الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفليس عاصمة جورجيا
محمود السيد الدغيم
تضم جمهورية جورجيا، جمهوريتان هما جمهورية ابخازيا ذات الحكم الذاتي، وعاصمتها سوخومي [*] ، وجمهورية آجاريا ذات الحكم الذاتي أيضاً،
وعاصمتها باطوم [**] ، وعدد سكانها " 82000 " نسمة، كما تضم مقاطعة
أوسيتيا الجنوبية ذات الحكم الذاتي، وكان عدد سكان جورجيا بما تضمه من أبخازيا
وآجاريا وأوسيتيا، يساوي 4 ملايين نسمة أكثر من ثلاثة أخماسهم من الجورجيين،
وبقية السكان من الروس والأوكرانيين والأرمن وغيرهم من الشعوب " [1] ولم
يشر المؤلف إلى الشعوب الأخرى وهم الترك والآذريون والأبخاز والشركس لأنهم
من المسلمين.
لا أحد يستطيع معرفة مستقبل جورجيا هل ستستمر العواصم الثلاث - تفليس
وباطوم وسوخومي - في الاتحاد، أم ستنفصل العاصمتان الأخيرتان عن جورجيا،
ولا سيما أن الجالية الإسلامية قد عانت القهر المر على أيدي شيوعي الاتحاد
السوفييتي المنهار.
تفليس (عاصمة جورجيا) :
يحتل اسم مدينة تفليس مكاناً مرموقاً في وسائل الإعلام بسبب ما تتعرض له
من كوارث الحرب الداخلية، واستعمال وسائل الإعلام لاسم هذه المدينة العريقة
متفاوت الصحة، فبعض وسائل الإعلام تذكرها بصورة صحيحة، وبعضها يترجم
اسم تفليس دون تعريب، ودون عودة إلى المراجع العربية الصحيحة فيكتبها (تبليسي) ، ونظراً للهوة الفاصلة بين المواطن العربي وتراثه فقد أصبحت تفليس في
عداد المدن المنسية؛ شأنها شأن الكثير من المدن التي اشتهرت عبر تاريخها، ثم
خبا ذكرها مع تراجعنا عنها، حتى أصبحت مجهولة من قِبَلِ قطاع عريض من
قراء لغتنا العربية، وأصبح واجبنا - إزاء ذلك - أن نعرف بها وبماضيها
وبعلاقتها بأمتنا عَبْرَ التاريخ.
تعرف هذه المدينة باسم تبليسي (Tiblisi) في لغة الكُرْج وبعض المراجع
اللاتينية تذكرها باسم تفليسي (Tphilsi) أما المراجع والمصادر العربية فتذكرها
باسم: تفليس [***] ، ما عدا البلاذري أحمد بن يحيى، المتوفى سنة 279 هـ
فقد ذكرها في كتابه فتوح البلدان باسم " طفليس " بالطاء وليس بالتاء، وسبب
التسمية: ينابيع تفليس الحارة، فمعنى حار؛ في لغة الكُرْج: تفيلي (Tphili) ،
أما الأرمن فيطلقوا عليها اسم: تفخيس (Tpkhis) .
النسبة إلى تفليس:
" التفليسي: نسبة إلى تفليس، وهي آخر بلدة من بلاد أذربيجان، مما يلي
الثغر، خرج منها جماعة من العلماء والمُحَدِّثين، منهم: أبو بكر محمد بن إسماعيل
بن بنون بن السري التفليسي (400 - 483 هـ) .. وأبو أحمد حامد بن يوسف بن
أحمد بن الحسين التفليسي، من أهل تفليس.. وكانت وفاته بعد سنة 484هـ،
ومحمد بن بيان بن حمران المدائني التفليسي، أصله من تفليس.. وعبد الله بن
حماد التفليسي [2] ..
وذكر الذهبي، في سير أعلام النبلاء، نجم الدين ثابت بن تاوان التفليسي
المتوفى سنة 631 هـ[3] . كما ذكر محمد بن اسماعيل السري التفليسي،
المتوفى سنة 483 هـ[4] ، وأسند الذهبي رواية للناتاني تفيد أن الإمام علي بن عبد
الرحمن ابن عَلِيَّك النيسابوري، قَدِمَ تفليس وحدث عن الخفاف، وتوفي في تفليس
سنة 468 هـ[5] والناتاني التفليسي هو أحمد بن عمر بن محمد بن ناتان، سمع منه
شيخ الإسلام أبو طاهر السِّلَفِيَّ (475 هـ -576 هـ) في تفليس سنة 500 هـ[6] .
تفيد القوائم الإحصائية، أن عدد سكان تفليس قد بلغ سنة 1341هـ/1922م،
958.
233 نسمة، منهم 85. 309 من الأرمن، و 80. 884 من الكُرج،
و38. 612 من الروس، و9. 768 من اليهود، و 3. 984 من الفرس، و 3.
255 من الترك الآذربيجانية، و 2. 457 من الألمان وغيرهم.
توضح لنا الإحصائيات السابقة أن سكان تفليس ينتمون إلى عدة قوميات،
وهذه نتيجة ما تعاقب على حكمها من الشعوب، ولا شك أن بعض سكانها من أصل
عربي امتزج بالفرس والترك عبر مسيرة الزمن.
ذكر الطبري، في تاريخه أن تفليس قد فتحت سنة 22 هـ على يد حبيب بن
مسلمة رضي الله عنه وذلك بعد فتح باب الأبواب على يد سراقة بن عمرو،
في زمن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه[7] . وذكر الطبري
[8]
كتاب الأمان الذي كتبه حبيب ابن مسلمة إلى أهل تفليس، وقد عَينَّ حبيبٌ
الفقيهَ عبد الرحمن بن جزع؛ ليعلم أهالي تفليس أصول الدين الإسلامي، وأقدم
درهم أموي ضرب في تفليس سنة 85 هـ في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن
مروان، وقد استمرت دارُ سَكِّ الدراهم في تفليس لغاية سنة 310 هـ. واستمرت
الإمارة الأموية في تفليس لغاية سنة 238 هـ حيث قضى عليها " بُغَّا " التركي -
ومعنى بغا التركية: ثور باللغة العربية - وكان ذلك أيام المتوكل العباسي (232-
247 هـ) [9] وإثر ذلك بدأت سيطرة العرب بالتراجع [10] وبدأ تاريخ الصراع
الطويل بين المسلمين العرب والترك من جهة، والكُرْج والأرمن من جهة أخرى،
حيث سيطرت الإمارة الساجية على أذربيجان وتفليس (276-317هـ) ولكن الكُرْج
اجتاحوها سنة 421 هـ، ثم هاجمها آلب أرسلان السلجوقي (455-471 هـ)
فشتت شمل الكُرْج، وأخضع تفليس لسيطرته.
حاصر الكُرْج مدينة تفليس، واشتد قتالهم لمن بها وتفاقم الخطب وعظم الأمر
على أهلها، ودام الحصار إلى سنة (515 هـ) فملكوها عُنْوَةً، وكان أهلها لما أشرفوا
على الهلاك قد أرسلوا قاضيها وخطيبها إلى الكُرج في طلب الأمان، فلم تُصغِ
الكُرج إليهما، فأخرقوا بهما، ودخلوا البلد قهراً، وغلبة، واستباحوه، ونهبوه،
ووصل المستنفرون منهم إلى بغداد مستصرخين ومستنصرين سنة 516 هـ،
فبلغهم أن السلطان محموداً بهمذان، فقصدوه، واستغاثوا به، فسار إلى أذربيجان،
وأقام بمدينة تبريز شهر رمضان، وأنفذ عسكراً إلى الكرج.. " [11] .
وفي سنة 788 هـ داهم تيمورلنك بلاد الكُرج، واحتل تفليس، وخرب
البلاد سنة 803 هـ وأقام في تفليس حامية خراسانية، ثم استمرت المناوشات،
فأعاد تيمور الكرة على تفليس " وضرب جميع أديرتها وكنائسها وذهب سنة805 -
806 هـ[12] ، وفي عام844 هـ استولى الشاه جهان القراقيون لي (جهان شاه)
(841-872هـ) على تفليس، وطرد الكُرج منها، ثم غزا أوزون حسن (حسن
الطويل) الآق قويون لي (الغنام الأبيض) بلاد الكرج سنة 871 هـ وحرر الأسرى
المسلمين، وترك حامية في تفليس، بقيادة صوفي خليل بك.
واستولى العثمانيون على بلاد الكُرج فترة (986-1012هـ/1579-1603 هـ)
واستولوا على تفليس، وولي عليها محمد بن فرحاد باشا (فرحات باشا)[13] ، ثم
استعاد الشاه عباس الأول مدينة تفليس من العثمانيين سنة 1012هـ/1603م وسيطر
على بلاد الكُرج فقتل منهم سنة 1025هـ حوالي " 70. 000 " ثم قتل منهم
حوالي 10. 000 سنة 1033هـ، وبعد ذلك سيطر كيخسرو (رستم) على تفليس
(1043هـ) . ثم آلت مقاليد الحكم إلى جيورجي الحادي عشر سنة 1099هـ وخلفه
أريكله الأول (Ereklei)(1099- 1102هـ) فأسلم وأصبح يعرف باسم: نظر علي
خان.
توفي الملك أريكله الكهل سنة 1212هـ/1798م وخلفه ابنه جيورجي الثاني
عشر، فأعلن تبعيته لقيصر روسيا، وأصدر بطرس الأول فرماناً بضم بلاد الكُرج
إلى روسيا سنة 1214هـ /1800م وأعلن الضم في 27 رجب 1081هـ/11 يناير
1801م، وتخلى الفرس عن المطالبة ببلاد الكُرج منذ سنة 1228هـ /1813م،
وفي سنة 1336هـ/1918م أصبحت تفليس عاصمة جورجيا السوفييتية، وفي 16
جمادى الأولى سنة 1339هـ/26 يناير 1921م اعترف الحلفاء بالكُرج.
وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، استيقظت النزعات القومية بعد أن عانت من
الكبت الشيوعي كثيراً، وراحت كل قومية تعمل من أجل بناء دولتها، وجورجيا
كغيرها من دول الاتحاد المنهار، تعاني من التعددية القومية، والتعددية الدينية
والمذهبية حيث تضم ثلاث جمهوريات ومقاطعة مستقلة، تحتوي على عدة شعوب
منهم الكُرج والأرمن ومنهم الفرس والترك والآذربيجانيون، وهذا هو السبب الذي
يدفع هذه الجمهورية إلى حرب أهلية ستسفر عن ثلاث جمهوريات أو أكثر، وقد
أعلنت مقاطعة أوستيتا الجنوبية استقلالها لتنضم إلى أوستيتا الشمالية، وهذه فاتحة
التمزق بالإضافة إلى حروب رئيس الوزراء السابق " زفياد غمسا خورديا "
وحروب الأبخاز التي ما زالت مستمرة.
(*) يخوض الأبخاز حرباً ضارية في سبيل الاستقلال عن الكُرْج الجورجيون.
(**) كانت باطوم تابعة للخلافة الإسلامية العثمانية، احتلتها الحكومة الروسية ونشرت إعلاناً لسكان باطوم في شهر آب سنة 1880 م نذكر منه ما يلي:
1-
إن الدين الإسلامى يبقى محترماً والانتقام ممنوع منعاً كلياً ولا يسوغ لأحد أن يمس عرض نساء الترك ولا أن تنتهك حرمتهن فإن قوانين الروسية تنهى عن ذلك وكذلك القرآن يأمر الرجال من المسلمين أن يحترموا أزواجهم.
2-
إذا وقع نزاع بين المسلمين يكون فصله بموجب الشريعة الإسلامية كما كان أيام الترك.
3-
لا يزاد شيء في الضرائب والعوائد ولكن عوضاً عن أداء الأعشار تجعل ضريبة معلومة ويحصل بالتساوي بين الغني والفقير وبالجملة فان الضرائب تكون أخف مما كانت في أيام الترك بل يكون الفقراء مستثنين من ذلك.
4-
حقوق التمتع في المعابر تبقى كما كانت.
5-
دولة الروسية لا تأخذ من الأهالي أحداً للخدمة العسكرية كما هي العادة في " القوقاز " و " كرجستان " ولكن ترتب جنوداً محلية للمحافظة على الحدود ويكون لهم مرتب شهري ولا يخفى أنه من الواجب على كل من أبناء الوطن أن يحافظوا على بلادهم لدفع تسلط العدو فيلزم لأهل باطوم أن يعتبروا هذا الأمر حق الاعتبار.
6-
يلزم إنشاء مدراس تتعلق بالجوامع كما كانت في أيام الترك ودولة الروسية تساعدها على إنشائها من دون أن لكون لها حق في استعمالها.
7-
يكون لكل أحد حق في أن يهاجر إلى تركيا إلى غاية المدة التي قررتها معاهدة برلين وأن يبيع كل ما يريد بيعه ما عدا الأراضي وبعد مضي المدة المذكورة يمكن له أيضاً أن يهاجر ولكن يلزمه الحصول على تذكرة المرور (باسبورط) .
8-
المسلمون الذين يظهرون حسن السيرة والسريرة يوظفون في الوظائف العادية، وفضلاً عن ذلك يوظفون أيضاً في الوظائف الإدارية، وفي رتبة قائم المقام " نقلاً عن مختارات الجوائب 7/245 ".
(1)
جغرافية الاتحاد السوفييتي، ص 313.
(***) انظر معجم البلدان لياقوت الحموي مادة: تفليس.
(2)
الأنساب، للإمام السمعاني، المتوفي سنة 562 هـ /1166 م، مادة التفليسي، 1/471 - 472.
(3)
22 / 367.
(4)
19/11، الترجمة 6.
(5)
سير أعلام النبلاء 18/299.
(6)
سير أعلام النبلاء 21/13 وص 24.
(7)
تاريخ الطبري، 3/235 - 236.
(8)
3/241.
(9)
تاريخ الطبري، 9/139 وابن كثير 10/317.
(10)
تاريخ المسعودي 2/67.
(11)
الكامل لابن الأثير 11/399، طبعة بريل 1864 م وسير أعلام النبلاء للذهبي 19/453.
(12)
دائرة المعارف الإسلامية، 9/452 (يجب الانتباه إلى مغالطات دائرة المعارف الإسلامية) .
(13)
تاريخ الدولة العلية العثمانية 261-266.
بلاد الطاغستان والشيخ شامل [*][**]
-شكيب أرسلان-
(يا شامل! جياد غريبة تشرب من ينابيعنا،
وأناس غرباء يطفئون قناديلنا فهل تمتطي
وحدك صهوة جوادك أو نساعدك على ذلك) .
شاعر من داغستان
على الضفة الغربية من بحر الخرز بين 43و41 من العرض الشمالي بلاد
يقال لها طاغستان، مساحتها نحو 297630كم2 وعدد نفوسها سبعمائة ألف،
أما إذا انضم إليها جميع بلاد القوقاس الشمالية فيقال أن أهلها يبلغون مليونين إلى
ثلاثة. وقد فتح العرب في خلافة هشام بن عبد الملك الطاغستان سنة 105 للهجرة
ووطد أخوه مسلمة الحكم العربي في تلك الديار، وكانوا يلقبونها بالدربند، وكانت
ثغراً من ثغور العرب ومنها انتشر الإسلام في تلك الأقطار، وكان الأهالي من قبل
وثنيين ونصارى ويهوداً.
ولما اجتاح المغول بلدانهم كان أكثر هؤلاء صاروا مسلمين، ولما كانت غارة
تمرلنك (سنة 1359م) كان أشهر شعوب الطاغستان قبيلتين أحدهما القايتاق،
والآخر القومق ويقال لهم: غازى قومق. وأكثر أشراف الطاغستان يدّعون أنهم من
أصل عربي وأن آباءهم قدموا مع مسلمة بن عبد الملك بن مروان. وقد صادفت في
الروسية بعض أشراف الطاغستان فقالوا لي: أن أصلهم من العرب يوم فتحوا
الدربند وهم يفتخرون بذلك. وقد طمع الروس في الاستيلاء على الطاغستان منذ
أواخر القرن السادس عشر للمسيح فلم يفلحوا وهزمهم أولاد الشامكال وأخرجوهم
من بلاد سولاك التي كانوا احتلوها، ثم سنة 1604 م كروا ثانية على الطاغستان
وقصدوا بلدة طاركهو فلم يفوزوا بطائل.
وفي سنة (1722م) ساق بطرس الأكبر جيشاً استولى الدربند وسائر سواحل
الخزر الغربية إلا أن نادر شاه صاحب فارس غزا هذه البلاد واسترجع أكثرها من
أيدي الروس (1735 م) وزحف تتر القريم التابعون للدولة العثمانية على
الطاغستان في تلك الأثناء ففشلوا؛ وبقي الحكم هناك للعجم لكن المملكة الفارسية
بعد نادر شاه تضعضع أمرها، فتقلص ظلها عن الطاغستان وزحف الروس ثانية
فاجتاحوا البلاد سنة 1755 وفي سنة 1784 خضع لهم الشامكال مرتضى علي
وبعد ذلك استولوا على القوقاس، فتمكنت قدمهم في الطاغستان.
ولما تخلى الترك من جهة والفرس من جهة عن الطاغستان، عقد أمراء البلاد
محالفة فيما بينهم على مناهضة الروس فاشتبك القتال بين الفريقين، وتجشمت
الروسية كلفاً عظيمة إلى أن تمكنت من تدويخ البلاد فألغت لقب العصمى من أمراء
قايتاق (1819) ولقب المعصوم أمير تبازاران (1828) وجعلت لدى الأمراء الباقين
ضباطاً روسيين يأخذون على أيديهم، فاستسلموا جميعاً للحكومة الروسية، فثار
الشعب على الروس وعلى الأمراء وتولى أمر الثورة علماؤهم وشيوخ الطريقة
النقشبندية المنتشرة هناك؛ وطلبوا أن تكون المعاملات وفقاً لأصول الشريعة لا
للعادات القديمة الباقية من جاهلية أولئك الأقوام؛ وكان زعيم تلك الحركة غازي
محمد الذي يلقبه الروس بقاضي ملا، وكان من العلماء المتبحرين في العلوم العربية؛ وله تأليف في وجوب نبذ تلك العادات القديمة المخالفة للشرع اسمه " إقامة
البرهان على ارتداد عرفاء طاغتسان ".
وفي 29 تشرين الأول سنة 1832 م بعد جهاد طويل أحيط بغازي محمد في
قرية جيمري، واستشهد في معمعة القتال رحمه الله، فخلفه حمزة بك الذي
استشهد أيضاً رحمه الله بقرب غنزاق بعد ذلك بسنتين، فتولى زعامة الثورة
الشيخ شامل افندي - المقصود بهذه الترجمة - الذي خرج من المشيخة إلى الأمارة، وتناول السيف من طريق القلم. ولم يكن الشيخ شامل في سعة علم سلفيه ولكنه
كان أحسن منهم إدارة للأمور، وبصيرة بالحروب، فشمر عن ساق الجهاد والْتَفَّ
ذلك الشعب الأبي من حوله، فذب عن حوض ملته نحو 35 سنة ظفر فيها بالروس
وفي وقائع عديدة وألقى الرعب في قلوبهم. وجلاهم عن جميع البلاد إلا في بعض
مواقع ثبتوا فيها في الناحية الجنوبية وكانت أعظم الدبرات التي والاها عليهم هي
في سنتي 1834 و 1844 حيث افتتح جميع الحصون التي كانت لهم في الجبال
وغنم منها 35 مدفعاً وأعتاداً حربية ومؤناً وافرة، وأخذ عدداً كبيراً من الأسرى،
فجردت الروسية بعظمة ملكها وسلطانها جيوشاً جرارة ونادت هي بالجهاد في
الطاغستان. ونظم شعراء الروس القصائد في وصف تلك الحروب؛ وما زالت
توالي الزحوف حتى تمكنت من البلاد ولكن بقي الشيخ شامل عشر سنوات يناوشها
القتال في الجبهات الغربية من الجبال ولم يُسَلِّم هذا المجاهد العظيم للروس إلا في 6
أيلول سنة 1859م فعمد الروس على أثر تسلميه إلى إعادة سلطة الأمراء، ولكن
لما استتب لهم الأمر بواسطة هؤلاء الأمراء عادوا فخلعوهم هم أيضاً؛ كما هي
العادة بأن هذه الدول تبدأ أولاً باستعمال نفوذ الأمير الوطني في أغراضها،
وتصريفه في حاجاتها، حتى إذا قضتها كلها رجعت إليه ونبذته نبذ الحصاة،
وذهب يقرع سن الندم على استرساله إليها واعتماده عليها. وبقي الأمر كذلك إلى
سنة 1877 إذ نشبت الحرب بين الروسية والعثمانية فثار الطاغستانيون وافتتحوا
قلعة القومق، ولكن لما دارت الدائرة على الدولة العثمانية في تلك الحرب، تمكن
الروس من قمع الثورة بدون عناء كبير.
ولما انحلت الحكومة القيصرية، وقامت الحكومة البولشفيكية سنة 1917
محلها وأعلنت استقلال الأمم المهضومة، وخيرت الشعوب التي كانت القياصرة
الروس قد أخضعوها بحد السيف بين أن تبقى منضمة إلى روسيا الأصلية، أو
تنفصل عنها، كان أهالي بلاد القوقاس أجمعين ممن أعلنوا استقلالهم التام، فتألفت
جمهورية في كرجستان [***] ، وأخرى في الطاغستان، والثالثة في آذربيجان،
والرابعة في أريفان [****] ، وأوفدت كل من الجمهوريات الأربع وفودها إلى
الآستانة لمفاوضة الأتراك والألمان في الاعتراف بهذه الجمهوريات الأربع، وصار
الحديث في ارتباطها بعضها ببعض بشكل حلفي، وكان الوفد الطاغستاني الجركسي
مؤلفاً من عبد المجيد بك، وعلي بك، وحيدر بك بامات الذي كان ناظر الخارجية
الطاغستاتية. وما مضت مدة قصيرة حتى داخل الكرج الدولة الألمانية وطلبوا
حمايتها فاعترفت لهم بالاستقلال دون غيرهم [1] وأحدث ذلك خلافاً بين الأتراك
والألمان لأن تركيا تقاضت حليفتها ألمانيا الاعتراف باستقلال الجمهوريات الثلاث
الباقية، حتى أن طلعت باشا الصدر الأعظم يومئذ سعى لدى ألمانيا في معرفة
استقلال جمهورية اريفان الأرمنية التي كانت تتقرب من الدولة العلية، وكان رجال
الدولة يريدون بمساعدتها إصلاح ذات البين بينهم وبين الأرمن [2] فتقدم أنور باشا
إلى هذا العاجز [3] أن أذهب إلى برلين وأتكلم في هذا الموضوع وأقنع نظارة
الخارجية الألمانية بلزوم المساواة بين جمهوريات القوقاس كلها، وإلا لم يكن مناص
من الاختلاف.. وكلفني الوفد الطاغستاني أيضاً أن أهتم بقضيتهم نوعاً لأنهم حسبوا
أن الترك قد يصرفون معظم عنايتهم في مصلحة جمهورية آذربيجان التركية فقط،
فبذلت في تلك الأيام جهدي مع نظارة الخارجية في برلين في تمهيد الخلاف، وكان
أكثر الكلام مع فون روزنبرغ الذي كان مديراً للأمور الشرقية، وهو هو اليوم بينما
أحرر هذه الأسطر ناظر الخارجية الألمانية. ولم يلبث أن حضر إلى برلين طلعت
باشا والكونت برنستورف سفير ألمانيا في الآستانة، واشتركنا في حل هذه المسائل
جميعاً وتم الاتفاق لولا أن الحرب في الجبهة المقدونية جاءت بما لم يكن في
الحساب. وطلبت بلغاريا الهدنة، وابتدأت نهاية الحرب فوقف كل شيء من جهة
ألمانيا وتركيا، واحتل الانكليز القوقاس، وعلق القوقاسيون عامة آمالهم بانكلترة.
أنها تعترف باستقلالهم وتوطد لهم حكوماتهم، لا سيما أنها كانت تعطف على
الطاغستانيين قديماً أثناء مقاومتهم الطويلة للروس فكان الأمر بالعكس إذ حصرت
انكلترة جهودها في مناهضة البولشفيك، وإعادة الحكم الإمبراطوري على أصله،
وأمدت الجنرال دنيكين عدو هؤلاء بالمال والسلاح، فما بدأ الجنرال بالحرب مع
البولشفيك حتى غزا الطاغستان، وحاول القضاء على استقلالهم، فجرت بين
الفريقين الوقائع الدامية، وما زالت إلى أن انقضى أمر دينيكين، واستتب الأمر
للبولشفيين أنفسهم، فجرد هؤلاء جيوشاً على جمهوريات القوقاس الأربع. فقبضوا
على أزمتها وألحقوها بحكومة موسكو خلافاً لوعدهم الأول؛ وثار أهالي الطاغستان
عليهم فتغلبت الحكومة البولشفية على الثوار وقبضت على بعضهم وألقتهم في
السجون، وشُرِّدَ قسم من رؤساء الحكومة المستقلة؛ ومنهم عبد المجيد بك،
وصديقنا حيدر بك بامات إلى أوربا، حيث يواصلون مساعيهم لأجل قضيتهم
القومية إلى يومنا هذا [*****] .
(*) عن كتاب " حاضر العالم الإسلامي " للأمير شكيب أرسلان (بتصرف) .
(**) الطاغستان هي التسمية التي كانت متداولة لما يعرف الآن: داغستان.
(1)
تم ذلك لأن أكثرهم نصارى وقد كررت ذلك ألمانيا في الاعتراف ودعم استقلال كرواتيا وسلوفينيا ولم تحافظ على استقلال البوسنة والهرسك.
(2)
لأن طلعت باشا لم يكن صاحب حمية إسلامية، وهو من أعضاء جمعية الاتحاد والترقي التي ثارت على السلطان عبد الحميد، وكانت تعتمد على عناصر يهود الدونمة الذين تحركوا باسم القومية.
(3)
أي كاتب هذه السطور الأمير شكيب أرسلان.
(***) كرجستان = بلاد الكرج = جورجيا.
(****) أريفان = أرمينيا.
(*****) ولد شكيب أرسلان في سنة 1286هـ /1869م وتوفي في سنة 1366 هـ/1946 م انظر الأعلام للزركلي 3/173-175 ومذكرات شكيب أرسلان.