الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الافتتاحية
الخطاب الإسلامي والقضية الكبرى.. دعوة إلى الثقة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه
ومن والاه، وبعد:
فإن الخطاب الإسلامي كثيراً ما يُتهم ظلماً بأنه «محدود» .. «سطحي» ..
«اختزالي»
…
«عاطفي» ! وكثيراً ما تجنى عليه مناوِئوه بأنه لا يملك نظرة
معمقة للقضايا أو تفسيراً واقعياً للأحداث.
ولكن الأحداث تثبت يوماً بعد يوم أن هذا الاتهام فيه من الإجحاف بقدر ما فيه
من الإسفاف؛ لأن الإسلاميين لم يخصهم الله دون خلقه بالحرمان من رجاحة العقل
أو بُعد النظر كما يريد خصومهم أن يشيعوا، بل هم مثل بقية خلق الله في البناء
الإنساني، إلا أن الله اختص من يفهم دينه منهم بمخزون هائل من الحقائق المودعة
في مصادر هذا الدين، يستطيع بها وفي ضوئها كل إنسان أن يرى الصورة أوضح
والحقيقة أظهر. صحيح أن هناك مساحات للاجتهاد والرأي، تتفاوت فيها وجهات
النظر، إلا أن هذا التفاوت أو الاختلاف يبقى، أو ينبغي أن يبقى في إطار اختلاف
التنوع لا اختلاف التضاد.
إن المسلم الحق تحكمه في تصوراته وتصرفاته ثوابت من حقائق يقينية جاء
بها الوحي الخاتم، وقررها في صورة سنن كونية قدرية، وسنن شرعية دينية لا
يمكن للإنسان إذا جهلها أو تجاهلها أن يكون ذا بصيرة أبداً. تجيء الأحداث بعد
الأحداث لتثبت على ساحات الواقع ومآلات الأمور أن التصور الإسلامي للقضايا،
والطرح الإسلامي للمشكلات هو الأقرب للصواب، والأجدر بالتطبيق لو كان له
من يسمعه، وآخر الشواهد على ذلك ما وصلت إليه القضية الفلسطينية من انتكاسة
مخزية على الأصعدة الرسمية، عالمياً وإسلامياً وعربياً وإقليمياً ومحلياً.
نستطيع أن نقول: إن ذلك لم يكن ليكون كذلك لولا ما حدث وما يزال يحدث
من تجاهل للثوابت الإسلامية في التعامل مع تلك القضية المصيرية منذ أن كانت
قضية إسلامية عالمية، حتى حولوها إلى قضية عربية قومية، ثم قضية إقليمية
تخص دول (الطوق) المجاورة للأراضي الفلسطينية، ثم ما تلا ذلك من
اختصارها في قضية «سلطة فلسطينية» .
كان الإسلاميون بمختلف فصائلهم في العالم العربي والإسلامي يُلحون على
ضرورة أن تلتزم الأنظمة العربية بالمحكمات الإسلامية في إدارة ما كان يسمى بـ
(الصراع العربي الإسرائيلي) ، ثم عندما أصبح يُسمى بـ (النزاع الفلسطيني
الإسرائيلي) ؛ كان الإسلاميون داخل فلسطين يلحون أيضاً على السلطة الفلسطينية
ألا تفرط في تلك المحكمات والثوابت أثناء ممارستها للإدارة الرمزية لبعض
الأراضي المحتلة، ولكن العناد الموجه للطرح الإسلامي، كان هو الموقف التقليدي
لكل من تصدر لإدارة الصراع في مراحله المختلفة، وكأن هذا الصراع ليس
للإسلام فيه كلمة، أو ليست له بأرضه المقدسة صلة، وكأن أمة الإسلام ليس فيها
علماء يُرجع إليهم في قضايا الصراع المصيرية، وكأن الشعوب أيضاً ليس لها رأي
فيما ينبثق من عقول الزعامات الملهمة بين الحين والآخر في غرف المباحثات
السرية التي تنتقل بالقضية بين النقيض والنقيض. لقد تشبث المعاندون للخطاب
الإسلامي بالشعارات الحمراء أيام المد الثوري عازمين على (تحقيق النصر) ،
وتحرير آخر حبة رمل من فلسطين بفضل التضامن مع «الرفاق» في
موسكو وبكين ونيودلهي، ثم لما بدا لهم افتراق الرفاق عنهم إلى مصالحهم
الخاصة التي منها التقارب مع تل أبيب ومَنْ وراءها، انقلبوا إلى النقيض الآخر
وعقدوا الآمال على من صنعوا «إسرائيل» وزرعوها وعملوا على رعايتها
وحمايتها.
لقد تجاهل العرب هذه البدهية العقلية التي دلت عليها الثوابت الشرعية في
قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً
وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ] (آل عمران: 118) ؛ فولاية النصارى لليهود
حقيقة قرآنية لم تجد من الساسة مَنْ يستحضرها أو يصدق من ينبهون إليها، وقاد
هذا الخطأ إلى خطأ أفدح، وهو تصديق أن النصارى يمكن أن ينصفوا المسلمين
من اليهود، فأوكلوا إلى هؤلاء النصارى (رعاية) عملية السلام مع اليهود
متجاهلين أن السلام الدائم والشامل مع جميع النصارى أنفسهم وهم كبير؛ فما البال
باليهود!
ألم يقل الله تعالى عن هاتين الطائفتين: [وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ
عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا] (البقرة: 217) ألم يخبرنا الله عن نقمتهم علينا
ورغبتهم في زوال النعمة عنا [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَاّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ
وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ] (المائدة: 59) ، [مَا يَوَدُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلَا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ]
(البقرة: 105) .
إن أكثر ساسة العرب والمسلمين ألقوا بهذه الحقائق عرض الحائط مطلقين
على كفار أهل الكتاب وصف «شركاء السلام» بل إن اليهود الذين قال الله تعالى
عنهم: [لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا] (المائدة:
82) وجدوا من يقول عن زعمائهم القتلة والفجرة الكفرة: «صديقي بيجن»
«شريكي رابين» ، ووجدوا من يصف شعبهم المجرم المغتصب بأنهم
(أبناء العمومة) ، وأنهم جزء من (نسيج الشرق أوسطية) ، بل دعا بعضهم إلى
ضم إسرائيل إلى جامعة الدول العربية، لتصلح أن تسمى (عسرائيل) ، أو تدمج
مع الفلسطينيين في كيان واحد اسمه (إسراطين) ! !
أما القدس، فخدعوا الأمة بعودتها القريبة في عملية حلول واتحاد بقرية
(أبو ديس) التي كان سيطلق عليها سراً القدس عاصمة فلسطين! وأما المسجد
الأقصى فقد صدرت بشأنه مبادرة (جريئة) في القمة العربية قبل الأخيرة
على مسمع من الجميع في الجلسات الخاصة، قال المبادر بها: (مش عاوزين
المسجد.. المسجد في ستين داهية.. نقدر نصلي في أي أرض «! !
ولم تكن مثل تلك المواقف المناهضة لهدي الإسلام في التعامل مع الأعداء
مجرد مواقف شخصية نظرية، بل إن أصحابها حرصوا على أن يحولوها إلى
مواقف جماعية عملية، فبنيت على أكثرها السياسات، واتخذت من أجلها الخطوات،
ورسمت لأجل تحقيقها الاستراتيجيات، وأصبحنا نسمع ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً
طوال ما يزيد عن عشر سنين عما يسمى بـ (الخيار الاستراتيجي للسلام) ،
والذي اعتبر بعد ذلك (الخيار الوحيد) مع أن اليهود لم يقولوا - يوماً ونتحدى -:
إن السلام خيارهم الاستراتيجي أو الوحيد.
جاءت الأحداث الأخيرة في فلسطين لتثبت أن وهم السلام الشامل والعادل
الذي طالما بشرونا به في (كامب ديفيد) الأولى وحتى (كامب ديفيد) الثانية،
مروراً بمدريد وأوسلو ووادي عربة وواي ريفر وغيرها، ما هو إلا سراب
بقيعة، وما تصديق دعواه إلا كمثل صفوان عليه تراب تسفيه الريح ويذهب به
المطر، فماذا بقي اليوم من السلام الذي طُبِّعت لأجله العلاقات في بعض الدول
العربية وغيرت لأجله المناهج، وغُيب المعارضون في السجون أو أُخرجوا إلى
المنافي؟ !
لقد أثبت اليهود أنهم لا يريدون كما قال مناحيم بيجن إلا سلام القبور؛ ولذا
راحوا يتحققون من ركون العرب إلى الدنيا وإيثارهم للسلامة، ويشجعونهم على
ذلك مدركين أن الأمن بل التأمين سيأتيهم من العرب مصوناً مضموناً، عندما
يصلون إلى مرحلة» حب الدنيا وكراهية الموت «، فعندها سيحولهم الوهن إلى
موتى في صورة الأحياء، فيكون سلام القبور معهم أمراً واقعياً؛ لأنهم لا يتحركون
ولا يريدون لأحد أن يتحرك دونهم.
إن العرب والمسلمين، وبعد ربع قرن من كامب ديفيد الأولى، ونحو عقد من
مدريد، وسبع عجاف من أوسلو، يواجَهون بحقيقة السلام اليهودي الأمريكي؛ لا
في فلسطين وحدها، بل في الأردن التي طالما ردد شارون أنها (الوطن البديل)
للفلسطينيين، وفي سوريا ولبنان اللتين هُددتا أكثر من مرة على لسان شارون
بضربة تأديبية، وفي مصر التي هدد أحد وزراء شارون بإغراقها في مياه النيل
بضرب السد العالي
…
وأخيراً وليس آخراً نسمع أصواتاً من بعيد، من» إسرائيل
الغربية «المسماة أمريكا تنادي بضرب مكة حماها الله ورعاها بقنبلة نووية! !
فهل هذا هو الجواب الصهيوني والغربي على الإلحاح العربي بسلام
(الشجعان) ؟ ! يبدو أن جوابهم قد بدأ بالفعل من فلسطين، في وقت عجز فيه
العرب حتى عن تدبير مسرحية هزلية لتسويغ الرد الإسرائيلي الصريح جداً على
دعوة مؤتمر القمة العربي للسلام.
الأحداث تجري الآن على أراضي العرب بغير ما يشتهون، ونتائج السياسات
(الحكيمة) تظهر عاقبة ما كان الإسلاميون منه يحذرون.
- فهل كان الإسلاميون مخطئين عندما كانوا يحذرون من أوهام السلام مع
اليهود؟ !
- هل كانوا» عاطفيين حماسيين «وهم يدعون الأمة للإعداد للجهاد
والاستشهاد لمواجهة عدو لا يريد إلا قتلهم وإذلالهم؟ !
- هل كانوا» غير واقعيين «وهم يقولون إن الغرب بعامة وأمريكا بخاصة
لن ينصفونا من أعدائنا لأنهم بعض أعدائنا؟
- هل كانوا» سطحيين «وهم يقولون: إن» المعادلة الدولية «تستثني
العرب والمسلمين من أن يكونوا قوة عالمية أو إقليمية على أي مستوى سياسي أو
عسكري أو اقتصادي حاضراً أو مستقبلاً؟
- وهل كان الخطاب الإسلامي اختزالياً أو اعتزالياً وهو يدعو الحكومات
والأنظمة إلى جمع الكلمة على الإسلام، وإعداد الأمة به لمواجهة طويلة وصعبة مع
عدو لم يؤت به من أصقاع الأرض إلا لتصفية حسابات تاريخية ودينية؟
- وهل كان الخطاب الإسلامي (غير عقلاني) وهو يقول: إن معركة اليهود
معنا دينية وينبغي أن تدار من طرفنا دينياً أيضاً؟
- وهل كان الخطاب الإسلامي» خطاباً تسطيحياً «وهو يقول: إن
الاعتراف بـ (إسرائيل) كدولة، هو اعتراف بحق اليهود في أرض الإسراء للأبد،
واعتراف بأن الشطر الغربي للقدس هو ملك شرعي لهم سيتبعه لا محالة اعتراف
عالمي بالضم الرسمي للشطر الشرقي منها؟ بما يستتبع ذلك من خطر ماحق على
المسجد الأقصى وما حوله؟
على كل حال، لسنا بصدد البكاء على الأطلال، أو الندب على اللبن
المسكوب، ولسنا أيضاً بسبيل الشماتة أو الشكاية، ممن عرضوا أنفسهم وأمتهم
للخطر بحسن الظن في عهود الأعداء مع سوء الظن في موعود الله، لسنا بصدد
ذلك؛ لأن الشماتة ليست من خُلق عباد الله، والشكاية إنما تُشكى إلى الله. ولكننا
ندعو إلى رقع ما انخرق، ورتق ما انفتق من أحوال الأمة باستدراك ما فَرَط من
شؤونها وقضاياها مجددين الدعوة إلى الثوابت التي نعلمها من ديننا، والتي تشكل
ركيزة الإدارة الصحيحة للمعركة الطويلة مع اليهود، لا على أرض فلسطين وحدها،
وإنما على كل أرض إسلامية يضعها اليهود في برامجهم المستقبلية من فرات
العراق إلى نيل مصر، ومن جنوب تركيا إلى شمال الجزيرة.
إن الدائرة قد عادت إلى نقطة الصفر في مسيرة إدارة المعركة تحت الرايات
العلمانية، وآن للراية الإسلامية بثوابتها الاعتقادية وصبغتها الإيمانية أن تجابه
الخطة اليهودية بثوابتها الاعتقادية وطريقتها الدينية، آن لها ألا تمكن العلمانيين مرة
أخرى بالانفراد بقضايا الأمة أو تخديرها أو شل قواها في مواجهة أعدائها، ولن
يكون ذلك إلا من خلال الإصرار على إعادة قضية فلسطين إلى وجهها الإسلامي،
والإلحاح على ترسيخ ذلك فهماً وعملاً بما ينبني على الحقائق الآتية:
* عداء اليهود للمسلمين في كل زمان ومكان عداءٌ أبدي دائم ومنطلق في
الأساس من خلفيات دينية اعتقادية منحرفة.
* مؤازرة النصارى لهم منبعث كذلك من قناعات دينية وقواسم مشتركة يؤمن
بها أهل الكتاب فيما يتعلق بالزمان والمكان الذي نعيشه.
* أرض فلسطين مقدسة بنصوص محكمة من الكتاب والسنة؛ وهي أرض
وقف إسلامي لا يجوز التنازل عن شبر منها.
* حرمة دماء المسلمين المراقة في فلسطين أعظم عند الله من حرمة الأرض
المقدسة، وحرمة المسجد الأقصى، بل ومن حرمة الكعبة كما قال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وهو يسكب العبرات في الملتزم مخاطباً الكعبة:» ما أطيبك وما
أطيب ريحك! وما أعظمك وأعظم حرمتك! ولكن حرمة المسلم أعظم عند الله من
حرمتك « [1] .
* حكم الجهاد في سبيل الله والمستضعفين من النساء والولدان هو الوجوب
على التعيين ما دُهمت أرض من أراضي المسلمين؛ فكيف إذا كانت من أقدس
أراضيهم؟ !
* التنازل عن هذه الأراضي المقدسة لأنجس المخلوقات البشرية بعد
اغتصابهم لها بحيث تكون ملكاً دائماً لهم، هو خيانة لله ورسوله والمؤمنين بحكم
فتاوى العدول من علماء المسلمين.
* اعتماد النهج العلماني اللاديني في مواجهة النهج الصهيوني الديني، هو
تزييف لإرادة الأمة، فوق أن تلك العلمانية بمناهجها وزعاماتها ورموزها لم تفَّوض
تفويضاً شرعياً صحيحاً، ولا حتى قانونياً سليماً بأن تنفرد بتصميم وتنفيذ خطط
التعامل مع عدو الأمة الأول سلماً أو حرباً.
* انصراف الإسلاميين أو صرفهم خلال عقود الصراع، عن المشاركة
الجدية في مواجهة اليهود، كان أكثره بسبب إصرار الأنظمة العلمانية على الإبقاء
على إبعاد الدين عن المواجهة، وكان أيضاً بسبب إنشغال الإسلاميين أو إشغالهم
بمعارك جانبية شغلتهم عن التعامل بجدية مع القضية المصيرية التي قُدر للجيل
المعاصر أن يشهدها، وأن يتحمل أمام الله مسؤوليتها.
إننا ندعو في ظل الأحداث الجسيمة الأليمة في الأرض المقدسة، والتي نعدها
بداية مرحلة جديدة من الصراع إلى ما يلي:
1 -
العمل على إيجاد آلية مناسبة لعقد (مؤتمر قمة) لعلماء المسلمين،
لتقرير الأصول الشرعية الصحيحة التي ينبغي أن يسير وفقها المسلمون لأداء
واجبات المرحلة في تلك المواجهة المرشحة للاستمرار.
2 -
تفعيل دور الدعم المباشر للجهاد الفلسطيني الذي آن له أن يتحول من
مسمى (الانتفاضة) إلى مسمى الجهاد.
3 -
إضافة بند خاص إلى برامج ومناهج الجماعات والجمعيات والهيئات
والفصائل الإسلامية العاملة في العالم، يكون خالصاً لأداء المستطاع من الواجب
العيني لإنقاذ فلسطين وشعبها وقدسها وأقصاها من الضياع.
4 -
وأخيراً
…
دعوة كل مسلم على المستوى الشخصي بأن يعد القضية
قضيته، ويبرئ ذمته إن لم يكن برأها بعد بأداء واجبه نحو إخوانه المستضعفين
المستنصرين.
والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
(1) الترمذي: 24/ البر والصلة، حديث 1955، بنحوه.
دراسات في الشريعة
المسائل المحكمات و «الآخر»
دراسة تطبيقية في السيرة النبوية
أ. د. عابد السفياني [*]
قال الله تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ
الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ] (الجاثية: 18) .
[وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ
بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ
وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ] (المائدة: 49) .
[وَلَوِ اتَّبَعَ الحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم
بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ] (المؤمنون: 71) .
المُحكمات هي البيناتُ الواضحاتُ والأسس التي جاءت بها الشريعة الإسلامية
وهي أصل يُردُّ إليه ويُبنى عليه، ومنها ما أجمعت عليه الشرائع الإسلامية من
وجوب عبادة الله وحده وتحريم الكفر والشرك والنفاق، والظلم، والربا، والفواحش،
وإبطال أحكام الجاهلية ووجوب الحكم بالشريعة الإسلامية، واعتبارها المصدر
الوحيد للتشريع في جميع القوانين الأصلية منها والفرعية.
وقد دلت على ذلك الآيات السابقة كما دلت السنةُ المُطهَّرةُ، وعلى ذلك إجماع
الأمة المسلمة في جميع العصور من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا،
ومن ذلك الإجماع على إبطال أهواء الكفار والمشركين والمنافقين والمبتدعة،
وتحريم اتباع أحكامهم وقوانينهم وشرائعهم وهديهم.
وقصدت الشريعة الإسلامية من وراء ذلك إلى تحقيق مقاصد عملية في الدنيا
والآخرة نذكر منها مقصدين عظيمين:
المقصد الأول: المحافظة على الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم
الآخر والقدر خيره وشره، والنجاة من النار ودخول الجنة.
المقصد الثاني: المحافظة على الأنفس والدماء والعقول والأعراض والأموال
وإبعاد الناس مسلمهم وكافرهم عن جميع أسباب الظلم والبغي، والإباحية والفساد.
والمقصد الأول لا يحصله إلا من أسْلَمَ وكان من عداد المسلمين. والمقصد
الثاني يشمل المسلمين، والكفار الخاضعين لسلطان الشريعة الإسلامية.
وعلى هذا تدور مقاصد الدعوة، والجهاد في الإسلام، وهو يشمل ثلاث
خصال:
الخصلة الأولى: الدعوة إلى الإسلام؛ فمن أسلم تحقق له المقصدان السابقان.
والثانية: إخضاع الكفار لسلطان الإسلام، فإذا رغب أهل الذمة الخضوع
لسلطان الإسلام حُرم قتالهم وإكراههم على تغيير معتقدهم، ويتحقق لهم المقصد
الثاني.
والثالثة: إذا رفضوا الدخول تحت سلطان الإسلام وبقي الكفارُ متسلطين
يفسدون في الأرض بالظلم والبغي والإباحية والفساد، فلا بد من العمل بالوسائل
الشرعية لكف شرهم وفتنتهم.
وبهذا المنهج المتميز في العقيدة والشريعة حقق المسلمون على طول التاريخ
الإسلامي مقاصد الإسلام في الأرض.
وقد يقول قائل: إذا كانت الشريعة الإسلامية تُقر أهلَ الذمة على كفرهم ولا
تكرههم على تغيير معتقدهم، [لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] (البقرة: 256) ؛ فأوْلى أن
تقرهم على إباحيتهم، وظلمهم، وتتركهم ينشرون الشرك والخرافة والربا
والرأسمالية؛ لأن هذه آراؤهم وحقوقهم، والعالم المعاصر الكافر أقر «حقوق
الآخر» وأتاح له عن طريق الحريات أن يُعبّر عن رأيه.
فالجواب: أن الشريعة الإسلامية أقرت «الذميّ» على كفره؛ لأنه مُعتقَدٌ
خاص به، وأوجبت كَفَّه عن الإباحية كالزنا واللواط ووسائلهما، وعن الرأسمالية
الاقتصادية كالربا وعن الظلم والبغي، وجعلته والمسلمين سواءً في هذه الأحكام،
وهذه مُحكمات يجب المحافظة عليها أمام الرأي المخالف لها سواء كانت المخالفة من
الكفار أم من المسلمين، وهذه المُحكمات كما نرى تتصف بأنها بيّنة واضحة، وهي
أساس تُبنى عليه فروع كثيرة، وعليها دين الرسل عليهم السلام، وهي عاصم
للمجتمع والعامة من الانحراف والفساد والاختلاف والفرقة بسبب الآراء المنحرفة
عند «الآخر» ، كما أن هذه المحكمات تتصف بأنها حجة على الخصوم [1] .
فإذن إقرار أهل الذمة على كفرهم لا مانع منه بشرطه، والسماح «للآخر»
بنشر الكفر والزندقة، والإباحية، والانحراف والفساد ومخالفة الشريعة الإسلامية
ممنوع منه أشد المنع، وتبقى حرية «الآخر» فيما سوى ذلك.
وهذه «المحكمات» هي أصول العلم: وهي من أولويات وقواعد الدعوة
الإسلامية، وهي حجةٌ على الخصوم من «العلمانيين» والمنافقين والمشركين،
ولا يجوز التنازل عنها من أجل «الآخر» ؛ لأن ذلك مودٍ إلى إفساد الدين والدنيا،
ولا يجوز للعلماء والدعاة التنازل عنها، أو تأخير منزلتها في البيان والدعوة، وكل
دعوة إسلامية تضعف أمام «الآخر» وتعطلُ شيئاً من هذه المحكمات، أو تؤُخرها
في البيان هي دعوة مخالفة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت في السيرة
النبوية أن هذه الدعوة لم تتمكن إلا بسبب المحافظة على تلك المُحكمات، سواء أمام
الكفار أم بين المسلمين، وسواء في حالة الضعف أم في حالة التمكن، وسواء في
حالة الحرب أم في حالة السلم.
وإليك الأدلة والأمثلة التطبيقية على موقف المسلمين من «الآخر» .
المثال الأول: موقف كفار قريش من الدعوة الإسلامية؛ حيث قالوا لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: تعبدُ معبودنا سنة ونعبد معبودك سنة.
المثال الثاني: موقف الفرق الضالة من الإسلام؛ حيث أرادت أن تغيِّر بعض
معتقداته وشرائعه.
المثال الثالث: موقف التتار من الشريعة الإسلامية؛ حيث غيروا مفهوم
تحكيم الشريعة الإسلامية وخلطوها بغيرها من الشرائع البشرية.
وقد نشأت الفرق الضالة كالمعتزلة والخوارج. . على حين تَفَرُّقِ جماعةِ
المسلمين مع قتالٍ فيما بينهم أضعفَ شوكتهم، وكذلك التتار قاموا على حين ضعف
من المسلمين؛ فجميع هذه الشواهد تدل على أن المسلمين لم يتنازلوا من أجل
«الآخر» عن محكمات دينهم وشريعتهم، بل قاوم الرسولُ صلى الله عليه
وسلم الكفار، وقاوم أهل السنة الفِرَق الضالة، وقاوم المسلمون التتار، كل حسب
قدرته، وحافظوا في جميع الأحوال على المحكمات وحققوا البراءة من العمل الذي
يعمله «الآخر» سواء من المشركين أو أهل الأهواء، أو المرتدين من
التتار.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الكافرون وهي مكية وآياتها ست:
(بسم الله الرحمن الرحيم [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنتُمْ
عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ] (الكافرون: 1-6) .
هذه السورة سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، وهي آمرة
بالإخلاص في قوله تعالى: [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ]
(الكافرون: 1-2) يعني من الأصنام والأنداد، [وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ]
(الكافرون: 3) وهو الله وحده لا شريك له؛ ف «ما» ها هنا بمعنى «من» ، ثم
قال: [وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ](الكافرون: 4-5) ؛ أي
ولا أعبد عبادتكم؛ أي لا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعبد الله على الوجه الذي
يحبه ويرضاه؛ ولهذا قال: [وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ](الكافرون: 5) أي لا
تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئاً من تلقاء أنفسكم كما
قال: [إِن يَتَّبِعُونَ إِلَاّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى]
(النجم: 23) ، فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه؛ فإن العابد لا بد له من معبود يعبده
وعبادة يسلكها إليه؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه يعبدون الله بما شرعه؛
ولهذا كان كلمة الإسلام لا إله إلا الله محمد رسول الله؛ أي لا معبود إلا الله ولا
طريق إليه إلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. والمشركون يعبدون غير
الله عبادة لم يأذن بها الله؛ ولهذا قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: [لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ] (الكافرون: 6) .
كما قال تعالى: [وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا
أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ] (يونس:41)، وقال:[وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ]
(البقرة: 139) .
ومن جنس ذلك ما صنعته الجهمية وغلاة المبتدعة لما غيروا العقيدة الإسلامية،
وقالوا لعلماء السنة نحن وأنتم سواء في محاربة «الزندقة» ، فأنكر عليهم أهل
السنة ما غيروه من صفات الله سبحانه، كما أنكروا ما غيرته المعتزلة والخوارج
والشيعة وعباد القبور والزنادقة من عقائد المسلمين وشرائعهم، ولم يستطع هذا
«الآخر» المنحرف أن ينشر أفكاره المنحرفة ويحقق لها شرعية بين المسلمين،
ولما حاول «المأمون العباسي» وسعى إلى «تطبيع» آراء «الآخر»
العقدية، قاومه أهل السنة، وصبروا حتى ردوا الناس إلى السنة، وأسقطوا بدع
«الآخر» وانحرافاته.
وكذلك التتار لما دخلوا في الإسلام كما صنع ملكهم «جينكيز خان» ،
وحاول تغيير مفهوم تحكيم الشريعة؛ حيث أراد هذا «الآخر» أن يخلط بالشريعة
الإسلامية غيرها من القوانين الوضعية كما يصنع العلمانيون اليوم وقف علماء السنة
ليبيّنوا للناس أن الحكم بالشريعة واجب، ولا يجوز أن يشاركها منهج آخر مهما
أصر ذلك «الآخر» ، وأن إفرادها بالحكم والتحاكم والشرعية هو دين الإسلام،
وأن ضد ذلك هو الكفر والفساد في الأرض.
وهكذا أعلن الصادقون من أهل الإسلام في هذه المراحل على طول التاريخ
الإسلامي، أنه لا مجال ولا مساومة على محكمات هذا الدين، وأنّ «الآخر»
الذي يريد الخروج عليها لا مجال لقبول شركه وكفره وبدعه وقوانينه، ولم يَفُتّ في
عضد هؤلاء الدعاة الصادقين ضعفُ الأمة ولا تكالب الأعداء عليها، وقد اخترت
هذه الشواهد التطبيقية حتى لا يعتذر بعض الدعاة بحال الضعف والهوان الذي تمر
به الأمة؛ فإنه لا طريق لتثبيت العامة من المسلمين وجمعهم على الشريعة إلا إذا
ثبت الدعاة والعلماء من المسلمين وجمعهم على الشريعة إلا إذا ثبت الدعاة والعلماء
على الحق، وبيّنوا المحكمات للناس، كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم في المثال الأول، وكما صنع أهل السنة في المثال الثاني، وكما صنع العلماء
الربانيون في المثال الثالث، [وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ
فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ] (الأنعام: 153) . إنّ الدعوة اليوم على مفترق طرق، فإما
أن يثبت الدعاة على المحكمات ليكونوا دعاة مخلصين لله الدين، وإما أن يشتروا
بها ثمناً قليلاً، أو يهنوا ويضعفوا أمام «الآخر» ولن يُغني عنهم شيئاً كما قال
تعالى: [ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ
* إِنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ
المُتَّقِينَ] (الجاثية: 18-19) .
وهذا توجيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حالة الضعف وهم في
مكة لا يملكون من أمرهم شيئاً، وقد ثبتوا ونصروا هذا الدين فنصرهم الله وأغناهم
عن «الآخر» ، وإذا لم يثبت الدعاةُ اليوم كما ثبت من سبقهم، فإنهم سينحسرون،
ونسأل الله العافية من الفضيحة في الدنيا والإخفاق والبوار في الآخرة [وَإِن تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) .
ومما يجب التنبيه عليه أن الصراع مع «الآخر» والاختلاف معه ليس
خاصاً بالدعوة الإسلامية المعاصرة، بل تعرض له الدعاة والمسلمون عامة من عهد
النبوة إلى يومنا هذا، ومرت بالمسلمين أحوال من القوة والضعف، وحاول الأعداء
فيها أن يُدخلوا على المسلمين فكرة «الآخر» حتى يتمكنوا من نشر أفكار هذا
«الآخر» الكفرية والشركية والبدعية، ولكن المسلمين تنبهوا لهذا «الغزو الفكري»
وهذا التخطيط الخبيث وردوا العقائد والأفكار والقوانين التي يمثلها فكر «الآخر»
ما دامت مخالفة للشريعة الإسلامية، وأسقطوا الشرعية عن تلك الأفكار، ولو
لم يثبت أهل السنة في هذا الصراع العقدي والتشريعي لأدى ذلك إلى اكتساب
تلك العقائد البدعية والخرافية، والقوانين الوضعية التترية، صفة الشرعية.
ومن المعلوم أن التعددية في «التشريع» و «العقائد» نشأت عند الأمم
الكافرة بسبب عدم وجود أصل صحيح تَرْجِعُ إليه، فأصبح «التشريع» ديدناً
للجميع: الكنيسةُ تشرعُ وتحللُ وتحرمُ بغير إذن من الله، وتفتري الكذب عليه،
والمعارضون من الملاحدة الذين سمو أنفسهم بـ «الآخر» يشرعون ويُحرمون
ويُبيحون حسب ما يريدون. وإذا كان الجميع يشرعون من دون الله، فليس أحد
منهم يتقدم على «الآخر» ، فنشأت فكرة الآخر في الغرب على نمط التفكير
الجاهلي قديماً؛ فجاهلية العرب قبل الإسلام وُجدَ فيها من يعبد الأوثان، ووُجِدَ في
ديانات الجزيرة من يعبد الملائكة، ومن يعبد الأنبياء، وسواء لهم كتاب أم لا،
وتفرق الناس في جزيرة العرب، واختلفوا في العبادات، والتشريع والأحكام،
واشتركوا جميعاً في «حقوق» مشتركة بينهم وهي حل الربا، والزنا عند كثيرين
والخمر، و «الخرافة» ، وتغيير ملة إبراهيم عليه السلام، وعلى هذا تدور فكرة
«العولمة» و «العلمانية» في هذا العصر.
وكل منهم يمثل عند نفسه الحق، وغيره هو «الآخر» وكانوا جميعاً في
جاهلية مثل جاهلية أوروبا مع الاعتراف فيما بينهم بحقوق الآخر التي قاعدتها
الخرافة في العقيدة والرأسمالية والربا في الاقتصاد والخمر في المشروبات المحرمة
وأكل الميتة في الأطعمة والإباحية والسفاح لمن أراد العلاقات الجنسية وهذا قاسم
مشترك بين الجاهليات على اختلاف أسمائها.
ولقد أراد المشركون في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتسبوا
الشرعية لحقوق الآخر، كما يصنع المشركون والكفار في أوروبا، وكما يريد
العلمانيون في العالم الإسلامي.
والسؤال هو: كيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر في حالة القوة
وهل اختلف منهجه عن المرحلة المكية حينما رد على المشركين طلبهم في
«وحدة الأديان» ؟
والجواب: أن منهج النبي صلى الله عليه وسلم في حالة الضعف وحال القوة
واحد لم يتغير، وهو رد «انحرافات الآخر» عليه، وبيان بطلانها، وإقامة الحق
والهدى في الأرض وإليك الأدلة على ذلك.
نماذج تطبيقية: وفد ثقيف:
جاء وفد من الطائف بعد سنة تسع إلى الدولة الإسلامية في المدينة يطالب
بحقوق «الآخر» ويريد أن يُسْلِمْ وتكون له حرية في «الربا» و «الخمر»
و «الزنا» و «الخرافة» ، ونلاحظ هنا أن هذه تمثل قاعدة «حقوق الإنسان»
في الغرب، وتمثل مطالب العلمانيين باسم «الآخر» في العالم الإسلامي.
وإليك نص الحوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم و «الآخر» قال ابن
القيم: «قدم عليه صلى الله عليه وسلم وفد ثقيف. . . فقال كنانة بن عبد ياليل
لرسول الله صلى الله عليه وسلم:. . . أفرأيت الزنى، فإنا قوم نغتربُ، ولا بد
لنا منه؟ قال: هو عليكم حرام فإن الله عز وجل يقول: [وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ
كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً] (الإسراء: 32) . قالوا: أفرأيت الربا فإنه أموالنا كلها؟
قال: لكم رؤوس أموالكم إن الله تعالى يقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا
مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (البقرة: 278) . قالوا: أفرأيت الخمر، فإنه
عصير أرضنا لا بد لنا منها؟ قال: إن الله قد حرمها. وقرأ: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ
تُفْلِحُونَ] (المائدة: 90) . فارتفع القوم، فخلا بعضهم ببعض، فقالوا: ويحكم إنا
نخاف إن خالفناه يوماً كيوم مكة انطلقوا نكاتبه على ما سألناه، فأتوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقالوا: نعم لك ما سألت، أرأيت الرَّبَّة ماذا نصنعُ فيها؟ قال:
اهدموها. قالوا: هيهات لو تعلم الرَّبَّةُ أنك تريد هدمها، لقتلت أهلها. فقال عمر
بن الخطاب: ويحك يا ابن عبد ياليل! ما أجهلك، إنما الرَّبَّة حجر. فقالوا: إنا لم
نأتك يا ابن الخطاب. وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تولَّ أنت هدمها،
فأما نحن فإنا لا نهدمها أبداً. قال: فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها، فكاتبوه» [2] .
وفد الصليب:
وفي سنة تسع جاء وفد نصارى نجران إلى الدولة الإسلامية وفيهم العاقب
والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يفاوضاه في
شأن عيسى عليه السلام.
وقد روى القصة الإمام أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي،
ورواها البيهقي مطولة في دلائل النبوة، وابن إسحاق في السيرة، وموضع الشاهد
فيها: أن وفد نجران، وعددهم ستون راكباً فيهم أربعة عشر من أشرافهم، قدموا
إلى المدينة، يقولون إنهم على الحق في اعتقادهم في عيسى عليه السلام، ونزل
القرآن يُبين لهم في سورة آل عمران: [إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن
تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ] (آل عمران: 59) . فلما كلم الحَبْرانِ رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لهما: «أَسْلِمَا» . قالا: قد أسلمنا قال: «إنكما لم تُسلِمَا
فَأسْلِمَا» . قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما؛ يمنعكما من الإسلام
ادعاؤكما لله ولداً، وعبادتكما الصليب، وأكلكما الخنزير» [3] .
وفيهم قوله تعالى: [فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ](آل عمران: 63) ،
فانتهى هذا الحوار مُحكماً من المحكمات بصورة واضحة تبين فيها المفسد من
المصلح، ورجع الوفد الصليبي خائباً يجر أذيال الخيبة، وقد علمهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم كيف يتحقق الإسلام والإيمان.
ويمكن أن نذكر بعض الفوائد المستنبطة من التطبيقات في السيرة النبوية ومنها:
1 -
أن المحكمات هي أساس الدعوة الإسلامية، وهي قوة معنوية للعمل
الإسلامي، يجب الاجتماع عليها والقيام بها.
2 -
لا يجوز التنازل عنها لا في حالة القوة والجهاد، ولا في حالة الضعف.
و «السلم» في الشريعة الإسلامية إنما هو وضع للحرب بين المسلمين والكفار،
وليس تنازلاً عن المحكمات وتطبيعاً للعلاقات مع المجرمين.
3 -
أن التنازل عن شيء من المحكمات من أجل «الآخر» فتنة للبشرية؛
لأن فيها إفساداً للمسلمين، وتلبيساً على الكافرين.
وهكذا أبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم «حقوق الآخر» التي هي في
حقيقتها فساد وخرافة وشر، وإن حاول هذا «الآخر» أن يُغلِّفَها بـ
«المصلحة» و «الضرورة» و «الحاجة» و «الخصوصية» .
وهذا المنهج النبوي الدعوي يمثل الإسلام عقيدةً وشريعةً ويدافعُ عن
«المحكمات» ، ويكشف بالحوار أن ما يدعيه «الآخر» من حقوق إنما هو
فتنة وفساد وظلم وبغي.
ونستطيع أن نقرر هنا أن سبب ضعف المسلمين في العالم، وذهاب مقدساتهم،
واختلاف كلمتهم، إنما هو بسبب مخالفتهم لهذا المنهج النبوي، وكذلك بالنسبة
لكثير من «الدعاة» إنما أصبحوا فريسة «للآخر» لما وهنوا وضعفوا وانهزموا
أمام أفكاره ووسائله، وأصبحوا يستحيون من الصدع بالمنهج النبوي أمام
الانحرافات التي صنعها «الآخر» ، وزينها بوسائله وكيده ومكره،
و «الديمقراطية» التي صنعها لنفسه.
ولهذا السبب طمع الكفار فينا وفي مقدساتنا، وتدخل الكونجرس بعد أن قرر
تعطيل الشريعة الإسلامية لتحل محلها شرائع «الآخر» العلمانية، وهكذا يُدعمُ
«الآخر» تشريعياً، كما دُعِمَ فكرياً بنشر «حقوق الإنسان» ، ولا يزال
يُدعمُ عسكرياً أكثر من خمسين سنة باسم «حقوق إسرائيل» و «حقوق الآخر»
في الأرض والسلام والأمن العالمي، و «الآخر» المسلمُ يُسحق ويُقتل على
الطريقة الأمريكية لكن مع مزيد من ضبط النفس! ! وتحت إشراف القانون الدولي
أو إن شئت فقل «القانون الأمريكي» ، وكل ذلك لمصلحة «الآخر» الذي تارة
يكون «صليبياً» ، وتارة «يهودياً» ، وتارة «علمانياً» ، وعلى الآخر
«المسلم» أن يتنازل تارة عن «شريعته» ؛ لأنها إسلامية، وتارة عن مقدساته،
وتارة عن تحريم الربا، والزنا، والخمر، وكذلك يجب على المرأة أن تتنازل عن
حجابها، بل قد يُضيّق على المسلم في صلاته، كل ذلك من أجل الاعتراف بـ
«الآخر» .
وفي هذه الأيام يُفيق بعض العلمانيين من سكرتهم ويقولون: لماذا تُهدر أمريكا
«حقوق الآخر» أين الحريات؟ ! وتجيب أمريكا نيابة عن العلمانية في العالم
وتقول: كفرنا بالحريات إذا لم تكن مصنوعة من أجلنا، كل شيء ينبغي أن يكون
من أجلنا ومن أجل «حروبنا الذكية» .
أما «الآخر» فكلما أراد أن يكون مسلماً متحاكماً إلى شريعته ودينه، متميزاً
في هذا العالم داعياً إلى الفضيلة والأخلاق مدافعاً عن مقدساته، فلا بد أن يُسحقَ،
ويُهاجمَ، ويُخرجَ من «القرية العالمية» «القرية الظالمة» ، ويوصف بالتطرف
والفساد والإفساد، وتقول الجاهلية العلمانية كما قالت الجاهلية من قبل: [أَخْرِجُوهُم
مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ] (الأعراف: 82) ، [وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ]
(القمر: 9)، [بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ] (القمر: 25) ، [إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ
أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ] (غافر: 26) .
وبعد: فهل تجتمع كلمة العلماء والدعاة والعامة والخاصة على نصر
المحكمات والعمل بها والدعوة إليها، وهل نكون على بصيرة من الأمر ونقف موقفاً
شرعياً من «الآخر» الذي يخالف المحكمات، ويرفع راية «الحريات» أو
«التنوير» أو «السلام» أو «حقوق الإنسان» ، وهو يطعن المسلمين من
الخلف في دينهم وشريعتهم ومقدساتهم، بل أصبح اليوم يطعن من جميع الجهات، وما
زال كثير منا يتوسل إليه ليكون مقبولاً عنده وليحظى برضاه، [مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا
مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ العَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنكَبُوتِ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ] (العنكبوت: 41) .
(*) عميد كلية الشريعة في جامعة أم القرى سابقا، وأستاذ العقيدة في الكلية نفسها حالياً.
(1)
انظر: خصائص المُحكمات في كتاب «المحكمات» .
(2)
زاد المعاد، ابن القيم، 3/595.
(3)
تفسير ابن كثير، 1/368، 369.