الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خواطر في الدعوة
بين الدفاع والأصالة
محمد العبدة
لا يزال بين المسلمين اليوم من يعيش بعقلية الأربعينات والخمسينات، حين
كانت الهجمة على الإسلام والمسلمين على أشدها، وكان الذي يتولى كبرها
المستشرقون والمبشرون والأحزاب العلمانية، وكان موقف كثير من المسلمين هو
موقف المدافع عن نفسه دفاع المتهم الذي بداخله شيء من الانهزامية، أو عنده عقدة
نقص تجاه كل ما يأتى من الغرب أو الشرق أو من الأحزاب التي تسمي نفسها:
(تقدمية) .
يومها قالوا عن الإسلام: إنه استبدادي النزعة، فرد عليهم البعض بأنه
(ديمقراطي) فيه كل مبادئ الديموقراطية، وقالوا: إن بلاد الإسلام فتحت بالسيف
والقوة، وأن المسلمين كانوا أصحاب ولوغ في الدماء، فقيل لهم: لا.. إننا لا
نهاجم أحداً ولا نفتح البلدان، بل ندافع عن أنفسنا فقط إذا ما هوجمنا من الخارج،
وها هي بلاد أندونيسيا وماليزيا، ودول وسط أفريقيا قد دخلها الإسلام بواسطة
التجارة أو الدعاة.
وقيل عن تعدد الزوجات والطلاق ومشاكل المرأة الكثير الكثير.. وكتبت
المجلدات، وحررت المقالات في الرد على هذه الاتهامات ولكن بمنطق المنهزم أمام
هذا الهجوم الماكر، وكان الرد أن التعدد فقط للضرورة، وأن الإسلام أعطى كل
شيء للمرأة وأنها نصف المجتمع.. الخ. هذا الكلام الذي بعضه صحيح وبعضه
خطل.
ولا يزال المسلمون - ممن يعيشون بيننا - إذا عرضوا الإسلام على الآخرين
يعرضونه على استحياء. وقد يتكلم أحدهم عن تقارب الأديان إذا ما دخل في مناقشة
مع نصراني مثلاً، أو أن الإسلام لا يكره أو يحرم بعض الأشياء المكروهة أو
المحرمة فعلاً.. إذا ما دخل في جدال مع أصحاب الترخص والتساهل.
هذا الموقف الضعيف، كنا نعتقد أنه انتهى أو يجب أن ينتهي ولا حاجة
لإعادة الردود واجترار هذه الأشياء، لقد انتقل المسلمون إلى الشعور بالثقة
وبالأصالة وبموقف المهاجم وليس المدافع، وقد كان للعلماء والدعاة في هذا العصر
أثر في توليد هذه الثقة، ومن أبرزهم: الداعية الشهيد سيد قطب رحمه الله،
ولكن سمعت وقرأت أخيراً لبعض الإسلاميين في موضوع الأسرة والمرأة ما يعود
بنا القهقري إلى الوراء، وكأننا متهمون بظلمها، ومتهمون بأننا لا نعطيها الحرية
التي يريدها أعداء الإسلام، فيقدم طيبوا القلب ليعطوها أكثر مما جبلت عليه
وخلقت له، ونحن ليس عندنا مشكلة اسمها مشكلة المرأة، فالله سبحانه خلق الخلق
لعبادته وكل ميسر لما خلق له، وكل له مهمة في هذه الحياة ورحم الله امرأً عرف
قدر نفسه، أما معاكسة الفطرة التي خلق الله الخلق عليها فسيكون من بعدها الدمار.
أما الموضوع الآخر الذي يخجلون منه فهو الجهاد، وينسون أنه ذروة سنام
الإسلام، وقد شرعه الله لنا وحضنا عليه، وهو من خصائص هذه الأمة، وهو
جزء من الدعوة، وبالجهاد والفتح يتعرف الناس على الإسلام عملياً ونظرياً. فهو
رحمة وليس قسراً، وأكثر البلاد الإسلامية اليوم فتحت بالجهاد، فهل نخجل من
شرع شرعه الله لنا، والناس يفتخرون بزبالة أفكار ماركس وأمثاله.
إن القرآن الكريم علمنا كيف نرد على الكفار اتهاماتهم وكيف نهاجمهم بدل أن
نضع أنفسنا في قفص الاتهام. قال تعالى راداً على قريش قولها: إن المسلمين
انتهكوا حرمة الشهر الحرام وقتلوا وأسروا - وقد وقع هذا في سرية عبد الله بن
جحش عندما أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهمة استطلاعية للتعرف
على أحوال مكة وما حولها - قال تعالى: [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ
قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وكُفْرٌ بِهِ والْمَسْجِدِ الحَرَامِ وإخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ
عِندَ اللَّهِ والْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ
…
] الآية [البقرة: 217] .
ومعنى الآية: إذا كان القتال في الشهر الحرام كبيراً فعلاً ولا يجوز فأنتم فعلتم
أكبر من هذا، أخرجتم المسلمين من البلد الحرام، بل فعلتم ما هو أشنع وهو الكفر
بالله، والصد عن سبيله، وفتنة المؤمنين عن دينهم، هذا هو أدب القرآن في
مناقشة الخصوم، ولكن بعض الناس يحرفون النصوص الواضحة كي لا يغضب
غير المسلمين وحتى نظهر أننا في غاية التهذب والرقة والمسكنة! ! .
سبحانك هذا بهتان عظيم.
وإذا قلتم فاعدلوا
بقلم: عبد العزيز بن ناصر السعد
أهمية الموضوع:
إن أهمية هذا الموضوع تأتي من أنه مفتاح الحق وجامع الكلمة، والمؤلف
بين القلوب، لأن من أقوى أسباب الاختلاف بين العباد هو الظلم والاعتداء وفقدان
العدل والإنصاف. ولو جاهد المسلم نفسه لتحقيق صفة العدل على نفسه ومع الناس
فإن كثيراً من المشاكل التي تحصل بين المسلمين سواء منها الفردية أو الجماعية
ستزول وتحل بإذن الله.
وذلك لأن سبب الانحراف عن الحق والإصرار على الأخطاء إما الجهل وإما
الظلم، فالجهل علاجه العلم، والظلم علاجه العدل والإنصاف والقسط. ولقد كان
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كثيراً ما يرجع أسباب الفرقة والتعدي
والتعصب إلى الأمرين المذكورين سابقاً، فتراه يقول:
(الإنسان خلق ظلوماً جهولاً، فالأصل فيه عدم العلم، وميله إلى ما يهواه
من الشر، فيحتاج دائماً إلى علم مفصل يزول به جهله وعدل في محبته وبغضه،
ورضاه وغضبه، وفعله وتركه، وإعطائه ومنعه، وأكله وشربه، ونومه ويقظته،
وكل ما يقوله ويعمله يحتاج فيه إلى علم ينافي جهله، وعدل ينافي ظلمه، فإن لم
يمن الله عليه بالعلم المفصل والعدل المفصل؛ وإلا كان منه من الجهل والظلم ما
يخرج به من الصراط المستقيم، وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بعد
صلح الحديبية وبيعة الرضوان: [إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً] إلى قوله تعالى
[ويَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً] ، فإذا كان هذه حاله في آخر حياته أو قريباً منها فكيف
حال غيره) أهـ[1] .
ويقول رحمه الله:
(والعدل هو الاعتدال، والاعتدال هو صلاح القلب، كما أن الظلم فساده، ولهذا جميع الذنوب يكون الرجل فيها ظالماً لنفسه، والظلم خلاف العدل، فلم يعدل على نفسه بل ظلمها، فصلاح القلب بالعدل، وفساده في الظلم، وإذا ظلم العبد نفسه فهو الظالم والمظلوم، كذلك إذا عدل فهو العادل والمعدول عليه، فمنه العمل، وعليه تعود ثمرة العمل من خير وشر، قال تعالى:[لَهَا مَا كَسَبَتْ وعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ] .
إلى أن قال في نفس الجزء ص 99:
(مع أن الاعتدال المحض السالم من الإخلاص لا سبيل إليه، لكن الأمثل
فالأمثل، فهكذا صحة القلب وصلاحه في العدل ومرضه من الزيغ والظلم
والإعراض والعدل المحض في كل شيء متعذر علماً وعملاً، ولكن الأمثل فالأمثل. ولهذا يقال: هذا أمثل، ويقال للطريق السلفية: الطريقة المثلى.
وقال تعالى: [ولَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ] [الأنعام
152] وقال تعالى: [وأَوْفُوا الكَيْلَ والْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إلَاّ وسْعَهَا] ،
والله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس بالقسط. وأعظم القسط عبادة
الله وحده لا شريك له، ثم العدل على الناس في حقوقهم، ثم العدل على
…
النفس. اهـ[2] .
وهنا نرى أن شيخ الإسلام قد بين أهمية العدل، وأنه أساس النجاة في الدنيا
والآخرة، وقد قسمه حسب الأهمية إلى أعظم العدل وهو عبادة الله وحده لا شريك
له، ثم العدل على الناس، ثم العدل على النفس وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في
ثنايا هذا البحث.
وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أيضاً أهمية العدل مع الخصوم
والمفارقين لأهل السنة حيث يقول:
(وأهل السنة والعلم والإيمان يعلمون الحق، ويرحمون الخلق، ويتبعون
الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يبتدعون، ومن اجتهد فأخطأ خطأً يعذره فيه
الرسول صلى الله عليه وسلم عذروه.. إلى أن قال: والله يحب الكلام بعلم
وعدل، ويكره الكلام بجهل وظلم، كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم: (القضاة ثلاثة. قاضيان في النار وقاضٍ في الجنة، رجل قضى للناس على جهل
فهو في النار، ورجل علم الحق وقضى خلافه فهو في النار، ورجل علم الحق
وقضى به فهو في الجنة) ، وقد حرم سبحانه وتعالى الكلام بلا علم مطلقاً، وخص
القول عليه بلا علم بالنهي؛ فقال تعالى: [ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ
والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً] وقال تعالى: [قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ومَا بَطَنَ والإثْمَ والْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] وأمر بالعدل على أعداء
المسلمين فقال تعالى: [كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ
عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] [3] .
إذن مما سبق ذكره من كلام شيخ الإسلام يتبين لنا أهمية العدل في القول
والعمل وأن الأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها
لا يستطيع أن يحملها الإنسان إلا بأن يتغلب على صفة الجهل بالعلم والتفقه في دين
الله عز وجل، وبأن يتغلب على صفة الظلم بالعدل والإنصاف، ومع ذلك - كما
أشار شيخ الإسلام - فلن يستطيع أن يكمل العدل كله ولا أن ينفك عن الجهل كله،
وكذلك فهو في حاجة لأن يتوب الله عليه ويغفر له تقصيره وضعفه، وهذا هو ما
يفهم من آية الأمانة في سورة الأحزاب حيث ذكر الله عز وجل لنا صنفين من
الناس:
الصنف الأول: المؤمنون الذين بذلوا جهدهم في طلب العلم المنافي للجهل،
والعدل المنافي للظلم، فاستحقوا من الله عز وجل أن يتوب عليهم ما لم يستطيعوا
تحقيقه من العلم والعدل.
الصنف الثانى: أولئك المشركون المنافقون الذين أعرضوا عن دين الله
عز وجل فلم يتعلموه، وأعرضوا عن العدل والقسط فأركسوا في ظلمات الجهل والظلم، ووقعوا في الشرك والنفاق فاستحقوا العذاب الأليم. يقول الله تعالى:[إنَّاعَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وأَشْفَقْنَ مِنْهَا وحَمَلَهَا الإنسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المُنَافِقِينَ والْمُنَافِقَاتِ والْمُشْرِكِينَ والْمُشْرِكَاتِ ويَتُوبَ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِنَاتِ وكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً][سورة الأحزاب: 72 - 73] .
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الذين أعانهم على حمل الأمانة وغفر لهم
تقصيرهم.
تعريف العدل ومنزلته في الكتاب والسنة:
قال في لسان العرب: العدل: ما قام في النفوس أنه مستقيم، وهو ضد
الجور. عدل الحاكم في الحكم يعدل عدلاً، وهو عادل من قوم عدول.. وفي أسماء
الله الحسنى (العدل) وهو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم. والعدل: الحكم
بالحق. وكتب عبد الملك إلى سعيد بن جبير يسأله عن العدل فأجابه: إن العدل
على أربع أنحاء: العدل في الحكم، قال الله تعالى: [وإنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم
بِالْقِسْطِ] ، والعدل في القول؛ قال تعالى:[وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا] ، والعدل في
الفدية؛ قال تعالى: [لا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ]، والعدل في الإشراك؛ قال تعالى:
[ثُمَّ الَذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ]، أي: يشركون. وفلان يعدل فلاناً: أي يساويه،
وعدّل الموازين والمكاييل: ساواها، وتعديل الشيء: تقويمه، والاعتدال:
توسط حال بين حالين في كم وكيف، كقولهم: جسم معتدل، من الطول والقصر، وجو معتدل، من الحر والبرد.. الخ، والمعادلة. الشك في أمرين، يقال: أنا في عدال في هذا الأمر، أي: في شك منه أأمضي عليه أم أتركه. أهـ
(باختصار) .
والآيات والأحاديث الواردة في ذكر العدل والحث عليه والتحذير من ضده كثيرة جداً لكننا نقتصر على بعضها مع نقل أقوال علماء التفسير والحديث حولها.
الآيات الواردة في ذلك:
الآية الأولى:
يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إلَهَ إلَاّ هُوَ
والْمَلائِكَةُ وأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إلَهَ إلَاّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] [ال عمران 18] .
* يعلق شيخ الإسلام على قوله تعالى [قَائِماً بِالْقِسْطِ] ج 14 ص 179بقوله:
(فإن الاستقامة والاعتدال متلازمان، فمن كان قوله وعمله بالقسط كان
…
مستقيماً، ومن كان قوله وعمله مستقيماً كان قائماً بالقسط، ولهذا أمرنا الله عز وجل أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وصراطهم هو العدل والميزان ليقوم الناس بالقسط والصراط المستقيم هو العمل بطاعته وترك معاصيه،
…
فالمعاصي كلها ظلم مناقض للعدل مخالف للقيام بالقسط والعدل) [4] .
…
* ويعلق سيد قطب رحمه الله على هذه الآية في ظلال القرآن المجلد
الأول ص 55 بقوله:
(وتدبير الله عز وجل لهذا الكون والحياة متلبس دائماً بالقسط وهو العدل،
فلا يتحقق العدل المطلق في حياة الناس ولا تستقيم أمورهم استقامة أمور الكون التي
يؤدي كل كائن معها دوره في تناسق مطلق مع دور كل كائن آخر.. لا يتحقق هذا
إلا بتحكيم منهج الله الذي اختاره لحياة الناس وبينه في كتابه وإلا فلا عدل ولا قسط
ولا استقامة ولا تناسق ولا تلاؤم بين دورة الكون ودورة الإنسان، وهو الظلم إذن
والتصادم والتشتت والصراع) .
إلى أن قال رحمه الله في الصفحة نفسها (وأنه حيث حكم في حياة الناس منهج آخر من وضع البشر لازمه جهل البشر وقصور البشر، كما لازمه الظلم والتناقض في صورة من الصور. ظلم الفرد للجماعة، أو ظلم الجماعة للفرد، أو ظلم طبقة لطبقة أو ظلم أمة لأمة أو جيل لجيل. وعدل الله عز وجل وحده هو المبرأ من الميل لأي من هؤلاء، وهو إله جميع العباد، وهو الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء [لا إلَهَ إلَاّ هُوَ العَزِيزُ
الحَكِيمُ] . اهـ[5] .
الآية الثانية:
قوله عز وجل: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ
عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا
الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وإن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً] [سورة
النساء: 135] .
يقول الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (يأمر تعالى عباده المؤمنين أن
يكونوا قوامين بالقسط، أي بالعدل، فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً، ولا تأخذهم
في الله لومة لائم، ولا يصرفهم عنه صارف، وأن يكونوا متعاونين متساعدين
متعاضدين متناصرين، يقول:(شُهَدَاءَ لِلَّهِ) كما قال تعالى: [وأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ]، أي: أدوها ابتغاء وجه الله، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً، خالية من
التحريف والتبديل والكتمان، ولهذا قال:[ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ]، أي: اشهد بالحق
ولو عاد ضررها عليك، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عاد ضرره عليك، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه، وقوله: [أَوِ
الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ] ، أي: وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك، فلا تراعهم
فيها، بل اشهد بالحق وإن عاد الضرر عليهم، فإن الحق حاكم على كل أحد.
وقوله: [إن يَكُنْ غَنِياً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا]، أي: لا ترعاه لغناه، ولا
تشفق عليه لفقره، فالله يتولاهما، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما.
وقوله: [فَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا]، أي: لا يحملنكم الهوى والمعصية
وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشؤونكم، بل الزموا العدل على
أي حال كان كما قال تعالى: [ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] ، ومن هذا قول عبد الله بن رواحة لما بعثه الرسول -صلى الله
عليه وسلم- على أهل خيبر يخرص عليهم ثمارهم وزروعهم، فأرادوا أن يرشوه
ليرفق بهم فقال: والله لقد جئتكم من أحب الخلق إليَّ ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم
من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم،
فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض) اهـ[6] .
ويعلق سيد قطب (549/2) على الآية نفسها بقوله: (إنها أمانة القيام بالقسط
على إطلاقه في كل حال وفي كل مجال. القسط الذي يمنع البغي والظلم في
الأرض، والذي يكفل العدل بين الناس، والذي يعطي كل ذي حق حقه، من
المسلمين وغير المسلمين، وفى هذا الحق يتساوى عند الله عز وجل المؤمنون
وغير المؤمنين، ويتساوى الأقارب والأباعد، ويتساوى الأعداء والأصدقاء،
والأغنياء والفقراء..
والمنهج الرباني يجند النفس في وجه ذاتها وفي وجه عواطفها تجاه ذاتها أولاً
[ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ] وتجاه الوالدين والأقربين ثانياً، وهي محاولة شاقة أشق بكثير
من نطقها باللسان
…
) إلى أن قال: (ثم هو يجند النفس كذلك في وجه مشاعرها
الفطرية.. أو الاجتماعية حين يكون المقصود له أو عليه فقيراً تشفق النفس من
شهادة الحق ضده، وتود أن تشهد له معاونة لضعفه. أو من يكون فقره مدعاة
للشهادة ضده بحكم الرواسب الاجتماعية كما هو الحال في المجتمعات الجاهلية،
وحين يكون المشهود له أو عليه غنيا تقتضي الأوضاع الاجتماعية مجاملته أو قد
يثير غناه وتبطره النفس ضده فتحاول أن تشهد ضده..
الآية الثالثة:
قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَاّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ] [سورة المائدة: 8] .
يعلق سيد قطب رحمه الله على هذه الآية بقوله:
(لقد نهى الله عز وجل الذين آمنوا قبل أن يحملهم الشنآن لمن صدوهم عن
المسجد الحرام على الاعتداء، وكانت هذه قمة ضبط النفس والسماحة، يرفعهم الله
إليها بمنهجه التربوي الرباني القويم، وهاهم أولاء ينهون أن يحملهم الشنآن على أن
يميلوا عن العدل، وهي قمة أعلى مرتقى وأصعب على النفس وأشق، فهي مرحلة
وراء عدم الاعتداء والوقوف عنده، تتجاوز إلى إقامة العدل مع الشعور بالكره
والبغض..) إلى أن قال - رحمه الله تعالى -: (إن النفس البشرية لا ترتقي هذا
المرتقى قط إلا حين تتعامل في هذا الأمر مباشرة مع الله عز وجل حين تقوم لله
متجردة عن كل ما عداه، وحين تستشعر تقواه وتحسُّ أن عينه على خفايا الضمير
وذات الصدور) اهـ باختصار [7] .
الآية الرابعة:
قوله تعالى: [وإذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى][الأنعام: 152] .
يعلق سيد قطب رحمه الله على هذه الآية فيقول:
(وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري - وقد ربطه بالله ابتداءً - إلى مستوى
سامق رفيع على هدى من العقيدة في الله ومراقبته.. فهنا مزلة من مزلات الضعف
البشري، الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكافل
والامتداد، بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل وفى قوة القرابة سند لضعفه وفى
سعة رقعتها كمال لوجوده، وإن امتدادها جيلاً بعد جيل حماية لامتداده، ومن ثم
يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم أو القضاء بينهم
وبين الناس، وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة
الحق والعدل على هدى من الاعتصام بالله وحده، ومراقبة الله وحده، إكتفاءً به من
مناجزة ذوي القربى وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه وهو سبحانه أقرب
إلى المرء من حبل الوريد) اهـ[8] .
أما الأحاديث الواردة في الحث على العدل وتجنب الظلم والبغي فكثيرة جداً
نقتصر على بعضها:
الحديث الأول:
ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما أنه قال:
(نحلني أبي نحلاً، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه ليشهده على صدقتي فقال: أكل ولدك
نحلت مثله؟ فقال: لا. فقال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، وقال: إني لا أشهد
على جور. قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة [9]
الحديث الثاني:
روى البخاري عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم: (كل سُلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع
فيه الشمس، يعدل بين اثنين صدقة) [10] .
الحديث الثالث:
ثبت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في: العسر واليسر،
والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن
نقول الحق أينما كان، لا نخاف في الله لومة لائم) وزاد النسائى: (وعلى أن نقول
بالعدل أين كنا) [11] .
الحديث الرابع:
روى الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين عند الله على منابر من نور على
…
يمين الرحمن - وكلتا يديه يمين - الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما
ولوا) [12] .
الحديث الخامس:
روى النسائي والحاكم في مستدركه عن عمار بن ياسر رضي الله عنه
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء: (اللهم بعلمك
الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت
الوفاة خيراً لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق
والعدل في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا
ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد
الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، وأسألك الشوق إلى لقائك، في غير ضراء
مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين) [13] .
أقسام العدل:
ينقسم العدل حسب متعلقاته إلى الأقسام التالية:
1-
أعظم العدل:
وهو توحيد الله عز وجل لا شريك له، وهو الحق الذي قامت به السموات
والأرض، ومن أجله خلق الله الخلق، قال الله عز وجل: [ومَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ
والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إلَاّ بِالْحَقِّ ولَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ]
[الدخان: 38 - 39] . وقال تعالى: [مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ والأَرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا إلَاّ
بِالْحَقِّ وأَجَلٍ مُّسَمًّى والَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ] [الأحقاف: 3] .
ويقابل هذا القسم من العدل: أعظم الظلم، وهو الإشراك بالله عز وجل،
والكفر به، حيث قال الله عز وجل: [وإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا
تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] [لقمان: 13] . ومثله قول الله تعالى: [الَذِينَ
آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 82] .
وقوله تعالى: [والْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ][سورة البقرة: 254] .
2 -
العدل مع النفس:
ويدخل في هذا العدل: قيامه بالأمانة التي كلفه الله عز وجل بها، وذلك فيما
بين العبد وربه من الالتزام بأوامره واجتناب نواهيه من غير إفراط ولا تفريط،
ويقابل هذا القسم من العدل: ظلم العبد لنفسه بارتكابه ما حرم الله عز وجل مما
هو دون الشرك -، أو تركه ما أمر الله عز وجل مما يتعلق به نفسه، ولا يتعدى
إلى غيره، وهذا النوع من الظلم من أخف أنواع الظلم؛ حيث إن صاحبه قد يتوب
منه فيتوب الله عليه، ولو مات عنه بدون توبة فإنه تحت المشيئة، بينما الظلم
العظيم - وهو الشرك بالله - لو مات عليه فلن يغفر الله له، كما قال تعالى: [إنَّ
اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ] [النساء: 48] . وهو
أخف من ظلم العباد؛ لأنه يشترط في التوبة من ظلم العباد رد الحقوق إلى أهلها
واستباحتهم منها.
3-
العدل مع العباد:
وهذا النوع من العدل هو الذي يهمنا في هذا البحث، والقسمان السابقان ليس
هنا موضع تفصيلهما، ويقابل هذا القسم من العدل ظلم العباد واعتداء بعضهم على
بعض، سواء في القول أو الفعل، وسنذكر في هذا القسم - إن شاء الله - بعض
مقتضيات ولوازم هذا العدل، مع الإشارة في أثناء ذلك إلى بعض المواقف المؤسفة
التي تنافي العدل والإنصاف، مع ذكر المنهج الشرعيّ الذي ينبغي سلوكه حيال هذه
المواقف.
ويحسن بنا قبل ذكر هذه اللوازم أن نقدم لها بكلام نفيس للإمام ابن القيم -
رحمه الله في مدارج السالكين حول (منزلة الخلق) . يقول رحمه الله:
(وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها:
الصبر، العفة، الشجاعة، العدل.
فالصبر: يحمله على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم، والأناة، والرفق، وعدم الطيش والعجلة.
والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح من القول والفعل، وتحمله على
الحياء، وهو رأس كل خير، وتمنعه من: الفحشاء، والبخل، والكذب، والغيبة،
والنميمة.
والشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى
البذل والندى، الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب ومفارقته،
وتحمله على كظم الغيظ والحلم. فإنه بقوة نفسه وشجاعتها يمسك عنانها، ويكبحها
بلجامها عن النزع والبطش. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد
بالصرعة، إنما الشديد: الذي يملك نفسه عند الغضب) ، وهو حقيقة الشجاعة،
وهو ملكة يقتدر بها العبد على قهر خصمه.
والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط
والتفريط، فيحمله على خلق الجود والسخاء الذي هو توسط بين الذل والقِحة،
وعلى خلق الشجاعة، الذي هو التوسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي
هو التوسط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس. ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من
هذه الأربعة.
ومنشأ جميع الأخلاق السافلة، وبناؤها على أربعة أركان: الجهل، والظلم،
والشهوة، والغضب.
فالجهل: يريه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن. والكمال
نقصاً والنقص كمالاً.
والظلم: يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع
الرضى، ويرضى في موضع الغضب، ويحجم في موضع الإقدام، ويقدم في
موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في
موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع.
والشهوة. تحمله على الحرص والشح والبخل، وعدم العفة والنَّهمة والجشع،
والذل والدناءات كلها.
والغضب: يحمله على الكبر والحقد والحسد، والعدوان والسَفَه.
ويتركب من بين كل خلقين من هذه الأخلاق: أخلاق مذمومة. وملاك هذه
الأربعة أصلان: إفراط النفس في الضعف، وإفراطها في القوة فيتولد في إفراطها
في الضعف: المهانة والبخل، والخسة واللؤم، والذل والحرص، والشح وسفساف
الأمور والأخلاق.
ويتولد من إفراطها في القوة الظلم والغضب والحدة، والفحش والطيش.
ويتولد من تزوج أحد الخلقين بالآخر أولاد غيَّة كثيرون. فإن النفس قد تجمع
قوة وضعفاً. فيكون صاحبها أجبر الناس إذا قدر، وأذلهم إذا قهر، ظالم عنوف
جبار، فإذا قهر صار أذل من امرأة: جبان عن القويّ، جريء على الضعيف.
فالأخلاق الذميمة: يولد بعضها بعضاً، كما أن الأخلاق الحميدة: يولد بعضها بعضاً.
وكل خلق محمود مكتنفٌ بخلقين ذميمين وهو وسط بينهما. وطرفاه خلقان
ذميمان، كالجود: الذي يكتنفه خلقا: البخل والتبذير. التواضع: الذي يكتنفه خلقا: الذل والمهانة والكبر والعلو [14] .
*يتبع *
(1) مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية 14/38.
(2)
مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيميه 10/98.
(3)
المصدر السابق، 16/96.
(4)
مجموع الفتاوى 55/1، 4 ا/ 179.
(5)
في ظلال القرآن 1/55 ط دار المعرفة اللبنانية.
(6)
- تفسير ابن كثير 2/214 ط دار الفكر.
(7)
في ظلال القرآن 6 / 667.
(8)
في ظلال القرآن 8/426.
(9)
فتح الباري ج هـ، رقم الحديث 2587، ط السلفية.
(10)
المصدر السابق، رقم الحديث 2707.
(11)
صحيح البخاري 13/167 باب كيف يبايع الناس، النسائي 7/37 في البيعة على السمع والطاعة.
(12)
مسلم 2827 (الإمارة) باب فضيلة الإمام العادل.
(13)
سنن النسائي، شرح السيوطي وحاشية السندي 3/55 باب الدعاء بعد الذكر، ط دار إحياء التراث.
(14)
ج 2، ص 308 من مدارج السالكين تحقيق محمد حامد الفقي، ط دار الكتاب العربي.
تعريف الملأ في الفكر الإسلامي
(من صفات الملأ)
عثمان جمعة ضميرية
لو عدنا إلى القرآن الكريم، وتتبعنا الآيات الكريمة، التي يتحدث الله تعالى
فيها عن أولئك الملأ ومواقفهم من الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، لوضعنا أيدينا
على مفتاح شخصية أولئك الملأ وتعرفنا على صفاتهم، وسنشير فيما يلي إلى
أهم هذه الصفات، ولعلّ الحديث - فيما يأتي - عن وسائل الملأ في محاربتهم لدعوة الرسل والصَّد عنها، يعطينا ملامح أخرى لشخصية الملأ وصفاتهم أيضاً.
أولاً - الملأ يستكبرون في الأرض بغير الحق:
وتلك شنشنة قديمة نعرفها من الملأ، الذين نصبوا أنفسهم دعاة للضلال
والصد عن الدعوة ولمعاداة الأنبياء والكفر بهم، فقد أخذتهم، العزة بالإثم عندما
بعث الله تعالى لهم رسلاً من البشر، يدعونهم إلى الله تعالى وتوحيده وعبادته،
فاستنكفوا عن ذلك، وقعدوا بكل صراط يوعدون ويكذبون، ويصدون عن سبيل الله
من آمن ويبغونها عوجاً، فاستحقوا - بذلك - الخلود فى النار:
[إنَّ الَذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا واسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ ولا
يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ وكَذَلِكَ نَجْزِي المُجْرِمِينَ]
…
[الأعراف: 40] .
وقد وصف الله تعالى أولئك الملأ بالاستكبار، حتى أصبح ذلك وصفاً لازماً
لهم، وها هي الآيات القرآنية الكريمة تحدِّثنا عن موقف أولئك الملأ من أنبيائهم،
عليهم الصلاة والسلام، واستكبارهم عن اتباع الهدى:
أ - فالأشراف والسادة المستكبرون من قوم نوحٍ عليه السلام، يكذِّبون
نوحاً؟ لأن أتباعه من البشر، بل هم من فقراء البشر وأراذل القوم - بزعمهم -
من أصحاب المهن البسيطة، كالباعة والحاكة، وغيرهم، ولذلك فالسادة
المستكبرون يأنفون أن يكونوا معهم فى دعوة واحدة، وفي صف واحد يجمعهم:
[ولَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلَى قَوْمِهِ إنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) أَن لَاّ تَعْبُدُوا إلَاّ اللَّهَ
إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ المَلأُ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلَاّ
بَشَراً مِّثْلَنَا ومَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلَاّ الَذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ومَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن
فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ] [هود: 26 - 27] ، [قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ]
[الشعراء: 111] .
وكأنهم طلبوا من نوح عليه السلام أن يطرد المؤمنين عنه؛ احتشاماً
ونفاسة منهم وأنفة أن يجلسوا معهم -تماماً كما طلب سفهاء قريش من النبي - صلى
الله عليه وسلم - أن يطرد عنه جماعة من الضعفاء، ويجلس معهم مجلساً خاصاً -
ولكن نوحاً عليه السلام أجابهم بما حكاه الله تعالى عنه، فقال:
[ومَا أَنَا بِطَارِدِ الَذِينَ آمَنُوا إنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ ولَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ
…
(29)
ويَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إن طَرَدتُّهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ] [هود: 29-30] .
[ومَا أَنَا بِطَارِدِ المُؤْمِنِينَ (114) إنْ أَنَا إلَاّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ][الشعراء: 114- 115] .
ب -وبعث الله تعالى هوداً عليه السلام إلى عاد، وكانوا ذوي شدة وبأس
وقوة، وكأنهم قد وصلوا إلى قمة الإبداع المادي والحضارة الصناعية والرفاه -
وقتذاك - إلى حد الترف والإسراف، فاتخذوا من البناء على جوادِّ الطرق المشهورة
ما يبهر العقول، ومن البروج المشيدة والبنيان المخلد ومآخذ الماء ما يثير الإعجاب، وكل ذلك لا لحاجةٍ لهم، بل هو يفيض عن حاجتهم، فيتخذونه عبثاً وتكاثراً ولهواً
ومفاخرة:
[أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ]
…
[الشعراء: 127-128] .
فكان ذلك الثراء العريض والتقدم الصناعي، الذي أُتخموا فيه، سبباً من
أسباب استكبارهم وغرورهم واستعلائهم.. فوقفوا ضد هود عليه السلام،
وانطلق الملأ الكافر منهم -إذ كان فيهم من قد آمن بهود عليه السلام يكذِّب
ويصد عن الدعوة، وينشر الأراجيف والشائعات الكاذبة، بحجة أن هوداً - عليه
السلام - من البشر، وكيف يؤمنون لبشر مثلهم؟ :
[وإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ
(65)
قَالَ المَلأُ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وإنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ] ، [الأعراف: 65-66] .
[وقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِهِ الَذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحَيَاةِ
الدُّنْيَا مَا هَذَا إلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ ويَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) ولَئِنْ
أَطَعْتُم بَشَراً مِّثْلَكُمْ إنَّكُمْ إذاً لَّخَاسِرُونَ] ، [المؤمنون: 32-34] .
[فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً] ،
…
... [فًصِّلت: 15] .
ج - وهاهم أولاء الملأ من قوم صالح عليه السلام يدفعهم الكبر إلى
الاستعلاء والتكذيب والكفر: [قَالَ المَلأُ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوا إنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ
(75)
قَالَ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا إنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ] ، [الأعراف: 76] .
فهم كفروا بما آمن به هؤلاء المؤمنون المستضعفون، استكباراً أن يكونوا
مثلهم مؤمنين، وكأنها نكاية بهم أو مشاكسة ومعاكسة لأولئك المؤمنين المستضعفين! وكيف يرضون لأنفسهم أن يطيعوا رجلاً من البشر؛ ويصيروا مرءوسين له؟
وهم أصحاب الزعامة والسيادة والمال والثراء:
[كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًاً مِّنَّا واحِدًاً نَّتَّبِعُهُ إنَّا إذًاً لَّفِي ضَلالٍ
وسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ] ، [القمر: 23 - 25]
وكما كانت عاد في قمة التقدم الصناعي والرفاه والوفرة حتى أهلكهم الله تعالى
بسبب تكذيبهم، كذلك كانت ثمود، فقد جاءت بعدها تخلُفُها في هذا المتاع الذي أنعم
الله تعالى به عليهم وكان سبباً لاستكبارهم وكفرهم:
[واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن
سُهُولِهَا قُصُوراً وتَنْحِتُونَ الجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ
مُفْسِدِينَ] [الأعراف: 67] .
[كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ (141) إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142)
إنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ (144) ومَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ
إنْ أَجْرِيَ إلَاّ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي
جَنَّاتٍ وعُيُونٍ (147) وزُرُوعٍ ونَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وتَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ
بُيُوتاً فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ (150) ولا تُطِيعُوا أَمْرَ المُسْرِفِينَ (151)
الَذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ولا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إنَّمَا أَنتَ مِنَ المُسَحَّرِينَ
(153)
مَا أَنتَ إلَاّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ] ، [الشعراء:
141-
154] .
د -وكذلك وصف الله تعالى الملأ من قوم شعيب عليه السلام بالكبر،
فقال:
[قَالَ المَلأُ الَذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ
مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَ لَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً
إنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ومَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إلَاّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ
رَبُّنَا وسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ
وأَنتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ (89) وقَالَ المَلأُ الَذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إنَّكُمْ إذاً
لَّخَاسِرُونَ] [الاعراف: 88-90] .
هـ - وهي الصفة بعينها، يصف الله تعالى بها الملأ من قوم فرعون:
[ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى وهَارُونَ إلَى فِرْعَوْنَ ومَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا
وكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ] ، [يونس: 75] .
[ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (45) إلَى فِرْعَوْنَ
ومَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وكَانُوا قَوْماً عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وقَوْمُهُمَا لَنَا
عَابِدُونَ] ، [المؤمنون: 46-47] .
[فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ والْجَرَادَ والْقُمَّلَ والضَّفَادِعَ والدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاتٍ
…
فَاسْتَكْبَرُوا وكَانُوا قَوْماً مُّجْرِمِينَ] [الأعراف: 133] .
[ولَقَدْ جَاءهُم مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ ومَا كَانُوا سَابِقِينَ] ،
…
[العنكبوت: 39] .
و والملأ من العرب، زعماء قريش وصناديدها، كانوا يستكبرون عن
آيات الله، وقد وصفهم الله تعالى بذلك فقال:
[اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ وكُنتُمْ عَنْ
آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ] ، [الأنعام: 93] .
وفي المدينة كان المنافقون يأنفون أن يؤمنوا برسالة محمد - صلى الله عليه
وسلم -؛ لأن المؤمنين حوله هم من السفهاء بزعمهم:
[وَإذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إنَّهُمْ هُمُ
السُّفَهَاءُ وَلَكِن لَاّ يَعْلَمُونَ] ، [البقرة: 13] .
وقد كانوا إذا قيل لهم: تعالوا يستغفر لكم رسول الله صدوا وأعرضوا عما
قيل لهم استكباراً عن ذلك واحتقاراً لما قيل لهم، وكان يمثل ذلك الطاغية رأس
المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول [1]، قال الله تعالى عنهم:
[وإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ ورَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ
وهُم مُّسْتَكْبِرُونَ] ، [المنافقين: 5] .
* ونجد في السيرة النبوية نماذج لاستكبار الملأ من قريش، فيما كانوا
يطلبونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم مجلساً خاصاً،
يجلس فيه معهم وحدهم، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه، كبلال وعمار، وصهيب
وخباب، وابن مسعود، رضي الله عنهم، وليُفْرِد أولئك بمجلس على حده، فهم
يأنفون أن يجلسوا مع هؤلاء الضعفاء، ويتكبرون عليهم، فحذَّر الله تعالى نبيه -
صلى الله عليه وسلم أن يميل إلى ذلك ونهاه عنه وأمره أن يصبر نفسه في
الجلوس مع هؤلاء المؤمنين الأتقياء [2] .
[واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ
عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ
وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً] ، [الكهف: 28] .
وعن سعيد بن أبى وقاص رضي الله عنه قال: كنا مع النبي - صلى
الله عليه وسلم - ستة نفر، فقال المشركون للنبي: اطرد هؤلاء، لايجترئون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود، ورجل من هذيل، وبلال، ورجلان لست أسميهما. فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدّث
نفسه. فأنزل الله عز وجل: [ولا تَطْرُدِ الَذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وجْهَهُ] [الأنعام: 52][3] .
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: مرَّ الملأ من قريش على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار. فقالوا: يا محمد
أرضيت بهؤلاء؟ فنزل فيهم القرآن: [وأَنذِرْ بِهِ الَذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إلَى
رَبِّهِمْ] إلى قوله: [أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ][الأنعام: 51 -53][4] .
وأخرج الإمام ابن جرير الطبري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:
مرَّ الملأ من قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وعمار وبلال
وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك؛ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا؛ أنحن نكون تبعاً لهؤلاء؛ اطردهم عنك!
فلعلك - إن طردتهم - أن نتبعك! فنزلت هذه الآية: [ولا تَطْرُدِ الَذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ] إلى قوله تعالى: [وكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ] إلى آخر الآية [5] .
وأخرج أيضاً عن خباب - رضى الله عنه- في قوله تعالى:! ولا تطرد
الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه) إلى قوله: معم فتكون من
الظالمين،، قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاريّ،
فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قاعداً مع بلال وصهيب وخباب، في أناس
من الضعفاء من المؤمنين، فلما رأوهم حوله حَقَروهم، فأتوه فقالوا: إنا نحب أن
تجعل لنا منك مجلساً تعرف العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن
ترانا العرب مع هؤلاء الأعبُد. فإذا نحن جئناك فاقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد
معهم إن شئت! قال. نعم!
قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً. قال: فدعا بالصحيفة، ودعا علياً ليكتب. قال: ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بهذه الآية: [ولا تَطْرُدِ الَذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ومَا مِنْ
حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مَنَ الظَّالِمِينَ] ، ثم قال: [وكَذَلِكَ فَتَنَّا
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ] ،
ثم قال: [وإذَا جَاءَكَ الَذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ] ، فالقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة من يده، ثم دعانا، فأتيناه وهو يقول:[سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] ! فكنا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله تعالى: [واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا]
[الكهف: 28] . قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا بعد،
فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها، قمنا وتركناه حتى يقوم [6] .
وعن عكرمة، رحمه الله، في قوله تعالى: [وأَنذِرْ بِهِ الَذِينَ يَخَافُونَ أَن
يُحْشَرُوا إلَى رَبِّهِمْ] الآية، قال: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم
بن عدي، والحارث بن نوفل، وقرظة بن عبد عمرو بن نوفل، في أشراف من
بني عبد مناف من الكفار، إلى أبي طالب قالوا: يا أبا طالب، لو أن ابن أخيك
يطرد عنه موالينا وحلفاءنا، فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا [7] ، كان أعظم في
صدورنا، وأطوع له عندنا، وأدنى لاتًّباعنا إياه، وتصديقنا به! قال: فأتى أبو
طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه به، فقال عمر بن
الخطاب: لو فعلتَ ذلك حتى تنظر ما الذي يريدون وإلامَ يصيرون من قولهم؟
فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية: [وأَنذِرْ بِهِ الَذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوا إلَى
رَبِّهِمْ
…
] إلى قوله [أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ]، قال: وكانوا: بلال، وعمار بن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وصبيح مولى أسيد. ومن الحلفاء: ابن مسعود،
والمقداد بن عمرو، ومسعود بن القاريّ، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وعمرو بن
عبد عمرو ذو الشمالين، ومرثد بن أبي مرثد، وأشباههم من الحلفاء. ونزلت في
أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء: [وكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا
أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا] الآية. فلما نزلت أقبل عمر بن الخطاب فاعتذر
من مقالته، فأنزل الله تعالى ذكره: [وإذَا جَاءَكَ الَذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ
عَلَيْكُمْ] الآية [8] .
.. تعليل وتحذير
وفي تعليل موقف النبي صلى الله عليه وسلم واجتهاده في دعوة أولئك
الملأ وما أعقب ذلك من توجيهات ربانية يقول الباحث محمد عزة دروزة -رحمه
الله-:
ولقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم أن موقف الزعماء هو المؤثر في
الجمهور، وأن نطاق دعوته سوف يبقى ضيقاً، وأنها سوف تتعثر، وأن الأذى
سوف يشتدُّ على المؤمنين مادام الزعماء في هذا الموقف. وكان بعضهم معتدلاً، أو
أقل اندفاعاً في المناوأة والكيد والصدّ من بعض، فأدَّاه اجتهاده إلى بذل الجهد في
تألُّفِهم وإقامة الصِّلات معهم، بل ومسايرتهم شيئاً ما، ولو كان في ذلك بعض
الغضِّ أو الإهمال لأصحابه، على أمل كسبهم للدعوة وكسر الطوق المضروب
حولها.
وكان هذا الاجتهاد خلاف الأولى في علم الله عز وجل، فاقتضت حكمة الله
تنبيهه إلى ذلك، وإلى أن مهمته هي: الإنذار والتبشير والدعوة، والاهتمام بالذين
آمنوا به وانضووا إليه، وعدم المبالاة بالزعماء الذين امتنعوا عن الاسستجابة أو
وقفوا موقف الصدِّ والأذى؛ بسبب استكبارهم، وخبث نياتهم، وسوء أخلاقهم،
واعتباراتهم الشخصية والأسرية. وأن كل ما عليه هو أن يتلو القرآن ويدعو إلى
الله ومكارم الأخلاق. فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضلَّ فإنما يضل عليها،
وأنه ليس هو وكيلاً عليهم ولا مسؤولاً، ولا جبَّاراً ولا مسيطراً، وإنما هو منذر،
على ما جاء في آيات عديدة في سُوَرٍ عديدة، منها هذه الآيات كمثال:
1 -
[قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ومَا أنَا
عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ] [الأنعام: 104] .
2-
[قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ
ومَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ومَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108) واتَّبِعْ مَا يُوحَى إلَيْكَ
واصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ] [يونس: 107 - 109] .
3 -
[إنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَذِي حَرَّمَهَا ولَهُ كُلُّ شَيْءٍ وأُمِرْتُ
أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ (91) وأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن
ضَلَّ فَقُلْ إنَّمَا أَنَا مِنَ المُنذِرِينَ (92) وقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا ومَا رَبُّكَ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] [النمل: 91-93] .
4 -
[نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ ومَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ
وعِيدِ] [ق: 45] .
5 -
[فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ (22) إلَاّ مَن تَوَلَّى
وكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ العَذَابَ الأَكْبَرَ (24) إنَّ إلَيْنَا إيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ] [الغاشية: 21 - 26][9] .
هؤلاء أتباع الأنبياء
…
سنة ثابتة:
قال الإمام ابن كثير رحمه الله[10] :
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته
ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل، كما قال قوم نوحٍ لنوح:[ومَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلَاّ الَذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ]
الآية (هود: 27) ، وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان، حين سأله عن تلك
المسائل، فقال له: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؛ فقال: بل ضعفاؤهم.
فقال: هم أتباع الرسل [11] .
والغرض أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم، ويعذِّبون
من يقدرون عليه منهم، وكانوا يقولون: أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا؛ أي: ما
كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير، لو كان ما صاروا إليه خيراً، ويدعنا، كقولهم:
[لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إلَيْهِ][الأحقاف: 11]، وكقوله: [وإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ
آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وأَحْسَنُ نَدِياً]
[مريم: 73] .
قال الله تعالى في جواب ذلك: [وكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً
ورِءْياً] [مريم: 74] . وقال في جوابهم، حين قالوا: [أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ
بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ] [الأنعام: 53] أي: أليس هو أعلم بالشاكرين له
بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات
إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم، كما قال تعالى: [جَاهَدُوا فِينَا
لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ] [العنكبوت: 69] .
وفي الحديث الصحيح: «إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر
إلى قلوبكم وأعمالكم» [12] .
فتاريخ الرسالات السماوية وسنة الله في الدعوات، يدلان على أن الذين
يبادرون قبل غيرهم، ويسارعون إلى تصديق الرسل، عليهم الصلاة والسلام، فى
غالبيتهم من أولئك الفقراء والعبيد والمستضعفين، وهؤلاء هم الفئات المهضومة
حقوقهم، أو الذين حرموا من الامتيازات الاجتماعية أو السياسية، التي احتكرها
لأنفسهم الملأ المستكبرون الطاغون، الذين أوقعوا عليهم الظلم والاضطهاد بفعل
النظام السائد الذي يهدر آدمية الفقراء ويجعل الملأ الكبراء سادة بالفطرة، لهم على
العبيد حق السمع والطاعة والخضوع.
ويقول صاحب المنار: مضت سنة الله تعالى أن يسبق الفقراء المستضعفون
من الناس إلى إجابة دعوة الرسل واتباعهم وإلى كل دعوة إصلاح، لأنه لا يثقل
عليهم أن يكونوا تبعاً لغيرهم، وأن يكفر بهم أكابر القوم المتكبرون، والأغنياء
المترفون، لأنه يشق عليهم أن يكونوا مرؤوسين، وأن يخضعوا للأوامر والنواهى
التي تحرم عليهم الإسراف الضار، وتوقف شهواتهم عند حدود الحق
…
والاعتدال [13] .
ومن الواقع التاريخي:
وإذا كانت هذه قاعدة عامة في الدعوات السماوية، كما حكاها الله تعالى في
القرآن الكريم، فإننا نجد لها أمثلة أخرى فى تاريخ البشر وواقعهم:
فقد كان في مقدمة الذين سارعوا في الدولة الرومانية إلى اعتناق المسيحية،
هم الأرقاء، لأنها وعدتهم بملكوت السماء، وأعلنت أنه ليس مقصوراً على السادة،
بل إنها أخبرتهم أن دخول الأغنياء الجنة هو أصعب من أن يلج الجمل في سم
الخياط، والمفروض أنه الغني الباغي الظالم المستكبر..
وفي التاريخ الجاهلي الحديث، كان من أكبر المؤيدين للثورة الفرنسية:
الفلاحون؛ كي تخلصهم من القيود الاقتصادية والاجتماعية التي فرضها عليهم
المُلَاّك الإقطاعيون، وأرباب الحرف والصنائع؛ لتحررهم من سيطرة نقابات
الطوائف، والعامة كي يكون لهم نصيب من الحكم الذي كان مقصوراً على الملوك
والنبلاء والفئات العليا ورجال الكنيسة [14] ، ولعل هذا يفسر شعار تلك الثورة
المعروف، وهو:(الحرية والإخاء والمساواة) الذي أطلقوه ليخدعوا به الناس
وليكسبوا الجماهير إلى صفهم.
.. جاهلية قديمة جديدة..
ورغم الدعوات التي يطلقها كثير من الناس في الشرق والغرب، يزعمون
فيها أنهم دعاة تحرر الإنسان وأنهم جاؤوا لينقذوا الضعفاء والمهضومة حقوقهم،
وأنهم أنصار حقوق الإنسان، وأنهم سند لحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومن
أجل ذلك أنشئت المنظمات الدولية وما تفرع عنها من مجالس ومنظمات.. رغم هذا
فإنهم هم الذين يكرسون الظلم والعدوان ويزدرون الضعفاء حتى ولو كانوا يجلسون
بجانبهم في مقعد من مقاعد منظماتهم التي اصطنعوها لتكون أداة سيطرة على
الآخرين.
يقول صاحب: (منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله) :
ومازال لهذه الطبقية الشاذة الهمجية جذور راسخة في عصرنا الذي يسمى
بعصر التقدم والمدنية:
-فبعض المنسوبين إلى أهل العلم يتطاولون على الذين لا علم عندهم! .
- والأغنياء المترفون - الرأسماليون والإقطاعيون - يحتقرون العمال
الكادحين والفقراء المدقعين، ولو كانوا أصحاب مواهب فذة! ! .
- وأرباب الوظائف الكبيرة يزدرون عامة الناس، ويتخذون من أنفسهم أرباباً
من دون الله! ! .
وهذه كلها مقاييس جاهلية، مهما نعق دعاتها بالمساواة والعدل.. ولله سبحانه
وتعالى مقياس ثابت لا يتزعزع: [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ][الحجرات: 13] .
إن المتقين أعزُّ خلق الله، وأرفعهم شأناً، ولو كانوا شعثاً غبراً لا يملكون مالاً
أو جاهاً.. فهم مؤمنون أتقياء وكفاهم ذلك نسباً وشرفاً
…
درس للدعاة..
وإذا كان الاستكبار في الأرض بغير الحق، والاستعلاء على الناس، عقبة
أمام كل دعوة وإصلاح، وجسراً إلى النار، وسبباً للهلاك والبوار، فينبغي على
المؤمنين عامة، والدعاة خاصة، أن يكونوا على حذر من الكبر والغرور، وأن
يرتقوا إلى أفق مشرقٍ وضيء، فيكونوا من الموطئين أكنافاً الذين يَأْلَفُون ويُؤْلفون،
وأن يطامنوا من كبريائهم، وأن يخفضوا جناحهم لإخوانهم المؤمنين، فيدخلون في
زمرة عباد الرحمن الذين يمشون في الأرض هوناً، وعندئذ يمدون أبصارهم للدار
الآخرة التي جعلها الله تعالى للمؤمنين المتواضعين: [تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا
لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُواً فِي الأَرْضِ ولا فَسَاداً والْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ] [القصص: 83] .
وما أعظم ما أدبَّنا الله تعالى به، عندما اقتلع من نفوسنا كل بذرة تنبت الكبر
في نفس صاحبها! وما أعظم أدب الإسلام عندما جعل في نفس كل إنسان وازعاً
ونوراً يستضيء به، وحكماً عدلاً لا يخطئ الصواب يقضي بأن الكبر تزوير
للحقيقة وتعالٍ على الناس بدون حقٍ.. إذ لا شيء، مما يتيه به الإنسان فخراً على
الآخرين، ويتكبر عليهم بسببه، يسوِّغ له ذلك ويبرره.
* أرأيت العلم الذي تُفاخِر به وتتكبر؟ إنه من عند الله سبحانه، ومهما أوتيت
منه فلن تبلغه كله:
[وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا][البقرة: 31] .
[وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ][يوسف: 76] .
[ومَا أُوتِيتُم مِّنَ العِلْمِ إلَاّ قَلِيلاً][الإسراء: 85] .
* أرأيت إلى الملك والسيادة والزعامة؟ إنها بقدر من الله تعالى، وهو
ينزعها منك متى شاء:
[قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ وتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وتُعِزُّ مَن
تَشَاءُ وتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] [ال عمران: 26] .
* أرأيت إلى الرزق والمال والمتاع المادي كله؟ إنك لم تخلق منه شيئاً، فهو
كله من عند الله، وليس لك فيه إلا الكسب:
[أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ
لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)
أَفَرَأَيْتُمُ المَاءَ الَذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المُزْنِ أَمْ نَحْنُ المُنزِلُونَ (69) لَوْ
نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ] [الواقعة: 63 - 70] .
* وحتى الطاقة التي تستخدمها وتُسَخّرها لتيسير سبل الحياة لديك.. إنها هبة
من الله تعالى ومنحة للبشر:
[أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَتِي تُورُونَ (71) أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ المُنشِئُونَ
(72)
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ومَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ] [الواقعة: 71 - 73] .
* وماذا بقي لديك؟ الحسب والنسب؟ فهل لك في ذلك إرادة واختيار؟ هل
كنت بمحض إرادتك من
بني فلان أو من بنى فلان آخر
…
؟ وما الذي يميزك عن غيرك، والكل
يمتون بالنسب إلى أصل واحد.. إلى آدم عليه السلام:
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] [الحجرات: 13] ، «والناس كلهم لآدم وآدم من تراب» [15] .
فماذا بقي بعد هذا كله؟ ماذا بقي لك تتكبر به على الآخرين إلا العجز
والضعف ومعرفة الأصل الذي كنتَ والنهاية التي إليها تصير؟ .
فلتعد إلى نفسك، ولتضعها في مكانها، ولا ترفعها إلى ما لا تستحق، وليكن
لك برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.
(1) انظر: تفسير ابن كثير 2/ 372 - 377، 4/370 - 373، دار الفكر، بيروت.
(2)
انظر: تفسير ابن كثير 2/81.
(3)
أخرجه الإمام مسلم في فضائل الصحابة برقم (46) ، وابن ماجه في الزهد برقم (4128)، وقال الشيخ محمود شاكر في تعليقه على الطبري: 11/ 379: خرجه السيوطي في الدر المنثور، وزاد نسبته لأحمد وابن أبي حاتم وابن حبان وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم والحاكم والفريابي وعبد ابن حميد والنسائي وابن المنذر.
(4)
مسند الإمام أحمد: 1/420.
(5)
أخرجه الطبري في التفسير: 11/574 - 575، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 7/20: رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح، غير كردوس، وهو ثقة، ونسبه السيوطي لابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية، انظر: تفسير الطبري بتحقيق وتعليق محمود شاكر، في الموضع نفسه.
(6)
الطبري 11/376 - 377، وابن ماجه برقم (4127) في الزهد، قال المحقق: في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات وقد روى مسلم والنسائي والمصنف بعضاً من حديث سعد بن أبي وقاص وقال ابن كثير في التفسير 2/ 136:(وهذا حديث غريب فإن هذه الآية مكية والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر) ونسبه السيوطي أيضاً لابن أبي شيبة وأبي يعلى وأبي نعيم في الحلية وابن المنذر وأبي الشيخ، وابن مردويه والبيهفي في الدلائل انظر: تعليق محمود شاكر على الطبري (11/377) .
(7)
العسفاء: جمع (عسيف) ، وهو العبد، والأجير المستهان به.
(8)
أخرجه الطبري بإسناده عن عكرمة في التفسير: 11/379 - 380.
(9)
انظر بحثه القيم عن: (معركة النبوة مع الزعامة) ص 246 - 248، وهو البحث المقدم للمؤتمر العالمي الثالث للسيرة النبوية عام 1400 هـ بالدوحة، ومنشور في البحوث والدراسات المقدمة للمؤتمر 6/407 وما بعدها، الطبعة الأولى 1401 هـ.
(10)
تفسير ابن كثير 2/136.
(11)
القصة بكاملها في البخاري، كتاب بدء الوحي رقم (7) ، فتح البارى 1/31 - 33 وفي مواضع أخرى منه، ومسلم في الجهاد والسير، برقم (74) 3/ 1393 - 1397، والإمام أحمد في المسند: 1/262.
(12)
أخرجه الإمام مسلم في البر والصلة برقم (2564) ، والإمام أحمد في المسند 2/285 و 539، وابن ماجه في السنن، كتاب الزهد برقم (4143) ، والبغوي في شرح السنة برقم (4150) 14/34.
(13)
تفسير المنار للسيد رشيد رضا: 8/504.
(14)
انظر: التفسير القرآني للتاريخ، د راشد البراوي: ص 158.
(15)
أخرجه الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، وإسناده حسن، مشكاة المصابيح بتحقيق الشيخ الألباني: 3/1373.