المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الإسلام في نظر مسؤول إنجليزي معاصر - مجلة البيان - جـ ١٣٦

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌الإسلام في نظر مسؤول إنجليزي معاصر

المسلمون والعالم

‌الإسلام في نظر مسؤول إنجليزي معاصر

د. جلال الدين صالح

ألقى وزير الخارجية البريطاني (روبين كوك) كلمة عن علاقة الغرب وخاصة

بريطانيا بالإسلام في الآونة الأخيرة، وكانت تلك الكلمة بتاريخ 8 أكتوبر 1998م،

وألقاها عند زيارته للمركز الإسماعيلي بلندن. وقد مست الحاجة إلى التعليق على

تلك الكلمة حتى لا تحمّل أكثر مما تحتمل، وقد جاءنا تعقيب من الدكتور جلال

الدين صالح على تلك الكلمة، و (·البيان) تنشر الكلمة وتنشر التعقيب.

كلمة الوزير البريطاني:

(من دواعي سروري أن أتيحت لي الفرصة لزيارة الجالية الإسماعيلية

ولزيارة مركزها الرائع أيضاً. فهذا المركز هو جوهرة من تحف المعمار الإسلامي

وأجمل مذكّر لنا في صميم مدينة لندن بأن جذور ثقافتنا ليست يونانية أو رومانية

الأصل فحسب بل هي إسلامية أيضاً. فالفن الإسلامي والعلوم والفلسفة الإسلامية قد

ساعدت على تشكيل تطورنا، وعملت على تكييف نمونا أفراداً، وتداخلت في كيفية

تفكيرنا وطريقة معيشتنا؛ فالأرقام الإسلامية ما زالت معنا وهي التي علمتنا طريقة

العد الصحيحة.

إن ثقافتنا مدينة للإسلام بديْن يجدر بالغرب أن لا ينساه، ونحن نقوم حالياً

بتطوير علاقاتنا مع العالم الإسلامي. وقد سمحنا للأيام أن تبعد بعضنا عن بعض،

وسمحنا لسوء التفاهم وعدم الثقة أن ينموا ويكبرا ويفرقا بين الغرب والإسلام.

يجب أن لا ندع سوء التفاهم بيننا يستمر ويتواصل؛ ذلك لأنه أصلاً من

الخطأ أن تصدر ثقافتان عظيمتان حكماً جائراً بعضهما على بعض بهذه الصورة

المؤسفة.

ثم إنه في عالم اليوم ليس لدينا أي خيار أو مفر من العيش معاً والعمل

متآزرين بسلام ووئام. إن التحديات التي نواجهها هي تحديات عالمية؛ وذلك من

شأنه أن يؤثر على الشرق الأوسط بالقدر الذي يؤثر به على أوروبا أيضاً.

والشباب في طهران أو القاهرة هم ضحايا تجارة المخدرات مثل ما هو الحال في

لندن أو أدنبرة. وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط يقلق أوروبا بصفتها أقرب جار

للمنطقة مثلما يقلق المجتمع الإسلامي. فالخيار هنا هو إما أن نعمل معاً متضافرين

وننتصر معاً أو نترك عدم الثقة والتوجس والخيفة فيما بيننا على ما هي عليه

وتكون النتيجة من ذلك كله أن نخسر جميعاً.

وبعضهم يقول: إن الغرب بحاجة إلى عدو! وبما أن الحرب الباردة قد ولّت

إلى غير رجعة فإن الإسلام سيأخذ مكان الاتحاد السوفييتي القديم واعتباره عدواً.

ويقولون إن (صراع الحضارات) قادم لا مفر منه. وأنا أقول: إنهم مخطئون بل

ومخطئون خطأً فادحاً؛ فنحن لسنا بحاجة إلى الإسلام عدواً بل نحن بحاجة إليه

صديقاً. فقد تكون الحضارات التي لدينا مختلفة، وقد تكون الديانات أيضاً مختلفة،

ولكن هذا لا يعني أننا لا نستطيع أن نتعايش معاً، وأن ننسجم معاً.

وهكذا علينا أن نتعاون معاً لدحر هذه النبوءة. يقول القرآن الكريم في سورة

الحجرات: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ

لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] [الحجرات: 13] .

وبوحي هذه الإرشادات الكريمة علينا أن نعمل معاً لتحسين التفاهم بيننا

وتفكيك تلك الصور الخاطئة والمشوّهة التي يرسمها بعضنا لبعض للتخلص تماماً

من مشاعر عدم الثقة التي تضر بالجميع.

كلّ يرى الآخر على صورة بدائية مشوهة:

يرى أحدنا الآخر إلى حد كبير عبر الصورة المبسطة والمشوهة والخطيرة

التي يرسمها بعضنا لبعض؛ فالإسلام يرى أن الغرب مادي يُفتقد فيه احترام

الروحانية، وعلى أنه عدو للإسلام وعاقد العزم على استعمال قيم الغرب المتحررة

لتقويض المجتمعات الإسلامية. والغرب من ناحيته يساوي الإسلام بالأعمال

المتطرفة التي يقوم بها البعض؛ فعدد كبير من وسائل الإعلام هنا لا يرى الإسلام

ثقافة غنية جليلة مزدهرة ومتنوعة تدعمها ديانة من أعظم الديانات في العالم، بل

يرون أنه الأعمال الإرهابية التي يرتكبها القلة باسم الإسلام.

إن كلتا النظريتين في غير محلها؛ فالحقيقة أن أسامة بن لادن لا يمثل وحده

الإسلام، كما أن الذين ارتكبوا عملية (أوما) الإرهابية لا يمثلون قيم الغرب.

والقائل: إن ثقافاتنا غير متجانسة هو مخطئ؛ فإن هناك قدْراً كبيراً من المعارف

يمكن أن يتعلمها بعضنا من الآخر.

الإسلام يسهم في ثقافة الغرب:

الغرب مدين للإسلام بالشيء الكثير؛ فالإسلام وضع الأسس الفكرية لمجالات

عديدة مهمة وكبيرة في الحضارة الغربية. فمن الأرقام العربية التي نستعملها، إلى

فهمنا للأفلاك؛ فإن الشيء الكثير من أسس حضارتنا يعود الفضل فيها إلى العِلم

الإسلامي.

ومن أكبر الأخطاء التي يمكن للغرب أن يرتكبها هو الظن بأن الثقافة

الإسلامية شيء غريب عنا؛ فهي ليست كذلك البتة؛ فإن ثقافتينا قد تشابكتا معاً

عبر التاريخ والأجيال، وهما تتشابكان أيضاً في وقتنا الحاضر، ويجب أن تستمرا

في التشابك كلما أصبح مستقبل كل منا مرتبطاً بالآخر.

وفي الأسبوع الماضي قلت لمؤتمر حزب العمال بأن من أهم التحديات

الجوهرية التي نواجهها في هذه الأيام هي كيفية تشكيل علاقة إيجابية مع العالم

الإسلامي. وهذه من المسائل الرئيسة التي تشغل تفكيري بصفتي وزيراً للخارجية.

بداية عهد جديد مع إيران:

أرى أننا نسير قُدُماً وبنجاح في هذا المجال؛ فنحن نقوم بتذليل بعض العقبات

الرئيسة التي تعكر الجو بين الغرب والعالم الإسلامي واحدة تلو واحدة؛ ففي

نيويورك عقدتُ منذ أسبوعين محادثات مع الدكتور كمال خرازي وزير خارجية

إيران، وكانت هذه المحادثات مختلفة عما يجري عادة بين وزراء الخارجية. فقمنا

سوياً بإعطاء العلاقات بين إيران وبريطانيا بداية جديدة.

وقد أوضح الدكتور خرازي بأن سلمان رشدي لا يواجه أي خطر تجيزه أو

تسمح به الحكومة الإيرانية. ولكن أبعاد هذه القضية تذهب إلى أبعد من ذلك، فهي

تعني أنه يمكن لبريطانيا وإيران أن تعملا معاً لمواجهة التحديات المشتركة على حد

سواء. فمثلاً سيزداد التعاون العملي فيما بيننا ضد تجارة المخدرات. وسيصبح

الآن بمقدور الاتحاد الأوروبي أن يقيم مع إيران علاقة بناءة أكثر من قبل.

إن مفاوضاتنا مع الأمريكان في الربيع الماضي بالنيابة عن الاتحاد الأوروبي

قد أزالت فتيل الخطر عن التجارة بين أوروبا وإيران بموجب قانون العقوبات

الاقتصادية ضد إيران وليبيا الذي سنته الولايات المتحدة، وستنفتح الأبواب أمام

فرص جديدة عديدة للتجارة والاستثمار بين الجانبين وتكون مفيدة للطرفين.

حان الوقت لإجراء حوار جديد:

نحن نسير على الدرب الصحيح لحل المشكلات العالقة بيننا. وهكذا فقد آن

الأوان للبدء ببناء التفاهم والثقة اللتين نحن بأمسّ الحاجة إليهما. اليوم أريد أن

أقترح أن نبدأ حواراً جدياً بين أوروبا والعالم الإسلامي فقد حان الوقت ليبدأ الاتحاد

الأوربي ومنظمة المؤتمر الإسلامي بالكلام معاً على أعلى مستوى ممكن، ويتحاور

أعضاؤهما حول العديد من القضايا التي تهم الجانبين.

دعونا نتكلم عن البلقان، وعن عملية السلام في الشرق الأوسط، وعن

أفغانستان، وعن الإرهاب وحقوق الإنسان ومعاملة الأقليات؛ لأنه بالحوار البنّاء

فقط يمكننا أن نتعلم كيف يفهم أحدنا الآخر ويثق به.

ولكن مثل هذا الحوار يجب أن لا يقتصر على الديبلوماسيين أو حتى على

وزراء الخارجية. فأنا مثلاً أنعم بمركز مهم ومكتب وثير، ولكن الأهم من هذا

وذاك والذي لا يحيد نظري عنه هو مصلحة الأمة وخير الشعب، ثم لا شك عندي

أن العلاقات المهمة حقاً هي تلك العلاقات التي تكون بين الشعوب.

وهكذا فإن الحوار الذي علينا أن نجريه بين أوروبا والعالم الإسلامي يجب أن

يكون بين شعوبنا أيضاً. يجب على المعلمين من الجهتين أن يتكلموا معاً، وكذلك

الفنانون والمعماريون والمثقفون. يجب أن يتكلم هؤلاء بعضهم مع بعض وعلى

جناح السرعة؛ لأن هناك الشيء الكثير الذي يمكننا أن نكسبه من قيامنا بذلك، كما

أن هناك الشيء الكثير الذي يمكننا أن نخسره لو أننا لم نقم بذلك.

إن قدْراً كبيراً مما ذكرناه يجري تحقيقه فعلاً في الوقت الحاضر؛ فلدى

بريطانيا معاهد علمية راقية تقوم بنشاطات ممتازة في هذا المجال. وهناك جماعات

خاصة تساعد على إعادة التوازن في هذا المجال. ولكن لن نحرز التقدم الذي نحن

بحاجة إليه حتى يبدأ المؤثّرون على الرأي العام من الجاذبين في وسائل الإعلام

والتعليم وغيرهما بتحطيم تلك الصور المبسطة والمشوهة، والقضاء على

الانطباعات المضلّلة التي تقع في صميم النزاع بين مجتمعينا وتسبب التنافر بين

ثقافتينا.

تقوم وزارة الخارجية بأداء دورها في هذا المجال، ومن ذلك أن زميلي

(ديريك فاتشيت) ، وزير الدولة يجري محادثات دورية مع قادة الجالية الإسلامية في

بريطانيا لتبادل وجهات النظر، وترعى وزارة الخارجية تبادل الزيارات بين الطلبة

والندوات العلمية والمؤتمرات المعدة لإزالة الحواجز والعوائق بين الثقافات.

ووزارة الخارجية قائمة على مشروع تحديث لأنظمتها حتى تصبح فعالة حقاً

في هذا المجال. فيجب على وزارة الخارجية أن تكون ممثلة أكثر من السابق لكل

ما يمكن أن تقدمه بريطانيا من تراث فكري وتنوع عرقي. وهكذا فإن وزارة

الخارجية تشجّع المسلمين البريطانيين الأذكياء من كافة مجالات الحياة أن يأخذوا

بعين الاعتبار السلك الديبلوماسي ويلتحقوا به كمهنة لهم؛ فهم سيلاقون ترحيباً من

جانبنا؛ لأنه بإسهام المسلمين البريطانيين المخلصين إسهاماً فعالاً يمكننا أن نقول

بأننا قد وسعنا البعد الإسلامي في سياستنا الخارجية.

لدى بريطانيا ميزتان في علاقتها مع العالم الإسلامي: فنحن نشترك معاً في

ألف عام من التاريخ المشترك مع أنه لم يكن كله تاريخاً سهلاً أو يسيراً. ولدينا في

بلادنا مجتمع مسلم مزدهر؛ ففي بريطانيا أكثر من تسعمائة مسجد. ويحق الآن

للمدارس الإسلامية أن تتلقى الدعم المالي من الدولة، كما أن حوالي مليون ونصف

مليون مسلم بريطاني يسهمون إسهاماً كبيراً في المجتمع البريطاني.

والمسلمون البريطانيون يؤدون دوراً كبيراً في الحياة الثقافية والسياسية

والاقتصادية للأمة وهو دور آخذ في الازدياد المستمر؛ فإن مقدرتهم في الأعمال

التجارية تساعد على دفع الاقتصاد البريطاني وتقويته، وشغفهم بالعلم ومحبتهم له

ينعكس في الإسهامات التي يقدمونها للمهن في بريطانيا، وأكلاتهم المميزة اللذيذة قد

تركت انطباعاً عميقاً ودائماً على الحياة البريطانية. وفي عالم اليوم يمكن لبريطانيا

أن تستفيد إفادة متزايدة من كونها مجتمعاً متعدد الثقافات والأعراق.

الجالية الإسماعيلية جسر فريد من نوعه:

ولذلك فأنا سعيد بزيارتي لكم اليوم؛ لأن الجالية الإسماعيلية تشكل جسراً

فريداً من نوعه بين الغرب والإسلام؛ فالجالية منتشرة في كافة أنحاء العالم، وهي

موالية بقوة لجميع الأقطار التي تعيش فيها، ولكن أينما حلت فهي تتمسك تمسكاً

قوياً بالقيم السامية لتقاليدها وهي: الاتحاد، والاعتماد على النفس، وتقديم الخدمات

عند كل المناسبات. فأنتم بهذا المسلك تنسجمون مع البلد الذي تقيمون فيه،

وتزيدون من تراثه الفكري وتقومون بكل ذلك من دون تخفيف أو تقليل أو إجحاف

بهويتكم الفريدة.

رجاؤنا الآن وأملنا هو أن يتمكن الغرب والإسلام من التعايش معاً في وئام

وسلام، وفهم الواحد منا للآخر فهماً سليماً وتعلم بعضنا من بعض، وبناء الثقة بين

مجتمعاتنا. وأملنا أيضاً أن نزيد من ثراء البعض فكرياً وإنسانياً واجتماعياً من دون

أن نفقد هويتنا المستقلة. ولا شك أن الجالية الإسماعيلية قد أثبتت مع الزمن أن

تحقيق ذلك أمر ممكن فعلاً) . اهـ

التعليق على كلمة (كوك)

الوجود الإسلامي في أوروبا ومسار الحوار مع الغرب:

لم تعد أوروبا بالرغم من سلطان الكنيسة وتأثيرها المحدود كما كانت من قبل

خالصة للأجراس والصلبان، بل علتها مآذن المسلمين، وتناثرت عليها مراكزهم

الثقافية أسوة بسائر معابد الملل والنحل الدينية، ولم يعد الوجود الإسلامي فيها حكراً

على فئة دون أخرى، بل بات جامعاً كل أطياف اللون السياسي والعرقي، وشاملاً

كل التوجهات المنتسبة إلى الإسلام باستقامة واعتدال أو زيغ وضلال.

والطائفة الإسماعيلية هي إحدى فرق الرافضة الناشطة في الساحة الأوروبية

بشكل عام وفي بريطانيا بشكل خاص، ولقد زار وزير خارجية (بريطانيا) (روبين

كوك) في 8/10/1998م مركزها بلندن حيث ألقى هناك خطابه الذي حمل عنوان:

(حوار جديد مع الإسلام) وقد ضمنه قضايا عديدة ثقافية وأخرى سياسية، مؤكداً

حتمية تأثر مصالح كل من الغرب والشرق الإسلامي بما يؤثر على كل منهما من

مؤثرات إيجابية أو سلبية، وداعياً من أجل تحاشي المؤثرات الضارة إلى نبذ ثقافة

التعادي وإرساء وإيثار ثقافة التلاقي والتجاوز، والتحرر من هيمنة الرؤية التآمرية

التي سوف يؤدي بقاء سلطانها لا محالة إلى خسارة الجميع، وهنا استبعد أن تكون

العلاقة بين الحضارتين الإسلامية، والغربية علاقة تصارع وتصادم، وأعرب عن

سقم نظرية صراع الحضارات قائلاً: (نحن لسنا بحاجة إلى الإسلام عدواً، بل

نحن بحاجة إلى الإسلام صديقاً) و (إن الشيء الكثير من أسس حضارتنا يعود

الفضل فيه إلى العالم الإسلامي) .

وأشار إلى أن بناء علاقة متينة مع العالم الإسلامي هي (من أهم التحديات

الجوهرية) التي يواجهها حزب العمال الحاكم، ويحمل هو همّها بصفته عضواً في

الحزب ووزيراً للخارجية.

ثم تناول عقب ذلك مسار العلاقات البريطانية الإيرانية وما حققته من تجاوز

العقبات وتذليل الصعوبات مفيداً أن الدكتور كمال خرازي وزير خارجية إيران

أفصح له (بأن سلمان رشدي لا يواجه أي خطر تجيزه أو تسمح به الحكومة

الإيرانية..) مما جعله يوقن بأنه (يمكن لبريطانيا، وإيران أن تعملا معاً لمواجهة

التحديات المشتركة على حد سواء) وأنه (سيصبح الآن بمقدور الاتحاد الأوروبي أن

يقيم مع إيران علاقة بناءة أكثر من قبل) .

وأعاد إنجاز المكاسب إلى وعي وإدراك أهمية التحاور في حل التناقضات

السياسية والثقافية بين الغرب والإسلام ليس على الصعيد الرسمي فحسب وإنما على

صعيد علاقة الشعوب، وحث على فتح باب الحوار بين الاتحاد الأوروبي ومنظمة

المؤتمر الإسلامي حول كل ما يهم الجانبين، وخص منها بالذكر مسألة البلقان،

والسلام في الشرق الأوسط، والنزاع في أفغانستان والإرهاب، وحقوق الإنسان،

ومعاملة الأقليات كأهم قضايا تلح على إجراء المحاورة.

ونبه على ما تقوم به وزارته على الصعيد المحلي من الاتصال بقادة الجالية

الإسلامي، وحث أفرادها إلى الالتحاق بالسلك الديبلوماسي؛ لأنه كما يقول: بإسهام

المسلمين البريطانيين تكون وزارته قد وسعت بُعدها الإسلامي في سياستها الخارجية.

الحوار المنشود:

وهذه اللغة الهادئة عن الإسلام من وزير الخارجية لا تمثل نشوزاً في السياسة

الإنجليزية؛ فقبل أربعة أعوام تقريباً أدلى ولي العهد الأمير (تشارلز) بتصريحات

كهذه عن الإسلام كان لها صداها في الصحافة البريطانية والعربية، وما هي

بمستغربة من قادة هذه المملكة التي تتوكأ على موروث ضخم من الخبرة في التعامل

مع شعوب العالم الإسلامي الذي حكمت جزءاً كبيراً منه أعماراً مديدة، وأعواماً

طويلة، وقد أومأ وزير الخارجية نفسه إلى هذه الخاصية التي ميزت بلاده عن

مثيلاتها من دول أوروبا حيث قال: (لدى بريطانيا ميزتان في علاقاتها مع العالم

الإسلامي: فنحن نشترك معاً في ألف عام من التاريخ المشترك مع انه لم يكن كله

تاريخاً سهلاً، أو يسيراً) .

وحقاً كما قال إن هذا التاريخ حافل بكثير من الآلام والتآمر على مصالح

الإسلام، وحسبه سوءاً أنه كان رأس الحربة المسمومة التي طعنت خاصرة الخلافة

الإسلامية، ومهدت السبل لضياع فلسطين بوعد بلفور المشؤوم الذي جعل من حلم

اليهود واقعاً محققاً بقيام دولة (إسرائيل) ، وما فتئت آثاره، وآثامه تحرم المنطقة

الإسلامية أمنها واستقرارها، وتدفع بها من مأزق إلى آخر لا يرى فيه إلا ما يدعو

إلى الاشمئزاز والتقزز من كل دعوة حوار يطلقها الغرب، وليس هذا فحسب؛ بل

السياسة الحالية لبريطانيا لا تقف من الحق الإسلامي موقف المؤيد والمناصر، ولا

من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة موقفاً حاسماً يردعها، ويحد من أطماعها

التوسعية، بل في كثير من الأحداث نراها تقتفي أثر السياسة الأمريكية المندفعة

نحو استفزاز العالم الإسلامي سواء فيما يتعلق بأمن (إسرائيل) حيث أعلن رئيس

الوزراء (توني بلير) دون تحرّ ولا تروّ تأييد الضربة الأمريكية وتصديق مزاعمها

مما حمل الحكومة السودانية على سحب سفيرها احتجاجاً على هذا الموقف.

ولا شك أن مثل هذه المواقف تفقد دعوة الحوار التي نادى بها وزير الخارجية

جديتَها؛ لأن الحوار المنشود ليس هو ذاك الذي يكون أحد طرفيه مملياً والآخر

متلقياً، ولا ذاك الذي يشعر فيه القوي بعلوه على الضعيف، وإنما هو ذاك الذي

ينطلق من أسس العدل، وإقرار الحقوق، وخصائص الشعوب الدينية، والثقافية.

ولا أعتقد أن أحداً من قيادات الفكر والسياسة في عالمنا الإسلامي يتردد في إجراء

الحوار مع الغرب بهذا المفهوم، ولكن الواقع أن الحضارة الغربية لا ترضى في

محاوراتها للحضارة الإسلامية بأقل من الانسلاخ عن مفاهيمها الدينية، والتبعية

لأطروحاتها الفلسفية والثقافية؛ ومن هنا نجد وقوف الغرب بإصرار وإلحاح دون

إرادة الشعوب الإسلامية واقترابها من إسلامها منهجاً للحكم والثقافة؛ حتى لو تحقق

ذلك وفق آليات الحضارة الغربية ذاتها كالذي حدث في الجزائر؛ حيث كانت

الديمقراطية وهي إحدى آليات الحضارة الغربية في التعبير السياسي والفكري

الوسيلة التي اعتمدها المسلمون هناك للإسفار عن رغبتهم السياسية، ولكن بالرغم

من ذلك فقد بارك الغرب تلك الأقدام التي ركلت هذه الإرادة ووأدتها، وأدخلت

الشعب الجزائري في نفق مظلم، وآثر دعم تلك الأقدام الهمجية ومساندتها دون أدنى

إحساس بعدوانها ومرارة استبدادها بالشعب الجزائري.

إذن؛ فالحوار بين الغرب والإسلام لا يؤتي أُكُلَهُ يانعة إلا حين ينزل الغرب

عن علوه ويتجرد من تلك النظرة التي لا تنظر إلى العالم الإسلامي إلا كبقرة حلوب

تدرّ فقط ما يغذي الغرب وينمي قواه الاقتصادية، وليس له من الأمر شيء في أن

يحكم بالذي يميز شخصيته.

ونزعة الإرهاب التي ما طفق الغرب يتحدث عنها من باب أنها عقبة كؤود

في طرق الحوار الغربي الإسلامي ونص عليها الوزير البريطاني في خطابه هذا؛

إنما جاءت رداً على عدوان السلطة العلمانية وإرهابها، تلك السلطة التي لا تستمد

شرعيتها إلا من السياسة الغربية ومساندة آلتها العسكرية باعتبارها إدامة للرؤية التي

يود الغرب فرضها على العالم الإسلامي. أيضاً فإنه في الوقت الذي يشدد فيه على

مطاردة الإرهاب ملوحاً تارة، ومصرحاً تارة أخرى بخروجه من محاضن الإسلام

نراه لا يحرك ساكناً إلاّ ما كان همساً لمحاكمة أولئك الذين أراقوا الدم الحرام بشكل

فظيع على أرض البلقان إرهاباً؛ فكيف يستقيم إذن مجرى الحوار بين الغرب

والإسلام، والغرب تحكمه نزعة التطفيف في المكيال ساعة الكيل للمسلمين،

ونزعة الاستيفاء ساعة الحديث عن مصالحه ومقاصده؟

من أين يلج الغرب حواره مع الإسلام؟

كيف يمكن تصديق الغرب في رغبته هذه وهو لا يأتي البيوت من أبوابها

وإنما من أدبارها التي أوقف عليها صنائعه التي شكلها بنفسه وصنع لها وجوداً

مريباً في دياره، وديار الإسلام، ومن ثم لا أجد ما يدعو إلى الغرابة في وصف

الوزير البريطاني للطائفة الإسماعيلية (بأنها تشكل جسراً فريداً من نوعه بين الغرب

والإسلام) فإن مثل هذه الحركات الباطنية تمثل بلا ريب مطية الغرب المروّضة؛

فمن قبلُ أوجد البريطانيون نِحلة القاديانية في الهند تسويغاً لغزوهم الاستعماري؛

حيث ألحقتهم زوراً بولاة الأمر الواجب طاعتهم ديناً، وليس من الحقيقة في شيء

الاعتقاد بأن الغرب لفظ هذه النحلات المارقة عقب الحقبة الاستعمارية بعد أن

استنفد منها غرضه، لا؛ إنه ما زال يكلؤها بالعناية ويعود إليها حين الحاجة لكونها

أخلص نية، وأصدق ولاءً، وهذا ما نعت به الوزير البريطاني الطائفة الإسماعيلية؛ حيث قال فيها:(إنها موالية بقوة لجميع الأقطار التي تعيش فيها) ويقيننا أن هذه

الموالاة هي التي تدنيها من الغرب. ومعلوم أن ولاء الطوائف الباطنية لأقطار

الكفر أوضح بكثير من أن يحتاج إلى رصد الوثائق، وتقديم الوقائع، ولهذا لا معنى

لهذا الحوار ما لم يأخذ سبيله عبر المرجعية الإسلامية ممثلة في العلماء الربانيين

ودعاة العمل الإسلامي المنضبط بضوابط المنهج النبوي في فهم الدين، وتنظيم

علاقات الذات مع الآخر، وليس عبر هذه الشياه القاصية، ولكن لأمر ما نجد

الغرب يقدم هذه النماذج المشبوهة، ويسعى إلى أن يجعل منها مثالاً صالحاً للتحاور

باسم الإسلام والمسلمين في حين أنها لا تحمل من الإسلام إلا اسمه! ولا من الدين

إلا رسمه.

العلاقات الإيرانية البريطانية:

وما غاب عن الوزير وهو يشير إلى مسار العلاقات البريطانية أن يطمئن

الطائفة الإسماعيلية باعتبارها إحدى طوائف الرفض بأن قضية سلمان رشدي لم تبق

حداً مستعصياً على تطبيع العلاقة مع إيران، وبغض النظر عما إذا كانت الفتوى

الإيرانية في الأصل للاستغلال السياسي والمزايدة على الشارع الإسلامي أم لا،

فإني لا أرى أن نفور الغرب عن الاتجاه السني يضاهي نفوره عن الاتجاه الرافضي، ولعلي لا أكون مبالغاً إذا ما قلت: (إن إيراد الوزير البريطاني اسم أفغانستان وهو

يخاطب الإسماعيليين في مركزهم ليس ببعيد من أن يكون منطوياً على إمكانية تفهم

بريطانيا لموقف إيران من طالبان إن لم يكن تأييداً ومؤازرة، باعتبار قلق الطرفين

من انتصارات الأخيرة على الجيوب الموالية لإيران والغرب داخل أفغانستان،

وبدهي جداً أن يستصحب البريطانيون وهم يضعون مسألة الأفغان على قائمة

اهتماماتهم العالمية مأثورات ماضيهم الاستعماري جنباً إلى جنب مع العداء التاريخي

بين الأفغانيين والإيرانيين؛ فالاستنفار العسكري الذي قام به الإيرانيون مؤخراً على

حدودهم مع أفغانستان عقب الأزمة التي نشبت بينهم وبين طالبان ليس له من تفسير

سوى ارتفاع درجة القلق والأرق من احتمال قيام دولة سنية قوية تحجّم دور إيران

الشيعية وتحول دون أطماعها الفكرية والسياسية في المنطقة، وخبرة البريطانيين

بهذه التناقضات تسول لهم توظيفها لصالح سياساتهم في المنطقة، فهم كما قلت

يعرفون من أين تؤكل الكتف؟ !

وربما يعاب عليّ بأني على حد كبير من التشاؤم لا أنظر إلى التفاعلات

السياسية إلا من ثقوب ومنافذ نظرية التآمر التي تصوّر كل مبادرة غربية وكأنها

شيطان مارد ذو مخالب وأنياب يريد أن ينقض علينا، وينهش لحومنا، لكني أقول: ليس الأمر كذلك؛ ولكني أرى ضرورة الاسترشاد بالتاريخ، والاهتداء به في

تثبّت المواقف وتحديد السبل؛ فإنه عبرة لأولي الألباب لا سيما إذا ما كان هذا

التاريخ كتاريخ بريطانيا العظمى مع العالم الإسلامي الذي قال فيه الوزير نفسه:

(إنه لم يكن كله تاريخاً سهلاً أو يسيراً) وإلا تكون اللدغة عقب اللدغة؛ ولا يلدغ

المؤمن من جحر مرتين؛ فكيف إذا لدغ مرات؟ !

الوجود الإسلامي في بريطانيا:

أما فيما يتعلق بالوجود الإسلامي في بريطانيا فهو كما ذكر الوزير آخذ في

التنامي والتزايد، ولكن إلى أي حد من الاهتمام والتوقير يحظى هذا الوجود من

الحكومات البريطانية؛ إنه أقل بكثير من ذلك الذي يحظى به الوجود اليهودي مثلاً؛ فحتى وقت قريب كان الدعم الحكومي لمؤسسات التعليم غير الحكومي حِلاّ لبني

إسرائيل محجوباً عن المسلمين حجب حرمان، ولم يتحقق منه ما تحقق إلا بعد

طول مُحاجّة ومجادلة انتهت فقط بدعم المرحلة الابتدائية من مدارس يوسف إسلام

وأخرى لغيره في برمنجهام دون إلحاق سواهما بهما، فهل من الإنصاف أم من

الإجحاف حين يكون اعتناء الحكومات البريطانية المتعاقبة (بمليون ونصف مليون

مسلم بريطاني يسهمون إسهاماً كبيراً في المجتمع) ويؤدون (دوراً كبيراً في الحياة

الثقافية والسياسية والاقتصادية للأمة..) على حد تعبير الوزير إلى هذا الحد من

التدني؟ أجل إن الجالية الإسلامية تزر وزر تقصيرها في المطالبة بحقوقها بما هي

عليه من تعدد الإطارات المبعثرة واللاهية عن مصالحها الحقيقية. لكن من جانب

آخر إنه حيدة عن الدقة حين يجعل الوزير من هذا الدعم حقاً مشاعاً لكل مدارس

الجالية الإسلامية بقوله: (ويحق الآن للمدارس الإسلامية أن تتلقى الدعم المالي من

الدولة..) .

على كلٍ فإن الإسلام في الغرب بعامة وفي بريطانيا بخاصة أضحى فوق حد

التجاهل والتجاوز، وبات وجود المسلمين معتبراً في التأثير على مختلف جوانب

الحياة الأوروبية، ومن الممكن أن يتعاظم ثقلهم السياسي، ويتعزز نفوذهم

الاقتصادي والثقافي إذا ما أحسنوا توظيف وجودهم هذا لمآرب تقيهم شر الأذى

وتعود عليهم بشيء من منافع المآل والحال، أما انفعالهم مع الدوائر السياسية إدلاءً

بالأصوات وتنافساً على المناصب فهو نازلة تقتضي دراسة شرعية من أهل العلم

بضوابط الشرع وفقه الواقع حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

ص: 62

المسلمون والعالم

حمّى سنة 2000

الحلقة الثالثة

(البقرة العاشرة) .. أخرجوها، فمتى يذبحونها؟ !

عبد العزيز كامل

هذه الحلقات

تعالج مستجدات متوقعة أو مرتب لها، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنهاية هذا القرن

الميلادي الذي أوشك على الانتهاء. ولا يفصل بيننا وبين العام 2000 للميلاد سوى

شهور معدودة، ومن اللافت أن هناك العديد من الظواهر الدينية والسياسية التي

يربطها أصحابها بحلول ذلك العام؛ مما يرشح ويرجح حدوث أفعال وردود أفعال

قوية وعالمية على مسرح الأحداث حول عدد من القضايا؛ وذلك كلما اقترب الوقت

من عام 2000 وما بعده، وهي قضايا قد يحار الناس في فهمها أو تحليلها

لارتباطها بخلفيات دينية عند أهل الملل والنحل.

وهذه السلسلة محاولة للكشف عن خلفيات تلك الظواهر، وتحليل أسبابها،

ودوافعها، ورصد التوقعات المنتظرة بسببها، يتم نشرها إن شاء الله في حلقات

منفصلة.

...

...

...

...

... -البيان-

بدايةً، أعتذر للقارئ الكريم، عن إشغال جزء من صفحات هذه المجلة

الوقورة للكلام عن (بقرة) ! .. ولكن.. ماذا نفعل إذا كان أعداء الله من غلاة اليهود

يربطون مصير المنطقة الآن بمصير (بقرة) ؟ !

ولا أدري بالضبط ما هي حكاية اليهود مع البقر؛ فقد اتخذوا في بواكير

عهدهم مع موسى إلهاً من عجول البقر، كما جاء في القرآن: [وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى

مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ] [الأعراف: 148] .

ولهم مع البقر قصة أخرى، نزلت باسمها أكبر سورة في القرآن، وهي

سورة البقرة التي سميت بهذا الاسم لتدل على سوء الفهم وخبث الطوية لدى بني

إسرائيل في أمر تعنّتهم في البقرة التي أُمروا بذبحها، واستمرار هذا التعنت في

شؤونهم كافة، بما استحقوا معه أن يُنتزع منهم الاصطفاء، ويتحول إلى الأمة

الخاتمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما دل على ذلك محور السورة

وهدفها الرئيس.

ولكن بني إسرائيل من يومها ظلوا يعيشون في وَهْمِ الاصطفاء والاختيار

والتميّز، مهما اقترفوا من خطايا وارتكبوا من موبقات، زاعمين أنهم [أَبْنَاءُ اللَّهِ

وَأَحِبَّاؤُهُ] [المائدة: 18] ، أما الشريعة التي أنزلها الله تعالى لهم، فقد بدلوها

وغيّروا فيها بما يُبقي عندهم الشعور الزائف بأنهم لا يزالون على دين صحيح

مقبول. والحق أن ما بقي لديهم من الديانة، إما مفتقر إلى الصحة أو مفتقر للقبول، فهو إما باطل مخترع، أو حق منسوخ.

وهناك أساطير كثيرة لا يزالون يتداولونها تدخل ضمن هذا السياق، فهي

باطل مخترع أو حق منسوخ، وقد تابَعَتْهم على بعضها طوائفُ من النصارى،

ولهذا فهم جميعاً يتقلبون بتلك المعتقدات الباطلة بين وَصْفَي: (المغضوب عليهم،

والضالين) .

وقد مر معنا في الحلقتين السابقتين كيف أن اليهود يحاولون إعادة إحياء كل

الأساطير البائدة المستمدة من التوراة المحرفة، وكأنهم بذلك يريدون الجمع بين

الخصوصية الزمانية (زمن الخلاص) والخصوصية الإنسانية (شعب الله المختار)

والخصوصية المكانية (الأرض المقدسة) .. ولكن هيهات هيهات أن تغير الأساطير

ما قضت به المقادير؛ فقد كتبت عليهم اللعنة إلى يوم الدين على ألسنة المرسلين.

أسطورة لها خوار:

في عام 1920م، وعندما بدأت المباحثات بين الاتحاد الصهيوني والإنجليز

من أجل التوصل إلى صيغة لتسليم فلسطين لليهود بعد انتهاء الانتداب، كان من

بين الموضوعات المطروحة للبحث: (ملكية جبل الهيكل) . وطرح الجانب

الإنجليزي في المباحثات سؤالاً: هل هذا المطلب مطلب عاجل أم آجل؟ وما مدى

اجتماع الشعب اليهودي حول هذا المطلب؟ فأجابهم الحاخام (راف كوك) قائلاً:

(يؤمن الشعب اليهودي كله إيماناً لا يتزعزع أن هذا المكان المقدس، وكل جبل

الهيكل هو مكان العبادة الأبدي للشعب اليهودي، ورغم أنه في حكم غيرنا الآن، إلا

أنه في النهاية سيقع تحت أيدينا، ويوم تقع أرض الهيكل في أيدينا، ستأتي إشارة

من الرب (البقرة الحمراء) وبعدها نبدأ فوراً في البناء؛ حيث تنبأ بذلك أنبياء بني

إسرائيل) [1] .

والنبوءة التي أشار إليها الحاخام، هي معنى ما ورد في الإصحاح التاسع

عشر من سفر العدد بالتوراة، ونصها: (وكلم الرب موسى وهارون قائلاً: هذه

فريضة الشريعة التي أمر بها الرب قائلاً: كلّم بني إسرائيل أن يأخذوا إليك بقرة

حمراء صحيحة لا عيب فيها، ولم يعْلُ عليها نِيرٌ [2] فتعطوها (ألعازار) الكاهن

فتخرج خارج المحلة، وتذبح قدامه، ويأخذ ألعازار الكاهن دمها بأصبعه، وينضح

من دمها في وجه خيمة الاجتماع سبع سنوات، ويحرق البقرة أمام عينيه، يحرق

جلدها ولحمها ودمها مع فرثها، ويأخذ الكاهن خشب أرز وزوفاً وقرمزاً،

ويطرحهن وسط حريق البقرة، ثم يغسل الكاهن ثيابه

) ثم بيّن النص العلة من

ممارسة هذا الطقس: (.. تكون البقرة لبني إسرائيل وللغريب النازل في وسطهم

فريضة دهرية) .

ولكن: لماذا حوّل اليهود تلك (الفريضة) إلى نبوءة و (إشارة) من الرب؟ !

في الواقع أنهم يربطون بين تنفيذها وبين إعادة بناء الهيكل؛ فالفريضة.. أو

النبوءة.. أو البقرة الحمراء، ستكون دلالة عندهم على أن الزمن الذي ظهرت فيه

هو نفسه زمان الهيكل الثالث بعد إعادة بنائه. ولعل هذا يفسر لنا استمرار غياب

الكلام عن مثل تلك الطقوس خلال أزمنة اليهود الخالية التي لم يكن لهم فيها تمكين. ويعتقد اليهود المتدينون أنه قبل ألفي عام مضت، في حقبة المملكتين اليهوديتين،

الأولى والثانية؛ تم مزج رماد بقرة حمراء صغيرة ذبحت في عامها الثالث، وخلط

دمها بالماء، واستخدم في (تطهير) الشعب اليهودي، ليصبح مهيأً للدخول إلى

الهيكل المقدس، ويعتقدون أيضاً أنه لم تولد طوال التاريخ اليهودي بقرة بتلك

الأوصاف منذ دمر الهيكل الثاني عام 70 للميلاد، وعلى حسب التاريخ الديني

اليهودي، فإنه قد جرت التضحية ببقرة حمراء واحدة في زمن الهيكل الأول،

وبثماني بقرات في زمن الهيكل الثاني.. واليوم، يستعدون لمرحلة الهيكل (الثالث)

وزمان البقرة (العاشرة) .

البحث عن البقرة:

لم يعد سراً تزايد حرص اليهود على المزيد من الخطوات العملية المتفاعلة

الآن من أجل إعادة بناء الهيكل بعد الانتهاء من هدم مسجدي الأقصى والصخرة،

وبما أن الهيكل لن يعمره بالعبادة إلا أناس (مطهرون) من النجس، وبما أن هذا

النجس لن يزول إلا برماد البقرة، وبما أن البقرة لم تكن موجودة إلى عهد قريب،

فإن جهود اليهود اتجهت للبحث عن بقرة تطل بقرنيها على مشارف القرن الجديد..

فلا بد من ظهورها أو إظهارها، ولو اقتضى الأمر استحداث بيئات وظروف

تستخرج تلك البقرة استخراجاً من بين ملايين البقر! ! وهذا ما كان؛ فمنذ عدة

سنوات، تعهد كاهن أمريكي يُدعى (كلايد لوت) ينتمي إلى جماعة (حركة الهيكل

الثالث) الإنجيلية الأصولية بأن يوقف جهوده للعثور على بقرة بالمواصفات الدقيقة

الواردة في العهد القديم، ونذر نفسه للمساعدة في أي مشروع يتعلق بإعادة تأهيل

الهيكل للعبادة، وقد جرت اتصالات ومقابلات عام 1989م بين هذا الكاهن وبين

الحاخام الإسرائيلي (حاييم ريتشمان) الذي يعمل في معهد (الهيكل المقدس) حيث

اقترح ريتشمان فكرة إنشاء مزرعة لإنتاج وتربية الأبقار من سلالة (ريدنفوس)

الضاربة إلى الحمرة، فاقتنع الكاهن، وأنشأ بالفعل تلك المزرعة في ولاية

ميسيسيبي الأمريكية، وقد أنشأ هذا الكاهن فيما بعد فرعاً لمزرعته في مدينة حيفا،

تحسباً ليوم تولد فيه البقرة المنتظرة!

إعلان العثور على البقرة.. وماذا يعني؟

أخيراً

وبعد ما يقرب من ألفي عام، ادعى اليهود أنهم وجدوا ضالتهم! لقد

ظهرت البقرة! ! ففي شهر أكتوبر من عام 1996م، تم الإعلان عن ميلاد بقرة

حمراء مطابقة للمواصفات الواردة في التوراة، وأعلن أنها ولدت في مزرعة (كفار

حسيديم) وعلى الفور ذهب وفد من الحاخامات لمعاينة حالة مولود العصر،

ومقارنته بالأوصاف المذكورة في التوراة، ثم أعلنوا وقتها مطابقة المولودة

للمواصفات بعد أن باركوها، وأمروا بفرض حراسة مشددة حولها!

...

...

[جريدة الأخبارالمصرية، 25 إبريل 1997م]

لقد كان الإعلان عن العثور على البقرة بداية لمرحلة جديدة ومثيرة من الهوس

الألفي عند اليهود وأنصارهم من البروتستانت المتهودين في أمريكا وبريطانيا،

وتناولت وسائل الإعلام الحديث بتغطية متلفعة بالتكهنات والتوقعات والحذر؛ فقد

نشرت صحيفة الأوبزرفر البريطانية في عددها الصادر في (9/7/1997) أخبار

الحدث قائلة: (سيكون الذبح الطقسي للبقرة الحمراء بعد ثلاث سنوات من ميلادها،

بداية العد التنازلي للعودة الكبيرة لليهود إلى موقع عبادتهم السابق، وتبشيراً بمجيء

المسيح المخلّص، بيد أن محاولة تحقيق هذه العودة ستؤدي إلى بداية لا تُنسى

للألف الثالثة) !

لقد توافد الآلاف من اليهود (متدينين وغير متدينين) إلى مزرعة (كفار

حسيديم) في إسرائيل لمشاهدة هذا الكائن (الأسطوري) . ولحسم الفوضى التي يمكن

أن تنشأ عن هذا التدافع، لجأت الجهات اليهودية المهتمة بهذا الشأن إلى تنظيم

الزيارات والرحلات لزيارة البقرة! ! لقد نجح الشيطان لعنه الله في استثمار ضعف

الإنسان حيال الغيب المجهول، فأحدث بين اليهود حالة من النشوة، محفوفة بهالة

من الرهبة وممزوجة بالرغبة في اقتحام المزيد من أستار الغيب المجهول، ورأى

كبار زعماء الجماعات الدينية الفرصة سانحة لضخ الدماء في عروق التعصب

لمزيد من التأهب لمغامرات المستقبل القريب، ونظروا إلى البقرة التي أطلقوا عليها

اسم (ميلودي) على أنها أحدث إشارة بدنو العصر الأخير، وتوقع الكثيرون منهم أن

تستخدم دماء تلك البقرة عينها في احتفالات (تطهير) الشعب اليهودي، الذي لا

يمكن أن يمارس العبادة في الهيكل إلا بعد أن يتم تطهيره برمادها وفقاً لقول التوراة

التي بأيديهم: (كل من لم يتطهر فإنه ينجس مسكن الرب)[3] ورأى آخرون أن

هذه البقرة التي ظهرت هي حلقة الوصل المفقودة والمطلوبة للوصول السريع إلى

زمن إعادة الهيكل؛ حتى إن اليهودي الأصولي المتعصب (يهودا اتزيون) الذي كان

متهماً رئيساً في محاولة تفجير قبة الصخرة عام 1985م، أعلن بعد ظهور البقرة

ابتهاجه بهذا الحدث (التاريخي) وقال: (إننا ننتظر منذ ألفي سنة ظهور إشارة من

الرب، والآن أرسل لنا البقرة الحمراء، وظهورها يعتبر أحد أهم الدلائل على أننا

نعيش في زمن مميز، ولهذا فلا بد من الإسراع بإزالة مسجدي الأقصى والصخرة

من جبل الهيكل، ونقل بقاياهما إلى مكة) !

[السياسة الكويتية، 30/10/97]

وبدأ المتعصبون اليهود على الفور في استثمار الحدث، لإنشاء واقع جديد من

خلاله، فدعا عديد من زعماء الجماعات الدينية (الطليقة) في طول البلاد وعرضها

في (إسرائيل) إلى إلغاء الفتوى الحاخامية القديمة التي تحظر على اليهود دخول

ساحات المسجد الأقصى، ووقعوا توصية بذلك في المؤتمر السابع لحركة (إعادة

بناء الهيكل) . [الحياة، 16/9/1998] . وبالفعل، قررت لجنة من 60 حاخاماً في

شهر أغسطس من عام 1997م تجاوز الحظر الذي كان معمولاً به، وشجعوا اليهود

على الصعود إلى ما يسمونه (جبل الهيكل) حيث يوجد المسجد الأقصى ومسجد

الصخرة، واحتج هؤلاء بأن لديهم مسوغات كافية تجعل من حق اليهود أن يصعدوا

إلى هناك لكي يتسنى لهم البدء في الاستعدادات الخاصة بإعادة بناء الهيكل، وقال

المتحدث باسمهم: (إن الحظر العام على الصعود لم يكن يأخذ في اعتباره في

السابق الاكتشافات الأخيرة، وأبرزها اكتشاف البقرة الحمراء، ونحن الآن بانتظار

الخلاص، وإعادة بناء الهيكل التي يجب أن تبدأ بسرعة في أيامنا هذه) .

...

...

... [الأنباء الكويتية، 9/7/1997]

وبدأت مجموعة من الحاخامات منذ سنوات في دعوة عائلات الكهان لإرسال

أولادهم لكي يتم إعدادهم في حجْر (العزل الطاهر) ليكونوا جاهزين للعمل في

الطقوس المتعلقة بالبقرة، واستجابت أربع عائلات كهنوتية للتبرع بأولادها من أجل

هذا الغرض.

...

...

[الرأي العام: 5/3/1998]

وبدأ الحاخامات منذ فترة بالاتفاق مع الجهات الحكومية بتحصيل نسبة 1%

من مجموع الإنتاج داخل إسرائيل، ليوضع في حساب (خدمات الهيكل) الذي دخلت

مهماته مرحلة التنفيذ بظهور البقرة، وتحصيل هذه النسبة يجري الآن وفقاً لتشريع

ديني يقضي بأن يقدم الشعب اليهودي عُشر العشر ليوقَف على الهيكل، وقد وُضِعَ

عنوان خاص لاستقبال تلك الإسهامات وتنظيم إنفاقها على المشاريع المتعلقة بالهيكل.

لقد ظهرت مع ظهور البقرة الحمراء حالة من الحماس الديني بين الجماعات

اليهودية التي تنافس الحكومة بأنشطتها (120 جماعة) ، وبدأت في اكتساب أنصار

جدد من أولئك الذين لم يكونوا يأبهون بشعارات الجماعات الدينية، وقد علق

(مناحيم فريندمان) الخبير في الشؤون الدينية في جامعة (بارابلان) على هذه

الظاهرة الجديدة بقوله: (إن ولادة هذا الحيوان الطارئة، أوجدت حالة من الحساسية

في إسرائيل؛ إذ أصبح الناس يبحثون في أمر هذه العلامة ويتحدثون عنها بدقة) .

...

...

...

[السياسة، 30/10/1997]

البُعد السياسي لعهد (البقرة) :

لم يكن المتدينون وحدهم المحتفين بضيفة (إسرائيل) الجديدة، بل اهتبل

السياسيون مناسبة حلولها في ذلك التوقيت، لتحقيق أغراض سياسية وحزبية،

مستغلين تصاعد المد الديني في (إسرائيل) وربط كثيرون بين ظهور البقرة وظهور

نتنياهو، الذي تُوجت في عهده أنشطة الجناح الديني في السياسة الإسرائيلية.

والمؤسسة الدينية التي اعتبرت فوز نتنياهو انتصاراً للمتدينين وهزيمة للعلمانيين؛

دأبت على تدعيم موقفه بعد الإعلان عن ظهور البقرة، وربطت مجيئه بتحقيق

نبوءات يؤمنون بها، مما جعل البعض منهم ينظرون إليه على أنه يتبوأ منزلة

(ملِك) من ملوك إسرائيل التاريخيين، وأنه يمكن على هذا أن يتمتع بـ (العصمة)

الدينية، التي تجعل مخالفيه في زاوية المخالفين للتوراة.

وقد أثار تفاؤل المتدينين أيضاً وقتها، أن عهد نتنياهو سيستمر في السلطة

حتى العام 2000م على الأقل [4] وهو العام المرتب له أن يكون عام (التطهير) !

لكن هناك فريق من الإسرائيليين لم يشاركوا جمهور اليهود في الابتهاج

بالعجل الجديد، وهم شرائح من العلمانيين الذين شعر كثير منهم بالانزعاج

والتخوف من مضاعفات هذا الاكتشاف ونتائجه التي قد يصيبهم شرها وشررها.

ورأى بعضهم أن (قضية) البقرة، قد تفتح باباً لدوامة من العنف لا نهاية لها بين

المسلمين واليهود داخل فلسطين، وأيضاً بين المتدينين وغير المتدينين من اليهود،

وذلك ما أكده الصحفي الإسرائيلي (ديفيد لانرد) حيث قال: (إن الأذى المحتمل من

جانب الحديث عن ظهور البقرة الحمراء، يفوق بكثير ما يمكن أن ينتج عن

الخصائص التدميرية لقنبلة نووية دينية) .

خيبة أمل.. عارضة:

بعد أن راحت الأحلام تسبح باليهود المتدينين في سواحل الخيال.. والخبال،

طرأ ما يعكر أجواء هؤلاء الحالمين، فقد شكك بعض الحاخامات في أن تكون

(ميلودي) هي البقرة الحمراء المنتظرة، وأوردت صحيفة معاريف الإسرائيلية

الصادرة في (29/10/1997م) عن الحاخام (شمار ياشوف) تصريحاً أدلى به من

المزرعة التي تقيم فيها (ميلودي) قال فيه: (قد لا تكون هذه البقرة هي الحقيقية

بسبب بعض الشوائب) ! وأخرج الحاخام عدسة مكبرة، ولاطف البقرة، وصوّب

العدسة نحو ذيلها وقال: (انظروا.. هنا تجدون بعض الشعيرات البيضاء) ! ثم

اتجه إلى رأسها، وصوّب النظر نحو عينيها وقال: (لاحظوا.. إن رموشها تبدأ

حمراء وتنتهي سوداء) !

وقد شكك آخرون في هذا التشكيك، كما نقلت ذلك الأوبرزفر في 9/7/1997 م فهوّن (يهودا اتزيون) الناشط الصهيوني من شأن تلك التحفظات التي أبداها

الحاخام المذكور، وسارع إلى طمأنة القلقين وقال: (هذه الشعيرات التي شوهدت

ستختفي بمضي الوقت، وحتى إذا لم تختفِ، فإن الكتاب المقدس يقول: إن

شعرات قليلة لا تنفي الطبيعة المقدسة للبقرة إذا كانت كلها حمراء) .

إن مشاعر التعجل لدى متعصبة اليهود، لا تريد أن يخرج الناس من أجواء

الأوهام الألفية الخلاصية، فهم يجنون أنضج الثمرات من تأجيج أحاسيس الدنو

القريب لعصر النهاية (السعيد) ولا يدري هؤلاء البؤساء، أنهم سيخرّبون بيوتهم

بأيديهم وبأيدي المؤمنين في نهاية المطاف، ولكنهم مصروفون عن هذا، ومصرون

على النفخ في كير الحرب الدينية القادمة، حتى إن (اتزيون) المذكور آنفاً، وغيره

من المتعصبين، يعتقدون كما نقل عنه في التصريح السابق أن رماد البقرة الحمراء

سيحول مجموعات اليهود المتدينين القلائل إلى حركة جماهيرية واسعة الانتشار!

هل لنا موقف من (البقرة) ؟

نحن بطبيعة الحال، لا يعنينا من شأن تلك البقرة شيء، سواء في شكلها أو

وصفها أو سنها، أو زمان ومكان خروجها، ولكن الذي يعنينا هو ما تمثله تلك

البقرة من كابوس يمكن أن يثير من الأحداث ما يتعاظم على السيطرة، وقد عودنا

اليهود خلال الخمسين عاماً الأخيرة أنهم أكفأ البشر في تسويق الأحلام واستثمار

المصائب لصالحهم. قد يتشبث اليهود بتلك البقرة بالذات ليكملوا نسج بقية

الأسطورة بين يديها أو قرنيها، وقد يستبدلونها بعد حين بأخرى أكثر مطابقة

للمواصفات التي تليق بأمة متنطعة تريد أن تكرر حديث الصفات النادرة عن البقرة

الصفراء الفاقع لونها، مع البقرة الحمراء الخالص حَمَارها.

أما المعتقد الأصلي في البقرة، والموجود الآن في نسخ التوراة المتداولة، فلا

نصدقه ولا نكذبه فقد يكون من الشرائع المنسوخة وذلك تسليماً بالهدي النبوي

المذكور في الحديث الشريف: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا:

آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم) [5] . ولكن المقطوع به أن تلك (الفريضة

الدهرية) كما وصفوها.. لا تمت إلى الدين المقبول بصلة، بعد بطلان الشرائع

بشريعة النبي الخاتم.

وهنا أمر أود الإشارة إليه، وهو أنني لا أستبعد أن يكون ظهور بقرة حمراء

مطابقة لما يتطلع إليه اليهود، من تلاعب الشيطان، فيكون هذا من قبيل الاستدراج

لهم، فقد تأتي الأقدار لهم بالبقرة التي يريدون، إمداداً لهم في الغي، فيظنون أنهم

قد وصلوا إلى عتبة عصر (الطهارة) وينتهي الأمر بهم إلى مزيد من الانصراف

عن الحق، كما قال سبحانه: [سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ

بِغَيْرِ الحَقِّ وَإن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَاّ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً

وَإن يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً] [الأعراف: 146] .

ويمكن أن يكون هذا التلاعب الشيطاني بهم مثيلاً لتلاعبه بهم في شأن انتظار

نبي خاص بهم من نسل داود، جعلهم يكفرون بعيسى اويكفرون بمحمد -صلى الله

عليه وسلم- مصرين على انتظار هذا النبي الموعود. قال ابن القيم رحمه الله:

(ومن تلاعبه بهم يعني اليهود أنهم ينتظرون قائماً من ولد داود النبي، إذا حرك

شفتيه بالدعاء، مات جميع الأمم، وأن هذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي

وُعِدوا به، وهم في الحقيقة إنما ينتظرون مسيح الضلالة الدجال، فهم أكثر

أتباعه) [6] .

البقرة.. ونجاسة الشعب (المختار) :

من أعجب أمور اليهود، أنهم لا يزالون يؤمنون عن يقين بأنهم (شعب الله

المختار) حتى تقوم الساعة! والأعجب من ذلك أنهم يعتقدون بالقدر نفسه من اليقين

بأنهم شعب (نجس) منذ عشرات القرون، لماذا؟ لأنهم قارفوا نجاسات عديدة لا

يمكن التطهر منها حسب شريعتهم إلا برماد البقر الأحمر، ضمن طقوس لا تمارس

إلا في الهيكل، وبما أن الهيكل غائب منذ ألفي عام، وعقمت معه الأبقار أن يلدن

واحدة حمراء خالصة، فإن (النجاسة) ظلت ملازمة للشعب اليهودي بكامله. جاء

في توراتهم: في سفر العدد الإصحاح 19: (هذه هي الشريعة.. إذا مات إنسان

في خيمة، فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجساً

كل إناء

مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس، وكل من مس على وجه الصحراء قتيلاً

بالسيف أو ميتاً أو عظم إنسان أو قبراً يكون نجساً..) (والذي مس ماء النجاسة

يكون نجساً.. وكل ما مسه النجس يتنجس، والنفس التي تُمس تكون نجسة) ! !

فَمَنْ إذن من الشعب (المختار) بقي طاهراً؟ ! المشكلة هنا ليست في النجاسة فكل

الكفار والمشركين نجس ولكن المشكلة أنهم يعتقدون أن هذا النوع من النجاسة لا

يزول إلا برماد البقرة المحظية في نهاية الألفية، جاء في الموسوعة الدينية اليهودية: (إن البقرة الحمراء يجب سحبها خارج القدس، وبعد ذبحها يجب حرقها بكاملها

بعد إضافة خشب الأرز وأعشاب أخرى، ويشرف على هذه الطقوس حاخام أو

كاهن، ويستخدم الرماد في التطهر وطرد الأرواح الشريرة التي يمكن أن تنتقل إلى

اليهود من الموتى لو مسوا جثمانهم) . والظاهر أن نجاسة اليهود من أكثر ما يؤرقهم، حتى إن التلمود الذي وضعه الحاخامات تفسيراً للتوراة يدور سدسه تقريباً حول

كيفية التطهر من النجاسات، وجاءت البقرة أو هكذا ظنوا لتكون فاتحة لعهد من

الطهارة يستقبلون به عصراً من الأمجاد، والله يعلم أن جميع البقر الأحمر والأبيض

والأسود، لو صُيّر رماداً، ثم خلط بماء البحر الأحمر والأبيض والأسود، ثم

أغرقت فيه أمة اليهود كلها، لما تطهر واحد منهم من نجاسة الكفر، إلا إذا دخل في

دين التوحيد وآمن برسالة خاتم الرسل وسيدهم محمد صلوات الله وسلامه عليه

وعلى آله وصحبه ومن اتبعه إلى يوم الدين قال تعالى: [يَا أَهْلَ الكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ

رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ

نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ

الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [المائدة: 15-16] .

أما هؤلاء، فإنهم لا يزالون في أسر الآصار التي كانت عليهم، لا يبغون

عنها فكاكاً، وقد نقلت صحيفة الرأي العام الكويتية عن إحدى الصحف الإسرائيلية

في (5/3/1998م) أن حواراً أجري مع واحد من أبرز الحاخامات الإسرائيليين

ويدعى (البويم) حول العديد من الأسئلة الحائرة الدائرة حول البقرة، فكان من ضمن

الأسئلة: هل تكفي بقرة واحدة لخمسة ملايين يهودي ملوثين بالنجاسة؟ فأجاب:

(أجل، ولسنوات كثيرة أيضاً، لقد دُوّن في التوراة أن البقرة الحمراء الأولى أعدت

على عهد موسى، أما الأبقار التالية فقد أعدها عزرا، فخلال فترة الهيكل الثاني

أعدوا ثماني بقرات، إذن فالعدد كله تسع بقرات، ونحن الآن في زمان البقرة

العاشرة) إذن، فأمر البقرة سواء كانت هي تلك التي أعلنوا عنها أو غيرها مما

يمكن أن يعلنوا عنه، ليس بالأمر الهامشي في حياة اليهود في هذه الأيام؛ خاصة

أنهم يرون أنفسهم قد قطعوا من الطريق أطوله نحو عهد الهيكل الثالث، وعلماً بأن

ما يقرب من 95% من الطقوس العبادية اليهودية التي تؤدى في الهيكل، يحول بين

اليهود وبين ممارستها ما يسمونه بـ (نجاسة الموتى) ، بل إن بعض الحاخامات

يتحدثون عن استحالة افتتاح الهيكل للعبادة بأيدي (أنجاس) واستحالة تمكّن هؤلاء

من القيام بشؤونه وطقوسه قبل تطهّرهم برماد البقرة! ! ولله في خلقه شؤون! كيف

إذن سيبنون وكيف يجهزون وهم أنجاس؟ الله أعلم!

أما عن كيفية التخطيط العملي لهذه (الطهارة) الجماعية، فهذا سؤال توجهت

به صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية في (2/3/1998م) إلى أحد الحاخامات الكبار فقال: (سنحرق البقرة قبالة موقع الهيكل من جهة الشرق، وبالإمكان أن نضيف إليها

بعض الأشجار، وبعد ذلك نخلط الرماد بعضه ببعض، ومن ثم يتم وضع الرماد

في أنابيب، وتوزع في أرجاء البلاد) ! ! شيء قريب من توزيع مياه الشرب أو

(الغاز) .. إنها ألغاز! ! فماذا إذن عن الملايين العشرة الباقين من اليهود خارج

البلاد؟ ! الظاهر أن الرماد سيصدّر إليهم في مغلفات معقمة من قوارير، أو أنه

سيكون مدعاة قوية لهجرات جديدة إلى أرض الميعاد

والرماد!

موعد الميلاد.. وموعد الذبح:

الموعد الذي ولدت فيه البقرة سيحدد بدقة الموعد الذي ستذبح فيه، فعلى

حسب المفاهيم اليهودية لا بد أن تذبح البقرة بعد أن تتم ثلاث سنوات، وهناك

اختلاف معلن في تحديد الموعد الذي ولدت فيه، فالبعض داخل (إسرائيل) يقول

إنها ولدت في شهر أغسطس من عام 1997م، وهناك من يقول إنها ولدت في

يناير من العام نفسه، وعلى هذا؛ فهي ستتم عامها الثالث إما في يناير من عام

2000م، أو في أغسطس من العام نفسه، وعلى هذا يكون العام 2000م، عاماً

مصيرياً في عمر البقرة وفي عمر اليهود، حيث تتوقع جماعاتهم الدينية أن عصراً

جديداً سيحل في الأرض المقدسة بعد ذبح البقرة في بيت المقدس، أو في (أورشليم)

كما يسمونها!

ومع (أورشليم) التي يجري إعدادها أيضاً لعهدها الجديد قبل العام 2000م

سيكون حديثنا في الحلقة القادمة إن شاء الله.

(1) الشرق القطرية (13/5/97) نقلاً عن صحيفة معاريف الإسرائيلية.

(2)

النير: هو الخشبة التي توضع على عنق الثور للحراثة، انظر لسان العرب (8/4593) .

(3)

سفر العدد، الإصحاح التاسع عشر.

(4)

الانتخابات المبكرة التي طرأت بعد ذلك، تشير كثير من التوقعات إلى احتمال فوز نتنياهو فيها مرة أخرى، بل قد تمكنه من الاستمرار في السلطة لما بعد العام ألفين.

(5)

أخرجه البخاري في الشهادات (29) والاعتصام (25) والتوحيد (51) .

(6)

إغاثة اللهفان، لابن القيم، (2/338) .

ص: 72