الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من قضايا العقيدة
نظرة في مناهج المفكرين المعاصرين
في دراسة العقيدة
عثمان جمعة ضميرية
ألمحت في مقالة سابقة إلى بعض العوامل والمؤثرات التي آلت بكتب العقيدة
تحت مسمى «علم الكلام» إلى قليل أو كثير من الانحراف في المنهج والتعقيد في
الأسلوب، مما جعلها تبتعد عن المنهج القرآني في مخاطبة النفوس والعقول لإنشاء
العقيدة التي تؤثر في سلوك الإنسان وحياته، وكان لابد من مواجهة هذه الآثار،
فقام بعض المفكرين المعاصرين [*] باستجلاء الأساس الفكري العقدي للإسلام
وصياغته صياغة جديدة يرجى لها أن تكون مؤثرة، لأنها تربط المسلم بالمصدر
الأساس لهذه العقيدة وهو «القرآن الكريم» ، والتطبيق العملي له وهو «السنة
النبوية» ، فنشأ عندئذ البحث في «التصور الإسلامي ومقوماته» .
- 1 -
التصور الإسلامي هو: الفكرة العامة التي جاء بها الإسلام عن الوجود كله
(الكون، الحياة، الإنسان)، ومقومات هذا التصور هي: مجموعة الحقائق العقدية
الأساسية التي تُنْشيء في عقل المسلم وقلبه ذلك التصور الخاص للوجود وما وراءه
من قدرة مبدعة وإرادة مدبرة، وما يقوم بين هذا الوجود وهذه الإرادة من صلات
وارتباطات [1] .
ولعل أول من استخدم هذا المصطلح التصور الإسلامي هو المفكر الإسلامي
المعروف أبو الأعلى المودودي، أمير الجماعة الإسلامية في الباكستان رحمه الله
فكتب في ذلك كتابه: «الحضارة الإسلامية: أسسها ومبادؤها» وكتابه: «نظام
الحياة في الإسلام» ، وأقامهما على هذه الفكرة.
- 2 -
ثم أقام الأستاذ سيد قطب كتابه المعروف: «العدالة الاجتماعية في
الإسلام [**] » على هذا الأساس، فكتب فيه فصلاً عن نظرة الإسلام للوجود ليكون
قاعدة لبحث النظام الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، ووعد ببحث مفصل عن ذلك،
وكان أن أنجز وعده، فصدر أولاً:«خصائص التصور الإسلامي ومقوماته»
(القسم الأول: الخصائص) ، وبعد سنوات من إعدامه ظلماً رحمه الله صدر القسم
الثاني من الكتاب عن «مقومات التصور الإسلامي» في عام 1406 هـ، ويحدد
المؤلف رحمه الله منهجه في البحث فيقول:
«منهجنا في البحث عن» خصائص التصور الإسلامي ومقوماته «أن
نستلهم القرآن الكريم مباشرة بعد الحياة في ظلال القرآن طويلاً وأن نستحضر بقدر
الإمكان الجو الذي تنزلت فيه كلمات الله للبشر والملابسات الاعتقادية والاجتماعية
والسياسية التي كانت البشرية تتيه فيها وقت أن جاءها هذا الهدي، ثم التيه الذي
ضلت فيه بعد انحرافها عن الهدي الإلهي!
ومنهجنا في استلهام القرآن الكريم أن لا نواجهه بمقررات سابقة إطلاقاً لا
مقررات عقلية ولا مقررات شعورية من رواسب الثقافات التي لم نستقها من القرآن
ذاته نحاكم إليها نصوصه، أو نستلهم معاني هذه النصوص وفق تلك المقررات
السابقة.
ثم إننا لا نحاول استعارة» القالب الفلسفي «في عرض حقائق» التصور
الإسلامي «إقتناعاً منا بأن هناك ارتباطاً وثيقاً بين طبيعة» الموضوع «وطبيعة
» القالب «، وأن الموضوع يتأثر بالقالب، وقد تتغير طبيعته ويلحقها التشويه،
إذا عرض في قالب في طبيعته وفي تاريخه عداء وجفوة وغربة عن طبيعته، الأمر
المتحقق في موضوع التصور الإسلامي والقالب الفلسفي، والذي يدركه من تذوق
حقيقة هذا التصور كما هي معروضة في النص القرآني.
وكلمة أخرى في المنهج الذي نتوخاه في هذا البحث أيضا:
إننا لا نستحضر أمامنا انحرافاً معيناً من انحرافات الفكر الإسلامي، أو الواقع
الإسلامي، ثم ندعه يستغرق اهتمامنا كله، بحيث يصبح الرد عليه وتصحيحه هو
المحرك الكلي لنا فيما نبذله من جهد في تقرير» خصائص التصور الإسلامي
ومقوماته «، إنما نحن نحاول تقرير حقائق هذا التصور في ذاتها كما جاء بها
القرآن الكريم كاملة شاملة، متوازنة متناسقة، تناسق هذا الكون وتوازنه، وتناسق
هذه الفطرة وتوازنها.
ذلك أن استحضار انحراف معين، أو نقص معين، والاستغراق في دفعه،
وفي صياغة حقائق التصور الإسلامي للرد عليه منهج شديد الخطر وله معقباته في
إنشاء انحراف جديد في التصور الإسلامي لدفع انحراف قديم والانحراف انحراف
على كل حال! [2] .
ولعله مما يحتم هذا المنهج أن ندرك ثلاث حقائق هامة:
الأولى: أن أول ما وصل إلى العالم الإسلامي من مخلفات الحضارة
الإغريقية واللاهوت المسيحي وكان له أثر في توجيه الجدل بين الفرق المختلفة
وتلوينه لم يكن سوى شروح متأخرة للفلسفة الإغريقية، منقولة نقلاً مشوهاً في لغة
سقيمة، مما نشأ عنه اضطراب كثير في نقل هذه الشروح!
الثانية: أن عملية التوفيق بين شروح الفلسفة الإغريقية والتصور الإسلامي
كانت تنم عن سذاجة كبيرة، وجهل بطبيعة الفلسفة الإغريقية وعناصرها الوثنية
العميقة، وعدم استقامتها على نظام فكري واحد، وأساس منهجي واحد، مما يخالف
النظرة الإسلامية ومنابعها الأصيلة.
والثالثة: أن المشكلات الواقعية في العالم الإسلامي تلك التي أثارت ذلك
الجدل منذ مقتل عثمان» رضي الله عنه «قد انحرفت بتأويلات النصوص القرآنية
وبالمفاهيم الإسلامية انحرافاً شديداً، فلما بدأت المباحث لتأييد وجهات النظر
المختلفة، كانت تبحث عما يؤيدها من الفلسفات والمباحث اللاهوتية بحثاً مغرضاً
في الغالب، ومن ثم لم تعد تلك المصادر في ظل تلك الخلافات تصلح أساساً للتفكير
الإسلامي الخالص الذي ينبغي أن يتلقى مقوماته ومفهوماته من النص القرآني الثابت
في جو خالص من عقابيل تلك الخلافات التاريخية..» [3] .
وهذا المنهج الذي سلكه المؤلف رحمه الله يجعل النص القرآني هو الأصل
الذي يتولى تقرير الحقائق التي يتألف منها البحث، ويجعل عبارة المؤلف مجرد
عامل مساعد يجعل النص القرآني مفهوماً بقدر الإمكان للقارئ فيعقد بذلك الألفة بين
قارئ هذا البحث وبين القرآن ذاته، فيتعود التعامل مع القرآن ذاته مباشرة، ويشعر
أن في هذا القرآن غناء كاملاً وشاملاً في كل حقيقة من حقائق الوجود الأساسية [4] ، ويجب ألا ننسى مكانة السنة الصحيحة في هذا الباب لقول الرسول -صلى الله
عليه وسلم- (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) أي السنة.
ومهما قلت في ذلك الكتاب الممتع، فلست ببالغ ما أريد، ولست موفيه حقه،
فحسبي هذه الإشارة إلى أهميته ومنهجه، ليكون ذلك دافعاً للقارئ أن يعود إليه
بالدراسة المتأنية العميقة، والبحث الدقيق، ليكون ذلك خطوة على طريق العمل
بهذا التصور والتفاعل مع مقتضياته ومستلزماته.
- 3 -
وأما الأستاذ محمد المبارك رحمه الله فقد قدم كتابين في هذا المجال انطلاقاً من
الفكرة السابقة، أولهما:«العقيدة في القرآن» ، وهو بحث مبتكر في العقيدة
يعرض لها على أنها نظرة شاملة مترابطة الأجزاء، ويسلك في عرضها أسلوب
العصر الحديث من حيث التعبير ومناهج البحث والاستدلال بدلاً من أن يسير في
أعقاب المتكلمين ووفقاً لطرائقهم في البحث، التي تأثروا فيها بنظريات ومفاهيم
الفلسفة القديمة، لاسيما بعد اتساع آفاق الكشف العلمي للكون أو الطبيعة. [5] .
ثم كتب أيضاً الجزء الأول من «نظام الإسلام» العقيدة والعبادة نهج فيه
المنهج نفسه، وهو أوسع من الكتاب الأول، حيث يعرض فيه لحقائق الوجود
ويضع العقيدة في موضعها من نظام الإسلام، فهي اللبنة الأساسية في بنائه، وهي
التي تمد باقي أجزائه بالحياة وتحدد اتجاهاتها ومعالمها.
وطريقة المؤلف في بحثه تعتمد على الأسس التالية:
1-
نصوص القرآن والسنة، وذلك بتتبع جميع الآيات والأحاديث التي تتصل
بموضوع من الموضوعات، مراعياً في فهم الآيات تفسير الصحابة والصدر الأول
دون التأويلات الشاذة.
2-
الاسترشاد بآراء السلف الأول في فهم الإسلام، والاستئناس برأي من
جاء بعدهم في مختلف العصور.
3-
الربط بين الأحكام الجزئية، وجمع شتاتها، واستخراج الأفكار العامة
والقواعد الكلية التي تنتظمها، دون التزام التصنيفات والتقسيمات التي اعتمدها
المؤلفون القدامى.
4-
بذل الجهد في أن يكون تعليل الآراء وحكمة الأحكام من النصوص
الأصلية نفسها، والبعد عن التعسف في التأويل والتعليل، والبعد عن الآراء الشاذة.
5-
صياغة الأفكار صياغة تتناسب مع المخاطبين في هذا العصر من حيث
طريقتهم في التفكير وأسلوبهم في التعبير، مع الحفاظ على المفاهيم الإسلامية دون
انتقاص أو تحريف [6] .
- 4 -
وهناك كُتّاب آخرون أيضاً عرضوا لفكرة جديدة أو منهج جديد في الكتابات
العقدية، ومن ذلك ما قام به الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه «فقه التدين فهماً
وتنزيلاً» (الجزء الثاني) ، ومقدمته لكتاب «تفصيل النشأتين» للراغب
الأصفهاني وضع فيها بين أيدي الباحثين مخططاً عاماً لما يمكن أن يكون بنية عامة
لمنظومة إسلامية في «الإنسان» تستمد مادتها من العقيدة الإسلامية [7] .
(1) مقومات التصور الإسلامي للأستاذ سيد قطب، ص 1؛ وانظر أيضا ص 79.
(2)
خصائص التصور الإسلامي، مقتطفات من ص (1619) .
(3)
المرجع نفسه، ص 1314.
(4)
مقومات التصور الإسلامي، ص 38.
(5)
انظر: العقيدة في القرآن، طبع دار الفكر، بيروت.
(6)
نظام الإسلام: العقيدة والعبادة، ص 2125.
(7)
انظر: تفصيل النشأتين، تقديم المحقق، ص 9 وما بعدها، وقد أشار إلى جملة ممن كتب في موضوع الإنسان وعجبت من أنه لم يشر إلى أول من خص هذا الموضوع بكتاب رائد فريد، وهو الأستاذ سيد قطب رحمه الله، فلست أدري هل اطلع على الخصائص والمقومات أم لم يطلع عليها؟ وقد صدرا منذ أمد، وتكررت طباعتهما، وصدرت دراسات عنهما في المغرب العربي الذي يعيش فيه الدكتور النجار بعد دراسته في مصر.
(*) وقام قبلهم أئمة السلف ببيان أصول ومسائل العقيدة من الكتاب والسنة الصحيحة بعيداً عن الفلسفة وعلم الكلام والمنطق.
(**) كتاب (الإسلام والعدالة الاجتماعية) لا يمثل فكر الأستاذ سيد قطب رحمه الله فيما انتهى إليه من نضج فكري، إذ أن هذا الكتاب من أولى دراساته الإسلامية وتضمن بعض الهنات والملحوظات التي لا تخفى على المتأمل - البيان -.
دراسات تاريخية
منهج التفسير التاريخي
قواعد منهجية في تفسيرالحوادث والحكم عليها
(2)
د. محمد آمحزون
تمهيد:
في الحلقة الأولى تطرق الكاتب لبيان المقصود من دراسة التاريخ، وماذا
يعني بالمنهج وبين أنه قسمان: منهج التوثيق، ومنهج التفسير التاريخي، وهو ما
اقتصر على بيان دوره في دراسة التاريخ وفقاً للتصور الصحيح المبني على
الموازين الشرعية، ثم بدأ ببيان القواعد المنهجية لتفسير الحوادث والحكم عليها،
وذكر ثلاثاً منها وهي:
القاعدة الأولى: اعتماد المصادر الشرعية وتقديمها على كل مصدر فيما
نصت عليه من أخبار وضوابط وأحكام.
القاعدة الثانية: الفهم الصحيح للإيمان ودوره في تفسير الأحداث.
القاعدة الثالثة: أثر العقيدة في دوافع السلوك لدى المسلمين.
ويواصل الكاتب عرض بعض منها فيما يأتي:
- البيان -
القاعدة الرابعة العوامل المؤثرة في حركة التاريخ:
إن المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ منهج شامل لكل الدوافع والقيم التي تصنع
التاريخ، وهو غير واقف أمام حدود الواقع المادي المحدود الظاهر للعيان فقط بل
إنه يتيح فرصة لرؤية بعيدة، يستطيع المؤرخ معها أن يقدم تقييماً حقيقياً وشاملاً
أكثر التحاماً مع الواقع لأحداث التاريخ الإنساني، وذلك لأنه يأخذ في الحسبان مدى
أثر العوامل المادية والنفسية المحيطة بالإنسان، مع مراعاتها والاعتراف بها كافةً،
دون تضخيم لبعضها أكثر من حجمه، وقبل هذه العوامل ومعها وبعدها قدر الله جل
وعلا وأمره النافذ، فإنه لا راد لقضائه وأمره.
وهذا سر المفارقة بين المنهج الإسلامي وبقية المناهج الأخرى الوضعية التي
تفسر التاريخ تفسيراً عرقياً أو جغرافياً أو اقتصادياً أو نفسياً، ولم تحسب حساباً
لكافة العوامل المؤثرة في حركة التاريخ، وإنما اكتفى كل واحد منها بعامل وضخمه، وفسر به تاريخ الإنسان كله.
إنه لابد من ملاحظة كل العناصر الفاعلة في الحدث التاريخي من عوامل
مادية ومعنوية، فالإنسان ذو أبعاد فسيحة وأغوار عميقة، وكل الظواهر التي
تتصل به على درجة عالية من التعقيد في الأفكار والمبادئ والمواقف والعادات وفي
الاجتماع والاقتصاد
…
كل أولئك يتشكل ويتبلور نتيجة نسيج معقد من العوامل.
وإذا كان هذا هو الواقع، فإن تفسير أية ظاهرة إنسانية وتعليلها بعلة مفردة
غير صحيح ولا دقيق، ولنضرب مثالاً على ذلك بموقعة بدر الكبرى هل كان هناك
سبب أو عامل واحد أدى إلى انتصار المسلمين، أم يا تُرى تضافرت عدة عوامل
ليتوج بها المسلمون انتصاراتهم على أعدائهم الذين يفوقونهم عدداً وعدة.
مما لا شك فيه أن المتأمل في هذا الحدث الفاصل في تاريخ الإسلام يجد بعد
الاستقراء والدراسة أن عدة أسباب ساهمت في انتصار المسلمين وهي:
أولا: العقيدة الراسخة: إذ كان للمسلمين هدف معين ومحدد وهو نشر الإسلام
حتى يكون الدين كله لله، وتكون كلمة الله هي العليا.
ثانياً: المعنويات العالية: فقد كانت معنويات المسلمين في بدر عالية جداً
نظراً لثقتهم الأكيدة بوعد الله ونصره.
ثالثاً: الشورى: وهو المبدأ الذي التزم به الرسول صلى الله عليه وسلم
منذ خروجه إلى بدر.
رابعاً: القيادة الموحدة: فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القائد
العام في معركة بدر وكان المسلمون يعملون يداً واحدة تحت قيادته، وكان
انضباطهم مثالاً رائعاً للانضباط الحقيقي.
خامساً: التعبئة الجيدة: فقد طبق الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء
اقترابه من بدر تشكيلة لا تختلف عن التعبئة الحديثة في حرب الصحراء، حيث
كان للمسلمين مقدمة وقسم أكبر ومؤخرة، كما استفاد النبي عليه الصلاة والسلام من
دوريات الاستطلاع للحصول على المعلومات.
سادساً: معرفة طبوغرافية أرض المعركة: حيث كان الرسول -صلى الله
عليه وسلم- أشد حرصاً على دراسة أرض المعركة، والتعرف على ظاهراتها
الطبيعية قبل أن يدفع قواته إليها، وبتعرف المسلمين على تضاريس أرض بدر
سيطروا على موارد المياه ببدر وعطلوا الآبار في الجهة التي يفترض أن يقدم إليها
المشركون.
وهكذا فإن انتصار المسلمين لا يرجع إلى سبب أو عامل واحد، بل أثرت
عدة عوامل إيمانية ونفسية وتنظيمية واستراتيجية وجغرافية في نتيجة المعركة
لصالح المسلمين.
ولنعط مثالاً آخر: فلا يمكن أن يقال مثلاً: إن الشعب الأفغاني صمد في وجه
المحتلين بسبب إيمانه، أو بسبب صعوبة تضاريس أرضه من جبال وكهوف أو
بسبب رصيد الفطرة لديه، أو بسبب العون الخارجي، أو بسبب وجود قواعد خلفية
له في بلد مجاور..
إنه لم ينفرد سبب واحد من هذه الأسباب بولادة ظاهرة الصمود، بل إنها
جميعاً مع أسباب أخرى أسهمت في إيجاد وضع متميز يستمد تميزه من خصوصية
شروطه وأسبابه.
إن إدراك مقومات النفس الإنسانية جميعها روحية وفكرة وجسدية لا يتوفر في
غير المنهج الإسلامي؛ لأن التصور الصحيح عن هذه القضايا المؤثرة والفاعلة في
الحدث التاريخي لا يمكن معرفته إلا عن طريق الوحي المعصوم من الخطأ «
الكتاب والسنة» .
فبواسطة التلقي من الوحي يعرف المسلم هذه العوامل، ويعرف قدر كل عامل
وقيمته وتأثيره في النفس، والنسب الصحيحة للعلاقات بين تلك العوامل جميعاً؛
لأن مصادر تلقيه من لدن الله جل وعلا، الحكيم الخبير الذي يعلم خبايا النفس
الإنسانية ولا يغيب عن علمه مثقال ذرة في الأرض أو في السماء.
القاعدة الخامسة العلم بمقادير الناس وأحوالهم
ومنازلهم والتثبت فيما يقال عنهم:
يقول الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه في هذا الصدد: «
واحفظ لكل منزلته وأعطهم جميعاً بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها
يصاب العدل» [1] .
وقد قعّد ابن تيمية رحمه الله بواسع علمه وعميق فهمه قاعدة جليلة في الإفتاء
في أي قضية يراد معرفة حكم الله فيها، وذلك في بداية فتواه الشهيرة عن التتار
وحكم قتالهم، فقد ذكر أن الحكم على أي طائفة أو قوم يقوم على أصلين: أحدهما
المعرفة بحالهم، والثاني معرفة حكم الله في أمثالهم، وهذان الأصلان يقومان على
الحكم المنافي للجهل، إذ الكلام في الناس لا يجوز بغير علم وبصيرة « [2] .
وعلى هذا الأساس ينبغي التحري فيما يروى عن الوقائع التي كانت بين
أعيان الصدر الأول من الصحابة رضي الله عنهم فالمعرفة بحالهم تدل على كمال
إيمانهم وصدقهم وحسن سريرتهم وفعلهم للخيرات وتضحيتهم بالنفس والنفيس في
سبيل الحق، كل ذلك يرفع منازلهم إلى درجات عالية مما يجعلهم جميعاً من لابس
الفتن منهم ومن لم يلابسها أهلاً للاقتداء بهم، وأهلاً للرواية، تقبل أخبارهم في
أعلى درجات القبول، وتوزن أعمالهم بميزان الورع والإحسان، مما ينفي عنهم ما
نسب إليهم من أوصاف سيئة، هذا علاوة على بيان حكم الله فيهم، إذ تواترت
النصوص الشرعية في تزكيتهم وتعديلهم.
فلا جدال في أن الصحابة رضوان الله عليهم قدوة لكل مسلم فيما يتعلق بأمور
الدين، ولا مجال للطعن في تدينهم وصحة عقيدتهم وسلامة أخلاقهم، لكن ذلك لا
يمنع أن يقع منهم الخطأ، إذ ليسوا معصومين، ولذلك فإن ما وقع بينهم من خلافات
سياسية هي من قبيل الأمور الاجتهادية التي لا تقدح في مكانتهم السامية، وإذا سجل
التاريخ تلك الخلافات فلا ينبغي أن تحمل على محمل الانتقاص منهم.
وقد أمر الله جل وعلا المؤمنين بالرجوع إلى ما علموا من إيمان إخوانهم الذي
يدفع السيئات، وأن يعتبروا هذا الأصل العظيم ولا يعبؤوا بكلام المتربصين
والمغرضين الذي يناقضه ويقدح فيه، فيحسنوا الظن بإخوانهم، بل يدحضوا ما
يروج ضدهم من شائعات وافتراءات تمس كرامتهم، وتحط من أقدارهم.
يقول الله تعالى زجراً للمؤمنين عن مجاراة الشائعات التي يتقولها أهل السوء
في إخوانهم المؤمنين: [لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراْ
وقالوا هذا إفك مبين] [3] وقال تعالى: [ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن
نتكلم بهذا، سبحانك هذا بهتان عظيم] [4] .
وقد دلت الآيتان على قاعدة مهمة وهي:» الرجوع إلى الأمر المعلوم المحقق
للخروج من الشبهات والتوهمات، وقد يعبر عنها بأن الموهوم لا يدفع المعلوم وأن
المجهول لا يعارض المحقق « [5] .
وبناء على هذا لابد من الرجوع إلى المصادر الأصلية الموثوقة لمعرفة
الحقيقة، فلا يؤخذ من الكذابين والفاسقين وأصحاب الأهواء لأن فسقهم وهواهم
يدفعهم إلى تصوير الأمر على خلاف حقيقته، وإن المرء المسلم مطالب شرعاً
بالتثبت والتبيّن مما يسمع، لقوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسقِ بنبأ
فتبينوا أن تصيبوا قوماْ بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين] [6] . ولقول
الرسول:» كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع « [7] ، وقوله:» إياكم
والظن، فإن الظن أكذب الحديث « [8] ، ولذلك كانت عناية علماء أهل السنة
موجهة إلى بيان من يحمل عنه العلم أو الخبر، ومن لا يؤخذ عنه كقول بعضهم في
هذا الباب:» باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها « [9] ،
إذ أن تقدير الرجال لا يؤخذ إلا من العالم العارف الثقة البصير بأحوال المسلمين.
وهناك مجموعة من المقاييس ينبغي الأخذ بها في هذا الشأن، وهي:
* عدم إقحام الحكم على عقائد ومواقف الرجال بغير دليل في ثنايا سرد
الأعمال، إذ أن الحكم على أقدار الناس يجب أن يكون قائماً على حسن الظن حتى
يثبت خلاف ذلك.
* عدم تجاوز النقل الثابت إلى إيراد الظنون والفرضيات، ومن فضل الإسلام
أن نهى عن ذلك، ولم يفعل هذا مؤرخ فاضل، ولم يقل أحد أن حسن الأدب هو
السكوت عن الكذب، وإنما حسن الأدب هو رده وتنقية سيرة الصدر الأول منه،
كما أن حسن الأدب يقتضي السكوت عن الظنون، والكف عن اقتفاء ما لا علم لنا
به يقيناً، وكثيراً ما تلح على المرء في هذا شهوة الاستنتاج ودعوى التحليل، وقد
أمرنا الشرع أن تكون شهادتنا يقينية لا استنتاجية فيما نشهد من حاضرنا، ففي الآية
[إلا من شهد بالحق وهم يعلمون][10] ، فكيف بمن يشهد بالظن والهوى فيمن
أدبر من القرون؟ !
* إن الإسلام له منهجه في الحكم على الرجال والأعمال، فهو يأمر بالشهادة
بالقسط وعدم مسايرة الهوى في شنآن أو في محبة، ويأمر باتباع العلم لا الظن،
وتمحيص الخبر والتثبت فيه أن يصاب قوم بجهالة، وهذا في حق كل الناس،
فكيف بخير القرون؟ !
القاعدة السادسة الكلام في الناس يجب أن يكون
بعلم وعدل وإنصاف:
والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله
شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى،
واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون] [11] .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:» والكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل، وليس بجهل وظلم كحال أهل البدع « [12] .
ويدخل ضمن هذه القاعدة العدل في وصف الآخرين، والمقصود به هو العدل
في ذكر المساوئ والمحاسن والموازنة بينها.
فمن المعلوم أن أحداً لا يسلم من الخطأ لقول النبي:» كل بني آدم
خطاء « [13] ، ولذلك ينبغي للمسلم إذا وصف غيره ألا يغفل المحاسن لوجود بعض المساوئ، كما لا ينبغي أن يدفن المحاسن ويذكر المساوئ لوجود عداوة أو شحناء بينه وبين من يصفه، فالله عز وجل أدبنا بأحسن الأدب وأكمله بقوله:[ولا تبخسوا الناس أشياءهم][14] .
وحين نجد من يذم غيره بذكر مساوئه فقط، وبغض النظر عن محاسنه فإن
ذلك يرجع في العادة إلى الحسد والبغضاء أو إلى الظنون والخلفيات والآراء المسبقة، أو إلى التنافس المذموم، ولكن المنصفين هم الذين يذكرون المرء بما فيه من خير
أو شر ولا يبخسونه حقه، ولو كان الموصوف مخالفاً لهم في الدين والاعتقاد أو في
المذهب والانتماء.
ومن العلماء الذين برزوا في هذا الشأن الحافظ الذهبي رحمه الله فمن خلال
كتابه النفيس» سير أعلام النبلاء «أنصف من ترجم لهم من الأعلام فلم يبخس
أهل البدع أو الفسق ما لهم من صفات جيدة، بل أنصفهم بذكر ما لهم وما عليهم،
يقول مثلاً عن الأشتر النخعي:» أحد الأشراف الأبطال المذكورين، وكان شهماً
مطاعاً زعراً [15] ألّب على عثمان وقاتله، وكان ذا فصاحة وبلاغة « [16] .
ويقول في ترجمة الحكم بن هشام:» وكان من جبابرة الملوك وفساقهم
ومتمرديهم، وكان فارساً شجاعاً، فاتكاً ذا دهاء وعتو وظلم، تملك سبعاً وعشرين
سنة « [17] .
ويقول في ترجمة الجاحظ الأديب المعتزلي:» العلامة المتبحر ذو الفنون
وكان أحد الأذكياء، وكان ماجناً قليل الدين، له نوادر « [18] .
وقال عن عبد الوارث بن سعيد:» وكان عالماً مجوداً، ومن أهل الدين
والورع، إلا أنه قدري مبتدع « [19] .
وقال أثناء حديثه عن ثابت بن قرة:» الصابئ الشقي الحراني، فيلسوف
عصره، وكان يتوقد ذكاءً « [20] .
ومنهج الذهبي هذا في العدل والإنصاف في وصف الآخرين منهج علمي دقيق، وهو منهج أهل السنة والجماعة في حكمهم على غيرهم، ولذلك ينبغي لكل من
رام الإنصاف أن لا يحيد عن هذا المنهج السوي المعتبر، وأن يتقي الله عز وجل
في وصف من يترجم لهم، أو يتحدث عنهم من الحكام والقادة والعلماء والفقهاء
والإخباريين والمؤرخين وغيرهم، ويتكلم بعدل وإنصاف.
القاعدة السابعة العبرة بكثرة الفضائل:
فإن الماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث، وكذلك من غلبت فضائله هفواته
اغتفر له ذلك، وفي هذا الصدد يقول الحافظ الذهبي:» وإنما العبرة بكثرة
المحاسن « [21] .
وهذه القاعدة جليلة تعد بمثابة منهج صحيح في الحكم على الناس؛ لأن كل
إنسان لا يسلم من الخطأ، لكن من قل خطؤه وكثر صوابه فهو على خير كثير،
والإنصاف يقتضي أن يغتفر للمرء الخطأ القليل في كثير صوابه.
ومنهج أهل السنة هو اعتبار الغالب على المرء من الصواب أو الخطأ
والنظر إليه بعين الإنصاف.
وهناك قاعدة أخرى يمكن اعتبارها في هذا الباب وهي» العبرة بكمال النهاية
لا بنقص البداية « [22] .
القاعدة الثامنة إحالة الحوادث على الخطأ في الاجتهاد:
أما إن المجتمع الإسلامي يسير على السنن الطبيعية لكل المجتمعات، فهذا
حق، ونحن لا نعصم فرداً أو مجتمعاً من أن تسري عليه هذه السنن، إلا أن يكون
نبياً أو رسولاً، ومن هنا يجب أن نعلم أن الذين صنعوا التاريخ رجال من البشر
يجوز عليهم الخطأ والسهو والنسيان وإن كانوا من كبار الصحابة وأجلائهم، إلا أنه
ينبغي إحالة الحوادث إلى الخطأ في الاجتهاد، ونذكر ما ورد عنه صلى الله عليه
وسلم من أن المجتهد المخطئ له أجر، والمصيب له أجران [23] فهو على كل
حال مأجور، فلا ننقصه وقد آجره الله، كما أنه قد تشهد له دلائل وفضائل أخرى،
وتشفع له مواقف ثابتة.
وعليه فإنه ينبغي للمسلم أن يرد كل خبر يطعن في عدالة الصحابة، وأن ينزه
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطمع والشح والغدر والخديعة
والغفلة واللؤم والفسق والظلم والاستبداد وأكل الأموال بالباطل، وكل الأخلاق التي
تطعن في العدالة وتعد من الفسق وخوارم المروءة، وأنهم إن كانوا غير معصومين
فهم عدول، وأن ما اجتهدوا فيه سواءً أتعلق بالدماء أم تعلق بالأموال فهم فيه
مأجورون، وأنهم إن جازت عليهم المعاصي إلا أنهم يتوبون ويستغفرون فيتوب الله
عليهم ويغفر لهم، وأن لهم فضل الصحبة التي خصوا بها، ونالوا بها من الفضل
ما لم يدركه أحد بعدهم.
(1) الطبري: تاريخ الرسل، ج، ص 279.
(2)
ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج28، ص 510.
(3)
سورة النور: 12.
(4)
سورة النور: 16.
(5)
عبد الرحمن السعدي: القواعد الحسان لتفسير القرآن، ص 195.
(6)
سورة الحجرات: 6.
(7)
أخرجه مسلم في الجامع الصحيح، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، ج1، ص 72.
(8)
أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الأدب، ج7، ص 288.
(9)
انظر صحيح مسلم، ج1، ص 76.
(10)
سورة الزخرف: 86.
(11)
سورة المائدة: 8.
(12)
ابن تيمية: منهاج السنة، ج 4، ص 337.
(13)
رواه أحمد في المسند، ج3، ص 198.
(14)
سورة هود: 85.
(15)
أي شرساً سيء الخلق، انظر: لسان العرب.
(16)
الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج4، ص 34.
(17)
المصدر نفسه، ج8، ص 254.
(18)
المصدر نفسه، ج11، ص 526-527.
(19)
المصدر نفسه، ج8، ص 301.
(20)
المصدر نفسه، ج13، ص 485.
(21)
المصدر نفسه، ج20، ص 46.
(22)
ابن تيمية: منهاج السنة، ج8، ص 412.
(23)
أخرجه البخاري في الجامع الصحيح، كتاب الاعتصام بالسنة، ج8، ص 157.
خواطر في الدعوة
أنماط من التفكير!
محمد العبدة
يتهم الغربيون والمستشرقون منهم بشكل خاص يتهمون المسلمين بأنهم
أصحاب (تفكير ذري) ويعنون بهذا أن الطريقة التي يواجه بها المسلم أمور الحياة
هي أن يبحث كل قضية أو جزئية لوحدها، وبمعزل عن الجزئيات الأخرى فلا
يتسنى له الإحاطة بالموضوع، ووضع الكليات العامة التي تجمع شتاته وتوضح
علله ومقاصده، وهو ما يسمى عندهم (فلسفة العلوم) .
هذا ما يردده الغربيون والحقيقة أن هذه التهمة تدل على خبث الطوية قبل أن
تدل علىالسطحية أو السذاجة، وكأنهم يريدون تحطيم نفسية المسلم وإشعاره بأنه
ليس على شيء، وذلك لأن أي دارس لتراث المسلمين سيرى العكس تماماً، وأن
تلك الاتهامات هي محض افتراء، وإلا فمن الذي وضع أصول الفقه، وتكلم عن
مقاصده؟ ومن الذي ضبط العلوم الإسلامية بأصول وقواعد مثل أصول التفسير،
وأصول الحديث، وقواعد اللغة العربية؟
نعم إن هذا الذي قام به المسلمون كان في عصر المد الحضاري، وأما في
العصور المتأخرة، وعندما أصيبت الأمة بالجمود والضعف، وضعف العلم
والاجتهاد، فإن هذا المرض (التفكير الذري) قد تسرب إلى عقول كثير من
المسلمين، وواقعنا اليوم يشهد على ذلك، وهذه أمثلة منه:
1 -
رفع المسلمون ومنذ عقود من السنين شعار إصلاح الفرد، وأنه بعد ذلك
سيتم إصلاح المجتمع والدولة، وكأن هذا الإصلاح سيتم بشكل آلي، ولكن عند
النظرة الفاحصة تجد أن الأمر ليس بهذه السهولة، لأننا لا نستطيع إصلاح الفرد
بمعزل عن التأثيرات الجانبية القوية التي تُصاغ بها شخصيته، فلابد أن تكون
التربية وخطة الإصلاح والتغيير شاملة للفرد والأسرة والمجتمع، ولابد من إحاطة
الفرد بأجواء صحية أو قريبة منها حتى تستقيم لنا عملية التغيير.
2 -
بعض الشباب المسلم إذا سمع عن عالم كبير قد أتقن كثيراً من علوم
الشريعة، يظن أن هذا العالم لابد أن يجيب عن كل الأسئلة التي تدور على الساحة
الإسلامية، بل يستطيع حل كل مشكلات المسلمين المعقدة وهذا ليس بالتأكيد، فقد
يملك إجابات كثيرة وتفوته أشياء، وقد يكون متقناً لجوانب وضعيفاً في أخرى، ولا
يعني هذا الانتقاص منه بأي حال من الأحوال، فعدم الإحاطة بمثل هذا الموضوع
يجعل الشاب ينظر هذه النظرة الجزئية.
3 -
يحذر أحد الدعاة تلامذته وصحبه من إهمال الدعوة إلى الله، ويرفع شعار
(لا تعطوا الدعوة فضول أعمالكم) ، وهو شعار صحيح، ولكن هؤلاء التلاميذ
يفهمون هذه النصيحة بأن يتركوا واجباتهم الأخرى، مثل الدراسة أو العمل أو بر
الوالدين، مع أن الجمع بين كل هذه الواجبات ليس بالأمر العسير.
وقد سرى هذا الداء إلى مجموع الأمة، فلا نجد نظرات بعيدة المدى، ولا
تخطيط شامل، بل كل فئة أخذت جزءاً من الإسلام وانشغلت به واستغرقت فيه،
وشنعت على الفئات الأخرى ما تقوم به، وإن الإحاطة بمفهوم هذا الدين ومقاصده
الكبرى لإصلاح البشرية، مما يسهل إنشاء الدعوة، وقبول الناس لها وإن المسلم
ليملك القابلية لأن يستوعب شمولية الإسلام، ولكن أين التربية المتكاملة؟
دراسات اقتصادية
الإسلام والقضايا الاقتصادية المعاصرة
معالجة الأزمات الغذائية
- 2 -
د.محمد بن عبد الله الشباني
في العدد الماضي تطرقت إلى بعض من جوانب كيفية معالجة الأزمات
الغذائية على ضوء التصور الإسلامي باستعراض بعض الأحاديث التي وضحت
كيفية معالجة النقص الفعلي للمواد الغذائية أو غيرها من السلع، وفي هذا العدد
سوف أعالج جانباً آخر من الجوانب التي قد تؤدي إلى بروز ظاهرة الأزمات
الغذائية أو النقص في السلع التي يحتاج إليها الأفراد، هذا الجانب هو الجانب
الكمي للسلع وكيفية التحكم في ميكانيكية العرض والطلب، أي التحكم في حركة
السوق.
لقد جاءت أحاديث عديدة تعالج هذا الجانب بشكل يتفق مع واقع الحياة ولا
يتعارض مع ميكانيكية السوق، بل إنه يحفزها بالشكل الذي يجعل لميكانيكية السوق
دور في تنظيم العرض والطلب بالأسلوب الذي يخدم حركة التبادل التجاري.
روى البخاري عن نافع أن عبد الله بن عمر حدثه «أنهم كانوا يشترون
الطعام من الركبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيبعث عليهم من يمنعهم
أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث يباع الطعام» [1]، وفي رواية للبيهقي:
كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام فنهانها النبي صلى الله عليه وسلم أن
نبيعه حتى نبلغ به سوق الطعام، وذكر البيهقي في سننه أن الغاية من منع البيع
حتى ينقلوه إلى سوقه لئلا يغلوا الطعام هناك على من يفد، وأنه في ذلك الموقع
أرخص.
كما روى البخاري وأحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن
رسول الله «قال: لا يبع بعضكم على بيع أخيه [2] ، كما رُوي في الموطأ وفي
السنن للبيهقي عن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أن عمر بن الخطاب خرج إلى السوق
فرأي ناساً يحتكرون بفضل أذهابهم فقال عمر لا ونعمة عين يأتينا الله عز وجل
بالرزق حتى إذا نزل بسوقنا قام أقوام فاحتكروا بفضل أذهابهم عن الأرملة
والمسكين إذ خرج الجلاب باعوا على نحو ما يريدون من التحكم، ولكن جالب
جلب على عمود كبده في الشتاء والصيف حتى ينزل سوقنا فذلك ضيف لعمر فليبع
كيف شاء الله وليمسك كيف شاء الله.
كما رُوي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة
بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما فسعر له (مدّين)
لكل درهم فقال له عمر رضي الله عنه حُدثتُ بعير مقبلة من الطائف تحمل زبيباً،
وهم يعتبرون بسعرك فإما أن ترفع في السعر وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه
كيف شئت، كما روى مالك عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن عمر بن الخطاب كان
يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى
المدينة ويأخذ من القطنية العشر.
بدراسة الأحاديث والآثار السابقة نجد أن الإسلام عالج جانب العرض والطلب
للسلع باستخدام بعض الأساليب التي تساعد على تحقيق التوازن بين العرض
والطلب، وتؤدي بالتالي إلى استقرار السوق، وإبعاد الوسائل المؤثرة على منحنى
العرض والطلب، وتتمثل هذه الاجراءات العملية في الأمور التالية:
أولا: إزالة إمكانية ظاهرة التأثير الكاذب على العرض أو الطلب والذي قد
يؤدي إلى تذبذب الأسعار مما قد يسيء إلى المشترين والبائعين؛ لهذا نجد أن
المنهج الإسلامي التطبيقي يحبذ وجود الأسواق المتخصصة والتي يتم فيها البيع
والشراء في سلع معينة مع منع البيع خارج هذه الأماكن، وهو بهذا يحقق عنصراً
مهماً من عناصر فعالية ميكانيكية السوق وهو اجتماع البائعين والمشترين في مكان
واحد، والغرض من ذلك تحقيق السعر العادل، وعلى ذلك نفهم الغاية من نهي
الرسول صلى الله عليه وسلم عن الطعام قبل وصوله إلى سوق الطعام، حيث
يوجد المشترون الراغبون في الشراء والبائعون الراغبون في البيع، ويتحقق بذلك
حماية المشترين من احتكار بعض الفئات كما يحمي البائعين من حصول الغبن الذي
قد يصابون به من جراء تلقي بعض المشترين لهذه السلع قبل وصولها، ويندرج
ضمن هذا المفهوم منع احتكار بيع سلع معينة لأشخاص معينين، وهو ما يعرف
بنظام الوكالات التجارية لأنه يشبه بيع الحاضر للبادي وهذا النوع من الاحتكار
يعاني منه الناس كثيراً حيث يتحكم الوكيل في سعر بيع السلع، وسعر قطع غيارها
إذا كانت سلعة رأسمالية، وهو أمر مشاهد في النظام الرأسمالي، كما أنه يتحكم في
وجود سلع تعوّد عليها الناس واحتكرت له، فأصبح الوكيل هو البائع الوحيد للمنتج
مما يجعله يتحكم في الأسعار كيف يشاء.
ثانياً: حق الدولة في التدخل لمنع الظروف التي تجعل أصحاب رؤوس
الأموال يتحكمون في احتكار السلع بسبب قدراتهم المالية، فنجد أن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه عمد إلى حماية البائعين الذين يجلبون السلع من خارج مكان
تسويقها، وذلك بتوفير ظروف وجودها لهم في السوق فأمر بأن يتم إطعام وإسكان
الجالبين للسلع من خارج المدينة بأن تتولى الدولة توفير أماكن للسكن والإقامة
والتخزين للسلع، وذلك بأن تتولى الدولة توفير مخازن عامة في كل بلدة لتخزن
فيها السلع التي ترد إلى المدينة أو القرية، وهذه المخازن تعود ملكيتها للدولة
وتؤجر بسعر زهيد أو مجاناً مع توفير مساكن يقطنها الجالبون للسلع خلال فترة
تواجدهم للبيع، إما مجاناً أو بأسعار زهيدة تشجع على البقاء لفترة كافية تساعد على
إيجاد السلع للراغبين في الشراء من أهل القرية أو المدينة، أي أن الأمر متروك
للدولة الإسلامية وفق الظروف المتاحة لها لاتخاذ الأساليب التي تشجع على استقرار
الأسعار ووجود السلع بدون احتكار لها.
ثالثا: تعمد الدولة إلى التدخل لتحقيق الاستقرار السعري للسلع، أي منع
الانهيار السعري للسلع من خلال تنظيم وجود السلع في السوق لمنع ظروف الندرة، ولا يتأتى ذلك إلا بمراعاة ظروف العرض والطلب، وما فعله عمر رضي الله
عنه مع حاطب، إنما هو دليل يمكن الأخذ به وذلك بحق الدولة في التدخل في
العمل على استقرار الأسعار؛ لما يعود على حركة التبادل التجاري بالمنفعة، حيث
أن من واجبات الدولة العمل على توفير السلع في السوق، وتشجيع حركة التبادل
التجاري بين مختلف الأقطار والأقاليم، وهذا لا يمكن تحقيقه في ظل ظروف فساد
السعر السوقي فعمل عمر مع حاطب يرشد إلى أن على الدولة التدخل لحماية
الأسعار حتى لا يؤثر ذلك مستقبلاً على حركة التبادل، وبالتالي حتى لا يحدث
نقص في السلع مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار وحصول الشح أي أن على الدولة
تحقيق السعر العادل لمختلف السلع والخدمات ومنع الأفراد الذين قد يعمدون إلى
إفساد السوق من خلال تخفيض السعر مؤقتاً، ثم رفعه في فترة لاحقة بعدما يقل
توافر السلع، أي محاربة ما يعرف في هذا العصر بسياسة الإغراق المتمثلة في
تخفيض الأسعار بأقل من التكلفة الذي تعمد إليه بعض الدول أو بعض التجار عند
غزو سوق من الأسواق من أجل السيطرة عليه مستقبلاً، وتحقيق فرق السعر الذي
يتم بتخفيض أسعار السلع خلال فترة الإغراق بعد ذلك، وتحقيق السعر الذي ترغبه
بعد أن يفسد السوق ويقل العرض فيه.
رابعاً: استخدام الضرائب الجمركية كأداة لتحقيق وجود السلع في السوق،
أي أن تكون الضرائب الجمركية أداة مالية لتحقيق التوازن في حجم العرض مع
الطلب، أي أن وظيفة الضرائب الجمركية لا يقصد منها زيادة موارد الدولة المالية
كهدف، وإنما هي أداة لتحقيق كفاية وجود السلع في السوق المحلي؛ لهذا يمكن
للدولة الملتزمة بتطبيق التشريع الاقتصادي الإسلامي استخدام هذه الأداة المالية
كأسلوب من أساليب تحقيق الحجم الأمثل في وجود وتوافر السلع، وهي السياسة
التي اتبعها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سوق المدينة، وهي
سياسة يمكن انتهاجها لكن لا بد من معرفة أن الغاية من السياسة الجمركية ليس
زيادة الموارد ولا حماية فئات معينة من المنتجين المحليين على حساب المستهلكين، وإنما يكون الهدف تحقيق التوازن الكمي بين العرض والطلب وفق السعر العادل
الذي لا ضرر فيه ولا ضرار.
إن معالجة الإسلام لمشكلة الأزمات الغذائية لا يقتصر على الجانب التنظيمي
فقط، ولكن الإسلام ينظر إلى الجانب السلوكي للأفراد والذي قد يؤدي إلى إيجاد
الأزمات السلعية، فقد يكون السلوك من العوامل المؤثرة في تفاقم أزمات النقص في
السلع وارتفاع أسعارها، لهذا فقد عالج الإسلام هذا الجانب ضمن منهجه في التكامل
في معالجة المشكلات، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن التبقر [3] في المال والأهل، كما روى
مسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له
فراش للرجل وفراش لامرأته والثالث للضيف والرابع للشيطان [4] ، ورُوي عن
عروة بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كلوا
واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة وسرف [5] .
وباستقراء هذه الأحاديث نجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام وجه الأمة إلى
ضرورة إدراك أهمية السلوك الاستهلاكي في التأثير على وجود السلع وتوفرها،
وأن الإنفاق الزائد عن الحاجة مظهر من مظاهر التبذير التي لا يحبها الله، فهو
مسلك شيطاني قد حذر القرآن الكريم من انتهاجه كما في قوله تعالى [إن المبذرين
كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا] [6] .
إن من المشاكل التي يعاني منها المجتمع المعاصر والتي لها دور كبير في
التأثير على حركة الاقتصاد، الاتجاه المتزايد إلى الإنفاق الاستهلاكي واستخدام
جميع الوسائل الإعلامية لإيجاد هذا الاتجاه، إن تزايد الإنفاق الاستهلاكي يؤثر على
القدرة الإدخارية لأفراد المجتمع، مما يؤدي إلى ضعف توافر المال الكافي
للاستثمار، مما ينتج عن ذلك خلل في الدورة الاقتصادية.
المنهج الإسلامي في معالجة أزمات النقص في السلع بما في ذلك السلع
الغذائية، مما له علاقة بالسلوك الاجتماعي والذي يؤدي إلى إيجاد أزمات النقص
في السلع الغذائية، يتمثل في اتباع السياسات التالية:
1-
ضرورة تقليص الإنفاق فيما لا تدعو الحاجة إليه، مراعاة أن يكون
الإنفاق الأسري متوازناً، فلا يكون هناك توسع إنفاقي لا تدعو إليه الحاجة ولكن
الإنفاق ينبغي أن يتقيد بمفهوم قوله تعالى [ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماْ
محسوراْ] [7] .
وعليه فإن الدولة التي تسترشد بالمنهج الإسلامي في معالجة أمورها
الاقتصادية إصدار اللوائح التنظيمية التي تحد مثلا من الإسراف في الإنفاق
الاستهلاكي الزائد عن الحاجة، ووضع الاجراءات التي تساعد على تقليص اتجاه
الإنفاق الاستهلاكي مثل وضع الضرائب المرتفعة على سلع الترف للحد من شرائها
على أن توجه حصيلة هذه الضرائب للإنفاق منها على تنمية المجتمع ومنع
الإعلانات المشجعة على شراء السلع الإستهلاكية وغير ذلك من الإجراءات التي
تحد من التوجه الإستهلاكي المخل بتوازن الدورة الاقتصادية.
2-
توجيه الأفراد إلى انتهاج سياسة تقليص الرغبة في التراكم السلعي بدون
حاجة، وأن على الدولة انتهاج الأسلوب الذي يحد من الميل إلى التكالب على اقتناء
السلع بدون حاجة سواء أكان ذلك بإصدار التنظيمات الإدارية التي تدفع الأفراد إلى
الإحجام عن تملك ما يزيد عن حاجتهم، استرشاداً بالحديث النبوي الذي رواه جابر
بن عبد الله بالابتعاد عن المنهج الشيطاني في الإسراف بتملك ما لا حاجة إليه،
واتباع جميع الوسائل والطرق التي تحقق غاية ضبط السلوك الاجتماعي بما يخدم
فكرة التحكم في الميل الاستهلاكي.
3-
منع المغالاة في الإنفاق بضبط السلوك الاستهلاكي، والتدخل في تحديد
رغبات الأفراد لما لذلك من تأثير في الميل الاستهلاكي والذي بدوره يؤثر على
دورة النشاط الاقتصادي، فتقليص الاستهلاك والحد منه قد يؤدي إلى التأثير على
الاستثمار مما يسبب في ضعف حركة التبادل والإنتاج ولذلك ينبغي أن لا يُفهم من
الحد من الإنفاق الاستهلاكي محاربة الإنفاق الاستهلاكي، ولكن ينبغي أن يكون
ضمن إطار عدم الإضرار بالنشاط الاقتصادي، وأن يكون الإنفاق الاستهلاكي
موجهاً نحو السلع ذات العائد الإنتاجي، أي أن يتم تشجيع الاستهلاك المعتدل الذي
يحقق التوازن في حلقات الدورة الاقتصادية.
إن معالجة الإسلام لمشكلة الأزمات الغذائية وفق ما تم استعراضه إنما ينبع من
التصور الأساسي الذي يقوم عليه الفكر الإسلامي والمتمثل في الوسطية في معالجة
الأمور، فلا إفراط ولا تفريط ضمن المفهوم الذي شرعه الله في كتابه في قوله
تعالى [وكذلك جعلناكم أمة وسطاْ لتكونوا شهداء على الناس][8] وهذه الوسطية
هي التي يدور عليها مدار الأمر في الإسلام عند معالجته لجميع القضايا الاجتماعية
والاقتصادية.
(1) البخاري، ك البدع، ج3، ص 20.
(2)
البخاري، ك البدع، ج3، ص 24.
(3)
التبقر: الكثرة والسعة.
(4)
مسلم، ج2، ص237، ط دار الكتب العلمية.
(5)
المخيلة: أي الكبر والسرف وتجاوز الحد في الإنفاق.
(6)
سورة الإسراء: 27.
(7)
سورة الإسراء: 29.
(8)
سورة البقرة: 143.