المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قراءة في فكر مالك بن نبي-4 - مجلة البيان - جـ ١٧

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌قراءة في فكر مالك بن نبي-4

نقد

‌قراءة في فكر مالك بن نبي

-4

-

محمد العبدة

كان تشخيص أمراض العالم الإسلامي عند مالك بن نبي مقدمة للبحث عن

العلاج، أو للبحث عن أسس النهضة، وكيف تبدأ؟ ومن أين تبدأ؟ إن بلداً مثل

اليابان بدأ نهضته في منتصف القرن التاسع عشر [1] وهي نفس الفترة التي بدأ

الحديث فيها عن النهضة في العالم الإسلامي، فلماذا كان هذا البطء في (الإقلاع) ؟ .

السبب برأى مالك بن نبي هو عدم وجود منهج واضح للإصلاح ولا نظرية

محددة للأهداف والوسائل وتخطيط للمراحل. (فإذا حللت جهود المصلح الإسلامي

وجدنا فيها حسن النية، ولكنا لانجد فيها رائحة منهج) [2] (وليس هناك تحليل

منهجي للمرض وليس إلا أن عرف المريض مرضه فاشتد في الجري نحو الصيدلي

-أي صيدلي- يأخذ من آلاف الزجاجات ليواجه آلاف الآلام) [3] (وواقعنا الآن

إما فكرة لا تتحقق أو عمل لا يتصل بجهد فكري) [4] .

لا شك أن هذا الكلام حول (المنهج) صحيح ودقيق، فليس هناك دراسات

عميقة وتحليلية لأمراض المسلمين، وما هي الحلول والمقترحات وما هو المهم

والأهم، وكل الدراسات تأخذ جانباً من الجوانب تركز عليه والحل الأحادي هو

الغالب، وأعمال كثير من المؤلفين كانت تبريراً ودفاعاً أمام الهجوم الغربي

الاستشراقي على الإسلام [5] ، وليست أعمالاً فيها تخطيط للحاضر والمستقبل،

غابت المؤتمرات التي تخرج بنتائج فعلية واقعية وكثرت تلك التي توصي بوصايا

لا تخرج عن دائرة الورق التي كتبت عليه.

والذين كتبوا في أوائل النهضة كتابات جيدة مثل الشيخ رشيد رضا لم يستفد

منها كثيراً ولم تنقح ويؤخذ الايجابي منها، ويبنى عليه، وكذلك الذين جاءوا من

بعده لم يكن هناك خطة علمية لدراسة أقوالهم وآرائهم، وكأنما كل من يأتي يريد

البدء من الصفر، بل نستطيع القول: إن كثيراً من الأخطاء التي وقعت سواء في

مجال الدعوة أو غيرها انما كانت بسبب غياب المنهج أو عدم الالتزام بمنهج.

وإذا كنا لا نملك الوضوح من الناحية النظرية فضلاً عن وجود منهج تطبيقي

عملي فهذا لا يعني عدم وجود المنهج، فالقرآن الكريم والسنة أوجدا المناخ المناسب

لأن يستنبط العلماء منهج أهل السنة في النظر والاستدلال وطرق الحياة التي يريدها

القرآن [6]، فعندما يقول سبحانه:[ولاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ] نجد الصحابة

يفهمون هذا التوجيه ويلتزمون به، فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب لا يعلم معنى

كلمة [وَاباً] من آية [وفَاكِهَةً وأَباً] فلا يتكلف الجواب ولا يحاول التعالم، بل

يرى أنه من التكلف معرفة كل شيء، وأبو بكر رضي الله عنه يقوم بعمل علمي

طبقاً لمنهج، عندما أعطى تعليمات مشددة لزيد بن ثابت، الذي كلفه بجمع القرآن،

وكذلك عثمان بن عفان يشكل لجنة لجمع الناس على مصحف واحد [7] .

وفهم الكتاب والسنة هو الذي جعل الإمام مالك والأوزاعي وأمثالهما يكرهون

الجدل والخصومات في الدين ويركزون على العمل، وقد وضح هذا المنهج بشكل

نظري في كتابات ابن تيمية وخاصة كتابه العظيم (درء تعارض العقل والنقل) وكان

بالإمكان بناء نهضة علمية عملية لو أخذ المسلمون بهذا المنهج، ولكنهم مع الأسف

غرقوا في الجدل وعلم الكلام فأبعدوا عن مجالات القيادة.

والجدل أسهل من البحث والاستقراء والخروج بنتائج في شتى مجالات العلوم. وإذا كان للمنهج هذه الأهمية (فإن نجاحه مرتبط بتناول المشكلة من جانبيها معاً

(الاستعمار والقابلية للاستعمار) ، فإذا نظرنا إلى جانب دون الآخر فقد غامرنا برؤية

مشكلة مزيفة) [8] .

لذلك وقبل أن ننتقل إلى موضوع (إقلاع) العالم الإسلامي باتجاه بناء حضارة

لابد أن نعرض وجهة نظر مالك بن نبي في الاستعمار الذي هو الجانب الخارجي

من المشكلة، أو الجانب السلبي لنكون على وعي تام بما يدبر لإعاقة النهضة

الإسلامية.

الاستعمار والصراع الفكري:

إن عرض مشكلة الاستعمار يبدو أكثر أهمية إذا علمنا أنه ركز هجومه على

العالم الإسلامي، بينما كان أقل شراسة ولؤماً مع الشعوب الأخرى، وحاول

إجهاض أي عمل إسلامي مثمر، واستخدم أخبث الوسائل ومنها الوسائل الفكرية.

ومالك بن نبي وإن كان ممن لا يعلقون أخطاء وتقصير المسلمين على شجب

(الاستعمار) وحده بل يهتم بالعوامل الداخلية، ويرى أنها الأساس في البحث

والتحليل، إلا أنه خبير بخفايا هذا الاستعمار ومواقفه من قضايا المسلمين، لذلك

جاءت ملاحظاته وتعليقاته على هذا الجانب فيها عمق ومعاناة، فقد قرأ الكثير

وعانى الكثير من استعمار فرنسا للجزائر، وهو يرى أننا إذا أردنا أن نتقصى

الحركة الاستعمارية من أصولها فلا بد أن ننظر إليها كعلماء اجتماع لا كرجال

سياسة [9] ، فظاهرة الاستعمار من طبيعة الرجل الأوربي، فكلما وقع اتصال بين

الأوربي وغير الأوربي خارج إطار أوربا فهناك (موقف استعماري)[10] بينما نجد

في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية أن رحلات ابن بطوطة وأبو الفداء

والمسعودي لم تثر شهيتهم للاستعمار. ورحلات مثل هذه تثير شهية الأوربي، إن

تحليل (منوني) الكاتب المتخصص بنفسية الاستعمار، يقول: «إن الأوربي يحب

عالم دون بشر» ولو قال منوني إن الأوربي يحب عالم دون شهود على جريمته

لكان هوالصواب [11] .

وحتى بعض الأفراد الغربيين الذين يشاركون في المعركة ضد الاستعمار إنما

يشاركون مادامت في النطاق السياسي، وسرعان ما ينعزل عنها حينما تأخذ طابع

الصراع الفكري، فالرجل المستعمَر لا يحق له الدخول في الميدان الفكري « [12] .

وفي ميدان الصراع الفكرى وخاصة مع الشباب المسلم الذي يدرس في الغرب

نرى الاستعمار يستخدم بخبث منطق الفعالية وخلاصته: (بما أننا نحن المسيطرون

ونحن الأقوى إذن فأفكارنا صحيحة) .

(ويعتبر هذا اللبس المفروش في أعماق نفسية هذا الشباب هو النواة التي تدور حولها جميع دسائس الصراع الفكرى ومناوراته)[12] . وقد يرفع الاستعمار أمام أعين المستعمرين شعاراً صحيحاً وهو يعلم أن المستعمرَ سيرفضه لأن الذي رفعه عدو، وبهذا يكون قد صرفه عن عمل إيجابي قد يفكر فيه في المستقبل.

يروي مالك بن نبي تجربة من تجاربه فيقول:» انعقد في باريس مؤتمر

العمال الجزائريين بأوربا، وبهذه المناسبة تقرر من لدن المشرفين على المؤتمر

توزيع كتيب لصاحب هذا العرض تناول فيه مشكلة من مشاكلنا اليوم، ولكن

أصحاب الاختصاص في الصراع الفكري لم يفتهم أن يسدوا الطريق على الأفكار

المعروضة، ولذا وجهت الدعوة إلى السيدة الألمانية التي كتبت (شمس الله تشرق

على الغرب) وفيه مدح وتمجيد للحضارة الإسلامية، وتقدمت السيدة وقدمت كتابها

للمؤتمر، فانتقل على الفور بروحه من مجال المشكلات إلى أبهة وأمجاد الماضي

الخلاب « [13] .

ومن وسائله الماكرة، التي لا يزال يتقن استعمالها رميه للمسلم بشتى

الاتهامات، بل يحاول الإيحاء بأن المسلم منبوذ القرن العشرين، وفي هذه الحالة

يصبح سلوك المسلم ردود أفعال، وترفع عنده توتر طاقات الدفاع حتى يكون في

حالة توتر شاذة، ويعيش إما مُتهِماً أو مُتَهماً، وفي هذه الظروف فإن مختبرات

الاستعمار تصرف كل إمكانيات المسلم إلى معارك وهمية، يُسمع فيها قعقعة السلاح

ودوي الحرب ولكنها معارك مع أشباح، والمسلم يظن أنه انتصر ويرتاح نفسياً،

والتاريخ الإسلامي الحديث لا يخلو من هذه المعارك الوهمية كتلك التي خاضها

الأفغاني ومحمد عبده ضد أرنست رينان وجبرايل هنوتو، والمشكلة ليست في

الدفاع عن الإسلام ولكن في تعليم المسلمين كيفية الدفاع عن أنفسهم [14] .

لقد تدخل الاستعمار في كل شيء حتى لا يترك فرصة لأي بعث إسلامي،

فكانت الإدارة الفرنسية في الجزائر هي التي تعين المفتي والإمام لا طبقاً لمشيئة

جماعة المسلمين بل تبعاً لهوى المستعمرين، وبذلك تجمع في يدها أنفذ وسائل

الإفساد، فاختيار رجل يؤم الناس في المسجد لا يكون بناء على تميزه بضمير حي

أو علم بأصول العقيدة، بل يراعى في ذلك ما يقدمه للإدارة من خدمات، حتى كأنه

(جاويش) صلاة، ولا شك أن هذا التحكم في شعائر الدين مما يقض مضاجع

أصحاب العقائد من المؤمنين لما يرون من أحداث غاية في الفساد: إمام جاسوس،

ومفت فاسد، وقاض مرتش، وغاية الاستعمار أن يجعل من الإسلام صورة عجيبة، وبذلك يكدس العقبات والعوائق على طريق النهضة الإسلامية) [15] .

دور الاستشراق:

كان للمستشرقين دور بارز في محاولة تشويه وتزييف التاريخ الإسلامي

والطعن في الإسلام نفسه، ولكن مالك بن نبي يركز على ناحية معينة في إنتاجهم

كان لها أثر نفسي سيء في أذهان المسلمين. فبعض المستشرقين خلطوا في كلامهم

بين المدح للإسلام وبين وضع السم في الدسم، هذا المدح جعل بعض المسلمين

يستسلمون لنزعة الفخر والعيش مخدرين على أمجاد الماضي، وكل من أراد الدفاع

عن الإسلام استشهد بكلام لأحد المستشرقين، (وهكذا يتبين لنا أن الإنتاج

الاستشراقي بكلا نوعيه (المادحون والمفندون) كان شراً على المجتمع

الإسلامي) [16](وعندما يعلن الاستشراق أنه لا نصيب للعرب في تشييد صرح العلوم، ربما يؤدى بنا هذا الموقف المتطرف إلى تلافيه بسطحية نشاهد أثرها في إنتاج بعض المفسرين مثل طنطاوي جوهري)[17] وهو التفسير الذي حول القرآن إلى مادة للعلوم، والقرآن يوجد المناخ العقلي والنفسي للروح العلمية وليس هو كتاب جغرافيا أو فلك أو أحياء..

وأخيراً لابد أن نعلم أن المكر السيء يحيط بأهله (فالاستعمار الذي يهلك

المستعمَرين مادياً يهلك أصحابه أخلاقياً، وذلك ما يشهد به تاريخ أسبانيا منذ

اكتشاف أمريكا) [18] (إن الأمم الاستعمارية على الرغم من إدراكها لأخطار

الاستعمار، تعمى عن هذه الأخطار كأن هنالك قدراً محتوماً يقضي على يقظتها

ووعيها) [19] .

ويجب أن نعلم أيضاً أنه رغم كل هذه العوائق، استطاع المسلم التفلت من

الأنشوطة التي أراد الاستعمار عقدها حول عنقه، فما زالت فطرته وإسلامه يعطيانه

القوة والدافع لتلمس الطريق الصحيح.

ما هي نقطة البدء؟

الإقلاع:

الإيمان العميق بالمبدأ الذي يعتنقه المسلم هو نقطة البدء، هذا الإيمان الذي

يعطيه قوة فوق قوته، واحتمالاً فوق احتماله، فيتغلب على المصاعب التي

تعترضه، ويتحول هذا الإيمان إلى عاطفة قوية جارفة (فالروح وحدها هي التي

تتيح للإنسانية أن تنهض وتتقدم، فحيثما فقدت الروح سقطت الحضارة وانحطت

لأن من يفقد القدرة على الصعود لا يملك إلا أن يهوي بتأثير الجاذبية الأرضية) [20](فأينما توقف إشعاع الروح يخمد إشعاع العقل، ويفقد الإنسان تعطشه إلى الفهم وإرادته للعمل عندما يفقد الهمة وقوة الإيمان، فالإيمان هو المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية [21] والمسلم الذي يصل إلى درجة (التوتر الروحي) يشعر بالسعادة الغامرة عندما يبني أول مسجد في المدينة ويحمل (لَبنِتَيْن) بدلاً عن واحدة) وفي هذه الحالة الروحية صبر بلال رضي الله عنه ولم تستطع قوة في الأرض أن تخفض إصبعه وهو يقول: (أحد، أحد)[22] .

هذا الإيمان يصنع المعجزات، عندما تختفي الأنانيات ويشترك الجميع عن

طواعية في بناء حضارة، وفي المجتمع الإسلامي الأول كان المنافقون وحدهم

يتخلفون عن أي عمل فيه تعب أو نصب، وكل الكتب والمحاضرات والخطب لا

تكفي لإنشاء أمة لا ترتفع إيمانياً وأخلاقياً إلى درجة عالية، كما جاء في الحديث

عن جندب بن عبد الله قال:» تعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن ثم تعلمنا القرآن

فازددنا به إيماناً « [23] .

والقرآن الكريم وضع ضمير المسلم بين حدين هما: الوعد والوعيد، ومعنى

ذلك أنه قد وضعه في أنسب الظروف وهذان الحدان ينطبقان على مفهوم الآيتين

الكريمتين:

أ-[فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إلَاّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ] .

ب-[إنَّهُ لا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إلَاّ القَوْمُ الكَافِرُونَ] .

وبين هذين الحدين تقف القوة الروحية متناسبة مع الجهد الفعال الذي يبذله

مجتمع طبقاً لأوامر رسالة [24] .

يقول الدكتور (الكسس كاريل) معبراً عن هذه الحقيقة: (فالأمل والإيمان

والحمية تؤثر في الجسم تأثير البخار في العجلة المحركة) [25] (وإذا نجحت

إحدى الأفكار في تغيير سلوك البشر فذلك لأنها تنطوي على عناصر عاطفية إلى

جانب العناصر المنطقية، إن الإيمان هو الذي يدفع الإنسان إلى العمل وليس العقل، والذكاء يكتفي بإنارة الطريق ولكنه لا يدفعنا إلى الأمام) [26] .

هذه الطاقة الإيمانية جعلت الفرد المسلم في عصر النبوة يقسم ثروته مع أخيه

الذي هاجر إليه، فالمؤاخاة التي تمت بين المهاجرين والأنصار هي أول عمل

تاريخي يقوم به المجتمع ساعة ميلاده، ولولا قوة شبكة العلاقات الاجتماعية لما

استطاع المجتمع الإسلامي الإقلاع باتجاه حضارة، وفي حالة تمزق هذه العلاقات قد

توجد العوالم الثلاثة (الأفكار، والأشخاص، والأشياء) ولكنها لا تغني شيئاً، وقد

يكون هناك مسلمون متحمسون وهناك أفكار ولكن الشبكة ليست قوية.

إن قصة المؤاخاة ليست خيالية، ولا هي أقرب للخيال، فالإسلام دين واقعي، وليس صعباً أن يحقق المسلمون شيئاً من هذه (المؤاخاة) ، والآن توجد (إخوة

إسلامية) خطابية وعظية ولكن لا يوجد (مؤاخاة) عملية فعلية، من هنا المنطلق،

ومن هنا البداية.

(يتبع)

(1) لاشك أن هذه نهضة صناعية، وليست نهضة حضارية بالمعنى الشامل، ولكن لو أن اليابانيين طالبوا بنقل مفاسد حضارة الغرب وسلبياتهم كما يطالب المستغربون عندنا لما نجحوا في بناء هذا المجد الاقتصادي، لقد حافظوا على نوع من التقاليد وأخلاق صارمة في التعامل حتى استطاعوا

إقامة هذه النهضة.

(2)

الأفرو آسيوية / 78.

(3)

شروط النهضة /59.

(4)

وجهة العالم الإسلامي /75.

(5)

آفاق حد الرية / 46.

(6)

إنتاج المستشرقين / 28.

(7)

إنتاج المستشرقين / 33.

(8)

وجهة العالم الإسلامي /86.

(9)

وجهة العالم الإسلامي /85.

(10)

في مهب المعركة / 16.

(11)

في مهب المعركة / 28.

(12)

الصراع الفكري في البلاد المستعمرة / 9.

(13)

مشكلة الأفكار / 140.

(14)

إنتاج المستشرقين / 16.

(15)

الصراع الفكري / 6768.

(16)

إنتاج المستشرقين / 25.

(17)

إنتاج المستشرقين / 25.

(18)

وجهة العالم الإسلامي / 113.

(19)

وجهة العالم الإسلامي / 113.

(20)

المصدر نفسه / 26.

(21)

المصدر السابق/27، وقد يستغرب القارئ ويقول: كيف نجمع بين كلامك في نهاية المقال السابق عن أن توحيد الإلهية لم يكن واضحاً تماماً عند مالك وبين كلامه عن الإيمان وأثره ومهاجمته لعلم الكلام، وقد نبهني أحد الأصدقاء إلى أن ظاهر كلامه لا يدل على هذا، مع قناعته بوجهة نظري، فذكرت له أنني استنتجت هذا الكلام من مجموع قراءاتي لكتبه، كما أنه في النية كتابة مقال مستقل عن بعض أخطائه ومنها هذا الموضوع، وسأوضح الدليل على ذلك إن شاء الله، وقد يزول الإشكال إذا عرفنا أنه يتكلم هنا عن بناء الحضارات بشكل عام، فالمسلم عنده طاقة روحية وغير المسلم عنده هذه الطاقة في بدء دورة الحضارة كما يذكر في أكثر كتبه.

(22)

ميلاد مجتمع / 21.

(23)

صحيح سنن ابن ماجه، بتحقيق الألباني 1 / 16.

(24)

ميلاد مجتمع / 21.

(25)

تأملات في سلوك الإنسان / 84.

(26)

المصدر نفسه / 139.

ص: 39

الزيارة بين النساء

على ضوء الكتاب والسنة

- 3 -

خولة درويش

إن المؤمنة حيثما جالست غيرها تحرص على أن لا تقذف بكلامها دون

تمحيص، فهي تسعى لتكون أقوالها فضلاً عن أفعالها في ميزان حسناتها.

لذا تتواصى مع أخواتها المؤمنات بكل ما فيه خير وصلاح، تأمر بالمعروف

وتنهى عن المنكر، وإن لمست نفوراً وشقاقاً بين البعض منهن فهي تعمل على

إصلاح ذات البين، وإطفاء نار العداوة، تتمثل قوله تعالى: [لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن

نَّجْوَاهُمْ إلَاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ] [النساء 114] .

المتأمل في هذه الآية يجد أن غالبية النجوى لا خير فيها إلا هذه الثلاث:

1-

الأمر بالصدقة.

2-

الأمر بالمعروف، ونجمعهما تحت عنوان الدلالة على الخير.

3-

الإصلاح بين الناس.

ومن تكلم بها أو بأحدها فهو في قربة إلى الله تعالى، بل وكلامه من أفضل

الذكر فقد قال ابن تيمية رحمه الله:

«إن كل ما تكلم به اللسان، وتصوره القلب، مما يقرب إلى الله، من تعلم

علم، وتعليمه، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، فهو من ذكر الله ولهذا من

اشتغل بطلب العلم النافع، بعد أداء الفرائض، أو جلس مجلساً يتفقه أو يفقه فيه

الفقه الذي سماه الله ورسوله فقهاً فهذا أيضاً من أفضل ذكر الله» [1] .

1-

الدلالة على الخير:

فإذا رزقك الله فهماً وعلماً، أو قوة وعافية؛ فاستخدميها لمعاونة المسلمين

وتسهيل حاجاتهم، سواء بعملها بيدك؛ أو بتعليمها غيرك، فما ذلك إلا زكاة الصحة

التي حباك الله إياها.

(كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين

الاثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن

الطريق صدقة) [2] .

إن كثيراً من بلادنا المسلمة مليئة بالأزمات الاقتصادية بسبب القحط أو

الحروب. وتنشط المؤسسات التبشيرية والشيوعية للاستفادة من تقصيرنا جميعاً،

فتستغل آلام المكلومين لتقدم لهم الغذاء واللباس والدواء طعماً لجذبهم به لمصيدتها،

وتعمل جاهدة بكل الوسائل لجلبهم لساحتها، بتربية أبنائهم أو تعليمهم أو تطبيبهم..

فهلا استفدنا من زياراتنا ووقتنا الضائع؟ ! فتدارسنا أحوال أمتنا، وعلمنا

بعضنا أن نخيط الثياب التي تستر عورات أخواتنا المسلمات المحتاجات.

ولنصنع من الطعام ما يمكن أن يرسل لهن. ولنثبت أننا المسلمات اللاتي

يهمهن أمر الأمة المسلمة. لا الدمى المتحركة التي تُزين لتلهي من حولها وتبعد عن

جادة الصواب.. فهل النصرانيات أقدر منا؟ ؟ أم أنهن أكثر تضحية وإيماناً؟ نحن

حفيدات عائشة وخديجة وأسماء، أو لسنا أجدر أن نضحي من أجل حقنا الأكيد أكثر

من تضحيتهن من أجل باطلهن؟ .

ويتامى المسلمين؟ ! من ينجينا من الإثم إذ يُحملون إلى البلاد الشيوعية أو

النصرانية ليربوهم على دينهم؟ .

ماذا نقول غداً لرب العالمين إن سألنا عنهم وعن تفريطنا وتقصيرنا في حقهم؟

أفلا يجدر بنا أن نتكفلهم؟ وماذا لو ضمت الأسرة إليها فرداً أو اثنين لتنشئتهم

(لا تبنيهم فهو محرم) وتربيتهم؟ .

أو إن عملت الجمعيات الخيرية المسلمة لرعايتهم، وساهمت المرأة المسلمة

بما تستطيع، سواء بالمادة أو بالجهد الذي تقدر عليه، من عمل يدوي أو تعليمي أو

توجيهي؟ !

قد يقال: إن هذه أعمال ضخمة لا تقدر عليها جهود فردية قليلة المورد.

[إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ][الرعد 11] فهذه الفكرة

إن اقتنعت وإياي بها وأقنعت في زيارتك صديقتك المؤمنة وجارتك المسلمة لابد وأن

نحقق خيراً كثيراً للمسلمين، ونكون قد ساهمنا معاً في النهضة الإسلامية.

ولاشك أن ذلك مطلب شرعي بدلاً من أن تظل المسلمة مجال تنافس الدول

لتلهيها عن رسالتها بمستحضرات التجميل، وأدوات الترهل والترفيه.

وبذلك نكون قد ارتقينا بزياراتنا عن اللغو إلى التناصح لما فيه خيرنا وخير

المسلمين، وفي عملك ذلك أجر الصدقة.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قلت: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيله. قال: قلت: ثم أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها ثمناً عند أهلها وأكثرها نفعاً. قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين

صانعاً أو تصنع لأخرق» [3] .

فلك في معاونتك لأختك المسلمة أياً كانت تلك المعاونة الثواب الجزيل فعملك

من أفضل القربات.

فإن كانت مريضة أعجزها المرض عن أداء مهمتها تساعدينها في تعليم

أولادها الصغار، أو عمل طعام لهم، أو ترتيب بيتها وتنسيقه بدل أن تكون زيارتها

للكلام والتسلية فحسب.

وإن كانت نفساء أمضها ألم الولادة: تقومين على رعايتها ورعاية وليدها.

فهذا أجر قد ساقه الله إليك، ولا يقدر عليه غيرك، وإن كانت جاهلة بفنون المنزل، أو حتى في التعامل الاجتماعى تعلمينها وتنصحينها فالدين النصيحة، ولك في كل

ذلك أجر الصدقة، ولنذكر معاً حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «من كان في

حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة من كرب الدنيا فرج الله

عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» [4] .

فلنكن في حاجة أخواتنا المسلمات، والله معنا في قضاء حاجاتنا وتفريج

كرباتنا. وأينا تستغني عن غيرها؟ ! وإن استغنت الواحدة عن غيرها بأعمالها،

فلابد أن تحتاج إلى التناصح والمشاورة معهن.

فما أجدرنا نحن المسلمات الحريصات على حسن تنشئة أبنائنا ونراقب الله في

تربيتهم ما أجدرنا أن نستفيد من فترة زياراتنا للتناصح في تربيتهم، وحل مشكلاتهم

ليحل العمل والتوجيه محل الشكوى والأسى الذي لا يصحح خطأ ولا يغير واقعاً.

فإن أقلقنا أن نجد بعضاً من أبناء المسلمين يفوتهم الفكر الديني الواعي، أو لا

يلتزم آخرون بالتعاليم الشرعية، أو لا يجيد الكثير منهم التعامل مع الآخرين

فعلينا نحن المسلمات أن نسعى إلى تصحيح هذا الواقع المرير بكل ما نستطيع

وبصبر وجلد.

ذلك أن التربية ليست أن تلقي الكلمة والتوجيه على أبنائنا ثم ننتظر الاستجابة، فالمغريات كثيرة لا تنتهي

والتربية طويلة وشاقة تبدأ من نعومة أظفارهم.

فلابد من الرعاية الدؤوب لهم دون ملل. نتابعهم باستمرار في جدهم وهزلهم، لعبهم ومذاكرتهم.

وبعد أن نعمل جهدنا لنكون القدوة الحسنة لهم في كل خلق فاضل كريم،

نتناصح مع أخواتنا المؤمنات في حسن اختيار القصص المفيدة التي تثقف الطفل

وتعده لحياته المستقبلة، وتربي وجدانه فيعرف كيف يعطي كل ذي حق حقه.

ونبعده عن القصص الخرافية والبوليسية وكذلك عن البرامج الإعلامية التي لا تليق، ونسعى بالتشاور مع بعضنا لنحيط أبناءنا بالصحبة الطيبة التي تعينهم على الخير.

فالشر كالداء المعدي، سرعان ما ينتشر بالمخالطة. فنبعدهم عنه لنحفظ

عليهم دينهم وخلقهم.

وهكذا نشحذ هممنا لتكون زياراتنا هادفة لما يرضي الله وينفع المسلمين.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً جاء إلى رسول الله -

صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله. أي الناس أحب إلى الله؟ قال: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور

تدخله على قلب مسلم) .

فلنحرص على نفع المسلمات وإدخال المسرة على قلوبهن، ولا نبخل بنعمة

حبانا الله إياها أن نخدم بها مسلمة فنفرج بها كربتها ونعمل ما فيه مصلحتها،

وندعوها إلى اتباع الخير الذي نريده لأنفسنا، قال تعالى: [والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ

بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ

الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [التوبة

71] .

ولا تقول المسلمة: ما لي وللناس، فإني أدعهم وشأنهم ولا أتدخل في

خصوصياتهم، نعم ذلك في أمور الدنيا المباحة التي يستوي فيها عملها وتركها «فمن حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه» أما ما فيه خطر محقق وحتى لو كان ذلك

في أمور الدنيا، فالواجب النصح فالدين النصيحة.

إن المؤمنة عليها مهمة النصح والدعوة إلى دينها على قدر ما تستطيع، ومن

روائع ما روته لنا السيرة، قصة الصحابية الجليلة أم سليم.

(كانت أم سليم أم أنس بن مالك من السابقات للإسلام من الأنصار خطبها أبو

طلحة قبل أن يسلم وبعد وفاة زوجها فقالت: يا أبا طلحة ألست تعلم أن إلهك الذي

تعبده نبت من الأرض، قال: بلى. قالت: فلا تستحي أن تعبد شجرة؟ ! إن

أسلمت فإني لا أريد صداقاً غيره. قال: حتى أنظر في أمري. فذهب ثم جاء.

فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقالت: يا أنس زوج أبا طلحة. فزوجها) [5] .

إنه مهر كريم لامرأة داعية كريمة، دعته إلى عبادة الله وحده، والبعد عن

الشرك به، فشرح الله صدره وآمن فأكرِم به من مهر.

وما هلك بنو إسرائيل إلا لتركهم فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

[كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] أما اعتزال الناس

اعتقاداً بعدم صلاحهم، فهو كما يقال: آخر الدواء الكي ذلك أننا (حين نعتزل الناس

لأننا نحس أننا أطهر منهم روحاً أو أطيب منهم قلباً، أو أرحب منهم نفساً، أو

أذكى منهم عقلاً لا نكون قد صنعنا شيئاً كبيراً. لقد اخترنا لأنفسنا أيسر السبل

وأقلها مؤونة.

إن العظمة الحقيقية أن نخالط هؤلاء الناس مشبعين بروح السماحة والعطف

على ضعفهم ونقصهم وخطئهم وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتثقيفهم ورفعهم

إلى مستوانا بقدر ما نستطيع.

إنه ليس معنى هذا أن نتخلى عن آفاقنا العالية، ومثلنا السامية، أو أن نتملق

هؤلاء الناس، ونثني على رذائلهم أو أن نشعرهم أننا أعلى منهم أفقاً. إن التوفيق

بين هذه المتناقضات وسعة الصدر لما يطلبه هذا التوفيق من جهد هو العظمة

الحقيقية) [6] .

وهكذا

فبعد أن تتعهد المسلمة نفسها بالإصلاح فتلتزم السنة وتعض عليها

بالنواجذ، تساهم بالدعوة إلى الخير بين النساء. وهذا واجب ديني تأثم إن قصرت

به، مهما كان مستواها الثقافي، فتعمل بقدر طاقاتها وإمكانياتها، تأمر بالمعروف

بلفظ لين وقول لطيف، والله تعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم [ولَوْ كُنتَ

فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ] [آل عمران 159] ، ترفق بمن حولها، توقر

الكبيرة وترحم الصغيرة، ولا تنسى أنها صاحبة هدف جليل تسعى لتحقيقه بأسلوب

يرضي الله تعالى ويؤدي للنتيجة التي ترجوها.

فكما يسعى أصحاب الأهداف الدنيوية لتحقيق أهدافهم، فيتحسسون مداخل

نفوس من يتعاملون معهم، ليعرفوا كيف الوصول لغايتهم، يجب أن نكون نحن

المسلمات أكثر اهتماماً بمعرفة من ندعوهن لتكون دعوتنا كما أراد الله تعالى: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ][النحل125] .

2-

الإصلاح بين المؤمنات:

كما نجعل من زياراتنا مجالاً خصباً للإصلاح بين الناس، فإن عمل الشيطان

على إثارة العداوة بين المسلمات نزيلها بالإصلاح بينهن، فإن إزالة الخصام دليل

سمو النفس التي تعمل على إشاعة المودة بين الآخرين، ليحل الوفاق محل الشقاق،

والصلة مكان القطيعة، لذا كانت درجة من يصلح بين الناس أفضل من درجة

الصيام والصلاة والصدقة التطوع لا الواجبة.

عن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه

وسلم-: «إلا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى.

قال: إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة» . ويروى عن النبي -

صلى الله عليه وسلم أنه قال: هي الحالقة: لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق

الدين «.

ذلك أن الإفساد بين الآخرين يؤدي إلى القطيعة التي حرمها الشرع كما جاء

في الحديث الشريف:» لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض

هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام « [7] .

وقال صلى الله عليه وسلم منفراً من الشحناء والقطيعة ومبيناً سخط الله تعالى

على المتقاطعين حتى يصطلحا:» تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين، ويوم الخميس،

فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال:

انظروا هذين حتى يصطلحا ثلاثاً « [8] .

فإن حصلت جفوة بين المسلمات نسارع إلى الإصلاح بينهن للتغاضي عن

هفوة المخطئة، فإذا بالعيش صافياً بعد كدر، والوداد عاد بعد الجفاء.

والواجب أن تقبل عذر من تعتذر، لا أن تشيح بوجهها بعيداً عن أختها،

إصراراً على مواصلة القطيعة، وعدم قبول العذر: إذ من شرار الناس من لا يقبل

عثرة، ولا يقبل معذرة كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

» ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله، قال: إن شراركم الذي

ينزل وحده، ويجلد عبده، ويمنع رفده. أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى إن

شئت يا رسول الله. قال: من يبغض الناس ويبغضونه، قال: أفلا أنبئكم بشر من

ذلك؟ قالوا: بلى إن شئت يا رسول الله. قال: الذين لا يقبلون عثرة ولا يقبلون

معذرة ولا يغتفرون ذنباً، قال: أفلا أنبئكم بشر من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله: قال: من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره « [9] .

(1) الفتاوى 10 / 661.

(2)

رواه البخاري، ومسلم.

(3)

شرح صحيح مسلم 2 / 73.

(4)

متفق عليه.

(5)

الإصابة 4/442.

(6)

أفراح الروح، لسيد قطب.

(7)

شرح صحيح مسلم 16/ 117122.

(8)

شرح صحيح مسلم 16/ 177 - 122.

(9)

رواه الطبراني وغيره، ينظر الترغيب والترهيب 3/394.

ص: 48

في إشراقة آية

[فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ]

د. عبد الكريم بكار

طالما وقفت خاشعاً في محراب هذه الآية وطالما غمرني ضياؤها بأشعته

الهادية حيث أودع الرحمن عز وجل في كلمات قليلة من المعاني الكريمة الفياضة ما

يمدنا بالمفاهيم النيرة كلما اتسعت مساحات الوعي لدينا وكلما تعاظم رصيدنا من

التجارب.

وسأقف مع القارئ الكريم وقفات عدة في إشراقة هذه الآية نغرف من معينها

النمير.

الوقفة الأولى:

تمثل هذه الآية مظهراً من مظاهر رحمة الله تعالى حين رضي منهم أن

يطيعوه على قدر طوقهم وقدرتهم؛ وهذا الأمر أحد أهم الأسس التي يرتكز عليها

التشريع الإسلامي، وهو في الوقت ذاته أحد دعائم خلود الشريعة الغراء إذ أن

تصرف الأيام والليالي يأتي بما لا يحصى من الظروف والأحوال، وحينئذ فإن

قدرات الناس على القيام بأمر الله تتفاوت تفاوتاً كبيراً، خاصة لا يجد المفتي لها

حكماً تفصيلياً يغطيها، وتأتي هذه الآية لتمثل المنطلق الرحب والناموس الأعلى

الذي يحكم فقه الضرورات، وفقه ارتكاب أخف الضررين ودفع شر الشرين،

وتشعر هذه الآية الكريمة المسلم الذي وقع في ظروف حرجة ضاغطة بالطمأنينة

بالسلامة من الإثم ما دام اتقى الله ما استطاع، كما أنها تستنهضه لمقاومة الظرف

الطارئ وبذل الوسع في الاقتراب من المركز أكثر فأكثر، وهتو إذ يفعل كل ذلك

يشعر برقيب ذاتي منبعه خشية الله سبحانه وتعالى.

الوقفة الثانية:

إن دوائر الاستطاعة تتسع على صعيدي القيام والعمل كلما استطاعت الأمة أن

ترقى صعداً في سلم الحضارة. أما على صعيد القيم فإن التقدم المادي والتقني يهيئ

الظروف المناسبة لنشر القيم وحملها، وإذا أخذنا قيمة (الحرية) باعتبارها واحدة من

أخطر القيم المتفق عليها بشكل عام لوجدنا أن هذه القيمة ليست حالة يتصف بها

الفرد أو دعوى يطلقها، وإنما هي عملية مواكبة للإمكانات التي يحصل عليها؛ فإذا

ما امتلك الواحد منا ثروة كبيرة من المفردات اللغوية وجد نفسه حراً في اختيار

الألفاظ والأساليب المتعددة التي تمكنه من نقل المعلومة التي يريد إيصالها لمخاطبيه

مهما تفاوتت مستوياتهم الثقافية. ومن توفرت في بلاده فرص كبير للعمل بشروط

ميسرة وجد نفسه قادراً على رفض ما يمكن أن يتعرض له من ظلم أو حيف من

أرباب العمل وعلى رفض ما يعده مهنة شاقة أو غير مناسبة، وهو بذلك يجد أمامه

مجالات واسعة للحركة وقدراً أكبر من الخيارات المريحة، وقد عبر العرب قديماً

عن هذه الحالة بمثل شائع حين قالوا: (من أخفض تخيّر) .

وفي المقابل فكيف يمكن لمن بحث عن فرصة للعمل سنوات عدة حتى عثر

عليها أن يتصرف كما تصرف الأول، وأن يشعر بأنه قادر على أن يكون حراً يأبى

الظلم ويعيش بعيداً عن القسر والقهر؟ ! !

وأما على الصعيد العملي فإن أكثر المخترعات أعطت جوارح الإنسان نوعاً

من الامتداد في سلطانها وقدراتها؛ فالآلة مدت في سلطان اليد والطائرة في سلطان

الرجل والهاتف في سلطان السمع و (الرائي) في سلطان العين وهكذا..

ويترتب على اتساع دوائر الاستطاعة تعاظم المسئولية ووجود إمكانات جديدة

للمزيد من التقوى وبهذا الاعتبار فإن العمل لتحسين المناخ العام الذي يعيش فيه

المسلم عبادة لله تعالى تهيئ الناس لمزيد من الطاعات والعبادات، وإذا ما حدث

خلل في الارتباط بين الاستطاعة والتقوى فإن ذلك يعني نوعاً من البغي الممقوت

الذي يخل بالتوازنات العميقة بالفرد كما يستنزل المحن والعقوبات له.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عقوبة شيء من ذلك الخلل حين

ذكر الملك الكذاب في جملة من لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم، ولا ينظر

إليهم إذ أن السلطان ذو قدرات كبيرة فإذا لم يواكبها الصدق أحدث من الضرر ما لا

تنفع معه رقابة الرقباء! ولذلك استحق العقوبة التي تتناسب مع فعله.

الوقفة الثالثة:

لكل منا طاقات محدودة، ولكل منا طموحاته وأهدافه التي يرمي إلى تحقيقها

في هذه الحياة قبل أن يرحل وتنهي الإمكانات والطموحات؛ ومهما كانت قدرات

الإنسان كبيرة فهي محدودة، ونشاهد في كثير من الأحيان أن طموحاتنا أكبر من

طاقاتنا، وكثير منا يصاب حينذاك بالعجز والإحباط ويؤدي بنا هذا إلى البقاء في

إجازة مفتوحة! !

وهذا مع علمنا أن التكليف على قدر الوسع، ولو أننا باشرنا ما هو ممكن

اليوم لصار ما هو مستحيل اليوم ممكناً غداً، ولنوضح هذا بمثال صغير، فلو أننا

عمدنا إلى طفل في الخامسة من عمره لم يدخل المدرسة، وطلبنا منه كتابة اسمه

لوجد أن ذلك بالنسبة له مستحيل، فإذا علمناه كتابة حروف اسمه حرفاً حرفاً، ثم

علمناه الوصل بينهما لوجد أن ما كان مستحيلاً قبل ساعة صار الآن ممكناً وهكذا

ونحن في كثير من الأحيان نطوف في المجلس الواحد في أنحاء العالم

الإسلامي متألمين لما يحدث للمسلمين، وشاكين من التآمر عليه، ثم ينفض المجلس

على نحو ما انعقد عليه دون أن يستفيد مسلم من شيء مما قلناه، وذلك لأننا لم

نباشر الممكن، وإنما أذهبنا أوقاتنا في الحديث عن أمور لا حول لنا ولا طول في

التأثير فيها! !

ولو أننا تحدثنا بما يصلح أمراً من أمور الحي أو في كيفية جعل فلان من

الناس يرتاد المسجد لكان ذلك أنفع للمسلمين وأبرأ للذمة من شيء مشغولة به.

الوقفة الرابعة:

إن النبي صلى الله عليه وسلم تركنا على المحجة البيضاء، ووقع التكليف

من الله تعالي باتباع ذلك المنهج والتزامه على قدر الوسع والطاقة، وهذا التكليف

سنة الله تعالى في الأنبياء عليهم السلام وسنة أممهم؛ فقد مكث نوح -عليه

السلام- يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين، وكانت حصيلته في ذلك وصف الله تعالى:[وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَاّ قَلِيلٌ][هود 40] نعم إنهم قليل حملتهم سفينة واحدة ومع ذلك

فإن نوحاً ظل رسولاً من أولي العزم الأبرار، ذلك لأن المنزلة على مقدار الجهد

الموافق للمنهج المنزل، وليس على مقدار ما يحقق من نجاح وفلاح.

ولكن الذي يحدث في بعض الأحيان أننا نضع أهدافاً معينة نريد الوصول إليها

عاجلاً، ولو كانت هذه الأهداف تستدعي الضغط على المنهج أو القفز عليه أو

الانحراف عنه، وحين يحدث ذلك تفقد الدعوة انسجامها الذاتي كما تهتز الفلسفة

النظرية التي تستند إليها؛ وربما أدى ذلك إلى استعمال وسائل غير مشروعة.

ولا يعني هذا أن نعفي أنفسنا من عمليات المراجعة، بل يعني أن المراجعة

المطلوبة هي التأكد من موافقة أساليبنا ووسائلنا للمنهج الرباني الذي تعبدنا الله تعالى

باتباعه والحركة على هديه.

ص: 53