المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌موقف أهل السنة والجماعةمن العلمانية - مجلة البيان - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌موقف أهل السنة والجماعةمن العلمانية

‌موقف أهل السنة والجماعة

من العلمانية

بقلم: محمد المصري

من أجل بيان موقف أهل السنة والجماعة من العلمانية [1] هناك كلمة لا

نحسب أنها تغيب عن ذهن القارئ الواعي بأمر هذا الدين، وإن كنا نخشى أن

تكون قد تاهت -أو توارت- أثناء الصراع الدائر بين أهل السنة والجماعة والفرق

المختلفة الضالة التي تنتسب لهذا الدين.

إن أحد التحديات الخطيرة -إن لم تكن أخطر هذه التحديات على الإطلاق-

والتي تواجه أهل السنة والجماعة في هذا العصر لَهِي إسقاط اللافتات الزائفة

وكشف المقولات الغامضة وفضح الشعارات الملبسة، التي تتخفى وراءها العلمانية

الكافرة التي تبث سمومها في عقول وقلوب أبناء هذه الأمة.

ولفضح العلمانية ومواجهتها لابد أولاً أن يصل أمر المواجهة إلى المستوى

المطلوب من الوضوح في نفوس أهل السنة.. فإنه بدون هذا الوضوح تعجز

تجمعات أهل السنة -ويعجز علماؤها- عن أداء واجبها في هذه الفترة الحرجة،

وتتأرجح هي أمام التجمعات الجاهلية -ومنها العلمانية-، حيث تحسبها تجمعات

ليست بكافرة، وبالتالي تفقد تجمعات أهل السنة أهدافها الحقيقية بفقدانها لتحديد

نقطة البدء في مواجهة هذه التجمعات الجاهلية من حيث تقف هذه التجمعات

الجاهلية فعلاً، لا من حيث تزعم، والمسافة بعيدة بين الزعم والواقع.. بعيدة جداً.

لابد من توضيح للحقائق وتحديد للمفاهيم:

ونظراً لما أصاب كثيراً من التصورات الإسلامية من انحراف وغبش في

أذهان الناس في هذا العصر، ولما يثيره أعداء الإسلام -الظاهرون منهم

والمتسترون- من شبهات وأباطيل، فإن من الضروري أن يقوم أهل السنة

والجماعة بتجلية تلك التصورات، وكشف هذه الشبهات في كلمة موجزة عن حقيقة

العلمانية الكافرة، وبيان أن التوحيد الذي هو أعظم حقيقة في التصور الإسلامي -

بل في الوجود كله- هو في الوقت ذاته أكبر نقيض للعلمانية. ومن ثَم كان لابد من

معرفته حق المعرفة والتأكيد عليه في جميع مراحل الدعوة إلى الله، مع بيان سبيل

إحياء الأمة في التمسك واتباع مناهج وأصول أهل السنة والجماعة، وإذا كان معنى

(لا إله إلا الله) الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وخير تعريف للطاغوت مما ذكره

الإمام ابن القيم رحمه الله: «الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود

أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو

يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما

لا يعلمون أنه طاعة لله» [2] .

فإننا نستطيع القول بأن الشرك -الذي ظل عبر التاريخ محور الصراع بين

الأمم والرسل- هو عبادة الطاغوت مع الله أو من دونه في أمرين متلازمين:

أ - الإرادة والقصد.

ب- الطاعة والاتباع.

أما شرك الإرادة والقصد: فهو التوجه إلى غير الله تعالى بشيء من شعائر

التعبد، كالصلاة والقرابين والنذور والدعاء والاستغاثة تبعاً للتبريرات الجاهلية

المردودة القائلة: [مَا نَعْبُدُهُمْ إلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى][الزمر: 3] ، وطاغوت

هذا النوع قد يكون صنماً أو وثناً أو ميتاً أو جنيَّاً أو شيخاً.. الخ.

وأما شرك الطاعة والاتباع: فهو التمرد على شرع الله تعالى، وعدم قبول حكمه وتحكيمه في شؤون الحياة بعضها أو كلها. وهو مفرق الطريق بين الإسلام والجاهلية، بين الإيمان والكفر، كما أنه السمة المشتركة بين الجاهليات كلها على مدار التاريخ، وبه استحقت أن تسمى جاهلية مهما بلغ

... شأنها في الحضارة والمعرفة، [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ] [المائدة: 50] .. [أَم

... لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ] [الشورى: 21] ،

... وطاغوت هذا النوع قد يكون زعيماً أو حاكماً أو كاهناً، أو قد يكون هيئة تشري عية أو أنظمة وأوضاع وتقاليد وأعراف، أو مجالس نيابية وبرلمانات وقوانين

ودساتير وأهواء

الخ.

والواقع أن كلا النوعين من الشرك مردهما إلى أصل واحد وهو: تحكيم غير

الله والتلقي عن غيره، فإن مقتضى تحكيمه وحده ألا تتوجه البشرية إلى غيره بأي

نوع من أنواع العبادة والقربات، وألا تتوجه وتسير في حياتها كلها إلا وفق ما شرع

لها في كتبه وعلى لسان رسله: [إنِ الحُكْمُ إلَاّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إلَاّ إيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ

القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ] [يوسف: 40] ، فرد الأمر كله إلى الله واتخاذه

وحده حكماً في كل شيء هو بعينه العبادة التي أمر الله ألا يصرف شيء منها لغيره، وهذا هو ذات الدين القيم الذي لا يرضى الله تعالى سواه، وإن جهله أكثر الناس

على مدار التاريخ.

إذا تقرر هذا، فكل ما يجابه هذه الحقيقة أو جزءاً منها فهو طاغوت في أي

صورة كان، وفي أي عصر ظهر، ولا يكون الإنسان -فرداً أو مجتمعاً- شاهداً ألا

إله إلا الله حقيقة إلا بالكفر بالطاغوت والبراءة منه وأهله.

لابد من عبودية إما لله وإما لغيره:

قال ابن تيمية رحمه الله في رسالة العبودية: «إن الإنسان على مفترق

طريقين لا ثالث لهما، فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية

فيقع لا محالة في عبودية لغير الله» [3] وكل عبودية لغير الله كبرت أو صغرت

هي في نهايتها عبادة للشيطان، [أَلَمْ أَعْهَدْ إلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ

إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ] [يس: 60، 61] ، يشمل

ذلك العرب الذين قال الله تعالى فيهم: [إن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إلَاّ إنَاثاً وإن يَدْعُونَ

إلَاّ شَيْطَاناً مَّرِيداً] [النساء: 117] ، ويشمل كذلك كل عبادة لغير الله على مدار

التاريخ.

لقد تغيرت ولاشك بعض مظاهر العبادة فلم يعد هناك تلك (الإناث) التي كان

العرب في شركهم يعبدونها ولكن عبادة الشيطان ذاتها لم تتغير، وحلت محل الإناث

القديمة أوثان أخرى، الدولة والزعيم والمذهب والحزب والقومية والعلمانية والحرية

الشخصية والجنس

الخ. عشرات من الإناث الجديدة غير تلك الإناث الساذجة

البسيطة التي كان يعبدها العرب في الجاهلية، تضفي عليها القداسات الزائفة،

وتُعبد من دون الله، ويُطاع أمرها في مخالفة الله وفي تغيير خلق الله، وما تغيرت

إلا مظاهر العبادة (تطورت) ! ! ولكن الجوهر لم يتغير، إنه عبادة الشيطان.

وعلى ضوء هذا الفهم الإجمالي لمعنى الطاغوت والعبادة يتضح لنا المعنى

الحقيقي لشهادة (لا إله إلا الله) الذي هو -كما سبق-: الكفر بالطاغوت، وإفراد

الله تعالى وحده بالعبادة.

وانطلاقاً من هذا المفهوم -الذي يعتبر في حقيقة الأمر من المعلوم من الدين

بالضرورة عند أهل السنة والجماعة-؛ نستطيع أن نرى حكم الإسلام في العلمانية

بسهولة ووضوح ونستطيع أن نصل بالقضية إلى المستوى المطلوب من الحسم

والوضوح في نفوس أهل السنة اللازمين لفضح العلمانية ومواجهتها..

إن العلمانية باختصار: نظام طاغوتي جاهلي كافر، يتنافى ويتعارض تماماً

مع شهادة (لا إله إلا الله) من ناحيتين أساسيتين متلازمتين:

أولاً: من ناحية كونها حكماً بغير ما أنزل الله.

ثانياً: من ناحية كونها شركاً في عبادة الله.

إن العلمانية تعني -بداهة-: الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعة

الله، وقبول الحكم والتشريع والطاعة والاتباع من طواغيت أخرى من دون الله،

فهذا معنى قيام الحياة على غير الدين، ومن ثم فهي -بالبديهة أيضاً- نظام جاهلي،

لا مكان لمعتقده ولا لنظامه ولا لشرائعه في دائرة الإسلام، بل هو كافر بنص

القرآن الكريم: [ومَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ][المائدة: 44] ، فهل يبقى بعد هذا مجال للشك أو التردد في الحسم والوضوح اللازمين في نفوس

أهل السنة اليوم تجاه العلمانية؟

الحق أنه لا مجال لشيء من ذلك، ولكن الغياب المذهل لحقائق الإسلام من

العقول والقلوب، والغبش الكثيف الذي أنتجته الأفكار المنحرفة؛ هذا وذاك هما

اللذان يجعلان كثيراً من الناس يثيرون شبهات متهافتة لم تكن لتستحق أدنى نظر

لولا هذا الواقع المؤلم. فمن هذه الشبهات: استصعاب بعض الناس إطلاق لفظ

الكفر أو الجاهلية على من أطلقهما الله تعالى عليه من الأنظمة والأوضاع والأفراد،

بذريعة أن هذه الأنظمة -لاسيما العلمانية الديمقراطية- لا تنكر وجود الله، وبذريعة

أن هذه الأنظمة العلمانية الديمقراطية لا تمانع في إقامة شعائر التعبد، وبحجة أن

بعض أفراد الأنظمة العلمانية الديمقراطية يتلفظون بالشهادة، ويقيمون الشعائر من

صلاة وصيام وحج وصدقة، ويحترمون من يسمونهم برجال الدين (!) ،

ويحترمون المؤسسات الدينية.. الخ. وفي ظل هذه الشبهات المتهافتة المردودة

يستصعب بعض الناس - ومنهم للأسف الشديد بعض من يرفع راية الدعوة

الإسلامية اليوم- القول بأن الأنظمة العلمانية الديمقراطية أنظمة كافرة جاهلية، وأن

المؤمنين بها المتبعون لها جاهليون؟

ومن الواضح أن الذين يلوكون هذه الشبهات لا يعرفون معنى (لا إله إلا الله) ، ولا مدلول (الإسلام) ، وهذا على فرض حسن الظن بهم، وهو ما لا يجوز في حق كثير من المثقفين، وبالذات بعض الذين يرفعون راية الدعوة

الإسلامية اليوم ويتعللون بهذه العلل الواهية.

إن تاريخ الدعوة الإسلامية وصراع أهل السنة والجماعة المرير عبر القرو ن، وإن القرآن الكريم كله من أوله إلى آخره ومثله السنة المطهرة لتقطع الطريق على هذه الشبهة وقائليها.

هل تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه العنت والمشقة والحرب

والجهاد ثلاثاً وعشرين سنة متوالية؟ ، وهل نزل القرآن الكريم موجهاً وآمراً وناهياً

طوال هذه السنين من أجل أن يقول الجاهليون باللسان فقط.. لا إله إلا الله،

ويقيموا الشعائر التي يمن دعاة العلمانية على الله أنهم يسمحون بها؟ ! ! وما الفرق

بين قول قريش: (يا محمد: اعبد آلهتنا سنة، ونعبد إلهك سنة)، وبين قول العلمانيين -لفظاً أو حالاً-: نعبد الله في المسجد، ونطيع غيره في المجالس التشريعية والبرلمان وفي القضاء والتجارة والسياسة؟

أهو شيء آخر غير أن قسمة أولئك زمنية، وقسمة هؤلاء مكانية أو

موضوعية؟

يقول ابن كثير رحمه الله-في تفسير قوله تعالى: [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ

ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] :

«ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكم، المشتمل على كل

خيرٍ، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات

التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به

من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من

السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم (الياسق) - وهو

عبارة عن: كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية

والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد

نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة

رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى

يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكِّم سواه في قليل ولا كثير» [4] .

وبناء على ما سبق يتضح أن تلك الشبهة، شبهة التلفظ بالشهادة وإقامة بعض

الشعائر لا وزن لها ولا اعتبار، ذلك لأنه بعد أن نجحت الجاهلية -مؤقتاً- في

تنحية شرع الله من أن يحكم حياة المسلمين في ديارهم، وحاول أعداء الإسلام

إخراج المسلمين عن أصل دينهم إلى المذاهب الإلحادية والمادية، وبعد أن فشلوا

في تنفيذ هذا المخطط وأصابهم اليأس من ذلك لجأوا -بعد التفكير والتدبير- إلى ما

هو أخبث وأخطر؛ لجأوا إلى: اصطناع أنظمة تحكم بغير ما أنزل الله، وفي

الوقت نفسه هي تدعي الإسلام وتظهر احترام العقيدة، فقتلوا إحساس الجماهير،

وضمنوا ولاءها، وخدَّروا ضميرها، ثم انطلقوا يهدمون شريعة الله في مأمن من

انتفاضتها. ولذلك لا يجرؤ أرباب هذه الأنظمة العلمانية الديمقراطية على التصريح

بأنهم ملحدون أو لا دينيون، أو أنهم ضد شريعة الله، بينما يصرحون -مفتخرين-

بأنهم ديمقراطيون مثلاً.

وتبلورت مقالات العلمانيين وأفكارهم التي تعبر في جوهرها عن حقيقة

الجاهلية، ولكنها وبخبث شديد وتدبير محكم تحاول أن تنتسب إلى الدين بتبجحٍ

غريب ومكرٍ وضيع، وذلك حتى لا ينفر من هذه الأفكار جمهور المسلمين، فهم

يريدون أن تسري العلمانية ببطء في عقول ونفوس جمهور المسلمين سريان السم

البطيء الذي يودي بحياة صاحبه دون أن يتنبه له جسده.

أنواع من الجاهليات:

وهذه الرؤية تفيدنا في تقدير موقفنا، وفي تحديد طبيعة الدعوة الإسلامية كذلك

يجب أن نعلم أن الجاهلية بعضها يتمثل في إلحاد بالله سبحانه وإنكار لوجوده..

فهي جاهلية اعتقاد وتصور كجاهلية الشيوعيين، وبعضها يتمثل في اعتراف مشوه

بوجود الله سبحانه وانحراف في الشعائر التعبدية وفي الاتباع والطاعة، كجاهلية

الوثنيين من الهنود وغيرهم.. وكجاهلية اليهود والنصارى كذلك.

وبعضها يتمثل في اعتراف بوجود الله سبحانه وأداء للشعائر التعبدية، مع

انحراف خطير في تصور دلالة شهادة (أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) ،

ومع شرك كامل في الاتباع والطاعة، وذلك كجاهلية من يسمون أنفسهم (مسلمين)

من العلمانيين، ويظنون انهم أسلموا واكتسبوا صفة الإسلام وحقوقه بمجرد نطقهم

بالشهادتين وأدائهم للشعائر التعبدية، مع سوء فهمهم لمعنى الشهادتين، ومع

استسلامهم لغير الله من العبيد.. وكلها جاهلية.. وكلها كفر بالله كالأولين.. أو

شرك بالله كالآخرين.

والعلمانية الديمقراطية تجعل العقيدة والشعائر لله وفق أمره، وتجعل الشريعة

والتعامل لغير الله وفق أمر غيره.. وهذا هو الشرك في حقيقته وأصله. لأن

الدارس لعقائد الجاهلية العربية يجد -من أول وهلة- أنها لم تكن تنكر وجود الله أبداً، بل كانت توحده في معظم أفعاله تعالى، كالخلق والرزق والتدبير والإحياء

والإماتة، [ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ وسَخَّرَ الشَّمْسَ والْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ

اللَّهُ] [لقمان: 25] .

وكانوا يقرون بمشيئة الله النافذة في الكون وقدره الذي لا يرد؛ [سَيَقُولُ

الَذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا ولا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ] [الأنعام:

148] ، وأنه يدبر الأمر، [ومَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ] [يونس: 20] ..

وكانوا يؤمنون بالملائكة، [وَقَالَ الَذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا

المَلائِكَةُ] [الفرقان: 31] .

وكان منهم من يؤمن بالبعث والحساب، كقول زهير:

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر

ليوم حساب، أو يعجل فينقم [5]

وكذلك كان لدى الجاهليين العرب بعض الشعائر التعبدية، منها: تعظيم البيت

الحرام، وطوافهم حوله، ووقوفهم بعرفات، وتعظيم الأشهر الحرام. وكذلك ذبحهم

ونذرهم لله كما في قصة نذر عبد المطلب، وإهدائهم للبيت الحرام، آوتخصيص

شيء من الحرث والأنعام لله، [وجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيباً] [الأنعام: 136] .

ومن الناحية التشريعية: كانت الجاهلية العربية تقيم بعض الحدود، كحد

السرقة، فقد ذكر الكلبي، والقرطبي في (تفسيره) : أن قريشاً كانت تقطع يد

السارق [6] ، وهو حد معروف في الشرائع السابقة- كما في حديث المخزومية

وشفاعة زيد لها-، وشيء آخر سبقت -بل فاقت- به الجاهلية العربية الجاهليات

اللادينية المعاصرة وهو: (حرية التدين) ، فكان منهم الحنفاء الذين يتعبدون ببقايا

دين إبراهيم عليه السلام، وكان منهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وكان

منهم عبدة الكواكب، وعباد الأوثان، وبعضهم كان يعبد الجن أو الملائكة.

موقف الإسلام من الجاهليات بأنواعها:

ولكن -وهذا هو المهم-، بماذا حكم الله على هذا المجتمع؟ إن الله تعالى حكم

على هذه البيئة وعلى الواقع الأرضي حينئذ بأنها كفر وجاهلية، وعد تلك الأمور

جميعهاً صفراً في ميزان الإسلام، ولذلك نشبت المعركة الطويلة بينهم وبين رسول

الله صلى الله عليه وسلم، واشتد النزاع، معركة شرسة ونزاع حاد، حتى أن

السيف كان الحكم الأخير.

والشيء المثير أيضاً: أن موضوع هذه المعركة العنيفة الطويلة لم يكن سوى

كلمة واحدة، هي كلمة:(لا إله إلا الله) ، كلمة يصر عليها رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- إلى أقصى حدود الإصرار، وترفضها الجاهلية إلى أبعد مدى للإنكار

والرفض..

لماذا؟ .. لأنه منذ اللحظة الأولى حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم

إلى شهادة (أن لا إله إلا الله)، كان الجواب الفوري: [أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهاً واحِداً إنَّ

هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] [ص: 5]، فالقضية واضحة في أذهانهم: إن الالتزام بهذه

الكلمة معناه الرفض الجازم والتخلي الكامل عن كل ماعدا الله من معبوداتهم

وطواغيتهم المختلفة، طاغوت الأوثان وطاغوت الزعامة وطاغوت القبيلة

وطاغوت الكهانة وطاغوت التقاليد.. الخ، والاستسلام الكامل لله ورد الأمر كله؛

جليله وحقيره وكبيره وصغيره.. إلى الله تعالى وحده لا شريك له. كذلك فإن بيننا

اليوم -ممن يقولون: إنهم مسلمون- من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق

وبخاصة أخلاق المعاملات المادية.. وبيننا اليوم حاصلون على الشهادات العليا من

جامعاتنا وجامعات العالم يتساءلون أولاً في استنكار: ما للإسلام وسلوكنا الشخص؟

وما للإسلام والعري على الشواطئ؟ وما للإسلام وزي المرأة في الطريق؟ وما

للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل؟ وما للإسلام وتناول كأس من الخمر

لإصلاح المزاج؟ وما للإسلام وهذا الذي يفعله (المتحضرون) ؟ ، فأي فرق بين

هذا وبين سؤال أهل مدين: [أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا]

... [هود: 87] .

وهم يتساءلون ثانياً، بل ينكرون بشدة وعنف أن يتدخل الدين في الاقتصاد،

وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد.. فما للدين

والمعاملات الربوية؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة

القانون الوضعي؟ وما للدين والسياسة والحكم؟ ، لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق

إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده! ! فلا يذهبن بنا الترفع كثيراً على أهل مدين في

تلك الجاهلية الأولى؛ ونحن اليوم في جاهلية أشد جهالة، ولكنها تدعي العلم

والمعرفة والحضارة، وتتهم الذين يربطون بين العقيدة في الله والسلوك الشخصي

في الحياة والمعاملات المادية في السوق والسياسة والحكم.. تتهمهم بالرجعية

والتعصب والجمود، وبعد أن استهلكت هذه الألفاظ أضافت الجاهلية اليوم وصفهم

بالتطرف! !

أليس هذا هو بعينه ما يريده رافعو شعار (الدين لله والوطن للجميع)

...

وشعار (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين) من أدعياء الإسلام من العلمانيين أو

غيرهم؟ إن من عادة المنافقين والزنادقة من المنتسبين لهذا الدين عدم الإنكار

...

الصريح والواضح وعدم إظهار العداء السافر للإسلام، وهم يسعدون بسلاح

... التلبيس والتمويه للالتفاف حول المسلمين لحين المعركة الفاصلة، حتى يفاجئوا المسلمين على حين غرة، من أجل ذلك يرفع هؤلاء الزنادقة من العلمانيين

... وأشباههم شعارات يحاولون بها خداع أكبر عدد ممكن من المسلمين، وتهدئة

نفوس القلة التي قد ساورتها الشكوك تجاه نوايا هؤلاء الذين يرفعون شعارات

العلمانية، بينما يسعون بواقعهم العملي لاقتلاع الإسلام من جذوره ولكن رويداً

رويداً! !

فارتفعت لذلك شعارات (المدرسة العقلانية) ، وشعار (حكم الشعب للشعب) ، وشعار (الحرية الشخصية) ، وشعار (الأمة مصدر السلطات) ، وشعار

(حرية الثقافة والفكر) ، وحاول البعض منهم تهدئة بعض مشاعر الإسلاميين فرفعوا

شعار: (تطوير الشريعة) ، (مرونة الشريعة لتلبية حاجات العصر) ، وشعار

...

(تقنين الشريعة) ، وبعد أن نفد صبر بعضهم أعلنوها صريحة ورفعوا شعار

(فصل الدين عن الدولة) ، و (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين) ،

و (الدين لله والوطن للجميع) ، و (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) أوَ ليس هذا أيضاً ما يطبقه الذين يجعلون للدين برامج تسمى برامج (روحية) ضمن

... أجهزة الإعلام الشيطانية والذين يجعلون أحكاماً للأحوال الشخصية ضمن

قوانين الحكم الجاهلية، والذين يجعلون في كل صحفهم ومجلاتهم العلمانية

الجاهلية صفحة يسمونها صفحة الفكر الديني؟ ! ويقولون: إن مكان الدين هو المسجد فقط، ويظهرون لعامة المسلمين أنهم يحجون لبيت الله في العمر مرة، ويتعمدون إبرازها في أجهزة إعلامهم، بينما هم يقصدون بيوت أعداء الله

شرقاً وغرباً كل حين، يتلقفون منهم المناهج، ويتلقون التشريعات والأوامر والنواهي والحلال والحرام! !

سؤال يبحث عن جواب محدد:

إننا نتوجه بالسؤال إلى هؤلاء العلمانيين.. إلى كل من يدعي الإسلام من

هؤلاء، فنقول:

إذا أخرجنا -على سبيل التحكم- جزءاً من النشاط الإنساني في الحياة -إما

السياسة وإما غيرها- عن دائرة الإسلام.. فمن أين نتلقى منهج وقيم وموازين

وتشريعات هذا الجزء؟

وأياً ما كان الجواب فإن نتيجته ومؤداه واحد لا ريب فيه؛ التلقي عن غير

الله والطاعة والاتباع لغير الله.

والنتيجة هي الشرك بالله. وهل هناك صورة من صور الاعتراف بالشرك

أصرح من هذه؟ أعني شرك الطاعة والاتباع! ! إنه شرك في عبادة الله، وإن

كان الذين يمارسونه قد يجهلون معنى عبادة الله وحده، وما ذلك بغريب على

الجاهليين، «فإن عدي بن حاتم رضي الله عنه- في الجاهلية لم يكن يتصور

أن ذلك عبادة، فإنه لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، (تلا -

صلى الله عليه وسلم قوله: [اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ ورُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ] ،

فقال عدي -وكان نصرانياً-: يا رسول الله: لسنا نعبدهم، قال: أليس يحلون لكم

ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال النبي -

صلى الله عليه وسلم: فتلك عبادتهم» . [7] قال ابن تيمية رحمه الله-تعليقاً

على ذلك: «قد جعله الله ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون

لهم» [8] .

نتائج لابد منها:

إن العلمانية التي ولدت وترعرعت في أحضان الجاهلية لهي كفر بواح لا

خفاء فيه ولا مداورة ولا التباس، ولكن الخفاء والمداورة والالتباس إنما يحدث عمداً

من دعاة العلمانية أنفسهم، لأنهم يعلمون أنه لا حياة ولا امتداد لجاهليتهم في بلاد

المسلمين إلا من خلال هذا التخفي والمداورة والتلبيس على جماهير المسلمين،

وذلك من خلال راياتهم الزائفة التي تخفي حقيقة أمرهم وباطن دعوتهم عن المسلمين، وتلبس على العامة أمر دينهم وعقيدتهم، بل وتحفزهم ضد إخوانهم الصادقين

الواعين بحقيقة هذا الصراع المنبهين إلى خطره الداهم على الدين وأهله.

إن المعارك والجبهات التي تفتحها الفرق الضالة والمنتسبة لهذا الدين ضد أهل السنة والجماعة، وأخطرها دائما جبهة الرفض الباطنية. والتي تغذيها وتدعمها القوى والمعسكرات الجاهلية العالمية لتدمير أهل السنة والجماعة - باعتبارهم الخطر الحقيقي والفعال ضد هذه القوى-، أقول: إن هذه المعارك

وهذه الجبهات يجب أن لا ينسى معها أهل السنة والجماعة أن حصونهم لازالت

مهددة من داخلها، وأن القوى العلمانية المتكتلة ضدهم من الداخل والتي تصارعهم في معارك خافية - غالبا ً- وسافرة -أحياناً - هي التي تمثل الآن جوهر الصراع القائم بين الإسلام والجاهلية في العصر الحديث. وإن أخطر مراحل هذا الصراع هي: مرحلة تعرية هذه القوى العلمانية القبيحة وفضحها أمام المسلمين؛ ليستبين لكل مسلم سبيل المجرمين الذين يحاولون خداعهم وتلبيس أمر دينهم عليهم وهم لا يعلمون.

أما آن لأهل السنة والجماعة أن يتنبهوا لهذه الأخطار الماحقة في الداخل

والخارج، والتي تهددهم في دنياهم وآخرتهم؟ أما آن لهم أن يتكتلوا هم أيضاً دفاعاً

عن وجودهم وعقيدتهم ضد تجمعات الجاهلية الشرسة؟ .

أما آن لهم -أو لكثير منهم- أن يتخلوا عن معاركهم الوهمية وخلافاتهم

الجانبية والشكلية ليفرغوا طاقاتهم، ويركزوا جهودهم المشتركة -المادية

والمعنوية- لمواجهة هذه التحديات التاريخية والمعارك الفاصلة الحقيقية والجذرية؟

أما آن لهم هذا؟ ؛ [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ومَا نَزَلَ مِنَ

الحَقِّ] [الحد يد / 16] .

نسأل الله الهدى والرشاد، فمنه وحده التوفيق والسداد وهو على كل شيء قدير.

(1) لفظ العلمانية ترجمة خاطئة لكلمة (secularism) في الإنكليزية أو (secularite) بالفرنسية، وهي كلمة لا صلة لها بلفظ (العلم) على الإطلاق، فالعلم بالإنكليزية والفرنسية معناه (science) ، والمذهب العلمي يطلق عليه كلمة (scientism)، والترجمة الصحيحة لكلمة (secularism) هي:(اللادينية) أو (الدنيوية)، وتقول دائرة المعارف البريطانية مادة (secularism) : هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها ولذلك فإن المدلول الصحيح للعلمانية هو (إقامة الحياة على غير الدين) سواء بالنسبة للأمة أو للفرد.

(2)

إعلام الموقعين 1 / 50.

(3)

مقدمة رسالة العبودية / 6.

(4)

تفسير القرآن العظيم 2 / 67.

(5)

شرح ديوان زهير / 81.

(6)

أضواء البيان للشنقيطي 3/392.

(7)

انظر رواياته في الدر المنثور: 3 / 230، وأصله في الترمذي: كتاب التفسير، وسنده صحيح.

(8)

فتح المجيد: 86 نقلاً عن الإيمان.

ص: 9

طبقات كتب الحديث [1]

شاه ولي الله الدهلوي

اعلم أنه لا سبيل لنا إلى معرفة الشرائع والأحكام إلا خبر النبي -صلى الله

عليه وسلم-، بخلاف المصالح، فإنها قد تدرك بالتجربة والنظر الصادق والحدس،

ونحو ذلك، ولا سبيل لنا إلى معرفة أخباره صلى الله عليه وسلم إلا تلقي

الروايات المنتهية إليه بالاتصال والعنعنة، سواء كانت من لفظه - صلى الله عليه

وسلم -، أو كانت أحاديث موقوفة قد صححت الرواية بها عن جماعة من الصحابة

والتابعين، بحيث يبعد إقدامهم على الجزم بمثله لولا النص أو الإشارة من الشارع،

فمثل ذلك رواية عنه صلى الله عليه وسلم دلالة. وتلقي تلك الروايات لا سبيل

إليها في يومنا هذا إلا تتبع الكتب المدونة في علم الحديث، فإنه لا يوجد اليوم

رواية يعتمد عليها غير مدونة.

وكتب الحديث على طبقات مختلفة، ومنازل متباينة، فوجب الاعتناء بمعرفة

طبقات كتب الحديث.

فنقول:

هي باعتبار الصحة والشهرة على أربع طبقات، وذلك لأن أعلى أقسام

الحديث ما ثبت بالتواتر، وأجمعت الأمة على قبوله والعمل به، ثم ما استفاض من

طرق متعددة لا يبقى معها شبهة يعتد بها، واتفق على العمل بها جمهور فقهاء

الأمصار، أو لم يختلف فيه علماء الحرمين خاصة، فإن الحرمين -محل الخلفاء

الراشدين في القرون الأولى ومحط رحال العلماء طبقة بعد طبقة- يبعد أن يسلموا

منهم الخطأ الظاهر، أو كان قولاً مشهوراً معمولاً به في قطر عظيم، مروياً عن

جماعة عظيمة من الصحابة والتابعين، ثم ما صح أو حسن سنده وشهد به علماء

الحديث ولم يكن قولاً متروكاً؛ لم يذهب إليه أحد من الأمة.

أما ما كان ضعيفاً، أو موضوعاً، أو منقطعاً، أو مقلوباً في سنده، أو متنه،

أو من رواية المجاهيل، أو مخالفاً لما أجمع عليه السلف، طبقة بعد طبقة، فلا

سبيل إلى القول به.

فالصحة: أن يشترط مؤلف الكتاب على نفسه إيراد ما صح أو حسن، غير

مقلوب، ولا شاذ ولا ضعيف، إلا مع بيان حاله، فإن إيراد الضعيف مع بيان حاله

لا يقدح في الكتاب.

والشهرة: أن تكون الأحاديث المذكورة فيها دائرة على ألسنة المحدثين قبل تدوينها وبعد تدوينها، فيكون أئمة الحديث -قبل المؤلف- رووها بطرق شتى،

وأوردوها في مسانيدهم ومجاميعهم، وبعد المؤلف اشتغلوا برواية الكتاب، وحفظه، وكشف مشكله، وشرح غريبه، وبيان إعرابه، وتخريج طرق أحاديثه،

واستنباط فقهها، والفحص عن أحوال رواتها طبقة بعد طبقة، إلى يومنا هذا، حتى

لا يبقى شيء مما يتعلق به غير مبحوث عنه، إلا ما شاء الله، ويكون نقاد الحديث

قبل المصنف وبعده وافقوه في القول بها، وحكموا بصحتها وارتضوا رأي المصنف

فيها، وتلقوا كتابه بالمدح والثناء. ويكون أئمة الفقه لا يزالون يستنبطون منها،

ويعتمدون عليها، ويعتنون بها، ويكون العامة لا يخلون عن اعتقادها وتعظيمها.

وبالجملة: فإذا اجتمعت هاتان الخصلتان وكملا في كتاب كان من الطبقة الأولى ثَمَّ وثَمَّ، وإن فقدتا رأساً لم يكن له اعتبار، وما كان أعلى حد في الطبقة الأولى فإنه يصل إلى حد التواتر، ومادون ذلك يصل إلى الاستفاضة ثم إلى الصحة القطعية - أعني: القطع المأخوذ في علم الحديث المفيد للعمل - والطبقة الثانية إلى الاستفاضة، أو الصحة القطعية، أو الظنية.، وهكذا ينزل الأمر.

فالطبقة الأولى:

منحصرة بالاستقراء في ثلاث كتب: الموطأ، وصحيح البخاري، وصحيح

مسلم.

قال الشافعي: أصح الكتب بعد كتاب الله موطأ مالك، واتفق أهل الحديث

على أن جميع ما فيه صحيح على رأي مالك ومن وافقه، وأما على رأي غيره

فليس فيه مرسل ولا منقطع إلا قد اتصل السند به من طرق أخرى، فلا جرم أنها

صحيحة من هذا الوجه، وقد صنف في زمان مالك موطآت كثيرة في تخريج

أحاديثه ووصل منقطعه، مثل كتاب ابن أبي ذئب، وابن عيينة، والثوري،

ومعمر، وغيرهم، ممن شارك مالكاً في الشيوخ، وقد رواه عن مالك بغير واسطة

أكثر من ألف رجل، وقد ضرب الناس فيه أكباد الإبل إلى مالك من أقاصي البلاد،

كما كان النبي صلى الله عليه وسلم ذكره في حديثه [2] ، فمنهم المبرزون من

الفقهاء: كالشافعي، ومحمد بن الحسن، وابن وهب، وابن القاسم، ومنهم نحارير

المحدثين: كيحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد الرزاق،

ومنهم الملوك والأمراء: كالرشيد، وابنيه، وقد اشتهر في عصره حتى بلغ على

جميع ديار الإسلام، ثم لم يأت زمان إلا وهو أكثر له شهرة، وأقوى به عناية،

وعليه بنى فقهاء الأمصار مذاهبهم، حتى أهل العراق في بعض أمرهم، ولم يزل

العلماء يخرجون أحاديثه، ويذكرون متابعاته وشواهده، ويشرحون غريبه،

ويضبطون مشكله، ويبحثون عن فقهه، ويفتشون عن رجاله إلى غاية ليس بعدها

غاية، وإن شئت الحق الصراح فقس كتاب الموطأ بكتاب الآثار لمحمد والأمالي

لأبي يوسف تجد بينه وبينهما بُعد المشرقين، فهل سمعت أحداً من المحدثين

والفقهاء تعرض لهما واعتنى بهما؟

وأما (الصحيحان) : فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل

المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأنه كل من يهون

أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين. وإن شئت الحق الصراح فقسهما

بكتاب ابن أبي شيبة، وكتاب الطحاوي، ومسند الخوارزمي، وغيرهما؛ تجد

بينها وبينهما بُعد المشرقين.

وقد استدرك الحاكم عليهما أحاديث هي على شرطهما ولم يذكراها، وقد

تتبعت ما استدركه فوجدته قد أصاب من وجه ولم يصب من وجه، وذلك لأنه وجد

أحاديث مروية عن رجال الشيخين بشرطهما في الصحة والاتصال فاتجه استدراكه

عليهما من هذا الوجه، ولكن الشيخين لا يذكران إلا حديثاً قد تناظر فيه مشايخهما،

وأجمعوا على القول به والتصحيح له، كما أشار مسلم حيث قال: «لم أذكر هنا

إلا ما أجمعوا عليه» . وجل ما تفرد به المستدرك كالموكا عليه [3] ، المخفي

مكانه في زمن مشايخهما، وإن اشتهر أمره من بعده، أو ما اختلف المحدثون في

رجاله، فالشيخان كأساتذتهما كانا يعتنيان بالبحث عن نصوص الأحاديث في

الوصل والانقطاع وغير ذلك، حتى يتضح الحال، والحاكم يعتمد في الأكثر على

قواعد مخرجة من صنائعهم كقوله: زيادة الثقات مقبولة، وإذا اختلف الناس في

الوصل والإرسال والوقف والرفع وغير ذلك، فالذي حفظ الزيادة حجة على من لم

يحفظ، والحق أنه كثيراً ما يدخل الخلل في الحفاظ من قبل الموقوف ووصل

المنقطع، لاسيما عند رغبتهم في المتصل المرفوع، وتنويههم به، فالشيخان لا

يقولان بكثير مما يقوله الحاكم. والله أعلم. وهذه الكتب الثلاثة التي اعتنى القاضي

عياض في المشارق [4] بضبط مشكلها ورد تصحيفها.

الطبقة الثانية:

كتب لم تبلغ مبلغ الموطأ والصحيحين، ولكنها تتلوها، كان مصنفوها

معروفين بالوثوق والعدالة والحفظ والتبحر في فنون الحديث، ولم يرضوا في كتبهم

هذه بالتساهل فيما اشترطوا على أنفسهم، فتلقاها من بعدهم بالقبول، واعتنى بها

المحدثون والفقهاء طبقة بعد طبقة، واشتهرت فيما بين الناس، وتعلق بها القوم

شرحاً لغريبها، وفحصاً عن رجالها، واستنباطاً لفقهها. وعلى تلك الأحاديث بناء

عامة العلوم كسنن أبي داود وجامع الترمذي ومجتبى النسائي، وهذه الكتب مع

الطبقة الأولى اعتنى بأحاديثها (رزينٌ) في (تخريج الصحاح) ، و (ابن الأثير)

في (جامع الأصول) ، وكاد (مسند أحمد) يكون من جملة هذه الطبقة، فإن الإ مام أحمد جعله أصلاً يعرف به الصحيح والسقيم، قال: ما ليس فيه فلا تقبلوه.

الطبقة الثالثة:

مسانيد وجوامع ومصنفات صنفت قبل البخاري ومسلم، وفي زمانهما،

وبعدهما، جمعت بين الصحيح، والحسن، والضعيف، والمعروف، والغريب، والشاذ، والمنكر، والخطأ، والصواب، والثابت، والمقلوب، ولم تشتهر في

العلماء ذلك الاشتهار، وإن زال عنه اسم النكارة المطلقة، ولم يتداول ما تفردت به

الفقهاء كثير تداول، ولم يفحص عن صحتها وسقيمها المحدثون كثير فحص منه،

ما لم يخدمه لغوي لشرح غريب، ولا فقيه بتطبيقه بمذاهب السلف، ولا محدِّث

ببيان مشكله، ولا مؤرخ بذكر أسماء رجاله - ولا أريد المتأخرين المتعمقين، وإنما

كلامي في الأئمة المتقدمين من أهل الحديث -، فهي باقية على استتارها واختفائها

وخمولها، كمسند أبى يعلى، ومصنف عبد الرزاق، ومصنف أبى بكر بن أبى شيبة، ومسند عبد بن حميد، والطيالسي، وكتب البيهقي، والطحاوي، والطبراني،

وكان قصدهم: جمع ما وجدوه، لا تلخيصه وتهذيبه وتقريبه من العمل.

والطبقة الرابعة:

كتب قصد مصنفوها بعد قرون متطاولة جمع ما لم يوجد في الطبقتين

الأوليين، وكانت في المجاميع والمسانيد المختفية، فنوَّهوا بأمرها، وكانت على

ألسنة من لم يكتب حديثه المحدثون، ككثير من الوعاظ المتشدقين، وأهل الأهواء،

والضعفاء، أو كانت من آثار الصحابة والتابعين، أو من أخبار بني إسرائيل، أو

من كلام الحكماء والوعاظ، خلطها الرواة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم

سهواً أو عمداً، أو كانت من محتملات القرآن والحديث الصحيح، فرواها بالمعنى

قوم صالحون لا يعرفون غوامض الرواية، فجعلوا المعاني أحاديث مرفوعة، أو

كانت معاني مفهومة من إشارات الكتاب والسنة جعلوها مستبدة برأسها [5] عمداً،

أو كانت جملاً شتى في أحاديث مختلفة جعلوها حديثاً واحداً بنسق واحد، ومظنة

هذه الأحاديث كتاب: الضعفاء لابن حبان، وكامل ابن عدي، وكتب الخطيب،

وأبى نعيم، والجوزقاني، وابن عساكر، وابن النجار، والديلمي، وكاد مسند

الخوارزمي يكون من هذه الطبقة، وأصلح هذه الطبقة ما كان ضعيفاً محتملاً،

وأسوؤها ما كان موضوعاً أو مقلوباً شديد النكارة. وهذه الطبقة مادة كتاب (الموضوعات) لابن الجوزي.

وهاهنا طبقة خامسة:

منها ما اشتهر على ألسنة الفقهاء، والصوفية، والمؤرخين، ونحوهم، وليس

له أصل في هذه الطبقات الأربع، ومنها ما دسه الماجن في دينه العالم بلسانه،

فأتى بإسناد قوي لا يمكن الجرح فيه، وكلام بليغ لا يبعد صدوره عنه -صلى الله

عليه وسلم-، فأثار في الإسلام مصيبة عظيمة، لكن الجهابذة من أهل الحديث

يوردون مثل ذلك على المتابعات والشواهد فتهتك الأستار، ويظهر العوار. أما

الطبقة الأولى والثانية: فعليهما اعتماد المحدثين، وحول حماهما مرتعهم ومسرحهم وأما الثالثة: فلا يباشرها للعمل عليها والقول بها إلا النحارير الجهابذة الذين

يحفظون أسماء الرجال وعلل الأحاديث، نعم ربما يؤخذ منها المتابعات والشواهد،

و [قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً]، وأما الرابعة: فالاشتغال بجمعها أو الاستنباط

منها نوع تعمق من المتأخرين. وإن شئت الحق فطوائف المبتدعين من الرافضة

والمعتزلة وغيرهم يتمكنون بأدنى عناية أن يلخصوا منها شواهد مذاهبهم،

فالانتصار بها غير صحيح في معارك العلماء بالحديث، والله أعلم.

(1) هذا فصل من كتاب: (حجة الله البالغة) للعلامة شاه ولي الله الدهلوي، رأينا أن ننشره مستقلاً لما فيه من الفوائد العلمية القيمة في هذا الموضوع.

(2)

وهو قوله صلى الله عليه وسلم: يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة.

(3)

الموكا عليه: المستور الحال.

(4)

كتاب: مشارق الأنوار للقاضي عياض.

(5)

أي: مستقلة.

ص: 20