المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الربا.. صوره - أقسام الناس فيه - مجلة البيان - جـ ٢

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌الربا.. صوره - أقسام الناس فيه

‌الربا.. صوره - أقسام الناس فيه

...

...

...

بقلم فضيلة الشيخ / محمد بن صالح العثيمين

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور

أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى

الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم

تسليماً، وبعد..

فإن الله تعالى إنما خلق الجن والإنس وأودع فيهم العقول والإدراك وبعث فيهم

الرسل وبث فيهم النذر ليقوموا بعبادته والتذلل له بالطاعة مقدمين أمره وأمر رسله

على ما تهواه أنفسهم، فإن ذلك هو حقيقة العبادة ومقتضى الإيمان، كما قال الله

تعالى: [ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ

الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ومَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً] [الأحزاب: 36] .

فلا خيار للمؤمن -إن كان مؤمناً حقاً - في أمر قضاه الله ورسوله، وليس

أمامه إلا الرضا به، والتسليم التام سواء وافق هواه أم خالفه، وإلا فليس بمؤمن،

كما قالي الله تعالى: [فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا

يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .

وقد أخبر الله تعالى أن العدول عن حكمه وعن اتباع رسوله أنه أضل الضلال

فقال تعالى: [فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ومَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ

هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ] [القصص: 50] .

إذا تبين هذا فاعلم أن أوامر الله تعالى تنقسم إلى قسمين: قسم فيما يختص

بمعاملته سبحانه؛ كالطهارة والصلاة والصيام والحج، وهذه لا يستريب أحد في

التعبد لله تعالى بها. وقسم فيما يختص بمعاملة الخلق وهي المعاملات الجارية بينهم

من بيع وشراء وإجارة ورهن وهبة ووصية ووقف وغيرها، وكما أن تنفيذ أوامر

الله تعالى والتزام شريعته في القسم الثاني أمر واجب، إذ الكل من حكم الله تعالى

على عباده، فعلى المؤمن تنفيذ حكم الله والتزام شريعته في هذا وذاك.

ولقد شرع الله تعالى لعباده في معاملاتهم نظماً كاملة مبنية على العدل لا

تساويها أي نظم أخرى، بل كلما ابتعدت النظم أو ابتعد الناس عن العمل بنظم

الشريعة كان ذلك أكثر الظلم، وأوغل في الشر والفساد والفوضى.

وإن من الظلم في المعاملات واجتناب العدل والاستقامة فيها أن تكون مشتملة

على الربا الذي حذر الله تعالى منه في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه

وسلم - وأجمع المسلمون على تحريمه.

قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم

مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وإن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ

لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ * وإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ وأَن تصدقُوا خَيْرٌ

لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * واتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ

وهُمْ لا يُظْلَمُونَ] [البقرة: 278-281] .

وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً واتَّقُوا اللَّهَ

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * واتَّقُوا النَّارَ الَتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وأَطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ

تُرْحَمُونَ] [آل عمران: 130-132] .

وقال تعالى: [الَذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلَاّ كَمَا يَقُومُ الَذِي يَتَخَبَّطُهُ

الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا

فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ ومَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ

أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا ويُرْبِي الصَّدَقَاتِ واللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ

كُفَّارٍ أَثِيمٍ] [البقرة: 275-276] ، يعنى لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما

يقوم المُخَبَّل المجنون الذي يصرعه الشيطان. هكذا قال ابن عباس رضى الله

عنهما وغيره. وفى صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي- صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء. واللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالى.

وفى صحيح البخاري من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي -

صلى الله عليه وسلم رأى في منامه نهراً من دم، فيه رجل قائم، وعلى شط

النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر فإذا أراد أن يخرج، رماه

الرجل الذي على شط النهر بحجر في فمه فرده حيث كان فجعل كلما جاء ليخرج

رماه الذي على شط النهر بحجر فيرجع كما كان، فسأل النبي - صلى الله عليه

وسلم - عن هذا الرجل الذي في نهر الدم فقيل آكل الربا.

ولقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته أين يكون الربا، وكيف

يكون، بياناً شافياً واضحاً، فقال صلى الله عليه وسلم: الذهب بالذهب،

والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر - بالتمر، الملح بالملح.

مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطى فيه سواء.

رواه مسلم. وفي لفظ: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد.

فهذه الأصناف الستة هي محل الربا بالنص [1] : الذهب والفضة والبر

والشعير والتمر والملح وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم كيفية الربا فيها

فأوضح أن التبايع فيها يكون على وجهين:

الوجه الأول:

أن يباع منها بجنسه مثل أن يباع ذهب بذهب، فيشترط فيه شرطان اثنان:

أحدهما: أن يتساويا في الوزن.

والثاني: أن يكون يداً بيد بحيث يتقابض الطرفان قبل أن يتفرقا. فلو باع

ذهباً بذهب يزيد عليه في الوزن ولو زيادة يسيرة فهو ربا حرام، والبيع باطل ولو

باع ذهباً بذهب يساويه في الوزن وتفرقا قبل القبض فهر ربا حرام، والبيع باطل،

سواء تأخر القبض من الطرفين أو من طرف واحد.

الوجه الثاني:

أن يباع واحد من هذه الأصناف بغير جنسه، مثل أن يباع ذهب بفضة

فيشترط فيه شرط واحد، وهو أن يكون يداً بيد بحيث يتقايض الطرفان قبل أن

يتفرقا، فلو باع ذهباً بفضة وتفرقا قبل القبض فهو ربا حرام، والبيع باطل، سواء

تأخر القبض من الطرفين أو من طرف واحد.

ولقد كان الذهب والفضة منذ أزمنة بعيدة محل التعامل بين الناس قيماً للأعيان

والمنافع، فأصبح التعامل بالأوراق النقدية بدلاً عنها والبدل له حكم المبدل، فإذا

بيعت ورقة من النقود بورقة أخرى فلابد من التقايض قبل التفرق، سواء كانت من

جنسها أم من غير جنسها، وسواء كانت هذه الأوراق بدلاً عن ذهب أم بدلا عن

فضة فلو صرفت ورقة نقدية سعودية من ذوات المائة بورقتين من ذوات الخمسين

فلابد من التقابض من الطرفين قبل التفرق. ولو صرف دولاراً بأوراق نقد سعودية

فلابد في التقابض من الطرفين قبل التفرق أيضاً. ولو اشترى حلي ذهب أو فضة

بأوراق نقدية فلابد من التقابض من الطرفين قبل التفرق لأنه كبيع الذهب بالفضة

الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا

كيف شئتم إذا كان يداً بيد.

ولقد انقسم الناس في المعاملات الربوية إلى ثلاثة أقسام:

قسم: هداهم الله تعالى ونور بصائرهم ووقاهم شح أنفسهم وعرفوا حقيقة

المال، بل حقيقة الدنيا أنها عارية مسلوبة، وفيء زائل، وأن كمال العقل والدين

أن يجعل الرجل المال وسيلة لا غاية، وأن يجعله خادماً لا مخدوماً فتمشوا في

اكتساب أموالهم وصرفها على ما شرعه لهم خالقهم الذي هو أعلم

بما يصلحهم وأرحم بهم من أنفسهم، فأخذوا بما أحل الله واجتنبوا ما حرم الله، وهؤلاء هم الناجون المفلحون. قال الله تعالى: [ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ

المُفْلِحُونَ] [الحشر: 9] .

القسم الثاني: من تعاملوا بالربا على وجه صريح، إما جهلاً منهم أو تجاهلاً

أو عناداً ومكابرة، وهؤلاء مستحقون لما تقتضيه حالهم من الوعيد على أكل الربا،

على ما جاء في نصوص الكتاب والسنة.

القسم الثالث: من تعاملوا بالربا من وجه الحيلة والمكر والخداع، وهؤلاء شر

من القسم الثاني، لأنهم وقعوا في مفسدتين: الربا، ومفسدة الخداع، ولهذا قال

بعض السلف في أهل الحيل: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، لو أنهم أتوا

الأمر على وجهه لكان أهون.

ونحن نذكر من فعل هذين القسمين ما كان شائعا بين الناس. فالشائع من فعل

القسم الأول ربا البنوك وهو على وجهين:

أحدهما: أن يأخذ البنك دراهم من شخص بربح نسبة مئوية يدفعها البنك كل

شهر أو كل سنة، أو عند انتهاء مدة الأجل إن كان مؤجلاً.

الثاني: أن يعطي البنك دراهم لشخص بربح نسبة مئوية يأخذها البنك كل

شهر أو كل سنة أو عند انتهاء مدة الأجل، إن كان مؤجلاً.

فأما إذا أخذ البنك الدراهم من شخص بدون ربح فله وجهان:

أحدهما: أن يأخذ هذه الدراهم على وجه الوديعة بأن يحفظ الدراهم بأعيانها

لصاحبها، ولا يدخلها في صندوق البنك، ولا يتصرف فيها، بل يبقيها في مكان

إيداعها حتى يأتي صاحبها فيأخذها، فهذا جائز، وهذا الوجه ليس للبنك فيه فائدة

اللهم إلا أن يكون بين القائمين عليه وبين صاحب صحبة. فيحسنوا إليه بحفظ

دراهمه في حرز البنك. ولذلك لو طلب البنك أجرة على حفظها لكل شهر أجرة

معلومة لكان ذلك جائزاً.

الوجه الثاني: أن يأخذ البنك هذه الدراهم على وجه القرض، بحيث يدخلها

في صندوق البنك، ويتصرف فيها كما يتصرف في ماله، فهذه قرض وليست

بإيداع وإن سماها الناس إيداعاً، فالعبرة بالحقائق لا بالألفاظ، وإذا كانت قرضاً

للبنك فهي إرفاق به ومساعدة وتنمية لربحه، فإذا كان البنك لا يتعامل إلا بالربا فلا

ريب أن إعطاءه الدراهم على هذا الوجه حرام لأنه عونٌ ظاهر على الربا، وإذا

كان النبي صلى الله عليه وسلم لعن كاتب الربا وشاهديه فكيف بمن يضم ماله

إلى مال المرابي فيزداد ربحه ومراباته.

أما إذا كان البنك له موارد أخرى غير ربوية مثل أن يكون له مساهمات في

شركات طيبة المكسب، وله مبايعات وتصرفات أخرى حلال فإن إعطاءه الدراهم

على هذا الوجه ليس بحرام، لأنه لا يتحقق صرفها في الوجه الربوي من تصرفات

البنك، لكن البعد عن ذلك أولى لأنه موضع شبهة، إلا أن يحتاج الإنسان إلى ذلك، فإن الحاجة تبيح المشتبه لقوة المقتضى وضعف المانع. هذا هو الشائع من فعل

القسم الأول من المتعاملين بالربا.

أما الشائع من فعل القسم الثاني من المتعاملين بالربا فهو أن يأتي الرجل

لشخص فيقول: إني أريد من الدراهم كذا وكذا فهل لك أن تدينني العشر أحد عشر

أو ثلاثة عشر أو أقل أو أكثر حسب ما يتفقان عليه، ثم يذهب الطرفان إلى صاحب

دكان عنده بضائع مرصوصة قد يكون لها عدة سنوات إما خام أو سكر أو رز أو

هيل أو غيره مما يتفق عند صاحب الدكان، أظن أن لو وجدوا أكياس سماد يقضيان

بها غرضهما لحصل الاتفاق عليها فيشتريها الدائن من صاحب الدكان شراءً صورياً

غير حقيقي، نقول إنه صوري لا حقيقي لأنه لم يقصد السلعة بعينها بل لو وجد أي

سلعة يقض بها غرضه لاشتراها ولأنه لا يقلب السلعة ولا يمحصها ولا يماكس

(يكاسر) في الثمن وربما كانت السلعة معيبة من طول الزمن أو تسلط الحشرات

عليها، ثم بعد هذا الشراء الصوري يتصدى لقبضها ذلك القبض الصوري أيضاً،

فيعدها وهو بعيد عنها، وربما أدرج يده عليها تحقيقاً للقبض كما يزعمون،

والقبض في مدلوله اللغوي أن يكون الشتيء في قبضتك، وبعد هذا القبض

الصوري يبيعها على المستدين بالربح الذي اتفقا عليه من قبل، ولا ندري هل

يتصدى هو أيضاً لقبضها القبض الصوري كما قبضها الدائن أو يبيعها على صاحب

الدكان بدون ذلك، فإذا اشتراها صاحب الدكان سلم للمدين الدراهم وخرج بها. قال

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه (إبطال التحليل ص 109) : بلغني

أن من الباعة من أعد بزاً لتحليل الربا فإذا جاء الرجل إلى من يريد أن يأخذ منه ألفا

بألف ومائتين ذهباً إلى ذلك المحلل فاشترى المعطى منه ذلك البز ثم يعيده الآخذ إلى

صاحبه، وقد عرف الرجل بذلك بحيث إن البز الذي يحلل به الربا لا يكاد يبيعه

البيع البتات اهـ.

وقال في الفتاوى 29/ 430، جمع ابن قاسم: إذا اشترى له بضاعة وباعها

له فاشتراها منه أو باعها للثالث صاحبها الذي اشتراها المقرض منه فهذا ربا. وفي

ص 436 - 437 من المجلد المذكور: فهذان المتعاملان إن كان قصدهما أخذ

دراهم بدراهم إلى أجل فبأي طريق توصل إلى ذلك كان حراماً وفى ص438 منه:

فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل

هي معاملة فاسدة ربوية، قال: وعلى ولى الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية

وعقوبة من يفعلها، وفي ص 441 منه: وكذلك إذا اتفقا على المعاملة الربوية، ثم

أتيا إلى صاحب حانوت يطلبان منه متاعاً بقدر المال فاشتراه المعطى ثم باعه على

الآخذ إلى أجل، ثم أعاده إلى صاحب الحانوت بأقل من ذلك فيكون صاحب

الحانوت واسطة بينهما بجُعل؟ فهذا أيضاً من الربا الذي لاريب فيه. وفي ص

447 منه: وأصل هذا الباب أن الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فإن

كان قد نوى ما أحله الله فلا بأس، وإن نوى ما حرم الله وتوصل إليه بحيلة فإن له

ما نوى. وقال في أبطال التحليل ص 108: فيا سبحان الله العظيم، أيعود الربا

الذي قد عظم الله شأنه في القرآن، وأوجب محاربة مستحله، ولعن أهل الكتاب

بأخذه، ولعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجئ في

غيره إلى أن يستحل جميعه بأدنى سعي من غير كلفة أصلاً إلا بصورة عقد هي

عبث ولعب يضحك منها ويستهزأ بها أم يستحسن مؤمن أن ينسب نبياً من الأنبياء

فضلاً عن سيد المرسلين بل أن ينسب رب العالمين إلى أن يحرم هذه المحارم

العظيمة ثم يبيحها بضرب من العبث والهزل الذي لم يقصد ولم يكن له حقيقة وليس

فيه مقصود المتعاقدين قط؟ ! .

وقال ابن القيم وهو أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الذي لم نر

مثله في بابه: (إعلام الموقعين 3/148) تحقيق عبد الرحمن الوكيل: وهكذا الحيل

الربوية، فإن الربا لم يكن حراماً لصورته ولفظه، وإنما كان حراماً لحقيقته التي

امتاز بها عن حقيقة البيع، فتلك الحقيقة حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة

ركبت، وبأي لفظ عبر عنها، فليس الشأن في الأسماء وصور العقود، وإنما الشأن

في حقائقها ومقاصدها وما عقدت له. اهـ.

وهذه المعاملة الشائعة بين الناس في التحايل على الربا تتضمن محاذير منها:

أنها خداع ومكر وتحيل على محارم الله تعالى. والحيلة لا تحلل الحرام، ولا تسقط

الواجب، بل تزيد القبيح قبحاً إلى قبحه، حيث تحصل بها مفسدته مع مفسدة

الخداع والمكر، ولهذا قال بعض السلف في المتحايلين: يخادعون الله كما يخادعون

الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه لكان أهون. ومنها: أنها توجب التمادي في

الباطل، فإن المتحيّل يرى أن عمله صحيح فيتمادى فيه، ولا يشعر نفسه بأنه

مذنب، فلا يؤنبها على ذلك، ولا يحاول الإقلاع عنه، أما من أتى الباطل على

وجه صريح فإنه يشعر أنه وقع في هلكة فيخجل ويستحي من ربه ويحاول أن ينزع

من ذنبه ويتوب إلى الله تعالى.

ومنها: أن السلعة تباع في محلها بدون قبض صحيح ولا نقل، وهذا معصية

لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي- صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع - أي في المكان الذي

اشتريت فيه - حتى يحوزها التجار إلى رحالهم. رواه أبو داود، ويشهد له حديث

عبد الله بن عمر بن الخطاب رضى الله عنهما قال: كان الناس يتبايعون الطعام

جزافاً بأعلى السوق، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى ينقلوه. رواه البخاري.. وقد يتعلل بعض الناس فيقول: إن عد هذه الأكياس قبض لها

فنقول: القبض مدلول لفظي وهو أن يكون الشيء في قبضتك وهذا لا يتحقق

بمجرد العدّ، ثم لو قدرنا أن العد قبض، فهل حصل النقل والحيازة؛ والنبي -

صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى

رحالهم.

وقد يتعلل بعض الناس بأن هذه المعاملة من التورق، فنقول: ليست هذه من

التورق الذي اختلف في جوازه فإن التورق أن يشتري المحاج سلعة بثمن مؤجل

زائد عن ثمنها الحاضر من أجل أن يبيعها وينتفع بثمنها، فهو يشتري سلعة بعينها

مقصودة مملوكة للبائع، أما المعاملة الشائعة هذه فليست كذلك فان البائع والمشتري

يتفقان على الربح، وهى ليست في ملكه، ثم إن السلعة ليست معلومة لهما ولا

معلومة الثمن ولا مقصودة، ولذلك يأخذان أي سلعة تتفق عند صاحب الدكان بأي

ثمن كان، حتى إن بعضهم إذا لم يجد سلعة عند صاحب الدكان تكفي قيمتها للدراهم

التي يحتاجها المتدين رفع قيمتها حتى تبلغ الدراهم المطلوبة، وربما اشتراها الدائن

فباعها على المتدين ثم باعها المتدين على صاحب الدكان ثم عاد صاحب الدكان

فباعها على الدائن مرة ثانية ثم باعها الدائن على المتدين، وهكذا يكررون العقد

مرات حتى تبلغ الدراهم المطلوبة فأين هذه المعاملة من التورق الذي هو موضع

خلاف بين العلماء [2] ، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية أبي داود

على أنها -أي مسألة التورق- من العينة ذكره ابن القيم في تهذيب السنن 5/108،

وذكر في الإنصاف عن الإمام أحمد فيها ثلاث روايات: الإباحة والكراهة والتحريم، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية تحريم التورق وكان يراجع فيها كثيراً فيأبى إلا

تحريمها. وقد شاع في هذه المعاملة المتحيل بها على الربا. أن الناس يقولون فيها: (العشر أحد عشر) ، وهذا مكروه في البيع الذي ليس حيلة على الربا. وعن

الإمام أحمد رحمه الله أنه الربا، وقال أيضاً: كأنه دراهم بدراهم لا يصح.

وقد تدرج كثير من الناس بهذه المعاملة إلى الوقوع في الربا الصريح، ربا

الجاهلية الذي يأكلونه أضعافاً مضاعفة، فإذا حل الأجل ولم يوف المدين إما لعجزه

أو مماطلته قال له الدائن. خله يبقى بمعاشرته فيربى عليه كل سنة ذلك الربح الذي

اتفقا عليه وسمياه معاشرة، نسأل الله تعالى السلامة.

المخرج المشروع:

والموفق يستطيع التخلص من هذا الفخ الذي أوقعه فيه الشيطان والشح،

فيصرف تعامله إلى البيع والشراء على الوجه السليم، ويقضي حاجة المحتاج إما

بإقراضه، وإما بالسلم بأن يعطيه دراهم بعوض يسلمه له بعد سنة أو أكثر حسبما

يتفقان عليه، مثل أن يقول: هذه عشرة آلاف ريال اشتريت بها منك، مائة كيس

سكر تحل بعد سنة، وقيمة الكيس بدون أجل مائة وعشرة ريالات، فهنا حصل

للبائع الذي هو المستدين انتفاع بالدراهم، وحصل للمشتري الذي هو الدائن انتفاع

بربح عشرة ريالات في كل كيس، وربما يرتفع سعره عند الوفاء فيربح أكثر،

وربما ينزل فلا يحصل له إلا دراهمه أو أقل وبهذا يخرج عن الربا ويكون كالبيع

المعتاد الذي يربح فيه أحد المتعاقدين أو يخسر حسب اختلاف السعر. وهذه

المعاملة كانت شائعة بين الناس إلى عهد قريب وتسمى في لغة العامة (المكتب أو

الكتب) ينطقون الكاف بين السين والكاف ? فهاتان طريقتان لقضاء حاجة المحتاجين: القرض والمكتب. فإن لم يشأ المتعاقدان ذلك فثم طريقة ثالثة إذا كانت حاجة

المدين بشيء معين مثل أن يكون محتاجا لسيارة أو ماكينة وقيمتها كذا وكذا، فيبيعها

الدائن عليه بأكثر إلى أجل يتفقان عليه، لأن قصد المدين هنا نفس تلك العين لا

دراهم بدراهم.

[ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ]

[الطلاق: 2-3]، [ومَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً] [الطلاق: 4] ، هكذا قال الله تعالى. وقال تعالى:[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ويُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ][الأنفال: 29] .

وقال تعالى: [وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى

فَلَهُ مَا سَلَفَ وأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ ومَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ]

[البقرة: 275] .

فالتوبة إلى الله تعالى إذا كانت نصوحاً تمحو ما قبلها، وإذا كانت هذه

المعاملات المحرمة فعلها العبد تقليداً لمن يحسن الظن به أو تأويلاً اشتبه عليه به

وجه الصواب ثم رجع إليه بعد علمه به فإنه لا يؤاخذ به، فإنما المؤاخذة فيمن علم

الخطأ وتمادى فيه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

(1) وألحق جمهور العلماء بها ما يساويها في العلة والحكمة على خلاف بينهم في تحقيق العلة، وليس هذا محل بسطها.

(2)

ولذا يحكى ابن تيمية الخلاف في التورق، ولكن يقول في هذه المعاملة: هو من الربا الذي لا ريب فيه.

ص: 28

مفهوم السببية عند أهل السنة

طارق عبد الحليم

تعتمد الأمم الناهضة في بناء ذاتها، وشحذ قوتها، على ركيزتين أساسيتين

أولهما: صحة المفاهيم التي تبنى عليها تلك النهضة، والثانية: إخلاص ومصداقية

الفئة التي تحمل عبء النهوض بالأمة والسير بها في طريق الرقي والتقدم المادي

والسلوكي جميعاً.

وعلى أساس من صحة المفهوم، ووضوح الفكرة، تصح الوجهة وتتضح

معالم الطريق، وتكون الأمة على بينة من غايتها وأهدافها بلا زيغ ولا انحراف كما

أن زاد الإيمان والإخلاص لدى الرجال القائمين على النهضة يُعدّ الوقود الدافع

للحركة والاندفاع بها نحو الهدف، واجتياز العتبات والمحن التي تعرقل تلك

المسيرة.

وحين نسبر الواقع الإسلامي المعاصر بهذين المقياسين الموضوعيين نشعر -

برغم تباشير النهضة الإسلامية اللائحة في الأفق بفضل الله تعالى ومنّه - بألم

يعتصر الفؤاد اعتصاراً، لما نجده من اضطراب في المفاهيم، واختلاط في الفكر،

وتشتت في الجهد وتفرق عن الصف، ثم انهزامية منكرة في بعض النفوس، يقابلها

حماس متهور غير مدروس لدى البعض الآخر

أسباب عديدة أدت بالواقع الإسلامي إلى ما آل إليه من حال، منها ما يتعلق

بصحة المفهوم، ومنها ما يتعلق بعزائم الرجال.

ولسنا بصدد الحديث - في هذا المقال - عن الأمر الثاني المتعلق بالرجال،

فإنه أمر وعر المسالك، خفيّ الدروب، متعدد الشعاب، له ظاهر يفضح مكنون

الباطن، وله باطن يشرح جليّ الظاهر، وإن كانت لنا إليه رجعة في موضع

مستقل نطل فيه إطلالة قصيرة على ظواهر الأقوال، وواقع الأفعال، ودلالات

الأمرين على العزائم. وإنما سيقتصر بحثنا على بعض المفاهيم التي أصابها الخلط

والاضطراب في الفكر الإسلامي، وانعكاس ذلك انعكاسا مباشراً على الواقع

الإسلامي عموماً، وعلى مسار النهضة الإسلامية المرتقبة خصوصا، جاهدين في

تصحيح تلك المفاهيم، وتوجيهها الوجهة الصحيحة التي تعين على بلوغ الهدف

وإدراك الغاية بعون الله تعالى.

ومن تلك المفاهيم - بل من أهمها وألصقها بالواقع الإسلامي على الإطلاق -

مفهوم السببية - أو العليِّة كما يطلق عليه باحثو الأصول - الذي ينتظم بشموله

السنن الطبيعية والاجتماعية للحياة والأحياء على السواء، والذي يبحث -بكلمات

موجزات - في ترتيب النتائج على أسبابها، وارتباط العلة بمعلولها، سواء في

مجال المادة الجامدة وحركاتها، أو أفعال الأحياء وتصرفاتهم، كما يتناول - بشكل

أساسي - فكرة التلازم بين العلة والمعلول عند اكتمال الأسباب، وعوامل تخلف

النتيجة في حالات معينة وما يتعلق بتصور مفهوم خصائص المادة وطبائعها، وقيام

الإرادة الإنسانية واستقلالها ومدى تدخلها في ترتب النتائج على الأسباب التي أدت

إليها. وقد اعتمد مفهوم السببية على عدد من القضايا والأفكار التي تعتبر روافد

لتطور ذلك المفهوم، كمسألة خلق الأفعال، ومفهوم القضاء والقدر، ومجال الإرادة

الإنسانية، وقضية التحسين والتقبيح كما أن ذلك المفهوم قد ارتبط بأمر يعتبر غاية

في الأهمية في فهم العقيدة ذاتها من جهة، وفى منهج استقاء الأحكام الشرعية من

النصوص من جهة أخرى، ألا وهو مبدأ تعليل الأحكام الإلهية، أو - بعبارة أخرى- وجود الحكمة في أفعال الله وأحكامه، وأنه سبحانه لا يفعل إلا لحكمة بالغة

يقتضيها علمه وعدله وحكمته، مما يضطرنا إلى أن نمسّ تلك القضايا مسّاً رقيقاً

موجزاً، متحاشين الدخول في التفصيلات والتفريعات التي كادت - بسبب علم

الكلام - أن لا تنتهي.

ولسنا في هذا المقال بمؤرخين لفترة معينة من الزمان، أو لفرقة محددة من

الفرق، إنما ستجدنا -كما هو الأنسب لغرضنا - قاصّين آثار الفكرة منذ نشأتها

وتطورها عبر مساحة من الزمان تمتد منذ نهاية القرن الأول الهجري، وحتى نهاية

القرن الرابع الهجري، من خلال آراء الفرق التي أطلت برأسها بعد انشعاب الآراء، وتفرق الأهواء، كالجبرية، والقدرية المعتزلة، ثم الصوفية التي حازت قصب

السبق في إهدار قيمة اتخاذ الأسباب تذرعاً بالتوكل، ومذاهب الأشاعرة الذين قابلوا

غلو المعتزلة بغلو مقابل في نفي العلة والسبب، ثم توسط أهل السنة في ذلك الأمر

كله.

القدرية وخلق الأفعال:

في بداية الربع الأخير من القرن الأول الهجري كان (معبد الجهنيّ)[1] يتنقل

بين العراق والحجاز مروّجاً لبدعته - التي كان أول من أحدثها في الإسلام - وهى

نفيه للقدر، وإنكاره للقضاء الإلهي بزعم أن الله سبحانه لا يقدّر على الناس ما

ينهاهم عنه، ولا يقضي عليهم بما يحاسبهم عليه. وعن معبدٍ هذا أخذ (غيلان

الدمشقي) [2] وراح ينشر تلك الآراء التي ذهب ضحيتها حين قتله هشام بن عبد

الملك عليها بدمشق.

وعن هذين انتقلت بدعة القول بنفي القدر إلى المعتزلة وظهرت كأصل من

أصولهم الخمسة [3] منذ زمن (واصل ابن عطاء)[4](وعمرو بن عبيد)[5]

وحتى (القاضي عبد الجبار)[6] المعدود في الطبقة الحادية عشرة منهم - وقد

أطلقت المعتزلة على أصلهم ذاك (العدل) واتفقوا على أن: (العبد قادر خالق لأفعاله، خيرها وشرها، مستحق على ما يفعله ثوابا أو عقاباً في الدار الآخرة، والرب

تعالى منزه عن أن يضاف إليه شر أو ظلم، وفعل هو كفر ومعصية، لأنه لو خلق

الظلم كان ظالماً ولو خلق العدل كان عادلاً) [7] .

وقد تطور ذلك القول بعدم خلق الله سبحانه لأفعال العباد، وأنها لا تدخل تحت

المشيئة الإلهية، بل هي بمحض الإرادة والاختيار الإنساني، ومن خلق العبد نفسه، إلى القول بعدم قدرة الله تعالى على خلق الشر، أو الأفعال الموصوفة بالمعصية

والكفر من العباد كما ذهب إليه (النظام المعتزلي)[8] وفي مقابل تلك الآراء التي

بلغت الغاية في إنكار عموم المشيمة الإلهية، وقدرة الله سبحانه وخلقه لكافة

الموجودات، والتي جعلت العبد خالقا مستقلا لأفعاله تحت دعوى الحرية الإنسانية،

ومنطقية الثواب والعقاب، قام (الجهم بن صفوان)[9] في أوائل القرن الثاني

الهجري ينادي بآراء تقع منها على طرف النقيض، فزعم أن العبد لا دخل له في

أفعاله، ولا اختيار ولا استطاعة، بل هي فعل الله على الحقيقة والإنسان مجبور

عليها، كأفعال الجمادات سواء بسواء، قال: (إن الإنسان لا يقدر على شيء ولا

يوصف بالاستطاعة، وإنما هو مجبور في أفعاله، ولا قدرة ولا إرادة ولا اختيار.

وإنما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما بخلق في سائر الجمادات، وتنسب

إليه الأفعال مجازا كما تنسب إلى الجمادات، كما قال أثمرت الشجرة وجرى الماء،

وتحرك القِدْرُ، وطلعت الشمس، وغربت.. . والثواب والعقاب جبر، كما أن

الأفعال كلها جبر) [10] .

وفي منتصف القرن الثاني الهجري أطلق ضرار بن عمرو - وهو رأس

الضرارية المعدودة لدى كتاب الفرق من الجهمية المجبرة - القول بأن الله سبحانه

خالق لأفعال العباد حقيقة (وأنها مكتسبة لهمم)[11] ، وكان هذا القول إرهاصاً

بظهور مذهب ثالث - على يديّ أبي الحسن الأشعري في منتصف القرن الثالث

كان أوسع انتشاراَ وأعمق تأثيراً من سابقيه - الجبرية والمعتزلة.

الأشاعرة وخلق الأفعال:

رأى الأشعري ما ساد بين المعتزلة من آراء أدت إلى إهدار المشيئة الإلهية

في سبيل إثبات العدل الإلهي، بل إنه عاش ما يقرب من أربعين عاماً داعياً لذلك

المذهب الاعتزالي، وما ضاد ذلك لدى الجبرية من إهدار للعدل في سبيل المشيئة

الإلهية المطلقة، فاختار القول (بالكسب) الذي ردّده من قبله ضرار. ابن عمرو من

الجبرية، وأن الله سبحانه خالق لأفعال العباد، وهم (يكتسبونها) ! .

ولو أخذنا في استعراض آراء الأشاعرة في معنى (الكسب) لوجدنا اضطرابا

شديداً في تحديد معناه، مما ينبئ بأنه قد وضع أصلاً كمجرد اسم لا يحمل معنىً

معيناً مقصوداً، ثم حاول كلٌّ أن يحد له حدّاً وينحل له معنى، حسب ما يؤديه إليه

نظره، فقد ذهب الأشعري - كما رواه عنه الشهرستاني في الملل والنحل - إلى

التفرقة بين أفعال العبد الاضطرارية كالرعدة والرعشة، وبين أفعاله الاختيارية،

وبناء عليه فقد عرف (المكتسب) أي الفعل - بأنه هو (المقدور بالقدرة الحادثة)[12] أي: الفعل هو ما يفعله المرء بقدرته المخلوقة له. ثم عاد فنقض ما قرره مرة أخرى حيث قال: إنه لا تأثير للقدرة الحادثة -أي التي خلقها الله في العبد - في إحداث الفعل (والله سبحانه أجرى سنته بأن يخلق عقيب القدرة الحادثة- أي المخلوقة للعبد - أو تحتها أو معها: الفعل الحاصل إذا أراده العبد وتجرد له، وسمى هذا الفعل كسباً)[13] .

وفى هذا النص ينقض الشهرستاني ما سبق نقله عن الأشعريّ إذ أنه يقرر أن

العبد لا أثر لقدرته - وإن أقر أن الله سبحانه يخلق له قدرة - على أي فعل وأن

الفعل إنما يخلقه الله عقب خلقه للقدرة في العبد وليس مسبباً عنها، ثم ننتقل إلى

آراء القاضي (أبي بكر الباقلاني)[14] ، فنرى أنه مع تقريره أن القدرة التي

يخلقها الله سبحانه للعبد لا دخل لها في إيجاد الفعل، إلا أن (كون الفعل حاصلاً

بالقدرة الحادثة أو تحتها، نسبة خاصة تسمى ذلك (كسبا)[15] ، ويحاول ابن القيم

أن ينفذ إلى معنى لذلك الأمر الذي هو (الكسب) عند الباقلاني فيقرر أن مقصد

القاضي هو (أن القدرة التي خلقها الله تعالى للعبد - وإن لم تؤثر في الفعل - إلا

أنها مؤثرة في صفة من صفاته، وتلك الصفة تسمى كسباً، وهي مُتعلّق الأمر

والنهي، والثواب والعقاب) [16] .

لكنه يفند ذلك الزعم ويبيّن تفاهته قوله: إن تلك الصفة التي يكون بها الثواب

والعقاب، إما أنها داخلة تحث القدرة الإنسانية، وهو ما نفاه القاضي؛ أن يكون

للقدرة الإنسانية أي دخل في الفعل أو أنها لا تدخل تحت القدرة، فكأنه (لم يعد للعبد

اختيار ولا فعل وكسب البتة) وهو عين القول بالجبر [17] .

والإمام (أبو المعالي الجويني)[18]- وهو من أكابر الأشاعرة - قد أنكر

نظرية (الكسب) قائلاً: إنه لا معنى له عند التحقيق بل إنه مجرد (اسم محض ولقب

مجرد من غير تحصيل معنى، وذلك أن قائلاً لو قال: العبد يكتسب وأثر قدرته

الاكتساب، والرب سبحانه خالق لما العبد مكتسبٌ له، قيل له: فما الكسب وما

معناه؟ !) [19] .

ثم يخرج الجويّني -في النظامية- بقول قد أصاب فيه وأجاد -كما علّق عليها

بن القيم- وهو أن الله سبحانه يخلق للعبد قدرة، وهذه القدرة مؤثرة في إيجاد الفعل

عند اختيار العبد بإقرار الله سبحانه -أي خلقه لتلك القدرة- كما سنرى في حديثنا

عن مذهب أهل السنة والجماعة في المسألة

والحق أن (الكسب) الذي ذهب إليه الأشاعرة، لا معنى له ولا حد، وصدق

من قال: إن محالات الكلام ثلاثة: كسب الأشعريّ، وأحوال أبي هاشم، وطفرة

النظام! .

مسألة التحسين والتقبيح:

ثم إنه كان من تفريعات مذهب المعتزلة - الذي يخرج بالعقل عن دوره

المرسوم وحدّه المعلوم - أن العقل يمكنه أن يدرك الحسن والقبح في الأشياء

والأفعال عامة مستقلاً عن الشرع، فهو يدرك - وحده - قبح الزنى وشرب الخمر، كما يدرك - وحده - حسن إنقاذ الغرقى وبذل الصدقة، ذلك أن تلك الصفات -

الحسنة والسيئة - صفات ذاتية لا تحتاج في تعريفها إلى وساطة رسل أو وحي من

السماء، حتى الإيمان بالله تعالى وشكره على نعمائه يدرك بالعقل قبل التكليف،

والإنسان محاسب عليه قبل ورود الشرائع [20] .

ولم يكن من الأشاعرة - إزاء الغلو الاعتزالي -إلا أن قالوا بالتحسين والتقبيح

الشرعيين، فأنكروا كل دور للعقل في إدراك الحسن والقبح في الأفعال والأشياء،

وذهبوا إلى أن الأفعال كلها مستوية في أصلها - أقبح القبائح وأحسن الحسنات -

ولا فرق بينها إلا بمجرد الأمر والنهي الإلهي - فلو أن الله تعالى أمرنا بقتل الأنبياء

وارتكاب الزنا لكان ذلك حسناً، ولو نهينا عن الخير والعدل لكان الخير والعدل سيئاً

إذ أن الأعمال لا تحمل في ذاتها خيراً ولا شراً، والعقل إذن -لا يستقل- بل لا

يدرك أصلاً - الخير أو الشر والحسن أو القبح [21] .

وكان مما حداهم إلى تأصيل ذلك الأصل الفاسد هو خلطهم بين الإرادة

والمحبة الإلهية، فقد اعتقدوا أن الله سبحانه إن أراد أمراً كان ذلك الأمر محبوباً له، مرضيّاً عنده، وإن كره أمراً لم يشأه، ولم يخلقه أصلاً؛ إذ كيف يخلق أمراً

ويشاؤه وهو يكرهه ويبغضه؟ ! أفيكون أمراً في كون الله مكروها لله مفعولا برغم

مشيئته؟ ! .

هكذا تصوروا المسألة حين خلطوا بين الإرادة الشرعية والإرادة الكونية -

كما سنرى في عرضنا لآراء أهل السنة - ومن هنا اضطروا إلى نفي القبح

والحسن في الأفعال والأشياء كلية إذ أن العقل العادي - الذي لم تغشاه غواشي

الشبهات - لو تأمل الأفعال والأشياء لأدرك فيها حسناً وقبحاً هو عين ما كلفته به

الشرائع، وأوجبته عليه الرسالات، وهي حقيقة لم يتمكنوا من المكابرة فيها، إنما- لمّا لم تضطرد على أصلهم في عدم التفرقة بين الإرادة الشرعية والكونية -

ذهبوا إلى ذلك الرأي الشاذ في نفي صفة الحسن والقبح في الأشياء والأفعال نفياً

مطلقاً، وجعلوا العقل عاجزاً عن إدراك الخير والشر فيها.

يقول ابن القيم في شرح ذلك الأمر:

(ومن هذا الأصل الباطل نشأ قولهم باستواء الأفعال بالنسبة إلى الرب سبحانه

وأنها لا تنقسم في نفسها إلى حسن وقبيح، فلا فرق بالنسبة إليه سبحانه بين الشكر

والكفر، ولذلك قالوا: لا يجب شكره على نعمه عقلاً، فعن هذا الأصل قالوا: إن

مشيئته هي عين محبته، وأن كل ما شاءه فهو محبوب له، ومرضي له ومصطفى

ومختار، فلم يمكنهم بعد تأصيل هذا الأصل أن يقولوا إنه يبغض الأعيان والأفعال

التي خلقها، ويحب بعضها، بل كل ما فعله وخلقه فهو محبوب له، والمكروه

المبغوض لم يشأه، ولم يخلقه، وإنما أصلوا هذا الأصل محافظة منهم على القدر،

فحثوا به على الشرع والقدر، والتزموا لأجله لوازم شوشوا بها على القدر والحكمة

وكابروا لأجلها صريح العقل) [22] .

الخطأ -إذن- قد نشأ وتطور لدى الأشاعرة في هذا الأمر نتيجة خلطهم في

مفهوم الإرادة الإلهية من جهة، وفرارهم من غلو المعتزلة في مسألة الحسن والقبح

العقلي إلى غلو مقابل من جهة أخرى.

ثمة أمر آخر كان له أثر في توجيه النظرية، الأشعرية عن السببية، ذلك هو

ما ذهبت إليه المعتزلة - والمعتزلة مرة أخرى! - إلى أن الله تعالى لا يفعل إلاّ

الأصلح لعباده، بل إنه يجب عليه فعل الأصلح لهم، مراعاة لمصالحهم، وحفاظاً

عليهم من المفاسد بل إن منهم من تعدى ذلك إلى عدم قدرته -تعالى الله عما يقولون

علواً كبيراً- على فعل الشر أو المفاسد التي يتوهمونها كما ذهب إليه النظام

المعتزلي، فإن ذلك مقتضى عدله، ومسوِّغ ثوابه وعقابه، والعباد هم الفاعلون

الخالقون لتلك الشرور والمفاسد، وهى خارجة عن مشيئته سبحانه كما بيّنا، إذ أن

(الباري تعالى حكيم عادل، لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم، ولا يجوز أن

يريد من العباد خلاف ما يأمر، ويحتم عليهم شيئاً ثم يجازيهم عليه) [23] .

وكما رأينا من قبل، فقد فرت الأشاعرة من النقيض إلى النقيض، فنفوا أن

يفعل الله سبحانه ما فيه مصلحة العباد والله سبحانه لا يسأل عما يفعل، إذ كيف

يتوهم العقل أن يفعل لمصلحة أو يترك لمفسدة، والله سبحانه يفعل من واقع المشيئة

المطلقة المجردة عن المصلحة، أو المفتقرة إلى علة في أفعالها، فهو (لا يفعل شيئاً

لشيء، ولا يأمر لحكمة، ولا جعل شيئاً سبباً لغيره، وما ثم إلا مشيئة محضة،

وقدرة ترجح مثلاً على مثل بلا سبب ولا علة) [24] .

ثم لا نغفل الإشارة إلى أمر قد كان له أثره في ذلك المنهج الذي انتهجه

الأشاعرة في مناقضة المنهج الاعتزالي، ذلك أن الطبيعة البشرية تميل إلى التطرف

ما لم تدركها رحمة الله تعالى، والهروب من التطرف قد يلقى بصاحبه إلى التطرف

المقابل ما لم تضبط حركته بضوابط تهديه إلى الوسط الأعدل. وقد عاش إمام

الأشاعرة الأول (أبو الحسن الأشعري) معظم سنيّ حياته معتزلياً ينافح عن عقيدة

الاعتزال، ولاشك أن لهذا الأمر صلة مؤكدة بالاتجاه الفكري الذي سلكه فيما بعد،

إذ دفعه دفعاً إلى تطرف مقابل في مسألة خلق الأفعال ومفهوم السببية وما حولها كما

بينا، كما أنه -من جهة أخرى- قد صاحبه أثر اعتزالي في بعض آرائه الأخرى،

وإن لم تكن محلاً لدراستنا الحاضرة.

وحين نصل إلى تلك النقطة من البحث، فإننا نكون قد أشرفنا على لب الفكرة

الرئيسية التي نقصد إليها منه، وهي عرض لمفهوم السببية الذي كان لانحرافه عن

وجه الحق أثر بالغ في فكر المسلمين، وبالتالي في واقعهم الممتد عبر قرون

التخلف والتقليد، وحتى عصرنا الحاضر الذي هو -في الحقيقة - محط اهتمامنا،

ومحل دراستنا، ليرتبط تقويم الفكرة وتوجيهها بإصلاح الواقع وتغييره، وهو ما

سنوالي عرضه في البقية الباقية من صفحات المقال في العدد المقبل إن شاء الله

تعالى.

[رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنَا وهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ][آل عمران: 8]

(1) معبد بن خالد الجهنّي البصريّ: أول من ابتدع القول بالقدر وأخذه عن نصراني اسمه (سوسن) بالعراق حسب ما رواه الأوزاعي، اختلف فيمن قتله، فقيل الحجاج لخروجه مع ابن الأشعث وقيل عبد الملك بن مروان حوالي عام 80 هـ أو بعدها، تهذيب التهذيب 10/225.

(2)

غيلان بن مسلم الدمشقي، أخذ عن معبد، وقتله هشام بن عبد الملك لبدعته الأعلام 5/124.

(3)

وهي: التوحيد (نفي الصفات) ، العدل (نفي القدر) ، المنزلة بين المنزلتين، الوعد والوعيد، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(4)

واصل بن عطاء الغزّال: ولد بالمدينة عام 80هـ، وكان رأس المعتزلة لمّا اعتزل حلقة الحسن البصرى ت 131 هـ، لسان الميزان 6/214، الأعلام للزركلي 8 /108.

(5)

عمرو بن عبيد بن باب البصري: ولد بالمدينة عام 80 هـ وصحب واصلاً، واعتزل معه حلقة الحسن البصريّ، وعرف عنه الورع والعبادة، مع قوله ببدعة القدر وسب الصحابة وسائر أقوال الاعتزال، توفي في 142هـ الأعلام 5/81، وفيات الأعيان 1/384.

(6)

عبد الجبار بن أحمد، القاضي الهمداني، ولد حوالي 320هـ، برع في الفقه والحديث، وانتحل مذهب الأشاعرة فترة ثم انتقل إلى الاعتزال، توفي بالريّ عام 415 هـ الأعلام 3/273، تاريخ بغداد 11/113.

(7)

الملل والنحل للشهرستاني 1/45.

(8)

إبراهيم بن سيّار النظام: شيخ الجاحظ: عرف عنه الذكاء، واطلع على كتب الفلاسفة والدهريين، وقد ابتدع في الاعتزال أقوال لم يسبق إليها كقوله بالطفرة، وعدم قدرة الله سبحانه على فعل الجور توفي بين 221 هـ، 223 هـ طبقات المعتزلة لابن المرتضى /49، الفرق بين الفرق للبغدادي /131.

(9)

جهم بن صفوان الراسبي: كاتب الحارث بين سريج، تتلمذ للجعد بن درهم، وقال عنه الذهبي: الضال المبتدع، رأس الجهمية (تذكرة الحفاظ) ،أول من قال بالإجبار في الأعمال، (الفرق البغدادي) /211.

(10)

الملل والنحل للشهرستاني 1/87.

(11)

الشهرستاني 1/90، والفرق للبغدادي/213.

(12)

الشهرستاني 1/96.

(13)

الشهرستاني 1/97.

(14)

محمد بن الطيب بن محمد، أبو بكر الباقلاني، القاضي، ولد بالبصرة، وسكن بغداد، وتوفي بها عام 403 هـ، وكان غزير الإنتاج، له من التصانيف المشهورة التمهيد، والتقريب والإرشاد، المقنع في أصول الفقه، وكان مالكّي المذهب، أشعريّ العقيدة، مقدماً عندهم فيها الأعلام 6/176، تاريخ بغداد 5/ 379.

(15)

الشهرستاني 1/97.

(16)

شفاء العليل لابن القيم /49.

(17)

شفاء العليل/50.

(18)

عبد الملك بن عبد الله الجويني، أبو معالي، ولد ببلدة نيسابور عام 413هـ وتلقى العلم على المذهب الشافعي من والده الملقب ركن الإسلام ونبغ وناظر العلماء، ثم توجه لمكة والمدينة حيث جاور بهما أربع سنوات وعاد بعدها إلى نيسابور حيث أقام له نظام الملك المدرسة النظامية ليدرس فيها، واستمر على ذلك عشرين عاماً حتى وفاته -رحمه الله تعالى - في 478 هـ، وكان عالماً جليلاً له مؤلفات شهيرة كالغياثي، والبرهان في أصول الفقه، لولا انتسابه إلى المذهب الأشعري في بعض مسائل الصفات وغيرها، مذاهب الإسلاميين /679 وبعدها.

(19)

شفاء العليل لابن القيم /123 ينقل عن النظامية لإمام الحرمين.

(20)

الشهرستاني / 45.

(21)

الشهرستاني/ 42.

(22)

شفاء العليل /127 الشهرستاني/101.

(23)

الشهرستاني / 46، 47.

(24)

البغدادي، الفرق بين الفرق.

ص: 37