الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أدب وتاريخ
موقع الأدب
في الثقافة الإسلامية المعاصرة
منصور الأحمد
لقد كان الأدب، وما زال، المرآة التي تعكس تفكير المجتمع، وتشير إلى
مكامن الضعف والقوة في ثقافته وحضارته، وكذلك كان الأدب هو المبشر
بإرهاصات النهضة لأي شعب من الشعوب أو أمة من الأمم.
ولقد تنبهت الشعوب - على ضوء تقدم الدراسات في مختلف المجالات - لما
للأدب من أثر فعال في صياغة وتوجيه الأفكار، وإحلال قيم وأفكار جديدة محل
أخرى قديمة، فاستخدم الأدب من أجل ذلك أكبر استخدام، وتوسل أصحاب الأفكار
والعقائد به، للوصول إلى عقول الجماهير من الناس من أقرب طريق وأسهله.
وإذا ألقينا نظرة عجلى على تاريخنا الأدبي، وجدنا أن الإسلام يوم جاء كان
للعرب حياتهم الاجتماعية الخاصة، وكانت لهم قيمهم الأدبية التي ترتكز على الفخر
بالأمجاد الشخصية أو القبلية، وإن كانت مجانبة للحق والعدل، وعلى الإشادة
ببعض العادات المرذولة كشرب الخمر ولعب الميسر، فلما دخل العرب في الدين
الجديد؛ حدث في حياتهم وأدبهم انقلاب شامل، وشعروا برحابة العالم، وبُعد
الأهداف التي قدمها الإسلام إليهم، وأدركوا أنهم أمناء على تقديم هذه الرسالة للناس
كافة، وأنهم خرجوا من جزيرتهم ليحرروا الناس جميعاً من العبودية لغير الله،
وليزيلوا العراقيل - أيا كانت - من طريق البشرية حتى تحس ببشريتها وتشعر
بتكريم الله لها حين خلقها:
[لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ][الأنفال: 42] .
ولسنا نريد من إشارتنا إلى بعض عادات العرب التي ذمها الإسلام، كاعتداء
القوي علي الضعيف، وشرب الخمر، ووأد البنات، أن نجردهم من كل فضيلة،
ونقع في ما وقع فيه الشعوبيون الذين دفعهم كرههم لعنصر العربي - لحاجات في
نفوسهم - أن نسبوا إليه كل مثلبة، وجردوه من كل منقبة، بل إننا نرى أن الله
ادخر فضله لهذه الأمة بأن جعلها أمينة على الرسالة الخاتمة، عندما لم يكن غيرها
من الأمم أهلاً لذلك.
وهكذا، اندفع العرب بالإسلام، وقدموا للعالم قيماً جديدة خالدة، تمثلت في
قيم العدل، والحرية، والسماحة، والبعد عن التكلف، والتواضع، الإنصاف من
أنفسهم، وحملوا معهم البيان الخالد الذي حفظ لهم لغتهم ووحدتهم، وأمدهم بعناصر
الحياة لهذه القيم العظيمة، فتأثر أدبهم من شعر ونثر وخطابة، بهذا البيان، واستمد
منه عناصر العظمة والخلود المتمثلة بنصاعة التعبير وقوة التأثير.
وإن المتأمل بإنتاج مشاهير الأدب العربي في عصوره الزاهرة من شعراء
وكتاب وخطباء، يتلمس بكل وضوح أثر القرآن الكريم وأثر الإسلام في أدبهم.
إن الأدب شأنه شأن الأمم، يقوى ويزدهر إذا قويت، ويضعف ويجمد إذا
انحطت وضعفت، وذلك لأنه انعكاس لذاكرة الأمة ينشط بنشاطها ويتراجع
بتراجعها.
وقد مرت الأمة الإسلامية - في تاريخها الطويل - بفترات ضعف خضعت
فيها للكثير من المؤثرات الغريبة عنها، وانعكس ذلك على أدبها، وكما كانت هذه
الأمة بما تدخر في كيانها من رصيد، وما تحمله من خميرة كامنة في ذاتها، تصد
اندفاع الهجمات الخارجية، وتتخلص من عدوان المغيرين، وتسلط الطغاة
والطامعين، فكذلك كان أدبها صورة معبرة عن آمالها وأهدافها.
وفي عصر النهضة الأدبية الحديثة، وجدنا أن الذين قامت على أكتافهم هذه
النهضة قد اتخذوا المصادر الإسلامية الأصيلة منطلقاً لهم، فجاء أدبهم امتداداً
للعصور الزاهرة للأدب، يبشر بعودة الأمة إلى تراثها وأصالتها بعد أن ابتعدت
عنها وجمدت نتيجة لمؤثرات كثيرة لا مجال لبسطها.
ولكن سيطرة المستعمرين الغربيين، وما أعقب ذلك من محاولاتهم الدؤوبة
للقضاء على عناصر القوة في كيان هذه الأمة والمتمثل في عقيدتها الإسلامية،
جعلهم يستنبتون عناصر تدين لهم بالولاء، وترتبط مصالحها بمصالحهم، بعيداً عن
آمال أمتها وتاريخها فدرس هؤلاء ثقافة الغرب الغازي، وأورثهم ذلك احتقار
تاريخهم، بالإضافة إلى كثير من نصارى العرب الذين يرتبطون مع هذا الغازي
برباط العقيدة، فوجدوا أن مما يقوي سيطرتهم على المسلمين أن يعملوا على
إضعاف الثقافة الإسلامية.
وهكذا لم يلبث جحافل المستعمرين أن تجلو عن أكثر ديار المسلمين، ولكنها
لم تخرج إلا بعد أن ائتمنت على تطبيق خططها وأفكارها هؤلاء الذين رعتهم
وربتهم وربطت مثيرها بهم، فأحلوا - بالقوة - أفكار الغرب وتقاليده وثقافته محل
الثقافة الإسلامية، فأهملوا النقاط المضيئة من التاريخ الإسلامي، وضخموا
الجوانب السلبية منه، وشوهوا حقائقه، ونسفوا التشريعات الإسلامية وأحلوا محلها
قوانين الغرب الكافر وتشريعاته الوثنية، وفصلوا الأدب عن العقيدة، وابتعدوا به
عن الأخلاق تحت شعارات براقة حيناً كمقولة الفن للفن.
وتحت أمثال هذه الذريعة وجدنا أن الذين أوكل إليهم وضع مناهج الأدب،
وأعيرت لهم منابر الكتابة يتعمدون طمس كثير من الآثار الأدبية الإسلامية،
ويتجاهلون كثيراً من الأسماء التي كانت تصدر في أدبها عن مبدئية إسلامية
واضحة، في الوقت الذي يبرزون فيه كل ما شذ من الأدب قديماً وحديثاً، فيلمّعون
أدب الشهوة والجنس باسم (الواقعية) ويشيدون بالتمرد والشذوذ عن العقائد والأخلاق
باسم التطور والتجديد، وإذا ما نبغ شاعر أو كاتب يسب عقيدة الأمة ويتطاول على
مقدساتها ويتبرأ من تاريخها ويقذف قيمها وتراثها، وينسلخ عن أهدافها، فهو
عندهم الذي تفتح له المغاليق، ويحوز قصب السبق فتفتح له صدور الصحف
والمجلات، وتتسابق فيما بينها للظفر منه بالتحليلات والمقابلات، وتنقل تنطعاته
وحذلقاته موجات الأثير عبر الإذاعات.
وهكذا أعقب خروج الاستعمار العسكري من البلاد الإسلامية انتكاسة في أدب
هذه الأقطار، وذوبان في ثقافة المستعمر وقيمه وتقاليده، وشيوع للبدع الأدبية التي
تتخبط فيها الحضارة الحديثة مثل: (الوجودية) و (الواقعية)
…
وفي هذا الوقت الذي تردت فيه أوضاعنا إلى ما نلاحظه من تفرق وتمزق،
وتعددت فيه مشاربنا من غبر ومن شرق، وكدنا ننسى ما يربطنا بتراثنا وعقيدتنا،
مطلوب من المسلمين - وقد لاحت بوادر رجوعهم إلى دينهم - أن يحلوا أدبهم ما
يليق به من مكانه وأن يسدوا الفراغ الهائل الذي نتج عن شيوع كل ما هو غير
إسلامي من صنوف التعبير والكتابة ومخاطبة الجماهير وذلك لأن الأدب الذي يعبر
عن ذاتية هذه الجماهير أدب فقير مجدب. وأن الأدب المجرد من العقيدة التي
اختلطت بدم معتنقيها، وتخللت ما بين مشاعرهم وعواطفهم لا يجد له استجابة،
ولا يحرك أحداً، بل هو أدب هجين لا تكتب له الحياة.
لقد آن الأوان أن يؤخذ زمام المبادرة من المفسدين في الأرض، ويطرح
للناس أدب يعبر عن تطلعات الشخصية الإسلامية، ويشبع شوقها إلى نماذج نظيفة
من الأدب الذي يقودها في الأوقات العصيبة.
إننا نطرح - عبر هذه المجلة - الدعوة لكل من يأنس من نفسه القدرة على
أن يضيف شيئاً في مجال الإبداع الأدبي، وسوف نعمل - بإذن الله - على تشجيع
كل المواهب الشابة التي تُزوى عنها صفحات المجلات والصحف العلمانية،
مرحبين بكل الأنواع الأدبية من شعر ونثر وقصة، رائدنا في ذلك أن يكون هؤلاء
الكتاب كما وصفهم الشيخ أبو الحسن الندوي في كتابه: (مختارات من أدب العرب) :
(كتاباً مؤمنين.. ملكتهم فكرة أو عقيدة، أو يكتبون لأنفسهم أو إجابة لنداء
ضميرهم وعقيدتهم، مندفعين منبعثين، فتشمل مواهبهم ويفيض خاطرهم،
ويتحرق قلبهم، فتنثال عليهم المعاني، وتطاوعهم الألفاظ وتؤثر كتابتهم في نفوس
قرائها، لأنها خرجت من قبل فلا تستقر إلا في قلب) .
البلاغة والبيان
التحرير
قال علي بن عيسى الرمَّاني:
البلاغة ما حط التكلف عنه، وبنى على التبيين، وكانت الفائدة أغلب عليه
من القافية بأن جمع مع ذلك سهولة المخرج، مع قرب المتناول، وعذوبة اللفظ،
ومع رشاقة المعنى، وأن يكون حسن الابتداء كحسن الانتهاء، وحسن الوصل
كحسن القطع، في المعنى والسمع وكانت كل كلمة قد وقعت في حقها، وإلى جنب
اختها، حتى لا يقال: لو كان كذا في موضع كذا لكان أولى! وحتى لا يكون فيه
لفظ مختلف، ولا معنى مستكره، ثم ألبس بهاء الحكمة، ونور المعرفة، وشرف
المعنى، وجزالة اللفظ، وكانت حلاوته في الصدر، وجلالته في النفس، تفتق
الفهم، وتنثر دقائق الحكم، وكان ظاهر النفع، شريف القصد، معتدل الوزن،
جميل المذهب، كريم المطلب، فصيحاً في معناه، بيناً في فحواه، وكلُّ هذه
الشروط قد حواها القرآن، ولذلك عجز عن معارضته جميع الأنام.
ووصف العتابي رجلاً بليغاً فقال:
كان يظهر ما غمض من الحجة، ويصور الباطل في صورة الحق، ويفهمك
الحاجة من غير إعادة ولا استعانة.
قيل له: وما الاستعانة؟
قال: يقول عند مقاطع كلامه:
يا هناة، واسمع، وفهمت! وما أشبه ذلك. وهذا من أمارات العجز، ودلائل
الحصر! وإنما ينقطع عليه كلامه، فيحاول وصله بهذا فيكون أشد لانقطاعه.
وقال الجاحظ:
البيان اسم لكل شيء كشف لك عن قناع المعنى، وهتك لك الحجب دون
الضمير، حتى يقضي السامع إلى حقيقته، ويهجم على محصوله، كائناً ما كان
ذلك البيان، ومن أي جنس كان ذلك الدليل؛ لأن مدار الأمر والغاية التي إليها
يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام؛ فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت
عن المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع.
زهر الآداب: 100/106/107.
مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي
بقلم: محمد الناصر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونصلي
ونسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:
فإن الشعر الجاهلي
…
شعر قديم متصل الحلقات يصور حياة العرب قبل
الإسلام، فهو سجل العواطف والمفاخر، سجل العصبيات والحروب، فيه أيام
العرب ووقائعهم، وتدوين لأصولهم وأنسابهم، يقول أبو هلال العسكري [1] :
(لا نعرف أنساب العرب وتواريخها وأيامها ووقائعها إلا من جملة أشعارهم
فالشعر ديوان العرب وخزانة حكمتها) .
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
(كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه)[2] .
وللشعر منزلة عظيمة عند العرب وللشاعر مكانة لا تضاهى [3] ، فإذا نبغ في القبيلة شاعر هنأتها القبائل، وصنعت الأطعمة، وأعلنت الأفراح
…
لأنه حماية لأعراضهم وتخليد لمآثرهم، وإشادة بذكرهم، وكانوا لا يهنئون إلا بغلام يولد أو شاعر ينبغ أو فرس تنتج [4] .
وما تكاد القصيدة تلقى حتى تسير بها الرواة، وتنشدها المجالس، قال
المسيب بن علس [5] :
فلأهدين مع الرياح قصيدة
…
مني مغلغلة إلى القعقاع
ترد المياه فما تزال غريبة
…
في القوم بين تمثل وسماع
فقصيدته تنشر بين القبائل ويرددها الناس مستمعين لها ومتمثلين بأبياتها.
والأمثلة كثيرة لشعراء حموا أعراض قبائلهم، ولشعراء تشفعوا لقبائلهم، أو
لأفراد منها فشفعوا، وشعراء رفعوا الوضيع ووضعوا الرفيع
…
فالأعشى يقدم مكة ويمدح المحلَّق ويذكر كرمه وشرفه وحسن صفاته بعد فقر
وخمول ذكر
…
ثم تحدث عن بناته فقال:
أرقت وما هذا السهاد المؤرق
…
وما بي من سقم وما بي معشق
نفى الذيم عن آل المحلق جفنة
…
كجابية السيح العراقي تفهق
فما إن أتم قصيدته حتى انسل الناس إلى المحلق يهنئونه، والأشراف من كل
قبيلة يخطبون بناته العوانس فلم تمس منهن واحدة إلا عصمة رجل أفضل من أبيها
ألف ضعف [6] .
وكان بنو أنف الناقة يأنفون من هذا اللقب حتى إذا مدحهم الحطيئة بقوله:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
…
ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
صار اسمهم شرفاً لهم.
ولقد كانت القبيلة تحرص على رواية شعرها فتعلم صغارها الشعر وحفظ
أشعار القبية خاصة، كما كانت تفعل تغلب في تحفيظ أبنائها معلقة عمرو بن كلثوم، فهجاها شاعر بكر بقوله:
ألهى بني تغلب عن كل مكرمة
…
يروونها أبداً مذ كان أولهم
قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
…
يا للرجال لشعر غير مسلوم [7]
وفي الإسلام يأذن الرسول عليه الصلاة والسلام لحسان بن ثابت أن يهجو
كفار قريش، وقال: «اذهب إلى أبي بكر فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم
ثم اهجهم وجبريل معك» [8] .
وفي السيرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لحسان - رضي
الله عنه -: «لشعرك أشد عليهم من وقع النبل» ، مما يبين لنا أهمية الشعر
في الذب عن الدعوة وأصحابها.
وبعد هذه الشواهد، والأمثلة في مصادر الشعر كثيرة، يتبين لنا مدى اهتمام
العرب بالشعر، فهو خير مصدر لتصوير حياتهم، وهو ديوان العرب كما عرفنا،
ولذلك يمكننا استخراج مفهوم الحياة الجاهلية، في مختلف مظاهرها من هذا الشعر، ثم من ردود القرآن الكريم على الانحراف حيناً لتقويمه وإنكار السلبيات المطلقة
حيناً آخر
…
ولقد حاولت الرجوع إلى المصادر الموثقة للشعر الجاهلي كالمفضليات
والأصمعيات والمعلقات وطبقات فحول الشعراء والشعر والشعراء
…
وغيرها
لتكوين صورة واضحة لما كان عليه القوم في جاهليتهم من مصادر الشعر أولاً
وكتب السيرة والتاريخ التي وصفت لنا حياة أولئك القوم الذين أنعم الله عليهم بنور
الإسلام.
وسترى بعونه تعالى أن كثيراً من مظاهر حياتنا الحديثة وما فيها من عادات
وتقاليد ما هي إلا امتداد لمفهوم الجاهلية العربية
…
جاهلية ما قبل الإسلام
…
تحديد العصر الجاهلي:
قد يتبادر إلى الذهن أن العصر الجاهلي يشمل كل ما سبق الإسلام من حقب،
ولكن البحث يظهر أن الأدب الجاهلي يعود إلى قرن ونصف قبل البعثة النبوية،
يقول الجاحظ [9] :
(أما الشعر العربي فحديث الميلاد صغير السن
…
فإذا استظهرنا الشعر
وجدنا له إلى أن جاء الله بالإسلام خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية
الاستظهار فمائتي عام) .
وما قبل هذا التاريخ قد يشوبه الغموض ولا يعطينا صورة واضحة عن الحياة
الجاهلية مثل إمارة الغساسنة ثم المناذرة، ومملكة كندة في شمالي نجد
…
ومعلوماتنا عن هذه الإمارات فيما وراء القرن السادس الميلادي محدودة [10] .
والسيد محمود شكري الألوسي يحدد فترة الجاهلية بقوله: (وهي الزمن بين
الرسولين، تطلق على زمن الكفر مطلقاً، وعلى ما قبل الفتح وعلى ما كان بين
مولد النبي والبعث) [11] .
وعلى العموم فإن الفترة الجاهلية التي تعنينا هي فترة ما قبل بعثة الرسول -
عليه الصلاة والسلام، وهي لا تمتد أكثر من مائتي عام، لأن ما وراء ذلك من
الزمن يشوبه الغموض ولم يصل إلينا من الشعر الجاهلي قبل تلك الفترة شيء
نطمئن إليه.. وفترة ما قبل الإسلام مباشرة هي الفترة التي ورثنا عنها الشعر
الجاهلي
…
وهذا العصر هو الذي بزغت عيه شمس الإسلام، وصور القرآن
الكريم وأحداث السيرة، كثيراً من معالمه وصراع الحق مع الباطل وزيفه.
معنى الجاهلية:
أ - في كتب اللغة والأدب:
إذا رجعنا إلى معاجم اللغة نجد أن مادة: جهل تعني الجهل الذي هو خلاف
العلم
…
وقد جهل فلان جهلاً وجهلة.
وتجاهل: أي أرى من نفسه ذلك وليس به.
واستجهله: عده جاهلاً واستخفه أيضاً.
والمجهلة: الأمر الذي يحملك على الجهل.
والمجهل: المفازة لا أعلام فيها [12] .
وفي المعجم الوسيط: جهلت القدر جهلاً: اشتد غليانها، وجهل على غيره
جهالة وجهلاً: قسا وتسافه، وجاهله: سافهه.
وفي القرآن: [قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ] .
والجاهلية ما كان عليه العرب قبل الإسلام من الجهالة والضلالة.. والمجهلة:
ما يحمل الإنسان على الجهل وجاء في الحديث الشريف: «الولد مبخلة مجبنة
مجهلة» .
وهكذا (نتبين أن الجاهلية ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضد العلم ونقيضه، إنما هي مشتقة من الجهل بمعنى السفه والغضب والنزق فهي تقابل كلمة الإسلام
التي تدل على الخضوع والطاعة لله عز وجل وما يطوى فيها من سلوك خلقي
كريم) [13] .
وقد تنصرف إلى معنى الجهل الذي هو مقابل الحلم وليس ضد العلم إلا أن
العصر الجاهلي عرف كثيراً من الناس عرفوا بالحلم والتسامح مثل قيس بن عاصم، والأحنف بن قيس، وغيرهما حتى ضربت بحلمهما الأمثال [14] ....
وجاء في معلقة عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أي لا يتسافه أحد علينا
…
وقد يتضمن البيت معنى الظلم والطيش.
ب - وقد جاءت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة بهذا المعنى، معنى
الحمية والطيش والغضب، ففي سورة البقرة: [قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ] ، وفي سورة الأعراف: [خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ] .
وفي الحديث الشريف: أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لأبي ذر،
وقد عير رجلاً بأمه: «إنك امرؤ فيك جاهلية» . أي فيك روح الجاهلية وطيشها
تغضب فلا تحلم.
والذي يظهر لنا أن الجاهلية كانت تعني الجهل لمعنى تجاوز الحق وعدم
معرفته، وتعني أيضاً الحمية حمية الجاهلية بما فيها من ثأر وطيش وحمق وسفه
وكبر.
وأصبحت تطلق على العصر السابق للإسلام مباشرة، وكل ما فيه من وثنية
وأخلاق قوامها الحمية واقتراف ما حرم الدين الحنيف من موبقات [15] .
أما تعبير الجاهلية في كتاب الله فقد جاء في تفسير هذه العبارة في الآية: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ][16] .
(ينكر الله على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي
عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها
الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان من أهل الجاهلية يحكمون به من
الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم) .
وجاء في تفسير هذه الآية في ظلال القرآن لسيد قطب رحمه الله:
(فالجاهلية كما يصفها الله ويحدد قرآنه هي حكم البشر للبشر لأنها هي
عبودية البشر للبشر والخروج من عبودية الله ورفض ألوهية الله والاعتراف في
مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون الله) .
ثم يقول رحمه الله أيضاً:
(إن الجاهلية ليست فترة من الزمان ولكنها وضع من الأوضاع هذا الوضع
يوجد بالأمس، ويجد اليوم، ويوجد غداً، فيأخذ صفة الجاهلية المقابلة للإسلام،
والمناقضة للإسلام
…
فالعبودية لغير الله جرت أهل الجاهلية إلى كل الضلالات
السابقة وتحكيم الأهواء والعادات والتقاليد) [17] .
وهي بناء على ذلك تعني مفهوم الضلالات، والسفه، والطيش، وتحكيم
العادات والتقاليد، بعيداً عن منهج الله في السياسة والاقتصاد والعقائد والحياة
الاجتماعية، وتتلون بشعارات براقة كثيرة، قد تخدع وتسيطر على العقول عندما
تضعف آصرة العقيدة، والتوحيد وتحكيم شرع الله.
وسنتابع هذا المفهوم، مفهوم الجاهلية في الشعر الجاهلي الذي يصور لنا حياة
العرب قبل الإسلام في حروبهم وثاراتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعقائدهم وخرافاتهم،
مما سنجمله في الفصول التالية بإذنه تعالى:
1-
الأول: الحياة السياسية أو الصراع القبلي.
2-
الثاني: الحياة الاجتماعية، وما فيها من عادات وتقاليد.
3-
الثالث: الحياة الدينية، وما فيها من عقائد وتصورات وخرافات.
4-
الرابع: الحياة الاقتصادية وأمور حياتهم ومعاشهم.
الفصل الأول
الحياة السياسية عند العرب
أو: الصراع القبلي
أ - لمحة موجزة عن حياة العرب قبل الإسلام:
إن العرب ينحدرون من أصلين كبيرين: قحطان وعدنان [18] .
1 -
عرب الجنوب:
وكان موطن قحطان باليمن ثم تشعبت قبائله وبطونه من سبأ بن يشجب ابن
يعرب بن قحطان، وكان منهم قبيلة حمير ومنها قضاعة، ومنهم كهلان وأشهرهم
طيء وهمدان وكندة ولخم والأزد، وأولاد جفنة ملوك صحراء الشام.
هاجرت هذه القبائل بعد انهيار مأرب عام (120ق. م) فسكنت الأزد المدينة، وكان منها الأوس والخزرج، ومنهم من نزل على ماء غسان في الشام وأسسوا
إمارة الغساسنة والموالية للروم، أما لخم فقد سكنت الحيرة، واصطفتهم فارس إلى
جوارها وبقي في اليمن كثير من قبائل حمير وكندة وغيرهم.
ويلاحظ أن قبائلهم المهاجرة اختارت غالباً جوار الأمم المتحضرة ويذكر
المؤرخون أن عرب الجنوب كانت لهم قدم راسخة في عمارة القصور والهياكل
وتشييد السدود وكانوا يؤلهون الكواكب والنجوم.
2-
عرب الشمال:
وكان موطن عدنان مكة المكرمة وما جاورها من أرض الحجاز وتهامة، وقد
تشعبت بطون هذا الفرع من نزار بن معد بن عدنان من ولد إسماعيل - عليه
السلام -.
ثم هاجرت بعض هذه البطون إلى مواطن الخصب والكلأ.. فنزلت ربيعة
شرقاً، فأقامت عبد القيس في البحرين، وحذيفة في اليمامة، وأقامت سائر بكر بن
وائل ما بين البحرين واليمامة، وعبرت تغلب الفرات فأقامت في أرض الجزيرة
بين دجلة والفرات، وسكنت تميم في بادية البصرة.
وأما فرع مضر بن معد بن عدنان: فقد نزلت سُليم بالقرب من المدينة
وأقامت ثقيف في الطائف، واستوطنت ساذر هوازن شرقي مكة المكرمة، وسكنت
أسد شرقي تيماء إلى غربي الكوفة وسكنت ذبيان بالقرب من تيماء إلى حورا [19] .
وبقيت معيشة هذه القبائل صحراوية بدوية، ولم تهيء لهم هذه الحياة
الاستقرار إلا في بعض الواحات في الحجاز.. ويظهر أن عرب الشمال لم ينجحوا
في وحدة سياسية قبل الميلاد، فطبيعة بلادهم تدفعهم إلى التشتت والتفرق [20] .
3-
القبائل العربية:
النظام القبلي:
وهكذا (استقرت القبائل العربية في الجزيرة وتجاور العدنانيون والقحطانيون،
ولم يكن لهذه القبائل دولة تشمهم، ولا نظام موحد يسودهم بل كانت كل قبيلة تكون
وحدة اجتماعية وسياسية مستقلة) .
(وكانت هذه القبائل متشابهة في تكوينها ونظامها، فكل قبيلة تقوم على أساس
اشتراك أبنائها في الأصل الواحد والموطن الواحد. والرباط الأقوى في القبيلة هو
العصبية، والعصبية كما يعرفها ابن خلدون في مقدمته: «النصرة على ذوي
القربى وأهل الأرحام أن ينالهم أو تصيبهم هلكة) .
(وأفراد القبيلة متضامنون كلهم في المصائب والمسرات فقالوا: في الحرب
تشترك العشيرة) .
(ثم نشأ عن طبيعة الجزيرة العربية وحتمية انتقال العرب وراء الماء وطلباً
للكلأ، نشأ النظام القبلي كضرورة اجتماعية، وحيوية حتى يتنقلوا في جماعات
عشائر توفر لأفرادها الحماية والأمن.. ولم يقتصر وجودها على البادية بل تعداها
إلى الحواضر على قلتها وتناثرها في الصحراء المترامية) [21] .
ولقد كانت هيمنة القبيلة هي الأساس في البادية والحاضرة حيث أن (هذه
القبائل لم تفقد صورتها القبلية فقد ظل لكل منها منازلها الخاصة ومعاقلها الصغيرة،
وسيادتها وشئونها الخاصة، ومرد ذلك إلى أن رابطة القبيلة كانت أقوى من رابطة
المدينة حتى لقد تؤدي الثارات بين قبيلة وقبيلة إلى انقسام المدينة على نفسها) [22] .
فوحدة القبيلة كانت أمراً مقدساً ترتب عليه طائفة من التقاليد يحدد علاقة
الأفراد مع بعضهم.. وعلاقة الأفراد بقبائلهم لأن القبيلة هي الوحدة الاجتماعية التي
عرفها المجتمع الجاهلي في البادية والمدن.. وكان أفراد القبيلة يؤلفون أسرة واحدة
قائمة بذاتها لا اختلاط فيها، متجانسة لا تباين بين أفرادها.. يعمل الجميع في
سبيل هدف واحد وهو المحافظة عليها [23] .
العصبية:
وقد آمنت القبيلة بوحدتها وجعلت ذلك أمراً مقدساً، ترتب عليه طائفة من
التقاليد الاجتماعية، تحدد واجبات الأفراد وحقوقهم وأساس هذه التقاليد هو العصبية، التي تقضي أن يُنصر الفرد من قبل أفراد قبيلته ظالماً أو مظلوماً.
ولو رجعنا إلى الشعر الجاهلي لوجدنا الكثير منه يصور لنا هذه العصبية دون
الاحتكام إلى عقل مستنير ولا هدى أو بصيرة، لأن التعصب لقبيلته يفوق كل
اعتبار.
يقول دريد بن الصمة [24] :
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
…
فلم يستبينوا الرشد إلى ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى
…
غوايتهم وأنني غير مهتد
وما أنا إلا من غزية إن غوت
…
غويت وإن ترشد غزية أرشد
فالشاعر يرى رأي قبيلته غزية، بل يتنازل عن رأيه من أجل رأيها، ولو
كان خطأً.. فغيه وضلاله، وكذلك رشده ترتبط كلها بعشيرته فإن ضلت ضل معها، وأمعن في ضلاله، وإن اهتدت اهتدى معها وأمعن في هداه.
والنابغة الذبياني يعبر عن المعنى نفسه بقوله [25] :
حدبت علي بطون ضبة كلها
…
إن ظالماً فيهم وإن مظلوماً
وعلى الفرد أن يحترم رأي قبيلته فلا يخرج عليه ولا يكون سبباً في تمزيق
وحدتها أو الإساءة إلى سمعتها بين القبائل أو تحميلها ما لا تطيق، ولذلك اتخذت
القبيلة حق الخلع أي الطرد لبعض أفرادها إذا تمردوا على تقاليدها من قتل بعض
أفرادها أو تعدد جرائره عليها أو سوء سلوكه من الناحية الخلقية حسب مفاهيمهم
للأخلاق آنذاك، ويعتبر الخلع أشد عقوبة توجه للفرد في المجتمع البدوي [26] .
شيخ القبيلة:
فجناية كل فرد من أفراد القبيلة جناية المجموع يعصبونها برأس سيد العشيرة
ولهم عليه أن يتحمل تبعاتها وله عليهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به، وشيخ القبيلة
يكون عادة شيخاً مجرباً هو سيدها له حكمة وسداد رأي وسعة في الثروة.. وهو
الذي يقودها في حروبها ويقسم غنائمها، ويستقبل وفود القبائل الأخري، ويعقد
الصلح والمحالفات ويقيم الضيافات، وسيادته رمزية وإذا بغى كان جزاؤه جزاء
كليب التغلبي عندما بغى وطغى على أحلافه من قبيلة بكر فقتلوه مما كان سبباً في
نشوب حرب البسوس المشهورة.
ولا بد من توفر صفات في شيخ العشيرة وقائدها، كالشجاعة والحسب والكرم
والنجدة وحفظ الجوار وإعانة المعوز ولابد أن يتحمل أكبر قسط من جرائر القبيلة
وما تدفعه من ديات، وغالباً يرث الشيخ سيادته عن آبائه [27] ، وإلى ذلك يشير
معاوية بن مالك سيد بني كلاب وهو الملقب (بمعِّود الحكماء) حيث يقول [28] :
إني امرؤ من عصبة مشهورة
…
حشد، لهم مجد أشم تليد
ألفوا أباهم سيداً وأعانهم
…
كرم وأعمام لهم وجدود
نعطي العشيرة حقها وحقيقها
…
فيها، وتغفر ذنبها وتسود
وإذا تحملنا العشيرة ثقلها
…
قمنا به، وإذا تعود نعود
ويقول عبد الله بن عنمة وكان حليفاً لبني شيبان يرثي بسطام بن قيس سيد
بني شيبان ويذكر أعلام رياسته وقيادته [29] :
لك المرباع منها والصفايا
…
وحكمك والنشيطة والفضول
والمرباع هو ربع الغنيمة كان الرئيس يأخذه في الجاهلية، والصفايا جمع
صفية وهي ما كان يصطفيه الرئيس لنفسه من خيار الغنيمة، والنشيطة ما أصابه
الجيش في طريقه قبل الغارة من فرس أو ناقة، والفضول ما فضل فلم ينقسم نحو
الإداوة والسكين والنوعان الأخيران قد سقطا في الإسلام.
الاعتزاز بالأنساب والقوة:
ولقد آمنت القبيلة بوحدة جنسها - أي وحدة الدم - فهم جنس ممتاز لا تفضلهم
قبيلة أخرى، وهم يفضلون كل القبائل آباؤهم أشرف آباء وأمهاتهم أكرم أمهات،
وهم أجدر الناس أن يكونوا خير الناس، ولعل هذا ما يفسر لنا تلك المنافرات التي
امتلأت بها أخبار العصر الجاهلي، وذلك الفخر الذي تدوي أصداؤه في قصائد
شعرائه [30] .
ولعل معلقة عمرو بن كلثوم خير ما يمثل الاعتزاز بالنسب، والفخر بالآباء،
والأجداد [31] حيث يقول:
1-
ورثت مهلهلاً [32] والخير منه
…
زهيراً نعم ذخر الذاخرينا
2-
وعتاباً وكلثوماً جميعاً
…
بهم نلنا تراث الأكرمينا
3-
ومنا قبله الساعي كليب
…
فأي المجد إلا قد ولينا
ثم يعتز بقوة قبيلته وعزتها وجبروتها فيقول:
4-
ونحن الحاكمون إذا أطعنا
…
ونحن العازمون إذا عُصينا
5-
ونحن التاركون لما سخطنا
…
ونحن الآخذون لما رضينا
6-
وأنا المنعمون إذا قدرنا
…
وأنا المهلكون إذا أتينا
7-
وأنا الشاربون الماء صفواً
…
ويشرب غيرنا كدراً وطيناً
وإلى أن ينسى الشاعر نفسه ويتصور أنهم ملوك الدنيا المتصرفون الباطشون
بلا رادع حيث يقول:
8-
لنا الدنيا ومن أضحى عليها
…
ونبطش حيث نبطش قادرينا
9-
إذا ما الملك سام الناس خسفاً
…
أبينا أن نقر الخسف فينا
والمعلقة كلها ضجيج وصياح وهياج وإزباد يتجاوز حدود العقل إلا أنها
الجاهلية المتغطرسة، انظر إليه حيث يقول:
10 -
إذا بلغ الفطام لنا صبي
…
تخر له الجبابر ساجدينا
11 -
ملأنا البر حتى ضاق عنا
…
وظهر البحر نملؤه سفينا
12-
ألا لا يجهلن أحد علينا
…
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
فالشاعر يفتخر بكثرة عدد عشيرته حتى ملأ أفرادها وجه الأرض وضاق
البحر بسفنهم؟ ! ، وطفلهم إذا بلغ الفطام انحنى له الجبابرة سجوداً ومذلة.
والشواهد كثيرة نختار منها بعض النماذج لإعطاء صورة واضحة عن
جبروت الجاهلية وغطرستها.
فالمرقش الأكبر يفتخر بكثرة عدد قومه من بني بكر بن وائل إذ يقول [33] :
هلا سألت بنا فوارس وائل
…
فلنحن أسرعها إلى أعدائها
ولنحن أكثرها إذا عد الحصى
…
ولنا فواضلها ومجدُ لوائها
ثم يفتخر بقوة قومه في الحروب، فهم شعث الرؤوس لانهماكهم في القتال
أجود ذوو مروءة، وأن ناديهم خير ناد وأشرفه فيقول [34] :
شعث مقادمنا نهبى مراجلنا
…
نأسو بأموالنا آثار أيدينا
المطعمون إذا هبت شآمية
…
وخير ناد رآه الناس نادينا
فهم أصحاب حروب وقرى.
وطرفة بن العبد يفتخر بقبيلته بكر ويتحدث عن كرمها وقوتها وحسبها إذ
يقول [35] :
1-
ولقد تعلم بكر أننا
…
آفة الجزر مساميح يُسُر
2-
ولقد تعلم بكر أننا
…
فاضلو الرأي وفي الروع وُقر
3-
ولقد تعلم بكر أننا
…
صادقو البأس وفي المحفل غر
والشاعر لبيد بن ربيعة يفخر بأحساب قومه وشرفهم في معلقته، فالمجد فيهم
قد سنَّه آباؤهم وعلموهم إياه فتبعه صغارهم بعد كبارهم إذ يقول [36] :
من معشر سنت لهم آباؤهم
…
ولكل قوم سُنَّة وإمامها
فبنوا لنا بيتاً رفيعاً سمكه
…
فسما إليه كهلها وغلامها
وكانت كل قبيلة تؤلف وحدة مناوئة لكل القبائل الأخرى لذلك يحزن الشاعر
ذو الإصبع العدواني على تفرق قومه بني عدوان واختلافهم بعد ائتلافهم واتحادهم
فيقول [37] :
1-
عذير الحي من هذوا
…
من كانوا حية الأرض
2-
بغى بعضهم بعضاً
…
فلم يُرعُوا على بعض
3-
ومنهم كانت السادات
…
والموفون بالقرض
وعدوان من قيس عيلان بن مضر بن نزار، كانوا من أعز العرب وأكثرهم
عدداً ثم وقع بأسهم بينهم فتفانوا.
إن الأنساب مهمة وأساسية في حياة العربي آمن بها إيماناً شديداً، وصارت
علماً عندهم إذا رأوا فيه ما يراه الناس في الوطن الآن.
والقبائل جميعها المتبدية منها والمتحضرة كانت تتحد في نظمها السياسية،
وهي نظم قبلية تشترك في تقاليد وأعراف وتتمسك بهما تمسكاً شديداً، الرابط
الوحيد بين أفرادها هو العصبية، فيها يجد الفرد الأمن والسلامة في مجتمع لا يؤمن
إلا بالقوة حيث لا دولة تحميه، ولا سلطة يتحاكم إليها، والعصبية قبلية ليس فيها
شعور واضح بالجنس العربي العام، حتى الإمارات التي تكونت في شمال الجزيرة
ظلت تقوم على أساس العصبية القبلية.. ولم ينفذ هؤلاء جميعاً إلى فكرة الأمة
العربية أو الجنس العربي بحيث يجمعون العرب تحت لواء واحد، إنما كل ما
هنالك اتحاد قبلي له رئيس [38] ، مما سنراه في حديثنا عن هذه الإمارات.
وكانت القبائل تعقد الأحلاف مع قبائل أخرى من أجل حروبهم ويضع أفراد
القبيلة أنفسهم في خدمتها وخدمة حقوقها وعلى رأسها حق الأخذ بالثأر وكثيراً ما
تتكرر الحروب والغارات وهي ما تسمى بأيام العرب
…
فكل قبيلة مستعدة دائماً
للحرب والإغارة وهلأ دائماً شاكية السلاح، ولذلك كانت الشجاعة والفروسية مثلهم
الأعلى.
هذه الصراعات الدامية تشكل قوام حياة العرب السياسية وعلاقاتهم الحربية.
الإمارات العربية في شمال الجزيرة [39] :
أقام العرب إمارات لهم في عدد من المناطق، في تخوم الشام حيث أسس
الغساسنة إمارة لهم في شرقي الأردن والجولان وأسس المناذرة في الحيرة دولتهم
على أطراف بلاد فارس.. ولقد اصطنعت الدولتان الكبريات هاتين الإمارتين لتكونا
درعاً واقية لهما ضد غارات الأعراب من القبائل العربية، وكثيراً ما وقعت
الحروب بين هاتين الإمارتين لصالح فارس والروم، وبدوافع قبلية أخرى.
(1)
لقد كان من ملوك الغساسنة المشهورين الحارث بن جبلة، وكان قد
تنصر ثم خلفه ابنه المنذر، ومن ملوكهم الحارث الأصغر، وكانت جيوش
الغساسنة تشتبك مع قبائل نجد كبني أسد، وبني فزارة، وقع كثير من أسرى
القبيلتين في يد عمرو أحد أبناء الحارث الأصغر، فقصده النابغة الذبياني يمدحه
متوسلاً إليه في فكاكهم، ومن روائع مدائحه فيه البائية حيث يقول [40] :
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم
…
عصائب طير تهتدي بعصائب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
وعمرو هو ممدوح حسان بن ثابت رضي الله عنه، وقد كان ينزل به
وبغيره من أمراء الغساسنة ومن مدحه فيهم [41] :
أولاد جفنة حول قبر أبيهم
…
قبر ابن مارية الكريم المفضل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
…
شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهم
…
لا يسألون عن السواد المقبل
(2)
أما المناذرة: فقد أقاموا دولتهم في العراق كما عرفنا، حيث رحلت
قبائل لخم وتنوخ، واصطنعهم الفرس ليحاربوا بهم عرب الشام أحلاف الروم،
ومن أهم ملوكهم المنذر بن ماء السماء (514 - 554م) ، وامتد سلطانه على عدد
من قبائل نجد وكان له يومان: يوم نعيم، ويوم بؤس، وممن قتل في يوم بؤسه:
الشاعر عبيد بن الأبرص، ومقتل المنذر في حربه مع الغساسنة في وقعة عين أباغ
عندما سار المنذر في معد كلها إلى الحارث الأعرج ملك العرب بالشام وطلب منه
الفدية أو الحرب إلا أن جيوشه هُزمت بعد أن قُتل ولدان الحارث الأعرج، ثم سار
الحارث إلى الحيرة وأحرقها بعد نهبها [42] ، ثم خلف المنذر ابنه عمرو بن هند،
وكان طاغية مستبداً، هجاه الشعراء منهم سويد بن حذّاق حيث يقول [43] :
أبى القلب أن يأتي السدير وأهله
…
وإن قيل عيش بالسدير غزير
به البَقّ والحُمّى وأسدُ خفَيةٍ
…
وعمرو بن هند يعتدي ويجور
وقد قتله عمرو بن كلثوم في قصة مشهورة يشير إليها في معلقته [44] :
بأي مشيئة عمرو بن هند
…
تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
تهددنا وتوعدنا رويداً
…
متى كنا لأمك مقتوينا [45]
ومن ملوكهم: النعمان الثالث بن المنذر المكنى بأبي قابوس، وقد امتد سلطانه
إلى نجد والبحرين وعمان، واشتهر بلطائمه التي كانت إجارتها سبباً في حروب
شغلت قبائل قيس ردحاً من الزمن، ويقال: إنه لقي مصرعه على يد كسرى بسبب
قتله عدي بن زيد العبادي.. أبو قابوس هو ممدوح النابغة والذي قال فيه اعتذارياته
ومنها قوله [46] :
أنبئت أن أبا قابوس أوعدني
…
ولا قرار على زأر من الأسد
وبسبب مقتل أبي قابوس وودائعه التي تركها في قبيلة بكر كانت وقعة ذي قار
بين بكر وحلفائها وجيوش كسرى من الفرس وحلفائه من قبائل العرب.
لقد أدت هاتان الإمارتان دورهما في خدمة سادتهما خير أداء، فقد بطش
ملوكهم بقبائل العرب بطشاً مريعاً ففي يوم أوارة الأول مثلاً يبطش المنذر بن ماء
السماء بقبيلة بكر؛ لأنها رفضت طاعته، ويقتل منها خلقاً كثيراً بعد حرب دامية،
ثم أسر منهم عدداً كبيراً وأمر بهم أن يذبحوا على جبل أوارة حتى جعل الدم يحمد
وأمر النساء أن يحرقن بالنار [47] .
وابنه عمرو بن هند وضع ابناً له عند سيد بني تميم زرارة بن عُدس، وكان
صغيراً، خرج يصطاد بعد أن أصبح رجلاً، ومر بإبل لزوج ابنة زرارة وأمر
ببكرة منها فنُحرت، وكان صاحب الإبل نائماً فلما انتبه ضربه بعصا ولم يعرفه
فمات.. فخرج سويد صهر زرارة هارباً إلى مكة المكرمة، وهرب زرارة أيضاً
إلى أن قيل له: ائت الملك واصدقه.. فجاء الملك وأخبره الخبر فقال: جئني
بسويد، قال: قد لحق بمكة، قال: فعلي ببنيه، فأتي ببنيه السبعة من ابنة زرارة
وهم غلمة بعضهم فوق بعض فأمر بقتلهم، تناولوا أحدهم فضربوا عنقه، فتعلق
الآخرون بزرارة، فقال زرارة: يا بعضي سرّح بعضاً، ثم قتلوا، وآلى عمرو
ليحرقن من بني درام مائة رجل.. فبعث بجيش على مقدمته عمرو بن ملقط الطائي
فأخذ ثمانية وتسعين منهم - من بني دارم - ولحقه عمرو بن هند في الناس حتى
انتهى إلى أوارة وهو جبل من ناحية البحرين.. وأمر الملك بأخدود فخد لهم ثم
أضرم ناراً ثم قذف بهم في النار، ومن هنا سمته العرب: محرقاً [48] .
وبقي أمر الحيرة مضطرباً بعد مقتل أبي قابوس، حتى فتحها المسلمون،
وأذعنت لخالد بن الوليد رضي الله عنه.
- وهناك إمارة كندة: في شمال نجد في دومة الجندل، ومن أشهر ملوكهم
حجر الملقب بآكل المرار، وقد سيطر على القبائل الشمالية في نجد واليمامة، ثم
جاء بعده حفيده الحارث الذي عين أبناءه على قبائل نجد، منهم ابنه والد امرئ
القيس (حجر) الذي ساءت سيرته في بني أسد فقتلته بعد أن انهزمت كندة وغنمت
أسدٌ أموالهم وفي ذلك يقول عبيد بن الأبرص [49] :
هلا سألت جموع كندة
…
يوم ولوا أين! أينا
وأمضى امرؤ القيس بقية حياته مستعيناً بقبائل العرب من حمير وطيء يريد
أن يثأر من بني أسد، ويستعيد ملك آبائه، فلم يشتف، واتجه إلى قيصر الروم
ولقي حتفه بينما كان راجعاً.. ومن شعره في ذلك [50] :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
…
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما
…
نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
مكة المكرمة وغيرها من مدن الحجاز [51] :
تقوم مكة المكرمة في منتصف الطريق المعبد بين اليمن والشام حيث تمسك
بزمام القوافل التجارية وتعتبر أكبر مركز ديني للوثنية عند العرب.
لقد كانت مسكناً لجرهم وبقايا الأمم البائدة، ثم سكنها إسماعيل - عليه الصلاة
والسلام - وأصهر إلى قبيلة جرهم، ثم أجلت قبيلة خزاعة قبيلة جرهم عن مكة
المكرمة.
ثم نزلها قصي ومعه قبيلة قريش وأصهر إلى خزاعة، وأساءت هذه القبيلة
إلى البيت العتيق فأخرجها قصي ومن معه.
كان قصي بن كلاب مطاعاً في قومه، سيداً رئيساً معظماً، ولي البيت وأمر
مكة وجمّع قومه من منازلهم المتفرقة، وتملك على قومه فملكوه، وأقر العرب على
ما كانوا عليه من النسيء والإجازة من مزدلفة.. حتى جاء الإسلام فهدم به الله كل
ذلك.. وكانت إلى قصي الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فجاز شرف
مكة كله، وقطع مكة رباعاً بين قومه فأنزل كل قوم من قريش منازلهم من مكة.
قال قائلهم في مدح قصي وشرفه [52] :
قصي لعمري كان يُدعى مجمعاً
…
به جمع الله القبائل من فهر
همو ملأوا البطحاء مجداً وسؤدداً
…
وهم طردوا عنا غواة بني بكر
لم تدن مكة لأي ملك أجنبي، وفي ذلك يقول حرب بن أمية [53] :
أبا مطر هلم إلى صلاح
…
فتكفيك الندامى من قريش
فتأمن وسطهم وتعيش فيهم
…
أبا مطر هديت لخير عيش
وتنزل بلدة عزت قديماً
…
وتأمن أن يزورك رب جيش
(ولم يؤد أهل مكة في الجاهلية إتاوة قط، وفرضوا على العرب قاطبة أن
يطرحوا أزواد الحل إذا دخلوا الحرم، وهم بعد أعز العرب فيتأمرون عليهم
…
قاطبة) [54] .
وكانوا يأخذون إتاوة من التجار الأجانب إذا ألموا بهم، مما يؤكد زعامة قريش
ومكانتها عند العرب، فمكة بيت كعبتهم، وبيت تجارتهم، أقاموا حولها الأسواق
التجارية، كسوق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، وكان يعرض فيها الشعر والأدب
أيضاً، وفيها - في مكة - دار الندوة، وهو مجلس شيوخ مصغر للنظر في شؤونها
الدينية والتجارية، وكان كثير من العرب يرى سادة قريش فوق آل جفنة من
الغساسنة إلا أن مجتمعها كان قبلياً على أي حال فهو لا يعدو اتحاد عشائر ارتبط
بعضها ببعض في حلف لغرض سدانة الكعبة والقيام على تجارة القوافل ولا سلطان
لعشيرة على عشيرة.
كان مجلس دار الندوة ينظر في شؤون مكة ومصالحها حسب قوانين العرب
والعادة، وكان للفرد حريته وللجماعة عليه حقوق لا تتناقض مع هذه الحرية [55] .
وكانت الطائف مصيفاً جميلاً يصطاف فيه القرشيون حيث الثمرات اليانعة
والخمرة الصافية، كانت تنزلها قبيلة ثقيف الوثنية، وكانت حياتهم لا تختلف عن
حياة القبائل النجدية البدوية في شيء سوى ما أتاحته لهم زروعهم وثمارهم من
الاستقرار على نحو ما استقرت قريش في مكة المكرمة.
أما المدينة المنورة (يثرب) كما كان اسمها فقد سكنها اليهود في القرن الثاني
الميلادي على أثر اضطهاد الروم لهم في فلسطين، وظلوا يحتفظون بدينهم واتخذوا
العربية لغة لهم في حياتهم اليومية، وظلوا يحتفظون بالعبرية في طقوسهم الدينية،
وظهر بينهم عدد من الشعراء أمثال كعب بن الأشرف.
بقي اليهود يسيطرون على المدينة المنورة حتى وفدت عليهم قبائل الأوس
والخزرج من اليمن، فأصبحوا هم سادتها الحقيقيين، وكانوا وثنيين يحجون إلى
مكة وأصنامها، ويعتمدون على زروع بلدهم وثمارها بينما كان اليهود يعتمدون
على الحرف والصناعات وخاصة صناعة الأسلحة.
كانت حياة الأوس والخزرج تشبه حياة البدو مع أنهم سكنوا آطام المدينة
يتحاربون على نحو ما تتحارب القبائل البدوية
…
كان اليهود يثيرون نار العداوة بينهم حتى كثرت أيامهم ووقائعهم مثل يوم
حاطب ويوم فارع، والبقيع، ويوم بُعاث وغيرها [56] .
وأصبحت الحياة بينهم دامية وكأنما تعاهدوا على الفناء لولا أن مَنّ الله عليهم
برسوله، فأصبحوا بنعمة الله إخواناً.
وكان هنالك قرى خاصة باليهود أشهرها خيبر وفدك وتيماء، ومازالوا بها
حتى أخرجهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الجزيرة كلها
وظهر من بينهم شعراء أمثال السموآل بن عادياء بتيماء الذي كان معاصراً لامرئ
القيس.
ومن المؤكد أن عرب الجاهلية لم يكونوا يطمئنون إلى هؤلاء اليهود جميعاً
ولذلك لم يتأثروا بهم في حياتهم الدينية فقد ظلوا بعيدين عنها [57] .
هذه صورة عامة لحياة العرب وظروفهم السياسية في الحاضرة والبادية في
القبائل والمدن، لم نجد بينها فرقاً يذكر، حيث إن النظام القبلي، هو الذي كان
يسود حياتهم وعلاقاتهم كلها.
وسوف نتعرض في الصفحات القادمة إلى الحروب، والأحلاف وعادات الثأر
والأسر والسبي والصلح والسلم، والأيام التي كانت حديث مجالسهم وسمرهم.
الحروب في الجاهلية:
أ - أسبابها [58] :
إن الصلات القبلية كانت قد أسست على العداء والحروب المتوالية، أو على
المحالفة والنصرة.
ولو تساءلنا ما أسباب هذه الحروب؟ وما الدوافع الكامنة وراء قيامها؟ لوجدنا
أن الاختلاف على الماء والمرعى بسبب جفاف الصحراء وقلة الموارد من أهم هذه
الأسباب، كما حصل في يوم سفوان عندما التقى بنو مازن وبنو شيبان على ماء
يقال له سفوان فزعمت كل قبيلة أنه لها [59] .
وقد تشتعل الحرب رغبة في السلب والغارة؛ لأن هؤلاء الغزاة جعلوا أرزاقهم
في رماحهم، ويصور لنا القطامي (وهو شاعر مخضرم) الفرسان وغاراتهم،
وديدنهم في السلب والغارة [60] :
وكنّ إذا أغرن على جناب
…
وأعوزهن نهب حيث كانا
وأحياناً على بكر أخينا
…
إذا ما لم نجد إلا أخانا
وكان الاستيلاء على الغنائم أو الأسرى من الدوافع الأساسية للحروب الجاهلية ومن وصية أكثم بن صيفي عندما بلغ قومه أن مذحجاً وأحلافهم عازمون على
غزوهم:
(البسوا جلود النمر، والثبات أفضل من القوة، أهنأ الظفر كثرة الأسرى،
وخير الغنيمة المال) [61] .
فالحروب كانت ضرورة أساسية للحصول على العيش ولذلك افتخر الفرسان
بجمع الأسرى والغنائم من الإبل وغيرها.
يقول سلامة بن جندل: إن بقاؤه بعيداً عن الغزو، سيؤخره عن جمع الإبل
التي لا يسقيها الساقي إلا بعد شق النفس والجهد الجهيد لكثرتها [62] :
تقول ابنتي إن انطلاقك واحداً
…
إلى الرّوع يوماً تاركي لا أبا ليا
دعينا من الإشفاق أو قدمي لنا
…
من الحدثان والمنية واقيا
ستتلف نفسي أو سأجمع هجمة
…
ترى ساقييها يألان التراقيا
وقد تثور الحرب بسبب المنافرة بين خصمين سعياً وراء الشهرة والسيادة،
فإذا حكم القاضي لأحدهما زاد العداء اشتعالاً، وإذا كان الحكم خبيراً بما سيجره
حكمه من تصدع سوي بين المتنافرين كما فعل هرم بن قطبة حينما سوّى بين عامر
بن الطفيل وعلقمة بن علاثة العامريين.
وقد تشتعل الحرب نصرة لقريب وإن كان ظالماً أو مظلوماً، على الحقيقة
وليس على المجاز من نصح أخيه وفي ذلك نصرته، وربما عير الشاعر قبيلته من
جراء تخليها عن نصرته، قال قريط بن أنيف، وكان بعض بني شيبان أغار على
إبله، فاستنجد بقومه فلم ينجدوه لجأ عندها إلى بني مازن من قبيلة تميم
…
فأنجدوه [63] :
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
…
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذاً لهبّ لنصري معشر خشن
…
عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
…
في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد
…
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا
…
شدوا الإغارة فرساناً وركبانا
وقد تقوم الحرب لأسباب أخرى منها إجازة المستجير أو حماية الجار كما
حصل في حرب سُمَير بين الأوس والخزرج.
وربما نشأت الحرب بسبب الدفاع عن العرض، أو الأخذ بالثأر، أو بسبب
المنافسة على رئاسة وزعامة، وقد تجر المنافسة الطائشة إلى ويلات وحروب
وتكون الأسباب تافهة كما حصل في حرب البسوس الشهيرة بين بكر وتغلب حيث
قتل كليب على يد جساس ولا ننسى حرب داحس والغبراء، التي استمرت أربعين
سنة، بسبب سباق بين فرسين.
ومن الحروب الشهيرة حروب الفجار، وكلها نشأت لأسباب واهية مما ستجد
نماذج عنها في حديثنا عن أيام العرب بإذنه تعالى.
ويوجز الألوسي أسباب القتال والحروب عامة حيث يقول:
(وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة ومنافسة، وإما عدوان، وإما غضب
لله ولدينه، وإما غضب للمُلك وسعي في تمهيده، فالأول أكثر ما يجري بين القبائل
المتجاورة والعشائر المتناظرة، والثاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم
الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم لأنه جعلوا
أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم.. والثالث وهو المسمى في
الشريعة بالجهاد، والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين
…
لطاعتها..) [64] .
ب - الحروب الطاحنة وأثرها على موضوعات الشعر المختلف:
لعل أهم ما يميز حياة العرب في الجاهلية، أنها كانت حياة حربية تقوم على
سفك الدماء.. حتى لكأن إراقة الدم أصبحت سنة من سنتهم، فهم دائماً قاتلون
مقتولون لا يفرغون من دم إلا إلى دم.
وكانت الحروب تبدأ صغيرة ضعيفة ثم تقوى ويصطلي الجميع بنارها، بل
يترامون فيها ترامي الفراش فيه أمنيتهم ومبتغاهم [65] .
يقول زهير بن أبي سلمى [66] :
إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم
…
طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل [67]
فإن يُقتلوا فيُشفى بدمائهم
…
وكانوا قديماً من مناياهم القتل
فجميعهم يطيرون إلى المستغيث بخيلهم ورماحهم، وتدور رحى الحرب
فيقتلون من أعدائهم ويشفون حقدهم ويقتل منهم أعداؤهم ويشفون غليلهم، يقول
دريد بن الصمة [68] :
وإنا لَلَخمُ السيف غير نكيرة
…
ونلحمه حيناً وليس بذي نكر
يغار علينا واترين فيُشتفى
…
بنا إن صبنا أو تُغير على وتر
قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا
…
فما ينقضي إلا ونحن على شطر
ومثل قبيلة دريد قبائل العرب جميعها فهم طعام السيوف وهم دائماً واترون
موتورون.
وما كانوا يرهبون شيئاً مثل الموت حتف الأنف بعيداً عن ميادين القتال،
ميادين الشرف والبطولة، حيث تتناثر أشلاؤهم وتأكلها السباع، يقول
…
الشنفري [69] :
فلا تقبروني إن قبري محرم
…
عليكم ولكن أبشري أمّ عامر
فهو يتمنى ألا يقبر ويبشر الضبع بجسده حتى يخلد في سجل قتلى الجاهلية.
إن طبيعة العربي في باديته، من حبه للحرية، وتعشقه للقوة، وتفضيله
الموت تحت صليل السيوف على حياة الذل والضيم، جعلت حياته حرباً ضروساً لا
تهدأ، يقول الأفوه الأودي:
نقود ونأبى أن نقاد ولا نرى
…
لقوم علينا في مكارمهم فضلاً
وكانت القبيلة تؤمن إيماناً كلياً بإخضاع القبائل الأخرى لمشيئتها سعياً وراء
المجد الرفيع مما يدفع القبائل إلى التناحر والتصادم [70] .
الفخر والحماسة:
ولقد وصفوا الحرب وصفاً مسهباً فيه فخر واعتزاز فهذا عنترة بن شداد
يصف وطأة الحرب وشدتها إذ يقول [71] :
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى
…
إذا تقلّص الشفتان عن وضح الفم
في حومة الموت التي لا تشتكي
…
غمراتها الأبطال غير تغمغم
لما رأيت القوم أقبل جمعهم
…
يتذامرون كررت غير مذمم [72]
يدعون عنترة والرماح كأنها
…
أشطان بئر في لبان الأدهم [73]
مازلت أرميهم بغرة وجهه
…
ولبانه حتى تسربل بالدم
لو كان يدري ما المحاورة اشتكى
…
ولكان لو علم الكلام مُكلمي
نشوة عجيبة يحس بها عنترة وهو يخوض غمرات الموت، فيسطر لنا
مشاعر الفخر والحماسة في معلقته هذه.
وكان الشعراء يمدحون الشجاع ويفتخرون بالقوة والشجاعة والفروسية. يقول
طرفة بن العبد في معلقته [74] :
أنا الرجل الضرب الذي تعرفونه
…
خشاش كرأس الحية المتوقد
إذا ابتدر القوم السلاح وجدتني
…
منيعاً إذا بلت بقائمة يدي
فالقوة وصليل السيوف، والغارات المريعة، هي قوام حياة العربي في باديته
ومجال فخرة وعزه، حتى أصبحت حكمتهم المنشودة تدعو إلى الظلم حتى لا يُظلم، ولا يجرؤ العدو على انتقاص حقك، يقول زهير بن أبي سلمى [75] :
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه
…
يهدم ومن لا يظلم الناس يُظلم
ومن لا يصانع في أمور كثيرة
…
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
أي من لا يمنع عن عشيرته يذل، ويشرح الأصمعي البيت الأول بقول: من
ملأ حوضه ثم لم يمنع منه غُشي وهدم وهو تمثيل أي من لان للناس ظلموه.
وعمرو بن كلثوم يقول في معلقته [76] :
نسمّى ظالمين وما ظلمنا
…
ولكنَّا سنبدأ ظالمِينا
ثم نراه يصيح بانتصارات قومه وأيامهم المشهورة من مثل قوله [77] :
متى ننقل إلى قوم رحانا
…
يكونوا في اللقاء لها طحينا
يكون ثقالها شرقي نجد
…
ولهوتها قضاعة أجمعينا
نطاعن ما تراضى الناس عنا
…
ونضرب بالسيوف إذا غشينا
ورثنا المجد قد علمت معد
…
نطاعن دونه حتى يبينا
نجذ رؤوسهم في غير وتر
…
فما يدرون ماذا يتقونا
كأن ثيابنا منا ومنهم
…
خُضبن بأرجوان أو طُلينا
(1) الصناعتين: ص138.
(2)
طبقات فحول الشعراء 1/24.
(3)
انظر: الشعر الجاهلي: يحيى الجبوري، والحياة العربية للحوفي.
(4)
العمدة.
(5)
المفضليات: ص62.
(6)
- العمدة 1/25، والسبح: الماء الجاري، والجابية: الحوض الضخم.
(7)
الشعر الجاهلي: يحيى الجبوري ص 136.
(8)
الأغاني: 4.
(9)
الحيوان للجاحظ: 1/74.
(10)
انظر العصر الجاهلي للدكتور شوقي ضيف ص 39.
(11)
بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب 1/15.
(12)
الصحاح للجوهري.
(13)
العصر الجاهلي: دكتور شوقي ضيف ص39.
(14)
انظر الشعر الجاهلي: د يحيى الجبوري.
(15)
انظر المصدري السابقين: العصر الجاهلي، والشعر الجاهلي.
(16)
المائدة: 50، وانظر تفسير ابن كثير.
(17)
في ظلال القرآن ص 904، المجلد الثاني / الآية 50 من سورة المائدة.
(18)
انظر العصر الجاهلي: شوقي ضيف ص 39، والطريق إلى المدائن: أحمد عادل كمال ص40 وانظر أنساب العرب في أيام العرب لجاد المولى ص 408 وما بعدها.
(19)
الطريق إلى المدائن: أحمد عادل كمال.
(20)
الشعر الجاهلي: يحيى الجبوري ص 43 - 44.
(21)
الطريق إلى المدائن ص 47.
(22)
الطريق إلى المدائن ص 47.
(23)
الشعراء الصعاليك: يوسف خليف ص 87.
(24)
الأصمعيات: ص 107.
(25)
أشعار الشعراء الستة الجاهليين، اختيارات الأعلم الشنتمري ص 236، وضية: قبيلة من عذرة ثم من قضاعة، وحديث عطفت وأشفقت.
(26)
انظر أسباب الخلع: كتاب الشعراء الصعاليك ص 91 وما بعدها.
(27)
العصر الجاهلي: د شوقي ضيف ص 59، 60 بتصرف.
(28)
المفضليات رقم القصيدة (104) ص 354 /355، والحشد: الذين يحتشدون ويجتمعون للملمات الثقل: الغرم والدية وغيرهما يقول: نفعل ذلك كلما سللنا مربة بعد مرة.
(29)
الأصمعيات: رقم القصيدة (8) ص37.
(30)
شرح أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون ص37.
(31)
الشعراء الصعالية ص102 - 103.
(32)
شرح القصائد العشر للتبريزي ص 276 وما بعدها.
(33)
مهلهل: هو عدي بن ربيعة أخو كليب، وهو خال امرئ القيس وهو جد عمرو بن كلثوم من قبل أمه، وزهير جده من قبل أبيه.
(34)
المفضليات، رقم القصيدة (51) .
(35)
المفضليات، رقم القصيدة (128) .
(36)
اختيارات الأعلم: ص 422، أ - يسر: الداخلون في الميسر، ب - تفضل آراؤنا وسياستنا رأي غيرنا ولا نخاف عند الروح بل نثبت ونتوقر، ج - أي وجوهنا مشرقة ترتاح للكرم.
(37)
المعلقات العشر شرح التبريزي ص 205 وما بعدها.
(38)
الأصمعيات رقم القصيدة 18، أ - يقول: هات عذراً لحي عدوان فيما فعل بعضهم ببعض من القتل والتباعد بعدما ما كانوا حية الأرض التي يحذرها كل أحد، ب - الإرعاء: الإبقاء على أخيك،
ج - القرض: ما يتجازى به الناس من إحسان وإساءة.
(39)
العصر الجاهلي: د/ شوقي ضيف، ص 57 وما بعدها.
(40)
انظر المصدر السابق والشعر الجاهلي: د يحيى الجبوري.
(41)
اختيارات الأعلم القصيدة رقم (3) ص 202.
(42)
انظر الشعر والشعراء: 1/311 لابن قتيبة.
(43)
انظر أيام العرب: يوم عين أباغ ص 51 محمد أحمد جاد المولى.
(44)
الأغاني 21/126 ط ساسي، والشعر والشعراء 1/394 لابن قتيبة، والسدير قصر ازلملك، وأسد خفية: الخفية غيضة يتخذها الأسد عرينة أو اسم علم لمأسدة بعينها.
(45)
انظر يوم أوارة الأول ص 99 أيام العرب.
(46)
مقتوينا: أي خدماً (المعلقة ص 252 شرح التبريزي) .
(47)
ديوان النابغة، والأعلم في اختياراته ص 196.
(48)
أيام العرب، يوم أوارة الثاني ص 100.
(49)
الشعر والشعراء 1/21 لابن قتيبة.
(50)
انظر الديوان (66/76) واختيارات الأعلم.
(51)
انظر العصر الجاهلي: شوقي ضيف ص 49 وما بعدها.
(52)
البداية والنهاية لابن كثير 2/205 وما بعدها.
(53)
الحيوان للجاحظ 3/141 وصلاح هنا مكة.
(54)
كتاب البلدان لابن الفقيه، نقلاً عن كتاب العصر الجاهلي: شوقي ضيف.
(55)
العصر الجاهلي.
(56)
انظر آيام العرب: حروب الأوس والخزرج ص 62 - 85.
(57)
وانظر العصر الجاهلي: شوقي ضيف.
(58)
انظر الحياة العربية من الشعر الجاهلي ص 230 وما بعدها، والفروسية في الشعر الجاهلي الأول، د محمد أحمد الحوفي، والثاني د نوري القيسي.
(59)
العقد الفريد: 5/201.
(60)
شرح الحماسة للتبريزي: 1/181 نقلاً عن الحياة العربية للحوفي.
(61)
الكامل لابن الأثير 1/261، وأيام العرب ص 126.
(62)
ديوان سلامة بن جندل ص 21، نقلاً عن الفروسية في الشعر الجاهلي.
(63)
شرح الحماسة للتبريزي 1/5.
(64)
بلوغ الأرب في معرفة أحوال العرب: محمود شكري الألوسي 2/56.
(65)
العصر الجاهلي: شوقي ضيف ص 62 وما بعدها.
(66)
ديوان زهير ص 102، والأعزل مفرد عزل: وهو من لا سلاح له، فزعوا أغاثوا.
(67)
المرزوقي 2/825 نقلاً عن العصر الجاهلي نلحمه: نطعمه اللحم الوتر: الثأر.
(68)
المرزوقي 2/487 نقلاً عن العصر الجاهلي.
(69)
الطرائف الأدبية، شعر الأفوه الأودي ص 22.
(70)
الفروسية في الشعر الجاهلي ص 77 وما بعدها.
(71)
شرح المعلقات العشر للتبريزي ص 245، وما بعدها يتذامرون: يحض بعضهم بعضاً.
(72)
أشطان البئر: حباله (ويروى بثغرة نحره) .
(73)
شرح القصائد العشر للتبريزي الضرب: الخفيف خشاش فيه قوة ومضاء بلت: ظفرت وتمكنت.
(74)
شرح المعلقات العشر للتبريزي ص 151.
(75)
شرح المعلقات العشر للتبريزي ص 288.
(76)
المصدر السابق والثفال: خرقة توضع تحت الرحى لاستقبال ما يطحن، اللهوة: القبضة من الحب، يبين: يظهر، الوتر: الثأر، نجذ: نقطع ويروى: نحز رؤوسهم في غير بر، الأرجوان: صبغ أحمر.
(77)
العصر الجاهلي: شوقي ضيف.
معالم
حول كتابة التاريخ الإسلامي
بقلم محمد العبدة
تزداد الحاجة يوماً بعد يوم إلى تنفيذ ما طرح من فترة غير قصيرة حول إعادة
كتابة التاريخ الإسلامي، بعد أن عاث به فساداً المستشرقون والمستغربون على حد
سواء، وهذا الشعور بالحاجة الملحة له أسباب نذكر بعضها:
1-
إن الأمة التي لا تقرأ تاريخها ولا تستفيد منه في حاضرها ومستقبلها لهي
أمة مقطوعة منبتة، فالماضي ليس مفتاحاً لفهم الحاضر فحسب، بل هو من أسس
إعادة صياغة الحاضر، ومقولة (التاريخ يعيد نفسه) ليست خطأ من كل الوجوه،
وقد استخدم القرآن الكريم قصص الأمم السابقة للتأثير في نفوس الناس، أو للتأثير
في نفوس الذين لم تنتكس فطرتهم، قال تعالى: [ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ
مِنْهَا قَائِمٌ وحَصِيدٌ] [هود: 100]، وقال تعالى: [أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ
فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ] [يوسف: 109] .
ولابد لأهل كل عصر من أن يواجهوا النوع ذاته من التعقيدات التي واجهها
أسلافهم، وإن سجل التاريخ ما هو إلا المنار الذي ينبئ الملاحين الجدد عن
الصخور المهلكة التي قد تكون خافية تحت سطح البحر. ولو أن المسلمين في هذا
العصر استوعبوا دروس الماضي لما أخطأوا في كثير من الأمور، كما أن الدراسة
المتأملة للحاضر تساعدنا أيضاً على فهم الماضي، والذي جرب تقلبات الدول
والمجتمعات وشاهد المؤامرات السياسية، وعاين الركود الاقتصادي، يكون أقدر
على تفهم الحوادث الماضية التي ليست نسخة مطابقة للحاضر ولكن فيها شبه كبير
فيه.
يقول المؤرخ ابن الأثير: (وأنه لا يحدث أمر إلا وقد تقدم هو أو نظيره
فيزداد الإنسان بذلك عقلاً ويصبح لأن يقتدي به أهلاً) [1] .
والذي يشاهد ما تفعله بعض الدول الآن من استعانتها بعناصر أجنبية
وتفضيلهم على الأقرباء والدين واللغة يدرك طرفاً من نظرية ابن خلدون في أن
الدول إذا تمكنت تبعد عصبيتها الأولى وتعتمد على عصبيات مجلوبة، من الخارج، ويدرك المؤرخ عقم المحاولة التي قام بها الخليفة المعتصم العباسي لتقوية دولته
عندما جلب الأتراك فتحولوا إلى شوكة في حلق العباسيين، وأصبح المسلم العربي
كما قال المتنبي:
ولكن الفتى العربي فيها
…
غريب الوجه واليد واللسان
2 -
لئن كان التاريخ له أهميته ومنزلته عند المتقدمين من العلماء حيث قام به
أمثال ابن جرير الطبري والبخاري وابن الأثير والذهبي، وكتب السخاوي (الإعلان
بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) لئن كان هذا فهناك علماء لهم رأي آخر، فالغزالي يرى
أنه من العلوم المباحة التي ليس فيها نفع دنيوي ولا أخروي، وأنه كالعلم بالأشعار
التي لا سخف فيها [2] وتابعه النووي في ذلك فقال في (الروضة) : (الكتاب يحتاج
إليه لثلاثة أغراض: التعليم والتفرج بالمطالعة، والاستفادة، فالتفرج لا يعد حاجة
كاقتناء كتب الشعر والتواريخ ونحوها مما لا ينفع في الآخرة ولا في الدنيا) [3] .
وكان من نتائج هذه النظرة أن ضعف الحس التاريخي في العصور المتأخرة،
وفقدت خاصية التأمل والاستفادة من الحوادث، وأصبح التاريخ قصصاً وروايات
للتسلية وللتفريج عن الهم والغم ومرتبته في العلوم تأتي في الدرجة الثالثة أو الرابعة، ومجيء مؤرخ كبير كابن خلدون لم يغير هذه النظرة، لأن الأمة كانت في حالة
تدهور ثقافي، ولم يظفر كتابه المهم في النقد التاريخي بالأهمية والمكانة المناسبة له.
وفي العصر الحديث تنبه المسلمون لما للتاريخ من أهمية بالغة، وخاصة
عندما يكون الجهد منصباً على (استئناف حياة إسلامية) ولذلك لابد من إعادة كتابة
التاريخ الإسلامي.
3 -
إن ما كتبه علماؤنا قديماً، وإن كان عملاً ضخماً، قد حفظوا لنا فيه كل
جزئيات وتفاصيل تاريخنا الإسلامي وجمعوا روايات كثيرة جداً، إلا أن هذه
الروايات تحتاج إلى غربلة وتمحيص لأن فيها الصحيح والضعيف بل والموضوع،
وقد ذكروا لنا مصادرهم حتى يعذروا ولا نحملهم المسؤولية، وما كتبه المحدثون
إنما نسجوا فيه على منوال المستشرقين الذين اهتموا اهتماماً زائداً بالتاريخ
الإسلامي لغاية في أنفسهم وكان لهم منهج خاص في البحث والتنقيب، ولهم منهج
في تفسير النصوص أكثره تهويل، يأتون فيه بالغرائب والعجائب، وذلك
بقصورهم عن فهم اللغة العربية وفهم حركة التاريخ الإسلامي، بالإضافة إلى النية
المبيتة لتشويه التاريخ الإسلامي، وأعجب بهم المستغربون وأصبحت المعادلة
عندهم: ما دام هؤلاء يتقصون هذا التقصي في تفسير النصوص ومدلولاتها فلا بد
أن يكونوا محايدين.
ووقع المسلمون بين قديم ينظر له باحترام وإنصاف ولكنه لم ينق من
الروايات المكذوبة وبين ما كتبه المستشرقون وتلامذتهم وفيه ما فيه من دس وافتراء
متعمد.
4-
استغل أصحاب الاتجاهات المنحرفة بعض الروايات الضعيفة أو
الموضوعة في الموسوعات التاريخية القديمة أو تحليلات المستشرقين المشوهة،
استغلوا هذا في المدارس والجامعات وغرسوا في نفوس الشباب المتعلم أن تاريخنا
لا يعدو أن يكون أحداثاً دموية يتلو بعضها بعضاً وأنه إذا استثنينا الخلفاء الراشدين، بل إذا استثنينا فترة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فكل تاريخنا صراع
على الحكم وترف وفساد في القصور.. وعظمت المصيبة بأمثال هؤلاء، والمتعلم
الناشئ يتأثر بما يقال له، وأصبح الشباب في حيرة واضطراب، فعندما يسألون
عن كتب التاريخ لترشدهم إلى الحقيقة لا يجدون أمامهم إلا كتب الموسوعات الكبيرة
التي من الصعب على أمثالهم الرجوع إليها، أو الكتب المعاصرة وفيها من الجهل
والتشويه الشيء الكثير، وبذلك أيضاً عظمت التبعة على المسلمين وبدأ المخلصون
في التصدي لهذا التيار فكتبت دراسات حول هذا الموضوع [4] ، وصنفت كتب في
التاريخ الإسلامي، هي أفضل بكثير مما كتب في المرحلة السابقة [5] ، ولكن كتابة
التاريخ الإسلامي هي أكبر من هذه الجهود، ولا تزال بحاجة إلى توضيح وبيان،
وصياغة جديدة، والدخول في التفصيلات بعد التعميمات.
وهذا المقال محاولة من هذه المحاولات لعله يكون وغيره ارهاصاً بين يدي
كتابة التاريخ الإسلامي من جديد إن شاء الله.
التفسير الإسلامي للتاريخ:
يلح القرآن الكريم - لمن تدبره وعقله - على أهمية السنن التي وضعها الله
سبحانه وتعالى لهذا الكون، ولتسير فطرة الإنسان عليها، وهذه السنن صالحة،
صلاحاً شاملاً لأنها غير مقيدة بالزمان أو المكان، ويعتقد المسلمون أن تاريخ الأمم
وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته ما هي إلا تفاصيل لجزئيات هذه السنن
وعرّفنا الله سبحانه من الأسباب الكلية للخير والشر [6] .
إن حوادث التاريخ هي من صنع الإنسان حقيقة، ولكنها تجري حسب حكمة
الله وعدله ومشيئته المطلقة في توجيه شؤون البشر [وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ][آل عمران: 140] ، كما أن الإنسان عندما يفعل الخير أو الشر له مشيئة
حقيقية بها يحاسب ويجازى والله خلقه وخلق مشيئته، قال تعالى: [ظَهَرَ الفَسَادُ
فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ] [الروم: 41] .
[فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ][الأنعام: 44] .
[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ][الرعد: 11] .
والله سبحانه وتعالى يحب دفع الشر في الأرض وهو من سننه الكونية، كما
قال: [ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ][البقرة: 251] .
ولكن هذا الدفع يجب أن يقوم به أولياؤه المتقون، فيجاهدون في سبيله، فإذا
لم يقوموا به لم يندفع، وعندئذ تتحول الحياة البشرية إلى مستنقع آسن من الشرور.
وإذا كان الغرب ومؤرخوه قد تنقلوا بين نظريات كثيرة لتعليل أحداث التاريخ، ما بين التأكيد على الجانب الغيبي [7] ، وما بين بروز النزعات المادية كالتفسير
القومي [8] أو التفسير المادي [9] ، كما ظهر التفسير التشاؤمي عند (اشبنجار)[10] ونظرية التحدي عند (توينبي)[11] ، هذه النظريات وإن كان في بعضها
شيء من الحق [12] إلا أن التفسير الإسلامي للتاريخ يختلف ابتداءً عن النظرة
الغربية لأنه ينطلق في الأصل من تكريم الله للإنسان، وأن الله خلق هذا الإنسان
لعبادته، وسخر له كل ما يحتاجه لعمارة هذه الأرض، وأرسل الأنبياء وأنزل
الكتب ليكون أبلغ في العذر، وهذه الحياة الدنيا مؤقتة، والحياة الأخرى هي الباقية، وأوج الحضارة عند المسلم هو عندما يحقق ما يريده الله منه، وما خلق من أجله، وعندئذ يكرم بالاستخلاف في الأرض، وليست قمة الحضارة بقدر ما يمتلكه من
الأشياء وأدوات الترف والغنى والرفاهية والتدمير.
إن محور التفسير الإسلامي للتاريخ هو: إن ما يقع من الحوادث إنما يخضع
لسنن إلهية، كونية أو دينية، وإن ظاهر التدين أصيلة قوية في الإنسان بالفطرة
التي خلقه الله عليها، فهو يتجه إلى الدين ولكن شياطين الإنس والجن يجتالونه عن
هذه الفطرة فيغير ويبدل.
ومن هذه السنن:
1 -
إن الدولة الكبرى أو الحضارات لا تقوم إلا بدين أو ببقايا دين.
2 -
سنة دفع الله الناس بعضهم ببعض ومداولة الأيام بينهم ليتبين الحق
ويظهر الخير.
3 -
زوال الأمم وهلاكها بالترف والفساد وعدم إقامة العدل.
4 -
الناس مسؤولون عن رقيهم وانحطاطهم.
5 -
استحقاق النصر للمؤمنين.
وسنتكلم عن كل واحدة من هذه السنن بشيء من التفصيل:
أولاً - من الملاحظ أن محل الدراسة التاريخية في القرآن الكريم ليس
المقصود بها شعباً معيناً أو دولة معينة بقدر ما هو مقصود: ما هو دين هذه الأمة
وما هي عقيدتها؟ وما موقفها من الرسل والأنبياء؟ فالتركيز على (الملة) باعتبار
أن ظاهرة التدين هي الأصل في الإنسان قال تعالى: [إنَّ الَذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَادُوا
والنَّصَارَى والصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ
رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ] [البقرة/62] ، فالحديث هنا عن (ملل)
معينة وليس عن شعوب أو دول، وعندما يذكر القرآن الحوادث التي وقعت لبني
إسرائيل يسردها دون ترتيب زمني؛ لأن المقصود أن هذه الأمة (يهود) لها صفات
معينة، وهذا واضح من سيرتهم مع نبيهم موسى عليه السلام، وقد امتن الله
على اليهود المعاصرين لفجر الدعوة الإسلامية بنعمة أنعمها على آبائهم، وذلك
لأنهم أمة واحدة، وقصص الأنبياء في القرآن هي قصة الصراع بين التوحيد وبين
الوثنية والأمة الإسلامية يقابلها الأمم النصرانية أو المجوسية.. وقد فرح المسلمون
في مكة ببشارة القرآن لهم بانتصار الروم على الفرس، لأن الروم أهل كتاب فهم
أقرب من المجوس.
وتركيز القرآن علي هذه الناحية يؤكد أن الدين هو العامل الفعال في تكوين
الحضارات والدول الكبرى سواء كان هذا الدين حقاً كما أنزله الله سبحانه وتعالى أو
قد حرف وبدل، المهم هو أن فكرة التدين أو التطلع الغيبي هي التي تعطي الحماس
والجد والعاطفة التي تحتاجها الدول في إبان تأسيسها، وقد خلق الإنسان متديناً
بفطرته، بالعهد الذي أخذ عليه [ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى] بل لا يوجد شعب مهما
كان موغلاً في الهمجية إلا وتطلع إلى الغيبيات، (وإن الغريزة الدينية المشتركة بين
كل الأجناس البشرية لا تختفي بل لا تضعف إلا في فترات الإسراف في الحضارة
وعند عدد قليل جداً من الأفراد) .
يقول المفكر الجزائري مالك بن بني: (فالحضارة لا تنبعث - كما هو ملاحظ- إلا بالعقيدة الدينية، وينبغي أن نبحث في كل حضارة من الحضارات عن أصلها
الديني، وكأنما قدر للإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى
ما وراء حياته الأرضية) [13]، ويقول توينبي: (والتحول الديني كان حقيقة مبدأ
كل شيء في التاريخ الانكليزي) [14] .
وهنا يثار سؤال: كيف تقوم دول كبرى على الوثنية المحضة وليس فيها أي
أثر للدين، كالدول الشيوعية في هذا العصر، والجواب كما قال مالك بن نبي:
(هذا الخطأ الشائع إنما يأتي أولاً من تفسير أصول الشيوعية باعتبارها حضارة،
وثانياً إننا نعتبر الشيوعية (أزمة) للحضارة الغربية المسيحية) [15] . وهذا التفسير
ليس غريباً، فقد ذكرت قبل قليل أن نزعة التدين لا تخلو منها أمة من الأمم إلا في
فترات استثنائية، ولابن تيمية كلام يقرر فيه شيئاً من هذا، يقول رحمه الله
بعد كلام عن الأنبياء وفضلهم على البشرية: (ويقال هنا: إنه ليس في الأرض
مملكة قائمة إلا بنبوة أو آثار نبوة وأن كل خير في الأرض فمن آثار النبوات ولا
يستريبن العاقل في الأقوام الذين درست النبوة فيهم كالبراهمة والمجوس) [16] ،
كما يقرر ابن خلدون المعنى نفسه حيث يقول: (الدول العامة الاستيلاء، العظيمة
الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق) [17] .
ونحن يمكننا أن نضيف على كلام ابن خلدون: أو (بفكرة) تبلغ عند أصحابها
مبلغ التقديس للديانات ويتفانون في تطبيقها، وهذا من ناحية نفسية لا من ناحية
تاريخية، وهذه الحضارات والدول وإن قامت ابتداء على الدين إلا أنه مع تطاول
الزمن والإسراف في الحضارة يبدأ الفساد ينخر فيها ولابد إذن من مبدأ الدفع الذي
سنه الله سبحانه وتعالى.
ثانياً - إن مبدأ الصراع بين الأمم ليظهر الخير ويخفف من الشر هو من
أعظم السنن الكونية، قال تعالى: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ
صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً] [الحج: 40] ، وقال
تعالى: [ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ
عَلَى العَالَمِينَ] [البقرة: 251] .
فالأرض تفسد إذا طال فيها مكث الطواغيت وحكوماتهم الفاسدة، ولم يقم من
يجاهدهم ويدفع فسادهم ويريح العباد والبلاد منهم، والله ذو فضل على الناس أن
جعل هذه السنة من سننه الكونية حتى تتطهر الأرض بين كل فترة وأخرى، كما أن
هذا الصراع يرمي إلى تقوية المؤمنين، فيزداد نشاطهم ويحققوا ما يريده الله منهم،
يقول ابن تيمية شارحاً الآية السابقة:
(وقد بعث الرسل بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها،
فهدم صوامع النصارى وبيعهم فساد، إذا هدمها المجوس والمشركون، وأما إذا
هدمها المسلمون وجعلوا أماكنها مساجد يذكر فيها اسم الله فهذا خير وصلاح، فالله
سبحانه يدفع شر الطائفتين بخيرهما كما دفع المجوس بالروم والنصارى ثم دفع
النصارى بالمؤمنين) [18] .
ويقول أحد المؤرخين الغربيين (هوايتهد) : (إن صراع العقائد والمذاهب ليس
كارثة بل فرصة) .
إن المنطقة العربية - وبلاد الشام خاصة التي بارك الله فيها - من مراكز
الصراع الكبرى في العالم حتى يتبين الحق والباطل ويتمحص أهلها ويأخذوا أجر
الدفع والجهاد في سبيل الله، قال تعالى ذاكراً بلاد الشام: [سُبْحَانَ الَذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى المَسْجِدِ الأَقْصَا الَذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ] [الإسراء: 1]، وقال: [وأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ ومَغَارِبَهَا الَتِي
بَارَكْنَا فِيهَا] [الأعراف: 137] ، وبنوا إسرائيل أورثوا مشارق ومغارب بلاد
الشام، وقال تعالى ذاكراً إبراهيم عليه السلام: [ونَجَّيْنَاهُ ولُوطاً إلَى الأَرْضِ
الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ] [الأنبياء: 81] ، وإبراهيم إنما نجاه الله ولوطاً إلى
أرض الشام.
وعن أبي الدرداء قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يوم
الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين بأرض يقال لها: الغوطة، وفيها مدينة يقال لها:
دمشق خير منازل المسلمين يومئذ» [19] .
وعن خريم بن فاتك الأسدي قال: (أهل الشام سوط الله في الأرض ينتقم بهم
ممن يشاء، كيف يشاء) [20] .
كما ورد في الحديث الصحيح: «إذا أحب الله قوماً ابتلاهم» [21] .
وعلى أرض الشام ومصر قام الصراع بين المسلمين والصليبيين، فكان لهم
فضل رد هؤلاء الغزاة عن كل بلاد المسلمين، وعلى أرض الشام هُزم التتار لأول
مرة بعد زحفهم المدمر على بلاد الإسلام.
وفي العصر الحديث ابتليت باليهود وبكل الحاقدين على الإسلام، فهي في
صراع مستمر حتى يميز الله الخبيث من الطيب ويتخذ منهم شهداء، والذي ينظر
بعين البصيرة إلى تجمع اليهود من كل أنحاء العالم، يشعر وكزنهم يساقون سوقاً
إلى هذه المنطقة، بل استطاعوا جرّ أمريكا وأوربا وراءهم لتصبح من المراكز
الحساسة جداً في السياسة العالمية. يقول الدكتور زين نور الدين زين: (ربما ليس
هناك بقعة أخرى في الدنيا كلها وقعت حروب على أرضها وعبرت شعوب ثم
عادت لتعبر ثانية فوق أرضها كمنطقة الشرق الأدنى، فهذه المنطقة كانت أبداً ساحة
معركة للجيوش، كما أنها كانت معتركاً للفكر) [22]، ويقول أيضاً: (إن المشاكل
الحديثة التي جدت في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية تدفع بالمرء أحياناً إلى
الاستنتاج أن القدر ذاته كان منذ فجر التاريخ يلعب دوراً حاسماً في مصير الشرق
الأدنى وأنه مكتوب على شعوب هذه المنطقة أن تعيش في حالة مستمرة من التوتر
والتنازع، ومنذ سقوط الإمبراطورية العثمانية لم تحسم قط في هذه البقعة من الدنيا
قضية واحدة حسماً نهائياً) [23] .
ويقول الدكتور ج. س. بادو: (مادام هناك ثمرة شهية متدلية من شجرة فإن
قطافها سيغوي أحد الناس وهذا هو السر في تورط منطقة الشرق الأدنى في الشؤون
العالمية) [24] .
والمنطقة ليست ثمرة شهية للغرب والشرق من ناحية الثروات الطبيعية فقط
بل لأنها مركز الصراع الحضاري فالغرب يعتبر (إسرائيل) امتداداً حضارياً له،
وهو في صراع مع المسلمين فلابد إذن من مساعدة اليهود.
إن كثرة ذكر القرآن لليهود وتخصيصهم بالذكر هم والنصارى في سورة
الفاتحة ليدل على أن الصراع بين المسلمين وبين هاتين الفئتين سيكون صراعاً
طويلاً، كما يدل على أثر هاتين الفئتين في الأحداث العالمية، ومن يقرأ الكتب
التي تتحدث عن أثر اليهود في السيطرة على كثير من المؤسسات والدول
واستخدامهم - في سبيل ذلك - المال والنساء والصحافة والواجهات من جمعيات
وأحزاب ذات لافتات براقة، من يقرأ هذا يشعر بأنهم يتلاعبون بالشعوب والأمم
السادرة في غيها وضلالها، ومع أن هناك صيحات تحذير من هنا وهناك ممن
عرفوا حقيقة مكرهم وتخطيطهم من وراء الستار، وأنهم هم سبب الكثير من
الأزمات، الاقتصادية والسياسية، إلا أن هذه التحذيرات لم تعرقل أو تؤخر من
سيطرتهم.
وأما الدول التي تسمي نفسها بالاشتراكية فهي ليست إلا ثمرة من ثمار
اليهودي (ماركس) ومن ثمار المادية الأوروبية.
إن التفسير القرآني للتاريخ بمدافعة الأمم بعضها بعضاً هو أعم وأشمل من
نظرية (التحدي) عند المؤرخ الانكليزي (توينبي) التي هي صادقة في جانب من
جوانب التاريخ الإنساني، فإن تعرض أمة لخطر خارجي أو داخلي قد يظهر من
طاقات أبنائها ما كان خامداً، فإن وقت الأزمات والمصائب هو الوقت الذي يفكر
فيه الناس بالتغيير، ولكن أين هذه النظرية من تفسير القرآن الذي هو عملية
مستمرة وصراع دائم بين الخير والشر ليتغلب الخير أو يخفف من الشر.
ثالثاً - ومن سنته تعالى في البشر أن الأمم التي تبطر معيشتها، وتعيش في
الترف وتنهمك في الملذات، وتقارف الآثام والذنوب، لابد أن يصيبها العقاب إن
آجلاً أو عاجلاً وسواء كان عذاباً مادياً حسياً أو عذاباً معنوياً.
قال تعالى: [وإذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا
القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] [الإسراء: 16] فهلاك القرى إنما يجيء بعد وجود طبقة
المترفين الذين يفسقون فيها، والأمر هنا هو أمر قدري كوني، ولا داعي لتأويلها
بأن الله سبحانه وتعالى أمر المترفين بأن يقيموا حدود الله فلم يقيموها فحق عليهم
القول؛ لأن المترفين في الاصطلاح القرآني قد فسدت فطرتهم فلا يستحقون هذا
التكريم [25] .
وقال تعالى: [ولَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ
ولَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً]
…
... [فاطر: 45] .
وقال: [وقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ
ولَتَعْلُنَّ عُلُواً كَبِيراً * فَإذَا جَاءَ وعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ
فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وكَانَ وعْداً مَّفْعُولاً] [الإسراء: 4-5] .
وقال تعالى: [وكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ
خَبِيراً بَصِيراً] [الإسراء: 17] .
[ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِوالأَرْضِ]
[الأعراف: 96] .
وقد ثبت في الصحيحين لما نزل قوله تعالى: [قُلْ هُوَ القَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ
عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ] قال صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك» [أَوْ
مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] قال: «أعوذ بوجهك» [أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ
بَعْضٍ] قال: «هاتان أهون» [26] .
فعذاب التفرق والتحزب هو من العذاب الذي يصيب المسلمين كما يصيب
غيرهم، بل ربما كان في المسلمين أشد، لأن هذا من عذابهم في الدنيا، وقال -
صلى الله عليه وسلم: «ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب
…
الله» [27] .
وما هذه الأمراض الفتاكة التي تظهر بين الفينة والأخرى وتستعصي على
الطب والأطباء، إلا من عذاب الله لهذه الأمم التي انغمست في حمأة الرذيلة وما هذا
القتل المستمر بين الناس لا يدري القاتل والمقتول فيم يقتتلان، وما هذه الزلازل
المدمرة في لحظات وثوان، إلا من عقاب الله الظاهر والخفي.
يقول ابن تيمية مطبقاً هذه القاعدة على التاريخ الإسلامي: (وقد أصاب أهل
المدينة [28] من القتل والنهب والخوف ما لا يعلمه إلا الله، وكان ذلك لأنهم بعد
الخلفاء الراشدين أحدثوا أعمالاً أوجبت ذلك، وكان على عهد الخلفاء يدفع الله عنهم
بإيمانهم وتقواهم) [29] .
وجاء في (سير أعلام النبلاء) تعليقاً على الأحداث التي جرت في مكة بين
جيش يزيد بقيادة الحصين بن نمير السكوني وبين جيش عبد الله بن الزبير:
(دخل عبد الله بن عمرو المسجد الحرام والكعبة تحترق حين أدبر جيش
حصين بن نمير، فوقف وبكى وقال: أيها الناس، والله لو أن أبا هريرة أخبركم
أنكم قاتلوا ابن نبيكم (الحسين بن علي) ومحرقوا بيت ربكم لقلتم: ما أحد أكذب من
أبي هريرة، فقد فعلتم فانتظروا نقمة الله فليلبسنكم شيعاً، ويذيق بعضكم بأس
بعض) [30] . وأما ما حل بالأمم السابقة بسبب فساد أخلاقها فهو معروف مشهور
وأكبر مثال على ذلك ما حل بالدولة الرومانية، فقد سقطت أمام جحافل الزاحفين
عليها وكأنها لم تكن والفساد والبطر الذي تمارسه أوربا في هذا العصر حدا بالعقلاء
منهم إلى إرسال صيحات الإنذار والخطر، ويقول ألكسس كاريل: (وهذا هو
السبب في أن الأسر والأمم والأجناس التي لم تعرف كيف تميز بين الحلال والحرام
تتحطم في الكوارث، فمرض الحضارة والحرب العالمية نتيجتان ضمنيتان لانتهاك
حرمة النواميس الكونية) [31] .
وكاريل يتحدث عن مرض الحضارة قبل الحرب الثانية وبعدها بقليل، فكيف
لو شاهد قمة التفسخ الأخلاقي والاجتماعي الذي يعيشه الغرب الآن. وهذا ما حدا
أيضاً بمؤرخ كتوينبي أن يطلب من الغرب إعادة الدين إلى قوته الأولى وإيقاف
جبروت العلم [32] .
رابعاً - ومما هو قريب من السنة السابقة: أن الناس هم المسؤولون عن
رقيهم وانحطاطهم، قال تعالى:[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ][الرعد: 11] ، فالتغيير يجب أن يبدأ من الإنسان، والله سبحانه وتعالى ييسر له
السبل التي يريدها والأمة التي تعشش فيها الأفكار الميتة والأنانية والبغض والحسد، وقد ركنت إلى الكسل والخمول، هذه الأمة لا يمكن أن تنتج تقدماً أو شيئاً يذكر
بل إن حكماً علمانياً يمكن أن يستمر ويزدهر بالاتحاد والعدالة أكثر من حكم أدعياء
الإيمان إذا ما ركنوا إلى الأخلاق المنحلة وإلى الفوضى والعصيان [33] .
لقد نقل الإسلام العرب نقلة بعيدة غيرت ما بأنفسهم تغييراً شاملاً وجذرياً،
وكل الأفكار القاتلة من عصبيات وخرافات وعقائد ساذجة مضحكة، كل هذا تغير
بعقيدة التوحيد الواضحة الشاملة لكل مناحي النفس الإنسانية وعندئذ استطاعوا تغيير
ما بأنفس الأمم الأخرى، لقد بدأ التغيير بكلمة [اقرأ] ورجل الفطرة الذي لم
تفسده الفلسفات الباردة أو الترف المردي، إن تدبر القرآن الكريم والسنة النبوية
كفيلان بتغيير ما بالنفس من أمراض ليعود رجل الفطرة إلى دوره في السير على
هدى الله ويحقق ما خلق من أجله. وإن تغيير ما بالنفس ليس عملية صعبة فهذه أمم
في العصر الحديث استطاعت أن تنهض من كبوتها بسبب وجود الإنسان الذي
اكتملت فيه الشروط النفسية للتغيير، وليس بسبب وجود المادة وتراكمها، وأكبر
مثال على ذلك ما فعله الشعب الألماني الغربي بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف
عمر بلده بعد أن أصبح خراباً بسبب الحرب، ورجعت ألمانيا كأقوى الدول الغربية
اقتصادياً، وصدق فيهم ما قاله الصحابي عمرو بن العاص عن أجدادهم الروم:
(وأسرع الناس إفاقة بعد مصيبة)[34] ، وعندما يغير المسلمون ما بأنفسهم سيأخذ
الله سبحانه وتعالى بأيديهم، لأن هذا وعده ومن أصدق من الله قيلاً.
خامساً - في صرح الحق والباطل سينتصر الحق في النهاية وإن انتفش
الباطل وعربد في البداية، وهذه سنة نلاحظها في تفاصيل الحياة اليومية كما
نلاحظها في الأحداث الكبار، قال تعالى: [أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ
بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً ومِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ
مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ
فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ] [الرعد: 17] .
يقول ابن قتيبة شارحاً هذه الآيات: (هذا مثل ضربه الله للحق والباطل يقول: الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلاه، فإن الله سيمحقه ويبطله،
ويجعل العافية للحق وأهله، ومثل ذلك مطر جود أسال الأودية بقدرها [35]
[فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً] أي عالياً على الماء كما يعلو الباطل تارة على الحق،
وكذلك المعادن إذا دخلت الكير يوقد عليها فيعلوها مثل زبد الماء ثم قال: [فَأَمَّا
الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً] أي يلقيه الماء عنه فيتعلق بأصول الشجر وجنبات الوادي،
وكذلك خبث الفلزّ يقذفه الكير، فهذا مثل الباطل [وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي
الأَرْضِ] فهو مثل الحق) [36] .
والمسلمون هم أحق الناس بهذه السنة وإذا تأخر عنهم فلأمر ما في نفوسهم،
أو لأنه لم تتمحص صفوفهم وكيف لا ينصرهم الله سبحانه وهم أولياؤه، وهل
يستوي المجرمون والمسلمون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«نصرت بالرعب مسيرة شهر» وهذا الكلام ليس من باب [نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وأَحِبَّاؤُهُ] ، فهذه لا يفكر فيها المسلم ولكنها من باب وعد الله الصادق بنصر المؤمنين عندما
يكونون مؤمنين فعلاً، قولاً وعملاً، وليس من قبيل الأماني ويجب أن يعتقد من
تأخر عنه النصر والتمكين أنه ما تأخر إلا لسبب أو لأسباب، فلا يلومن إلا نفسه،
ولا يضع المعاذير لنفسه ويلقي بالتبعة على غيره.
للبحث صلة.
(1) السخاوي: الإعلان والتوبيخ لمن ذم التاريخ /23.
(2)
انظر السخاوي: الإعلان والتوبيخ /23.
(3)
المصدر السابق /49.
(4)
من الكتب الجيدة التي ألفت ما كتبه الدكتور محمد رشاد خليل في (المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ وتفسيره) .
(5)
من رواد هذه المرحلة التي تأثرت بالمستشرقين: حسن إبراهيم حسن وأحمد أمين ومن تأثر بهم من تلامذتهم.
(6)
- انظر: ابن القيم: الجواب الكافي /22، ودراسات في حضارة الإسلام لجب/152.
(7)
يقول (نيبور) و (مارتيان) : إن هدف التاريخ يقع خارج التاريخ انظر: ادوار كان: ما هو التاريخ/82.
(8)
الذي يقول بأن هناك مميزات خاصة لجماعات خاصة من البشر.
(9)
الذي قال به ماركس، وقد أخذه عن هيغل الذي يقول بتناسخ الحضارات وأن كل حضارة تحمل في داخلها تناقضاً وهذا التناقض يصطدم مع ضده فينتج شيئاً ثالثاً، وهكذا فالعالم يتجه إلى الروح الكلي! ! حور ماركوس هذه النظرية وقال: إن طرق الإنتاج هي التي تعين طرائق التفكير، وهكذا يستمر صراع الطبقات حتى ينتهي الأمر أخيراً إلى حكم طبقة العمال، انظر لويس جودشك: كيف نفهم التاريخ /549.
(10)
يرى هذا المؤرخ أن الحضارة كالإنسان تماماً، ولابد أن تمر بفترة النشوء والشباب ثم الهرم فالفناء محتم عليها.
(11)
يفسر (توينبي) الحضارة بأنها: رد معين يقوم به أحد الشعوب أو الأجناس في مواجهة (تحد) معين، والطبيعة بالخصوص - أي الجغرافيا - هي التي تقوم بهذا التحدي، وحسب مستوى التحدي وفعالية الرد تقوم حضارة هذا الشعب إما بالتقدم والوثوب إلى الأمام، أو الجمود ومن ثم الفناء، انظر:(شروط النهضة لمالك بن نبي/88) .
(12)
محمد عبد الله دراز: الدين /84.
(13)
شروط النهضة /67 - ط، مكتبة دار العروبة بالقاهرة.
(14)
مختصر دراسة للتاريخ 1/5.
(15)
شروط النهضة/73.
(16)
الصارم المسلول /250.
(17)
المقدمة 2/526، نشرة علي عبد الواحد واقي.
(18)
الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح 1/271.
(19)
أخرجه أبو داود 2/211، والحاكم وأحمد، انظر فضائل الشام للربعي /38 - بتحقيق الألباني.
(20)
قال الألباني في تعليقه على مناقب الشام لابن تيمية: إسناده صحيح وهو موقوف.
(21)
صحيح الجامع الصغير 1/139.
(22)
الصراع الدولي في الشرق الأوسط /14.
(23)
المصدر السابق /181 والمؤلف في تعبيراته (الشرق الأدنى) أو (الامبراطورية) متأثر بمسميات الغربيين لتاريخنا.
(24)
المصدر السابق /20.
(25)
وقد يوضح هذا الأمر الكوني تفسيران: 1 - أن (أمرنا) هنا بمعنى كثرنا من أمر المال، يأمر إذا كثر، يقال: خير المال سِكَّةِ مأبورة، أو مهرة مأمورة، فالمأمور: الكثير الولد، والسكة: السطر من النخل، والمأبورة: المُصلَحة 2 - ومن القراءات في الآية: أمرنا مترفيها، أي أصبحوا هم الأمراء حتى يحق عليها القول، فالله يريد أن يهلك هذه القرية لفسادها، فكانت كثرة المترفين أو وجودهم كأمراء هو السبب المباشر والتفسيران يرجعان إلى أن الأمر قدري كوني، وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله، انظر الأمالي لأبي علي القاري 1/103 ط، دار الشعب.
(26)
فتاوى ابن تيمية 3/285.
(27)
صحيح الجامع الصغير 5/141، قال عنه الألباني: حسن.
(28)
يعني بذلك: وقعة الحرة عندما ثار أهل المدينة على يزيد بن معاوية.
(29)
الفتاوى 11/114.
(30)
الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/94.
(31)
تأملات في سلوم الأنسان /41 - نشرة جامعة الدول العربية.
(32)
توينبي: الإنسان وأمه الأرض، انظر: زكي محمود - هذا العصر وثقافته / 27.
(33)
انظر ما كتبه الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه: (دستور الأخلاق في القرآن) حول هذا الموضوع، وما كتبه الأستاذ جودت سعيد حول سنن تغير ما بالنفس في كتابه (حتى يغيروا ما بأنفسهم) .
(34)
مختصر صحيح مسلم للمنذري، تحقيق الألباني/296.
(35)
أي: الكبيرة على قدره، والصغيرة على قدره.
(36)
ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن /326 - تحقيق: سيد صقر.