المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثانيزعامة العالم العربي - ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين

[أبو الحسن الندوي]

الفصل: ‌الفصل الثانيزعامة العالم العربي

‌الفصل الثاني

زعامة العالم العربي

أهمية العالم العربي:

إن العالم العربي له أهمية كبيرة في خريطة العالم السياسية وذلك لأنه وطن أمم لعبت أكبر دور في التاريخ الإنساني، ولأنه يحتضن منابع الثروة والقوة الكبرى: الذهب الأسود الذي هو دم الجسم الصناعي والحربي اليوم؛ ولأنه صلة بين أوربا وأمريكا، وبين الشرق الأقصى، ولأنه قلب العالم الإسلامي النابض يتجه إليه روحياً ودينياً ويدين بحبه وولائه، ولأنه عسى - لاقدر الله - أن يكون ميدان الحرب الثالثة، ولأن فيه الأيدي العاملة، والعقول المفكرة، والأجسام المقاتلة، والأسواق التجارية، والأراضي الزراعية، ولأن فيها مصر ذات النيل السعيد بنتاجها ومحصولها وخصبها وثروتها ورقيها ومدنيتها، وفيه سورية وفلسطين وجاراتها، باعتدال مناخها وجمال إقليمها وأهميتها الاستراتيجية، وبلاد الرافدين بشكيمة أهلها ومنابع فيها، والجزيرة العربية بمركزها الروحي وسلطانها الديني، واجتماع الحج السنوي الذي لا مثيل له في العالم وآبار البترول الغزيرة. كل ذلك قد جعل العالم العربي محصر أنظار الغربيين، وملتقى مطامعهم وميدان تنافس لقيادتهم، وكان رد فعله أن نشأ في العالم العربي شعور عميق بالقومية العربية، وكثر التغني ((بالوطن العربي)) و ((المجد العربي)) .

محمد رسول الله روح العالم العربي:

ولكن المسلم ينظر إلى العالم العربي بغير العين التي ينظر بها الأوربي، وبغير العين التي ينظر بها الوطني العربي، إنه ينظر بها الوطني العربي، إنه ينظر إليه كمعهد الإسلام ومشرق نوره ومعقل الإنسانية ، وموضع القيادة العالمية ، ويعقد أن سيدنا محمداً العربي هو روح العالم العربي وأساسه وعنوان مجده؛ وأن العالم العربي - بما فيه من موارد الثروة والقوة وبما فيه من خيرات وحسنات - جسم بلا روح ، وخط بلا وضوح إذا انفصل - لا سمح الله بذلك - عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطع صلته عن تعاليمه ودينه؛ وأن سيدنا رسول

الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أبرز العالم العربي للوجود ، فقد كان هذا العالم وحدات مفككة ، وقبائل متناحرة ، وشعوباً مستعبدة ومواهب ضائعة ، وبلادا ًتتسكع في الجهل والضلالات ، فكان العرب لا يحلمون بمناجزة الدولة الرومية

ص: 240

والفارسية ولا يخطر ذلك منهم على بال ، ولا يصدقون بذلك إذا قيل لهم في حال من الأحوال ، وكانت سورية التي تكون جزءاً مهماً من العالم العربي مستعمرة رومية تعاني الملكية المطلقة والحكم الجائز المستبد ، لا تعرف معنى الحرية والعدل ، وكان العراق مطية لشهوات الدولة الكيانية مثقلة بالضرائب المحفة والإتاوات الفادحة. وكانت مصر قد اتخذها الرومان ناقة حلوباً ركوبا ً ، يجزون صوفها ويظلمونها في علفها ، ثم إنها تعاني الاضطهاد الديني مع الاستبداد السياسي، فما لبث هذا العالم المفكك المنحل، المظلوم المضطهد، أن هبت عليه نفحة من نفحات الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أدرك رسول الله من هذا العالم وهو ضائع هالك وأخذ بيبده وهو ساقط متهالك، فأحياه بإذن الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وعلمه الكتاب والحكمة وزكاه؛ فكان هذا العالم بعد البعثة المحمدية سفير الإسلام، ورسول الأمن والسلام، ورائد العلم والحكمة، ومشعل الثقافة والحضارة. كان غوثاً للأمم، غيثاً للعالم، هنالك كانت الشام وكان العراق، وكانت مصر، وكان العالم العربي الذي نتحدث عنه، فلولا محمد صلى الله عليه وسلم، ولولا رسالته، ولولا ملته، لما كانت سورية، ولا كان العراق، ولا كانت مصر، ولا كان العالم العربي، بل ولا كانت الدنيا كما هي الآن حضارة وعقلاً، وديانة وخلقاً، فمن استغنى عن دين الإسلام من شعوب العالم العربي وحكوماته، وولى وجهه شطر الغرب أو أيام العرب الأولى، أو استلهم قوانين حياته أو سياسته من شرائع الغرب ودساتيره أو أسس حياته على العنصرية أو العروبة التي لا شأن لها بالإسلام ، ولم يرض برسول الله قائداً ورائداً وإماماً وقدوة ، فليرد على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم نعمته ويرجع إلى جاهليته الأولى ، حيث الحكم الروماني والإيراني ، وحيث الجهل والضلالة ، وحيث الغفلة والبطالة وحيث العزلة عن العالم ، والخمول والجمود ، فإن هذا التاريخ المجيد ، وهذه الحضارة الزاهية ، وهذا الأدب الزاخر ، وهذه الدول العربية ، ليست إلا حسنة من حسنات محمد عليه الصلاة والسلام.

الإيمان هو قوة العالم العربي:

فالإسلام هو قومية العالم العربي ، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو روح العالم العربي وإمامة وقائده والإيمان هو قوة العالم العربي التي حارب بها العالم البشري كله فانتصر عليه ،

ص: 241

وهو قوته وسلاحه اليوم كما كان بالأمس ، به يقهر أعداءه ، ويحفظ كيانه ويودي رسالته. إن العالم العربي لا يستطيع أن يحارب الصهيونية أو الشيوعية أو عدواً آخر بالمال الذي ترضخه بريطانيا أو تتصدق به أمريكا ،أو تعطيه مقابل ما تأخذ من أرضه من الذهب الأسود ، إنما يحارب عدوه بالإيمان والقوة المعنوية ، وبالروح التي حارب بها الدولة الرومية والإمبراطورية الفارسية في ساعة واحدة فانتصر عليهما جميعاً. إنه لا يستطيع أن يحارب أعداءه بقلب يحب الحياة ويكره الموت ، ويجسم يميل إلى الدعة والراحة ، وعقل يخامره الشك وتتنازع فيه الأفكار والأهواء ، أو بيد مضطربة وقلب متشك ضعيف الإيمان وقوة متخاذلة في الميدان، فالمهم لأمراء العرب وزعمائهم وقادة الجامعة العربية أن يغرسوا الإيمان في الشعوب العربية، وجماهير الأمة وأولياء الأمور، والجيوش العربية والفلاحين والتجار، وفي كل طبقة من طبقات الجمهور، ويشعلوا فيها شعلة الجهاد في سبيل الله، والتوق إلى الجنة، ويبعثوا فيها الاستهانة بالمظاهر الجوفاء وزخارف الدنيا، ويعلموهم كيف يتغلبون على شهوات النفس ومألوفات الحياة، وكيف يتحملون الشدائد في سبيل الله، وكيف يستقبلون الموت بثغر باسم، وكيف يتهافتون عليه تهافت الفراش على النور.

تضحية شباب العرب قنطرة إلى سعادة البشرية:

بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغت شقاوة الإنسانية غاية ما وراءها غاية، وكانت قضية الإنسانية أعظم من أن يقوم لها أفراد متنعمون لا يتعرضون لخطر ولا لخسارة ولا محنة، لهم النعيم الحاضر والغد المضمون، إنما تحتاج هذه القضية إلى أناس يضحون بإمكانياتهم ومستقبلهم في سبل خدمة الإنسانية وأداء رسالتهم المقدسة، ويعرضون نفوسهم وأموالهم ومعائشهم وحظوظهم من الدنيا للخطر والضياع، وتجاراتهم وحرفهم ومكاسبهم

للتلف والكساد، ويخيبون آمال آبائهم وأصدقائهم فيهم، حتى يقولوا للواحد منهم كما قال قوم صالح:{قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا} .

إنه لا بقاء للإنسانية ولا قيام لدعوة كريمة بغير هؤلاء المجاهدين، وبشقاء هذه الحفنة من البشر في الدنيا - كما يعتقد كثير من معاصريهم - تنعم الإنسانية وتسعد الأمم، ويتحول تيار العالم من الشر إلى الخير، ومن السعادة أن يشقى أفراد وتنعم أمم، وتضيع أموال وتكسد تجارات لبعض الأفراد وتنمو نفوس وأرواح لا يحصيها إلا الله

ص: 242

من عذاب الله ومن نار جهنم.

علم الله عند بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم أن الروم والفرس والأمم المتحضرة المتصرفة بزمام العالم المتمدن لا تستطيع بحكم حياتها المصطنعة المترفة أن تتعرض للخطر وتتحمل المتاعب والمصاعب في سبيل الدعوة والجهاد وخدمة الإنسانية البائسة ، ولا تستطيع أن تضحي بشيء من دقائق مدنيتها في الملبس والمأكل وأن تتنزل عن حظوظها ولذاتها وزخارفها فضلاً عن حاجاتها، وأنه لا يوجد فيها أفراد يقوون على قهر شهواتهم، والحد من طموحهم، والزهد في فضول الحياة ومطامع الدنيا، والقناعة بالكفاف، فاختار لرسالة الإسلام وصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام أُمة تضطلع بأعباء الدعوة والجهاد وتقوى على التضحية والإيثار، تلك هي الأمة العربية القوية السليمة التي لم تبتلعها المدنية ولم ينخرها البذخ والترف وأولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر الناس قلوباً وأعمقهم علماً وأقلهم تكلفاً.

قام الرسول بهذه الدعوة العظيمة فأدى حقوقها: من الجهاد في سبيلها وإيثارها على كل ما يقف في وجهها، والعزوف عن الشهوات ومطامع الدنيا فكان في ذلك أسوة وإماماً للعالم كله، وفد قريش وعرض عليه كل ما يغري الشباب ويرضي الطامحين من رئاسة وشرف ومال عظيم وزواج كريم، فرفض كل ذلك في صرامة وصراحة، وكلمة عمه وحاول أن يحد من نشاطه في سبيل الدعوة فقال:((يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته)) ثم كان أسوة للناس في عصره وبعد عصره بقيامه بأكبر قسط من الجهاد والإيثار، والزهد وشظف

العيش وأقل قسط من العيش وأسباب الحياة، فقد أوصد على نفسه الأبواب وسد في وجهه الطرق وتعدى ذلك إلى أسرته وأهل بيته والمتصلين به، فكان أكثر الناس اتصالاً به وأقربهم إيه أقلهم حظاً في الحياة ، وأعظمهم نصيباً في الجهاد والإيثار ، فإذا أراد أن يحرم شيئاً بدأ ذلك بشيرته وبيته ، وإذا سن حقاً أو فتح باباً لمنفعة قدم الآخرين وربما حرمه على عشيرته الأقربين. أراد أن يحرم الربا فبدأ بربا عمه عباس بن عبد المطلب فوضعه كله ، وأراد أن يهدر دماء الجاهلية فبدأ بدم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فأبطله ، وسن الزكاة وهي منفعة مالية عظيمة مستمرة إلى يوم القيامة فحرمها على عشيرته بني هاشم إلى آخر الأبد ، وكلمه علي بن أبي طالب يوم الفتح أن يجمع لبني هاشم

ص: 243

الحجابة مع السقاية فأبي وطلب عثمان بن طلحة وناوله مفتاح الكعبة وقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء، وقال خذوها خالدة تالدة فيكم لا ينزعها منكم إلا ظالم، وحمل أزواجه على الزهد والقناعة وشظف العيش وخيرهن بين عشرته مع الفقر وضيق العيش، ومفارقته مع السعة والرخاء وتلا عليهن قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً {28} وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيما} فاخترن الله والرسول، وتأتيه فاطمة تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى وبلغها أنه جاءه رقيق فيوصيها بالتسبيح والتحميد والتكبير ويقول لها إنه خير لها من خادم.. وهكذا كان شأنه مع أهل بيته والمتصلين به فالأقرب ثم الأقرب. وآمن به رجال من قريش في مكة فاضطربت حياتهم الاقتصادية اضطراباً عظيماً، وكسدت تجارتهم وحرم بعضهم رأس ماله الذي جمعه في حياته، وحرم بعضهم أسباب الترف والرخاء وأناقة اللباس التي كان فيها مضرب المثل، وكسدت تجارة بعضهم لاشتغاله بالدعوة وانصراف الزبائن عنه وحرم بعضهم نصيبه في ثروة أبيه.

ثم لما هاجر الرسول إلى المدينة وتبعه الأنصار تأثرت بذلك بساتينهم ومزارعهم فلما أرادوا أن يقبلوا عليها بعض الوقت ويصلحوها لم يسمح لهم بذلك وأنذرهم الله به فقال: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} .

وهكذا كان شأن العرب والذين احتضنوا هذه الدعوة منهم فقد كان نصيبهم من متاعب الجهاد وخسائر النفوس والأموال أعظم من نصيب أي أمة في العالم وقد خاطبهم الله بقوله: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} وقال: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللهِ وَلَا يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} لأن سعادة البشرية إنما كانت تتوقف على ما يقدمونه من تضحية وإيثار ما يتحملون من خسائر ونكبات فقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ

ص: 244

وَالثَّمَرَاتِ} وقال: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} وكان إحجام العرب عن هذه المكرمة وترددهم في ذلك امتداداً لشقاء الإنسانية واستمراراً للأوضاع السيئة في العالم فقال: {إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} .

وقد وقف العالم في القرن السادس المسيحي على مفترق الطرق إما أن يتقدم العرب ويعرضوا نفوسهم وأموالهم وأولادهم وكل ما يعز عليهم للخطر ويزهدوا في مطامع الدنيا ويضحوا في سبيل المصلحة الاجتماعية بأنانيتهم فيسعد العالم وتستقيم البشرية وتقوم سوق الجنة وتروج بضاعة الإيمان، وإما أن يؤثروا شهواتهم ومطامعهم وخظوظهم الفردية على سعادة البشرية وصلاح العالم فيبقى العالم في حمأ الضلالة والشقاء إلى ما شاء الله، وقد أراد الله بالإنسانية خيراً وتشجع العرب - بما نفخ فيهم محمد صلى الله عليه وسلم من روح الإيمان والإيثار وحبب إليهم الدار الآخرة وثوابها - فقدموا أنفسهم فداء للإنسانية كلها وزهدوا في مطامع الدنيا طمعاً في ثواب الله وسعادة النوع الإنساني وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وضحوا بكل ما يحرص عليه الناس من مطامع وشهوات وآمال وأحلام وأخلصوا لله العمل والجهاد فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين.

وقد استدار الزمان كهيئته يوم بعث الرسول ووقف العالم على مفترق الطرق مرة ثانية إما أن يتقدم العرب - وهم أمة الرسول وعشيرته - إلى الميدان ويغامروا بنفوسهم وإمكانياتهم ومطامحهم ويخاطروا فيما هم فيه من رخاء وثراء ودنيا واسعة، وفرص متاحة للعيش وأسباب

ميسورة فينهض العالم من غثاره وتتبدل الأرض غير الأرض وإما أن يستمروا فيما هم فيه من طمع وطموح، وتنافس في الوظائف والمرتبات وتفكر في كثرة الدخل والإيراد وزيادة غلة الأملاك وربح التجارات والحصول على أسباب الترف والتنعم فيبقى العالم في هذا المستنقع الذي يتردى فيه منذ قرون.

إن العالم لا يسعد وخيرة الشباب في العواصم العربية عاكفون على شهواتهم تدور حياتهم حول المادة والمعدة لا يفكرون في غيرهما ولا يترفعون عن الجهاد في سبيلهما ولقد كان شباب بعض الأمم الجاهلية الذين ضحوا بمستقبلهم في سبيل المبادئ التي اعتنقوها أكبر منهم نفساً، وأوسع منهم فكراً، بل كان الشاعر الجاهلي ((امرؤ القيس)) أعلى منهم همة، إذ قال:

ص: 245

ولو أنني أسعى لأدنى معيشة *** كفاني ولم أطلب قليل من المال

ولكنما أسعى لمجد مؤثل *** وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي

إن العالم لا يمكن أن يصل إلى السعادة إلا على قنطرة من جهاد ومتاعب يقدمها الشباب المسلم، إن الأرض لفي حاجة إلى سماد، وسماد أرض البشرية الذي تصلح به وتنبت زرع الإسلام الكريم هي الشهوات والمطامع الفردية التي يضحي بها الشباب العربي في سبيل علو الإسلام وبسط الأمن والسلام على العالم وانتقال الناس من الطريق المؤدية إلى جهنم إلى الطريق المؤدية إلى الجنة.

إنه لثمن قليل جداً لسلعة غالية جداً.

العناية بالفروسية والحياة العسكرية:

من الحقائق المؤلمة أن الشعوب العربية قد فقدت كثيراً من خصائصها العسكرية، ورزئت في فروسيتها التي كانت معروفة بها في العالم، فكانت رزيئة كبيرة وخسارة فادحة، وكانت سبباً من أسباب ضعفها وعجزها في ميدان الجهاد، فقد اضمحلت الروح العسكرية، وضعفت الأجسام ونشأ الناس على التنعم، وقد حلت السيارات محل الجياد حتى كادت الخيل العربية تنقرض من الجزيرة العربية، وهجر الناس المصارعة والمناضلة وسباق الخيل

وأنواع الرياضة البدنية والتدريبات العسكرية، واستبدلوا بها ألعاباً لا تفيدهم شيئاً، فالمهم لرجال التعليم والتربية قادة الشعوب العربية أن يربوا الشبيبة العربية على الفروسية والحياة العسكرية، وعلى البساطة في المعيشة وخشونة العيش والجلادة وتحمل المشاق والمتاعب، والصبر على المكروه!.

وقد كتب المربي الكبير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى بعض عماله العرب وهم في بلاد العجم: ((إياكم والتنعم وزي العجم وعليكم بالشمس فإنها حمام

ص: 246

العرب، وتمعددوا (1) ، واخشوشنوا (2) ، واخشوشبوا (3) ، واخلولقوا (4) ، وأعطوا الركب أسنتها، وانزوا نزوا، وارموا الأغراض (5)) .

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً (6)) وقال: ((ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي (7)) .

ومن واجب رجال التربية وولاة الأمر أن يحاربوا بكل قوتهم ما يضعف روح الرجولة والجلادة ويبعث على التخنث والعجز، من عادات وأدب وصحافة وتعليم، ويأخذوا على يد الصحافة الماجنة والأدب الخليع الملحد، الذي ينشر في الشباب النفاق والدعارة والفسوق، وعبادة اللذة والشهوات، ولا يسمحوا لهؤلاء التجارة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا أن يدخلوا في معسكر محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاث، ويفسدوا على الناشئة الإسلامية قلبها وأخلاقهم، ويزينوا لها الفسوق والعصيان، وحب الفحشاء، بثمن بخس دراهم معدودة، وقد شهد التاريخ بأن كل أمة أصيب رجالها في رجولتهم وغيرتهم، ونساؤها في أنوثتهن وأمومتهن، وطغى فيهن التبرج، ومزاحمة الرجال في كل شيء، والزهد في الحياة المنزلية، وحبب إليهن العقم، أفل نجمها وكسفت شمسها، فأصبحت أثراً بعد عين.

هذه كانت عاقبة اليونان والرومان والفرس، وإن أوربا لفي طريقها إلى هذه العاقبة، فليحذر العالم العربي من هذا المصير الهائل.

(1) تمعدد الغلام: شب وغلظ. وقيل معناه: تشبهوا بعيش معد بن عدنان وكان ذا غلظ وتقشف.

(2)

اخشوشن: تخشن في المطعم والملبس.

(3)

اخشوشب: صار صلباً كالخشب في أحواله وصيره على الجهد.

(4)

تبذلوا في الملابس.

(5)

رواه البغوي عن أبي عثمان النهدي.

(6)

رواه البخاري.

(7)

رواه مسلم.

ص: 247

محاربة التبذير والفرق الهائل بين الغني والصعلوك:

وقد اعتاد العرب لأسباب كثيرة وبتأثير الحضارة الغربية حياة الترف والدعة والاعتداد الزائد بالكماليات وفضول الحياة والإسراف والتبذير، والاستهانة بمال الله في سبيل اللذة والشهوة والفخر والزينة.

وبجانب هذا الترف والنعيم وحياة البذخ والتبذير، جوع وعري وفقر فاضح، يرى الناظر مناظرة الشائنة في عواصم البلاد العربية فتدمع العين ويحزن القلب وينتكس الرأس حياء وخجلاً، فبينا هنالك رجل عنده فضول الثياب وزائدة الطعام والشراب لا يعرف كيف يستهلكه، إذ ببدوي لا يجد قوت يومه وكسوة جسمه، وبينما أمراء العرب وأغنياؤهم على سيارات تباري الريح وتثير النقع، إذا بفوج من النساء والأطفال عليه ثياب سوداء قد أصبحت خيوطاً من طول اللبس يعدو لأجل فلس أو قرص، فما دامت المدن العربية تجمع بين القصور الشامخة والسيارات الفاخرة، وبين الأكواخ الحقيرة والبيوت المتداعية الضيقة المظلمة، وما دامت التخمة والجوع يزخران في مدينة واحدة، فالباب مفتوح على مصراعيه للشيوعية والثورات والاضطراب والقلق لا تقفها دعاية ولا قوة، وإذا لم يسد النظام الإسلامي في بلاده بجماله واعتداله يحل محله نظام جائر بعسفه وقهره عقاباً من الله كرد فعل عنيف.

التخلص من أنواع الأثرة:

لقد أتى على العالم العربي عهد في التاريخ كانت الحياة فيه تدور حول فرد واحد - وهو شخص الخليفة أو الملك - أو حول حفنة من الرجال - هم الوزراء وأبناء الملك - وكانت البلاد تعتبر ملكاً شخصياً لذلك الفرد السعيد والأمة كلها فوجاً من المماليك والعبيد

، ويتحكم في أموالهم وأملاكهم ونفوسهم وأغراضهم، ولم تكن الأمة التي كانت يحكم عليها إلا ظلاً لشخصه ولم تكن حياته إلا امتداداً لحياته.

لقد كانت الحياة تدور حول هذا الفرد بتاريخها وعلومها وآدابها وشعرها وانتاجها، فإذا استعرض أحد تاريخ هذا العهد أو أدب تلك الفترة من الزمان وجد هذه الشخصية تسيطر على الأمة أو المجتمع، كما تسيطر شجرة باسقة على الحشائش والشجيرات التي تنبت في ظلها وتمنعها من الشمس والهواء، كذلك تضمحل هذه الأمة في شخص هذا الفرد وتذوب فيه وتصبح أمة هزيلة لا شخصية

ص: 248

لها ولا إرادة، ولا حرية لها ولا كرامة.

وكان هذا الفرد هو الذي تدور لأجله عجلة الحياة، فلأجله يتعب الفلاح ويشتغل التاجر ويجتهد الصانع، ويؤلف المؤلف وينظم الشاعر، ولأجله تلد الأمهات، وفي سبيله يموت الرجال وتقاتل الجيوش، بل ولأجله تلفظ الأرض خزائنها ويقذف البحر نفائسه وتستخرج كنوز الأرض خيراتها.

وكانت الأمة - وهي صاحبة الإنتاج وصاحبة الفضل في هذه الرفاهية كلها- تعيش عيش الصعاليك، أو الأرقاء المماليك، وقد تسعد بفتات مائدة الملك وبما يفضل عن حاشيته فتشكر، وقد تُحرم ذلك أيضاً فتصبر، وقد تموت فيها الإنسانية فلا تنكر شيئاً بل تتسابق في التزلف وانتهاز الفرص.

هذا هو العهد الذي ازدهر في الشرق طويلاً وترك رواسب في حياة هذه الأمة ونفوسها وفي أدبها وشعرها، وأخلاقها واجتماعاتها، وخلّف آثاراً باقية في المكتبة العربية، ومن هذه الآثار الناطقة كتاب ((ألف ليلة وليلة)) الذي يصور ذلك العهد تصويراً بارعاً، يوم كان الخليفة في بغداد أو الملك في دمشق أو القاهرة، هو كل شيء، وبطل رواية الحياة ومركز الدائرة إن هذا العهد الذي يمثله كتاب ((ألف ليلة وليلة)) بأساطيره وقصصه، وكتاب الأغاني بتاريخه وأدبه، لم يكن عهداً إسلامياً، ولا عهداً طبيعياً معقولاً، فلا يرضاه الإسلام ولا يقرّه العقل، بل إنما جاء الإسلام بهدمه والقضاء عليه، فقد كان هذا هو العهد الذي بعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم فسماه الجاهلية ونعى عليه وأنكر على ملوكه - ككسرى وقيصر - وعلى أثرتهم وترفهم أشد الإنكار.

إن هذا العهد غير قابل للبقاء والاستمرار في أي مكان وفي أي زمان ولا سبيل إليه إلا إذا كانت الأمة مغلوبة على أمرها أم مصابة في عقلها أو فاقد الوعي والشعور أو ميتة النفس والروح.

إن هذا الوضع لا يقره عقل، ومن الذي يسوّغ أن يتخم فرد أو بضعة أفراد بأنواع الطعام والشراب ويموت آلاف جوعاً ومسبغة، ومن الذي يسوغ أن يعبث ملك أو أبناء ملك بالمال عيث المجانين، والناس لا يجدون من القوت ما يقيم صلبهم ومن الكسوة ما يستر جسمهم، ومن الذي يسوغ أن يكون حظ طبقة - وهي الكثرة - الإنتاج وحده والكدح في الحياة والعمل المضني الذي لا نهاية له، وحظ

ص: 249

طبقة - وهي لا تجاوز عدد الأصابع - إلا التلهي بثمرات تعب الطبقة الأولى من غير شكر وتقدير وفي غير عقل ووعي، ومن الذي يسوغ أن يشقى أهل الصناعة وأهل الذكاء وأهل الاجتهاد وأهل المواهب وأهل الصلاح، وينعم رجال لا يحسنون غير التبذير ولا يعرفون صناعة غير صناعة الفجور وشرب الخمور؟! ومن الذي يسوغ أن تُجفى أهل الكفاية وأهل النبوغ وأهلا الأمانة ويقصوا كالمنبوذين ويجتمع حول ملك أو أمير فوج من خساس النفوس وسخفاء العقول وفاقدي الضمائر ممن لا همَّ لهم إلا ابتزاز الأموال وإرضاء الشهوات، ولا يحسنون فناً من فنون الدنيا غير التملق والإطراء والمؤامرة ضد الأبرياء، ولا يتصفون بشيء غير فقدان الشعور وقلة الحياء.

إنه وضع شاذ لا ينبغي أن يبقى يوماً فضلاً عن أن يبقى أعواماً.

إنه إن سبق في عهد من عهود التاريخ وبقي مدة طويلة فقد كان ذلك على غفلة من الأمة أو على الرغم منها، وبسبب ضعف الإسلام وقوة الجاهلية، ولكنه خليق بأن ينهار ويتداعى كلما أشرقت شمس الإسلام واستيقظ الوعي وهبت الأمة تحاسب نفسها وأفرادها.

فالذين لا يزالون يعيشون في عالم ((ألف ليلة وليلة)) إنما يعيشون في عالم الأحلام، إنما يعيشون في بيت أوهن من بيت العنكبوت، إنما يعيشون في بيت مهدد بالأخطار لا يدرون متى يكبس، ولا يدرون متى تعمل فيه معاول الهدم، وإن سلموا من كل هذا فلا يدرون متى يخر عليهم السقف من فوقهم فإنه بيت قائم على غير أساس متين وعلى غير دعائم قوية.

ألا إن عهد ألف ليلة وليلة قد مضى فلا يخدعنّ أقوام أنفسهم ولا يربطوا نفوسهم يعجلة قد تكسرت وتحطمت، إن الملوكية مصباح - إن جاز هذا التعبير - قد نفذ زيته واحترقت فتيلته، فهو إلا إنطفاء عاجل ولو لم تهب عاصفة.

إنه لا مجل في الإسلام لأي نوع من أنواع الأثرة، إنه لا محل فيه للأثرة الفردية أو العائلية التي نراها في بعض الأمم الشرقية والأقطار الإسلامية ولا محل فيه للأثرة المنظمة التي نراها في أوربا وأمريكا وفي روسيا، فهي في أوربا أثرة حزب من الأحزاب، وفي أمريكا أثرة الرأسماليين، وفي روسيا قلة آمنت بالشيوعية المتطرفة وفرضت نفسها على الكثرة وهي تعامل العمال والمعتقلين بقسوة نادرة ووحشية ربما

ص: 250

لا يوجد لها نظير في تاريخ السخرة الظالمة (1) .

إن الأثرة يجمع أنواعها ستنتهي وإن الإنسانية ستثور عليها وتنتقم منها انتقاماً شديداً، إنه لا مستقبل في العالم إلا للإسلام السمح العادل الوسط وإن طال أجل هذه ((الأثرات)) وأرخي لها العنان وتمادت في غيها وطغيانها مدة من الزمان.

إن الأثرة - فردية كانت أو عائلية أو حزبية أو طبقية - غير طبيعية في حياة الأمة وإنها تتخلص منها في أول فرصة إنه لا محل لها في الإسلام ولا محل لها في مجتمع واع بلغ الرشد ولا أمل في استمرارها؛ فخير للمسلمين وخير للعرب وخير لقادتهم وولاة أمورهم أن يخلصوا أنفسهم منها ويقطعوا صلتهم بها قبل أن تغرق فيغرقوا معها.

إيجاد الوعي في الأمة:

إن أخوف ما يخاف على أمة ويعرضها لكل خطر ويجعلها فريسة للمنافقين ولعبة للعابثين هو فقدان الوعي في هذه الأمة، وافتتانها بكل دعوة واندفاعها إلى كل موجة وخضوعها لكل متسلط وسكونها على كل فظيعة وتحملها لكل ضيم، وأن لا تعقل الأمور ولا تضعها في مواضعها لكل ضيم، وأن لا تعقل الأمور ولا تضعها في مواضعها ولا تميز بين الصديق والعدو وبين الناصح والغاش وأن تلدغ من جحر مرة بعد مرة ولا تنصحها الحوادث

، ولا تروعها التجارب، ولا تنتفع بالكوارث، ولا تزال تولي قيادها من جربت عليه الغش والخديعة والخيانة والأثرة والأنانية، ولا تزال تضع ثقتها فيه وتمكنه من نفسها وأموالها وأعراضها ومفاتيح ملكها وتنسى سريعاً ما لاقت على يده الخسائر والنكبات فيجترئ بذلك السياسيون المحترفون، والقادة الخائنون ويأمنون سخط الأمة ومحاسبتها ويتمادون في غيهم ويسترسلون في خياناتهم وعبثهم ثقة ببلاهة الأمة وسذاجة الشعب وفقدان الوعي.

(1) اقرأ في ذلك كتاب: Forced Labour in Russia

لمؤلفه: Professor Ernest Tallgren

ص: 251

إن الشعوب الإسلامية والبلاد العربية - مع الأسف - ضعيفة الوعي - إذا تحرجنا أن نقول: فاقدة الوعي - فهي لا تعرف صديقها من عدوها ولا تزال تعاملها معاملة سواء أو تعامل العدو أحسن مما تعامل الصديق الناصح وقد يكون الصديق في تعب وجهاد معها طول حياته بخلاف العدو، ولا تزال تلدغ من جحر واحد ألف مرة ولا تعتبر بالحوادث والتجارب، وهي ضعيفة الذاكرة سريعة النسيان تنسى ماضي الزعماء والقادة، وتنسى الحوادث القريبة والبعيدة، وهي ضعيفة في الوعي الاجتماعي وأضعف في الوعي السياسي، وذلك ما جر عليها وبلاً عظيماً وشقاء كبيراً وسلط عليها القيادة الزائفة وفضحها في كل معركة.

إن الأمم الأوربية - برغم إفلاسها في الروح والأخلاق وبرغم عيوبها الكثيرة التي بحثنا عنها في هذا الكتاب - قوية الوعي المدني والسياسي - قد بلغت سن الرشد في السياسة، وأصبحت تعرف نفعها من ضررها، وتميز بين الناصح والخادع، وبين المخلص والمنافق، وبين الكفؤ والعاجز، فلا تولي قيادها إلا الأكفاء الأقوياء الأمناء، ثم لا توليهم أمورهم إلا على حذر، فإذا رأت منهم عجزاً أو خيانة أو رأت أنهم مثلوا دورهم وانتهوا من أمرهم استغنت عنهم وأبدلت بهم رجالاً أقوى منهم وأعظم كفاءة وأجدر بالموقف، ولم يمنعها من إقالتهم أو إقصائهم من الحكم ماضيهم الرائع وأعمالهم الجليلة وانتصارهم في حرب، أو نجاحهم في قضية وبذلك أمنت السياسيين المحترفين، والقيادة الضعيفة أو الخائنة، وخوف ذلك الزعماء ورجال الحكم وكانوا حذرين ساهرين يخافون رقابة الأمة وعقابها وبطش الرأي العام.

فمن أعظم ما تخدم به هذه الأمة وتؤمن من المهازل والمآسي التي لا تكاد تنتهي هو إيجاد الوعي في طبقاتها ودهمائها وتربية الجماهير التربية العقلية والمدنية والسياسية، ولا يخفى

أن الوعي غير فشو التعليم وزوال الأمية وإن كانت هذه الأخيرة من أنجح وسائلها، وليعرف الزعماء السياسيون والقادة أن الأمة التي يعوزها الوعي غير جديرة بالثقة ولا تبعث حالتها على الارتياح وإن أطرت الزعامة والزعماء وقدستهم فإنها - ما دامت ضعيفة الوعي - عرضة لكل دعاية وتهريج وسخرية كريشة في فلاة تلعب بها الرياح ولا نستقر في مكان.

ص: 252

استقلال البلاد العربية في تجارتها وماليتها:

وكذلك لابد للعالم العربي - كالعالم الإسلامي - من الاستقلال في تجارته وماليته وصناعته وتعليمه، لا تلبس شعوبه وجماهيره إلا ما تنبته أرضه وتنسجه يده، وتستغني عن الغرب في جميع شئون حياتها، وفي كل ما تحتاج إليه من كسوة، وطعام، وبضائع، ومصنوعات، وأسلحة وجهاز حربي، وآلات وماكينات، وأدوية، فلا تكون كلاً على الغرب وعيالاً عليه في معيشتها ومتطفلة على مائدته.

إن العالم العربي لا يستطيع أن يحارب الغرب - إذا احتاج إلى ذلك ودعت إليه الظروف - وهو مدين له في ماله، عيال عليه في لباسه وبضائعه، لا يجد قلماً يوقع به على ميثاق مع الغرب، إلا الرصاص الذي أفرغ في الغرب، إن عاراً على الأمة يجري ماء الحياة في عروقها وشرايينها إلى أجسام غيرها، وأن يدرب جيوشها وكلاء الغرب وضباطه، ويدير بعض مصالح حكومتها رجاله، فلابد للعالم العربي أن يقوم هو نفسه بحجاته: تنظيم التجارة والمالية، وحركة التوريد والتصدير، والصناعة الوطنية، وتدرب الجيش، وصنع الآلات والماكينات وتربية الرجال الذين يضطلعون بجميع مهمات الدولة ووظائف الحكومة في خبرة ومهارة فنية، وأمانة ونصيحة.

تقدم مصر في ميدان التجارة والصناعة والعلم:

ولابد هنا من الاعتراف بأن مصر قد أثبتت كفايتها واستعدادها الكبير في ميدان العلم والصناعة، وتربية الرجال، ونشر الثقافة، ونقل العلوم العصرية إلى اللغة العربية، وبواسطتها إلى الأمة العربية، وعنايتها بالصناعة الوطنية، وتنظيم شئون دولتها وماليتها على أساس العلم

العصري، أما فضلها على اللغة العربية وإحياؤُها للكتب العربية، وتقدم الصحافة والطباعة وحركة النشر فيها، فمن المأثر والمفاخر التي سيسجلها التاريخ، ويردد صداها المستقبل، ويدين بفضلها العرب جميعاً.

رجاء العالم الإسلامي من العالم العربي:

والعالم العربي بمواهبه وخصائصه وحسن موقعه الجغرافي وأهميته السياسية يحسن الاضطلاع برسالة الإسلام، ويستطع أن يتقلد زعامة العالم الإسلامي، ويزاحم أوربا بعد الاستعداد الكامل، وينتصر عليها بإيمانه وقوة رسالته ونصر من الله،

ص: 253

ويحول العالم من الشر إلى الخير، ومن النار والدمار إلى الهدوء والسلام.

إلى قمة القبلة العلمية:

ما أعظم التطور الذي حدث في تاريخ العرب على إثر بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ونادت به سورة الإسراء وقصة المعرج في لغة صريحة بليغة وفي أسلوب مبين مشرق (1) ، وما أعظم النعمة التي أسبغها الله على العرب. نقلهم من جزيرتهم التي يتناحرون فيها إلى العالم الفسيح الذي يقودونه بناصيته، ومن الحياة القبلية المحدودة التي ضاقوا بها إلى الإنسانية الواسعة التي يشرفون عليها ويوجهونها، وأصبحوا بفضل هذا التطور العظيم الذي فاجأ العرب وفاجأ العالم يقولون بكل وضوح وشجاعة لإمبراطور المملكة الفارسية العظيمة وأركان دولته:((الله ابتعثنا لنخرج بنا من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام)) .

نعم لقد خرجوا من ضيق الدنيا أولاً إلى سعتها ثم أخرجوا الأمم من ضيق الدنيا إلى سعتها آخراً، وهل أضيق من الحياة القبلية والجنسية، وأوسع من الحياة الإنسانية الآفاق؟

وهل أضيق من الحياة التي لا يفكر فيها إلا في المادة الزائلة والحياة الفانية ولا يجاهد إلا في سبيلها من الحياة الإيمانية الروحانية التي لا نهاية لها ولا تحديد.!؟ .

لقد خرجوا من ضيق جزيرة العرب، ومن ضيق الحياة فيها، ومن ضيق التفكير في مسائلها ومصالحها، ومن ضيق التناحر على سيادتها، ومن ضيق التكالب على حطامها القليل وملكها الضئيل وعيشها الذليل، إلى عالم جديد من السيادة الروحية والخلقية والعلمية والسياسية، ليس الدانوب الفائض والنيل السعيد والفرات العذب والسند الطويل إلا سواقي حقيرة وترعاً صغيرة فيه، وليست جبال الألب والبرانس وعقاب لبنان وقمم همالايا إلا تلالاً متواضعة وسدوداً صغيرة، وليست

(1) تضم سورة الإسراء وقصة المعرج وإعلانات بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو نبى القبيلتين وإمام المشرقين والمغربين ووارث الأنبياء قبله وإمام الأجيال بعده.

ص: 254

البلاد كالهند والصين وتركستان إلا أحياء ضيقة وحارات صغيرة، ونقطاً مغمورة في هذا العالم، وليست هذه الأرض كلها - إذا نظر إليها من ارتقى إلى قمة هذه السيادة - إلا خريطة صغيرة ملونة يراها الطائر المحلق في السماء، وليست الأمم الكبيرة - مع ثقافتها وحضاراتها وآدابها - إلا أسراً صغيرة في أمة كبيرة.

لقد قام العالم الكبيرة على أساس العقيدة الواحدة، والإيمان العميق والصلة الروحية القوية، وكان أوسع عالم عرفه التاريخ وكانت الشعوب التي تكون هذا العالم أقوى أسرة عرفها التاريخ، تنصهر فيها الثقافات المختلفة، والعبقريات المختلفة، فتكون منها ثقافة واحدة هي الثقافة الإسلامية، التي لم تزل تظهر في نوابغ الإسلام الذين لا يحصيهم عدد وفي المآثر الإسلامية - بين علمية وعملية - التي لا يستقصيها التاريخ.

لقد كانت - ولا تزال - قيادة هذا العالم بجدارة واستحقاق أشرف قيادة وأعظمها وأقواها في تاريخ الزعامة والقيادة، وقد أكرم الله بها العرب لما أخلصوا لهذه الدعوة الإسلامية وتفانوا في سبيلها، فأحبهم الناس في العالم حباً لم يعرف له نظير، وقلدوهم في كل شيء تقليداً لم يعرف له نظير، وخضعت للغتهم اللغات، ولثقافتهم الثقافات، ولحضارتهم الحضارات، فكانت لغتهم هي لغة العلم والتأليف في العالم المتمدن من أقصاه إلى قصاه، وهي اللغة المقدسة الحبيبة التي يؤثرها الناس على لغاتهم التي نشأوا عليها، ويؤلفون فيها أعظم مؤلفاتهم وأحب مؤلفاتهم، ويتقنونها كأبنائها وأحسن، وينبغ فيها أدباء ومؤلفون يخضع لهم المثقفون في العالم العربي، ويقر بفضلهم وإمامتهم أدباء العرب ونقادهم.

وكانت حضارتهم هي الحضارة المثلي التي يتمجد الناس ويتظرفون بتقليدها، ويحث علماء الدين على تفضيلها على الحضارات الأخرى ويطلقون على كل ما يخالفها من الحضارات - اسم ((الجاهلية)) و ((العجمية)) وينهون عن اتخاذ شعائرها ومظاهرها.

وبقيت هذه القيادة الشاملة الكاملة مدة طويلة والناس لا يفكرون في ثورة عليها، وفي التخلص منها، كما هي عادة المفتوحين والأمم المغلوبة على أمرها في كل عهد، لأن صلتهم بهذه القيادة ليست صلة المفتوح بالفاتح أو المحكوم بالحاكم أو الرقيق بالسيد القاهر، إنما هي صلة المتدين بالمتدين، وصلة المؤمن بالمؤمن، وعلى

ص: 255

الأكثر إنما هي صلة التابع بالمتبوع الذي سبقه بمعرفة الحق والإيمان بالدعوة والتفاني في سبيلها، فلا محل للثورة، ولا محل للتذمر، ولا محل لنكران الجميل، إنما اللائق أن يعترفون لهم بالفضل، وتلهج ألسنتهم بالشكر والدعاء، وأن يقولوا:{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} .

وهكذا كان، فقد ظلت هذه الأمم المفتوحة تعتبر العرب المنقذ من الجاهلية والوثنية، والداعي إلى دار السلام، والقائد إلى الجنة، والمعلم للحضارة، والأستاذ في الأدب.

هذه هي القيادة العالمية التي هيأتها البعثة المحمدية، وهي القيادة التي يجب أن يحرص عليها العرب أشد الحرص، ويعضوا عليها بالنواجذ، ويسعوا إليها بكل ما أوتوا من مواهب ويتواصى بها الآبار والأبناء، ولا يجوز لهم - في شريعة العقل والدين والغيرة - أن يتخلوا عنها في زمن من الأزمان، ففيها عوض عن كل قيادة مع زيادة، وليس في غيرها عوض عنها وكفاية، وهي القيادة التي تشمل جميع أنواع القيادة والسيارة، وهي تسيطر على القلوب والأرواح، أكثر من سيطرتها على الأجسام والأشباح.

إن الطريق إلى هذه القيادة ممهدة ميسورة للعرب، وهي الطريق التي جربوها في عهدهم الأول ((الإخلاص للدعوة الإسلامية واحتضانها وتنبيها والتفاني في سبيلها وتفضيل منهج الحياة الإسلامي على جميع مناهج الحياة)) .

وبذلك - من غير قصد وإرادة لنيل هذه القيادة وتبوئها - تخضع لهم الأمم الإسلامية في أنحاء العالم، وتتهالك على حبهم وإجلالهم وتقاليدهم، وبذلك تنفتح لهم أبواب جديدة

وميادين جديدة في مشارق الأرض ومغاربها، الميادين التي استعصت على غزاة الغرب ومستعمريه وثارة عليه، وتدخل أمم جديدة في الإسلام، أمم فتية في مواهبها وقواها وذخائرها، أمم تستطيع أن تعارض أوربا في مدنيتها وعلومها إذا وجدت إيماناً جديداً، وديناً جديداً، وروحاً جديداً، ورسالة جديدة.

إلى متى أيها العرب تصرفون قواكم الجبارة التي فتحتم بها العالم القديم في ميادين ضيقة محدودة؟ وإلى متى ينحصر هذا السيل العرم - الذي جرف بالأمس بالمدنيات والحكومات - في خدود هذا الوادي الضيق، تصطرع أمواجه ويلتهم

ص: 256

بعضها بعضاً؟ إليكم هذا العالم الإنساني الفسيح الذي اختاركم الله لقيادته واجتباكم لهدايته، وكانت البعثة المحمدية فاتحة هذا العهد الجديد في تاريخ أمتكم وفي تاريخ العالم جميعاً، وفي مصيركم ومصير العالم جميعاً فاحتضنوا هذه الدعوة الإسلامية من جديد وتفانوا في سبيلها وجاهدوا فيها {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} .

ص: 257