الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقال
السلم والقتال
في الإسلام
قراءة دلالية وشرعية واصطلاحية
كمال السعيد حبيب
المدخل اللغوي:
لا تمثل اللغة مجرد قالب شكلي تصب فيه الألفاظ، ولكنها تعبير حضاري
للتفاهم بين أفراد أمة، ولذا: فإن للألفاظ ومعانيها دلالات حضارية تعكس رؤية
الحضارة التي أنتجت هذه الكلمات للكون وللذات وللآخر، ولذا: فإن التحليل
اللغوي يمثل أحد المداخل الهامة لمعرفة موقف حضارة (ما) من بعض القضايا
وكيف تصورتها وفكرت فيها وعبرت عنها، والأداة الرئيسة لمعرفة ذلك ستكون
(القواميس اللغوية) كما يمكن تتبع التطور اللغوي للمصطلح إذ قد تتطور دلالته
اللغوية إلى تعبيرات أخرى تتجاوز مجرد الوضع الأول له، وهو ما يعرف بـ
(الدلالة العرفية) ، وحتى تتكامل الرؤية فإن مصدراً آخر يجب على الباحث تعقبه
حتى تكتمل الصورة لديه، ذلكم هو كيف تم التعبير عن هذه الكلمة في القرآن
الكريم والسنة المطهرة وهو ما يعرف باسم (الدلالة الشرعية) ، ونحن سنقتصر
في هذه الدراسة على البحث اللغوي في القواميس والبحث الشرعي في القرآن
الكريم، والبحث الاصطلاحي.
أولاً: الدلالات اللغوية لكلمة (السلم) :
بمراجعة لسان العرب فإننا نجد أن المعاني ودلالتها لكلمة السلم تتمحور حول
الآتي:
1-
علامة المسالمة - أي ظهور بوادر لغياب الحرب أو توقفها - فالجنود لا
يزالون في الميدان، والقادة مقبلون على ترتيبات السلام التي قد لا تصل إلى نهايتها
صُلْحاً فتبقى حالة الحرب قائمة.
2-
الصلح بين جماعتين ففي كتابه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين
والأنصار حين مقدمه المدينة نص على: (وإن سلْم المؤمنين واحد لا يسالم مؤمن
دون مؤمن) [*] أي لا يصالح واحد دون أصحابه، وانما يقع الصلح بينهم وبين
عدوهم باجتماع مَلَئهم على ذلك.
3-
الحياد بمعنى عدم وجود تعامل أو علاقة بين طرفين كما في قوله (تعالى)
[وإذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً][الفرقان: 63] أي: لا خير بيننا وبينكم ولا
شر، وليس السلام هنا هُو المستعمل في التحية.
4-
الاستسلام وإظهار الخضوع والانقياد والرضا بالأحكام، وتلك هي حالة
الهزيمة التي يفرضها الغالب على المغلوب.
أي: إن مدلول السلم في اللغة يتضمن أربعة مستويات تبدأ بما يطلق عليه في
العلاقات الدولية (الإشارات والرموز) التي يتبادلها أطراف الصراع التي تعكس
تطور إدراكهم بعدم جدوى الاستمرار في الحرب، وتنتهي بحالة الاستسلام
والهزيمة التي لا إرادة للمغلوب فيها مع الغالب، ويبقى موقف الحياد الذي يعني
عدم التعامل، والصلح الذي يعني انخراط طرفي الصراع في ترتيبات تحقق
مصلحة الطرفين؛ لا يختفي في هذه الترتيبات التنازع ومحاولة كل طرف أن يحقق
أكبر قدر من المكاسب، وهو ما يطلق عليه في العلاقات الدولية (الصراع
التفاوضي) ؛ واذا كان (كلاوزنتر) قد قال: (إن الحرب هي السياسة بوسائل أخرى)
فإن الصلح والتفاوض هما الحرب بوسائل أخرى، ففي رحلة الصلح ورغم توقف
القتال والأعمال العسكرية إلا أن الصراع لم ينته بعد، ومن الواضح في حالة
الصلح وجود إرادتين متساويتين تتنازعان للحصول على أكبر قدر من المكاسب؛
ولذا: فإن وثيقة المدينة التي صاغها النبي بين المهاجرين والأنصار وبينهم وبين
اليهود أكدت على أنه لا يجوز لجماعة أو فئة أن تقرر السلم والصلح دون بقية الأمة، فقرار السلم قرار جماعي ليكون مُتَأكَداً أنه في صالح الأمة، ولكي يكون مسؤولية
كل أفراد الأمة فهو حالة مصيرية كحالة الحرب تماماً لا يجوز لفئة أن تنفرد به دون
بقية المسلمين*.
ثانياً: الدلالة الشرعية لكلمة السلم:
وردت كلمة (السلم) في القرآن الكريم في مواضع متعددة وبمعان متعددة:
1-
الاستسلام، كما في قوله (تعالى) : [قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ
إلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ] [الفتح: 16] أي: يدخلون في
الإسلام ويلتزمون أحكام شريعته.
2-
الهدنة وعدم الرغبة في القتال، كما في قوله (تعالى) : [فَلا تَهِنُوا
وتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ واللَّهُ مَعَكُمْ ولَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] [محمد: 35] فهنا
قطاع من المؤمنين يرغبون في السلام والمهادنة مع الأعداء؛ لأن القتال يهدر
الدماء أو لأنهم جبناء، كما وردت عن الهدنة من جانب الأعداء، كما في قوله
(تعالى) : [وإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ][الأنفال: 61] .
3-
ووردت أيضاً بمعنى الكف والصلح، كما في قوله (تعالى) : [فَإنِ
اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وأَلْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً]
[النساء: 90] فهؤلاء لم يتعرضوا لحركة المسلمين بالدعوة في الجزيرة العربية وتركوهم يتحركون دون أن يتعرضوا لهم، فهنا لا ينبغي للمسلمين أن يتعرضوا لهم لأن السلم قاعدة لكي يبقى الجهاد ماضياً.
4-
ووردت بمعنى كونها قرينة على الإسلام في قوله (تعالى) : [ولا تَقُولُوا
لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً] [النساء: 94] أي: قال السلام عليكم، وهو
يدل على إسلامه ظاهراً.
وفي الاصطلاح الشرعي فإن السلم يعني مصالحة المسلمين للكافرين على
تأخير الجهاد إلى أمد معين لضرورة أو مصلحة (ويطلق عليها المسالمة والموادعة) .
أي إن السلم في التصور الفقهي الشرعي هو حالة استثنائية لا يتوقف فيها
الاستعداد للجهاد؛ وإنما فقط للضرورة، أي لأن المسلمين ليس لهم قوة أو لأن
للمسلمين مصلحة في ذلك كتحييد بعض القوى، وهذا التصور مبني على أن العالم
ينقسم إلى قسمين: دار الإسلام ودار الحرب، وأن دار الحرب مقصودة دائماً
بالقتال من جانب المسلمين حتى تدخل في الإسلام أو حتى تقبل نظامه وتلتزم أحكام
ملته، فالأصل في هذا التصور هو أن العلاقة بين الدولة الإسلامية والعالم هي
علاقة حرب دائمة ما لم توجد مصلحة أو ضرورة.
ثالثاً: الدلالات اللغوية لكلمة القتال:
1-
هي الحرب بين طرفين أو قوتين.
2-
الدعاء باللعن والخروج من رحمة الله على الأعداء، كما في قوله (تعالى) :[قُتِلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ][عبس: 17]، أي: لُعِن، وقوله -صلى الله عليه
وسلم-: (قاتل الله اليهود) أي لعنهم وعاداهم، أي: إن الدعاء على العدو هو
ممارسة قتالية إذ لم يكن بالوسع مواجهته في الميدان إما لعدم الاستعداد العسكري أو
لعدم القدرة إلى النفاذ إليه لأن الحواجز تحول دون ذلك، كمنع المشاركة في
المعارك ضد المسلمين بالبوسنة وفلسطين، فالدعاء يعني استحضار حالة القتال في
النفس دائماً.
3-
الاستبعاد والإهمال كما في الحديث (من دعا إلى إمارة نفسه أو غيره من
المسلمين فاقتلوه) أي اجعلوه كمن قتل أو مات بأن لا تقبلوا له قولاً ولا تقيموا له
دعوة؛ فالإهمال والمقاطعة والاستبعاد كممارسة جماعية لمن يريد أن يضر
بالمسلمين داخلياً أو خارجياً هو تعبير قتالي يميت العدو وينفيه من الحضور في
واقع المسلمين وفي أنفسهم، أي: إن هناك بعداً معنوياً ونفسياً في القتال، فحياة
العدو تتمثل في قبوله وحضوره على المستوى النفسي، وموته يتمثل في لفظه
وعداوته واهماله واستبعاده.
4-
تحقق أمنية للنفس طال انتظارها، فنقول (قتل غليله أي سقاه فزال
غليله بالرِّي) أي: إن التعلق بالأهداف الإسلامية للأمة ومحاولة بعثها وإحيائها هو
ممارسة قتالية، فإذا لم يكن لدى المسلمين قوة تحقيقها في عالم الشهود الخارجي فلا
أقل من تمثلها في عالم الاستبعاد الداخلي، فدوام تمثلها واستحضارها هو مرحلة
نحو تحويلها إلى حقيقة واقعة..
5-
الخبرة والتجربة والممارسة والسياسة فنقول رَجُل مُقِّتل أي مجرِّب
للأمور ويُقال ناقة مُقتِّلة، أي: مذللة لعمل من الأعمال فقد روِّضت على ذلك
واعتادت عليه، وهذا هو الجانب التربوي للقتال فإن تحطيم أهواء النفس وفسادها
وامتناعها حتى تستحيل خلفاً صالحاً قابلاً للطاعة والخضوع، وتَقَبُّل ما تكره
والرضا به، وسرعة التلبية والطاعة حتى فيما تكره النفس وهذا هو ما يمكن أن
نطلق عليه (روح الجندية) .
أي: إن مدلول القتال في اللغة يتضمن مستويات عدة: تبدأ باستحضار
أمنيات الأمة في النفس، وتنتهي بالانخراط في قتال عضوي ضد العدو في ميدان
الحرب، ويتوسط ذلك مستويات عدة من الممارسات تجاه النفس وتجاه العدو، ولا
يمكن لأمة أن تنتصر في معركة حربية مع العدو وهي لم تمارس مستويات القتال
الأخرى على المستوى النفسي والتربوي؛ لذا فإن ظهور ما يسمى بالحرب النفسية
التي توجه في الأساس إلى إدراك الخصم وعقله ونفسه له ما يبرره، وتستطيع
القول بأن الهزيمة النفسية لا يمكن أن تقود إلى نصر عسكري مهما كانت الأمة
متسلحة بالعتاد، فالجانب النفسي الإدراكي في القتال كما يقول ابن خلدون: هو
أساس النصر أو الهزيمة.
رابعاً: الدلالات الشرعية لكلمة القتال:
لقد ورد مصطلح القتال في القرآن الكريم في مواضع كثيرة وبأشكال متعددة،
فقد قال (تعالى) : [كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ][البقرة: من 216] أي:
فُرِض، كما ورد في قوله (تعالى) : [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ
فِيهِ كَبِيرٌ] [البقرة: من الآية 217] كما ورد في قوله (تعالى) : [وإذْ غَدَوْتَ مِنْ
أَهْلِكَ تُبَوِّئُ المُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ] [آل عمران: من الآية 121] م وقوله (تعالى) : [فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً
وقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ] [النساء: من الآية
77] وقوله (تعالى) : [ومَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَاّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلَى فِئَةٍ
فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ] [الأنفال: من الآية 16] وقوله (تعالى) : [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ] [الأنفال: من الآية 65] وقوله (تعالى) : [فَإذَا
أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إلَيْكَ
نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ المَوْتِ] [محمد: من الآية 20] ، ونجد الفقهاء يربطون
ربطاً محكماً بين مفهوم الجهاد ومفهوم القتال، ففي تعريفهم للجهاد قالوا: هو دعوة
الكفار إلى الدين الحق وقتالهم إن لم يقبلوا.
ويقول بعضهم: الجهاد هُو: (قتال الكفار لنصرة الإسلام) ، فالقتال هو أداة
الدولة الإسلامية في نشر سلطانها لإعلاء دين الله ولتكون كلمة الله هي العليا.
ويمكن القول: إن مصطلح الجهاد يتبادل مع مصطلح القتال دلالته بحيث
يمكن لأي منهما أن يعبر عما يدل عليه الآخر إذا أطلق أي منهما، لكن إذا اجتمعا
معاً فإن مصطلح الجهاد يبدو أوسع من مجرد القتال؛ إذ فيه جوانب دعوية وتربوية
وإعدادية، بينما يعبر القتال عن الحرب في الميدان، لكن لا يطلق الجهاد أبداً
وينزع منه التعبيرات التالية له إما بالاستعداد للقتال أو الانخراط الفعلي فيه، أي:
إن الجهاد من أجل معاش الأولاد مثلاً أو من أجل الحصول على رسالة علمية أو
من أجل بناء عمارة.. الخ، لا يعبر عن المعنى الشرعي للجهاد.
ومصطلح الجهاد أسبق من مصطلح القتال فهو مصطلح مكي بينما مصطلح
القتال هو مصطلح مدني، فهو التعبير المؤسس لحركة دولة، أما قبل الدولة فإن
مصطلح الجهاد هو إعداد نفسي وتربوي ودعوي للقتال باعتبار أن القتال هو أسمى
صورة للجهاد وهو أكثرها خطراً على النفس، ففي المعركة يتعرض الإنسان لزلزلة
الإقدام على الموت وهي فتنة تحتاج إلى تربية وجهاد.
خامساً: رؤية القدماء والمحدثين للسلم والقتال:
هناك إجماع بين الفقهاء القدامى على أن القتال هو أداة الدولة الإسلامية
الحركية لتحطيم القوى التي تقف في وجه نشر سلطان الإسلام على العالم، فالعلاقة
بين دار الإسلام والعالم هي علاقة قتالية تتقدمها الدعوة، ولكن بعض المعاصرين
وتحت تأثير انتشار الأفكار الحديثة عن العلاقات الدولية رأوا أن السلم هو أساس
علاقة الدولة الإسلامية (دار الإسلام) بالعالم، والفقهاء الأقدمون نظروا إلى الجانب
القتالي على أنه ينسخ الأحكام المرحلية التي أجازت السلم، بينما رأى المعاصرون
أن أحكام السلم محكمة وتمسكوا بها وأسسوا علاقة العالم الإسلامي (دار الإسلام)
بالآخر على أنها: علاقة ود ومحبة وعدم اعتداء، وبدون الدخول في الجدل الفقهي- فلذلك موضع آخر- فإننا نحاول من خلال التتبع للدلالة اللغوية والشرعية لكلمتي
السلم والقتال أن نؤسس تصوراً جديداً.
سادساً: بناء تصور جديد لعلاقة دار الإسلام بالعالم
من خلال المدخل اللغوي:
الدلالة اللغوية لكلمة السلم كما أوضحناها لا تنفي وجود تعارض في المصالح
والأفكار والأهداف بين دولة وأخرى، لذا: عكسنا قولة (كلاوزنتر) فقلنا: إن
السلم هو الحرب بوسائل أخرى، فليس معنى أن تكون علاقة الدولة الإسلامية
بالآخرين هي علاقة سلم أن ينتفي الصراع بينهما ولكنه يبقى قائماً واحتمالاته
مفتوحة، فقد يكون التعارض لأسباب سياسية أو اقتصادية أو استراتيجية ولكل حالة
منها أسلوب في إدارة الصراع مع العالم.
أما الدلالة اللغوية لكلمة القتال فإنها لا تعني الانخراط في حرب عفوية بشكل
دائم مع العالم، ولكن هناك مستويات دون القتال تجعل الأمة على أهبة الاستعداد
والاستنفار لمواجهة العدو لأي سبب من الأسباب، فعلاقة القتال في جوانبها الأهم
تتمثل في الاستعداد النفسي من قبل لحالة الحرب، ويمكن تصور أن معنى حالة
السلم بمعنى الصلح متداخل ومتقاطع مع معاني القتال ودلالته التي تركز على
الجانب التربوي بحيث لا يتحول السلم الذي تقيمه الأمة إلى ركون للدنيا وكراهية
للموت، وإنما هو سلم واعٍ ومستعد إذا حاولت الأطراف الأخرى أن تنقض اتفاقها
مع الدولة الإسلامية أو بدا للدولة الإسلامية أن حالة الضرورة أو المصلحة غير
متوافرة، فهو لذلك سلم له طابع مرن ومتغير وليس سلماً مؤثراً، ولا توجد في
العلاقات الدولية المعاصرة حالة سلم دائم أو حالة حرب دائمة، وإنما هي حالة
صراع دائم لا يتوقف، وكلمة السلم والقتال تتضمنان حالة الصراع أكثر من معاني
الاستسلام أو الحياد. إن الاستعداد الدائم للحرب سواء أكان ذلك في حالة السلم أو
ما قبل القتال هو الردع الذي يمنع الخصم من أن يضر بمصالحك أو أن يعتدي
عليها، واستراتيجية الردع المتبادل الآن ليست سوى تملك أدوات القتال والتهديد
بالاستعداد لاستخدامها دون الاستخدام الفعلي لها، وهي استراتيجية تتداخل فيها
تعبيرات السلم والصراعية وتعبيرات القتال السلمية التي تحقق أهداف الحرب دون
استخدامها.
قطوف رمضانية
قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله
حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري
(*) هو بند من بنود الاتفاقية التي كانت بين المهاجرين والأنصار عند مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، شرح الزرقاني على المواهب اللدنية ج 4 / 168، السيرة النبوية الصحيحة، د إكرام العمري ج 1/297
- البيان -.
خواطر في الدعوة
وإخوانهم يمدونهم في الغي
محمد العبدة
ليس غريباً أن يلجأ العلمانيون في معرض التشغيب على الإسلاميين إلى
التهمة المكررة المعتادة (أنتم تريدون الحكم، وتستخدمون الدين وسيلة لهذا الهدف) ،
وليس غريباً أن يعيدوا الكلام البارد الغث عن (الإسلام السياسي) و (الأصولية) مما
يجترُّونه وينقلونه عن الكتابات الغربية، ويظنون أنهم بهذا التهويش الإعلامي إنما
يضعون الإسلاميين في الزاوية الحرجة.
إن هذه التهمة ليست جديدة على مسامع الدعاة إلى الله، فإن للمعاصرين من
العلمانيين سلفاً في ذلك [وإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ]
[الأعراف: 202]، إنهم ملأ فرعون حيث يذكر القرآن هذا الحوار بينهم وبين موسى عليه السلام [قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا ولا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ * قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وتَكُونَ لَكُمَا الكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ] [يونس: 77-78] ، قال في تفسير المنار:
(هذا استفهام وتوريط وتقرير، فحواه: أتقر وتعترف بأنك جئتنا لتصرفنا
عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من الدين القومي الوطني، لنتبع دينك، وتكون لك
ولأخيك كبرياء الرئاسة الدينية وما يتبعها من كبرياء العظمة والملك الدنيوية في
أرض مصر كلها، يعنون: أنه لا غرض لك من دعوتك إلا هذا وإن لم تعترف به
اعترافاً) [1] .
أليست هذه مقولة علمانيينا حذو القذة بالقذة؟ ترى ما الذي أعطى لهؤلاء الحق
في الحكم ومنعه عن الإسلاميين؟ ! ولماذا السياسة حلال لهم وحرام على غيرهم؟! وما هي مؤهلاتهم لسياسة الخلق لما فيه مصلحتهم؟ وماذا قدموا لهذه الأمة طوال
عقود من السنين تربعوا فيها على سدة الحكم قي أكثر أنحاء العالم الإسلامي، إلا أن
تركوا الديار قاعاً صفصفاً، فقد ضعف العلم وانحسرت التنمية، وظهرت طبقات
طفيلية امتصت خيرات المجتمع، وقننت الرشوة والظلم.. وقبل كل هذا فقدت
الأمة أثمن ما تملك: هويتها وانتماءها.
ما أكثر جرأة هؤلاء الذين ملؤوا الدنيا جعجعة بالشعارات الوطنية، هؤلاء
الجاحدون لثقافتهم، المتنكرون لأمتهم، فإن علمانيي أوروبا لم يتنكروا لماضيهم
التاريخي كما فعل هؤلاء، ولم يخجلوا من انتمائهم الحضاري السابق كما يخجل
هؤلاء، ولقد أعلن أخيراً عن فوز الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية
وخاصة الجناح المحافظ المتدين، والذي يقود هذا التيار أستاذ جامعي تذاع
محاضراته ذات الطابع المتدين في جميع الكليات، ولم نسمع أن هناك من يقيم
الدنيا ولا يقعدها، ويدعو بالويل والثبور لانتصار هذا الجناح أو لانتصار
النصرانية (السياسية) ، فلا أدري أي صنف من البشر علمانيونا هؤلاء؟ ! !
إن هذه الأرض لله، والله لا يحب الفساد والظلم [لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ]
[البقرة: 124] والمسلم مأمور بالعدل والإنصاف والرحمة للخلق، وقد قام بمهمة
الحكم وسياسة الناس لما فيه مصلحتهم في معاشهم ومعادهم سيد الخلق محمد رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وقام بها بعده أفضل الناس بعد الأنبياء أمثال أبى بكر
وعمر، ولم يستنكفوا عنها، ولم يزهدوا فيها، ولم يفصلوا بين الدين والحياة،
وبين الدين والسياسة، وامتلأت الأرض عدلاً ورحمة وعمراناً.
واذا جادل هؤلاء بما يقع من أخطاء في جهات إسلامية، فما وقع منهم
أضعاف هذا، ويبقى المسلمون أكثر رحمة وعدلاً وهم المستقلون عن الارتباط
بأعداء الأمة.
(1) تفسير المنار: 11/466.
دراسات اقتصادية
السكان والتنمية من المنظور الإسلامي
(2)
د. محمد بن عبد الله الشباني
في الحلقة الأولى تم تحديد واستجلاء الإطار الفكري الذي قام عليه المؤتمر
العالمي للسكان الذي انعقد في القاهرة خلال شهر سبتمبر لعام 1994 م، كما تمت
مناقشة موقف الإسلام من مفهوم التنمية وعلاقة ذلك بالسكان، وفي هذه الحلقة
سوف يتم مناقشة موقف الإسلام ومعالجته لموضوع السكان ضمن إطار عملية
التنمية وفقاً للمفهوم الذي سبقت مناقشته في الحلقة السابقة.
يمتلك الإسلام أسساً وأطراً توضح العلاقة بين مجموعة أفراد البشر (السكان)
وبين عملية التنمية من حيث إنها وسيلة من وسائل معالجة وجود البشر كثرةً وقلةً،
فكثرة البشر وقله الموارد حقيقة من حقائق وجود الإنسان على هذه الأرض، وهي
جزء من سنة الله الكونية في وجود النقص في الموارد بحيث تتحقق سنة الله في
الابتلاء والامتحان للبشر فيما أعطوا وفيما منعوا؛ يقول الله (سبحانه) : [ولَوْ بَسَطَ
اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ ولَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ] [الشورى: 27] .
إن الإسلام يضع ضوابط وقواعد تعالج الخلل عند نقص الموارد، كما تعالج
أسلوب تنمية الموارد الطبيعية بتحسين قدرات الإنسان بحيث تعمل على زيادة
الإنتاج القومي وتحقيق التوزيع العادل بين الأفراد لهذا الإنتاج.
والحقيقة الشرعية حول وجود الناس زيادة ونقصاً تتمثل في أن الله قد حدد
عددهم وأحصاهم ولا يمكن أن يولد إنسان ما لم يكن قد أراد الله ولادته؛ يقول
تعالى: [ولَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ ولَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَأْخِرِينَ][الحجر: 24] وقد
جاءت هذه الآية لتبين حقيقة أن البشر قد تم إحصاؤهم في الأزل، وأنه لن يكون
هناك نفس مخلوقة أتت إلى الوجود أو تأتي في المستقبل إلا وهي معلومة له
سبحانه وتعالى ، فإن الله قد وفر لهذه النفوس احتياجاتها، ولهذا جاء في نفس
السورة وفي هذه الآية تحديد مصدر الأشياء وأن ما يوجد على وجه الأرض معلوم
مقدر؛ يقول تعالى - موضحاً لجميع البشر أن مصدر الرزق وغيره مملوك لله
وتحت تصرفه -: [وإن مِّن شَيْءٍ إلَاّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ ومَا نُنَزِّلُهُ إلَاّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ]
[الحجر: 21] وفي آية أخرى تصف حقيقة تعلق الرزق وأن جميع المخلوقات
مضمون رزقها وأن أنكار هذه الحقيقة هو مخالف لحقيقة الإيمان بالرب الخالق؛
يقول (تعالى) : [ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلَاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا][هود: 6] .
إن محاربة الزيادة السكانية من خلال منعها - سواءً أكان ذلك بفرض وسائل
منع الحمل أو بالإجهاض - باعتقاد أن الموارد لا تكفي الزيادة السكانية وأن مصلحة
البشر تقتضي الإقلال من زيادة نموهم، إن ذلك إعلان لإنكار ربوبية الله للخلق.
إن الإسلام لا يعارض استخدام وسائل تأجيل الحمل لظروف معينة فردية،
فقد روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: (كنا نعزل
والقرآن ينزل) [1]، كما روى البخاري أيضاً عن ابن محَيْريز أنه قال: (دخلت
المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري فجلست إليه فسألته عن العزل، فقال أبو سعيد:
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فاصبنا سبياً
من سبي العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا الفداء فأردنا أن نعزل، فقلنا نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله، فسألناه
عن ذلك، فقال: (ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا
وهي كائنة) [2] .
من خلال هذين الحديثين ندرك أن عملية تنظيم الحمل لأغراض معينة كتأجيل
الحمل للحاجة إلى المرأة أو لمرض المرأة أو غير ذلك من الأسباب الموجبة لتأخير
الحمل أمر جائز، لكن مع إدراك أنه لا يجوز بأي حال من الأحوال القضاء على
الحمل تخلصاً منه، وأن جميع وسائل الحمل المعروفة لا تضمن منع الحمل ولا
تمنع وقوعه مهما كانت هذه الوسائل، وهذا مصداق قول الرسول -صلى الله عليه
وسلم- (ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة) ، لهذا قامت الدعوة في
مؤتمر السكان الأخير بالسماح بتقنين الإجهاض والسماح به قانوناً باعتباره هو
الوسيلة المضمونة لمنع المواليد، وهو وأد الجاهلية المعاصرة.
الإسلام يعتبر الإنسان عنصراً مهماً من عناصر التنمية، وبالتالي فإن العناية
بالسكان من حيث الكم والكيف أمر مهم لمسار التنمية الاقتصادية، مع الأخذ في
الاعتبار أن هناك تفاوت في هذه القدرة على المساهمة في العملية الإنتاجية من فرد
إلى فرد.
إن الأفراد متفاوتون في القدرة على المساهمة؛ فمنهم من يمتلك القدرات
الجسمية والعضلية ومنهم من لا يمتلك ذلك، ولذلك فقد وضع الإسلام قواعد لمعالجة
هذه الاختلالات، سواء أكان ذلك من ناحية تنمية قدرات الأفراد وقيام الدولة
المسلمة بتنمية ذلك، أو من خلال إلزام الأفراد القادرين على مساعدة غير القادرين
من خلال التشريعات المالية التي وضعها الإسلام.
والعناية المهنية بالفرد هي إحدى السمات البارزة في عملية التنمية السكانية
من وجهة النظر الإسلامية، تتمثل هذه العناية بتوجيه الأفراد نحو تأكيد أهمية
الممارسة المهنية من خلال إعطاء قيمة للإنسان العامل المنتج المهني؛ فقد روى
أحمد بسنده عن جميع بن عمير عن خاله أبي بردة بن نيار، قال: سئل النبي -
صلى الله عليه وسلم عن أفضل الكسب، فقال: (بيع مبرور، وعمل الرجل
بيده) [3] .
ففي الحديث السابق توضيح وتوجيه إلى أهمية الفرد في التنمية وأنه هو
مصدر التنمية سواء أكان ذلك فيما يخصه أو ما يخص بيئته المحيطة به، وبالتالي: فإن من الواجب العمل على زيادة القدرة لدى أفراد الأمة على المساهمة في زيادة
الإنتاج، باعتبار أن الإنسان هو أهم عنصر من عناصر الإنتاج القومي.
إن من أهم مقومات التنمية السكانية إيجاد الأفراد المدركين لدورهم في
المجتمع، وأن كل فرد من أفراد المجتمع يتحمل المسؤولية تجاه استقرار ونماء
مجتمعه، بحيث يكون له دور فعال ومؤثر مهما كان مركزه في هذا المجتمع؛ لهذا
فإن من مرتكزات التنمية السكانية تنمية هذا الوعي، والذي يتمثل في أمرين:
الأمر الأول: إيجاد الإحساس لدى كل فرد من أفراد المجتمع بأهميته في
الواقع الاجتماعي، على أن يغرس هذا الأمر في النفوس من نعومة الأظافر،
ويرشد إلى ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي -
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالأمير
الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو
مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسؤولة عنهم، والعبد
راع على مال سيده وهو مسؤول عنه، ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن
رعيته) [4] .
الأمر الثاني: المساهمة الفعلية في تنمية قدرات الآخرين ومساعدتهم ليكونوا
فاعلين ومنتجين، ويوضح ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل سلامي من الناس عليه صدقة،
كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته يحامله
عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تخطوها إلى
الصلاة صدقة، ودل الطريق صدقة) [5] ويكمل مدلول هذا الحديث ما رواه ابن
حبان والحاكم في مسنده عن ابن كثير السحمي عن أبيه، قال: سألت أبا ذر، قلت: دلني على عمل إذا عمل العبد به دخل الجنة، قال: سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يؤمن بالله، قال: فقلت: يا رسول الله إن مع الإيمان
عملاً! ، قال: يرضخ في رزقه لله، قلت: وإن كان معروفاً لا شيء له، قال:
يقول معروفاً بلسانه، قلت: فإن كان عَيينا لا يبلغ عن لسانه، قال: فيعن مغلوباً،
قلت: فإن كان ضعيفاً لا قدرة له، قال: فليضع لأخرق، قلت: وإن كان أخرق،
قال: فالتفت إلي، وقال: ما تريد أن ترع في صاحبك شيئاً من الخير؟ فليدع
الناس من أذاه) ففي هذا الحديث توضيح لمنهج الإسلام في كيفية توجيه الفرد
للمساهمة في تنمية مجتمعه من خلال المساهمة قي توفير الظروف المساعدة لتحسين
ظروف الآخرين سواءً أكان ذلك بالفعل المادي أو بالقول.
إن التنمية السكانية التي يسعى إليها الإسلام هي رفع كفاءة الأفراد النوعية
باعتبار أن الفرد عنصر فعال في العملية الإنتاجية للمجتمع، وبالتالي فإن اضمحلال
قدرة الفرد وكفاءته سوف يؤدي إلى أن يكون عنصر العمل ضعيفاً غير منتج كلا
على الآخرين.
إن دور الدولة المسلمة في تحقيق هذه التوجيهات لتنمية الطاقة السكانية تتمثل
في اتباع المنهج الإسلامي في تطبيق قواعد الصرف من الأموال العامة، التي منها
الأمور التالية [6] :
1-
زيادة الدخل القومي بزيادة الثروة الفردية من خلال توجيه الإنفاق سواءً
أكان ذلك فيما يتعلق بكيفية توزيع الزكاة أو بالقيام بالإنفاق على البيئة الأساسية
للاقتصاد، وذلك بقصد إخراج الفئات الفقيرة غير المنتجة إلى فئات منتجة، ويؤيد
ذلك ما رواه الترمذي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: (قدم علينا مصدِّق
النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة من أغنيائنا فجعلها في فقرائنا - وكنت
غلاماً - يتيماً فأعطاني منها قلوصاً) [7] ، فإعطاؤه القلوص إنما قُصد منه أغناؤه
بتمكينه من زيادة الدخل من خلال إعطائه رأس المال القادر على توفير فرصة
استغنائه عن بيت مال المسلمين.
2-
تنمية قدرات الأفراد العلمية والعملية بتوفير البيئة الاجتماعية الحانية من
خلال اهتمام الدولة بأفرادها ورعايتها لهم من خلال الإنفاق عليهم من بيت المال،
فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن المقدام بن معد يكرب الكندي عن النبي -صلى
الله عليه وسلم- أنه قال: (من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ديناً أو ضيعة فإليّ،
وأنا وليّ له، أفك عنه وأرث ماله، والخال وليّ من لا وليّ له، يفك عنه ويرث
ماله) [8] .
ولقد فهم هذا الحديث ومارسه الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز (رضي الله
عنه) فقد كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بالعراق، وقال له: أن أخرج للناس
أعطياتهم (أي رواتبهم ومخصصاتهم الدورية)، فكتب إليه: إني قد أخرجت للناس
أعطياتهم وقد بقى في بيت المال مال (فائض في الخزانة)، فكتب إليه: أن انظر
كل من عليه دين في غير سعة ولا سرف فاقض عنه، فكتب إليه: إني قد قضيت
عنهم وبقى في بيت المال مال، فكتب إليه: انظر إلى كل بكر (أي: أعزب) ليس
له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من
وجدت وقد بقى في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: أن انظر من كانت عليه
جزية فضعفت عن أرضه فأسلفه ما يقوى به على عمل أرضه، فإنا لا نريدهم لعام
ولا عامين. وقد روى ابن كثير في البداية والنهاية خبراً عن عمر بن عبد العزيز
بأنه كان يأمر من ينادى في الناس كل يوم: أين المساكين؟ أين الغارمون؟ أين
الناكحون (أين الذين يريدون الزواج) ؟ أين اليتامى؟ وقد سبق بتطبيق هذا المنهج
الخليفة الرائد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد روى أبو عبيد القاسم بن
سلام عن إبراهيم بن سعد عن أبيه سعد بن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب (رضي
الله عنه) كتب إلى بعض عماله أن اعط الناس على تعلم القرآن. وتعلم القرآن يمثل
الأساس الثقافي الذي بدون وجوده تتعطل قدرات أفراد المجتمع الفاعلة، ويقاس
على ذلك: جميع أنواع التدرب والتعليم لرفع كفاءة وقدرات أفراد المجتمع.
إن معالجة الإسلام لمشكلة التزايد السكاني إنما تقوم على أساس أن البشر
يمثلون طرف المعادلة المهم في التنمية الاقتصادية، وأن الإخلال بهذا الطرف
سوف يؤثر على التنمية الاقتصادية بمجملها، ولهذا فإن المعالجة لا تكون بتقليص
الأعداد البشرية المخلوقة وإنما بزيادة قدراتهم الإنتاجية مع توفير البيئة الاجتماعية
الرحيمة التي تأخذ بيد الفقير والعاجز والكبير.
(1) البخاري، كتاب النكاح، باب العزل، ج9 ص 305.
(2)
البخاري، كتاب النكاح، باب العزل ج9 ص 305، كتاب البيوع، باب بيع الرقيق ج 4 ص 421.
(3)
أخرجه الإمام أحمد في المسند ج 3 ص 466.
(4)
البخاري، كتاب الأحكام، باب قوله (تعالى) :[وأَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ] ح 7138، ومسلم في كتاب الإمارة.
(5)
البخاري، كتاب الصلح، باب الإصلاح بين الناس ح 2889، ح 2891.
(6)
لمزيد من الاطلاع على نظرية الإسلام في كيفية تطبيق الشريعة في مجال تمويل الدولة ومناهج صرف الأموال العامة، يراجع كتابنا: مالية الدولة على ضوء الشريعة الإسلامية.
(7)
أخرجه الترمذي، باب ما جاء أن الصدقة تؤخذ من الأغنياء فترد على الفقراء، وحسنه، وضعفه الألباني ح 99 ضعيف الترمذي ص 72 و (القَلوص) من الإبل الفتيِّة المجتمعة الخَلْق، وذلك من حين تركب إلى التاسعة من عمرها.
(8)
المسند ج 4 ص 133.