الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الافتتاحية
رمضان.. موسم المراجعة
بحلول شهر رمضان المبارك من هذا العام؛ تكون مجلة (البيان) قد أشرفت
على نهاية عامها الأول، وفي هذه المناسبة الكريمة - مناسبة حلول هذا الشهر
الكريم - يستطيب للمسلم أن يجعل من رمضان علامة يقف عندها في مسيرته،
فيحاسب نفسه، ويضع خطة العمل للمستقبل.
وإنها لعادة حسنة، وعرف طيب للمسلمين، أن يتخذوا من رمضان
مغلاقاً لفترة مضت، ومفتاحاً لفترة أقبلت، فعلى حين يختم غير المسلم سنة من عمره ويفتتح سنة أخرى بالعربدة، والاستغراق في الشهوات والمعاصي، ومحاربة الله تعالى، وتعدي حدوده ومحارمه فإن المسلم شأنه شأن آخر: خشوع وإخبات، وقيام بحق الله من العبادة والشكر، وتضرع إليه تعالى ليتقبل الطاعات، ويتجاوز عن السيئات، ويسدد الخطا، وينير السبيل لعباده فيما يستقبلون من أيام.
وقد كان رمضان - ومازال - موسماً من مواسم الخير يغتنمه الأتقياء
للاستزادة من صالح العمل، ويلقي بظله الظليل على العصاة والغافلين، فيتوبون،
ويعاهدون ربهم على الإقلاع عما هم فيه، وقد يصدقون العهد، وقد يفشلون ويقعون
في مهاوي الغفلة والنسيان، فالسعيد السعيد من جعل رمضان مجدداً للعزم والطاعة، وحافزاً للتمسك بحبل الله، وفرصة يتزود فيها بزاد التقوى، والشقي الخاسر من
مرَّ به رمضان كغيره من الشهور، لم يُعِرْهُ التفاتاً، ولم يتعرض لنفحات الله -عز
وجل- فيه.
وكما وعدنا قراءنا الكرام، عند صدور العدد الأول من هذه المجلة، فإننا
نريد أن نشركهم في تجربتنا، ونطلعهم على طرف من معاناتنا.
وانطلاقاً من ذلك فإننا سنبوح لهم ببعض الصعوبات التي واجهتنا،
وتواجهنا.
1-
أول هذه الصعوبات أننا نعمل في ظروف غير طبيعية، حيث لم
نستكمل بعد كثيراً مما يتطلبه مثل هذا العمل.
2-
إن مخاطبة القارىء العربي من وراء الحدود، تربو في صعوبتها
على مخاطبته من داخل الحدود في مثل هذه الظروف الشاقة التي تحيط بنا، حيث قد وضعنا نصب أعيننا هدفاً، هو الحرص على أن تصل (البيان) إلى كل عربي، وتخاطب كل معنِيٍّ بالدعوة الإسلامية أينما وجد.
وقد حاولت تحقيق الغاية المرجوة قلباً وقالباً، شكلاً ومضموناً، ولذلك فقد
مارسنا رقابة ذاتية مضنية لتجنب مواقع الخلل ومواطن الضعف، حتى تصل
الكلمة المخلصة النظيفة التي تكون لبنة بناء لا معول هدم.
3-
إن حمى الفرقة والانشطار قد ضربت كل شيء في العالم الإسلامي، ولم
ينج منها [إلَاّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ] ، وانعكس هذا الداء الخطير على العاملين في حقل
الدعوة الإسلامية، وذلك بسبب غياب المنهج الصارم، والنظرة الواضحة المحددة
التي تقوّم بها الأمور، فما يكاد صوت يرتفع بهذه الدعوة حتى تتعالى الصيحات
والاستفسارات مشككة أو مشاغبة دون دليل أو برهان.
قد وجدنا - وسنجد - صعوبة واضحة وبسيطة، وهي: أننا لسنا دعاة
تعصب وتحزب، وليس من همنا مهاجمة هذه الجهة، أو تلك، ولا نعتقد أن
إضاعة الجهود في مثل ذلك مما يعود على المسلمين بالعزة والمنعة، وأن مجال
عملنا هو الدعوة إلى الله على بصيرة متمثلة بمنهج أهل السنة والجماعة الذي نعتقده
أنه هو المنهج الوسط الذي لا إفراط فيه، ولا تفريط، لا تطرف، ولا تهاون،
وكل دعوة أو منهج - بخلاف ذلك - فهو حائد إلى إحدى الجهتين: غلو، أو تحلل.
وإننا - على الرغم من كل الصعاب والمشكلات التي تواجهنا - ماضون
بعون الله في طريقنا، تحدونا آمال كبيرة، ويدفعنا التفاؤل إلى الأفضل، ولعل
القارئ الكريم يلحظ أن هناك تطوراً ملموساً في المجلة شكلاً ومضموناً، ونسأل
الله أن يأخذ بيدنا كي تصدر المجلة كل شهر، فالساحة الإسلامية تدعو إلى ذلك، وعلى الرغم من سوء الواقع، وكثرة المشاكل التي يرزح تحتها الجسم الإسلامي؛ فإن هناك ما يدعو إلى مضاعفة الجهد من أجل بث الوعي الإسلامي
والتعريف بالإسلام.
فالحضارة الغربية بشقيها -الرأسمالي والشيوعي- تبدو مفلسة لا معنى لها،
والمؤمن الذي يبصر بنور الله يرى ذلك ماثلاً للعيان، فشبح الزوال يحيط بهذه
الحضارة التي تفننت في ابتكار وسائل الرخاء المادي تفننها في ابتكار وسائل
التدمير، ولكنها لم تكتف أن عجزت عن تقديم شيء يداوي الروح المريضة،
ويبعث في النفس القلقة السكينة والراحة؛ بل قتلت هذه الروح، وعاشت جسماً
ضخماً يبعث الرهبة والفزع، ويحيط به العبث والخواء.
ومن جهة أخرى، فالعالم الإسلامي يتطلع إلى البديل الذي ينقذه مما عانى -
ويعاني- في ظل الأفكار غير الإسلامية، فقد مل الكبت والقهر الذي فرض عليه
من قِبل القوى الغاشمة ورموزها، وأدرك أن الأمم التي تستورد الأفكار مصيرها أن
تستجدي الغذاء والكساء وأسباب البقاء ممن لا يجود به لله، بل ابتغاء مطامع
ومكاسب، وإلا فمصيرها الاندثار والزوال، وأنه لا عاصم لهذه الأمم من هذه
النهاية البائسة، إلا أن ترجع إلى ربها، تطلب منه العون والسداد، وتثوب إلى
عقيدتها المهجورة، تستمد منها دليل العمل.
وإننا لنرى أصداء العودة تتردد في كل الجهات: على لسان الأصدقاء،
مشجعين مستبشرين، وعلى لسان الأعداء، محذرين ومتذمرين. [وإن تَصْبِرُوا
وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وإن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] [ال عمران: 120] .
التجديد في الإسلام
صحوة الجهاد
(6)
التجديد الجماعي:
كانت النتيجة التي خلص إليها الأخ الباحث الذي كتب الحلقات الأولى من هذا
الموضوع: أن التجديد بعد عمر بن عبد العزيز هو في الغالب تجديد جماعي،
فالذي يقوم به ليس رجلاً واحداً بل أكثر من واحد في كل عصر، ونقل ترجيح
الإمام ابن حجر لذلك، وهو ما رجحه الذهبي أيضاً وابن الأثير، كما نقل كلام ابن
الأثير بأن التجديد لا يلزم أن يكون من جانب الفقهاء خاصة، بل إن الأُمة تنتفع
أيضاً بأولي الأمر وأصحاب الحديث والقرّاء
…
وهذا الرأي هو الصواب -إن شاء الله- وخاصة في العصور المتأخرة التي
يصعب أن يقوم رجل واحد بأمر التجديد فيها، والعجيب أن الذين تكلموا في التجديد
لم يذكروا الولاة بعد عمر بن عبد العزيز، بل اقتصروا على العلماء، بل اقتصر
بعضهم على علماء مذهبه، وإذا كان التجديد جماعياً فما المانع أن يقوم ولاة
بالتجديد في ناحية ويقوم علماء بالتجديد في ناحية أخرى، فقد يكون تجديد الولاة
ببعث روح الجهاد في الأمة وإعادتها إلى عز بعد ذل، وهيبة وكرامة بعد إهانة،
مع أن الجهاد لابد يستتبع العلم ودراسة سيرة السلف من الصحابة والعلماء
والمجاهدين، فتعود للأمة روحها.
ما قبل الإفاقة:
ومن الأمثلة البارزة على التجديد الذي يكون ببعث روح الجهاد في الأمة
وإعادة الثقة إلى نفسها: ما قام به الملك الصالح المجاهد نور الدين محمود بن عماد
الدين زنكي، وما قام به بعده الملك المجاهد صلاح الدين الأيوبي في أواخر القرن
السادس الهجري.
وحتى نعلم قيمة ما أتى به هذان الرجلان لا بأس من أن نطل إطلالة على
العصر السابق لهما.
في أواخر القرن الخامس الهجري كان قد انتهى دور السلاجقة الكبار الذين
كان لهم دور كبير في إعادة القوة للمسلمين ومعركة (ملاذ كرد) التي انتصر فيها
(ألب أرسلان) على الروم انتصاراً ساحقاً جعلت الروم يفكرون طويلاً قبل محاولة
الاستيلاء على أي بلد من بلاد المسلمين. وجاء بعد هؤلاء أولادهم وأحفادهم
وتمزقت الدولة شرّ ممزق، وتحولت كل مدينة، بل كل حصن أو قلعة إلى دولة،
وكلٌ يحاول امتلاك أكبر عدد ممكن من الحصون، ويستنجدون بالبعيد والقريب
والعدو والصديق لحماية أنفسهم وزيادة ملكهم، فلا حصلوا دنيا ولا أقاموا ديناً،
وجاءت الحملات الصليبية إلى بلاد الشام، ولكنها لم تحرك فيهم ساكناً، بل استنجد
ملك دمشق بالصليبيين خوفاً من عماد الدين زنكي، وكذلك فعل (شاور) وزير
العبيديين في مصر، طلب الحماية من الصليبيين خوفاً من نور الدين محمود، وأما
الخلافة العباسية في بغداد فقد كانت من الضعف بمكان، ولا تستطيع أن تفعل شيئاً
في هذا السبيل.
هذه هي الحالة المؤسفة التي آلت إليها بلاد المسلمين في مطلع القرن السادس، وهي حالة تمر بها الشعوب أحياناً، فتصبح أسيرة الذل والأوهام والنظر القاصر
والأنانية المفرطة التي تؤدي إلى التكالب على الدنيا دون النظر إلى العواقب.
بعد هذا التفرق وهذا الضعف؛ جاء نور الدين محمود ومن بعده صلاح الدين، فأعادا الثقة إلى الأمة بجهادهما وإخلاصهما.
التجديد الجهادي:
إن العلامة البارزة في شخصية هذين الملكين هي الجهاد، وإن كانت لهما
مميزات أخرى من حب العلم وإقامة العدل وفتح المدارس، ومن صفات شخصية
مثل: التواضع والحلم والشجاعة، ولكن استئناف الجهاد في حياة الأمة، الذي
أصبح همهما وديدنهما هو موضع التجديد.
قال المؤرخ أبو شامة عن نور الدين: «وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة
فلم أدركها، فقال له قطب الدين النيسابوري الفقيه الشافعي: بالله لا تخاطر بنفسك
وبالإسلام والمسلمين فإنك عمادهم، فقال: يا قطب الدين، ومن محمود حتى يقال
له هذا؟» [1] . ومن حبه للجهاد أنه طلب من أمراء الجزيرة النجدة للوقوف في
وجه الفرنج، فأجابه البعض وتلكأ أحدهم ثم عزم، وعندما سئل عن السبب قال:
«لقد كاتب نور الدين الصلحاء والعلماء في الدعاء له ودعوة الناس للجهاد،
فإن لم أساعده أخذ ملكي مني» [2] .
وقال لصاحب الروم (قلج أرسلان) : «أنت مجاور الروم ولا تغزوهم وبلادك
قطعة كبيرة من بلاد المسلمين، ولابد من الغزاة معي» [3] . وأما تفاصيل غزواته
وجهاده للصليبيين وانتصاره عليهم في أكثر المعارك، واستعادة كثير من البلدان
والحصون منهم، فهو مثبت في كتب التاريخ لمن أراد الرجوع لذلك، وكان رحمه
الله يقدّرُ في نفسه أن يفتح القدس، وقد طلب تهيئة المنبر لليوم الذي يستعاد فيه
المسجد الأقصى، ولكن فاته الأجل وقدر الله ذلك للسلطان صلاح الدين. وأما
أعماله الأخرى العظيمة: فهو الذي أمر صلاح الدين بإنهاء الدولة العبيدية في مصر
وقطع الخطبة للعاضد، وأن يخطب للخلافة العباسية، وألح عليه في ذلك حتى
استجاب له [4] .
«وهو الذي جدّد للملوك اتباع سنة العدل والإنصاف وترك المحرمات،
فإنهم كانوا قبل ذلك كالجاهلية، همة أحدهم بطنه وفرجه، حتى جاء الله بدولته
فوقف مع أوامر الشرع، وبنى داراً للعدل، وخاف الأمراء من إحضارهم لهذه الدار
فأنصفوا من أنفسهم، وأنصفوا الناس خوفاً من أن يعلم بهم نور الدين» [5] .
وإذا كان صلاح الدين هو الذي أكمل هذا الاتجاه وقام به على أكمل وجه،
فإن الذي بنى هذا ومهّد له، وولّى أمثال صلاح الدين على مصر وغيرها، هو
نور الدين محمود رحمه الله.
التجديد الجهادي عند صلاح الدين:
كان أول عمل عظيم قام به هذا السلطان هو إنهاء الدولة العبيدية بمصر،
وعَزَل قضاتهم، وحوَّل سجونهم إلى مدارس لطلبة العلم، وبعد وفاة السلطان نور
الدين محمود لم يخلفه رجل قوي، مع أن المرحلة حرجة وتحتاج إلى مثل هذا
الرجل لمواجهة الصليبيين، فتصدى صلاح الدين لهذه المسؤولية، وكانت الخطوة
الرئيسية هي توحيد بلاد الشام ومصر وضم أكبر عدد ممكن من الأقاليم إلى هذه
الوحدة، فضمت اليمن والحجاز وبعض أقاليم الجزيرة، حتى يتسنى حشد الطاقات
لمقارعة الفرنجة، وجاءت سريعة نتائج هذه الوحدة مع إضافة النوايا الصادقة،
فانتصر المسلمون في (حطين) انتصاراً ساحقاً، وكان الهم الأكبر لدى السلطان هو
تخليص المسجد الأقصى من الكفرة، ففتح كل المدن الداخلية في فلسطين، وتم بعد
ذلك فتح القدس بعد أن بقيت أسيرة ما يقارب تسعين سنة. وبعد هذه الانتصارات
استولى حب الجهاد على قلبه، فأصبح شغله الشاغل وهمه القائم القاعد، فلا حديث
له إلا الجهاد، وفنون الحرب، وكيفية استصلاح القلاع، وصناعة أدوات القتال،
وألف العلماء في الجهاد وأصبح هو حدث الساعة.
وصف المؤرخ عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي الملقب بأبي شامة، وصف
صلاح الدين فقال: «كان رحمه الله شديد المواظبة على الجهاد، عظيم
الاهتمام به، ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد ديناراً ولا درهماً
إلا في الجهاد وفي الإرفاد لصدق وبرَّ في يمينه، ولقد هجرَ في محبة الجهاد في
سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسائر ملاذه، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة
تهب بها الرياح يمنة ويسرة» [6] .
وقال عنه القاضي الفاضل: «وأما صبره في الجهاد، فقد رأيته بمرج عكا
وهو على غاية من مرض اعتراه بسبب كثرة دمامل كانت ظهرت عليه من وسطه
إلى ركبتيه بحيث لا يستطيع الجلوس، ومع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى
صلاة الظهر يطوف على الأطلاب، ومن العصر إلى المغرب، وهو صابر على
شدة الألم، وكان يقول: إذا ركبتُ يزول عنِّي ألمها حتى أنزل» [7] .
وكان السلطان قد عانى الأهوال في حصار عكا الذي استمر أكثر من سنتين،
ومع ذلك صابر الكفار كل هذه المدة (ويكون هو أول راكب وآخر نازل. ومرض
وأشرف على التلف ثم عوفي) . ويضيف الذهبي: (ولعله وجبت له الجنة برباطه
…
هذين العامين) [8] . وكان في حصار القدس يحمل الحجارة بنفسه حتى اضطر
من حوله من الأمراء والوزراء إلى القيام بنفس العمل. بل تطلعت نفسه إلى أبعد
من هذا، تطلعت إلى مهاجمة هؤلاء الصليبيين في عقر دارهم، يقول لصديقه
الحميم القاضي الفاضل: «متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل، قسمت البلاد
وأوصيت، وودعت وركبت هذا البحر إلى جزائرهم، أتبعهم فيها حتى لا أبقي
على وجه الأرض من يكفر بالله، أو أموت» [9] .
بهذه النية الصالحة يسر الله استرجاع القدس، وفتح كل المدن الداخلية، ولم
يبق للصليبيين سوى بعض المدن الساحلية. وبعد الحصار الدامي حول عكا، رجع
إلى دمشق مستريحاً بعض الوقت، فوافاه الأجل صبيحة يوم الأربعاء من شهر
صفر سنة تسع وثمانين وخمسمائة. وبوفاته رحمه الله انتهت هذه الفترة من
الزخم الجهادي وتجميع قوى المسلمين وصهرهم في بوتقة عمل موحد، ولم يأت
بعده من استطاع إكمال المهمة، رغم مدافعة أولاد أخيه العادل للصليبيين، وخاصة
في مصر. ولم يتحرر بقية الساحل من الأعداء إلا في عهد المماليك.
العلماء مع صلاح الدين:
إذا كان الشغف بالجهاد وحمل هموم المسلمين وتحرير أرضهم من الكفرة هي
أبرز صفات صلاح الدين، إلا أنه حُبَي بصفات أخرى جعلته موضع احترام ومحبة
المسلمين، بل موضع احترام أعدائه من الصليبيين، وجعلت أهل دمشق يحزنون
على فراقه ما لم يحزنوا على ملك قبله.
قال كاتبه العماد الأصفهاني: «ومحافله آهلة بالفضلاء، ويؤثر سماع
الحديث بالأسانيد، حليماً، مقيلاً للعثرة، نقياً تقياً، ما ردّ سائلاً، ولا خجّل
…
قائلاً» [10] .
وقد ارتحل هو وأخوته وأمراؤُه إلى المحدث أبو طاهر السَّلفي المقيم
بالإسكندرية، وسمع منه الحديث. وقد اقترح عليه أن يسمع الحديث وهو في
المعركة بين الصفين فاستجاب لذلك.
وقد هيأ الله له بطانة صالحة من العلماء ينصحونه ويستمع لهم، منهم الشيخ
علي ابن إبراهيم بن نجا الأنصاري الحنبلي، قال أبو شامة عنه: «كان كبير
القدر معظماً عند صلاح الدين، وكان واعظاً مفسراً» [11] ..
ومنهم الحافظ القاسم بن علي بن الحسن بن عساكر، جمع كتاباً كبيراً في
الجهاد، وسمعه منه كله السلطان في سنة ست وسبعين [12] .
ومن العلماء المجاهدين مع السلطان، الفقيه عيسى الهكاري، قاتل يوم
(الرملة) قتالاً شديداً وأُسر، ثم افتداه صلاح الدين بستين ألف دينار.
ومنهم الشيخ أبو عمر المقدسي، وهو من العلماء الصالحين المجاهدين،
وكان لا يترك موقعة إلا حضرها، والشيخ عبد الله اليونيني الملقب بأسد الشام.
وكان أمّاراً بالمعروف، لا يهاب الملوك، وما فاتته غزاة.
ومن العلماء الكبار الذين عاصروا صلاح الدين ثم أخاه العادل بعدئذ والذين
يمثلون التيار العلمي المكمل للتيار الجهادي الحافظ الكبير عبد الغني المقدسي،
والعالم المجتهد الرباني ابن قدامة المقدسي صاحب كتاب (المغني) ، كما هيأ الله لهذا
السلطان وزير صدق، وكاتباً بليغاً مجدداً في الكتابة، وناصحاً مشفقاً على الأمة
الإسلامية، ألا وهو: عبد الرحيم بن علي البيساني الملقب بالقاضي الفاضل، قال
العماد الأصفهاني: «والسلطان له مطيع، ما افتتح الأقاليم إلا بأقاليد آرائه،
ومقاليد غناه وغَنائه، وكانت كتابته كتائب النصر
…
» [13] . وقال العماد يصفه: «وكان قليل اللذات، كثير الحسنات، دائم التهجد، يشتغل بالتفسير والأدب» [14] وقال الذهبي عنه: «وقد انتهت إليه براعة الترسل، وبلاغة الإنشاء، وله في ذلك اليد البيضاء والمعاني المبتكرة والباع الأطول» [15] .
وكان ناصحاً للسلطان، وإذا رأى شيئاً من المنكرات في جيشه بيَّن له ذلك
وطلب منه إزالتها، كما فعل في حصار عكا.
ومع حب صلاح الدين للعلماء وتقريبه للفضلاء، لابد أن نذكر مأثرة أخرى
له وهى: زهده وعدم اشتغاله بتثمير الأموال والضياع. قال ابن شداد كاتب سيرته: «لم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً وديناراً واحداً، ولم يخلف ملكاً لا داراً ولا عقاراً ولا بستاناً ولا مزرعة» [16] .
رحم الله صلاح الدين ونور الدين، وجزاهما الله عن الإسلام والمسلمين خير
الجزاء.
(1) الروضتين بأخبار الدولتين / 8.
(2)
ابن الأثير: الكامل 11 / 302.
(3)
المصدر السابق 11 /392.
(4)
الكامل 11/369.
(5)
الروضتين / 7 - 8.
(6)
الروضتين /221.
(7)
المصدر السابق /222.
(8)
سير أعلام النبلاء 22 / 210.
(9)
الروضتين/222.
(10)
سير أعلام النبلاء21/287.
(11)
المصدر السابق 21 /394.
(12)
المصدر السابق21/411.
(13)
سير أعلام 21 / 340.
(14)
المصدر السابق 21/343.
(15)
المصدر السابق 21/339.
(16)
الروضتين/217.