الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الافتتاحية
الحق والباطل
لا يستطيع كاتب يكتب في شأن من شؤون المسلمين أن يتجاوز المحنة التي
يعاني منها المسلمون في البوسنة والهرسك، هذه المحنة التي أقضت مضاجع
المخلصين الذين يتحرقون ألماً لما يجري هناك، فبذلوا ما في وسعهم من العون
المادي والمعنوي، ولكن أنىّ لهذه الجهود المتواضعة أن ترد عادية الصرب
الصليبيين، أو ترد مكر الغربيين الذين سكتوا عن الجرائم المروعة التي تمارس
ليل نهار على مسلمي البوسنة، وهم يرونها في وسائل إعلامهم، ولكن بما أن
الضحايا مسلمون فالخطب يسير!
تفتحت عبقرية الصرب العنصرية، وظهر الحقد الدفين المتراكم منذ أن
انتصر العثمانيون عليهم في معركة «كوسوفو» وحكموا هذه البلاد. وظهرت
أوربا على حقيقتها في تعاملها مع المسائل التي تمس المسلمين، وهي السياسة نفسها
التي كانت تسلكها مع ما يسمى بـ (المسألة الشرقية) وعادت المسألة الدينية واضحة
جلية عند اليونان والرومان والروس الذين يساعدون الصرب سراً وعلناً، بالأسلحة
وغير الأسلحة، وما ذلك إلا لاتحادهم في المذهب الأرثوذكسي. وتفتحت شهية
الغرب على إعادة رسم خريطة العالم الإسلامي وبمزيد من التفتيت، ولم يكفهم ما
فعلوه بعد الحربين العالميتين من تقسيم وتقطيع، وسيكون التفتيت في هذه الأيام
على أساس العرق أو التعصب الطائفي، فكانت فكرة المحميات في العراق،
ويتكلمون الآن عن جنوب السودان، ووضعت الصومال تحت حماية الأمم المتحدة، والمخطط ينفذ وليس من قوة تعترضه، والغرب الذي يشجع هذه العصبيات
يسعى هو إلى الوحدة بشتى صورها وأشكالها.
أنىّ للمسلمين في هذه الأيام مقاومة هذا التوحش الصربي وهذا المكر الأوربي
وهم مقهورون في ديارهم وأوطانهم، يعانون الخسف والهوان من أبناء جلدتهم
وممن يتكلمون بلغتهم، وهل يستطيع المسلم في تونس أو الجزائر تقديم العون
لأخيه في البوسنة وهو يعاني ما يعاني من ظلم تندك له الجبال، والإخوة في
أفغانستان لم يستقر لهم قرار، ودخل بعضهم في دهاليز السياسة والحسابات الدنيوية
والتحالفات المشبوهة مع (البرشميين) و (الخلقيين) و (الباطنية وفروخهم
الإسماعيليين) . ونخشى إذا استمر بهم هذا الحال من التفرق أن يذهب الأمر من
أيديهم - لا سمح الله-.
هذه الأوضاع المؤلمة التي تمنع المسلمين من مساعدة إخوان لهم في البوسنة
تفرض علينا سؤالاً ملحاً - وإن لم يكن جديداً -: إذا كان المسلمون على الحق
وغيرهم على الباطل، فما الذي دهاهم وأوصلهم إلى هذه الحال، حتى أصبحوا
طعمة لكل طامع ونهبة لكل ناهب، تتناوشهم المصائب من كل مكان، وتتعاورهم
المشاكل من كل جانب، هل فعلوا كل الأسباب الواجبة شرعاً ولكنهم لم يوفقوا؛ أم
أنهم مقصرون بل ومستهترون في الأخذ بهذه الأسباب، ولذلك لم تأت النتائج
المطلوبة؟ ! إن من سنن الله في الخلق أن للباطل جولة وللحق جولات، ولا يسلط
الله أعداءه على أوليائه [ولَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً] [النساء:
141] ، وإذا تصارع الحق والباطل فالغلبة للأول قال تعالى: [كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ
الحَقَّ والْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ]
[الرعد: 17]، وقال أيضاً: [أَمْ نَجْعَلُ الَذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ
فِي الأَرْضِ] [ص: 28]، وقال: [بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ
زَاهِقٌ ولَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ] [الأنبياء: 18] .
إن تسلط أوربا على العالم الإسلامي هذه الفترة الطويلة دليل على أن هذه
الأمة لم تأخذ بأسباب القوة والعزة والاستقلال، وقد أكثر القرآن الكريم من الحديث
عن سنة الله التي لا تتبدل ولا تتحول في الذين يظلمون وفي الذين يعدلون، وأن
العاقبة للتقوى، ولا يوجد كتاب في الدنيا تكلم عن السنن الاجتماعية مثلما تكلم
القرآن، ومع ذلك تجد المسلمين أقل الناس أخذاً بهذه السنن، بل وربما وصل الأمر
ببعضهم أنه إذا تكلم بهذا الموضوع وحاول إبرازه رُمي بالبعد عن الدين، وأنه
يتكلم في أشياء ليست من الإسلام أو أنه يقلد أفكار الآخرين.
هكذا وصل بنا الحال إلى أننا لا نستفيد من حكمة القرآن وإرشاده في صراعنا
مع الأمم الكافرة وفي تنظيم حياتنا الاجتماعية، ونفهم آيات البعد عن الدنيا فهماً
خاطئاً أخذناه عن الزهد الأعجمي الذي دخل علينا مبكراً فكان له الأثر السيئ في
عدم إذكاء جذوة الصراع مع الباطل، وأنه لابد من الاستعداد الدائم والتمكن في
الأرض حتى لا يروج سوق الباطل ويفسد في الأرض.
إن أحق من يفقه هذه السنة الربانية ويأخذ بها هم الدعاة والعلماء، الذين
يصعب الآن جمعهم على مائدة الحوار والتعاون أمام الباطل المنتفش [فَلَوْلا كَانَ
مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلَاّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا
مِنْهُمْ واتَّبَعَ الَذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وكَانُوا مُجْرِمِينَ] [هود: 116] .
في إشراقة آية
[ولَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً]
د. عبد الكريم بكار
كان من جملة تسخير الله - تعالى - الكون لهذا الإنسان أن بثّ فيه سنناً تتسم
بالاطراد والثبات والشمول. وهذه السنن مبثوثة في الكون والأنفس والمجتمعات.
وإن وجود السنن رحمة من الله - تعالى - بنا؛ إذ أننا تمكنا بسببها من اختصار
كثير من الجهود التي كان علينا أن نبذلها لفهم ما حولنا والتعامل معه. ولنتصور أن
قانون إحراق النار، أو قانون الجاذبية، أو قانون تغير الحال إلى الأحسن أو الأسوأ
تبعاً لجهد الإنسان وسلوكه لم يكن ثابتاً ولا مطرداً فكيف ستكون الحال إذن؟ !
ومظهر آخر للرحمة في اطراد السنين هو أن التحول في أكثر الظواهر
الاجتماعية يتم ببطىء؛ وعمر الإنسان قصير إذا ما قيس بعمر الحضارات؛ مما
يجعله يبصر مقدمات الحدث دون نتائجه، ونتائجه دون مقدماته وأسبابه. وحينئذ
فإن من السهولة بمكان أن يصاب المرء بغبش الرؤية وضلال الأحكام.
والسنة بتجسيرها للعلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل جعلت في إمكان
المسلم أن يعرف النتائج من خلال الوقوف على الأسباب، والمقدمات من خلال
رؤية نتائجها، أي جعلت الأزمنة كتلة واحدة، وهي بهذا الاعتبار تكون قد أمنّت
للمسلم نوعاً من التواصل عبر حقب الزمان المختلفة، فالماضي لم يغادرنا حتى
ترك في حاضرنا ثقافة عصرنا وصفات وراثية محددة وظروفاً تؤطر مساحات
حركتنا اليوم. إن الماضي سيظل يظهر في الحاضر بصورة ما، وإن الحاضر
سيظل يظهر في القابل بصورة ما، وإن فيزياء التقدم عبارة عن حديث الحاضر مع
الماضي عن المستقبل.
السُنَّة: إلتحام بكل الأبعاد..
إذا كانت السنة هي الناموس العام الذي يؤمن الاستقرار والانسجام بين
جزئيات الظاهر الواحدة إذا ما توفرت بعض الشروط الموضوعية فإن هذا يعني أن
المسلم مأمور بعبور الماضي ليفهم جذور حاضره، ومأمور بتجاوز الحاضر ليمد
النظر نحو المستقبل؛ كيما يفقه الخطوة المناسبة. ونجد نصوصاً كثيرة في هذا
الأمر، كقوله سبحانه: [قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ
كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] [آل عمران: 137] . وقوله سبحانه: [قُلْ سِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ] [العنكبوت: 20] . إنها دعوة للسير في الأرض والخروج من سجن المكان
المألوف لرؤية خلق الله وإبصار سننه فيه. وبما أن المكان يرث دائماً الزمان فإننا
سوف نبصر من خلال السير في الأمكنة الكثير من الأزمنة الماضية وما خلفته لنا
من آثار خلق الله تعالى.
وقد كانت هذه الأمة تحتل في يوم من الأيام مكان الصدارة بين الأمم؛ فإذا بها
تبحث عن مكان في الذيل، فلا تجد! والخطوة الأولى نحو استعادة بعض ما فات
تتمحور حول بحث الأسباب التاريخية التي أدت بنا إلى هذه الحالة المنكورة. وهذا
يعني أن علينا أن نثابر في قراءة التاريخ المرة تلو المرة حتى نقف على جذور
الواقع الذي نعيشه إذا ما كنا جادين في تغييره نحو الأحسن.
إن ظواهر كثيرة في حياتنا ستظل غير مفهومة ما لم نعد إلى جذورها العميقة
الضاربة في القدم؛ فإذا ما نظرنا - مثلاً - في ظاهرة «ذل المسلم وخضوعه» لم
نستطع أن نفهمها ما لم نعد إلى الماضي، فإذا عدنا رأينا ما يسوِّغ ذلك، فقد صُب
عليه من صنوف التعذيب النفسي والجسدي، ومن صنوف الإذلال والإهانة وسياسة
«اسحق الذبابة بالمطرقة» ما لا يفرز إلا مسلم اليوم!
ذلك باستمرار باسم المصلحة العامة وأمن الأمة والاستقرار العام! ! لكن لا
بد من القول إن انفتاح العالم على بعضه حتى تحول إلى «قرية إعلامية» - كما
يقولون - قد جعل فهم الواقع اليوم أكثر تعقيداً. والسبب أن جزءاً من هذا الواقع
هو الذي يمكن مسُّه، أما الباقي فجذوره وخيوطه ربما كانت خارج أرضي المسلمين
كلها! !
لكن مهما يكن من أمر فإن السنة ترسم لنا المسار العام إن لم تتحفنا بالتفاصيل.
السنة وعلوم المستقبل:
هناك اليوم حركة محمومة في الغرب لدراسة المستقبل، حتى صار لديهم علم
اسمه «علم المستقبل» . وهم يصنفون المستقبل إلى مباشر، وهو يغطي مساحة
زمنية قدرها عام، ومستقبل أقرب وهو يغطي مساحة قدرها خمسة أعوام،
ومستقبل قريب يغطي مساحة قدرها عشرون عاماً، ومستقبل بعيد يمتد إلى نحو
خمسين عاماً، ومستقبل أبعد يتجاوز الخمسين. وهم لخبرتهم الحسنة بالواقع
يستطيعون مد البصر نحو المستقبل في المجالات التقنية والتنموية المادية بصورة
خاصة. لكن لاعتقادهم أن العلم هو الذي يكيف سلوك البشر، وليس الدين فإن
كثيراً من توقعاتهم سوف تكون مخيبة للآمال. وتاريخ البشرية هو تاريخ الرسالات
والشرائع وما تحدثه من دوائر الاستجابة وردود الفعل؛ وسيظل مستغلق الفهم على
من نظر إليه على غير ذلك.
وإذا كانت وظيفة الإنسان في الحياة هي الالتزام بشرع الله والقيام بإعمار
الأرض فإن القرآن الكريم يحدثنا أن هلاك الأمم الماضية لم يكن أبداً بسبب القصور
العمراني، وإنما بسبب التقصير في جانب العبودية لله تعالى والانحراف عن منهجه. وهذا ما لا يستطيع الغربيون اليوم فهمه؛ ومن ثم فإن كثيراً من دراسات المستقبل
لديهم سيظل جهاداً في غير عدو!
ونستطيع القول: إن الإسلام يربي المسلم على النظر دائماً نحو الأمام؛ فهو
منذ البلوغ إلى أن يلقى الله - تعالى - يرنو نحو المستقبل بالآخرة - بل يجعله
حكماً في حاضره بكل حركاته وسكناته. وهناك نصوص كثيرة تتحدث عن
المستقبل، وهذه النصوص منها ما يقدم الإطار العام كقوله - سبحانه -: [إنَّ اللَّهَ
لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] . وكقوله - سبحانه -: [فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً (11)
ويُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وبَنِينَ ويَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ ويَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً] [نوح: 10-12] .
ومنها ما يقدم بعض التفصيلات كإخباره صلى الله عليه وسلم عن أن الفنتة
ستأتي من قبل المشرق، وإخباره عن فشو الأمراض الغريبة في الذين تفشو فيهم
الفاحشة [1] إلخ.. وقد أوجدت معرفة السنن عند السلف حساً خاصاً بالتعامل مع
الواقع من خلال إفرازاته المستقبلية؛ فهذا أبو بكر رضي الله عنه يقول:
«لا تغبطوا الأحياء إلا على ما تغبطون عليه الأموات» وهذا تعبير مركز ينمُّ عن رؤية الأشياء المادية ونهاياتها في لحظة واحدة! !
وهذا عمر رضي الله عنه يأتيه خبر فتح خراسان، فيقول للناس في
المدينة: «لا تبدلوا، ولا تغيروا، فيستبدل الله بكم غيركم، فإني لا أخاف على
هذه الأمة إلا أن تؤتى من قبلكم» [2] . وهذا هو يؤتى إليه بغنائم «جلولاء» ،
فيرى ياقوته وجوهره، فيبكي، فيقول له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله
عنه -: ما يبكيك يا أمير المؤمنين وهذا موطن شكر؟! فيقول عمر: «والله ما ذاك
يبكيني، وتاالله ما أعصى الله هذا أقواماً إلا تحاسدوا وتباغضوا، ولا تحاسدوا إلا
ألقى الله بأسهم بينهم» [3] ! وقد كان ما خافه رحمه الله!
لماذا التعرف على السنن:
السنن ماضية قاهرة، ونحن لا نتعلمها من أجل تغييرها أو تحييدها، وإنما
من أجل الانسجام معها والعمل بمقتضاها وتلافي الاصطدام بها. والسنن مع
جبريتها لا تمنعنا من الحركة؛ إذ إن بين جبرية السنن ووسع المسلم وطوقه
مساحات واسعة تصلح للتحرك والعمل؛ فالقوانين الفيزيائية والكيميائية ثابتة، لكننا
من خلال فهمها استطعنا إيجاد الألوف من الصناعات الكيميائية والفيزيائية مستغلين
ما بينها من خلاف وتنوع.
ومشكلتنا في هذه القضية ذات رؤوس متعددة:
فهناك من هو غارق في الماضي غريب عن الحاضر، فهو يرى مقدمات
الأحداث وجذورها، دون أن يرى النتائج، فهو مغترب أبداً.
ومنا من غرق في الحاضر دون أن يعرف عن بدايات الخلق لأزماته
ومشكلاته شيئاً؛ فهو يدور في حلقة مفرغة لا يرى مخرجاً، ولا يهتدي سبيلاً.
ومنا من شهد جبرية السنن، ولم يشهد مساحات التكليف وإمكانات الحركة،
فوقف عاطلاً عن العمل هاجعاً في إجازة مفتوحة، لكنه أثرى أدب الشكوى من
الزمان والظروف وتواطؤ الأعداء بما لا مزيد عليه! !
ومنا من غرق في الأحلام الوردية؛ فهو لا يرى ما هو كائن لينطلق به إلى
ما ينبغي أن يكون؛ فهذا شاق، ويقتضي عملاً، فوجد أن التعامل مع ما حوله على
ما ينبغي أن يكون أسهل وأجمل فصار إليه!
ومنا من لم يسمع بالسنن فتفكيره إلى الخرافة أقرب، وعلمه بالإرادة الكونية
والإرادة الشرعية هباء، والحياة أمامه بعد واحد ينتهي بطريق مسدود!
واجبنا اليوم:
1 -
التركيز في معارفنا العامة على الدراسات التاريخية والنفسية والتربوية
والاجتماعية؛ لنتمكن من استجلاء أكبر عدد ممكن من سنن الله تعالى في الأنفس
والمجتمعات.
2-
بلورة مناهج للعمل الدعوي تتناسب مع تلك السنن في أساليبها وأدواتها.
3-
تربية أبنائنا وطلابنا على التفكير السنني؛ ليحل محل الأوهام والخرافات
التي عششت في أذهان كثير منهم.
4 -
محاولة القيام بتقويم سنني للأحداث الكبرى في تاريخنا والمعالم البارزة
في واقعنا المعاش.
5-
القيام بدراسات علمية مستقبلية تعتمد على ما فقهناه من سنن الله تعالى في
حركة الفرد والمجتمع.
وإذا ما فعلنا ذلك فسوف نجد الخلاص من كثير من مشكلاتنا، كما سنجد
ساحات ودروباً للحركة والعطاء. وعلى الله قصد السبيل.
(1) انظر هذه الأخبار وكثيراً نحوها في كتاب الفتن من صحيح البخاري.
(2)
الطبري 4/173.
(3)
السابق 4/30.
البيان تحاور الدكتور
جعفر شيخ ادريس
«تكملة»
قلتم: إن الفكر الإسلامي لا يمثل تحدياً فكرياً، وعنيتم بالتحدي الفكري الذي
يحمل سياسة ويتجسد بقوة، أما الفكرة فلا قيمة لها إلا بآثارها، ومثلتم ذلك
بالشيوعية التي كانت تحدياً فكرياً للغرب، هذا التحدي الفكري يحمل فكرة ويحمل
نظاماً معيناً، نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً.. فهل مثلت الفكرة الشيوعية
تحدياً للرأسمالية؟ أم هل تعني أنهم يرون فينا تجمعاً بشرياً مخيفاً فقط؟
يرون فينا - نحن المسلمين - أننا تجمع وأننا أناس رافضون للحضارة
الغربية، هذا معروف، حتى فوكوياما هذا الذي كتب كتاب «نهاية التاريخ» كان
فحوى كتابه أن كل العالم استسلم للمنهج الأمريكي في السياسة الليبرالية
والديمقراطية، وفي الاقتصاد الحر، واستثنى من ذلك العالم الإسلامي، لأنهم ما
زالوا يعتقدون أن عندهم بديلاً، لكن هل فوكوياما قرأ كتباً للمسلمين تشرح له ما
البديل الذي يرونه؟ ! هذا الذي أقصده بالفكرة، هل هنالك كتب يقرأها الغربيون
سواء بلغتهم، أو مترجمة عن اللغة العربية وشائعة بينهم كما كان الفكر الماركسي
له أنصار ليست لهم علاقة بالدولة الروسية، بل ينتقدون الشيوعية ويميزون بين
الفكر الماركسي والشيوعية، ومازال حتى بعد سقوط الشيوعية الكثير من الأفكار
الماركسية التي دخلت في الفكر الغربي: في علم الاجتماع، في علم الاقتصاد
والسياسة، وحتى في البلاد التي سقطت فيها الماركسية، لا تظنوا أن الفكر
الماركسي سيسقط كما سقط النظام الشيوعي، إنه ما زال يعيش في عقول الناس،
وهذا الذي تربوا عليه، فسيبقى عندهم وستبقى منه آثار كثيرة، وعندما كنا في
البوسنة والهرسك - قبل الحرب - قلت لإخواننا هناك: لا تخدعوا أنفسكم وتظنوا
أن سقوط الشيوعية معناه أن هذا الفكر خرج من رؤوس أبنائكم ورؤوسكم،
فالماركسية كانت تمثل تحدياً فكرياً لأنه ما من قضية من القضايا التي يناقشها
الغرب إلا لها فيها رأي مكتوب بتوسع ومعروف عند كثير من المفكرين الغربيين.
يعني كأنك ترى أن مشكلتنا أننا لسنا حاضرين حضوراً فكرياً في أذهانهم؟
نعم ولكننا حاضرون سياسياً، أناس يتجمعون، حركات أصولية..
ويخلطون بين الأصولي والقومي، لأن كل هؤلاء آتون من هذا الذي يسمونه
«الشرق الأوسط» العجيب والمعقد! إنهم ليسوا معجبين بنا، وأذكر أنه في أيام
حرب الخليج كتب أحدهم وقال: لماذا نحن مشغولون بهؤلاء الناس؟ ! إنهم لا
يستحقون منا كل هذه الانشغال، الديموقراطية تسري في العالم كله: الدول
الشيوعية، جنوب شرق آسيا، أفريقيا.. إلا هذا العالم الذي ليس فيه حاكم واحد
منتخب! وبعضهم يربط هذا بالإسلام. أنا لا أماري ولا أشكك في أنهم يخافون من
العالم الإسلامي من الناحية السياسية؛ ولكن الذي أقوله دائماً، وبعض الإخوة يختلط
عليهم الأمر أحيانا فيظنون أنني أقول إن الغرب لا يعادي الإسلام، ولا يعادي
المسلمين أو أنه صديق لهم، أنا لا أقصد ذلك، بل أعني أنه لا يعدنا تحدياً فكرياً -
وهذه مسألة أحزن لها - وأمثل لكم بمثال عندما أراد المركز الإسلامي في أكسفورد، وقد تعب بعضهم حتى وافقت الجامعة على إنشائه، فمن ضمن الأشياء التي
طرحت كاعتراض على فكرة إقامته: هل في العالم الإسلامي من يكتب بحوثاً في
مستوى أوكسفورد؟ ! وهذا لو كان في ذهنه أدنى شك ما قال هذا الكلام، والذين
أجابوا قالوا: طبعاً، هناك من يكتب، والمقصود بحوث باللغة الإنجليزية.
بما إنكم عشتم فترة طويلة في الغرب هل تتوقعون أن يسلم عدد كبير منهم
وخاصة المثقفين؟
أولاً: كما قلت لكم من الناحية الفكرية بدأت تحصل من العلوم نفسها
أشياء تزعزع الأساس الذي قام عليه الإلحاد الغربي.
ثانياً: هذه الأمراض التي انتشرت مثل الإيدز زعزعت بعض المسلَّمات عندهم، كان في الغرب شيء يسمى الحرية الجنسية، كانوا يعتقدون أن الإباحية وعدم التقيد بالزواج أمراً إنسانياً، وأنها حررت الإنسان من القيود التي قيده بها الدين ورجاله، وكانوا يعتقدون أن كل ما جاءت به الأديان هي قيود لا داعي لها، وأن
الإنسان يمكن أن يتحرر منها دون أن تعود عليه هذه الحرية بالضرر.
لكن انتشار الإيدز قضى على هذه الفكرة، حيث بدأ يعتقد كثير منهم أن
الإباحية ليست أمراً طبيعياً، وكذلك انتشار المخدرات التي ينظر إليها في أمريكا
والغرب على أنها عدوهم الأول، وأنها مع الإباحية والشذوذ الجنسي هي التي
ستقضي على حضارتهم، وليس قوى من الخارج، فكل هذا يزعزع ثقة الناس بهذه
الحضارة، فإذا جاءهم إنسان عنده بديل يحل هذه المشكلات، ويبقي لهم ما هو نافع، وما يفتخرون به من حضارتهم من تقدم علمي وتكنولوجيا، أظن أن هذا إن شاء
الله سيكون سبباً في إسلام عدد كبير منهم. المتعصبون لن يتغيروا (السياسيون) ،
لكن عامة الناس، عقول الناس ليست ملكاً لأحد، قد «يريد السياسيون شيئاً أما
عامة الناس الذين لا يعرفون عن خطر العالم الإسلامي شيئاً هم أفراد عاديون،
الإنسان منهم يريد أن ينقذ نفسه، ولو وجد من يدعوه إلى الدين الصحيح بعد أن
تزعزعت ثقته سيكون لذلك نتيجة طيبة.
ما رأيكم بالمراكز الفكرية والدعوية التي قامت في بلاد الغرب؟ وهل سيكون
لها أثر في الغرب أو في العالم الإسلامي؟
لا نحب أن نظلم هذه المراكز، لكن ليس لها دور من الناحية الفكرية، لأنها
نفسها ليست مشغولة بقضايا فكرية، وكثير من الناس فيها يعيشون هموم بلادهم،
وكثير من الجاليات الإسلامية في البلاد الأجنبية غير متمسكين بدينهم وإن كان هناك
بعض الأشياء عند المسلمين - مهما كانوا ضعفاء - تبهر الغربيين، أذكر أن تاتشر
قالت مرة إنها معجبة بالتماسك الأسري عند المسلمين، وهذا أمر يُعتز به بحمد الله، وعلى الرغم من الانحرافات الكثيرة عندنا فما زالت علاقتنا بالوالدين والأقارب
أحسن بكثير مما عندهم، وهذا قد يكون له أثر بينهم.
بما أن لكم تجربة طويلة في الدعوة في البلاد العربية هل ترون أن العمل
الإسلامي ومنذ بداية الحركة الإسلامية لم يحقق النتائج المتوقعة، هل هنالك خلل
أساسي لم ينتبه المسلمون له، أو أنهم عرفوه ولكن لم يستطيعوا إصلاحه؟
أولاً لا أقيس النجاح بالوصول إلى السلطة.
نعم ليس النجاح هو السلطة ولكن أن يكونوا قوة واضحة لها تأثيرها
وظهورها في المجتمع؟
طبعاً الحركة الإسلامية - بحمد الله - لها تأثير، وسبب جزء من هذا التأثير
جهود الإسلاميين، وجزء منه من تزعزع الغرب، مثلاً اليساريون شعروا أن
العصا التي يتكئون عليها انكسرت، فالعلمانية لم يعد لها بريق وليس لها قبول، أما
عن أخطاء الإسلاميين فقد تحدثنا عن جزء منها في الملتقى [*] ، وهي القضية التي أسميناها بقضية المنهج وأنه ليس واضحاً، كثير من الجماعات قامت على أشياء عامة من الإسلام، حتى أن الواحد منهم لا يعرف هل هو شيعي أم سني؟ وأنه لا فرق بين هذا وهذا! وهذه مسائل لا بد من الاهتمام بها، وقد كان يكفي في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وفي زمن الخلفاء الراشدين أن يقول الإنسان أنه مسلم لأن هذه الكلمة لها معنى واضح، لكن بعد أن اختلف المسلمون وظهرت الانحرافات لم يعد هذا كافياً، بل لا بد أن يحدد الإنسان أين هو في هذا البحر المتلاطم من الانحرافات والأخطاء القديمة والحديثة، وكثير من الجماعات لم يوضح هذا الأمر، وعدم وضوح التصور يؤدي إلى أخطاء في العمل.
كثير من الجماعات أيضاً موقفها حتى من ناحية التصور بالنسبة للحكام الذين
تواجههم أيضاً ليس واضحاً: هل هم مسلمون لا يجوز الخروج عليهم؟ هل هم
كفار يجب أن يخرج عليهم؟ هل حكمهم هو الكافر لكنهم بأشخاصهم مسلمون؟ !
هذه القضايا لم توضح التنظيمات ما موقعها، بعض الناس تصور تنظيماتهم كأنها
جماعة المسلمين والذي يخرج منها خرج على جماعة المسلمين، ليس هناك أهدافاً
محددة، هناك هدف عام فضفاض، وأخشى أنه حتى لو وصلت إلى الحكم - ولا
تلازم بين وضوح الأهداف وسلامتها وبين الوصول إلى الحكم فالبعثيون
والشيوعيون وصلوا إلى الحكم - فإن كثيراً من الناس سيصابون بخيبة الأمل بعد
أن يتعبوا ويصلوا إلى الحكم، ثم لا يجدون عندهم ما يقولونه للناس.
يلاحظ في السنوات الأخيرة أن شعار وحدة العمل ووحدة الصف الإسلامي
شعار مقبول من الجميع، ولكن لم يتحقق منه شيء، ما هو السبب برأيكم؟
ما المقصود بوحدة الصف؟ إذا كانت وحدة الصف معناها وحدة التنظيم فهذا
شيء متعذر وليس مفيداً أيضاً.
أن يكون هناك - على الأقل - تعاون وانسجام بدل الخلاف والتنابذ.
قال لي مرة رجل اعتبره من عقلاء الإسلاميين في العالم، وكان من جيل
المودودي، هذا الرجل كان مهتماً بالعمل الإسلامي على مستوى العالم: إن
الحركات العالمية كالشيوعية والصهيونية يجتمعون كل ثلاث أو أربع سنوات،
ويتذاكرون وينتقد بعضهم بعضاً، ويراجعون عملهم في تلك السنين، وينشرون
على الملأ الأخطاء التي وقعوا فيها، أما عندنا فيحصل خطأ في مصر، وبعد خمس
سنين يكرر في السودان، لأننا لا نعلم أنه خطأ وحدث في مصر، أتمنى أن يسعى
بعض إخواننا لمثل ذلك وقد اقترحنا هذا الاقتراح على كثير من إخواننا قبل أكثر
من عشر سنوات، وطلبنا منهم أن يجتمعوا اجتماعاً لا تصدر فيه قرارات
وتوصيات، ولا يكون من يحضره ممثلين رسميين لجماعتهم، ويحضر هذا الملتقى
أشخاص من كل جماعة يجتمعون ثلاثة أو أربعة أيام ويتذاكرون في هذه المسائل،
ويذكر كل منهم ملاحظاته على الآخر، لأن المؤمن مرآة أخيه.
وكذلك لو أن مجلتكم أو أي مجلة أخرى تتحول إلى منبر عام للمسلمين
يتساجلون فيه، ِلمَ لا يكون ذلك؟ وأن يكون هذا الخلاف فكرياً مفتوحاً لكل الناس
في الإطار الإسلامي السني، يتناقشون فيه ويقرأون كلام بعضهم.
إن ظروف الحرية الفكرية وحرية النشر قد تمنع من ذلك!
ليس من الضروري أن يدخل هذا الكلام البلاد العربية، بل ينشر في الخارج
ولا بد أن يرشح منه شيء إلى من يهتم به. وحتى لو بدأت هذه الفكرة متعثرة
فلتكن المجلة منبراً حراً ويكتب فيه كل واحد، وإن لم توزع في كل العالم الإسلامي؟ ففي بعضه، وفي البلاد الأجنبية، فهناك الآلاف من الشباب المسلم فيها.
للأسف فإننا نلاحظ قلة إقبال هذا الشباب على القراءة وبخاصة بالعربية إن
النخبة منهم يقرأون العربية أو جزء منها بالعربية وجزء بالإنجليزية، فلا بد للناس
أن يتناقشوا في القضايا المهمة.
ذكرتم أن هذا اللقاء والمنبر الحر لا بد أن يكون له إطار ما، هل ترون أنه
مما يسرع في وحدة الصف أو التعاون أن يكون هناك شيء واضح يجتمع عليه في
البداية مثلاً كالاتفاق على منهج أهل السنة والجماعة؟
هذا مما أراه في النهاية، لكن في البداية لا تجعل هذا شرطاً للكتابة في المجلة،
لأن المجلة هي نفسها وسيلة لنشر هذا الكلام ومناقشته، لأن التنظيمات الحركية
ليست جماعات فلسفية، فالجماعة الفلسفية يمكن أن يشترك فيها أناس متباينو الفكر، رغم أني لاحظت في الغرب أنه حتى في الجماعات الفلسفية هذا لا يحدث، لكن
أعني أن الجمعية الفلسفية أو الأدبية تتحمل هذا الخلاف، لأنها جامدة لا تتحرك.
لكن الجماعة التي تريد أن تتحرك لا بد لها من إطار موحد تتحرك فيه، وإلا
تقاذفتها الأمواج، ووجد الانتهازيون فرصة للفتك بها وتخريبها من الداخل خصوصاً
إذا صارت كبيرة وصار من وراءها نفع، ما أسهل على الجماعة غير محددة
الاتجاه أن لا تخترق فقط؛ بل تقاد إلى أهداف غير التي نشأت في البداية من أجلها. ولا يكفي لتحديد هذا الإطار أن يكون شيئاً كالدستور مكتوباً وينساه الناس؛ بل
لا بد أن يتربى عليه الناس حتى يستطيعوا أن يميزوا في أتباعهم المستقيم من
المنحرف، وبدون ذلك لن تكون النتائج بحجم الأهداف العظيمة التي نتحدث عنها
دائماً، كيف سنحقق تلك الأهداف إذا لم نكن على منهج محدد وواضح وصحيح؟ !
هناك من يرى أن الحركات الإسلامية في العصر الحديث، اهتمت بجانب
التجميع، ولم يكن لها تأثير اجتماعي هام: تأثير في تغيير شيء من ملامح هذا
المجتمع في مجال الصناعة أو الاستقلال الاقتصادي، ومشاركتها كانت مشاركة
المعترض على السلطة، المحتج الهارب، المسجون أو المختفي، أي تصرفات من
يعيش على هامش المجتمع.
هذا قد لا يكون ذنب الحركات الإسلامية، فالحركة إذا بدأت وضيِّق عليها
وعورضت لا تستطيع أن تؤثر خصوصاً في مسألة الصناعة التي ذكرتها، لكن في
بعض البلاد الحركة الإسلامية لها تأثير في بعض المؤسسات الاقتصادية التعليمية.
وأما أنها حتى عندما تجد الفرصة للتأثير تنشغل بالمعارضة؛ فهذا من العيوب وأنا
أفرق بين النقد وبين المعارضة، أما المعارض فينشغل طول الوقت بنقد أخطاء
الحاكم، وهذه من الأمور التي نكرر فيها الخطأ، وأفرق أيضاً بين النقد وبين
الحملة، أنت عندما تنتقد نقداً متواصلاً ولا تذكر للحاكم حسنة، هذه حملة، وقد
يتوقع أن عندك شيئاً وليس عندك شيء، كأنك تحشره وتدعوه لضربك، وهذا
حصل كثيراً في بعض البلاد ويحدث الآن، وأرى أن يضبط الناس أنفسهم في هذه
المسألة وهي صعبة جداً، لأن المعارضة سهلة ومغرية لمن يعتبرها باباً من أبواب
الجهاد، والإنسان بطبعه يحب التحدي، لكن لا بد من الموازنة بين المواجهة وفائدة
العمل على المستويات المختلفة الأخرى، لأن من الخطأ أن نظن أن مشكلة العالم
الإسلامي هي مشكلة الحكام فقط، إن المشكلة هي المجتمع بأسره، فهو المنبع لهذه
المشاكل، ولذلك فإن من السذاجة الاعتقاد بأن التخلص من حاكم هو الحل السحري
الذي سيخلص البلاد والعباد من الأزمات والعناء الذي يعانيه، ونسيان أن المجتمع
هو الرحم الفاسدة التي تحتاج إلى إصلاح، حيث لا تزال تدفع بمثل هذا الذي
نتمنى زواله. وما أشبه حالنا -من غير فخر- بالحال التي يصورها الشاعر العربي
الذي يفتخر بقومه:
وإني من القوم الذين هم همُ
…
إذا مات منهم سيد قام صاحبه
نجوم سماء كلما غاب كوكب
…
بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
إننا - مع مواجهتنا ونقدنا للسلطة - يجب أن نسعى سعياً حثيثاً لتغيير هذا
الواقع الذي يفرخ لنا هذه المصائب. كنت أظن وأنا شاب أن المشكلة هي فلان،
فذهب فلان وفلان ولم يتغير شيء، إذن المشكلة أبعد من فلان، المشكلة اجتماعية، وهذا ما يجب أن يربى عليه الشباب، حتى تتسع رؤيتهم، ولا يكون عملهم
محدوداً ضيق الأفق، وموجهاً إلى شخص معين فقط.
(*) الملتقى الثقافي الذي يقيمه المنتدى كل ستة أشهر.