المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العقيدة الإسلاميةتاريخ النشأة وعوامل التدوين - مجلة البيان - جـ ٥١

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌العقيدة الإسلاميةتاريخ النشأة وعوامل التدوين

‌العقيدة الإسلامية

تاريخ النشأة وعوامل التدوين

عثمان جمعة ضميرية

ألمحنا في العدد السابق إلى أن الصحابة - رضوان الله عليهم - لم يكونوا

بحاجة إلى تدوين العلوم في العقيدة والشريعة وغيرهما، فقد كانوا يتلقون من النبي

الكريم مباشرة، في كل ما يتصل ويتعلق بأمور الدين والدنيا، والقرآن الكريم

يتنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فيصقل النفوس ويزكيها، ويربي الأمة، ويعالج ما يطرأ من مشكلات، ويجيب عن التساؤلات، ويحمل المؤمن على

الالتزام بالأوامر الإلهية، فيتم التفاعل مع النصوص الشرعية: قرآناً ناطقاً، وسنة

عملية حادثة.

- 1 -

وكان الجيل الأول على عقيدة نقية صافية، ببركة صحبة النبي، -صلى الله

عليه وسلم-، وقرب العهد بزمانه، ولما فُطِروا عليه من سليقة تمكنّهم من الفهم بعد

التلقي، فالقرآن الكريم يتنزل بلغتهم التي يفهمونها وتجري على ألسنتهم كما جري

الدم في عروقهم، مما جعلهم جميعاً على عقيدة واحدة لا يختلفون فيها، رغم ما قد

يقع بينهم من خلاف في بعض الأحكام الشرعية العملية الأخرى.

وقد كان الصحابة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر العبادات وما

يتعلق بها مما لله تعالى فيه أمر أو نهي، كما سألوه عن أحوال القيامة والجنة والنار

ولم يكن أحدهم يسأله عن معنى ما وصف الله به نفسه في كتابه وبما أوحى إليه من

الصفات الإلهية، كما أن أحداً منهم لم يفرِّق في الصفات بين كونها صفة ذات أو

صفة فعل، وإنما أثبتوا لله تعالى صفات أزلية تليق بجلال الله تعالى وعظمته،

فأطلقوا ما أطلقه الله تعالى على نفسه الكريمة مع نفي مماثلة المخلوقين، ولم

يتعرض أحد منهم إلى تأويل شيء من هذا. ولم يكن أحد منهم يستدل على وحدانية

الله تعالى، وعلى إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بغير كتاب الله تعالى،

وما عرف أحد منهم شيئاً من الطرق الكلامية ولا المناهج الفلسفية المتأخرة [1] .

ففي الدليل على معرفة الخالق ووحدانيته، يستدلون بقول الله تعالى: [قُلْ

مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ ومَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ

المَيِّتِ ويُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ ومَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ] [يونس: 31]

[مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن ولَدٍ ومَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلَهٍ إذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إلَهٍ بِمَا خَلَقَ ولَعَلا بَعْضُهُمْ

عَلَى بَعْضٍ] [المؤمنون: 91]

وأمثال ذلك من الآيات.

ويستدلون على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل قوله تعالى [قُل

لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ والْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ولَوْ كَانَ

بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً] [الإسراء: 88] . وأما اليوم الآخر والبعث فيستدلون عليه

بمثل قوله تعالى: [وضَرَبَ لَنَا مَثَلاً ونَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وهِيَ

رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ

] [يس: 78-79] .

لهذا كله لم يكن الصحابة والتابعون بحاجة إلى تدوين علم العقيدة أو أصول

الدين، وإلى ترتيب مباحثه كتباً وأبواباً وفصولاً، كما نجد اليوم مثلاً.

ثم جدّت بعد ذلك أمور اقتضت تدوين مسائل العقيدة في علم مستقل،

وتضافرت على هذا جملة من العوامل الداخلية والخارجية.

وفي هذه المقالة إشارات إلى ما نحسبه مؤثراً من العوامل الداخلية في نشأة

التدوين وتطوره بالنسبة لعلم العقيدة، لنخصص بعد ذلك مقالة أخرى - إن يسر الله

تعالى لنا ذلك - للعوامل الخارجية.

-2-

التحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى بعد أن ترك في هذه

الأمة ما إن تمسكت به لن تضل بعده أبداً: كتاب الله وسنة رسوله. وكان كتاب الله

تعالى محفوظاً بحفظ الله تعالى، جمعه الصحابة في صدورهم وكتبوه في الصحف،

على ما كان متيسراً من وسائل الكتابة، ليكون ذلك وسيلة لتحقيق وعد الله تعالى

بحفظه، مع وسائل أخرى، فتوفر لهذا الكتاب الكريم ما لم يتوفر لأي كتاب آخر

غيره سماوياً كان أو غير سماوي.

أما الحديث وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم تدوّن رسمياً في عهد

النبي صلى الله عليه وسلم كما دون القرآن الكريم. وكان أول من فكر بجمع

السنة وتدوينها: عمر بن عبد العزيز رحمه الله وقام الإمام الحافظ ابن شهاب

الزهري بتدوين ما سمعه من أحاديث الصحابة غير مبوب على أبواب العلم، وربما

كان مختلطاً بأقوال الصحابة والتابعين. ثم شاع التدوين في الجيل الذي يلي جيل

الزهري، في النصف الأول من القرن الهجري الثاني، مع ضم الأبواب بعضها

إلى بعض في كتاب واحد - على ما فعله الإمام مالك في (الموطأ) والبخاري

ومسلم في «صحيحيهما» وأصحاب «السنن» في كتبهم [2] .

وبعد أن كان أهل الحديث يجمعون الأحاديث المختلفة في الصحف والكراريس، أصبحوا يرتبون الأحاديث على الأبواب مثل: باب الإيمان، باب

العلم، باب الطهارة، باب الطلاق.. باب التوحيد، باب السنة، وهكذا.

فكأن هذا التبويب للأحاديث، كان النواة الأولى في استقلال كل باب - فيما

بعد - بالبحث والنظر والعناية والتدقيق وبيان الأحكام، فعن أبواب الوحي والإيمان

والسنة والتوحيد.. نشأ علم العقيدة، واستقل عن العلوم الأخرى المستنبطة من

الكتاب والسنة. هذه واحدة.

- 3 -

أما الثانية: فقد كان المسلمون عند وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه، غير من أظهر وفاقاً أو أضمر نفاقاً..

وكانوا على كلمة واحدة في جميع أصول الدين، وإنما كانوا يختلفون في فروع

مسائل كثيرة عملية، وكان اختلافهم هذا لا يورث تضليلاً ولا يوجب تفسيقاً [3] ،

لأنه في أمور لا تمس العقيدة وإنما هي مسائل فرعية، ثم هي مما لم يرد بها نص

صريح عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، أو جاءت في بعضها

نصوص مختلفة في ظاهر الأمر.

ثم اختلف الناس في أشياء اتخذها قوم من بعدهم تكأة: إمَّا للطعن في بعض

الصحابة، وإما جعلوها أساساً لنِحلتهم؛ أو استدلوا بها في مسألة من مسائلهم التي

اتخذوها شعاراً لهم، ثم تعمق الخلاف وأدى إلى نشوء جماعات متفرقة.

يقول الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله: «اختلف الناس بعد نبيهم -

صلى الله عليه وسلم -في أشياء كثيرة، ضلل بعضهم بعضاً، وبرىء بعضهم من

بعض، فصاروا فرقاً متباينين وأحزاباً متشتتين إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل

عليهم. وأول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد نبيهم -صلى الله عليه

وسلم-: اختلافهم في الإمامة.. وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم» [4] .

وبعد هذا الاختلاف قامت كل فرقة تجادل عن رأيها وتؤيده بالأدلة، وتدفع

رأي الآخرين وترد عليه؛ فوضعت في ذلك كتب ومؤلفات، فكان ذلك من عوامل

نشأة الكتابة والتدوين في هذا الجانب.

-4-

ونضيف هنا عاملاً ثالثاً: وهو: ما نجم وظهر من البدع والانحرافات عن

العقيدة الصافية التي كان عليها جيل الصحابة - رضوان الله عليهم - بعد سنين من

خلافة علي رضي الله عنه.

وقد تتبع المقريزي رحمه الله نشأة هذه البدع ورصد سيرها منذ حدوث

القول بالقدر، وتبرأ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من أصحاب هذه البدعة، وحدث أيضاً في زمنهم: مذهب الخوارج وقد ناظرهم ابن عباس واقام عليهم

الحجة. وحدث في زمنهم مذهب التشيع لعلي بن أبي طالب والغلو فيه، وقام في

زمنه عبد الله بن سبأ وأحدث القول بوصية الرسول لعلي بالإمامة من بعده، وابتدع

القول بالرجعة بعد موته.. ومنه تشعبت أصناف الغلاة من الرافضة.

ثم حدث بعد عصر الصحابة مذهب جَهم بن صفوان في نفي الصفات وإثارة

الشكوك والشبهات. وفي أثناء ذلك حدث مذهب الاعتزال، وكانت بينهما مناظرات

وفتن كثيرة متعددة أزماتها [5] ..

ولما ظهرت هذه البدع، وقف علماء السلف وأهل السنة دون عليها ويحذرون

منها، ويوضحون أصول العقيدة، ويدعون للتمسك بالكتاب والسنة. فكان ذلك

واحداً من الأسباب والعوامل التي ساعدت على تدوين العقيدة الإسلامية في كتب

خاصة.

- 5 -

وهناك عامل رابع كان له أثر في تدوين العقيدة، وهو اختلاف طبيعة المنهج

الذي سلكه المسلمون بعد عصر الصحابة في التفكير والفهم لمسائل الألوهية والعقيدة

بعامة، نشأ عنه الانشغال ببعض المشكلات التي لم تظهر مبكرة، أو لم يكن هناك

ما يدعو للانشغال بها أو التعمق في بحثها والتفكير فيها. ونشأ عن هذا ظهور كثير

من المشكلات والقضايا التي شغلت الفكر الإسلامي، وكان لها أثرها في نشوء

الفرق والكتابة حيالها.

كان موضوع التفكير في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة -

رضوان الله عليهم - هو موضوع الألوهية وما يتفرع عنها. فقد وصف الله تعالى

نفسه في القرآن الكريم وعرفنا بدلائل قدرته. كي نعبده ونسلم له؛ وصف نفسه

باعتبار ذاته: بأنه الأول والآخر، والظاهر والباطن.. وغيرها من الصفات التي

تدل على أن الله تعالى غني بنفسه محيط بكل شيء، أبدي واسع القدرة..

وباعتبار صلته بمخلوقاته: بأنه الخالق المبدئ المعيد، والبارئ المصور،

إلى غير ذلك من الصفات التي تبين أنه - سبحانه - الخالق المدبر الحكيم الذي لا

قوة ولا سلطان غير سلطانه في الوجود. وباعتبار علاقته بالإنسان، وصف نفسه

بأنه الرحمن الرحيم، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب. وباعتبار علاقة

الإنسان به وصف نفسه بأنه: المهيمن والهادي والوكيل.. وغيرها مما يدل على

احتياج العبد لربه تبارك وتعالى وخضوعه له.

كان ذلك الاعتقاد في وضوحه ونصاعته عنوان الجماعة المسلمة، به يبشرون

وعنه يدافعون، يتلقون ذلك بالتسليم دون تفتيش عن المتشابه أو تأويل لما يظن أنه

بحاجة إلى تأويل. ولكن الأمر بعد ذلك بدأ يسير على نحو آخر، فحاول المسلمون

فهم العقيدة وشرحها على نحو آخر وعلى منهج يختلف عن منهج الصحابة، وشغلوا

بالبحث عن حقيقة الإيمان وكنهه، وعن مسؤولية الإنسان وحدودها، وعن إرادة

الله التي هي فوق كل شيء..

وعندئذ جدت مسائل، وتكونت في العقيدة مشاكل، وحاولوا أن يوجدوا لها

حلاً، وكلما تأخر بهم الزمن واشتد اختلاطهم بغيرهم.. كلما تعددت المشاكل الأولى

التي نشأت في جماعتهم، وضموا إليها جديداً من المشاكل والآراء، وازداد - من

أجل ذلك - تشقق الأمة إلى شيع وأحزاب.

ظهرت مسألة الصفات، وهل هي عين الذات أو غيرها؟ .. وظهرت مسألة

القدر، وهل الإنسان مسيَّر أم مخيَّر، وهل هو مسؤول..؟ وكذلك مسألة مرتكب

الكبيرة: هل هو مؤمن أم كافر؟ ومسائل أخرى كالإمامة، وحقيقة الكفر والإيمان

وغيرها. وعن البحث في هذه القضايا وأمثالها نشأت في الجماعة الإسلامية فرق

وأحزاب: الخوارج، والشيعة، والمرجئة، والمعتزلة [6] ..

وذهبت كل فرقة تدافع عن رأيها ومعتقدها، وترد على المخالفين لها،

وتزيف ما يعتمدون عليه من دلائل.. فكان هذا من العوامل التي دفعت بأهل السنة

إلى الرد على تلك الغرق، فنشأت الكتابة في العقيدة لبيان الحق ورد الشبهات.

وإذا كانت هذه العوامل والأسباب كلها عوامل داخلية نابعة من داخل المجتمع

المسلم، فإن هناك عوامل أخرى خارجية تحتاج إلى إشارة لا يتسع هذا المقال لها،

فنرجئها إلى عدد قادم بإذن الله تعالى.

- يتبع -

(1) انظر الخطط المقريزية: 3/309 - 310، إعلام الموقعين: 1 / 49، مفتاح السعادة:

2/143، التفكير الفلسفي في الإسلام ص 119 -126.

(2)

انظر: السنة ومكانتها في التشريع، للشيخ مصطفى السباعي ص (103 -107) ، دراسات في الحديث، للدكتور الأعظمي: 1/71 وما بعدها، قواعد التحديث للقاسمى ص (70- 72) ، السنة قبل التدوين، لأستاذنا الدكتور محمد عجاج الخطيب ص 290 وما بعدها.

(3)

الفرق بين الفرق، للبغدادي ص (14) .

(4)

مقالات الإسلاميين، للأشعري ص (34) .

(5)

الخطط المقرزية: 3/310-313، ومقدمة أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي: 1/17-37.

(6)

الجانب الإلهي من التفكير الإسلامي، للدكتور محمد البهي ص (40 - 42)، وانظر الخطط المقرزية: 3/316 -317، مقدمة ابن خلدون: 2/0 83- 832.

ص: 16

كلمات في «الولاء والبراء»

عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف

من الانحرافات الظاهرة التي تبدو طافية على السطح في مثل هذه الأيام ما

نسمعه ونقرؤه من نشاط محموم ومكثف من أجل إقامة «السلام» مع يهود، وإنهاء

الصراع معهم في ظل الوفاق الدولي. ومن جانب آخر نشاهد كثرة ما يعقد في

الساحة من مؤتمرات وملتقيات للتقارب بين الأديان! والحوار والزمالة - بالذات -

بين الإسلام والنصرانية.. وتلحظ على هؤلاء المشاركين في تلك المؤتمرات ممن

يحسبون من أهل الإسلام هزيمة بالغة في نفوسهم، وحبّاً للدعة والراحة.. وكرهاً

للجهاد وتوابعه، فالإسلام دين السلام والوئام و «التعايش السلمي» ! حتى قال

أحدهم: هيئة الأمم المتحدة تأخذ بالحل الإسلامي لمعالجة المشكلات التي تواجه

الإنسانية! [1] كما تلمس من كلامهم استعداداً كاملاً للارتماء في أحضان الغرب..

فضلاً عن جهلهم المركب بعقيدة الإسلام الصحيح.. ومن أهمها عقيدة الولاء

والبراء..

وهذه المكائد والمخططات - عموماً - حلقة من حلقات سابقة تستهدف القضاء

على عقيدة البراءة من الكفار وبغضهم.. إضافة إلى كيد المبتدعة من الباطنيين

وأشباههم.. ومع هذه الحملة الشرسة والمنظمة من أجل «مسخ» عقيدة البراء

فإنك ترى - في الوقت نفسه - الفرقة والشحناء بين الدعاة المنتسبين لأهل السنة،

ولأجل هذا وذاك، أحببت أن أؤكد على موضوع الولاء والبراء من خلال النقاط

التالية.

- 1 -

إن الولاء والبراء من الإيمان، بل هو شرط من الإيمان، كما قال سبحانه:

[تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ

عَلَيْهِمْ وفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * ولَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا

اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ولَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] [المائدة: 80-81] .

يقول ابن تيمية عن هذه الآية: «فذكر جملة شرطية تقتضي أن إذا وجد

الشرط وجد المشروط بحرف (لو) التي تقتضي مع الشرط انتفاء المشروط فقال:

[ولَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ] فدل ذلك على

أن الإيمان المذكور ينفي اتخاذهم أولياء ويضاده، لا يجتمع الإيمان واتخاذهم أولياء

في القلب، ودل ذلك على أن من اتخذهم أولياء، ما فعل الإيمان الواجب من

الإيمان بالله والنبي، وما أنزل إليه..» [2] .

والولاء والبراء أيضاً أوثق عرى الإيمان، كما قال صلى الله عليه وسلم:

«أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله» رواه أحمد والحاكم.

يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: «فهل يتم الدين

أو يقام علم الجهاد، أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله

والبغض في الله.. ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة

ولا بغضاء، لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين

أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» [3] .

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على تحقيق هذا الأصل

العظيم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «أبايعك على أن تعبد الله وتقيم الصلاة

وتؤتي الزكاة وتناصح المسلمين وتفارق المشركين» رواه النسائي وأحمد.

وتأمل معي هذه العبارة الرائعة التي سطرها أبو الوفاء بن عقيل

(ت 513 هـ) :

«إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في

أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء

الشريعة، عاش ابن الراوندي والمعري عليهما لعائن الله ينظمون وينثرون كفراً..

وعاشوا سنين، وعظمت قبورهم، واشتريت تصانيفهم، وهذا يدل على برودة

الدين في القلب» [4] .

- 2 -

الولاء معناه المحبة والمودة والقرب، والبراء هو البغض والعداوة والبعد،

والولاء والبراء أمر قلبي في أصله.. لكن يظهر على اللسان والجوارح.. فالولاء

لا يكون إلا لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين كما قال سبحانه:

[إنَّمَا ولِيُّكُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا..] .. فالولاء للمؤمنين يكون بمحبتهم

لإيمانهم، ونصرتهم، والإشفاق عليهم، والنصح لهم، والدعاء لهم، والسلام عليهم، وزيارة مريضهم وتشييع ميتهم ومواساتهم وإعانتهم والسؤال عن أحوالهم، وغير

ذلك من وسائل تحقيق هذا الولاء.

والبراءة من الكفار تكون: ببغضهم - ديناً - وعدم بدئهم بالسلام وعدم التذلل

لهم أو الإعجاب بهم، والحذر من التشبه بهم، وتحقيق مخالفتهم - شرعاً -

وجهادهم بالمال واللسان والسنان، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام [5]

وغير ذلك من مقتضيات البراءة منهم [6] .

- 3 -

أهل السنة يرحمون الخلق ويعرفون الحق، فهم أحسن الناس للناس، أذلة

على المؤمنين أعزة على الكافرين، وهم في وئام تام، وتعاطف وتناصح وإشفاق

كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر، حتى

قال أحد علمائهم وهو - أيوب السَّخِتْياني -: «إنه ليبلغني عن الرجل من أهل

السنة أنه مات، فكأنما فقدت بعض أعضائي» [7] .

ولذا قال قوّام السنة إسماعيل الأصفهاني: (وعلى المرء محبة أهل السنة في

أي موضع كانوا رجاء محبة الله له، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول الله تعالى: «وجبت محبتي للمتحابين فيّ، والمتجالسين فيّ، والمتلاقين

فيّ» رواه مالك وأحمد، وعليه بغض أهل البدع في أي موضع كانوا حتى يكون ممن أحب في الله وأبغض في الله) [8] .

ولا شك أن هذا الولاء فيما بين أهل السنة، إنما هو بسبب وحدة منهجهم،

واتحاد طريقتهم في التلقي والاستدلال، والعقيدة والشريعة والسلوك،..

- 4 -

الكفار هم أعداؤنا قديماً وحديثاً سواء كانوا كفاراً أصليين كاليهود والنصارى

أو مرتدين، قال تعالى: [لا يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ

ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إلَاّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً] [آل عمران 28] .

يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: (نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن

يوالوا الكفار وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين، ثم توعد

على ذلك فقال تعالى: [ومَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ] أي ومن يرتكب

نهي الله في هذا فهو بريء من الله، كما قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا

الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً..]

[النساء 144]، وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى

أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ] [9] .

فهذه حقيقة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، وهي أن الكفار دائماً وأبداً هم أعداؤنا

وخصومناً.. كما قرر ذلك القرآن في أكثر من موضع، فقد بين الله سبحانه وتعالى

هذه الحقيقة فقال سبحانه عنهم: [لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاًّ ولا ذِمَّةً..] ، وقال

تعالى: [مَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ ولا المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ

خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ..] ، وقال سبحانه: [ودَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ

بَعْدِ إيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم..] ، هكذا حذر الله تعالى من الكفار:

[أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] .. ولكي يطمئن قلبك.. فانظر إلى التاريخ في القديم والحديث.. وما فعله الكفار في الماضي وما يفعلونه في هذه الأيام، وما قد سيفعلونه مستقبلاً.

ورحم الله ابن القيم عندما عقد فصلاً فقال: «فصل في سياق الآيات الدالة

على غش أهل الذمة للمسلمين وعداوتهم وخيانتهم وتمنيهم السوء لهم، ومعاداة

الرب تعالى لمن أعزهم أو والاهم أو ولاّهم أمر المسلمين» [10] .

- 5 -

إن الناس في ميزان الولاء والبراء على ثلاثة أصناف، فأهل الإيمان

والصلاح يجب علينا أن نحبهم ونواليهم. وأهل الكفر والنفاق يجب بغضهم

والبراءة منهم، وأما أصحاب الشائبتين ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً،

فالواجب أن نحبهم ونوليهم لما سهم من إيمان وتقوى وصلاح، وفي الوقت نفسه

نبغضهم ونعاديهم لما تلبسوا به من معاصٍ وفجور. وذلك لأن الولاء والبراء من

الإيمان، والإيمان عند أهل السنة ليس شيئاً واحداًلا يقبل التبعيض والتجزئة،

فهو يتبعض لأنه شعب متعددة كما جاء في حديث الصحيحين في شعب الإيمان

(الإيمان بضع وستون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن

الطريق) ، والأحاديث في ذلك كثيرة معلومة، فإذا تقرر أن الإيمان شعب متعددة

ويقبل التجزئة، فإنه يمكن اجتماع إيمان وكفر - غير ناقل عن الملة - في

الشخص الواحد ودليله قوله تعالى: [وإن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا..]

فأثبت الله تعالى لهم وصف الإيمان، مع أنهم متقاتلون، وقتال المسلم كفر كما في

الحديث: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر» ، وفي الحديث الآخر يقول -صلى

الله عليه وسلم-: «لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» ، فدل

ذلك على اجتماع الإيمان والكفر - الأصغر - في الشخص الواحد.

يقول ابن تيمية:

«أما أئمة السنة والجماعة، فعلى إثبات التبعيض في الاسم والحكم، فيكون

مع الرجل بعض الإيمان، لا كله، ويثبت له من حكم أهل الإيمان وثوابهم بحسب

ما معه، كما يثبت له من العقاب بحسب ما عليه، وولاية الله بحسب إيمان العبد

وتقواه، فيكون مع العبد من ولاية الله بحسب ما معه من الإيمان والتقوى، فإن

أولياء الله هم المؤمنون المتقون، كما قال تعالى: [أَلا إنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ

عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وكَانُوا يَتَّقُونَ] ) [11] .

- 6 -

موالاة الكفار ذات شعب متعددة، وصور متنوعة.. وكما قال الشيخ عبد

اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله:

» مسمى الموالاة يقع على شعب متفاوتة، منها ما يوجب الردة وذهاب الإسلام بالكلية.. ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات « [12] .

ويقول أيضاً: (ولفظ الظلم والمعصية والفسوق والفجور والموالاة والمعاداة

والركون والشرك ونحو ذلك من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة قد يراد بها

مسماها المطلق وحقيقتها المطلقة، وقد يراد بها مطلق الحقيقة، والأول هو الأصل

عند الأصوليين، والثاني لا يحمل الكلام عليه إلا بقرينة لفظية أو معنوية، وإنما

يعرف ذلك بالبيان النبوي وتفسير السنة.. إلى أن قال:» فقوله تعالى: [ومَن

يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ..] قد فسرته السنة وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة،

العامة..) [13] .

فمن شعب موالاة الكفار، التي توجب الخروج من الملة؛ مظاهرة المشركين

ومعاونتهم على المسلمين كما قال سبحانه: [ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ..]

[البقرة: 102] .

ومنها عدم تكفير الكفار أو التوقف في كفرهم أو الشك فيه، أو تصحيح

مذهبهم [14] .. فما بالك بحال من يدافع عنهم ويصفهم بأنهم إخواننا في

الإنسانية - إن كانوا ملاحدة أو وثنيين - أو (أشقاؤنا) - إن كانوا يهوداً أو

نصارى - فالجميع في زعمهم على ملة إبراهيم عليه السلام!

- 7 -

يقع خلط ولبس أحياناً بين حسن المعاملة مع الكفار - غير الحربيين -

وبغض الكفار والبراءة منهم، ويتعين معرفة الفرق بينهما، فحسن التعامل معهم أمر، وأما بغضهم وعداوتهم فأمر آخر، وقد أجاد القرافي في (الفروق) عندما فرّق

بينهما قائلاً:

«اعلم أن الله تعالى منع من التودد لأهل الذمة بقوله [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا

تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ

الحَقِّ..] الآية، فمنع الموالاة والتودد، وقال في الآية الأخرى:[لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ..] فلا بد من الجمع بين هذه النصوص، وأن الإحسان لأهل الذمة مطلوب، وأن التودد والموالاة منهي عنهما.. وسر الفرق أن عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم؛ لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام، وقد حكى ابن حزم الإجماع - في مراتبه - على أن من كان في الذمة، وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه، وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع

والسلاح.. فيتعين علينا أن نبرهم بكل أمر لا يكون ظاهره يدل على موادات القلوب ولا تعظيم شعائر الكفر، فمتى أدى إلى أحد هذين امتنع، وصار من قبل ما نهي عنه في الآية وغيرها، ويتضح ذلك بالمثل، فإخلاء المجالس لهم عند قدومهم علينا والقيام لهم حينئذ ونداؤهم بالأسماء العظيمة الموجبة لرفع شأن المنادى بها، هذا كله حرام، وكذلك إذا تلاقينا معهم في الطريق، وأخلينا لهم واسعها ورحبتها

والسهل منها، وتركنا أنفسنا في خسيسها وحزنها وضيقها كما جرت العادة أن يفعل ذلك المرء مع الرئيس والولد مع الوالد، فإن هذا ممنوع لما فيه من تعظيم شعائر الكفر وتحقير شعائر الله تعالى وشعائر دينه واحتقار أهله، وكذلك لا يكون المسلم عندهم خادماً ولا أجيراً يؤمر عليه وينهى.. وأما ما أمر من برهم من غير مودة باطنية كالرفق بضعيفهم، وإطعام جائعهم، وإكساء عاريهم، ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة، واحتمال أذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفاً معهم لا خوفاً وتعظيماً، والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة ونصيحتهم في جميع أمورهم.. فجميع ما نفعله معهم من ذلك لا على وجه التعظيم لهم وتحقير أنفسنا بذلك الصنيع لهم، وينبغي لنا أن نستحضر في قلوبنا ما جبلوا عليه من بغضنا وتكذيب نبينا صلى الله عليه وسلم، وأنهم لو قدروا علينا لاستأصلوا شأفتنا واستولوا على دمائنا وأموالنا، وأنهم من أشد العصاة لربنا ومالكنا عز وجل، ثم نعاملهم بعد ذلك بما تقدم ذكره امتثالاً لأمر ربنا..» [15] .

- 8 -

وإن من أعظم ثمرات القيام بهذا الأصل: تحقيق أوثق عرى الايمان، والفوز

بمرضاة الله الغفور الرحيم، والنجاة من سخط الجبار جل جلاله، كما قال سبحانه:

[تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ

عَلَيْهِمْ وفِي العَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * ولَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والنَّبِيِّ ومَا أُنزِلَ إلَيْهِ مَا

اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ولَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ] [المائدة: 79-80] .

ومن ثمرات القيام بالولاء والبراء: السلامة من الفتن.. قال سبحانه:

[والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ][الأنفال: 73] .

يقول ابن كثير: (أي إن تجانبوا المشركين، وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت

فتنة في الناس وهو التباس واختلاط المؤمنين بالكافرين، فيقع بين الناس فساد

منتشر عريض طويل) [16] .

ومن ثمرات تحقيق هذا الأصل: حصول النعم والخيرات في الدنيا، والثناء

الحسن في الدارين، كما قال أحد أهل العلم: (وتأمل قوله تعالى في حق إبراهيم

عليه السلام: [فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ ومَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ ويَعْقُوبَ

وكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِياً * ووَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِياً]

[مريم: 50] ، فهذا ظاهر أن اعتزال الكفار سبب لهذه النعم كلها ولهذا الثناء

الجميل - إلى أن قال - فاعلم أن فرط اعتزال أعداء الله تعالى والتجنب عنهم صلاح الدنيا والآخرة بذلك، يدل على ذلك قوله تعالى:[ولا تَرْكَنُوا إلَى الَذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ومَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ]

[هود: 113] ) [17] .

وهذا أمر مشاهد معلوم، فأعلام هذه الأمة ممن حققوا هذا الأصل قولاً وعملاً، لا زلنا نترحم عليهم، ونذكرهم بالخير، ولا يزال لهم لسان صدق في العالمين..

فضلاً عن نصر الله تعالى لهم والعاقبة لهم.. فانظر مثلاً إلى موقف الصديق -

رضي الله عنه من المرتدين ومانعي الزكاة.. عندما حقق هذا الأصل فيهم..

فنصره الله عليهم وأظهر الله تعالى بسببه الدين.. وهذا إمام أهل السنة الإمام أحمد

ابن حنبل رحمه الله يقف موقفاً شجاعاً أمام المبتدعة في فتنة القول بخلق

القرآن.. فلا يداهن ولا يتنازل.. فنصر الله به مذهب أهل السنة وأخزى المخالفين.. وهذا صلاح الدين الأيوبي رحمه الله يجاهد الصليبيين - تحقيقاً لهذا الأصل - فينصره الله تعالى عليهم ويكبت القوم الكافرين.. والأمثلة كثيرة..

فيجب على الدعاة إلى الله تعالى أن يحققوا هذا الأصل في أنفسهم اعتقاداً

وقولاً وعملاً، وأن تقدم البرامج الجادة - للمدعوين - من أجل تحقيق عقيدة الولاء

والبراء ولوازمهما.. وذلك من خلال ربط الأمة بكتاب الله تعالى، والسيرة النبوية، وقراءة كتب التاريخ، واستعراض تاريخ الصراع بين أهل الإيمان والكفر القديم

والحديث، والكشف عن مكائد الأعداء ومكرهم (المنظم) في سبيل القضاء على

هذه الأمة ودينها، والقيام بأنشطة عملية في سبيل تحقيق الولاء والبراء كالإنفاق في

سبيل الله، والتواصل واللقاء مع الدعاة من أهل السنة في مختلف الأماكن، ومتابعة

أخبارهم ونحو ذلك.

(1) د. معروف الدواليبي / انظر جريدة العالم الإسلامي بمكة عدد 1243 وانظر دور هيئة الأمم في إسقاط عقيدة الولاء في كتاب الجهاد للعلياني.

(2)

من كتاب الإيمان ص 14.

(3)

من رسالته أوثق عرى الإيمان ص 38.

(4)

من الآداب الشرعية لابن مفلح 1/268.

(5)

يقول القاضي أبو يعلي: (وكل دار كانت الغلبة فيها لأحكام المسلمين دون الكفر فهي دار الإسلام، وكل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الاسلام فهي دار الكفر) ، المعتمد في أصول الدين ص 276.

(6)

انظر تفصيل ذلك في كتاب الولاء والبراء للقحطاني، وكتاب الموالاة والمعاداة للجلعود.

(7)

الحجة في بيان المحجة للأصفهاني (قوام السنة) 2/487.

(8)

المرجع السابق 2/501.

(9)

تفسير ابن كثير 1/ 357.

(10)

أحكام أهل الذمة 1/238.

(11)

الأصفهانية ص 144.

(12)

الدرر السنية 7/159.

(13)

مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/7-10.

(14)

انظر الشفا لعياض 2/1071.

(15)

مختصراً من الفروق 3/14-15.

(16)

تفسير ابن كثير 2/316.

(17)

من كتاب منهاج الصواب في قبح استكتاب أهل الكتاب ص 52، وانظر اضواء البيان للشنقيطي 2/485.

ص: 23