الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الورقة الأخيرة
الاتجاه المعاكس
مبارك عامر بقنه
لقد كثرت صيحات المخلصين الصادقين حتى إنك لتسمع لصيحاتهم دوياً في
كل مكان في التحذير مما يُبث في القنوات الفضائية من برامج ساقطة هابطة تنشر
الرذيلة، وتدعو صراحة إلى التحلل من كل فضيلة، وبناء مجتمعات موبوءة
بالفواحش.
ولست في هذا المقام أريد التحدث عن هذا الوباء المنتشر المتعفن، ولكن هذه
الكلمات أردت إلجامها فأفلتت من رأس القلم وهذه من لأوائه، فقد أردت أن أتحدث
عن أمر هو أشد مرارة، وأنكى جرحاً، وأعمق ألماً، وهو أمر أخطر فيما أرى
تولى كبره أحد البرامج العربية هدفه إثارة الناس عن طريق المناظرة في قضية مّا
بين اتجاهين متعاكسين في المبدأ والفكر والرأي، كسني وبدعي، وإسلامي
وعلماني؛ فتُلقى الشبه على الناس على شكل حوار يُخَيّلُ لبعضنا أنه مثمر هادف
يثري المشاهد بالمعلومات والمعارف؛ فيشككون في العقيدة والشريعة بطريقة عجيبة
ملتوية فيها إثارة واستمتاع للمشاهد. وليست الخطورة في هذا الأمر؛ فإن الذرة لا
تجر الصخرة، والحق لا يخشى الباطل بل يدمغه فإذا هو زاهق؛ ولكن البلية
والرزية تكمن في أمور وراء ذلك؛ من أدركها وعلم غورها أدرك خطورتها.
فمن ذلك: أن الشخصية الإسلامية المختارة قد تكون ليست مؤهلة شرعياً لهذه
المناظرة فينقصها العلم بالشريعة أصولاً وفروعاً، وينقصها العلم بحال المُناظِر
ومعرفة زيف معتقده وضلال منهجه، وقد تفتقر هذه الشخصية إلى الفصاحة والبيان
والحجة الدامغة، وقد كان السلف (ينهون عن المناظرة، إذا كان المناظر ضعيف
العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيخاف عليه أن يفسده ذلك المضل) [1] ويشتد الأمر
خطورة في أنه قد يواجه شخصية منحرفة متمرسة على إلقاء الشبه، وتجيد فن
المراوغة واللعب بالألفاظ. قال علي بن حرب الموصلي: (كل صاحب هوى
يكذب ولا يبالي) [2] فيأتي بالطّمّ والرمّ [*] ، فيظهر الحق باطلاً، وينقلب الباطل
حقاً، فيُضل الناس ويَضل.
ومن أخطاره: أن في ذلك ترويجاً للبدعة والشبه الشيطانية، فيسمعها الناس
فيزينها الشيطان في قلوبهم، وينميها في عقولهم، وقد لا يجدون من يبين لهم فساد
هذه الشبه وبطلانها، فتتعلق بأفئدتهم فيشربونها بجهلهم بدينهم، فيفسد القلب.
وقد ذكر الغزالي في خطر مناظرة أهل البدع والكلام بأنها: (إثارة الشبهات،
وتحريك العقائد، وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل في الابتداء،
ورجوعها بالدليل مشكوك فيه
…
وله ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة
وتثبيته في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار
عليه) [3] . ومن المحال لمن عاش في دهاليز الظلمة والحيرة أن يحصل من كلامه الهدى واليقين؛ فما عندهم إلا لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى، فأقوالهم تسقم القلب، وتقتل السنن وتزاحمها (فالشرائع أغذية القلوب، فمتى اغتذت القلوب بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن)[4] .
ومن أخطاره: أن فيه إطراء وثناء على أهل البدع والأهواء ووصفهم
بألقاب التقدير والتمجيد، وهم عصاة منحرفون قد أذلهم الله ببدعتهم. والثناء على
المبتدع الضال فيه فساد للدين، وفتنة للمسلمين، بل جاء عن السلف كما ذكر ابن
تيمية: (النهي عن مجالسة أهل البدع، ومناظرتهم، ومخاطبتهم، والأمر بهجرانهم؛ وهذا؛ لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم؛ فإن الحق إذا كان ظاهراً
قد عرفه المسلمون، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعة، فإنه يجب منعه من
ذلك) .
فهذه البرامج وأمثالها ما هي إلا باب لترويج البدعة، وتشكيك دهماء الناس
فيما عندهم بأسلوب المكر والحيل مدعين أن هذه (حرية الفكر) فلا نحجر على
الناس عقولهم؛ فكل شخص يأتي بما عنده ويناقش ويجادل، وليس في هذا مخالفة
شرعية؛ فما على من أراد أن ينشر الفساد ويضل الناس إلا أن يلبسه ألفاظاً
مزخرفة فيجعله تحت مسمى: (حرية الفكر) أو (الحرية الشخصية) وما أشبه ذلك
من ألفاظ يمليها عليهم شيطانهم.
(1) درء تعارض العقل والنقل، 7/173.
(2)
التنكيل للمعلمي، 1/44.
(*) الطم: الرطب. الرم: اليابس.
(3)
إحياء علوم الدين للغزالي، 1/136.
(4)
اقتضاء الصراط المستقيم، 2/597.