المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ظاهرة التعلق بالأشخاص - مجلة البيان - جـ ١٨

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ظاهرة التعلق بالأشخاص

خواطر في الدعوة

‌ظاهرة التعلق بالأشخاص

محمد العبدة

هل صحيح أن كثيراً من المسلمين تخلوا عن نزعة التعلق بالأشخاص؟ وهل

تخلوا عن شغفهم بأن يكونوا مريدين لشيخ؟ .

نعم، تخلوا عن ذلك ظاهرياً وذهبت هذه النزعة نظريًّا على الأوراق في

الكتب والمقالات، ولكن الحقيقة التي في داخلهم تقول. لا، فهم أبداً يمارسون هذا

الدور ويحبون ممارسته، فهو مرض عضال، لقد تخلوا عن الشيخ بالمعنى

الصوفي، ولكن تعلقوا بالزعيم والقائد والحزب ولافتات وأسماء حلت محل الشيخ

في القداسة والعصمة، فهم يحنون إلى هذا الشيخ الجديد كما يحن الفصيل إلى أمه،

فتجدهم ينتظرون الكلمة والإشارة من فمه، فكل ما ينطق به صواب، ويتناقلون

كلامه وخطبه وأحاديثه أينما ذهبوا وحيثما حلوا، لاشك أنك ترى عجباً من الأمر،

وتحاول أن تردهم عن هذا ولكنهم يرجعون إليه بأساليب وأشكال أخرى، كأنهم

أطفال يلوذون بأمهم، لا يستطيعون التصرف وحدهم، نعم إنهم أطفال كبار! .

- وتسألني عن الدواء؟ الدواء هي التفكر فيما جنته هذه التربية العقيمة على

المسلمين قديمًا وحديثًا، الدواء هو استعادة الماضى القريب، ولا أقول البعيد لنرى

ما جرّ هذا المرض على الشباب، من كوارث وأخطاء، الشباب الذي يفغرون

أفواههم دهشة وغباء وإعجاباً عندما يسمعون خطبة رنانة من دعي على العلم

والدعوة، لا يفرقون بين العالم، ومن يدعي أنه عالم، ولا بين المخلص والمنافق،

ويستغلهم هؤلاء للوصول إلى مآربهم الدنيوية، ويقولون للآخرين: انظروا هذه

الجموع التي تسير خلفنا، ويفهم الآخرون هذه الإشارة فيعطونهم بعض المكاسب

الرخيصة، وإلى أجل أيضاً.

ونحن نتكلم هنا عن التعلق المرَضي بالأشخاص، الذي لا يستقيم معه حال،

ولا يرجى له مآل، لأن هذا التعلق إنما هو مؤشر على مستوى للتفكير، وعلى

مرحلة من مراحل التدرج بالإنسان، فقد يكون الإنسان ذكياً أو كبيرًا في السن ولكن

عمره الاجتماعى لا يزال في مرحلة الطفولة. ولا يعني هذا عدم المتابعة والمحبة

للعلماء العاملين والدعاة المخلصين والاستفادة من تجربتهم واحترامهم وتوقيرهم،

فهذا لا بد منه، فالحق وإن كان قوياً بذاته لكن لابد من أشخاص يحملونه.

وإذا سألتني: كيف نعرف هؤلاء من أولئك، حتى نستفيد من الدعاة العاملين؟ فأقول: من ثمراتهم تعرفهم.

ص: 22

قضايا فقهية

قواطع الأدلة

في الرد على من عول على الحساب في الأهلة

الشيخ حمود بن عبد الله التويجري

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه

ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.

فقد رأيت مقالاً لأحمد بن عبد العزيز اللهيب.، نشرته جريدة الرياض في

عددها 7264، الصادر في يوم الجمعة، الموافق للسابع والعشرين من شهر

رمضان سنة 1408هـ، وعنوان هذا المقال (الشهر الشرعي والتقاويم الهجرية

المتداولة) .

وقد اشتمل هذا المقال على عدة أمور عظيمة الضرر على الكاتب وعلى كل

من اتبعه على قوله الباطل.

أولها: الابتداع في الدين والشرع فيه بما لم يأذن به الله.

الثاني: مخالفة النصوص الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في اعتبار دخول الشهر وخروجه برؤية الهلال أو إتمام العدة ثلاثين يوماً إذا لم

ير الهلال.

الثالث: لأخذ بما نفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمته من العمل بالحساب في دخول الشهر وخروجه.

وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن الأخذ

بالحساب أو الكتاب قد صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفيه عن أمته

والنهي عنه. قال: وما زال العلماء يعدون من خرج إلى ذلك قد أدخل في الإسلام

ما ليس منه فيقابلون هذه الأقوال بالإنكار الذي يقابل به أهل البدع. انتهى.

وهو مذكور في صفحة 179 من المجلد الخامس والعشرين من مجموع

الفتاوى. وقال أيضاً في صفحة 182 من المجلد المذكور. إن الأخذ بالحساب من

زلات العلماء.

وقال أيضاً في صفحة 207 من المجلد المذكور: لا ريب أنه ثبت بالسنة

الصحيحة واتفاق الصحابة أنه لا يجوز الاعتماد على حساب النجوم كما ثبت عنه

في الصحيح أنه قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، صوموا لرؤيته وأفطروا

لرؤيته» ، والمعتمد على الحساب في الهلال؛ كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في

الدين فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب، فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا

تنضبط بأمر حسابي. انتهى.

وقال أيضاً في صفحة 132، 133 من المجلد المذكور: إنا نعلم بالاضطرار

من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير

ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه لا يرى لا يجوز، والنصوص

المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة وقد أجمع المسلمون عليه، ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ولا خلاف حديث، إلا أن بعض المتأخرين من

المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في

حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا. وهذا القول

وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه.

فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم. انتهى.

الرابع: مخالفة السنة الثابتة عن النبى صلى الله عليه وسلم في قبول شهادة العدول من المسلمين على رؤية الهلال في دخول شهر رمضان وخروجه والعمل بها وقد قال الله تعالى: [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] . قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.

الخامس: تقديم العمل بالحساب على العمل بالسنة، وهذا من الشرع في الدين بما لم يأذن به الله.

السادس: بلبلة أفكار العوام وبعض المنتسبين إلى العلم وتشكيكهم في شهادة العدول على رؤية الهلال في دخول شهر رمضان وخروجه.

السابع: الطعن في الشهود العدول ورميهم بالتسرع في تأدية الشهادة، وقد صرح بذلك في قوله: إن الشاهد حينما يرى الشهر في التقويم ناقصاً فإنه يقوى عزمه بالتسرع بتأدية الشهادة، كذا قال. وهذا من سوء الظن بالشهود الذين يشهدون على رؤية الهلال، والطعن فيهم بمجرد ظنه أنهم يعتمدون في شهادتهم على التقويم.

الثامن: الطعن في القضاة ورميهم بالتساهل في قبول الشهادة على رؤية الهلال، وقد صرح بذلك في قوله. وكذلك القاضي تزيد ثقته بالشهادة لأنه يحسب أن ذلك من توافق الرؤية مع الحساب الصحيح والواقع بخلاف ذلك. كذا قال. وهذا من سوء الظن بالقضاة، وقد قال الله تعالى:[إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ] .

التاسع: الطعن في ولاة الأمر الذين - يعملون بحكم القضاة بقبول شهادة العدول على رؤية الهلال ويأمرون الرعية بالعمل بشهادتهم.

العاشر: زعمه أن العمل بالحساب أضبط وأيسر مما كان عليه الأمر في عهد السلف الصالح ومن بعدهم.

والجواب أنه يقال هذا الزعم خطأ مردود بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وعقد الإبهام في

الثالثة، والشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين» رواه الإمام أحمد والبخاري

ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية في الرد على الذين يحسبون مسير

القمر أنه ليس لأحد منهم طريقة منضبطة أصلاً، بل أية طريقة سلكوها فإن الخطأ

واقع فيها فإن الله سبحانه لم يجعل لمطلع الهلال حساباً مستقيماً، بل لا يمكن أن

يكون إلى رؤيته طريق مطرد إلا الرؤية.. إلى أن قال: اعلم أن المحققين من أهل

الحساب كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يرى

لا محالة أو لا يرى البتة على وجه مطرد وإنما قد يتفق ذلك أو لا يمكن بعض

الأوقات. انتهى، وهو في صفحة 182، 183من المجلد الخامس والعشرين من

مجموع الفتاوى.

وقال أيضاً في صفحة 174 من المجلد المذكور: إن أرباب الكتاب والحساب

لا يقدرون على أن يضبطوا الرؤية بضبط مستمر، وإنما يقربون ذلك فيصيبون

تارة ويخطون أخرى. وقال أيضاً في صفحة 208 من المجلد المذكور: إن طريقة

الحساب ليست طريقة مستقيمة ولا معتدلة، بل خطؤها كثير وقد جرب. وهم

يختلفون كثيراً هل يرى أم لا يرى، وسبب ذلك أنهم ضبطوا بالحساب ما لا يعلم

بالحساب فأخطئوا طريق الصواب، وقد بسطت الكلام على ذلك في غير هذا

الموضع وبينت أن ما جاء به الشرع الصحيح هو الذي يوافقه العقل الصريح.

انتهى.

الحادي عشر: إنكار ما هو ثابت بالتواتر من رؤية الهلال في أول النهار في المشرق ثم رؤيته بعد الغروب في ذلك اليوم من المغرب، وهذا يقع كثيرًا في أيام الصيف الطوال. وقد أخبرنا بعض الثقات برؤيتهم له في أول النهار وبعد الغروب في ذلك اليوم. والأخبار بهذا كثيرة ومستفيضة فلا وجه لإنكارها لأن إنكارها صريح في المكابرة.

الثاني عشر: حكايته الاتفاق على القول الشاذ الذي نقله عن ابن قتيبة والمراكشي ومفتي قطر، وهو زعمهم أنه لا يمكن أن يرى الهلال بالغداة في المشرق بين يدي الشمس وبالعشي خلف الشمس في يوم واحد، وهذا القول الشاذ مردود بما هو ثابت بأخبار كثيرة من الثقات برؤيتهم الهلال بالغداة في المشرق بين يدي الشمس ثم رؤيتهم له بالعشي خلف الشمس، ومن أنكر أخبار الثقات فقوله هو المنكر في الحقيقة، وأما حكاية الاتفاق على القول الشاذ الذي ذكره صاحب المقال الباطل فلا شك أنه من المجازفة والقول بغير علم.

الثالث عشر: اعتماده على ظنه وحسابه في دخول شهر شوال في سنة 1408 هـ فقد زعم أن القمر سيغرب قبل غروب الشمس يوم الأحد الموافق للتاسع والعشرين من رمضان، وقد ظهر خطؤه في ظنه وحسابه الذي ليس بمنضبط وذلك بثبوت رؤية الهلال في ليلة الاثنين في عدد من المدن والقرى في المملكة العربية السعودية، ورؤي أيضاً في غير المملكة العربية من البلاد المجاورة لها كما قد ذكر ذلك في بعض الإذاعات.

الرابع عشر: خطؤه في تحديد وقت صلاة الظهر ووقت صلاة العصر حيث جعل آخر وقت الظهر هو أول وقتها وجعل آخر وقت الاختيار لصلاة العصر هو أول وقتها، ومن كان بهذه المثابة من الجهل بوقت صلاة الظهر، وصلاة العصر فينبغي

له أن يعرف قدر نفسه ولا يتطاول على القضاة والشهود العدول، ولا يتكلف مالا علم

له به من معرفة دخول الشهور وخروجها بمجرد حسابه المبني على الظن

والتخرص، فقد قال الله تعالى:[ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] وهذا نص عبارته في دخول وقت الظهر ودخول

وقت العصر، قال: وإذا كان ظل الشيء مثله فقد دخل وقت الظهر وإذا كان مثليه فقد دخل وقت العصر. والجواب: أن يقال هذا خطأ مخالف للنص والإجماع على أن أول وقت الظهر إذا زالت الشمس. قال الموفق في المغني: أجمع أهل العلم على أن وقت الظهر إذا زالت الشمس. قاله ابن المنذر وابن عبد البر، وقد تضافرت الأخبار بذلك. انتهى. وقال الخرقي في مختصره: وإذا زالت الشمس وجبت الظهر وإذا صار ظل كل شيء مثله فهو آخر وقتها. وإذا زادت شيئاً وجبت العصر وإذا صار ظل كل شيء مثليه خرج وقت الاختيار انتهى.

ويدل لقول الخرقى ما رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والشافعي وأحمد وأبو

داود والترمذي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله -

صلى الله عليه وسلم: «أمَّني جبريل عند البيت فصلى بي الظهر حين زالت

الشمس وكانت بقدر الشراك. ثم صلى بي العصر حين كان ظل كل شيء مثله،

ثم صلى بي المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى بي العشاء حين غاب الشفق، ثم

صلى بي الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم، قال: ثم صلى بي الغد

الظهر حين صار ظل كل شيء مثله، ثم صلى بي العصر حين صار ظل كل شيء

مثليه، ثم صلى بي المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى بي العشاء في ثلث الليل

الأول، ثم صلى بى الفجر فأسفر، ثم التفت إلي فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء

قبلك، الوقت فيما بين هذين الوقتين» هذا لفظه عند عبد الرزاق نحوه عند أحمد

من طريق عبد الرزاق، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه أيضاً ابن

خزيمة والحاكم وأبو بكر بن العربي المالكي، قال الترمذي. وفي الباب عن أبي

هريرة وبريدة وأبي موسى وأبي مسعود الأنصاري وأبي سعيد وجابر وعمرو ابن

حزم والبراء وأنس، ثم روى بإسناده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمني جبريل» فذكر نحو حديث ابن

عباس بمعناه، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، قال: وقال محمد-يعني

البخاري - أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم

انتهى المقصود من كلام الترمذي رحمه الله. وقد روى حديث جابر النسائي وابن

حبان في صحيحه والدارقطني والبيهقي وقد تركت تخريج الأحاديث التي أشار إليها

الترمذي إيثاراً للاختصار وبعضها في الصحيح، وفيها مع حديثي ابن عباس وجابر

رضي الله عنهم أبلغ رد على صاحب المقال الباطل.

فصل في ذكر النصوص الدالة على اعتبار رؤية الهلال

في دخول الشهر وخروجه ونفي الكتاب والحساب في ذلك

وما جاء في قبول الشهادة على رؤية الهلال والعمل بها

الحديث الأول: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى

الله عليه وسلم- ذكر رمضان فقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا

حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له» رواه مالك والشافعي وأحمد والبخاري ومسلم

وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وفي رواية لمسلم أن رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا» ثم عقد

إبهامه في الثالثة «فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن أغمي عليكم فاقدروا له

ثلالين» وفي رواية لأحمد والبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي أن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم قال: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا

وهكذا» وعقد الإبهام في الثالثة «والشهر هكذا وهكذا وهكذا» يعني تمام ثلاثين.

ولفظه عند البخاري قال: «إنا أمة لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا»

يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاتين. وقد رواه الشافعي عن مالك عن عبد الله بن

دينار عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: «الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه

فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» ورواه البخاري من طريق مالك بنحوه أخصر

منه. ورواه البيهقي من طرق كثيرة وفي بعضها أن رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- قال: «إن الله تبارك وتعالى جعل الأهلة مواقيت فإذا رأيتموه فصوموا وإذا

رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له أتموه ثلاثين» وقد رواه ابن خزيمة في

صحيحه بنحوه، وعنده في آخره «فإن غم عليكم فأقدروا له واعلموا أن الشهر لا

يزيد على ثلاثين» رواه الحاكم بنحوه وقال صحيح على شرطهما ووافقه الذهبي

على تصحيحه.

الحديث الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى

الله عليه وسلم-: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم

فصوموا ثلاثين يوماً» رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجه، وفي رواية

لمسلم والنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا لرؤيته

وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم الشهر فعدوا ثلاثين» وقد رواه الترمذي بنحوه،

وقال في آخره: «فعدوا ثلاثين ثم أفطروا» ثم قال: حديث أبي هريرة حديث

حسن صحيح. ورواه الدارقطني وقال في رجاله كلهم ثقات. ورواه أيضاً من عدة

طرق وقال: هذه أسانيد صحاح. وفي رواية لمسلم: «فإن غمي عليكم فأكملوا

العدد» .

وقد رواه البخاري ولفظه: قال النبي صلى الله عليه وسلم أو قال أبو

القاسم صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غمي عليكم

فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» .

الحديث الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- ذكر رمضان فقال: «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى

تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» رواه مالك وأبو داود والنسائي واللفظ

لمالك. وفي رواية أبي داود: «فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا» وفي رواية للنسائي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» وقد رواه الإمام أحمد ولفظه: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ثلاثين» . ورواه الترمذي والنسائي بنحوه، وقال الترمذي حديث حسن صحيح، وصححه أيضاً ابن خزيمة والحاكم والذهبي.

الحديث الرابع: عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال

أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة» رواه أبو داود

والنسائي وابن حبان في صحيحه. ورواه ابن خزيمة في صحيحه مختصراً. وفي

رواية للنسائي عن ربعي عن بعض أصحاب النببي صلى الله عليه وسلم قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقدموا الشهر حتى تكملوا العدة أو

تروا الهلال ثم صوموا، ولا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثلاثين» وقد

رواه الإمام أحمد بنحوه وإسناده صحيح على شرط الشيخين، ورواه الدارقطني من

طرق وقال في رجال أحدها كلهم ثقات.

الحديث الخامس: عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله -

صلى الله عليه وسلم يتحفظ من هلال شعبان ما لا يتحفظ من غيره ثم يصوم

لرؤية رمضان فإن غم عليه عد ثلاثين يوماً ثم صام» رواه الإمام أحمد وأبو داود

وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما، والدارقطني وقال هذا إسناد حسن صحيح. ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه.

الحديث السادس: عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب الناس في

اليوم الذي يشك فيه فقال: ألا إني جالست أصحاب رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- وسألتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وأنسكوا لها فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين، فإن شهد

شاهد فصوموا وأفطروا» رواه الإمام أحمد والنسائى والدارقطني. وفي رواية أحمد: «وإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا» وفي رواية الدارقطني: «فإن

شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا وأنسكوا» .

الحديث السابع: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن

غمي عليكم فعدوا ثلاثين يوماً» رواه الإمام أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط

والبيهقي. قال الهيثمي ورجال أحمد رجال الصحيح.

الحديث الثامن: عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى

الله عليه وسلم-: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا العدة

ثلاثين يوماً» رواه البزار والطبراني في الكبير والبيهقي قال الهيثمي وفيه عمران

بن دوار القطان وثقه ابن حبان وغيره وفيه كلام. قلت: وما تقدم من الأحاديث

الصحيحة يشهد له ويقويه.

الحديث التاسع: عن مسروق والبراء بن عازب رضي الله عنهما قالا: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم

عليكم فأتموا ثلاثين» رواه الطبراني في الكبير.

الحديث العاشر: عن طلق بن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله -

صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل جعل هذه الأهلة مواقيت للناس، فإذا

رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأتموا العدة ثلاثين» رواه

الإمام أحمد والطبراني في الكبير والدارقطني، ورواه البيهقي مختصراً ولفظه قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى

تروا الهلال فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» ورواه الإمام أحمد والطبراني أيضاً

مختصراً بنحو رواية البيهقي.

قال الهيثمي: وفيه محمد بن جابر اليمامي وهو صدوق ولكنه ضاعت كتبه

وقَبِل التلقين، قلت: وما تقدم من الأحاديث الصحيحة يشهد لحديثه ويقويه.

الحديث الحادي عشر: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقدموا هذا الشهر صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته

فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين» رواه الطبراني في الأوسط والبيهقي، قال الهيثمي:

وفيه ابن إسحاق وهو مدلس ولكنه ثقة. قلت: وما تقدم من الأحاديث يشهد له

ويقويه.

الحديث الثاني عشر: عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال: قال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: «أحصوا عدة شعبان لرمضان ولا تقدموا الشهر

بصوم فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فأكملوا العدة

ثلاثين يوماً ثم أفطروا» رواه الدارقطني.

الحديث الثالث عشر: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: تراءى الناس

الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته فصامه وأمر الناس

بصيامه. رواه أبو داود والدارمي وابن حبان في صحيحه، والدارقطني والحاكم

والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي.

الحديث الرابع عشر: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء أعرابي

إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبصرت الهلال الليلة قال: «أتشهد أن لا

إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله» قال: نعم، قال: «يا بلال أذن في الناس

فليصوموا غداً» رواه أهل السنن وابن أبي شيبة والدارمي وابن خزيمة وابن حبان

في صحيحيهما، والدارقطني والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح الإسناد

متداول بين الفقهاء ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي على تصحيحه.

الحديث الخامس عشر: عن ربعي بن حراش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: اختلف الناس في آخر يوم من رمضان فقدم أعرابيان

فشهدا عند النبي صلى الله عليه وسلم بالله لأهلا الهلال أمس عشية فأمر رسول

الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا. رواه أبو داود عن مسدد وخلف بن

هشام المقرئ. قال: وزاد خلف في حديثه وأن يفدوا إلى مصلاهم. إسناده عن

مسدد صحيح على شرط الشيخين، وإسناده عن خلف صحيح على شرط مسلم.

وقد رواه الدارقطني من طريق أبي داود، وقال: هذا إسناد حسن ثابت. ورواه

أيضاً من طريق آخر وقال: هذا صحيح. ورواه الإمام أحمد بإسنادين صحيحين

على شرط الشيخين ولفظه عن ربعي بن حراش عن بعض أصحاب النبي -صلى

الله عليه وسلم- قال: أصبح الناس صيامًا لتمام ثلاثين قال: فجاء أعرابيان فشهدا

أنهما أهلا الهلال بالأمس فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فأفطروا.

ورواه الطبراني في الكبير والحاكم في مستدركه من طريق إسحاق بن إسماعيل

الطالقاني حدثنا سفيان بن عيينة عن منصور عن ربعي ابن حراش عن أبي مسعود

رضي الله عنه قال: أصبح الناس صياماً لتمام ثلاثين فجاء رجلان فشهدا أنهما رأيا

الهلال بالأمس فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فأفطروا، قال

الطبراني: لم يقل أحد في هذا الحديث عن أبي مسعود إلا إسحاق بن إسماعيل

الطالقاني، قال الهيثمي: وهو ثقة.

قلت: وقد وثقه ابن معين ويعقوب ابن شيبة وأبو داود والدارقطني وعثمان

بن خرزاذ وابن حبان وابن قانع، وقال الحاكم بعد إيراد الحديث: صحيح على

شرط الشيخين ووافقه الذهبي في تلخيصه. وقد رواه الدارقطني بنحوه.

الحديث السادس عشر: عن أبي عمير بن أنس بن مالك قال: حدثني عمومة لي من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا غم علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا لعيدهم من الغد. رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه بأسانيد صحيحة.

وقد رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار، والدارقطني والبيهقي وقال: هذا

إسناده صحيح، وقال الخطابي: حديث أبي عمير صحيح فالمصير إليه واجب.

الحديث السابع عشر: عن أبي مالك الأشجعي عن الحسين بن الحارث

الجدلي - جديلة قيس - أن أمير مكة خطب ثم قال: عهد إلينا رسول الله -صلى

الله عليه وسلم- أن ننسك للرؤية فإن لم نره وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتهما

فسألت الحسين بن الحارث: مَن أمير مكة؟ قال: ??لا أدري، ثم لقيني بعد فقال:

هو الحارث بن حاطب أخو محمد بن حاطب. ثم قال الأمير: إن فيكم من هو أعلم

بالله ورسوله مني وشهد هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأومأ بيده إلى

رجل. قال الحسين: فقلت لشيخ إلى جنبي، مَن هذا الذي أومأ إليه الأمير؟ قال:

هذا عبد الله بن عمر وصدق، كان أعلم بالله منا، فقال: بذلك أمرنا رسول الله -

صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود وإسناده حسن. ورواه الدارقطني مطولاً

بنحو رواية أبي داود ومختصراً لم يذكر قوله في عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما

وقال في إسناد المختصر إسناده متصل صحيح.

قال ابن الأثير في جامع الأصول: النسك العبادة والمراد به ههنا الصوم.

فصل

وقد اشتملت الأحاديث التي تقدم ذكرها على فوائد كثيرة من الأحكام التي

تتعلق بصيام رمضان والفطر منه.

الأولى: تواتر الأحاديث بالأمر بصيام رمضان لرؤية الهلال، والفطر منه لرؤية هلال شوال وإتمام العدة ثلاثين يوماً إذا لم ير الهلال. وفيها، بل في كل حديث منها أبلغ رد على صاحب المقال الباطل الذي قد حاول تشكيك الناس في شهادة العدول على رؤية الهلال إذا كانت مخالفة للحساب الذي قد اعتمد عليه وخالف السنة من أجله.

الثانية: النهي عن صيام رمضان والفطر منه حتى يرى الهلال أو تتم العدة ثلاثين يوماً.

الثالثة: نفي الكتاب والحساب عن الأمة المحمدية فيما يتعلق بالأهلة. لاستغنائها عن ذلك بالرؤية أو إتمام العدة ثلاثين يوماً، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: المراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك إلا النذر اليسير، فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً. ويوضحه قوله:«فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين» ولم يقل فسلوا أهل الحساب. والحكمة فيه كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم. وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض. ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم. قال الباجي: وإجماع السلف الصالح حجة عليهم. وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق إذ لا يعرفها إلا القليل. وقال ابن بطال: في الحديث رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف، ولا شك أن في مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف. انتهى.

وقال النووي في شرح المهذب: من قال بحساب المنازل فقوله مردود بقوله

صلى الله عليه وسلم-في الصحيحين. «إنا أمة لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا

وهكذا..» الحديث. قالوا: ولأن الناس لو كلفوا بذلك ضاق عليهم لأنه لا يعرف

الحساب إلا أفراد من الناس في البلدان الكبار، فالصواب ما قاله الجمهور وما سواه

فاسد مردود بصرائح الأحاديث.. انتهى

*يتبع*

ص: 24

دراسات منهجية في النظر والاستدلال

أهمية أصول المعرفة في الإسلام

-2-

د. عابد السفياني

إن دراستنا في المقال السابق لأصل المعرفة عند العلمانيين يدلنا على أهمية

إدراك أصول المعرفة في الإسلام، (ولا يعرف الإسلام من لم يعرف الجاهلية) بل

ويعيننا على إدراك منطلقات خصومنا، فإن الخصومة بين الفكر الإسلامي والفكر

العلماني عميقة جداً، وقد أصلها الفكر الاستشراقي وكان من خطورته أن دعم

القومية بالفكر العلماني، ولك أن تقول عنه إنه دعم الفكر العلماني بالقومية، ولا

تجد فرقاً كبيراً بينهما في هذا المجال [1] .. ?

فالحركات القومية في العالم الإسلامي حركات علمانية، والدليل على ذلك أن

القومية ألغت (الدين)[2] من حسابها، وجعلت الاجتماع على التراب واللغة هو

الأصل، ورفضت كل ما يعارض ذلك من دين وخلق وفضيلة، فإذا قلت لهم إن الله

كرم بني آدم وجعلهم قبائل وشعوباً ليتعارفوا، وجعل أكرمهم عنده أتقاهم وأتبعهم

لشريعته، وجعل (الد ين) هو جنسية المسلم، فهو صاحب منهج وعقيدة قبل أن

يكون عبداً للتراب والقومية، إذا قلت لهم ذلك لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم

مستكبرون، وقال قائلهم كفرنا بما تدعونا إليه، وإذا حذرتهم من عذاب الله، من

جهنم التي وقودها الناس والحجارة قال قائلهم: سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً

وسهلاً بعدها بجهنم [3] .

وإذا جاوزنا هذه المسميات: (العلمانية) و (القومية) وأردنا أن نتعرف

على طائفة ثالثة من الطوائف التي انتجتها لنا (المذاهب الحديثة) ، فإن طائفة

الحداثيين تطل برأسها علينا، وتقذف بفكرها إلى بقية بلاد العالم الإسلامي، لعلها

تصل إلى مكاسب جديدة تقوي بها شوكتها وتكثر بها سواد أتباعها. ولنضرب

صفحاً عن صراع كتَّابها ومخالفيهم على الألفاظ والأشكال، ولنهتم بقضيتنا الأساسية

التي نحن بصددها، ولنسأل زعماء الحداثة عن أصلهم المعرفي الذي يتلقون

بواسطته ويحكمون به على الأشياء والأحداث.

يقول زعيم من زعمائهم: إن أصل نظريتهم في المعرفة أن: الحجة

والشرعية إنما هي للحادث المتغير، وإن الثابت لا حجة فيه ولا شرعية له، بل

هو أسطوري، يحمل الخرافة في بنيته وأهدافه كما تحمل الأسطورة الخرافة في

بنيتها وأهدافها [4] .

ولننظر الآن ما يترتب على هذا الأصل المعرفي عند الحداثيين:

1-

إن كل ما ثبت في ذهن البشرية وفطرتها وواقعها محكوم عليه بذلك

الأصل الفاسد، دون أن يفرق أتباع هذا الأصل الفاسد بين الحق والباطل في تراث

البشرية [5] .

2-

إن (الوحي) وهو نصوص الكتاب والسنة، وما أجمع عليه علماء

المسلمين.. كل ذلك يدخل في إطار (الثابت) الذي لا حجة فيه ولا شرعية له،

وتنتقل الشرعية عنه، ليتسلمها كل مذهب جديد وفكر محدث يدخل في إطار (الحادث) و (المتغير) وإن تعجب فعجب قولهم: إن الشرعية مواكبة للحادث والمتغير كيف ما كان، وعلى المبادئ والمفاهيم والأحكام الإسلامية، وكل ما بقي من خير في فطرة البشرية أن يكون حداثياً، أي دائم التغير والتشكل والتبدل لكي يكتسب (الشرعية) وتكون له حجة عند (الحداثيين) ولذلك اكتسبت المبادئ المنحرفة الشرعية عندهم لأنها دائماً متغيرة متبدلة، فالكفر والشرك يتطوران، ويتغيران، والزندقة والهرطقة، ما وصفت بذلك إلا لأنها متبدلة، لا تستقر على حال، ففازت هذه كلها بالحجية عند أئمة الحداثة في أوربا وفي العالم الإسلامي. وقد أسس لفكر الحداثة أئمة الغزو الفكري فوضعوا أهم قواعده، ونشروها، وقد احتفل الفكر الاستشراقي بذلك.

يقول أحد أئمة الفكر الاستشراقي وهو (ولفرد كانتول سميث) في كتابه

(الإسلام في التاريخ الحديث) : (إن كل دين عند تحليله إنما تتعدد أشكاله

بعدد معتنقيه، إنها حقيقة تاريخية أساسية لا غنى عنها لإدراك الدين وتاريخه) [6] .

ويريد الفكر الاستشراقي من هذه المقولة أن يفهم المسلمون الإسلام ويشكلوه

على حال يلائم المدنية الغربية ذات الأصول اليونانية والإغريقية، ويتنازل الإسلام

عن مفهوم الثبات في عقيدته وشريعته، وحينئذ يفرح المستشرقون والحداثيون، فقد

زالت العوائق من طريقهم، وأصبح سهلاً عليهم أن يدعوا للجاهلية الإغريقية

واليونانية، ويخالفوا دين الرسل جميعاً عليهم السلام، بدعوى الحداثة، وتعدد (الفهم) ، للنصوص (الدينية) و (التاريخية) ويتعدد حينئذ فهم (الدين) و (التاريخ) وتتعدد أشكاله بعدد معتنقيه.

هذا هو مراد الفكر الاستشراقي والحداثي، وهو لا يحتاج إلى جهد في كشف

انحرافه وفساده، فإن العقلاء يعلمون أن أتبا ع (الرأسمالية) و (الشيوعية) . يزيد

عددهم على الملايين، فهل يقول عاقل بأن (الشيوعية) تساوي مليون فكرة،

ويتعدد (شكلها) بعدد معتنقيها، وهل يمكن للعقل أن يتصور أن (الرأسمالية)

تساوي مليون فكرة، وتفهم بأفهام عديدة تساوي عدد معتنقيها، ويكون لها في الواقع

التطبيقي من حيث التشريع والحكم ما يساوي مليون (تطبيق) ومليون (شكل) هذه

لا يقول بها (عاقل) عند بني الإنسان، ولكنه جنون (الاستشراق) وجنون (الحداثة) .

وهكذا يريد سفهاء البشرية أن يتحكموا في فهم تراثها ونصوصها الدينية

والتاريخية، كما يحلو لهم بدون رقابة من ضوابط المنهج العلمي، وعلى أصول

المعرفة، سواء ما كان منها عند (المسلمين) أو عند (أهل الكتابين) أن تخضع لما

زعمه الفكر الاستشراقي والحداثي من أن (كل دين عند تحليله إنما تتعدد أشكاله

بعدد معتنقيه، إنها حقيقة تاريخية أساسية لا غنى عنها لإدراك الدين وتاريخه) ،

وإن في المناقشة السابقة الذكر ما يثبت لك أن هذا هراء لا حقيقة له، ولن تجد (أصلاً) معرفيًّا عند المخالفين للإسلام يقوم على أساس علمي، وعند تأمل أصولهم

السابقة يظهر لك هذا بجلاء.

- فالعلمانيون يدافعون عن أصلهم المعرفي الذي كشفنا عنه في مقال سابق

بقولهم: أنترك ما جاءت به القوانين الوضعية ونفعل في أنفسنا وأموالنا ومجتمعاتنا

ما تريده الشريعة الإسلامية؟ ! .

-والقوميون قال قائلهم:

سلام على كفر يوحد بيننا

وأهلاً وسهلاً بعدها بجهنم

والحداثيون يدافعون عن (الخرافة) التي يحملونها، بمثل ما يقوله ولفرد سميث

وأضرابه.

وإذا قال لنا قائل: كيف تسقطون (العلمية والشرعية) عن كل أصل معرفي

يعارض أصلكم المعرفي؟ قلت: الجواب: إن أصلنا المعرفي لم نضعه نحن، ولم

يضعه بشر على الإطلاق، ولم نؤمن به بهذا الاعتبار، وإنما آمنا به ودعونا إليه

لأنه في الحقيقة (وحي رباني) جاءت به الرسل من عند الله، فنحن نؤمن به بهذا

الاعتبار، ولذلك لما انتفت عنه البشرية انتفت عنه طبائع البشر من الاختلاف

والاضطراب وتعدد الأسماء والشارات، فهو ليس خاصاً بقوم دون قوم، ولا بزمان

دون زمان، بل جعله الله أصلاً في المعرفة لبني الإنسان، وأمر الرسل بأن يدعوا

إليه وجعل رسوله محمداً مبعوثاً به إلى كافة الناس، وأمر بإبلاغه والتربية على

مقتضاه، وتسفيه ما يخالفه من الأصول والأفكار، فنحن إذاً ندعو إليه باعتباره دين

الله إلى البشرية كافة في جميع أحوالها وعصورها، وعلى اختلاف أجناسها وأممها.

وتسقط الشرعية عن ما يخالفه - من علمانية وقومية وحداثية -.. باعتبارها

مخالفة لدين الله، ولدعوة الأنبياء، ولفطرة البشرية التي فطهرها الله عليها.

وإذا استبان هذا الأمر واتضح فإنه مما يجب على كل إنسان أن يعلم أن

الخلاف الحقيقي بين أهل الحق وأهل الباطل إنما هو على حاكمية الشريعة على ما

سبق بيانه عند عرض أصول المعرفة، وليس الخلاف على ربوبية الله، ولا على

مشروعية صرف بعض أنواع العبادة له سبحانه، لأن أكثر أهل الملل والنحل قديمًا

وحديثًا يرتضونه إلهًا في بعض أنواع العبادة على الدوام، ومنهم من يجعلونه إلهاً

في بعضها في بعض الأحيان، ثم يفترق أهل الحق وأهل الباطل، فيقول أهل

الحق: الله هو المعبود وهو صاحب الحكم الكوني والشرعي، وشريعته هي

الحاكمة على كل حال. وخالف أهل الباطل فمنهم من يقول:

- ليس له من الحكم الكوني والشرعي شيء.

- ومنهم من يقول له الحكم الكوني لا الشرعي.

- ومنهم من يقول له الحكم الكوني، وأما الشرعي ففي حال دون حال.

ثم يقول هؤلاء المخالفون بلسان واحد: كيف نجعل الشريعة الإسلامية حكماً

على جميع تلك المتغيرات من المذاهب والمبادئ والأحكام؟ . كيف يكون الحكم

الوحيد على جميع الأحداث وفي جميع الأوضاع والأحوال هو (الشريعة

الإسلامية) ؟.

أيكون الحكم الكوني القدري لله، وكذلك الحكم الديني الشرعي له أيضاً؟ فماذا

بقي لنا؟ .

ولم لا يكون لله الحكم الكوني القدري - أي الخلق والرزق والتدبير- ويكون

لنا الحكم الشرعي الديني، فنحدد منهاج حياتنا بأنفسنا كما نشاء؟ .

أيعقل أن يكون الحكم كله لله؛ ويكون الدين هو الحكم الوحيد في أمورنا

الخاصة والعامة؟ .

ولم لا نختار فنقرر بالحكم الشرعي الديني ثم نأخذ منه ما نريد ونعرض عما

لا نريد؟ أنلتزم بكل ما جاءت به الشريعة الإسلامية؟ أهذا هو (الدين القيم) الذي

لا ننجو إلا باتباعه؟ ! وماذا نصنع بهذه الأسماء (العلمانية)(القومية)(الحداثة)

(الشيوعية)(القوانين الوضعية)

إنها أسماء ومذاهب عرفها مفكرونا وآباؤنا

الروحيون. أيعقل أن تعزل عن السلطان فلا يكون لها أمر ولا نهي ومفاهيم ومبادئ

معمول بها ومجتباة؟ ! ! .

[إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] ، [مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي المِلَّةِ الآخِرَةِ إنْ هَذَا إلَاّ

اخْتِلاقٌ] وإذا كان موقف أهل الباطل واحداً، وتعجبهم متشابهاً، فإن جواب أهل الحق واحد وموقفهم تالد، فهذا يوسف عليه السلام أحد أنبياء بني إسرائيل قال لقومه: [يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ، مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ

إلَاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إنِ الحُكْمُ إلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ

تَعْبُدُوا إلَاّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 39، 40] .

وإن هذا الموقف القرآني هو موقف الرسل جميعاً وهو يوجب إسقاط الشرعية

عن جميع المذاهب والقوانين المخالفة للشريعة الإسلامية، وهو أشد ما يزعج أعداء

الإسلام، ويأتي على أصولهم في المعرفة بالإبطال.

(1) وشهد شاهد من أهلها، انظر حديث (جب) عنها في كتابه: الاتجاهات الحديثة / 4.

(2)

هذا هو أصل الفكرة القومية المستوردة، أما الآن فإن كثيراً من القوميين بعد أن أدركوا صعوبة بل استحالة تجاهل الدين، تكرموا بالاعتراف بأهميته، على دخل في النوايا، وزغل كثير في الطوايا (التحرير) .

(3)

انظر كتاب القومية العربية على ضوء الإسلام، للدكتور صالح العبود.

(4)

الفكر العربي، لمحمد أركون، ترجمة عادل العوا، بيروت، منشورات عويدات 189-132-134-155.

(5)

المصدر السابق.

(6)

الإسلام في التاريخ الحديث، للمستشرق ولفرد كانتول سميث 7-8-11- 41.

ص: 37