك رحب الفناء

***

(1)

هذا البيت من (أ).

(2)

في (أ): «فصل» .

ص: 550

‌المجلس الثاني في ذكر فصل الصيف

خرّجا في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:

«اشتكت النّار إلى ربّها، فقالت: يا ربّ أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين؛ نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فأشدّ ما تجدون من الحرّ من سموم جهنّم، وأشدّ ما تجدون من البرد من زمهرير جهنّم»

(1)

.

لا شكّ أنّ الله تعالى خلق لعباده دارين يجزيهم فيهما بأعمالهم، مع البقاء في الدّارين من غير موت؛ وخلق دارا معجّلة للأعمال وجعل فيها موتا وحياة، وابتلى عباده فيهما بما أمرهم به ونهاهم عنه، وكلفهم فيها الإيمان بالغيب؛ ومنه الإيمان بالجزاء والدّارين المخلوقتين له، وأنزل بذلك الكتب، وأرسل به الرّسل، وأقام الأدلّة الواضحة على الغيب الذي أمر بالإيمان به، وأقام علامات وأمارات تدلّ على وجود داري الجزاء؛ فإنّ إحدى الدّارين المخلوقتين للجزاء دار نعيم محض لا يشوبه ألم، والأخرى دار عذاب محض لا يشوبه راحة.

وهذه الدار الفانية ممزوجة بالنّعيم والألم؛ فما فيها من النّعيم يذكّر بنعيم الجنة، وما فيها من الألم يذكر بألم النار، وجعل الله تعالى في هذه الدار أشياء كثيرة تذكّر بدار الغيب المؤجّلة الباقية:

فمنها: ما يذكّر بالجنّة من زمان ومكان:

(1)

أخرجه: البخاري (4/ 146)(537)(3260)، ومسلم (2/ 108)(617)، والترمذي (2592)، وابن ماجه (4319).

ص: 551

أمّا الأماكن؛ فخلق الله تعالى بعض البلدان؛ كالشام وغيرها، فيها من المطاعم والمشارب والملابس وغير ذلك من نعيم الدنيا ما يذكّر بنعيم الجنّة.

وأمّا الأزمان؛ فكزمن الرّبيع؛ فإنّه يذكّر طيبه بنعيم الجنّة وطيبها، وكأوقات الأسحار؛ فإنّ بردها يذكّر ببرد الجنة.

وفي الحديث الذي خرّجه الطبراني: «إنّ الجنّة تفتح في كلّ ليلة في السحر، فينظر الله إليها، فيقول لها: ازدادي طيبا لأهلك، فتزداد طيبا، فذلك برد السّحر الذي يجده الناس» . وروى سعيد الجريريّ، عن سعيد بن أبي الحسن، أن داود عليه السلام قال: يا جبريل، أيّ الليل أفضل؟ قال: ما أدري، غير أنّ العرش يهتزّ إذا كان من السّحر، ألا ترى أنه يفوح ريح كلّ الشجر.

ومنها: ما يذكّر بالنّار:

فإنّ الله تعالى جعل في الدنيا أشياء كثيرة تذكّر بالنار المعدّة لمن عصاه وبما فيها من الآلام والعقوبات من أماكن وأزمان وأجسام وغير ذلك:

أمّا الأماكن؛ فكثير من البلدان مفرطة الحرّ أو البرد، فبردها يذكّر بزمهرير جهنّم، وحرّها يذكّر بحرّ جهنّم وسمومها، وبعض البقاع يذكّر بالنار، كالحمّام. قال أبو هريرة: نعم البيت الحمّام يدخله المؤمن فيزيل به الدّرن، ويستعيذ بالله فيه من النّار

(1)

.

كان السّلف يذكرون النّار بدخول الحمّام، فيحدث ذلك لهم عبادة. دخل ابن وهب الحمّام، فسمع تاليا يتلو:{وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النّارِ} [غافر: 47]، فغشي عليه.

وتزوّج صلة بن أشيم، فدخل الحمّام، ثم دخل على زوجته تلك الليلة، فقام

(1)

أخرجه: ابن أبي شيبة في «مصنفه» (1170).

ص: 552

يصلّي حتى أصبح، وقال: دخلت بالأمس بيتا أذكرني النّار، ودخلت الليلة بيتا ذكرت به الجنّة، فلم يزل فكري فيهما حتى أصبحت. كان بعض السّلف إذا أصابه كرب الحمّام يقول: يا برّ يا رحيم، منّ علينا وقنا عذاب السّموم.

صبّ بعض الصالحين على رأسه ماء من الحمّام فوجده شديد الحرّ، فبكى، وقال: ذكرت قوله تعالى: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحجّ: 19].

كل ما في الدنيا يدلّ على صانعه، ويذكّر به، ويدلّ على صفاته؛ فما فيها من نعيم وراحة يدلّ على كرم خالقه وفضله وإحسانه وجوده ولطفه، وما فيها من نقمة وشدّة وعذاب يدلّ على شدّة بأسه وبطشه وقهره وانتقامه. واختلاف أحوال الدّنيا من حرّ وبرد وليل ونهار وغير ذلك يدلّ على انقضائها وزوالها.

قال الحسن: كانوا - يعني الصحابة - يقولون: الحمد لله الرفيق الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا ينصرف، لقال الشاك في الله: لو كان لهذا الخلق ربّ لحادثه، وإن الله قد حادث بما ترون من الآيات، إنّه جاء بضوء طبّق ما بين الخافقين، وجعل فيها معاشا وسراجا وهّاجا، ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق وجاء بظلمة طبّقت ما بين الخافقين، وجعل فيها سكنا ونجوما وقمرا منيرا، وإذا شاء بنى بناء جعل فيه المطر والبرق والرّعد والصّواعق ما شاء، وإذا شاء صرف ذلك الخلق، وإذا شاء جاء ببرد يقرقف النّاس، وإذا شاء ذهب بذلك وجاء بحرّ يأخذ بأنفاس النّاس؛ ليعلم الناس أنّ لهذا الخلق ربّا هو يحادثه بما ترون من الآيات، كذلك إذا شاء ذهب بالدنيا وجاء بالآخرة.

وقال خليفة العبدي: لو أنّ الله لم يعبد إلاّ عن رؤية ما عبده أحد، ولكنّ المؤمنين تفكّروا في مجيء هذا الليل إذا جاء فطبّق كلّ شيء، وملأ كلّ شيء، ومحا سلطان النهار؛ وتفكّروا في مجيء النّهار إذا جاء، فملأ كلّ شيء، وطبّق كلّ شيء؛ ومحا سلطان الليل.

ص: 553

وتفكروا في {وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164]؛ وتفكّروا في {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ} [البقرة: 164]؛ وتفكّروا في مجيء الشتاء والصيف، فو الله ما زال المؤمنون يتفكرون فيما خلق لهم ربّهم حتى أيقنت قلوبهم، وحتى كأنّما عبدوا الله عن رؤيته.

يذكّرنيك الحرّ والبرد، والذي أخاف وأرجو، والذي أتوقّع. ما رأى العارفون شيئا من الدنيا إلاّ تذكّروا به ما وعد الله به من جنسه في الآخرة.

قلوب العارفين لها عيون

ترى ما لا يراه النّاظرونا

وأمّا الأزمان؛ فشدّة الحر والبرد يذكّر بما في جهنّم من الحر والزمهرير، وقد دلّ هذا الحديث الصحيح على أنّ ذلك من تنفس النار في ذلك الوقت.

قال الحسن: كلّ برد أهلك شيئا فهو من نفس جهنّم، وكلّ حرّ أهلك شيئا فهو من نفس جهنّم. وفي الحديث الصحيح أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا اشتدّ الحرّ فأبردوا بالصّلاة، فإنّ شدّة الحرّ من فيح جهنّم»

(1)

.

وفي حديث مرفوع خرّجه عثمان الدارميّ وغيره: «إذا كان يوم شديد الحرّ، فقال العبد: لا إله إلا الله، ما أشدّ حرّ هذا اليوم، اللهم أجرني من حرّ جهنّم، قال الله لجهنّم: إنّ عبدا من عبادي قد استجار بي منك، وقد أجرته.

وإذا كان يوم شديد البرد، فقال العبد: لا إله إلا الله، ما أشدّ برد هذا اليوم! اللهم أجرني من زمهرير جهنّم، قال الله لجهنّم: إنّ عبدا من عبادي قد استجار بي من زمهريرك، وإني أشهدك أنّي قد أجرته. قالوا: وما زمهرير جهنّم؟ قال: بيت يلقى فيه الكافر فيتميّز من شدّه برده».

(1)

أخرجه: البخاري (1/ 142)(534)، ومسلم (108، 2/ 107)(615)، وأحمد (666/ 2، 462، 394، 285، 238)، والترمذي (157)، والنسائي (1/ 248)، وابن ماجه (678)، وأبو داود (402)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 554

أبواب النار مغلقة، وتفتح أحيانا؛ فتفتح أبوابها كلها عند الظهيرة، ولذلك يشتدّ الحرّ حينئذ فيكون في ذلك تذكرة بنار جهنّم.

وأمّا الأجسام المشاهدة في الدنيا المذكّرة بالنّار؛ فكثيرة:

منها: الشمس عند اشتداد حرّها، وقد روي أنّها خلقت من النّار وتعود إليها.

وخرّج الطبراني بإسناده «أنّ رجلا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نزع ثيابه، ثم تمرّغ في الرّمضاء وهو يقول لنفسه: ذوقي، نار جهنّم أشدّ حرّا؛ جيفة بالليل، بطّال بالنّهار. فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، غلبتني نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:

لقد فتحت لك أبواب السّماء، وباهى الله بك الملائكة».

وأمّا البروز للشمس تعبّدا بذلك فغير مشروع؛ فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأبي إسرائيل لما رآه قائما في الشمس، فأمره أن يجلس ويستظلّ، وكان نذر أن يقوم في الشمس مع الصّوم، فأمره أن يتمّ صومه فقط

(1)

. وإنما يشرع البروز للشمس للمحرم، كما قال ابن عمر رضي الله عنهما لمحرم رآه قد استظلّ:«اضح لمن أحرمت له» ، أي ابرز إلى الضّحاء، وهو حرّ الشمس. كان بعضهم إذا أحرم لم يستظلّ، فقيل له: لو أخذت بالرّخصة؛ فأنشد:

ضحيت له كي أستظلّ بظلّه

إذا الظلّ أضحى في القيامة قالصا

فوا أسفا إن كان سعيك خائبا

ووا أسفا إن كان حظّك ناقصا

وممّا يؤمر بالصّبر فيه على حرّ الشمس النفير للجهاد في الصيف، كما قال تعالى عن المنافقين:{وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ} [التّوبة: 81]. وكذلك في المشي إلى المساجد للجمع والجماعات،

(1)

أخرجه: البخاري (8/ 178)(6704)، وأبو داود (3300) عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 555

وشهود الجنائز ونحوها من الطاعات، والجلوس في الشمس لانتظار ذلك، حيث لا يوجد ظلّ.

خرج رجل من السلف إلى الجمعة، فوجد الناس قد سبقوه إلى الظلّ، فقعد في الشمس، فناداه رجل من الظّلّ أن يدخل إليه، فأبى أن يتخطّى الناس لذلك، ثم تلا:{وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].

كان بعضهم إذا رجع من الجمعة في حرّ الظهيرة يذكر انصراف النّاس من موقف الحساب إلى الجنّة أو النار؛ فإنّ السّاعة تقوم يوم الجمعة، ولا ينتصف ذلك النّهار حتى يقيل أهل الجنّة في الجنّة، وأهل النّار في النار؛ قاله ابن مسعود، وتلا قوله تعالى:{أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24].

وينبغي لمن كان في حرّ الشمس أن يتذكّر حرّها في الموقف؛ فإنّ الشمس تدنو من رءوس العباد يوم القيامة ويزاد في حرّها، وينبغي لمن لا يصبر على حرّ الشمس في الدنيا أن يجتنب من الأعمال ما يستوجب صاحبه دخول النار؛ فإنّه لا قوّة لأحد عليها ولا صبر.

قال قتادة، وقد ذكر شراب أهل جهنّم، وهو ما يسيل من صديدهم من الجلد واللحم، فقال: هل لكم بهذا يدان أم لكم عليه صبر؟ طاعة الله أهون عليكم يا قوم، فأطيعوا الله ورسوله.

نسيت لظى عند ارتكابك للهوى

وأنت توقّى حرّ شمس الهواجر

كأنّك لم تدفن حميما ولم تكن

له في سياق الموت يوما بحاضر

رأى عمر بن عبد العزيز قوما في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظّلّ، وتوقّوا الغبار، فبكى، ثم أنشد:

ص: 556

من كان حين تصيب الشّمس جبهته

أو الغبار يخاف الشّين والشّعثا

ويألف الظّلّ كي تبقى بشاشته

فسوف يسكن يوما راغما جدثا

في ظلّ مقفرة غبراء مظلمة

يطيل تحت الثرى في غمّها اللّبثا

تجهّزي بجهاز تبلغين به

يا نفس قبل الرّدى لم تخلقي عبثا

وممّا يضاعف ثوابه في شدّة الحرّ من الطّاعات الصّيام؛ لما فيه من ظمإ الهواجر؛ ولهذا كان معاذ بن جبل يتأسّف عند موته على ما يفوته من ظمإ الهواجر، وكذلك غيره من السّلف. وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يصوم في الصّيف ويفطر في الشتاء.

ووصّى عمر رضي الله عنه عند موته ابنه عبد الله، فقال له: عليك بخصال الإيمان، وسمّى أوّلها الصّوم في شدّة الحر في الصيف. قال القاسم بن محمد: كانت عائشة رضي الله عنها تصوم في الحرّ الشديد. قيل له: ما حملها على ذلك؟ قال: كانت تبادر الموت. وكان مجمّع التيميّ يصوم في الصيف حتى يسقط.

كانت بعض الصّالحات تتوخّى أشدّ الأيام حرّا فتصومه، فيقال لها في ذلك، فتقول: إنّ السّعر إذا رخص اشتراه كلّ أحد؛ تشير إلى أنّها لا تؤثر إلاّ العمل الذي لا يقدر عليه إلاّ قليل من الناس؛ لشدّته عليهم. وهذا من علوّ الهمّة.

كان أبو موسى الأشعري في سفينة، فسمع هاتفا يهتف: يا أهل المركب، قفوا، يقولها ثلاثا، فقال أبو موسى: يا هذا، كيف نقف؟ أما ترى ما نحن فيه، كيف نستطيع وقوفا؟ فقال الهاتف: ألا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه؟ قال: بلى، أخبرنا، قال: فإنّ الله قضى على نفسه أنّه من عطّش نفسه لله في يوم حارّ؛ كان حقّا على الله أن يرويه يوم القيامة. فكان أبو موسى يتوخّى ذلك اليوم الحارّ الشديد الحرّ، الذي يكاد الإنسان ينسلخ منه، فيصومه.

ص: 557

قال كعب: إنّ الله تعالى قال لموسى عليه السلام: إنّي آليت على نفسي أنّه من عطّش نفسه لي أن أرويه يوم القيامة. وقال غيره: مكتوب في التوراة: طوبى لمن جوّع نفسه ليوم الشبع الأكبر، طوبى لمن عطّش نفسه ليوم الرّيّ الأكبر.

قال الحسن: تقول الحوراء لوليّ الله وهو متكئ معها على نهر الخمر في الجنّة تعاطيه الكأس في أنعم عيشة: أتدري أي يوم زوجنيك الله؟ إنّه نظر إليك في يوم صائف بعيد ما بين الطرفين، وأنت في ظمإ هاجرة، من جهد العطش، فباهى بك الملائكة، وقال: انظروا إلى عبدي، ترك زوجته ولذّته وطعامه وشرابه من أجلي؛ رغبة فيما عندي، اشهدوا أنّي قد غفرت له؛ فغفر لك يومئذ وزوجنيك.

لمّا سار عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام كان معاوية يسأله أن يرفع إليه حوائجه فيأبى، فلمّا أكثر عليه، قال: حاجتي أن تردّ عليّ من حرّ البصرة، لعلّ الصّوم أن يشتدّ عليّ شيئا؛ فإنّه يخفّ عليّ في بلادكم.

نزل الحجّاج في بعض أسفاره بماء بين مكة والمدينة، فدعا بغدائه، ورأى أعرابيّا فدعاه إلى الغداء معه، فقال له: دعاني من هو خير منك فأجبته. قال:

ومن هو؟ قال: الله تعالى، دعاني إلى الصيام فصمت. قال: في هذا الحرّ الشديد؟! قال: نعم، صمت ليوم هو أشدّ منه حرّا. قال: فأفطر وصم غدا، قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد أفطرت، قال: ليس ذلك إليّ، قال: فكيف تسألني عاجلا بآجل لا تقدر عليه.

خرج ابن عمر في سفر معه أصحابه، فوضعوا سفرة لهم، فمرّ بهم راع فدعوه إلى أن يأكل معهم، قال: إني صائم، فقال ابن عمر: في مثل هذا اليوم الشديد حرّه وأنت بين هذه الشّعاب في آثار هذه الغنم وأنت صائم؟! فقال:

ص: 558

أبادر أيّامي هذه الخالية. فعجب منه ابن عمر، فقال له

(1)

: هل لك أن تبيعنا شاة من غنمك ونطعمك من لحمها ما نفطر عليه، ونعطيك ثمنها؟ قال: إنّها ليست لي، إنّها لمولاي. قال: فما عسيت أن يقول لك مولاك إن قلت: أكلها الذئب. فمضى الرّاعي وهو رافع أصبعه إلى السّماء، وهو يقول: فأين الله! فلم يزل ابن عمر يردد كلمته هذه. فلمّا قدم المدينة بعث إلى سيد الراعي، فاشترى منه الراعي والغنم، فأعتق الراعي ووهب له الغنم.

نزل روح بن زنباع منزلا بين مكّة والمدينة في حرّ شديد، فانقضّ عليه راع من جبل، فقال له: يا راعي، هلمّ إلى الغداء، قال: إنّي صائم، قال: أفتصوم في هذا الحر؟ قال: أفأدع أيامي تذهب باطلا؟! فقال روح: لقد ضننت بأيّامك يا راعي إذ جاء بها روح بن زنباع.

كان ابن عمر يصوم تطوّعا فيغشى عليه فلا يفطر. وكان الإمام أحمد يصوم حتّى يكاد يغمى عليه، فيمسح على وجهه الماء، وسئل عمن يصوم فيشتدّ عليه الحرّ، قال: لا بأس أن يبلّ ثوبا يتبرّد به، ويصبّ عليه الماء [وهو صائم]

(2)

. «كان النبي صلى الله عليه وسلم بالعرج يصبّ على رأسه الماء وهو صائم» . وكان أبو الدّرداء يقول: صوموا يوما شديدا حرّه لحرّ يوم النّشور، وصلّوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور.

وفي «الصحيحين» عن أبي الدّرداء رضي الله عنه، قال:«لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في اليوم الحارّ الشديد الحرّ، وإنّ الرجل ليضع يده على رأسه من شدّة الحرّ، وما في القوم أحد صائم إلاّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة»

(3)

. وفي رواية: إنّ ذلك كان في شهر رمضان.

(1)

زاد في (ص، ب): «ابن عمر» .

(2)

من (ص، ب).

(3)

أخرجه: البخاري (3/ 44)(1945)، ومسلم (3/ 145)(1122)، وأبو داود (2409).

ص: 559

لمّا صبر الصّائمون لله في الحرّ على شدّة العطش والظمإ، أفرد لهم بابا من أبواب الجنّة، وهو باب الريّان؛ من دخله شرب، ومن شرب لم يظمأ بعدها أبدا، فإذا دخلوا أغلق على من بعدهم فلا يدخل منه غيرهم.

وقد تحدث أحيانا حوادث غير معتادة تذكّر بالنّار، كالصّواعق، والرّيح الحارّة المحرقة للزرع، قال الله تعالى:{وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ} [الرّعد: 13]. وقد روي أن الصّواعق قطعة من نار تطير من في الملك الّذي يزجر السّحاب عند اشتداد غضبه. وقال الله تعالى: {فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة: 266] والإعصار: الرّيح الشديدة العاصف التي فيها نار، والصّرّ: الرّيح الشّديدة البرد.

وقد عذّب الله تعالى قوم شعيب بالظّلّة، وروي أنّه أصابهم حرّ أخذ بأنفاسهم، فخرجوا من البيوت إلى الصحراء فأظلّتهم سحابة فوجدوا لها بردا، فاجتمعوا تحتها كلّهم، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا كلّهم. فكل هذه العقوبات بسبب المعاصي، وهي من مقدمات عقوبات جهنّم وأنموذجها.

ومما يدلّ على الجنّة والنار أيضا: ما يعجّله الله في الدنيا لأهل طاعته وأهل معصيته؛ فإنّ الله تعالى يعجّل لأوليائه وأهل طاعته من نفحات نعيم الجنّة وروحها ما يجدونه ويشهدونه بقلوبهم، ممّا لا تحيط به عبارة، ولا تحصره إشارة، حتى قال بعضهم: إنّه لتمرّ بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنّة في مثل ما أنا فيه فإنّهم في عيش طيب.

قال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذّ من أهل اللهو في لهوهم.

وقال بعضهم: الرّضا باب الله الأعظم، وجنّة الدنيا، ومستراح العابدين.

قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ}

ص: 560

{حَياةً طَيِّبَةً} [النّحل: 97]. قال الحسن: يرزقه طاعة يجد لذتها في قلبه.

أهل التقوى في نعيم حيث كانوا في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة.

العيش عيشهم والملك ملكهم

ما النّاس إلاّ هم بانوا أو اقتربوا

وأمّا أهل المعاصي والإعراض عن الله، فإنّ الله يعجّل لهم في الدنيا من أنموذج عقوبات جهنّم ما يعرف أيضا بالتجربة والذّوق، فلا تسأل عمّا هم فيه من ضيق الصّدر وحرجه ونكده، وعمّا يعجّل لهم من عقوبات المعاصي في الدنيا ولو بعد حين من زمن العصيان. وهذا من نفحات الجحيم المعجّلة لهم، ثم ينتقلون بعد هذه الدار إلى أشدّ من ذلك وأضيق، ولذلك يضيق على أحدهم قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويفتح له باب إلى النار، فيأتيه من سمومها، قال الله تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه: 124].

وورد في الحديث المرفوع تفسيرها بعذاب القبر. ثم بعد ذلك يصيرون إلى جهنّم وضيقها، قال الله تعالى:{وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 13 - 14].

وممّا يدلّ أيضا في الدنيا على وجود النّار ويذكّر بها: الحمى التي تصيب بني آدم، وهي نار باطنة؛ فمنها نفحة من نفحات سموم جهنّم، ومنها نفحة من نفحات زمهريرها. وقد روي في حديث خرّجه الإمام أحمد وابن ماجه:«أنّها حظّ المؤمن من النار»

(1)

.

والمراد أنّ الحمى تكفّر ذنوب المؤمن وتنقّيه منها، كما ينقي الكير خبث الحديد. وإذا طهّر المؤمن من ذنوبه في الدنيا، لم يجد حرّ النّار إذا مر عليها

(1)

أخرجه: أحمد (2/ 440)، والترمذي (2088)، وابن ماجه (3470).

وصححه الألباني في «الصحيحة» (1822، 1821).

ص: 561

يوم القيامة؛ لأنّ وجدان الناس لحرّها عند المرور عليها بحسب ذنوبهم؛ فمن طهّر من الذّنوب ونقّي منها في الدنيا، جاز على الصراط كالبرق الخاطف والرّيح، ولم يجد شيئا من حرّ النار، ولم يحسّ بها، تقول النار للمؤمن: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي. وفي حديث جابر المرفوع في «مسند الإمام أحمد» «أنّهم يدخلونها فتكون عليهم بردا وسلاما، كما كانت على إبراهيم حتى إنّ للنار ضجيجا من بردهم»

(1)

.

ومن أعظم ما يذكّر بنار جهنّم: النّار التي في الدنيا، قال الله تعالى:{نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً} [الواقعة: 73]، يعني أنّ نار الدنيا جعلها الله تذكرة تذكّر بنار الآخرة. مرّ ابن مسعود بالحدّادين وقد أخرجوا حديدا من النار، فوقف ينظر إليه ويبكي. وروي عنه أنّه مرّ على الذين ينفخون الكير فسقط. وكان أويس يقف على الحدّادين فينظر إليهم كيف ينفخون الكير، ويسمع صوت النّار، فيصرخ، ثم يسقط، وكذلك الرّبيع بن خثيم.

وكان كثير من السّلف يخرجون إلى الحدّادين ينظرون إلى ما يصنعون بالحديد، فيبكون ويتعوّذون بالله من النّار. ورأى عطاء السّليمي امرأة قد سجرت تنورها، فغشي عليه. قال الحسن: كان عمر ربّما توقد له النار، ثم يدني يده منها، ثم يقول: يا ابن الخطاب، هل لك على هذا صبر؟ كان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه فيه، ويقول: حسّ ثم يعاقب نفسه على ذنوبه. أجّج بعض العبّاد نارا بين يديه وعاتب نفسه، فلم يزل يعاتبها حتى مات.

نار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار جهنّم، وغسلت بالبحر مرتين حتى

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 329).

ص: 562

أشرقت وخفّ حرّها، ولولا ذلك ما انتفع بها أهل الدنيا، وهي تدعو الله ألا يعيدها إليها. قال بعض السّلف: لو أخرج أهل النار منها إلى نار الدنيا لقالوا فيها ألفي عام. يعني أنهم كانوا ينامون فيها ويرونها بردا.

كان عمر يقول: أكثروا ذكر النّار؛ فإنّ حرّها شديد، وإنّ قعرها بعيد، وإنّ مقامعها حديد. كان ابن عمر وغيره من السلف إذا شربوا ماء باردا بكوا وذكروا أمنيّة أهل النار وأنّهم يشتهون الماء البارد، وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون، ويقولون لأهل الجنة:{أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللهُ} [الأعراف:

50]، فيقولون لهم: إنّ الله قد حرمهما على الكافرين. والمصيبة العظمى حين تطبق النّار على أهلها، وييأسون من الفرج، وهو الفزع الأكبر الذي يأمنه أهل الجنة {الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101].

لو أبصرت عيناك أهل الشّقا

سيقوا إلى النّار وقد أحرقوا

شرابهم المهل في قعرها

إذ خالفوا الرّسل وما صدّقوا

تقول أخراهم لأولاهم

في لجج المهل وقد أغرقوا

قد كنتم خوّفتم حرّها

لكن من النّيران لم تفرقوا

وجيء بالنّيران مذمومة

شرارها من حولها محدق

وقيل للنّيران أن أحرقي

وقيل للخزّان أن أطبقوا

***

ص: 563

‌المجلس الثالث في ذكر فصل الشتاء

خرّج الإمام أحمد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«الشتاء ربيع المؤمن»

(1)

. وخرّجه البيهقي وغيره، وزاد فيه:«طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه»

(2)

.

إنّما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنّه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه، كما ترتع البهائم في مرعى الرّبيع، فتسمن وتصلح أجسادها، فكذلك يصلح دين المؤمن في الشتاء بما يسّر الله فيه من الطاعات، فإنّ المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقّة ولا كلفة تحصل له؛ من جوع ولا عطش؛ فإنّ نهاره قصير بارد، فلا يحسّ فيه بمشقّة الصّيام.

وفي «المسند» ، و «الترمذي» عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«الصّيام في الشّتاء الغنيمة الباردة»

(3)

.

وكان أبو هريرة رضي الله عنه، يقول: ألا أدلّكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى، فيقول: الصّيام في الشتاء.

(1)

أخرجه: أحمد (3/ 75).

(2)

أخرجه: البيهقي في «السنن الكبرى» (4/ 297)، وضعفه الألباني كما في «ضعيف الجامع» (3429).

(3)

أخرجه: أحمد (4/ 335)، والترمذي (797)، وقال:«مرسل» .

ص: 564

ومعنى كونها غنيمة باردة أنّها غنيمة حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقّة، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفوا صفوا بغير كلفة.

وأمّا قيام ليل الشتاء، فلطوله يمكن أن تأخذ النفس حظّها من النوم، ثم تقوم بعد ذلك إلى الصلاة، فيقرأ المصلّي ورده كلّه من القرآن وقد أخذت نفسه حظّها من النوم، فيجتمع له فيه نومه المحتاج إليه مع إدراك ورده من القرآن، فيكمل له مصلحة دينه وراحة بدنه. ومن كلام يحيى بن معاذ: الليل طويل فلا تقصّره بمنامك، والإسلام نقيّ فلا تدنّسه بآثامك.

بخلاف ليل الصيف، فإنه لقصره وحرّه يغلب النوم فيه فلا تكاد تأخذ النفس حظّها بدون نومه كلّه، فيحتاج القيام فيه إلى مجاهدة، وقد لا يتمكّن فيه لقصره من الفراغ من ورده من القرآن.

وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: مرحبا بالشتاء تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر في النّهار للصيام. وروي عنه مرفوعا ولا يصحّ رفعه.

وعن الحسن، قال: نعم زمان المؤمن الشتاء، ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه. وعن عبيد بن عمير أنّه كان إذا جاء الشتاء، قال: يا أهل القرآن، طال ليلكم لقراءتكم فاقرءوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا.

قيام ليل الشتاء يعدل صيام نهار الصيف، ولهذا بكى معاذ رضي الله عنه عند موته، وقال: إنّما أبكي على ظمإ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالرّكب عند حلق الذكر. وقال معضد: لولا ثلاث: ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ولذاذة التهجّد بكتاب الله، ما باليت أن أكون يعسوبا.

القيام في ليل الشتاء يشقّ على النفوس من وجهين:

أحدهما: من جهة تألّم النفس بالقيام من الفراش في شدّة البرد؛ قال داود ابن رشيد: قام بعض إخواني إلى ورده بالليل في ليلة شديدة البرد، فكان عليه

ص: 565

خلقان، فضربه البرد فبكى، فهتف به هاتف: أقمناك وأنمناهم، وتبكى علينا! خرّجه أبو نعيم

(1)

.

والثاني: بما يحصل بإسباغ الوضوء في شدّة البرد من التألّم، وإسباغ الوضوء في شدّة البرد من أفضل الأعمال. وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدّرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة، فذلكم الرّباط، فذلكم الرّباط»

(2)

.

وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنّه رأى ربّه عز وجل يعني في المنام - فقال له: يا محمد، فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال: في الدرجات والكفّارات. قال: والكفّارات إسباغ الوضوء في الكريهات، ونقل الأقدام إلى الجمعات - وفي رواية: الجماعات - وانتظار الصّلاة بعد الصلاة، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وكان من خطيئته كيوم ولدته أمّه. والدّرجات:

إطعام الطعام، وإفشاء السّلام، والصّلاة بالليل والنّاس نيام»، وذكر الحديث.

خرّجه الإمام أحمد والترمذي

(3)

. وفي بعض الروايات: «إسباغ الوضوء في السّبرات» . والسّبرة: شدّة البرد. فإسباغ الوضوء في شدّة البرد من أعلى خصال الإيمان.

(1)

أخرجه: أبو نعيم في «الحلية» (8/ 335).

(2)

أخرجه: مسلم (1/ 151)(251)، والنسائي (1/ 89 - 90)، والترمذي (51).

(3)

أخرجه: أحمد (5/ 243)، والترمذي (3235). وذكر عن البخاري أنه قال:«هذا حديث حسن صحيح» .

وراجع: «العلل الكبير» للترمذي (660 - 662)، و «علل الدارقطني» (6/ 54 - 75).

ص: 566

روى ابن سعد بإسناده: أنّ عمر رضي الله عنه وصّى ابنه عبد الله عند موته، فقال له: يا بني، عليك بخصال الإيمان. قال: وما هي؟ قال: الصّوم في شدّة الحرّ أيام الصيف، وقتل الأعداء بالسّيف، والصّبر على المصيبة، وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي، وتعجيل الصّلاة في يوم الغيم، وترك ردغة الخبال. قال:

فقال: وما ردغة الخبال؟ قال: شرب الخمر.

وروى الأوزاعيّ عن يحيى بن أبي كثير، قال: ستّ من كنّ فيه فقد استكمل الإيمان؛ قتال أعداء الله بالسيف، والصّيام في الصيف، وإسباغ الوضوء في اليوم الشاتي، والتبكير بالصّلاة في اليوم الغيم، وترك الجدال والمراء وأنت تعلم أنّك صادق، والصّبر على المصيبة. وقد روي هذا مرفوعا. خرّجه محمد بن نصر المروزي في «كتاب الصلاة» له بإسناد فيه ضعف، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:«ستّ من كنّ فيه بلغ حقيقة الإيمان: ضرب أعداء الله بالسيف، وابتدار الصلاة في اليوم الدّجن، وإسباغ الوضوء عند المكاره، والصّيام في الحرّ، وصبر عند المصائب، وترك المراء وأنت صادق»

(1)

.

وفي كتاب «الزهد» للإمام أحمد، عن عطاء بن يسار قال: قال موسى عليه السلام: يا رب، من هم أهلك الذين هم أهلك، تظلّهم في ظلّ عرشك؟ قال:

هم البريّة أيديهم، الطاهرة قلوبهم الذين يتحابّون لجلالي، الذين إذا ذكرت ذكروا بي، وإذا ذكروا ذكرت بذكرهم، الذي يسبغون الوضوء في المكاره، وينيبون إلى ذكري كما تنيب النّسور إلى أوكارها، ويكلفون بحبّي كما يكلف الصّبيّ بحبّ الناس، ويغضبون لمحارمي إذا استحلّت كما يغضب النّمر إذا حرب.

(1)

أخرجه: ابن نصر في «الصلاة» (443).

وراجع: «الضعيفة» (3692).

ص: 567

وقد روي عن داود بن رشيد، قال: قام رجل ليلة باردة ليتوضأ للصلاة، فأصاب الماء باردا فبكى، فنودي: أما ترضى أنّا أنمناهم وأقمناك حتى تبكي علينا؟ خرّجه ابن السمعاني.

معالجة الوضوء في جوف الليل للتهجّد موجب لرضا الربّ، ومباهاة الملائكة، ففي شدّة البرد يتأكّد ذلك. ففي «المسند» و «صحيح ابن حبان» عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«رجلان من أمّتي؛ يقوم أحدهما من الليل فيعالج نفسه إلى الطّهور وعليه عقد، فيتوضأ، فإذا وضأ يديه انحلّت عقدة، وإذا وضّأ وجهه انحلّت عقدة، وإذا مسح رأسه انحلّت عقدة، وإذا وضّأ رجليه انحلّت عقدة؛ فيقول الرّبّ عز وجل للذين وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يعالج نفسه، ما سألني عبدي هذا فهو له»

(1)

.

وفي حديث عطية، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّ الله ليضحك إلى ثلاثة نفر: رجل قام من جوف الليل فأحسن الطّهور ثم صلّى، ورجل نام وهو ساجد، ورجل في كتيبة منهزمة على فرس جواد لو شاء أن يذهب لذهب»

(2)

.

قال أبو سليمان الداراني: كنت ليلة باردة في المحراب، فأقلقني البرد، فخبّأت إحدى يديّ من البرد، وبقيت الأخرى ممدودة، فغلبتني عيني، فهتفت بي هاتف: يا أبا سليمان، قد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى لوضعنا فيها. قال: فآليت على نفسي ألاّ أدعو إلاّ ويداي خارجتان؛ حرّا كان أو بردا.

(1)

أخرجه: أحمد (201، 4/ 159).

(2)

أخرجه: ابن ماجه (200)، وأحمد (3/ 80).

وراجع: «الضعيفة» (3453).

ص: 568

قال مالك رحمه الله: كان صفوان بن سليم يصلّي - يعني بالليل - في الشتاء في السّطح، وفي الصيف في بطن البيت، يتيقّظ بالحرّ والبرد حتى يصبح، ثم يقول: هذا الجهد من صفوان، وأنت أعلم به، وإنه لترم رجلاه حتّى يعود مثل السّقط من قيام الليل، ثم يظهر فيها عروق خضر. وكان صفوان وغيره من العبّاد يصلّون في الشتاء بالليل في ثوب واحد، ليمنعهم البرد من النوم. ومنهم من كان إذا نعس ألقى نفسه في الماء، ويقول: هذا أهون من صديد جهنّم.

كان عطاء الخراساني ينادي أصحابه بالليل: يا فلان، يا فلان، يا فلان، قوموا فتوضّئوا وصلّوا؛ فقيام هذا الليل، وصيام هذا النهار أهون من شرب الصّديد ومقطعات الحديد غدا في النار. الوحا الوحا، النّجاء النجاء.

كان قوم من العبّاد يبيتون في مسجد، وكانوا يتهجّدون بالليل، فاستيقظ واحد منهم ليلة فوجد إخوانه نياما؛ فسمع هاتفا يهتف من جانب المسجد:

أيا عجبا للنّاس من قرّت عيونهم

مطاعم غمض بعدها الموت منتصب

وطول قيام الليل أيسر مؤنة

وأهون من نّار تفور وتلتهب

وفي الحديث الصحيح «أنّ ابن عمر رأى في منامه كأنّ آتيا أتاه فانطلق به إلى النار حتى رآها، ورأى فيها رجالا يعرفهم معلّقين بالسلاسل. فأتاه ملك، فقال له: لم ترع، لست من أهلها. فقصّ ذلك على أخته حفصة، فقصّته حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم الرجل عبد الله لو كان يصلّي من الليل. فكان ابن عمر بعد ذلك لا ينام من الليل إلاّ قليلا»

(1)

.

قال الحسن: أفضل العبادة الصّلاة في جوف الليل. وقال: هو أقرب ما يتقرّب به إلى الله عز وجل. وقال: ما وجدت في العبادة أشدّ منها. ورئي

(1)

أخرجه: البخاري (9/ 47)(1122)(3739)، ومسلم (7/ 158)(2479).

ص: 569

سلمة بن كهيل في المنام، فقال: وجدت أفضل الأعمال قيام الليل، ما عندهم أشرف منه. ورأى بعض السّلف خياما ضربت، فسأل: لمن هي؟ فقيل:

للمتهجدين بالقرآن، فكان بعد ذلك لا ينام.

فما لي بعيد الدّار لا أقرب الحمى

وقد نصبت للسّاهرين خيام

علامة طردي طول ليلي نائم

وغيري يرى أنّ المنام حرام

ومن الصالحين من كان يلطف به في الحرّ والبرد، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم لعليّ أن يذهب الله عنه الحرّ والبرد، فكان يلبس في الشتاء ثياب الصيف وفي الصيف ثياب الشتاء، ولا يجد حرّا ولا بردا

(1)

.

وكان بعض التابعين يشتدّ عليه الطّهور في الشتاء، فدعا الله عز وجل، فكان يؤتى بالماء في الشتاء وله بخار من حرّه. رأى أبو سليمان في طريق الحجّ في شدّة البرد شيخا عليه خلقان وهو يرشح عرقا، فعجب منه وسأله عن حاله، فقال: إنّما الحرّ والبرد خلقان لله عز وجل، فإن أمرهما أن يغشياني أصاباني، وإن أمرهما أن يتركاني تركاني، وقال: أنا في هذه البرّيّة من ثلاثين سنة، يلبسني في البرد فيحا من محبّته، ويلبسني في الصيف بردا من محبتّه.

وقيل لآخر وعليه خرقتان في يوم برد شديد: لو استترت في موضع يكنّك من البرد. فأنشد:

ويحسن ظنّي أنّني في فنائه

وهل أحد في كنّه يجد البردا

وأمّا من يجد البرد، وهم عامة الخلق، فإنّه يشرع لهم دفع أذاه بما يدفعه من لباس وغيره. وقد امتنّ الله على عباده بأن خلق لهم من أصواف بهيمة الأنعام

(1)

أخرجه: ابن ماجه (117)، وضعّف البوصيري إسناده في «الزوائد» .

ص: 570

وأوبارها وأشعارها ما فيه دفء لهم، قال الله تعالى:{وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ} [النّحل: 5]، وقال الله تعالى:{وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ} [النّحل: 80].

روى ابن المبارك، عن صفوان بن عمرو، عن سليم بن عامر، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا حضر الشتاء تعاهدهم وكتب لهم بالوصيّة: إنّ الشتاء قد حضر وهو عدوّ فتأهّبوا له أهبته من الصّوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصّوف شعارا ودثارا؛ فإنّ البرد عدوّ؛ سريع دخوله، بعيد خروجه.

وإنما كان يكتب بذلك عمر إلى أهل الشام لمّا فتحت في زمنه، فكان يخشى على من بها من الصحابة وغيرهم ممّن لم يكن له عهد بالبرد أن يتأذّى ببرد الشام؛ وذلك من تمام نصيحته وحسن نظره وشفقته وحياطته لرعيته رضي الله عنه.

وروي عن كعب، قال: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: أن تأهّب لعدوّ قد أظلّك. قال: يا رب، من عدوّي وليس بحضرتي عدوّ؟ قال: بلى، الشّتاء.

وليس المأمور به أن يتّقي البرد حتى لا يصيبه منه شيء بالكلّيّة؛ فإنّ ذلك يضرّ أيضا. وقد كان بعض الأمراء يصون نفسه من الحرّ والبرد بالكلية حتى لا يحسّ بهما بدنه، فتلف باطنه وتعجّل موته. فإنّ الله تعالى بحكمته جعل الحرّ والبرد في الدنيا لمصالح عباده؛ فالحرّ لتحلّل الأخلاط، والبرد لجمودها؛ فمتى لم يصب الأبدان شيء من الحر والبرد تعجّل فسادها، ولكن المأمور به اتقاء ما يؤذي البدن من ذلك، فإنّ الحرّ المؤذي والبرد المؤذي معدودان من جملة أعداء بني آدم.

قيل لأبي حازم الزاهد: إنّك لتشدد، يعني في العبادة، فقال: وكيف لا أشدّد وقد ترصّد لي أربعة عشر عدوّا. قيل له: لك خاصّة؟ قال: بل لجميع

ص: 571

من يعقل. قيل له: وما هذه الأعداء؟ قال: أمّا أربعة فمؤمن يحسدني، ومنافق يبغضني، وكافر يقاتلني، وشيطان يغويني ويضلني. أمّا العشرة: فالجوع، والعطش، والحرّ، والبرد، والعري، والمرض، والفاقة، والهرم، والموت، والنّار، ولا أطيقهنّ إلاّ بسلاح تام، ولا أجد لهنّ سلاحا أفضل من التقوى.

فعدّ الحرّ والبرد من جملة أعدائه.

وقال الأصمعي: كانت العرب تسمّي الشتاء الفاضح، فقيل لامرأة منهم:

أيما أشدّ عليكم؛ القيظ أم القرّ؟ قالت: سبحان الله! من جعل البؤس كالأذى؟ فجعلت الشتاء بؤسا، والقيظ أذى.

قال بعض السّلف: إن الله تعالى وصف الجنّة بصفة الصيف لا بصفة الشتاء، فقال تعالى:{فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} [الواقعة: 28 - 31]. وقد قال الله تعالى في صفة أهل الجنة: {مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً} [الإنسان: 13]؛ فنفى عنهم شدّة الحرّ والبرد. قال قتادة: علم الله أنّ شدّة الحرّ تؤذي، وشدّة البرد تؤذي؛ فوقاهم أذاهما جميعا.

قال أبو عمرو بن العلاء: إنّي لأبغض الشتاء لنقص الفروض، وذهاب الحقوق، وزيادة الكلفة على الفقراء. وقد روي في حديث مرفوع: أنّ الملائكة تفرح بذهاب الشتاء؛ لما يدخل فيه على فقراء المؤمنين من الشّدّة.

ولكن لا يصحّ إسناده. وروي أيضا مرفوعا: «خير صيفكم أشدّه حرّا، وخير شتائكم أشدّه بردا، وإنّ الملائكة لتبكي في الشتاء رحمة لبني آدم» . وإسناده أيضا باطل.

وقال بعض السلف: البرد عدوّ الدّين. يشير إلى أنّه يفتر عن كثير من

ص: 572

الأعمال، ويثبط عنها، فتكسل النّفوس بذلك. وقال بعضهم: خلقت القلوب من طين؛ فهي تلين في الشّتاء كما يلين الطين فيه.

قال الحسن: الشّتاء ذكر فيه اللّقاح، والصيف أنثى فيه النّتاج؛ يشير إلى أنّ الصيف تنتج فيه المواشي والشّجر. والصيف عند العرب هو الربيع، وأمّا الذي تسميه الناس الصيف فالعرب يسمّونه القيظ. ففي الشتاء تغور الحرارة إلى باطن الشجرة فتنعقد موادّ الثمر، فتظهر في الربيع مباديها، فتزهر الشجر، ثم تورق، ثم إذا ظهرت الثمار قوي حرّ الشمس؛ لإنضاجها.

الإيثار في الشتاء للفقراء بما يدفع عنهم البرد له فضل عظيم؛ خرج صفوان بن سليم في ليلة باردة بالمدينة من المسجد، فرأى رجلا عاريا، فنزع ثوبه وكساه إياه، فرأى بعض أهل الشام في منامه أنّ صفوان بن سليم دخل الجنّة بقميص كساه، فقدم المدينة، فقال: دلوني على صفوان، فأتاه فقصّ عليه ما رأى.

رأى مسعر أعرابيّا يتشرّق في الشمس، وهو يقول:

جاء الشتاء وليس عندي درهم

ولقد يخصّ بمثل ذاك المسلم

قد قطع النّاس الجباب وغيرها

وكأنّني بفناء مكّة محرم

فنزع مسعر جبّته فألبسه إيّاها.

رفع إلى بعض الوزراء الصالحين أنّ امرأة معها أربعة أطفال أيتام وهم عراة جياع، فأمر رجلا أن يمضي إليهم ويحمل معه ما يصلحهم من كسوة وطعام، ثم نزع ثيابه وحلف: لا لبستها ولا دفيت حتى تعود وتخبرني أنّك كسوتهم وأشبعتهم، فمضى وعاد وأخبره أنّهم اكتسوا وشبعوا وهو يرعد من البرد، فلبس حينئذ ثيابه.

ص: 573

خرّج الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعا: «من أطعم مؤمنا على جوع أطعمه الله يوم القيامة من ثمار الجنّة، ومن سقاه على ظمإ سقاه الله يوم القيامة من الرحيق المختوم، ومن كساه على عري كساه الله من خضر الجنة»

(1)

.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن ابن مسعود، قال:«يحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قطّ، وأجوع ما كانوا قطّ، وأظمأ ما كانوا قطّ؛ فمن كسا لله عز وجل كساه الله، ومن أطعم لله أطعمه الله، ومن سقى لله سقاه الله، ومن عفا لله عفا الله عنه»

(2)

.

ومن فضائل الشتاء أنّه يذكّر بزمهرير جهنّم، ويوجب الاستعاذة منها.

وفي حديث أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إذا كان يوم شديد البرد، فإذا قال العبد: لا إله إلا الله، ما أشدّ برد هذا اليوم! اللهم، أجرني من زمهرير جهنّم، قال الله تعالى لجهنم: إنّ عبدا من عبيدي استجار بي من زمهريرك، وإنّي أشهدك أنّي قد أجرته. قالوا: وما زمهرير جهنّم؟ قال: بيت يلقى فيه الكافر فيتميز من شدّة برده»

(3)

.

قام زبيد الياميّ ذات ليلة للتهجّد، فعمد إلى مطهرة له كان يتوضّأ منها، فغمس يده في المطهرة، فوجد الماء باردا شديدا كاد أن يجمد من شدّة برده؛ فذكر الزمهرير ويده في المطهرة، فلم يخرجها حتى أصبح، فجاءت جاريته وهو على تلك الحال، فقالت: ما شأنك يا سيدي؟ لم تصل الليلة كما كنت

(1)

أخرجه: أبو داود (1682)، والترمذي (2449)، وقال:«غريب، وقد روي هذا عن عطية عن أبي سعيد موقوف، وهو أصح عندنا وأشبه» .

(2)

في (ص، ب): «أعفاه الله» .

(3)

أخرجه: السهمي في «تاريخ جرجان» (978) عن لاحق بن حسين المقدسي وهو وضاع، وانظر ترجمته في «لسان الميزان» .

ص: 574

تصلّي، وأنت قاعد هنا على هذه الحالة؟ فقال: ويحك! إنّي أدخلت يدي في هذه المطهرة فاشتد عليّ برد الماء، فذكرت به الزمهرير، فو الله ما شعرت بشدّة برده حتى وقفت علي، فانظري، لا تحدثي بهذا أحدا ما دمت حيّا. فما علم بذلك أحد حتى مات رحمه الله.

في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّ لجهنّم نفسين؛ نفسا في الشتاء، ونفسا في الصيف، فأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها، وأشد ما تجدون من الحر من سمومها»

(1)

.

وروي عن ابن عباس قال: يستغيث أهل النار من الحرّ فيغاثون بريح باردة يصدّع العظام بردها، فيسألون الحرّ. وعن مجاهد، قال: يهربون إلى الزمهرير، فإذا وقعوا فيه حطّم عظامهم حتى يسمع لها نقيض. وعن كعب، قال: إنّ في جهنّم بردا هو الزّمهرير، يسقط اللحم حتى يستغيثوا بحرّ جهنّم.

وعن عبد الملك بن عمير، قال: بلغني أنّ أهل النار سألوا خازنها أن يخرجهم إلى جانبها، فأخرجوا فقتلهم البرد والزمهرير، حتى رجعوا إليها فدخلوها ممّا وجدوا من البرد، وقد قال الله عز وجل:{لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاّ حَمِيماً وَغَسّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً} [النبأ: 24 - 26]. وقال الله تعالى:

{هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسّاقٌ} [ص: 57]. قال ابن عباس: الغسّاق: الزّمهرير البارد الذي يحرق من برده. وقال مجاهد: هو الذي لا يستطيعون أن يذوقوه من برده. وقيل: إنّ الغسّاق البارد المنتن، أجارنا الله تعالى من جهنّم بفضله وكرمه.

(1)

أخرجه: البخاري (4/ 146)(3260)، ومسلم (2/ 108)(617)، وأحمد (2/ 276، 503) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 575

يا من تتلى عليه أوصاف جهنّم، ويشاهد تنفّسها كلّ عام حتى يحسّ به ويتألّم وهو مصر على ما يقتضي دخولها، مع أنّه يعلم، ستعلم إذا جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام من يندم. ألك صبر على سعيرها وزمهريرها؟ قل وتكلم، ما كان صلاحك يرجى، والله أعلم.

كم يكون الشتاء ثم المصيف

وربيع يمضي ويأتي الخريف

وارتحال من الحرور إلى البر

د وسيف الرّدى عليك منيف

يا قليل المقام في هذه الدّ

نيا إلى كم يغرّك التّسويف

يا طالب الزّائل حتّى متى

قلبك بالزّائل مشغوف

عجبا لامرئ يذلّ لذي الدّ

نيا ويكفيه كلّ يوم رغيف

***

ص: 576

‌مجلس في ذكر التوبة والحث عليها قبل الموت وختم العمر بها والتوبة وظيفة العمر وهي خاتمة مجالس الكتاب

خرّج الإمام أحمد والترمذي وابن حبان في «صحيحه» من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:«إنّ الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»

(1)

. وقال الترمذي: حديث حسن.

دلّ هذا الحديث على قبول توبة الله عز وجل لعبده ما دامت روحه في جسده لم تبلغ الحلقوم والتراقي. وقد دلّ القرآن على مثل ذلك أيضا؛ قال الله عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النّساء: 17].

وعمل السّوء إذا أفرد دخل فيه جميع السيئات؛ صغيرها وكبيرها. والمراد بالجهالة الإقدام على السّوء، وإن علم صاحبه أنّه سوء؛ فإنّ كلّ من عصى الله فهو جاهل، وكلّ من أطاعه فهو عالم.

وبيانه من وجهين:

أحدهما: أن من كان عالما بالله تعالى وعظمته وكبريائه وجلاله فإنّه يهابه ويخشاه؛ فلا يقع منه مع استحضار ذلك عصيانه، كما قال بعضهم: لو تفكّر

(1)

أخرجه: أحمد (153، 2/ 132)، والترمذي (3537)، وابن ماجه (4253).

وحسنه الألباني في «تخريج المشكاة» (2449، 2343).

ص: 577

النّاس في عظمة الله تعالى ما عصوه. وقال آخر: كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا.

والثاني: أن من آثر المعصية على الطّاعة فإنّما حمله على ذلك جهله وظنّه أنّها تنفعه عاجلا باستعجال لذتها، وإن كان عنده إيمان فهو يرجو التخلّص من سوء عاقبتها بالتوبة في آخر عمره؛ وهذا جهل محض؛ فإنّه يتعجّل الإثم والخزي، ويفوته عز التقوى وثوابها ولذّة الطاعة، وقد يتمكّن من التوبة بعد ذلك، وقد يعاجله الموت بغتة، فهو كجائع أكل طعاما مسموما لدفع جوعه الحاضر، ورجا أن يتخلّص من ضرره بشرب الدّرياق بعده. وهذا لا يفعله إلاّ جاهل.

وقد قال تعالى في حقّ الذين يؤثرون السحر: {وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 102 - 103].

والمراد: أنّهم آثروا السحر على التقوى والإيمان؛ لما رجوا فيه من منافع الدنيا المعجلة، مع علمهم أنّهم يفوتهم بذلك ثواب الآخرة، وهذا جهل منهم؛ فإنّهم لو علموا لآثروا الإيمان والتقوى على ما عداهما، فكانوا يحرزون أجر الآخرة ويأمنون عقابها، ويتعجّلون عزّ التقوى في الدنيا، وربما وصلوا إلى ما يأملونه في الدنيا أو إلى خير منه وأنفع؛ فإنّ أكثر ما يطلب بالسحر قضاء حوائج محرّمة أو مكروهة عند الله عز وجل.

والمؤمن المتقي يعوّضه الله في الدنيا خيرا مما يطلبه السّاحر ويؤثره مع تعجيله عزّ التّقوى وشرفها، وثواب الآخرة وعلوّ درجاتها، فتبيّن بهذا أنّ إيثار المعصية على الطاعة إنما يحمل عليه الجهل، فلذلك كان كلّ من

ص: 578

عصى الله جاهلا، وكلّ من أطاعه عالما. وكفى بخشية الله علما، وبالاغترار به جهلا.

وأمّا التوبة من قريب فالجمهور على أنّ المراد بها التوبة قبل الموت؛ فالعمر كله قريب، والدنيا كلها قريب. فمن تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، ومن مات ولم يتب فقد بعد كل البعد، كما قيل:

يقولون لا تبعد وهم يدفنونني

وأين مكان البعد إلاّ مكانيا

وقال آخر:

من قبل أن تلقي ولي

س النأي إلاّ نأي دارك

وكما قيل:

فهم جيرة الأحياء أمّا مزارهم

فدان وأمّا الملتقى فبعيد

فالحيّ قريب، والميت بعيد من الدنيا على قربه منها؛ فإن جسمه في الأرض يبلى، وروحه عند الله تنعّم أو تعذّب، ولقاؤه لا يرجى في الدنيا، كما قيل:

مقيم إلى أن يبعث الله خلقه

لقاؤك لا يرجى وأنت قريب

تزيد بلى في كلّ يوم وليلة

وتنسى كما تبلى وأنت حبيب

وهذان البيتان سمعهما داود الطائي رحمه الله من امرأة في مقبرة تندب بهما ميتا لها، فوقعتا من قلبه موقعا، فاستيقظ بهما ورجع زاهدا في الدنيا، راغبا في الآخرة، فانقطع إلى العبادة إلى أن مات رحمه الله. فمن تاب قبل أن يغرغر، فقد تاب من قريب، فتقبل توبته.

وروي عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النّساء: 17]،

ص: 579

قال: قبل المرض والموت، وهذا إشارة إلى أن أفضل أوقات التوبة، وهو أن يبادر الإنسان بالتوبة في صحته قبل نزول المرض به حتّى يتمكّن حينئذ من العمل الصالح، ولذلك قرن الله تعالى التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة من القرآن.

وأيضا فالتوبة في الصحة ورجاء الحياة تشبه الصّدقة بالمال في الصحة ورجاء البقاء، والتوبة في المرض عند حضور أمارات الموت تشبه الصّدقة بالمال عند الموت، فكأنّ من لا يتوب إلاّ في مرضه قد استفرغ صحّته وقوّته في شهوات نفسه وهواه ولذّات دنياه، فإذا أيس من الدنيا والحياة فيها تاب حينئذ وترك ما كان عليه، فأين توبة هذا من توبة من يتوب وهو صحيح قويّ قادر على عمل المعاصي، فيتركها خوفا من الله عز وجل، ورجاء لثوابه، وإيثارا لطاعته على معصيته.

دخل قوم على بشر الحافي وهو مريض، فقالوا له: على ماذا عزمت؟ قال:

عزمت أني إذا عوفيت تبت. فقال له رجل منهم: فهلاّ تبت الساعة؟ فقال:

يا أخي، أما علمت أن الملوك لا تقبل الأمان ممن في رجليه القيد، وفي رقبته الغل، إنما يقبل الأمان ممن هو راكب الفرس والسيف مجرّد بيده، فبكى القوم جميعا.

ومعنى هذا أن التائب في صحته بمنزلة من هو راكب على متن جواده وبيده سيف مشهور، فهو يقدر على الكر والفر والقتال، وعلى الهرب من الملك وعصيانه، فإذا جاء على هذه الحال إلى بين يدي الملك ذليلا له، طالبا لأمانه، صار بذلك من خواص الملك وأحبابه؛ لأنّه جاءه طائعا مختارا له، راغبا في قربه وخدمته.

وأمّا من هو في أسر الملك، وفي رجله قيد، وفي رقبته غل، فإنه إذا طلب

ص: 580

الأمان من الملك فإنّما طلبه خوفا على نفسه من الهلاك، وقد لا يكون محبّا للملك ولا مؤثرا لرضاه، فهذا مثل من لا يتوب إلا في مرضه عند موته، والأول بمنزلة من يتوب في صحته وقوّته وشبيبته، لكن ملك الملوك، أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين وكلّ خلقه أسير في قبضته، لا يعجزه منهم أحد؛ لا يعجزه هارب، ولا يفوته ذاهب، كما قيل: لا أقدر ممن طلبته في يده، ولا أعجز ممن هو في يد طالبه، ومع هذا فكل من طلب الأمان من عذابه من عباده أمنه على أي حال كان، إذا علم منه الصدق في طلبه.

الأمان الأمان وزري ثقيل

وذنوبي إذا عددت تطول

أوبقتني وأوثقتني ذنوبي

فترى لي إلى الخلاص سبيل

وقوله عز وجل: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} [النّساء: 18]. فسوّى بين من تاب عند الموت ومن مات من غير توبة.

والمراد بالتوبة عند الموت التوبة عند انكشاف الغطاء، ومعاينة المحتضر أمور الآخرة، ومشاهدة الملائكة؛ فإنّ الإيمان والتوبة وسائر الأعمال إنما تنفع بالغيب، فإذا كشف الغطاء وصار الغيب شهادة، لم ينفع الإيمان ولا التوبة في تلك الحال.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن علي، قال:«لا يزال العبد في مهل من التّوبة ما لم يأته ملك الموت يقبض روحه، فإذا نزل ملك الموت فلا توبة حينئذ» وبإسناده عن الثوري، قال: قال ابن عمر: التوبة مبسوطة ما لم ينزل سلطان الموت.

وعن الحسن، قال: التوبة معروضة لابن آدم ما لم يأخذ الموت بكظمه.

ص: 581

وعن بكر المزني، قال: لا تزال التوبة للعبد مبسوطة ما لم تأته الرّسل، فإذا عاينهم انقطعت المعرفة. وعن أبي مجلز، قال: لا يزال العبد في توبة ما لم يعاين الملائكة. وروى أيضا في «كتاب الموت» بإسناده عن أبي موسى الأشعري، قال:«إذا عاين الميت الملك ذهبت المعرفة» . وعن مجاهد نحوه.

وعن حصين، قال: بلغني أنّ ملك الموت إذا غمز وريد الإنسان حينئذ يشخص بصره، ويذهل عن الناس. وخرّج ابن ماجه حديث أبي موسى الأشعري مرفوعا، قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: متى تنقطع معرفة العبد من الناس؟ قال: «إذا عاين»

(1)

. وفي إسناده مقال. والموقوف أشبه.

وقد قيل: إنّه إنّما منع من التوبة حينئذ؛ لأنّه إذا انقطعت معرفته وذهل عقله، لم يتصوّر منه ندم ولا عزم؛ فإنّ الندم والعزم إنما يصح مع حضور العقل، وهذا ملازم لمعاينة الملائكة، كما دلت عليه هذه الأخبار.

وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: «ما لم يغرغر» ، يعني إذا لم تبلغ روحه عند خروجها منه إلى حلقه، فشبّه تردّدها في حلق المحتضر بما يتغرغر به الإنسان من الماء وغيره، ويردده في حلقه. وإلى ذلك الإشارة في القرآن بقوله عز وجل:{فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 83 - 85]، وبقوله عز وجل:{كَلاّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ} [القيامة: 26].

وروى ابن أبي الدنيا بإسناده، عن الحسن قال: أشد ما يكون الموت على

(1)

أخرجه: ابن ماجه (1453)، وقال البوصيري في «الزوائد» (1/ 470):«هذا إسناد ضعيف، نصر بن حماد كذبه ابن معين واتهم بالوضع» .

ص: 582

العبد إذا بلغت الروح التّراقي، قال: فعند ذلك يضطرب ويعلو نفسه، ثم بكى الحسن رحمه الله تعالى.

عش ما بدا لك سالما

في ظلّ شاهقة القصور

يسعى عليك بما اشتهيت

لدى الرّواح وفي البكور

فإذا النّفوس تقعقعت

في ضيق حشرجة الصّدور

فهناك تعلم موقنا

ما كنت إلاّ في غرور

واعلم أنّ الإنسان ما دام يؤمّل الحياة فإنّه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن لذّاتها وشهواتها من المعاصي وغيرها، ويرجّيه الشيطان التوبة في آخر عمره، فإذا تيقّن الموت، وأيس من الحياة، أفاق من سكرته بشهوات الدنيا، فندم حينئذ على تفريطه ندامة يكاد يقتل نفسه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحا، فلا يجاب إلى شيء من ذلك، فيجتمع عليه سكرة الموت مع حسرة الفوت.

وقد حذر الله تعالى عباده من ذلك في كتابه؛ ليستعدّوا للموت قبل نزوله، بالتوبة والعمل الصالح؛ قال الله تعالى:{وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السّاخِرِينَ} [الزمر: 54 - 56].

سمع بعض المحتضرين عند احتضاره يلطم على وجهه، ويقول:{يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ} [الزمر: 56]. وقال آخر عند احتضاره: سخرت بي الدنيا حتى ذهبت أيامي. وقال آخر عند موته: لا تغرنّكم الحياة الدنيا كما غرّتني.

وقال الله تعالى: {حَتّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً}

ص: 583

{فِيما تَرَكْتُ كَلاّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99 - 100]. وقال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 10 - 11]. وقال الله تعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ} [سبإ: 54]، وفسّره طائفة من السّلف، منهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله، بأنّهم طلبوا التوبة حين حيل بينهم وبينها.

قال الحسن: اتق الله يا ابن آدم، لا يجتمع عليك خصلتان، سكرة الموت، وحسرة الفوت. وقال ابن السّمّاك: احذر السّكرة والحسرة أن يفجأك الموت وأنت على الغرّة، فلا يصف واصف قدر ما تلقى ولا قدر ما ترى.

قال الفضيل: يقول الله عز وجل: ابن آدم، إذا كنت تتقلّب في نعمتي وأنت تتقلّب في معصيتي، فاحذرني لا أصرعك بين معاصيّ. وفي بعض الإسرائيليات: ابن آدم، احذر لا يأخذك الله على ذنب فتلقاه لا حجّة لك.

مات كثير من المصرّين على المعاصي على أقبح أحوالهم وهم مباشرون للمعاصي، فكان ذلك خزيا لهم في الدنيا مع ما صاروا إليه من عذاب الآخرة.

وكثيرا ما يقع هذا للمصرّين على الخمر المدمنين لشربها، كما قال القائل:

أتأمن أيّها السّكران جهلا

بأن تفجأك في السّكر المنيّه

فتضحى عبرة للنّاس طرّا

وتلقى الله من شرّ البريّه

سكر بعض المتقدّمين ليلة، فعاتبته زوجته على ترك الصّلاة، فحلف بطلاقها ثلاثا لا يصلّي ثلاثة أيام، فاشتدّ عليه فراق زوجته، فاستمرّ على ترك الصلاة مدّة الأيام الثلاثة؛ فمات فيها على حاله وهو مصرّ على الخمر، تارك للصلاة.

ص: 584

كان بعض المصرّين على الخمر يكنى أبا عمرو، فنام ليلة وهو سكران، فرأى في منامه قائلا يقول له:

جدّ بك الأمر أبا عمرو

وأنت معكوف على الخمر

تشرب صهباء صراحيّة

سال بك السّيل ولا تدري

فاستيقظ منزعجا وأخبر من عنده بما رأى، ثم غلبه سكره فنام، فلمّا كان وقت الصّبح مات فجأة.

قال يحيى بن معاذ: الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يفق إلا في عسكر الموتى نادما مع الخاسرين. وفي حديث خرّجه «الترمذي» مرفوعا:

«ما من أحد يموت إلاّ ندم» . قالوا: وما ندامته؟ قال: «إن كان محسنا ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مسيئا ندم أن لا يكون استعتب»

(1)

.

إذا ندم المحسن عند الموت فكيف يكون حال المسيء. غاية أمنيّة الموتى في قبورهم حياة ساعة يستدركون فيها ما فاتهم من توبة وعمل صالح، وأهل الدنيا يفرّطون في حياتهم فتذهب أعمارهم في الغفلة ضياعا، ومنهم من يقطعها بالمعاصي. قال بعض السّلف: أصبحتم في أمنيّة ناس كثير، يعني أنّ الموتى كلّهم يتمنّون حياة ساعة؛ ليتوبوا فيها ويجتهدوا في الطّاعة، ولا سبيل لهم إلى ذلك.

لو قيل للقوم ما مناكم طلبوا

حياة يوم ليتوبوا فاعلم

ويحك يا نفس ألا تيقّظ

ينفع قبل أن تزلّ قدمي

مضى الزّمان في توان وهوى

فاستدركي ما قد بقي واغتنمي

(1)

أخرجه: الترمذي (2403)، وأشار إلى ضعفه.

ص: 585

الناس في التّوبة على أقسام:

فمنهم: من لا يوفّق لتوبة نصوح، بل ييسّر له عمل السّيّئات من أوّل عمره إلى آخره حتى يموت مصرّا عليها، وهذه حالة الأشقياء. وأقبح من ذلك من ييسّر له في أول عمره عمل الطاعات، ثم ختم له بعمل سيئ حتى مات عليه، كما في الحديث الصحيح:«إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنّة، حتّى ما يكون بينه وبينها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النّار فيدخلها»

(1)

.

وفي الحديث الذي خرّجه أهل السنن: «إنّ العبد ليعمل بعمل أهل الجنّة سبعين عاما، ثم يحضره الموت فيجور في وصيته فيدخل النار»

(2)

.

ما أصعب الانتقال من البصر إلى العمى، وأصعب منه الضلالة بعد الهدى، والمعصية بعد التقى، كم من وجوه خاشعة وقّع على قصص أعمالها:{عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً} [الغاشية: 3 - 4].

كم من شارف مركبه ساحل النجاة، فلمّا همّ أن يرتقي لعب به موج الهوى فغرق. الخلق كلّهم تحت هذا الخطر. قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلّبها كيف يشاء.

قال بعضهم: ما العجب ممن هلك كيف هلك!؟ إنّما العجب ممن نجا كيف نجا!؟ وأنشد:

يا قلب إلا تطالبني

بلقا الأحباب وقد رحلوا

(1)

أخرجه: البخاري (8/ 152)(6594)، ومسلم (8/ 44)(2643)، وأبو داود (4708)، والترمذي (2137).

(2)

أخرجه: أحمد (2/ 278)، وأبو داود (2867)، والترمذي (2117)، وابن ماجه (2704) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وقال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح غريب» . وراجع: «تخريج المشكاة» (3075).

ص: 586

أرسلتك في طلبي لهم

لتعود فضعت وما حصلوا

سلّم واصبر واخضع لهم

كم قبلك مثلك قد قتلوا

ما أحسن ما علّقت به

آمالك منهم لو فعلوا

وقسم: يفنى عمره في الغفلة والبطالة، ثم يوفّق لعمل صالح فيموت عليه، وهذه حال من عمل بعمل أهل النّار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.

الأعمال بالخواتيم: «إذا أراد الله بعبد خيرا عسله، قالوا: وما عسله؟ قال:

يوفّقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه»

(1)

.

وهؤلاء منهم من يوقظ قبل موته بمدّة يتمكّن فيها من التزوّد بعمل صالح يختم به عمره. ومنهم من يوقظ عند حضور الموت فيوفّق لتوبة نصوح يموت عليها. قالت عائشة رضي الله عنها: إذا أراد الله بعبد خيرا قيّض له ملكا قبل موته بعام فيسدّده وييسّره حتى يموت وهو خير ما كان، فيقول الناس: مات فلان خير ما كان.

وخرّجه البزار عنها مرفوعا، ولفظه: «إذا أراد الله بعبد خيرا بعث إليه ملكا من عامه الذي يموت فيه فيسدّده وييسّره، فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه، فقال: أيتها النّفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فذلك حين يحبّ لقاء الله، ويحبّ الله لقاءه. وإذا أراد الله بعبد شرّا بعث إليه شيطانا من عامه الذي يموت فيه فأغواه، فإذا كان عند موته أتاه ملك الموت فقعد عند رأسه، فقال: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله

(1)

أخرجه: أحمد (4/ 200) عن أبي عنبسة رضي الله عنه.

وراجع: «العلل» لابن أبي حاتم (1865)، و «الصحيحة» (1114).

ص: 587

وغضب، فتتفرّق في جسده، فذلك حين يبغض لقاء الله، ويبغض الله لقاءه».

وفي الدعاء المأثور: «اللهم، اجعل خير عملي خاتمته، وخير عمري آخره» .

وفي «المسند» عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال:«من تاب قبل موته عاما تيب عليه، ومن تاب قبل موته شهرا تيب عليه، حتى قال: يوما، حتى قال: ساعة، حتى قال: فواقا. قال: قال له إنسان: أرأيت إن كان مشركا فأسلم؟ قال: إنّما أحدّثكم ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(1)

.

وفيه أيضا، عن عبد الرحمن البيلماني، قال: اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم» . قال الآخر: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«إنّ الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم» فقال الثالث: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:

«إنّ الله عز وجل يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة» . قال الرابع: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: وأنا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«إنّ الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه»

(2)

.

وفيه أيضا: عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إنّ الشيطان قال:

وعزّتك يا ربّ، لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الربّ عز وجل: وعزّتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني»

(3)

.

(1)

أخرجه: أحمد (2/ 206)، وأشار الهيثمي في «المجمع» إلى ضعفه.

(2)

أخرجه: أحمد (3/ 425)، والحاكم (4/ 257 - 258)، وفي إسناده ابن البيلماني وهو ضعيف.

(3)

أخرجه: أحمد (3/ 29)، والحاكم (4/ 261).

وحسنه الألباني في «الصحيحة» (104).

ص: 588

ذكر ابن أبي الدنيا بإسناد له: أنّ رجلا من ملوك البصرة كان قد تنسّك، ثم مال إلى الدّنيا والشيطان، فبنى دارا وشيّدها، وأمر بها ففرشت له ونجّدت، واتّخذ مأدبة، وصنع طعاما ودعا الناس، فجعلوا يدخلون فيأكلون ويشربون وينظرون إلى بنائه ويعجبون منه، ويدعون له ويتفرّقون. فمكث بذلك أياما حتى فرغ من أمر الناس ثم جلس في نفر من خاصّة إخوانه، فقال: قد ترون سروري بداري هذه، وقد حدّثت نفسي أن أتخذ لكلّ واحد من ولدي مثلها، فأقيموا عندي أياما أستمتع بحديثكم وأشاوركم فيما أريد من هذا البناء لولدي، فأقاموا عنده أياما يلهون ويلعبون ويشاورهم كيف يبني لولده، وكيف يريد أن يصنع، فبينما هم ذات ليلة في لهوهم إذ سمعوا قائلا يقول من أقاصي الدّار:

يا أيّها الباني النّاسي منيّته

لا تأمننّ فإنّ الموت مكتوب

على الخلائق إن سرّوا وإن فرحوا

فالموت حتف لذي الآمال منصوب

لا تبنينّ ديارا لست تسكنها

وراجع النّسك كيما يغفر الحوب

قال: ففزع من ذلك وفزع أصحابه فزعا شديدا، وراعهم ما سمعوا من ذلك، فقال لأصحابه: هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم. قال: فهل تجدون ما أجد؟ قالوا: وما تجد؟ قال: أجد والله مسكة على قلبي ما أراها إلا علّها الموت. قالوا: كلا، بل البقاء والعافية. قال: فبكى، وقال: أنتم أخلاّئي وإخواني فما لي عندكم؟ قالوا: مرنا بما أحببت. قال: فأمر بالشراب فأهريق، وبالملاهي فأخرجت. ثم قال: اللهم، إنّي أشهدك ومن حضر من عبادك أنّي تائب إليك من جميع ذنوبي، نادم على ما فرّطت أيام مهلتي، وإياك أسأل إن أقلتني أن تتمّ عليّ نعمتك بالإنابة إلى طاعتك، وإن أنت قبضتني إليك أن تغفر لي ذنوبي تفضّلا منك عليّ. واشتدّ به الأمر فلم

ص: 589

يزل يقول: الموت والله! الموت والله! حتى خرجت نفسه. فكان الفقهاء يرون أنّه مات على توبة.

وروى الواحدي في كتاب «قتلى القرآن» بإسناد له، أنّ رجلا من أشراف أهل البصرة كان منحدرا إليها في سفينة ومعه جارية له، فشرب يوما، وغنّته جاريته بعود لها، وكان معهم في السفينة فقير صالح، فقال له: يا فتى تحسن مثل هذا؟ قال: أحسن ما هو أحسن منه. وكان الفقير حسن الصّوت، فاستفتح وقرأ:{قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 77 - 78]، فرمى الرّجل ما بيده من الشراب في الماء، وقال: أشهد أنّ هذا أحسن مما سمعت، فهل غير هذا؟ قال: نعم، فتلا عليه:{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها} الآية [الكهف: 29]. فوقعت من قلبه موقعا، ورمى بالشراب في الماء، وكسر العود، ثم قال: يا فتى، هل هنا فرج؟ قال: نعم، {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الآية [الزّمر: 53]. فصاح صيحة عظيمة، فنظروا إليه فإذا هو قد مات رحمه الله.

وروى ابن أبي الدنيا بإسناد له أنّ صالحا المرّيّ رحمه الله كان يوما في مجلسه يقصّ على الناس، فقرأ عنده قارئ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ} [غافر: 18]، فذكر صالح النار وحال العصاة فيها، وصفة سياقهم إليها، وبالغ في ذلك وبكى الناس، فقام فتى كان حاضرا في مجلسه، وكان مسرفا على نفسه، فقال: أكلّ هذا في القيامة؟ قال صالح: نعم، وما هو أكبر منه، لقد بلغني أنّهم يصرخون في النّار حتّى تنقطع أصواتهم فلا يبقى منهم إلاّ كهيئة الأنين من المريض المدنف،

ص: 590

فصاح الفتى: أيا لله! وا غفلتاه عن نفسي أيام الحياة! وا أسفاه على تفريطي في طاعتك يا سيداه! وا أسفاه على تضييع عمري في دار الدنيا! ثم استقبل القبلة، وعاهد الله على توبة نصوح، ودعا الله أن يتقبّل منه وبكى حتى غشي عليه، فحمل من المجلس صريعا، فمكث صالح وأصحابه يعودونه أياما، ثم مات، فحضره خلق كثير، فكان صالح يذكره في مجلسه كثيرا، ويقول: وبأبي قتيل القرآن! وبأبي قتيل المواعظ والأحزان! فرآه رجل في منامه، فقال:

ما صنعت؟ قال: عمّتني بركة مجلس صالح فدخلت في سعة رحمة الله التي وسعت كل شيء.

من آلمته سياط المواعظ فصاح فلا جناح، ومن زاد ألمه فمات فدمه مباح.

قضى الله في القتلى قصاص دمائهم

ولكن دماء العاشقين جبار

وبقي ها هنا قسم آخر، وهو أشرف الأقسام وأرفعها، وهو من يفني عمره في الطاعة، ثمّ ينبّه على قرب الأجل، ليجدّ في التزوّد ويتهيّأ للرحيل بعمل يصلح للقاء، ويكون خاتمة للعمل. قال ابن عباس:«لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم {إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} [النّصر: 1]. نعيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، فأخذ في أشد ما كان اجتهادا في أمر الآخرة»

(1)

.

قالت أم سلمة: «كان النبي صلى الله عليه وسلم في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلاّ قال: سبحان الله وبحمده. فذكرت ذلك له، فقال: إنّي أمرت بذلك، وتلا هذه السورة»

(2)

.

(1)

أخرجه: النسائي في «الكبرى» (11648)، والطبراني في «الكبير» (11903)، و «الأوسط» (1996).

(2)

أخرجه: الطبري في «تفسيره» (30/ 335). وذكره ابن كثير في «تفسيره» (8/ 533)، وقال:«غريب» .

ص: 591

وكان من عادته أن يعتكف في كل عام في رمضان عشرا، ويعرض القرآن على جبريل مرة، فاعتكف في ذلك العام عشرين يوما، وعرض القرآن مرّتين، وكان يقول:«ما أرى ذلك إلاّ لاقتراب أجلي» . ثم حجّ حجة الوداع. وقال للناس: «خذوا عنّي مناسككم، فلعلّى لا ألقاكم بعد عامي هذا»

(1)

. وطفق يودّع الناس، فقالوا: هذه حجّة الوداع. ثم رجع إلى المدينة فخطب قبل وصوله إليها، وقال:«أيّها الناس! إنّما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربيّ فأجيب» . ثم أمر بالتمسّك بكتاب الله، ثم توفي بعد وصوله إلى المدينة بيسير صلى الله عليه وسلم. إذا كان سيّد المحسنين يؤمر أن يختم عمره بالزّيادة في الإحسان، فكيف يكون حال المسيء.

خذ في جدّ فقد تولّى العمر

كم ذا التفريط قد تدانى الأمر

أقبل فعسى يقبل منك العذر

كم تبني كم تنقض كم ذا الغدر

مرض بعض العابدين فوصف له دواء يشربه، فأتي في منامه فقيل له:

أتشرب الدواء والحور العين لك تهيّأ؟ فانتبه فزعا، فصلّى في ثلاثة أيام حتى انحنى صلبه، ثم مات في اليوم الثالث. كان رجل قد اعتزل وتعبّد، فرأى في منامه قائلا يقول له: يا فلان، ربّك يدعوك فتجهّز واخرج إلى الحجّ، ولست عائدا؛ فخرج إلى الحج فمات في الطريق. رأى بعض الصالحين في منامه قائلا ينشده:

تأهّب للذي لا بدّ منه

من الموت الموكّل بالعباد

أترضى أن تكون رفيق قوم

لهم زاد وأنت بغير زاد

(1)

أخرجه: مسلم (4/ 79)(1297)، وأحمد (3/ 318)، والنسائي (5/ 270)، وأبو داود (1970)، وابن خزيمة (2877).

ص: 592

خرّج ابن ماجه من حديث جابر، أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خطب، فقال في خطبته:

«أيّها الناس، توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا، وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا»

(1)

. فأمر بالمبادرة بالتوبة قبل الموت. وكلّ ساعة تمرّ على ابن آدم فإنّه يمكن أن تكون ساعة موته، بل كلّ نفس:

لا تأمن الموت في طرف ولا نفس

ولو تمنّعت بالحجّاب والحرس

قال لقمان لابنه: يا بني، لا تؤخّر التوبة؛ فإنّ الموت يأتي بغتة. وقال بعض الحكماء، لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخّر التوبة لطول الأمل.

إلى الله تب قبل انقضاء من العمر

أخيّ ولا تأمن مفاجأة الأمر

ولا تستصمّن عن دعائي فإنّما

دعوتك إشفاقا عليك من الوزر

فقد حذّرتك الحادثات نزولها

ونادتك إلاّ أنّ سمعك ذو وقر

تنوح وتبكي للأحبّة إن مضوا

ونفسك لا تبكي وأنت على الإثر

قال بعض السّلف: أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين. يشير إلى أنّ المؤمن لا ينبغي أن يصبح ويمسي إلاّ على توبة؛ فإنّه لا يدري متي يفجأه الموت صباحا أو مساء. فمن أصبح أو أمسى على غير توبة، فهو على خطر؛ لأنّه يخشى أن يلقى الله غير تائب، فيحشر في زمرة الظالمين، قال الله تعالى:

{وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ} [الحجرات: 11].

تب من خطاياك وابك خشية

ما أثبت منها عليك في الكتب

أيّة حال تكون حال فتى

صار إلى ربّه ولم يتب

(1)

أخرجه: ابن ماجه (1081)، وقال في «الزوائد»:«إسناده ضعيف» .

وراجع: «الإرواء» (591)، و «التعليق الرغيب» (1/ 260).

ص: 593

تأخير التوبة في حال الشباب قبيح، ففي حال المشيب أقبح وأقبح.

نعى لك ظلّ الشّباب المشيب

ونادتك باسم سواك الخطوب

فكن مستعدّا لداعي الفنا

فكلّ الذي هو آت قريب

ألسنا نرى شهوات النّفو

س تفنى وتبقى علينا الذّنوب

يخاف على نفسه من يتوب

فكيف يكن حال من لا يتوب

فإن نزل المرض بالعبد فتأخيره للتوبة حينئذ أقبح من كلّ قبيح؛ فإنّ المرض نذير الموت. وينبغي لمن عاد مريضا أن يذكّره التوبة والاستغفار، فلا أحسن من ختام العمل بالتوبة والاستغفار؛ فإن كان العمل سيئا كان كفّارة له، وإن كان حسنا كان كالطابع عليه.

وفي حديث «سيد الاستغفار»

(1)

المخرّج في «الصحيح» أنّ «من قاله إذا أصبح وإذا أمسى، ثم مات من يومه أو ليلته، كان من أهل الجنّة» . ليكثر في مرضه من ذكر الله عز وجل، خصوصا كلمة التوحيد؛ فإنّه من كانت آخر كلامه دخل الجنة.

وفي حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنّه:«من قال في مرضه: لا إله إلا الله، والله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، لا إله إلا الله ولا حول ولا قوّة إلا بالله؛ فإن مات من مرضه لم تطعمه النّار»

(2)

. خرّجه النسائي وابن ماجه والترمذي وحسّنه.

وفي رواية للنسائي: «من قالهن في يوم أو في ليلة أو في شهر، ثم مات في ذلك اليوم أو في تلك الليلة أو في ذلك الشهر، غفر له ذنبه» . ويروى من

(1)

أخرجه: البخاري (8/ 83)(6306)، والترمذي (3393)، والنسائي (8/ 279 - 280).

(2)

أخرجه: الترمذي (3430)، وابن ماجه (3794).

ص: 594

حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ختم له بقول لا إله إلاّ الله دخل الجنّة، ومن ختم له بإطعام مسكين أراد به وجه الله أدخله الله الجنّة»

(1)

.

كان السّلف يرون أن من مات عقيب عمل صالح كصيام رمضان، أو عقيب حجّ أو عمرة، أنّه يرجى له أن يدخل الجنّة. وكانوا مع اجتهادهم في الصحة في الأعمال الصالحة يجددون التوبة والاستغفار عند الموت، ويختمون أعمالهم بالاستغفار وكلمة التوحيد.

لما احتضر العلاء بن زياد بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: كنت والله أحبّ أن أستقبل الموت بتوبة. قالوا: فافعل رحمك الله. فدعا بطهور فتطهّر، ثم دعا بثوب له جديد فلبسه، ثم استقبل القبلة، فأومأ برأسه مرتين أو نحو ذلك، ثم اضطجع ومات. ولما احتضر عامر بن عبد الله بكى، وقال: لمثل هذا المصرع فليعمل العاملون، اللهم، إنّي أستغفرك من تقصيري وتفريطي، وأتوب إليك من جميع ذنوبي، لا إله إلاّ الله. ثم لم يزل يردّدها حتى مات رحمه الله.

وقال عمرو بن العاص رحمه الله عند موته: اللهم، أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فركبنا، ولا يسعنا إلاّ عفوك، لا إله إلاّ الله. ثم ردّدها حتى مات. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: أنا الذي أمرتني فقصّرت، ونهيتني فعصيت، ولكن لا إله إلاّ الله، ثم رفع رأسه فأحدّ النظر، فقالوا له: إنّك تنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين، قال: إنّي أرى حضرة ما هم بإنس ولا جن، ثم قبض رحمة الله عليه. وسمعوا تاليا يتلو:{تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

(1)

أخرجه: البيهقي في «الأسماء والصفات» (303 - 304)، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (1/ 218 - 219).

ص: 595

يا غافل القلب عن ذكر المنيّات

عمّا قليل ستثوي بين أموات

فاذكر محلّك من قبل الحلول به

وتب إلى الله من لهو ولذّات

إنّ الحمام له وقت إلى أجل

فاذكر مصائب أيّام وساعات

لا تطمئنّ إلى الدّنيا وزينتها

قد حان للموت يا ذا اللبّ أن ياتي

التّوبة التّوبة قبل أن يصل إليكم من الموت النّوبة، فيحصل المفرط على الندم والخيبة.

الإنابة الإنابة قبل غلق باب الإجابة. الإفاقة الإفاقة؛ فقد قرب وقت الفاقة.

ما أحسن قلق التّوّاب! ما أحلى قدوم الغيّاب! ما أجمل وقوفهم بالباب!

أسأت ولم أحسن وجئتك تائبا

وأنّى لعبد من مواليه مهرب

يؤمّل غفرانا فإن خاب ظنّه

فما أحد منه على الأرض أخيب

من نزل به الشيب فهو بمنزلة الحامل التي تمّت شهور حملها، فما تنتظر إلاّ الولادة، كذلك صاحب الشيب لا ينتظر غير الموت؛ فقبيح منه الإصرار على الذنب.

أيّ شيء تريد منّي الذّنوب

شغفت بي فليس عنّي تغيب

ما يضرّ الذّنوب لو أعتقتني

رحمة بي فقد علاني المشيب

ولكن توبة الشاب أحسن وأفضل. وفي حديث مرفوع خرّجه ابن أبي الدنيا:

«إنّ الله يحبّ الشاب التائب»

(1)

. قال عمير بن هانئ: تقول التوبة للشاب:

أهلا ومرحبا، وتقول للشيخ: نقبلك على ما كان منك. الشابّ ترك المعصية مع قوّة الدّاعي إليها، والشيخ قد ضعفت شهوته وقلّ داعيه فلا يستويان.

(1)

راجع: «الضعيفة» (97).

ص: 596

وفي بعض الآثار، يقول الله عز وجل: أيّها الشاب، التارك شهوته، المبتذل شبابه لأجلي، أنت عندي كبعض ملائكتي. قال عمر رضي الله عنه: إنّ الذين يشتهون المعاصي ولا يعملون بها {أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3]. كم بين حال الذي {قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ} [يوسف: 23] وبين شيخ عنّين يدعى لمثل ذلك [فيجيب]

(1)

.

كان عمر يعسّ بالمدينة فسمع امرأة غاب عنها زوجها تقول:

تطاول هذا الليل واسودّ جانبه

وأرّقني أن لا خليل ألاعبه

فو الله لولا الله لا شيء غيره

لحرّك من هذا السّرير جوانبه

ولكنّ تقوى الله عن ذا تصدّني

وحفظا لبعلي أن تنال مراكبه

ولكنّني أخشى رقيبا موكّلا

بأنفسنا لا يفتر الدّهر كاتبه

فقال لها عمر: يرحمك الله! ثم بعث إلى زوجها فأمره أن يقدم عليها، وأمر أن لا يغيب أحد عن امرأته أكثر من أربعة أشهر وعشرا.

الشيخ قد تركته الذنوب فلا حمد له على تركها، كما قيل:

تاركك الذنب فتاركته

بالفعل والشّهوة في القلب

فالحمد للذّنب على تركه

لا لك في تركك للذّنب

أما تستحي منّا لما أعرضت لذّات الدّنيا عنك فلم يبق لك فيها رغبة، وصرت من سقط المتاع لا حاجة لأحد فيك، جئت إلى بابنا فقلت: أنا تائب، ومع هذا فكلّ من أوى إلينا آويناه، وكل من استجار بنا أجرناه، ومن تاب إلينا أحببناه. أبشر، فربما يكون الشّيب شافعا لصاحبه من العقوبات. مات شيخ

(1)

ليس في (ص، ب).

ص: 597

كان مفرطا، فرئي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: قال لي: لولا أنّك شيخ لعذّبتك. وقف شيخ بعرفة والنّاس يضجّون بالدّعاء وهو ساكت، ثم قبض على لحيته وقال: يا ربّ، شيخ يا ربّ شيخ يرجو رحمتك.

لمّا أتونا والشّيب شافعهم

وقد توالى عليهم الخجل

قلنا لسود الصّحائف انقلبي

بيضا فإنّ الشّيوخ قد قبلوا

كان بعض الصالحين يقول:

إنّ الملوك إذا شابت عبيدهم

في رقّهم عتقوهم عتق أبرار

وأنت يا خالقي أولى بذا كرما

قد شبت في الرّقّ فاعتقني من النّار

أيها العاصي، ما يقطع من صلاحك الطّمع، ما نصبنا اليوم شرك المواعظ إلاّ لتقع. إذا خرجت من المجلس وأنت عازم على التوبة، قالت لك ملائكة الرحمة:

مرحبا وسهلا، فإن قال لك رفقاؤك في المعصية، هلمّ إلينا، فقل لهم: كلاّ، ذاك خمر الهوى الذي عهدتموه قد استحال خلاّ. يا من سوّد كتابه بالسيئات قد آن لك بالتّوبة أن تمحو. يا سكران القلب بالشهوات أما آن لفؤادك أن يصحو.

يا نداماي صحا القلب صحا

فاطردوا عنّي الصّبا والمرحا

زجر الوعظ فؤادي فارعوى

وأفاق القلب منّي وصحا

هزم العزم جنودا للهوى

فاسدي لا تعجبوا إن صلحا

بادروا التّوبة من قبل الرّدى

فمناديه ينادينا الوحا

***

ص: 598