المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌انتصار أهل السنة واندحار أهل البدعة: - التعريف بكتاب محنة الإمام أحمد بن حنبل

[محمد نغش]

الفصل: ‌انتصار أهل السنة واندحار أهل البدعة:

‌تحديد إقامة الإمام أحمد في عهد الواثق:

وتولى الواثق الحكم بعد المعتصم في ربيع الأول سبع وعشرين ومائتين ولم يتعرض للإمام، وقد رأى أن التعذيب لا يفيد فيمن كانت إرادته كالحديد، وعرف فيه أنه عن الحق لا ولن يحيد، ورأى أتباعه في مزيد، ولكنه كتب إلى محمد بن أبي الليث بامتحان الناس أجمعين، فلم يبق أحد فقيه ومحدث ولا مؤذن ولا معلم حتى أخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس وملئت السجون بمن أنكر المحنة، وأمر ابن أبي الليث أن يكتب على المساجد "لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق"، فكتب ذلك على المساجد بفسطاط مصر، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المساجد3.

وبعث إلى الإمام أحمد يحدد إقامته: "لا تساكني بأرض"، وقيل: أمره أن يخرج من بيته، ويظل الإمام أحمد متخفيا حتى مات الواثق، ووقاه الله شره، وأراه سبحانه ثمرة جهاده وصبره، فكرمه وأعلى ذكره، وخسف بأعدائه، وأذلهم وكان في ذلك عبرة.

ص: 385

‌انتصار أهل السنة واندحار أهل البدعة:

ففي عهد المتوكل بعد الواثق - وهو أبو الفضل جعفر بن المعتصم، وكانت ولايته في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين - خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد، وطعن عليهم فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن، ونهى عن الجدال والمناظرة في الآراء وعاقب عليهما، وأمر بإظهار الرواية للحديث فأظهر الله به السنة، وأمات به البدعة، وكشف عن الخلق تلك الغمة، وأنار به تلك الظلمة، وأطلق من كان قد اعتقل بسبب القول بخلق القرآن، ورفع المحنة عن الناس فاستبشر الناس بولايته، وأمر بالقبض على محمد بن عبد الملك الزيات الوزير، ووضعه في تنور إلى أن مات، وذلك في سنة ثلاث ومائتين، وابتلى الله أحمد بن أبي دؤاد بالفالج بعد موت الوزير بسبعة وأربعين يوما، فولي القضاء مكانه ولده أبو الوليد محمد، فلم تكن طريقته مرضية، وكثر ذاموه، وقل شاكروه، ثم

1 سورة النور الآية 22.

2 سورة الشورى الآية 40.

3 ضحى الإسلام لأحمد أمين ج 3 ص 184.

ص: 385

سخط المتوكل على أحمد بن دؤاد ووله محمد في سنة تسع وثلاثين ومائتين، وأخذ جميع ضياع الأب وأمواله من الولد؛ مائة وعشرين ألف دينار وجوهرا بأربعين ألف دينار، وسيره من بغداد من (سر من رأى) ، وولى القضاء يحيى بن أكثم قاضي القضاة، فإنه كان من أئمة الدين وعلماء السنة، ثم مات أحمد بن أبي دؤاد بمرض الفالج في المحرم سنة أربعين ومائتين، ومات ولده محمد قبله بعشرين يوما، وكان بشر المريسي قد أهلكه الله ومات في ذي الحجة سنة ثماني عشرة، وقيل: تسع عشرة ومائتين.

وعن عمران بن موسى قال: دخلت على أبي العروق الجلاد الذي ضرب أحمد لأنظر إليه؛ فمكث خمسة وأربعين يوما ينبح كما ينبح الكلب1.

وقد أقبلت الدنيا على الإمام أحمد وهو زاهد فيها، لا يريد منصبا ولا جاها، ولا يريد طعاما فاخرا، أو خلعة سنية، أو مسكنا شاهقا في الدنيا الدنية، وهو يريد أخرى فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، لا يريد بعد صبره الطويل في محتنه أن يبيع الآجلة بالعاجلة؛ إنه يرفض عطايا السلطان حتى لا يوجده عليه، ولكنه يتصدق بها، ويأتيه طعام الخليفة المتوكل الخاص فلا يأكل منه لقمة، رغم فقره المدقع، ولكن الغني غنى النفس؛ فيا لها من نفس أبية غنية!.

وعظمت مكانة الإمام أحمد لدى الخليفة المتوكل؛ فكان لا يولي أحدا إلا بمشورته، "ومكث الإمام إلى حين وفاته قل أن يأتي يوم إلا ورسالة الخليفة تنفذ إليه في أمور يشاوره فيها ويستشيره، رحمهما الله ورضي عنهما"2.

وهكذا خرج من الاختبار رجلا صالحا، وقد تنوعت طرائق الاختبار، اختبره المأمون بالقيد، فساقه إليه مقيدا مغلولا يثقله الحديد مع بعد الشقة وعظم المشقة، واختبره المعتصم بالحبس والضرب، واختبره الواثق بالمنع والتضييق، فما نهنهوا من نفسه وما يعتقد، وبعد تلك البلايا ابتلي بالبلاء الأكبر، فساق إليه المتوكل بالنعم، فردها وهو عيوف النفس، وكان يشد على بطنه من الجوع، ولا يتناول مما يشك في حله أو يتورع منه، ثم ابتلي أحمد بعد كل هذا بأعظم بلاء ينزل بالنفس البشرية، وهو إعجاب الناس؛ فقد ابتلي بعد أن انتصر على كل الرزايا بإعجاب الناس، فما أورثه ذلك عجبا ولا ولاه بغرور، بل كان المؤمن المحتسب المتواضع لعزة الله وجلاله الذي لم يأخذه الثناء، وبذلك نجح في أعظم البلاء3.

1 المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج 1 ص 39، 40.

2 المنهج الأحمد لأبي اليمن العليمي ج 1 ص 41

3 أحمد بن حنبل لأبي زهرة ص 5، 6.

ص: 386