المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تفسير قوله تعالى: (لا أعبد ما تعبدون) - لقاء الباب المفتوح - جـ ١٠٥

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌تفسير قوله تعالى: (لا أعبد ما تعبدون)

‌تفسير قوله تعالى: (لا أعبد ما تعبدون)

قال تعالى: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون:1-5] كرر في الجمل على مرتين مرتين، {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أي: لا أعبد الذي تعبدونهم، وهم الأصنام، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} وهو الله، وهنا (ما) في قوله:{مَا أَعْبُدُ} بمعنى: من؛ لأن الاسم الموصول إذا عاد إلى الله فإنه يأتي بلفظ من {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: أنا لا أعبد أصنامكم وأنتم لا تعبدون الله {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} الآن يظن الظان أن هذه مكررة للتوكيد، وليس كذلك؛ لأن الصيغة مختلفة {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} هذا فعل أو اسم؟ فعل، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} عابد وعابدون اسم، وفي التوكيد لابد أن تكون الجملة الثانية كالأولى، إذاً القول بأنه كرر للتوكيد ضعيف، إذاً لماذا هذا التكرار؟ قال بعض العلماء:{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} الآن، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} في المستقبل، هذا قول، فصار:{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} يعني في الحال {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} يعني: في المستقبل، لأن فعل المضارع يدل على الحال، واسم الفاعل يدل على الاستقبال، بدليل أنه عمل، واسم الفاعل لا يعمل إلا إذا كان للاستقبال.

لكن أورد على هذا القول إيراد، كيف قال:{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} مع أنهم قد يؤمنون فيعبدون الله؟ وعلى هذا فيكون في هذا القول نوع من الضعف، أجابوا عن ذلك بأن قوله:{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} يخاطب المشركين الذين علم الله تعالى أنهم لن يؤمنوا، فيكون الخطاب ليس عاماً وهذا مما يضعف القول بعض الشيء، فعندنا الآن قولان: الأول: أنها توكيد، والثاني: أنها في المستقبل.

القول الثالث: {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} أي: لا أعبد الأصنام التي تعبدونها، {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: لا تعبدون الله، {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: في العبادة، يعني: ليست عبادتي كعبادتكم، ولا عبادتكم كعبادتي، فيكون هذا نفي للفعل لا للمفعول له، أي: ليس نفي للمعبود ولكنه نفي للعبادة، أي: لا أعبد كعبادتكم ولا تعبدون أنتم كعبادتي؛ لأن عبادتي خالصة لله، وعبادتكم عبادة الشرك.

القول الرابع: اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن قوله:{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} هذا الفعل، فوافق القول الأول في هذه الجملة {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} أي: في القبول، بمعنى: ولن أقبل غير عبادتي، ولن أقبل عبادتكم وأنتم كذلك لن تقبلوا، فتكون الجملة الأولى عائدة على الفعل، والجملة الثانية عائدة على القبول والرضا، أي: لا أعبده ولا أرضى به، وأنتم كذلك لا تعبدون الله ولا ترضون بعبادته، وهذا القول إذا تأملته لا يرد عليه شيء من الأقوال السابقة، فيكون قولاً حسناً جيداً.

ومن هنا نأخذ: أن القرآن الكريم ليس فيه شيء مكرر إلا وفيه فائدة، لأننا لو قلنا: إن في القرآن شيئاً مكرراً بدون فائدة لكان في القرآن ما هو لغو وهو منزه عن ذلك، وعلى هذا فالتكرار في سورة الرحمن:{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وفي سورة المرسلات: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} قد يقال: ليس لها فائدة، بل هو تكرار لفائدة عظيمة، وهي: أن كل آية ما بين هذه الآية المكررة فإنها تشتمل على نعم عظيمة، وآلاء جسيمة، ثم فيها من الفائدة اللفظية: تنبيه المخاطب، بحيث يكرر عليه:{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] ويكرر عليه: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:15] .

ص: 8