الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خواطر في الدعوة
أنماط التفكير
(2)
محمد العبدة
إن من هداية القرآن للمسلمين أن يصحح لهم طرق التفكير، ويسددهم إلى
الوسائل الصحيحة للفهم والتجديد، حتى لا يسيروا في مهامه ثم ينكصون، أو
يغزلون غَزْلاً ثم ينقضون.
وجّه القرآن الطاقات الفكرية للمسلم كي يتعلم ويبحث فيما يفيده في دنياه
وآخرته، فلا يعوقه عن حركته أو يأسره عن انطلاقته أحداث جرت ومضت، يقف
عندها لا يحور ولا يكور؛ ويستغرق فيها لتشغله عن واجبه في الحاضر وتطلعه
إلى المستقبل، ومن الطبيعي بل ربما يكون من الواجب الوقوف عندها لأخذ العبرة
والتعلم من دروسها، وشيء آخر لابد من ذكره وهو أن الكلام هنا ليس عن
الماضي الذي تركه لنا علماؤنا من عصر السلف وحتى يومنا هذا من علوم شتّى،
وخاصة ما تعلق منها بشرح وفهم نصوص الوحيين، فإن بعض الناس يتكلم بخبث
ومكر، ويدعو لترك الماضي من هذا الجانب، وترك الأصول والمنهج، أو تفسيره
حسب أهوائه، وإنما نتكلم عن أحداث معينة أو أشخاص معينين، والتركيز عليهم
دون الاشتغال بما ينفع في حاضر المسلمين.
عندما يقول قائل: ما بال علي ومعاوية رضي الله عنهما، نقول كما ذكر عن
بعض العلماء: تلك أحداث لم نشهدها، وقد مضت، ولا نخوض فيما شَجَرَ بين
الصحابة، والقرآن والسنة موجودان والحمد لله بين أيدينا، أما الوقوف عند هذا
الحدث لاستخلاص الدروس فهذا شيء طيب، وقد قال تعالى: [تلك أمة قد خلت
لها ما كسبت ولكم ما كسبتم] [البقرة: 123] .
وإذا جاء الآن من يقول: ما بال سيد قطب والمودودي ورشيد رضا وابن
باديس
…
الخ، نقول: أولئك دعاة وعلماء قد مضوا إلى ربهم ونأخذ ما عندهم من
صواب وندع أخطاءهم.
وإذا قرأنا عن معارك العلماء السابقين مع بعض الفرق المنحرفة فهل نتقمص
شخصياتهم ونقوم بالدور نفسه؟ أم أن هناك تيارات خطيرة جداً لم تكن موجودة في
حياة أولئك العلماء ويجب مكافحتها مثل التيار العلماني الذي يكيد للإسلام كيداً تندك
منه الجبال.
جاء في تفسير قوله تعالى: [قال: فما بال القرون الأولى، قال: علمها
عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى] [طه: 51، 52] : قول موسى عليه
السلام: [علمها عند ربي] يحتمل أن يكون موسى صرفه عن الخوض فيما لا
يجدي في مقامه ذلك الذي هو المتمحض لدعوة الأحياء، لا البحث عن أحوال
الأموات الذي أفضوا إلى عالم الجزاء.. [1] .
إنني أخشى أن تكون عملية الاستغراق في الماضي هروباً من تبعات الحاضر، أو أن يكون التمسك ببعض الآراء والأشخاص نوعاً من الاحتمال والدفاع لأننا لم
نستطع الهجوم والاستفادة من الأحداث لصنع الحاضر، مع أن الواجب التكلم عن
كل الأخطار التي تحيط بالمسلمين، ومن الواجب إرجاعهم دائماً إلى نقاء التوحيد
وفهم واستنباط القرون المفضلة، واتخاذ هذا منهجاً وطريقاً لمعالجة مشكلات
المسلمين، والعيش معهم في واقعهم، ولو كان هذا يكلفنا أكثر، أو يضع على
عاتقنا مسؤوليات أكبر.
(1) الشيخ الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير 8/234.
دراسات اقتصادية
السكان والتنمية
من المنظور الإسلامي
د. محمد بن عبد الله الشباني
في اليوم الخامس من شهر سبتمبر لعام 94م افتتح في القاهرة المؤتمر العالمي
للسكان والتنمية الذي قصد من عقده كما يدّعون معالجة النمو السكاني وكيفية
مواجهة الانفجار السكاني، لقد أثار هذا المؤتمر ردود فعل معارضة من قبل علماء
المسلمين لما طرح فيه من برامج لمعالجة مشكلة التزايد السكاني تصادم القيم
الإنسانية ومبادئ وأسس الاعتقاد بالله الرب المعبود.
إن الإطار الفكري الذي قام عليه المؤتمر، وما طرح فيه من أفكار ومناهج
ووسائل للحد من النمو السكاني، يقوم على الفلسفة الجدلية المادية التي من
مقتضياتها أن الإنسان مالك لتصرفاته بشكل مطلق، وأنه المتحكم في أموره كلها
وبالتالي فهو المسؤول عن توجيه الحياة على هذا الكوكب، وعليه أن يستخدم
قدراته وما أتاحه له التقدم العلمي من وسائل لمجابهة النمو السكاني من خلال فلسفة
العبثية القائمة على إنكار وجود الخالق جلا وعلا، وأن المادة هي المُوجدة لنفسها
ولغيرها من الظواهر المادية المشاهدة، وبالتالي فإن الإنسان بحكم ماديته قادر على
أن يتحكم في الحياة ضمن إطار ما أشار إليه القرآن الكريم من وصف هذه الفئة من
البشر الذين يعتبرون أن البعد الزمني للمادة هو المتحكم في مسيرة الحياة كما في
قوله تعالى: [وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما
لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون] [الجاثية: 24] .
أهداف المؤتمر:
تمثلت المجابهة الفكرية لمؤتمر السكان في إنكار توحيد الربوبية من خلال
العمل على تأكيد أن الطبيعة المادية للكون هي المالكة لمعطيات الحياة، وهي
محدودة وذاتية التأثير، وبحكم أن الإنسان جزء من هذه الطبيعة فعليه أن يسعى إلى
تأكيد دوره في السيطرة على المعطيات المادية، فالكون محدود الموارد وبالتالي فإن
محدودية موارده بحكم الطبيعة المادية الحاكمة لذاتها سوف يتغير ميزانها، ولا
تتمكن من توفير احتياجات الإنسان الذي تزايدت أعداده، فعلى الإنسان أن يتحكم
في تكاثره بتقليص نموه حتى تتلاءم الأعداد البشرية مع المعطيات المتاحة للأرض.
هذا المفهوم للعلاقة بين الموارد المتاحة للبشر على وجه الأرض وبين التكاثر
السكاني مفهوم قائم على جحود ربوبية الله بإنكار أن للكون خالقاً يدبر شؤونه.
إن البرنامج الموضوع لمجابهة التكاثر السكاني قائم على هذه الفلسفة فجميع
الوسائل العملية المطروحة في البيان الصادر عن المؤتمر تهدف إلى خفض تزايد
السكان من خلال الدعوة إلى الإكثار من مراكز تنظيم الحمل ونشر الثقافة الجنسية،
والمطالبة بنظامية الإجهاض، بدعوى حماية حقوق المرأة وتأخير سن الزواج مع
جواز ممارسة العلاقات الجنسية خارج الزواج
…
كل هذه الوسائل المطروحة
والمقرة من قبل المؤتمر بدون اعطاء أهمية لتأثيرها على بناء الأسرة وعلى فشو
الانحلال الخلقي لأفراد الأمة، لأن القيم والأخلاق خارجة عن التفكير المادي العبثي
الذي من أجله عقد المؤتمر.
إن معارضة ما ورد من طروحات في المؤتمر العالمي الثالث للسكان لأسس
العقيدة الإسلامية يتمثل في إنكار ربوبية الله للعباد، وإنكار صفات الله المرتبطة
بتوحيد الربوبية، فالله يقول في كتابه: [والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم
جعلكم أزواجاْ وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمر من معمر ولا ينقص
من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير] [فاطر: 11]، وقوله تعالى:
[وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم]
[العنكبوت: 60]، وقوله:[يأيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون][فاطر: 3]، وقوله:[قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون][الأنعام: 151]، وقوله:[ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا][الإسراء: 31] .
إن جميع هذه الآيات ترد على أولئك المؤتمرين الذي يريدون أن يبدلوا كلام
الله، كما أنها تكشف حقيقة الترابط بين القيم الأخلاقية ومحاربتها وبين عملية
الإنجاب والرد على دعوى الخوف من عدم كفاية الموارد، وأن الخوف من الجوع
نتيجة للإنجاب إنما يعود في أصله إلى إنكار ربوبية الله للخلق، وإلى ما قذفه
الشيطان في نفوس الجاحدين من كفر بخالق الكون والإنسان.
هذه منطلقاتهم:
لقد قام المؤتمر على فكرة نبذ القيم والنظم الاجتماعية القائمة على عقيدة
الإيمان المطلق بربوبية الله للخلق، وأنه لا يعزب عن قدرته وملكوته مثقال ذرة في
السموات ولا في الأرض، وأن اقتلاع هذه العقيدة من نفوس الناس أمر غير ممكن
لمجافاتها الفطرة، لهذا تفادى المؤتمر الإعلان عن أهدافه الفكرية بشكل صريح،
ولكنه انتهج أسلوب تحطيم الخلية التي تمثل الإطار الخاص لفطرة الإنسان القائمة
على الإيمان بالله، والمتمثلة في هدم البناء الأسري وما يلزم لهذا البناء من
سلوكيات أخلاقية تحقق تلاحمه وتماسكه، بجانب هذا الهدف فإن للمؤتمر غايات
مادية أخرى يرغب في تحقيقها لصالح دول الشمال التي تمتلك القدرة العلمية
والمادية، بخلاف دول الجنوب التي تمتلك مصادر المواد الخام حيث تأخذ دول
الشمال هذه المواد بأبخس الأثمان لتعيدها بعد التصنيع إلى دول الجنوب بأغلى
الأثمان، ومن أجل هذا الهدف تزعم دول الشمال التي هي أكثر غنى في العالم أن
مشكلة العالم الثالث أو مشكلة دول الجنوب في عدم النمو إنما تعود إلى القنبلة
الديمغرافية (السكانية) ومن أجل ذلك قدمت دراسات مضللة تزعم أن الأرض لن
تستطيع أن تُطعم سبعة بلايين من السكان حسب التوقعات لسنة 2010م، وأن الماء
سينضب من العالم، وأن كثرة السكان في دول الجنوب هي السبب في تلوث الهواء
وازدياد حرارة المناخ. [*]
التكاثر السكاني لا علاقة له بالمجاعات:
إن الحقائق الإحصائية تُكذب ما يزعمه الزاعمون، فقد ذكر برنامج الأمم
المتحدة للتنمية أنه في عام (91م) كان خُمس سكان الكرة الأرضية في الدول الغنية
يسيطرون على 7. 84% من موارد العالم الطبيعية، بينما سكان قارة إفريقيا
الأكثر فقراً لا يملكون سوى 4. 1% من هذه الموارد.
إن سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في حماية تجارتها قد أجبرت أوروبا
على تعطيل 15% من أراضيها الصالحة للزراعة، كما أن أوروبا تكدس جبال من
اللحم والزبدة والحليب المجفف من خلال شرائها ومنع بيعها إلا بالأسعار التي
ترغب فيها، أما في الجانب الاستهلاكي فإن الولايات المتحدة الأمريكية التي تمثل
5% من سكان العالم تستهلك ربع الإنتاج العالمي من الطاقة.
إن المال المهدر في إنتاج أدوات الهلاك قادر لو وجه إلى تخصيب الصحارى، وبناء السدود، وحفر الآبار، وتوفير مستلزمات الإنتاج الزراعي على معالجة
مشكلة الفقر في العالم وتوفير المياه اللازمة لذلك فمثلاً: تكلفة حاملة طائرات مجهزة
بست وثمانين طائرة يبلغ 5. 1 بليون دولار أمريكي وهو مبلغ يكفي لتوفير شبكة
مضخات مائية تحركها حابسات مياه تعمل بواسطة الطاقة الشمسية لدولة كالهند، أما
بالنسبة لتلوث البيئة فإن واحد من سكان الولايات المتحدة يساهم في ازدياد حرارة
الأرض ستة أضعاف مواطن واحد في المكسيك و 190 ضعف مواطن في أندونيسيا
فزيادة السكان ليست السبب في تلويث البيئة.
وعلى ضوء هذه المعلومات يتضح أن دعوى التكاثر السكاني ليست هي العلة
في المجاعات ولا في انخفاض مستوى الدخول، وإنما المشكلة تكمن في سوء
استغلال الموارد، والفكر المادي الذي يوجه السياسات الاقتصادية والاجتماعية
للدول الغنية.
إن علاقة التنمية بالسكان علاقة تلازم، فالسكان هم مصدر القوى العاملة التي
تمثل أهم عنصر من عناصر الإنتاج، ولكن مؤتمر السكان أغفل أمر النمو النوعي
للإنسان (أي تنمية قدراته وإمكانياته) واهتم بالنمو الكمي للمنتجات بدون ضوابط
أخلاقية، فالنمو حسب المفهوم السائد في المجتمعات الغربية الرأسمالية هو العمل
على تزايد الإنتاج لأي شيء سواء أكان مفيداً أو غير مفيد، مضراً أو مميتاً، مثل
إنتاج الأسلحة والمخدرات كالكحول والسجائر، وغير ذلك من المنتجات التي لا
تنفع الإنسان.
دور الإنسان المسلم في التنمية:
الإسلام يعطي أهمية كبيرة للتنمية، كما أنه لا يهمل دور الإنسان في النمو
ضمن إطار مفهوم: أن الإنسان خُلق وأسكن على هذه الأرض ليشقى ويتعب
وينصب، وأن شقاء الإنسان المادي مرتبط بسلوكه الاعتقادي، لكن حقيقة وجود ما
يكفي البشر المخلوقين من الاحتياجات المادية التي تقوم عليها حياة الإنسان مكفولة،
فالله قد تكفل برزق جميع من على وجه الأرض وليس فقط الإنسان كما في قوله
تعالى: [وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها][هود: 6] لكن النقص
في الأموال وعدم كفايتها في فترات زمنية معينة لا يرتبط بعدم كفاية ما خلق الله،
وإنما يعود ذلك إلى أمرين:
الأمر الأول: أن النقص ناتج عن عقاب للإنسان إما بسبب الكفر أو بقصد
الابتلاء والامتحان، يقول تعالى: [ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص
من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا
لله وإنا إليه راجعون] [البقرة: 155، 156]، وقوله تعالى: [وضرب الله مثلا
قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله
لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون] [النحل: 112] .
الأمر الثاني: الابتعاد عن منهج الله سبب للشقاء المادي سواء أكان بعدم
الامتثال لما أمر الله به أو بعدم اتباع شرعه الذي شرعه في تنظيم حياة البشر يقول
تعالى: [ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض
ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون] [الأعراف: 96] .
يعترف الإسلام بالعلاقة التي تربط التنمية حسب المفهوم الاقتصادي وبين
السكان، فالتنمية هي عملية تفاعل مجموعة من القوى خلال فترة من الزمن ينتج
عن هذا التفاعل حدوث تغيرات جوهرية بقصد إحداث تغيرات معينة في الاقتصاد
القومي، ويقصد بتلك المتغيرات ما يحدث في عرض عوامل الإنتاج لذلك فالتنمية
هي عملية المساعدة في إيجاد التفاعل بين المصادر الإنتاجية والقوى العاملة للمجتمع
فتجعل منها طاقة محركة فاعلة ومتفاعلة.
إن مكونات التنمية والعوامل الفاعلة فيها تتمثل في حصيلة التفاعل بين
الإنسان والموارد الطبيعية واستخدام الزمن في استغلال عنصري الإنتاج (الإنسان
والموارد الطبيعية) ، فحصيلة التنمية تتمثل في الوصول إلى التفاعل بين عنصري
الإنتاج والزمن، وهذا التفاعل لا يتم إلا بوجود المحرك المتمثل في الفكر الفاعل.
إن علاقة التنمية بالسكان تتمثل في أن الإنسان يأخذ مركز الثقل، فإما أن
يدفع بحركة التغيير إلى الأفضل وإما أن يعيق ويعطل حركة التغيير، وإن حركة
التغيير للإنسان تمر من خلال عملية توجيهه من خلال الثقافة والعمل ورأس المال،
فما هو موقف الإسلام من هذا الجانب؟ ! .
هذا ما سيكون محور الحديث في الحلقة القادمة إن شاء الله.
(*) هذه المعلومات مستقاة من مقالة للفيلسوف الفرنسي المسلم رجاء جارودي، وقد نشرت ضمن مقالة في جريدة الحياة بتاريخ 11 سبتمبر 94م تحت عنوان القنبلة الديمغرافية خدعة لترسيخ الاستغلال.
قراءة في كتاب
يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة [*]
تأليف/ جيمس باترسون وبيتر كيم
ترجمة: د. محمد بن سعود البشر
عرض: د. مالك الأحمد
توطئة:
يقرأ الإنسان في حياته الكثير من الكتب، لكن يغلب على القراءات أنها
انتقائية بمعنى أنه يقرأ فصولاً وأجزاء من الكتاب مما يثير في نفسه الفضول
والشوق لمعرفة شيء ما، لكن قلما يقرأ الإنسان كتاباً من الجلدة إلى الجلدة كما
يقولون وهذا ينطبق على الكتاب الذي بين أيدينا والذي يتميز بتوفر كمٍ من
المعلومات ذات الطبيعة الميدانية، إذ إن محور الكتاب المجتمع الأمريكي الذي يعد
نموذجاً من المجتمعات الغربية بصفة عامة.
أهمية الكتاب:
يعتبر الكتاب من المراجع القليلة ذات الطبيعة الاجتماعية التحليلية للمجتمع
الأمريكي، وذلك بناءاً على دراسات علمية وإحصاءات ميدانية ومقابلات شخصية،
ولقد نال الكتاب رواجاً كبيراً في أمريكا لأنه كشف بشكل كاف عن واقع المجتمع
الأمريكي كما يراه أبناؤه وأوضح الكثير من القضايا غير الظاهرة، وحصل على
تقريظ الكثيرين من الكتّاب ودور النشر والصحافيين البارزين، وقد استقى المؤلفان
معلوماتهما من دراسات سابقة متعددة إضافة إلى استبانات كثيرة، ومقابلات
شخصية مع آلاف من الناس من طبقات وأجناس وأعمار مختلفة مما يعطي نتائجه
مصداقية معقولة وبخاصة وأن شخصيات الناس بقيت مجهولة كي تعطى الفرصة
للتحدث بصراحة كاملة، وقد قالت عنه مجلة (Busiess week) الأمريكية: إنه
بمثابة رحلة فكرية مزعجة في عقول الأمريكيين وقال عنه الأديب الأمريكي
المعروف (اليكس هيلي) : أنه يعرض الحقائق عن أنفسنا مما لم أشاهده في أي
دراسة أو في استطلاعات الرأي ولا حتى في الأحاديث الشخصية.
منهج المترجم:
سعى المترجم د. محمد البشر أستاذ الإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود إلى
الترجمة الكاملة والأمينة لمحتويات الكتاب كاملة لكنه لدواع إسلامية اضطر إلى
الترجمة الانتقائية في بعض الأحايين خصوصاً عندما يستخدم المؤلفان ألفاظاً سوقية
أو عند الكلام على قضايا جنسية بطريقة تخدش الحياء فيعمد المترجم حينئذ إلى
الحذف اضطراراً أو الترجمة بالمعنى، وذلك دون الإخلال بالمعاني العامة المرادة
وبما لا ينقص من المادة العلمية للموضوع.
ولم يعلق المترجم على المادة، إلا في حالات نادرة لتوضيح مبهم أو شرح
اصطلاح، مما يضفي على الكتاب المترجم قيمة علمية.
محتوى الكتاب:
الكتاب مكون من مقدمة وتسعة فصول وخاتمة في حدود مئتي صفحة.
المقدمة: يبين المؤلفان فيها نظرة الأمريكيين إلى الأشياء التي تهمهم في
الحياة، إضافة إلى حقائق توصلا إليها من خلال الكتاب.
الفصل الأول: الأقاليم الأخلاقية في أمريكا حيث يرى المؤلفان أن هناك
تمايزاً أخلاقياً في أمريكا تبعاً للمواقع الجغرافية.
الفصل الثاني: السلطة الأخلاقية الحقيقية في أمريكا حيث يشير الكتاب إلى
عدم وجود مرجع أخلاقي ديني أو اجتماعي للناس.
الفصل الثالث: مأزق الأخلاق والقيم حيث يُفَصّل الكتاب الحديث في أخلاق
الناس وانحرافاتهم وأسبابها.
الفصل الرابع: الرجال والنساء في عقد التسعينات حيث يبين الكتاب مدى
الخصام بين الجنسين والصورة السلبية للجنسين حيال بعضهما، ونتائج ذلك على
الأسرة والأطفال.
الفصل الخامس: العنف في أمريكا ويبحث فيه المؤلفان العنف والسلام
والاغتصاب والانتحار والإيدز والجريمة باعتبارها قضايا مرتبطة ببعضها بشكل أو
بآخر.
الفصل السادس: العمل: يتحدث الكتاب عن العمل والإخلاص فيه والعلاقات
بين أفراده وعن أخلاقيات العمل.
الفصل السابع: الحياة الاجتماعية: حيث يقارن المؤلفان بين أفقر حي في
نيويورك وأغنى حي في لوس أنجلوس، ثم يعرجان على غياب مفهوم القرية
الواحدة ثم أرقام الجريمة الحقيقية ويعرجان على الفقر والعنصرية والإدمان
باعتبارها ظواهر اجتماعية عامة.
الفصل الثامن: الله، والسلطة الأخرى: يبين الكتاب من الذين يؤمنون بالله
وهل هو مصدر التعاليم ومن هم قادة أمريكا الحقيقيون.
الفصل التاسع: أمريكا والعالم: يبين موقع أمريكا من العالم في نظر أبنائها،
ومستقبل الصراع الاقتصادي والحضاري.
الخاتمة: أربعة وخمسون حقيقة توصل إليها المؤلفان من مجمل ما توصلا
إليه في دراستهما هذه.
ماذا نستفيد من الكتاب:
لا شك أن الكتاب مكتوب للشعب الأمريكي ولذا فطريقة البحث ونتائجه تهم
ذلك الشعب، لكن بالنسبة للمسلمين فإن دراسة واقع المجتمعات الغربية التي لها
علاقات متشابكة مع العالم الإسلامي لها أهمية بالغة من عدة جوانب لعل أبرزها
ظاهرة تأثر الضعيف بالقوي، وظاهرة التقليد عموماً إضافة إلى استشراف مستقبل
هذه الأمم وتوقعات زمن الأفول لهذه الحضارات، مما يشجع ويدفع المسلمين
وبخاصة المقيمين في الغرب إلى الاستفادة من هذا الواقع المتردي لعرض الدين
الإسلامي عليهم كي ينجوا من واقعهم الحالي بعد التفكير في مآلهم ومصيرهم.
نتائج الكتاب:
لعلي أشير إلى ما لخصه المؤلفان وما استطعت تلخيصه من خلال استعراض
الكتاب فيما يلي:
* النساء أفضل خلقاً من الرجال مما يؤهلهن لتسلم مهمات قيادية في مجتمعهن.
* تفتقر أمريكا للقيادة الأخلاقية، أما قادتها الحاليون فهم مصدر الإخفاق في
كل المجالات.
* الشباب الأمريكي هم أكبر مآسي المجتمع.
* ما يصل إلى 60% من مجموع السكان هم ضحايا الجرائم.
* فقدت نسبة كبيرة من الأطفال معاني الطفولة، وأصبحوا ضحايا ظواهر
سلبية جديدة، ومنها على سبيل المثال الاغتصاب، حيث إن نسبة كبيرة من
الصغيرات (تحت ثلاثة عشرة سنة) تعرضن للاغتصاب، وبشكل عام فإن واحداً
من سبعة أطفال تعرض لاعتداء جنسي.
* الانحراف الخلقي والتحلل من القيم هي المشكلة الأولى في البلاد.
* الزواج لم يعد حصانة للمجتمع فالمشكلات الأسرية متفاقمة لدرجة أن ثلث
الأزواج يخونون بعضهم بعضاً.
* غياب الأمن الاجتماعي من ظواهر السنوات الأخيرة، وانتشار الفردية في
كافة نواحي الحياة.
* 20% من النساء تعرضن للاغتصاب وفي أكثر الأحيان يكون ذلك من
أصدقاء ومعارف.
* السلطة الأخلاقية في المجتمع مصدرها الإنسان نفسه والتبرير لذلك السلوك
المنحرف يكون عادة ببساطة غيري يفعله.
* ثلثا الناس يعتقدون أن الكذب لا حرج فيه رغم شعور الكثيرين بالخزي
تجاهه وتجاه السلوكيات الأخرى المنحرفة.
* أكثر من 50% من الناس لا ترى مبرراً للزواج وبالنسبة لأكثر المتزوجات
فإن الإحصان الجنسي وإنجاب الأولاد ليسا السبب الرئيس للزواج، وما يدعى أنه
أكبر مبررات الزواج (الحب) هو من أكبر أسباب الطلاق فيما بعد.
* العلاقات الزوجية ليست جيدة في العموم، وطبيعة الحياة ونظرة الزوجين
لبعضهم بعضاً من أهم أسبابها.
* العنف من أبرز أمراض المجتمع الأمريكي ومعدلاته تفوق جميع البلدان
الأخرى بمراحل، وهو لا يقتصر على فئات معينة. ولوسائل الإعلام دور رئيس
في انتشار العنف، إضافة إلى واقع الحياة وظروف النشأة.
* 14% من سكان أمريكا يحملون سلاحاً، والحصول على السلاح رغم
القيود الإضافية متيسر خصوصاً لمن يدفع نقداً.
* الانتحار مستفحل في أمريكا والرقم الرسمي (30.000) ، لا يقل الرقم
الحقيقي عدداً عن آلاف من محاولات الانتحار الفاشلة فضلاً عن الأعداد الضخمة
التي تفكر في الانتحار وهذه الظاهرة تكثر في أوساط الرجال والشاذين والشباب.
* 2.2 مليون أمريكي مصاب بالإيدز، وسبعة ملايين يعتقدون باحتمال
إصابتهم به.
* هناك رغبة عامة في تدريس المبادئ والقيم الاخلاقية في المجتمع الأمريكي.
* الفساد والرذيلة والمخدرات أكثر انتشاراً في الأوساط الغنية منه في
الأوساط الفقيرة.
* نسبة 90% من الأمريكيين يؤمنون بالإله، لكن الالتزام بأوامره ضعيف
للغاية.
* اليابان تمثل تحدياً اقتصادياً كبيراً لأمريكا حالياً، ويعتقد أكثر الأمريكان
بأفول أمريكا في القرن القادم لصالح اليابان.
* عضو الكونجرس الأمريكي لا يختلف أخلاقياً عن قادة الجريمة وتجار
المخدرات.
* المال هو العامل الرئيس لدى الأمريكي كي يكذب أو يغش أو يسرق أو
يقتل.
* 20% من الأمريكان يتعاطون المخدرات بشكل أو بآخر.
* الجشع والأنانية من الصفات البارزة للمجتمع الأمريكي الحالي.
هذه الخصائص آنفة الذكر تمثل صورة قريبة جداً من الواقع لأنها نتاج
مقابلات شخصية مع آلاف من الناس، وفي الحقيقة ليست هي المقياس الوحيد لكنها
إضافة إلى ما ينشر من أخبار ودراسات وتحليلات للواقع الاجتماعي الحالي لأمريكا
تمثل صورة واقعية يمكن من خلالها رسم صورة معقولة والوصول إلى نتائج مقبولة.
هذا واقع الشعب الذي ما يزال نفر من بني أمتنا يرى فيه (نموذجاً) ويدعون
بكل صفاقة لتقليده واحتذاء أساليبه الحياتية وهو يعيش في جاهلية وانحراف وسقوط، لكن أولئك المقلدة علموا أو جهلوا إنما يدعون لهوان أمتهم وانحرافها، وهم
يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وياليتهم يدعوننا إلى تقليدهم في العلوم والتقنية
والأبحاث ولكن المشكلة أنهم يريدون السير وراء ذلك الشعب بحضارته وثقافته كما
قال كبيرهم الذي علمهم السحر لنأخذ الحضارة حلوها ومرها، خيرها وشرها.
وحينها نعلم إلى أي مدى يريد أولئك بأمتنا من شرور وفتن، وفاقد الشيء لا
يعطيه..
(*) صدر الكتاب عام 1414 هـ/1994 م بعد ترجمته للعربية ويعتبر في طبعته الأصلية أحد الكتب التي احتلت الصدارة في قائمة المبيعات في أمريكا.