المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌القواعد الفقهية (2) عبد العزيز الحويطان   لمحة تاريخية عن نشأة القواعد الفقهية: يمكن أن - مجلة البيان - جـ ٤٩

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌ ‌القواعد الفقهية (2) عبد العزيز الحويطان   لمحة تاريخية عن نشأة القواعد الفقهية: يمكن أن

‌القواعد الفقهية

(2)

عبد العزيز الحويطان

لمحة تاريخية عن نشأة القواعد الفقهية:

يمكن أن نقسم تاريخ نشأة وتدوين القواعد الفقهية إلى ثلاثة أقسام هي: نشأة

القواعد، وتدوينها، وتنسيقها.

طور النشأة

النبي صلى الله عليه وسلم أصدق من نطق بالضاد، وقد أوتي جوامع

الكلم، ولذا كان كلامه صلى الله عليه وسلم في كثير من الأحاديث عبارة عن

قواعد فقهية باقية إلى قيام الساعة، انظر مثلاً قوله صلى الله عليه وسلم:(العجماء جرحها جبار)[1] أو قوله (لا ضرر ولا ضرار)[2] أو قوله: (البينة

على المدعي واليمين على من أنكر) [3] أو قوله (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى

بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم) [4] أو قوله: (ما أسكر كثيره فقليله

حرام) [5] وكثير كثير من الأحاديث التي هي قواعد ثابتة تجمع فروعاً شتى في أبواب الفقه.

كما أن لبعض الصحابة كلاماً منظوماً بمثابة قواعد فقهية، مثل قول عمر -

رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط)[6] وقول ابن عباس: (كل

شيء في القرآن أو، أو فهو مخير، وكل شيء) فإن لم تجدوا (فهو الأوَّل

فالأول) [7] .

كذلك أثر كلام عن التابعين بمثابة قواعد في أبواب الفقه، انظر مثلاً إلى قول

شريح (76 هـ) : (من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه)[8] أو قوله:

(من ضمن مالاً فله ربحه)[9] وهو يماثل القاعدة (الخراج بالضمان) .

ومن التابعين أيضاً خير بن نعيم فقد روي عنه الليث بن سعد المقولة التي

كانت قاعدة فقهية فيما بعد: (من أقر عندنا بشيء ألزمناه إياه)[10] .

وإذا نظرنا إلى كتب التابعين وجدناها مليئة بالأقوال العامة التي تأتي على

نسق القواعد الفقهية، ولعل أقدم مصدر فقهي يسترعي انتباه الباحث هو (كتاب

الخراج) لأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم (182 هـ) . ففيه عبارات تتسم بسمات

وشارات تتسق بموضوع القواعد منها:

1-

التعزير إلى الإمام على قدر عظم الجرم وصغره [11] .

2-

كل من مات من المسلمين لا وارث له، فماله لبيت المال [12] .

3-

ليس للإمام أن يخرج شيئاً من يد أحد إلا بحق ثابت معروف [13] وهذا

نظير القاعدة المشهورة (القديم يترك على قدمه) .

4-

ليس لأحد أن يحدث مرجأ في ملك غيره، ولا يتخذ فيه نهراً ولا بئراً ولا

مزرعة، إلا بإذن صاحبه، ولصاحبه أن يحدث ذلك كله [14] . وهذا نظير القاعدة

(لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير بلا إذنه) .

5-

لا ينبغي لأحد أن يحدث شيئاً في طريق المسلمين مما يضرهم، ولا

يجوز للإمام أن يقطع شيئاً مما فيه الضرر عليهم، ولا يسعه ذلك [15] والشطر

الأول يتعلق بقواعد رفع الضرر كما سيأتي والثاني يتعلق بالقاعد: (التصرف على

الرعية منوط بالمصلحة) .

إذاً نستطيع أن نقول أن القواعد كانت موجودة آنذاك ولكنها كانت متناثرة لا

تعرف بأنها قواعد، تأتي عفوية من العلماء، ولا شك أن هذا أدى إلى أن تكون هذه

المقولات مصدر إنطلاق للمتأخرين في هذا المجال.

طور التدوين:

لم تظهر القواعد الفقهية كعلم مستقل إلا في القرن الرابع الهجري. وذلك أنه

لما اضمحل الاجتهاد وظهر التقليد بدأ كل أناس بدراسة مذهبهم، واستخراج الفنون

من أمثال: الفروق والحيل والألغاز والقواعد الفقهية.

وما يشهد له التاريخ أن فقهاء المذهب الحنفي كانوا أسبق من غيرهم في هذا

المضمار ولعل ذلك يرجع لتوسعهم في الفروع [16] .

أما أقدم نص وصل إلينا في تدوين القواعد الفقهية كعلم، ما ذكره العلائي

الشافعي والسيوطي وابن نجيم في كتبهم عن القواعد: (أن الإمام أبا طاهر الدباس

من فقهاء القرن الرابع الهجري، قد جمع أهم قواعد مذهب الإمام أبي حنيفة في

تسع عشرة قاعدة كلية، وكان أبو طاهر رحمه الله ضريراً يكرر كل ليلة تلك

القواعد بمسجده بعد انصراف الناس، وذكروا أن أبا سعد الهروي (488 هـ) -

شافعي - قد رحل إلى أبي طاهر، ونقل عنه بعض هذه القواعد، ومن جملتها

القواعد الأساسية المشهورة وهي:

1-

الأمور بمقاصدها

2-

اليقين لا يزول بالشك

3-

المشقة تجلب التيسير

4-

الضرر يزال

5-

العادة محكمة [17] ، [18] .

ولعل الإمام الكرخي (340 هـ) قد اقتبس بعض القواعد من الإمام الدباس

وضمها إلى رسالته المشهورة التي تحتوي على سبع وثلاثين قاعدة، ولعلها أول

نواة للتأليف في هذا الفن [19] .

وجاء بعدهم الإمام أبو زيد الدبوسي (430 هـ) حيث ألف أول كتاباً في هذا

الفن وهو يمثل بداية هذا العلم من ناحية التدوين، واسم كتابه (تأسيس

النظر) [20] . وفي القرن السادس عشر لم يحفل بمؤلفات في هذا الفن ما عدا كتاب السمرقندي (540 هـ) وهو (أيضاً في القواعد) ، أما القرن السابع فقد برز فيه هذا العلم بشكل واضح وخرج فيه كم من المؤلفات منها كتاب (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) للعز بن عبد السلام (660 هـ) .

أما القرن الثامن فيعتبر العصر الذهبي لتدوين القواعد الفقهية، ومن المؤلفات

التي خرجت في هذا القرن: الأشباه والنظائر لتاج الدين السبكي كذلك القواعد في

الفقه لابن رجب الحنبلي، والقواعد للمقري وغيرها كثير.

وفي القرن التاسع جدّت المؤلفات على المنهاج السابق مثل كتاب ابن عبد

الهادي (880 هـ)(القواعد والضوابط) .

وفي القرن العاشر رقي فيه التدوين بخروج مؤلفات العلامة السيوطي

(910 هـ) مثل الأشباه والنظائر، كذلك كتاب ابن نجيم (970 هـ) (الأشباه والنظائر الذي ألفه بعد انقطاع للحنفية عن التأليف دام قروناً [21] .

هذه لمحة عابرة عن مسار التأليف في هذا الفن منذ القرن الرابع إلى القرن

العاشر الهجري. لكن السؤال الحري بالإجابة: من قعد في هذه الفترة هل قلد من

سبقه؟ أم أنه أتى بجديد في هذا العلم؟

والإجابة على هذا السؤال أن نقول أن الاحتمالين واردان، فهناك بعض

العلماء نقح في هذه القواعد وزاد في دقتها وقلل من مستثنياتها، مثل الإمام النووي

(676 هـ) . وفي نظرة عاجلة على كتابه المجموع نجد أنه ذكر قواعد منها:

1-

أصَّل الفروع الكثيرة بناء على القاعدة المشهورة (اليقين لا يزول

بالشك) [22] .

2-

من القواعد الشهيرة (الأصل في الأبضاع التحريم) ذكر في فروع منها:

(إذا اختلطت زوجته بنساء واشتبهت لم يجز له وطء واحدة منهن بالاجتهاد بلا

خلاف، سواء كن محصورات أو غير محصورات لأن الأصل التحريم، والأبضاع

يحتاط لها، والاجتهاد خلاف الاحتياط) [23] .

3-

أشار إلى قاعدة ترجيح المحرم على المبيح عند اجتماعهما في قوله: (إن

الأصول مقررة على أن كثرة الحرام واستواء الحلال والحرام يوجب تغليب حكمه

في المنع كأخت أو زوجة اختلطت بأجنبية) [24] .

4-

ما نقله عن الإمام الجويني: (أنه إذا سقط الأصل مع إمكانه فالتابع أولى) كما جاء في النص التالي: (من فاته صلاة في زمن الجنون والحيض فإنه لا

يقضي النوافل الراتبة التابعة للفرائض كما لا يقضي الفرائض

لأن سقوط

القضاء عن المجنون رخصة مع إمكانه، فإذا سقط الأصل مع إمكانه فالتابع

أولى

) [25] .

كذلك الإمام ابن القيم، له جهد وباع في تنقيح ودقة بعض القواعد الفقهية،

وفي نظرة عاجلة على كتابيه (إعلام الموقعين) و (بدائع الفوائد) يلمس المرء

جهده الطيب في هذا المجال، من ذلك:

1-

(إذا زال الُموجِب زال الُموجَب) ذكرها في فصل عنوانه (طهارة الخمر

باستحالتها توافق القياس) [26] .

2-

(لا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة) قال: (إن الرجل إذا لم يجد

خلف الصف من يقوم معه تعذر عليه الدخول في الصف، ووقف معه فذاً، صحت

صلاته للحاجة) [27] .

3-

(إن الأعيان التي تحدث شيئاً فشيئاً مع بقاء أصلها، حكمها حكم المنافع،

كالثمر في الشجر واللبن في الحيوان والماء في البئر) ذكرها تحت فصل عنوانه:

إجارة الظئر توافق القياس [28] .

4-

(المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعرف)[29] بناء على ذلك اتفقوا

على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه، كما إذا باع مخزناً له فيه متاع

كثير لا ينتقل في يوم ولا أيام، فلا يجب عليه جمع دواب البلد، ونقله في ساعة

واحدة [30] .

5-

(إن الفروع والأبدال لا يصار إليها إلا عند تعذر الأصول، مثل التراب

في الطهارة والصوم في كفارة اليمين) [31] .

6-

(ما حرّم سداً للذريعة، أبيح للمصلحة الراجحة) كما أبيح النظر للخاطب

والشاهد والطبيب من جملة النظر المحرم [32] .

بهذا يتضح أن عصر التدوين كان تنسيقاً لما سبق وكان فيه استنتاج لبعض

القواعد الفقهية بناء على دراسة الفروع المتشابهة.

مواد التنسيق:

علمنا فيما مضى أن القواعد الفقهية دارت في أول نشأتها على ألسنة المتقدمين

إلى أن جرى تدوينها واتضحت معالمها. لكن القواعد على الرغم من تلك الجهود

ظلت متفرقة ومبددة في مدونات مختلفة تضمنت تلك المدونات بعض الفنون الفقهية

الأخرى مثل الفروق والألغاز وأحياناً بعض القواعد الأصولية.

(ولم يستقر أمرها تمام الاستقرار إلى أن وضعت مجلة الأحكام العدلية على

أيدي لجنة من فحول الفقهاء في عهد السلطان عبد العزيز خان العثماني في أواخر

القرن الثالث عشر الهجري ليعمل به في المحاكم التي كانت تعمل آنذاك [33] .

(وقد وضعت القواعد في صدر المجلة، وهي قرابة مائة قاعدة، أخذت من

كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم ومجامع الحقايق للخادمي) [34] .

هذه لمحة سريعة عن تطور علم القواعد الفقهية عبر القرون الماضية.

ويلمس الإنسان عدة أمور أثناء تأمله في تاريخ القواعد الفقهية منها:

1-

أن القواعد التي جاءت في كتب القواعد ليست كلها قواعد مذهبية.

2-

أن بعضها اكتسب صياغة أدق وامتاز بالرصانة بعد المزاولة والمداولة.

ولنأخذ على ذلك مثالاً: القاعدة المشهورة في كون الإقرار إنما يلزم صاحبه المقر

ولا يسري حكمه على غيره، ترى نصها المتداول في كتب المتأخرين وفي المجلة

بعنوان (الإقرار حجة قاصرة) في حين أننا نجد هذه القاعدة عند الإمام الكرخي

بالنص التالي: (الأصل: أن المرء يعامل في حق نفسه كما أقر به، ولا يصدق على إبطال حق الغير، ولا بإلزام الغير حقاً)[35] .

ومثال آخر: القاعدة المشهورة (التصرف على الرعية منوط

بالمصلحة) [36] يوجد أصلها في كلام الشافعي رحمه الله بأن (منزلة الوالي من الرعية منزلة الولي من اليتيم)[37]، ثم اشتهر هذا القول عند كثير من الفقهاء باعتباره قاعدة تحت عنوان:(تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة)[38] .

هل يجوز أن نجعل القاعدة الفقهية دليلاً يستنبط منه الحكم الشرعي؟

هذه المسألة حساسة ومهمة وعليها تنبني كثير من الأحكام، والراجح فيها -

والله أعلم- أنه لا يجوز أن تجعل القاعدة الفقهية دليلاً يستنبط منه الحكم الشرعي.

يقول الإمام الجويني في كتابه الغياثي بمناسبة إيراد قاعدتي الإباحة وبراءة الذمة:

(وغرضي بإيرادهما تنبيه القرائح.. ولست أقصد الاستدلال بهما)[39] .

ويقول ابن نجيم في هذه القضية: (إنه لا يجوز الفتوى بما تقتضيه القواعد

أو الضوابط، لأنها ليست كلية بل أغلبية) [40] .

أما العلامة على حيدر فيقول في شرح المجلة (فحكام الشرع ما لم يقفوا على

نقل صريح لا يحكمون بمجرد الاستناد إلى واحدة من هذه القواعد) [41] .

إذاً وضع القاعدة كدليل شرعي الراجح أنه لا يصح وذلك أن القاعدة مستثناة

وصفتها عدم الشمول، ونحن مطالبون بأن نستدل بدليل ثابت صفته الشمول والدقة.

نعم لبعض القواعد صفة أخرى كأن تكون معبرة عن دليل أصولي أو كونها

حديثاً ثابتاً مستقلاً فهنا نستند إلى صفتها كأن تكون دليلاً قرآنياً أو سنة نبوية أو

قاعدة أصولية، والله أعلم.

(1) اخرجه البخاري، كتاب الديات، باب: المعدن جبار والبئر جبار (6/ 2533) ترقيم البنا.

(2)

أخرجه الحاكم في المستدرك 2/57 وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(3)

أخرجه مسلم 13/3 بشرح النووي، والترمذي كتاب الأحكام والبيهقي وابن عساكر، كما أخرجه الدارقطني.

(4)

أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الديات، باب إيقاء المسلم من الكافر، والنسائي 8/18 وابن الحلبي.

(5)

رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان، قال الترمذي: حسن غريب، قال ابن حجر: رواته ثقات وصححه الألباني.

(6)

صحيح البخاري باب: الشروط في المهر عند عقدة النكاح وباب: الشروط في النكاح.

(7)

رواه عبد الرزاق 4/395.

(8)

صحيح البخاري بشرح الكرماني 12/55.

(9)

أخبار القضاة 2/319.

(10)

المصدر السابق 3/ 231.

(11)

الخراخ لأبي يوسف ص 180.

(12)

المصدر السابق ص 51.

(13)

المصدر السابق ص 71.

(14)

المصدر السابق ص 111.

(15)

المصدر السابق ص 101.

(16)

القواعد الفقهية ص 99.

(17)

الأشباه والنظائر للسيوطي ص 7 وكذلك الأشباه والنظائر لابن بجيم ص 10- 11.

(18)

وقد نظم بعض الشافعية هذه القواعد الخمس الأساسية في بعض الأبيات:

خمس مقررة قواعد مذهب

للشافعي فكن بهن خبيراً

ضرر يزال وعادة قد حكمت

وكذا المشقة تجلب التيسيرا

والشك لا ترفع به متيقناً

والقصد أخلص إن أردت أجورا.

(19)

القواعد الفقهية ص 100، وبالمناسبة فإن الإمام الكرخي هو القائل: إن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ أو على الترجيح أو على التأويل من جهة التوفيق (شرح القواعد الفقهية للزرقا ص، 39) .

(20)

القواعد الفقهية ص 101.

(21)

انظر في هذا التسلسل التاريخي القواعد الفقهية (ص 101 - ص 103) .

(22)

المجموع 1/246.

(23)

المصدر السابق 1/237.

(24)

المصدر السابق 1/237.

(25)

المصدر السابق 1/433.

(26)

إعلام الموقعين 2/ 14.

(27)

المصدر السابق 2/48.

(28)

المصدر السابق 2/34.

(29)

أظن القاعدة بالعكس أي أن المستثنى بالعرف أقوى من المستثنى بالشرط.

(30)

إعلام الموقعين 2/ 30.

(31)

المصدر السابق 3/399.

(32)

المصدر السابق 2/161.

(33)

القواعد الفقهية ص 121.

(34)

المصدر السابق ص 121.

(35)

كلام الكرخي، انظر رسالة الكرخي ص 212.

(36)

مجلة الأحكام العدلية 2/58.

(37)

المنثور في القواعد ص 309.

(38)

الأشباه والنظائر للسيوطي ص 121.

(39)

الغياثي ص 499.

(40)

غمز عيون البصائر 1/17.

(41)

درة الأحكام شرح مجلة الأحكام 1/10.

ص: 27

خواطر في الدعوة

أزمتنا الأخلاقية

محمد العبدة

خلل كبير نعاني منه في حياتنا الإسلامية المعاصرة أيما معاناة، ذلك هو

النقص في الأخلاق الأساسية التي يجب أن تتوفر في كال مسلم، لأنها إن ضعفت

أو نقصت فلن تقوم للأمة قائمة. هذه الأخلاق كانت موجودة أو كثير منها عند

العرب عندما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبوة والهداية. كان

خلق الوفاء والصدق والشجاعة والتذمم للصديق والجار شائعاً، وكان العربي يجد

غضاضة في أن يوصم بالكذب أو الغدر، ولذلك لم يتعب الرسول - صلى الله عليه

وسلم - نفسه في تأديب هؤلاء وتربيتهم على هذه الأخلاق والدعوة إلى ممارستها،

فالإشارة منه لهذه الأخلاق كانت تكفي لأنها ارتبطت بالتوحيد الذي جاءهم به، وهو

الذي كان ينقصهم فلما تمثلوا به وأصبحت العبودية تامة لله سبحانه؛ كملت هداية

الفطرة وهداية الوحي فكانوا كما قال تعالى: [نُّورٌ عَلَى نُورٍ] .

وفي هذه الأيام ابتلى المسلمون وابتليت الدعوة بمن تجرد من هذه الأخلاق،

فالكذب - وهو من أسوأ الأخلاق الرديّة - يقع فيه هؤلاء سواء في أحاديثهم العادية

أم في تجريح إخوانهم من الدعاة، ولا أدري بم يعللون هذه الفعلة الشنيعة، هل

بمصلحة الدعوة! ؟ أما الحقيقة فهي أن معادنهم رخيصة، وليس عندهم أخلاق

الفطرة لأنها فسدت بسبب البيئة التي عاشوا فيها، ولا أخلاق الإسلام لأنهم تربوا

على الأنانية والحزبية الضيقة، ويتبع هذه الخصلة السيئة قلة الإنصاف في الحكم

على الآخرين، فالتهم تكال كيلاً دون أدنى تحرٍ للعدل والإنصاف، ويتناقل هذه

التهم المغفلون والسذج دون أي تحرج أو تأثم، فكيف تستقيم حياتنا الإسلامية وفينا

هذه الأخلاق، انظر إلى هذا الذي يقول عن إخوانه الذين يتصدون للظلم والقهر

والإرهاب السافر، يقول عنهم في لقائه مع رئيس مجلس الدولة: (جئنا لتهدئة

الأوضاع والخروج من الأزمة التي سالت فيها الدماء، فأصبح المقتول لا يعرف

لماذا قتل، والقاتل لا يعرف لماذا قتل) [1] .

أهكذا أيها الداعية؟ ! المقتول لا يعرف لماذا قتل؟ الذين يجاهدون الظلم

ويدفعون عن أنفسهم العدوان لا يعرفون لماذا يجاهدون؟ هل هذه أخلاق رجال،

هل الذي يشمت بما يفعل بإخوانه يملك الأخلاق الأساسية التي هي من مقومات

نهضة الأمة، وكان قد أظهر شماتته في أحداث سبقت وأيد نزول الجيش لإنهاء ما

سماه (الفتنة) .

إنها مصيبة والله أن يكون بعض من لا يتبنى الإسلام عنده من الجرأة

والرجولة أكثر من هذا الذي يملك نفساً أنانية ولا يريد إلا التسلق على حساب

مصائب إخوانه ولذلك نقول: إن أزمتنا في بعض جوانبها أزمة أخلاقية.

(1) الحياة 10/2/1992.

ص: 36

عالم وكتاب

إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام

للعلامة أبي الحسنات اللكنوي

عرض وتقديم: محمد عبد الله آل شاكر

- 1 -

لعلماء الهند المسلمين جهود رائعة وعناية مخلصة بعلوم الشريعة الإسلامية

بعامة وفي الحديث بخاصة. ومنذ أكثر من نصف قرن، قال السيد محمد رشيد

رضا، رحمه الله: (

ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر، لقضي عليها بالزوال من أمصار الشرق. فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز، منذ القرن العاشر للهجرة، حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل هذا القرن الرابع عشر) .

ولئن بدأت علوم الحديث الشريف تأخذ مكانتها اللائقة في جامعاتنا اليوم:

دراسة وفهماً والتزاماً فإن الوفاء يقتضي أن نشير إلى جهود الرواد والسابقين الذين

كان لهم فضل في توجيه المسلمين إلى هذا الجانب، من خلال التعريف بعالم من

هؤلاء العلماء، ودراسة واحد من كتبه التي يجمع فيها بين الدراسة الحديثية

والفقهية، على طريقة كثير من علمائنا رحمهم الله وهذا العالم هو العلامة أبو

الحسنات اللكنوي (1264 - 1304 هـ) ، وكتابه هو (إمام الكلام فيما يتعلق بالقراءة خلف الإمام) .

-2-

مما بين أفغانستان والهند، تنقلت أسرة اشتهرت بالعلم والعلماء والصلحاء،

واستقرت في مدينة (دهلي) . وكان منها: محمد بن عبد الحليم بن محمد أكبر بن

المفتي أحمد أبي الرّحم، الذي ينتهي نسبه إلى الصحابي أبي أيوب الأنصاري -

رضي الله عنه. وفي عام 1264 هـ، رزقه الله تعالى بولده (عبد الحي)

وكنيته (أبو الحسنات) واشتهر بلقب (اللكنوي) ، نسبة إلى مدينة (لَكْنَوْ) أو (لكهنو) .

ومنحه الله تعالى -منذ نشأته- قوة الحفظ، فحفظ القرآن الكريم وله من العمر

خمس سنوات، وكان يحفظ - كما يقول عن نفسه - جميع الوقائع التي تقع له

كالعيان. وتنقل بين عدد من البلاد في الهند مع أبيه الذي كان مدرساً في (باندا)

ثم انتقل إلى (جونفور) ، وفيها شرع في تحصيل العلم وعمره إحدى عشرة سنة

حتى فرغ من قراءة الكتب المدرسية في علوم كثيرة. وتابع تعليمه بعد وفاة والده،

ونال إجازات علمية كثيرة، وتصدر للتدريس ولازمه في (حيدر آباد) مدة من

الزمن. وكان شغوفاً بذلك منذ عنفوان الشباب، بل من زمن الصبا، فلم يقرأ كتاباً

إلا درسه فيما بعد، وجمع بين العلم والتعليم والتربية، وكتب له في تدريسه القبول

والرضى.

وقد بلغ أبو الحسنات مكانة في العلم والخلق ألهجت الألسنة عليه بالثناء،

يشير إلى ذلك ما قاله العلامة الكبير عبد الحي اللكنوي في كتابه (نزهة الخواطر) :

(

تبحر في العلوم، وتحرى في نقل الأحكام، وحرر المسائل، وانفرد في الهند بعلم الفتوى، فسارت بذكراه الركبان، بحيث أن، علماء كل إقليم يشيرون إلى جلالته.

وله في الأصول والفروع قوة كاملة، وقدرة شاملة، وفضيلة تامة، وإحاطة

عامة. وفي حسن التعليم صناعة لا يقدر عليها غيره. وكان إذا اجتمع بأهل العلم،

وجرت المباحثة في فن من فنون العلم لا يتكلم قط، بل ينظر إليهم ساكتاً،

فيرجعون إليه بعد ذلك. فيتكلم بكلام يقبله الجميع، ويقنع به كل سامع. وكان هذا

دأبه على مرور الأيام، لا يعتريه طيش ولا خفة في شيء كائناً ما كان. فقد كان

من عجائب الزمن، ومن محاسن الهند، وكان الثناء عليه كلمة إجماع، والاعتراف

بفضله ليس فيه نزاع) .

والرجل الذي يبلغ هذه المنزلة يأنف من العصبية المقيتة والتبعية الذليلة، فلا

يرضى أن يقوده غيره - تقليداً أعمى - من حيث لا يبصر طريقه. فقد تفقه على

مذهب أبي حنيفة في الفروع والأصول - وهو المذهب المنتشر في تلك الأصقاع -

ولكنه كان غير متعصب في المذهب، ويتبع الدليل، ويترك التقليد إذا وجد في

المسألة نصاً صريحاً مخالفاً للمذهب. وكتبه وتحقيقاته لكثير من المسائل، شاهد

صادق على ذلك، رحمه الله تعالى. قال في كتابه (النافع الكبير لمن يطالع الجامع

الصغير ص 48) :

ومن مِنَحِه تعالى أنه رزقني التوجه إلى فن الحديث وفقهه، ولا أعتمد على

مسألة ما لم يوجد لها أصل من آية أو حديث. وما كان خلاف الحديث الصحيح

أتركه، وأظن المجتهد فيه معذوراً، بل مأجوراً. ولكنني لست ممن يشوش العوام

الذين هم كالأنعام، بل أتكلم بالناس على قدر عقولهم) .

وكان سالكاً طريقاً وسطاً بين الإفراط والتفريط في مسائل الخلاف، فهو ليس

ممن يختار التقليد البحت بحيث لا يترك قول الفقهاء، وإن خالفته الأدلة الشرعية.

ولا ممن يطعن عليهم ويهجر الفقه بالكلية! وهو شديد الاعتداد بالحديث وأهله -

يرحمهم الله أجمعين- فيقول في كتابه الذي سنعرض له بعد قليل، ص 228:

(ومن نظر بعين الإنصاف وغاص في بحار الفقه والأصول، متجنباً عن الاعتساف، يعلم علماً يقيناً: أن أكثر المسائل الفرعية والأصلية التي اختلف فيها العلماء، فمذهب المحدثين فيها أقوى من مذاهب غيرهم. وإني كلما أسير في شعب الاختلاف أجد قول المحدثين فيه قريباً من الإنصاف. فلله درّهم، وعليه شكرهم! كيف لا، وهم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم، حقاً، ونواب شرعه صدقاً. حشرنا الله في زمرتهم، وأماتنا على حبهم وسيرتهم.

وأمثال هذه الكلمات كثيرة تجدها مبثوثة في تضاعيف كتبه، مما يدل على

اعتداده القوي بالدليل، وعدم تعصبه للمذهب، مع سعة اطلاعه وكثرة تنقيبه،

وإنصافه لمن يخالفه في الرأي والمسألة.

- 3 -

تلكم لمحات سريعة موجزة عن اللكنوي، أما كتابه (إمام الكلام..) فهو

واسطة العقد بين مؤلفات كثيرة في القراءة في الصلاة، قبل اللكنوي وبعده.

وقد تعددت مناهج المؤلفين واختلفت طريقة بحثهم في المسألة، تحريراً

وتأصيلاً ورداً مما لا مجال للإفاضة فيه الآن. ولكن يحتاج القارئ المتبصر إلى

بحث فقهي حديثي لهذه المسألة يستقصي فيه الأدلة بأنواعها، وينزل كل دليل

منزلته، دون أن يأخذ ببعض الأدلة ويهمل بعضها الآخر، فيجمع أطراف المسألة

كلها، ويخرج بنتيجة وحكم يؤيده الدليل الصحيح. ولعل هذا الكتاب، الذي نعرض

في هذه الصفحات، يحقق ذلك فيما أحسب:

رتب المؤلف كتابه على مقدمة، وثلاثة أبواب، وخاتمة.

الباب الأول:

وعقده المؤلف لاختلاف علماء الأمة عن الصحابة، التابعين الأئمة المجتهدين، ومن بعدهم من فقهاء الملة. وجعله في فصلين:

الفصل الأول:

الآثار الواردة عن الصحابة -رضوان الله عليهم-، وساق فيه الروايات الكثيرة عنهم، والمروية في كتب الصحاح والسنن والآثار والمصنفات، وأيد ذلك بنقول كثيرة تبين أن المسألة خلافية، عن الإمام أحمد بن حنبل والترمذي والحازمي وغيرهم

والفصل الثاني:

أقام المؤلف بحثه على (تنقيح المذاهب) على ثلاثة أصول أو مسالك:

أ- الأول: أنه لا يقرأ خلف الإمام بحالٍ، لا في السرية ولا في الجهرية،

وهو مسلك فقهاء الحنفية ومن وافقهم.

ب- الثاني: يقرأ الفاتحة في السرية والجهرية كلتيهما. وهو مسلك الشافعية.

ج- الثالث: يقرأ في السرية دون الجهرية. وهو مسلك المالكية والحنابلة.

وتحت كل مسلك من هذه المسالك مذاهب ومسائل متفرقة، عرض لها المؤلف وناقشها مع الأدلة. كما ناقش ما كتبه الشوكاني في (نيل الأوطار) بدليل قوي وحجة ناصعة وعبارة عفيفة.

الباب الثاني:

وفيه عرض المؤلف أدله أصحاب المساك الثلاثة السابقة من المذاهب الأربعة، ووجه الاستدلال بكل دليل. مع ذكر ما يقوي هذه الأدلة أو يرد عليها ويضعفها. ومن البحث في ذلك تعلم وجه استدلال كل مذهب بالدليل من النصوص الشرعية والإجماع والمعقول. وقد اشتمل هذا الباب على ثلاثة فصول:

الفصل الأول:

في دلائل الحنفية، ومن وافقهم على مذهبهم، وهي بأنواعها خمسة أصول وهي الاستدلال بالكتاب والسنه والآثار عن الصحابة والاجماع والمعقول.

وعقّب ذلك برأي الإمام البخاري رحمه الله، وأجاب عن اعتراضاته، بما

يلتقي مع ما فعله شيخ الإسلام ابن تيمية كذلك، مما هو في ملحق الكتاب. وفي هذا

البحث كلام طويل عن السكتات في الصلاة، من حيث عددها ومكانها وما الذي

يشرع منها.

الفصل الثاني:

وعقده لعرض أدلة أصحاب المسلك الثاني، وفيه بحث ثلاثة أصول أو أدلة:

الأول: دليل الكتاب الكريم [فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ..] وقوله تعالى: [واذْكُر

رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ

]

والثاني: استدلوا فيه بآثار عن الصحابة في تجويز القراءة، مما روي عن

عمر، وابن عمر، وأبي بن كعب، وأبي هريرة، وحذيفة، وعلي، وعائشة،

وغيرهم، رضي الله عنهم أجمعين.

وفي الأصل الثالث: استدل بالمعقول من وجوه، أولها: أن القراءة ركن

يشترك فيه الإمام والمأموم، والثاني: أن الإمام لا يتحمل عن المأموم شيئاً من

الفرائض غير القراءة فلا يتحمل القراءة كذلك. وفي الأصل الرابع: استدلوا

بحديثي: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج) و (.. لا تفعلوا إلا

بأم الكتاب) .

وقد أطال النفس في هذا الأصل وما وجه إليه من اعتراضات، ورد ذلك كله

بوجوه كثيرة، تخللها مبحث طويل في رواية محمد بن إسحاق وتوثيق العلماء

لروايته. ثم حرر النزاع حول مسألتين هما: ركنية الفاتحة في الصلاة، وقراءة

المقتدي لها.

الفصل الثالث:

وهو فصل موجز لأدلة أصحاب المسلك الثالث، فلا حاجة للإطالة، فهم قد أخذوا من كل مسلك بطرف، وردّوا بأدلة هذا على ذاك.

الباب الثالث:

وفيه ضبط المذاهب السابقة إجمالاً والإشارة إلى دليل كل منها تفصيلاً مع ترجيح يقبله أصحاب النظر الصحيح، استهله بما ورد في ركنية الفاتحة، مبينّاً أصل ومبنى الخلاف في المسألة.

ترجيح:

ثم يخلص إلى القول بعدم افتراض القراءة على المؤتم مطلقاً، واستحباب قراءة الفاتحة أو سنيّتها في السرية، ولما لم يثبت استحباب سكتات الإمام، لم يقولوا بالقراءة في السكتة، كما ذهب إليه جمع من المحدثين.

الخاتمة والملاحق:

وختم الكتاب بحكم قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة مرجحاً دليل من قال باستحباب القراءة فيها.

وزاد من قيمة الكتاب ملحقان اثنان: أحدهما لشيخ الإسلام ابن تيمية حول

القراءة، والثاني لحافظ المغرب ابن عبد البر، رحمهما الله، وقد بلغ الملحقان أكثر

من خمسين صفحة.

- 4 -

وبعد، فهذا الكتاب حديث وفقه، يتصل بأعظم ركن من أركان الإسلام بعد

الشهادتين، يدرب القارئ على الاستدلال والمناقشة، ويأخذ بيده في دراسة الفقه

على بصيرة، وفي تضاعيفه تجد كثيراً من المسائل الحديثية والأصولية وغيرها.

وقد صدر هذا الكتاب بطبعة جديدة، فيها عمق الموضوع مع جمال الإخراج، وزوده المحقق بمقدمة عن الموضوع والمؤلفات ثم ترجمة المؤلف. وأضاف إليه

تعليقات ونصوصاً، وخرج أحاديثه وترجم لبعض أعلامه، وصنع لها فهارس تعين

على الإفادة منه.

وهذا لا يمنع من إبداء ملاحظة هامة؛ فالكتاب عليه حاشية للمؤلف نفسه،

التقط منها المحقق بعض الفوائد وأثبتها في الكتاب، ولو طبع الكتاب كاملاً لكان

أكثر فائدة، وإن كان سيؤدي إلى زيادة حجم الكتاب إلا إن كان القصد مصروفاً إلى

الكتاب نفسه دون حاشيته.

ووفق الله العاملين والمخلصين والحمد لله رب العالمين.

ص: 38

مراجعات في عالم الكتب

نظرية الضرورة الشرعية

جدواها وضوابطها

تأليف: د. جميل بن محمد مبارك

عرض: هيثم الحداد

إن موضوع الضرورة من الموضوعات الهامة التي ينبغي على الدعاة وطلبة

العلم الإلمام بها، ومعرفة حدودها وضوابطها، ذلك إن الساحة الإسلامية على وجه

العموم والعمل الإسلامي على وجه الخصوص قد جدت فيه أمور غير مألوفة

وأحوال قد تضطر المسلم إلى الوقع فيما أصله المنع، وقد بلغت هذه الأحوال من

الكثرة حتى أصبح المسلم يواجهها في عدة صور وربما في كل يوم.

خذ أخي القارئ مثالاً على ذلك وهو السفر إلى بلاد الكفار، لقد أصبح المسلم

عرضة لهذا السفر كثيراً، فقد يطرد المسلم من بعض بلاد المسلمين لا يجد له

المأوى إلا في بلاد غير إسلامية، وقد يضيق عليهم في الرزق ولا يجد سعة فيه إلا

عند الكفار، بل قد يضيق عليه في دينه ودعوته ويجد فسحة في ذلك -وللأسف -

في البلاد التي يحكمها يهود أو نصارى.

وقد تضطره متابعة التعليم إلى الذهاب إلى هناك والإقامة بين أظهرهم ردحاً

من الزمن؟ أليست هذه أحوالاً استثنائية لم تكن معهودة من قبل؟ إذا كيف يواجه

المسلم - وخصوصاً الداعي - مثل هذه الأحوال وهل هي أحوال ضرورة تبيح له

ما كان محظوراً؟ إذا ما هي حدود الضرورة وما هي ضوابطها.

جواب هذه الأسئلة وغيرها تجدها في كتابنا هذا الذي نقدم تعريفاً موجزاً له.

وموضوع الضرورة قد تناوله الفقهاء في كتب الفقه على صورة أحكام فرعية متفرقة

في عدة مواطن، ولم يتحدثوا عن ضوابطها وحدودها، وتعرض لها الأصوليون في

كتب القواعد الفقهية - على وجه التخصيص - وغيرها ولكن بصورة غير مستقلة. فكانت هناك حاجة لمن يجمع شتات هذا الموضوع، ويجلي ضوابط الضرورة

وحدودها، حتى يسهل تفريع الأحكام عليها.

ومن الكتب المهمة التي جمعت شتات هذا الموضوع في بحث مستقل كتاب

(نظرية الضرورة الشرعية حدودها وضوابطها) .

وقد جاء هذا البحث منسقاً متناسقاً، أتى فيه مؤلفه على جميع ما يتعلق

بالضرورة من ضوابط وحدود بصورة واضحة، فاستطاع من خلاله أن يثبت، أن

الإسلام جاء بنظرية متكاملة شاملة للضرورة، جعلته أيسر الشرائع وأكثرها ملائمة

للحياة.

وقد قسم البحث هذا إلى أربعة أبواب بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة:

* فقد ذكر في الباب الأول تعريف الضرورة وأدلة مراعاتها، وعلاقاتها

بالمشقة، والأسباب المؤدية إلى الضرورة، ومدى أثرها في إباحة المحظورات.

* أما الباب الثاني فقد خصصه لبعض المصطلحات الأصولية التي لها علاقة

بالضرورة مثل الاستحسان وسد الذرائع.

* ومن أهم أبواب الكتاب الباب الثالث، حيث تناول المؤلف فيه ضوابط

الضرورة.

* ولربط الموضوع ببعض الفروع الفقهية المعاصرة أفرد الباب الرابع لحديثه

عن بعض الأحكام المترتبة على الضرورة.

ومن أهم ما يتميز به هذا الكتاب:

- أنه يبدأ بتأصيل القاعدة وتوضيح حدودها وضوابطها ثم يذكر جملة من

الفروع الفقهية التي تبنى على هذه القاعدة.

لم يكن المؤلف جامداً في نقله عمن سبقه من العلماء أو الباحثين، بل كان

ينقل أقوالهم ويعمل نظره فيها بقوة، فيناقشها مناقشة هادئة مبنية على الأدلة

والقواعد العامة للشريعة، ثم على الواقع، انظر إليه -مثلاً- وهو يناقش تعريفات

الفقهاء للضرورة وما على هذه التعريفات من مآخذ، ثم تجده يخرج بتعريف مستقل

يقول فيه (خوف الهلاك أو الضرر الشديد على أحد الضروريات للنفس أو الغير

يقيناً أو ظناً إن لم يفعل ما يدفع به الهلاك أو الضرر الشديد) [1] .

- مما ينبغي على الباحثين الآن عدم الجمود على الأمثلة التي ذكرها الفقهاء

السابقون، بل لا بد من ضرب أمثلة حية لها صلة وثيقة بواقع المجتمعات الآن،

وفي هذا من الفوائد جعل العلم أقرب مأخذاً من قبل الناس، فينمو شعورهم بأن هذه

الشريعة قادرة على معالجة مشكلاتهم، ثم إنه يجعل الفقيه أكثر تفتحاً ومعرفة

بمشكلات العصر، وقد أجاد كاتبنا هنا أيما إجادة.

فمن ذلك أنه أفرد باباً مستقلاً في تطبيق نظرية الضرورة الشرعية على بعض

القضايا المعاصرة، ومما أورد فيه: أحكام السفر إلى بلاد الكفار وبعض الأحكام

التي تتعلق بالمسلمين الذين يعيشون في هذه البلاد، وأورد أيضاً مسألة التداوي

بالمحرمات عند الضرورة، ثم اقرأ ما كتب عن محاولات تبرير الفوائد الربوية

بالضرورة.

ومن أجمل ما في الكتاب أنك تقرأه فتشعر كأنه يتكلم عن واقعك وما يعانيه

المسلمون من مشكلات، وهذه نتيجة تلقائية لضرب الأمثلة الحية من واقع الناس.

يقول تحت عنوان العوامل التي تؤدي ببعض المفتين إلى الإفتاء بالضرورة

في غير محلها [2] :

(

، 3- سيطرة روح التيسير ورفع الحرج عن عقول كثير من الذين

يفتون بالضرورة في غير مكانها، ولعل طغيان هذه الفكرة ينبع أحياناً من الرغبة

في تحبيب الدين للناس، بعد أن أصبح الدين في أنفسهم مهلهلاً، وكادوا يعبدون الله

على حرف..) .

(4- تعرض المفتي لبعض الضغوط من جهات معينة ترغب في استصدار

فتوى توافق ما تميل إليه، فيخضع المفتي لهذه الضغوط، ويلجأ إلى مثل هذه

العمومات إسناداً لفتواه، كرفع الحرج عن الأمة والتيسير والأخذ بقاعدة

الضرورات) .

(5- تورط بعض المفتين في مثل تلك القضايا التي يسألون عنها في حياتهم

الشخصية فيحملهم ذلك على البحث عن مخرج في الشريعة لما يعيشون من تلك

القضايا، حتى لا يتهموا بالخروج عن النصوص الشرعية، وحتى لا تتعارض

فتاواهم للناس مع ما يمارسونه في شئونهم، فإذا لم يجدوا موئلاً في النصوص لجأوا

إلى آيات التيسير ورفع الحرج) .

(6- عدم العلم الدقيق بتلك القضايا وعلم إحاطتهم بملآتها..)

بقي أن نقول إن الكتاب من طبع دار الوفاء للطباعة والنشر بالمنصورة وقد

جاء في 494 صفحة مع المراجع وفهرس الموضوعات.

(1) نظرية الضرورة، ص 28.

(2)

نظرية الضرورة، ص 298.

ص: 46