الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دراسات شرعية
المنهج العلمي للاستدلال
(1)
بقلم:أحمد بن عبد الرحمن الصويان
يعتمد المنهج العلمي للاستدلال عند أهل السنة والجماعة على كتاب الله
(تعالى) ، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وإجماع السلف الصالح (رضي
الله عنهم) .
قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي
الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا] [النساء: 59] .
وقال الله تعالى: [وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ] [الشورى:
10] .
وقال الله تعالى: [وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا]
[الحشر: 7] .
والاعتماد على الأصول الثلاثة المعصومة هو أساس دين الإسلام، ويرتكز
على القواعد التالية:
القاعدة الأولى: تعظيم النصوص الشرعية والانقياد لها.
القاعدة الثانية: الاعتماد على الأحاديث الصحيحة.
القاعدة الثالثة: صحة فهم النصوص.
وفي هذه المقالة سأتحدث عن هذه القواعد الثلاث بشيء من الإيجاز، مبيناً
منهاج أهل السنة في الاستدلال، وفي الحلقة التالية سأتحدث عن منهج المبتدعة في
الاستدلال، وقواعدهم في التلقي.
القاعدة الأولى: تعظيم النصوص الشرعية:
إن أصل دين الإسلام الذي ارتضاه الله (تعالى) لعباده المؤمنين الاستسلام
والخضوع والانقياد، قال الله (تعالى) : [وَأَنِيبُوا إلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن
يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ] [الزمر: 54] .
وحقيقة الاستسلام: تعظيم أمر الله سبحانه وتعالى ونهيه، والوقوف عند
حدود ما أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله (تعالى) : [ذَلِكَ
وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ] [الحج: 32] . فكل ما أمر به
الشارع أو نهى عنه، فحقه التعظيم والإجلال والامتثال، قال الله (تعالى) : [إنَّمَا
كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا
وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [النور: 51]
فإذا جاء الأمر من الله فلا مجال للاختيار أو التردد، قال الله (تعالى) : [وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ]
[الأحزاب: 36] . وقد نفى الله عز وجل الإيمان بالكلية عمّن أعرض عن حكم
النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرض به، أو وجد في نفسه حرجاً من ذلك، قال
الله (تعالى) : [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] [النساء: 65] .
وقد توعد الله سبحانه وتعالى المخالفين لأوامره بقوله: [فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابِ أليم] [النور: 63] .
منهج السلف الصالح في تعظيم النصوص:
سطر السلف الصالح رضي الله عنهم أروع الأمثلة وأصدق الصفات في
الالتزام بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، والوقوف عند حدوده بدون
زيادة أونقصان، ومن أمثلة ذلك:
* عن أبي قتادة قال: كنا عند عمران بن حصين في رهط منا، وفينا بُشير
بن كعب فحدّثنا عمران يومئذ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
الحياءُ خير كله» أو قال: «الحياء كله خير» ، قال بشير: إنّا لنجد في بعض
الكتب أو الحكمة: أنّ منه سكينة ووقاراً لله، ومنه ضعفٌ! قال: فغضب عمران
حتى احمرتا عيناه، وقال أراني أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتعارض فيه؟ ! قال: فأعاد عمران الحديث، قال: فأعاد بشير، فغضب عمران. قال: فمازلنا نقول فيه: إنّه منّا يا أبا نجيد، إنّه لا بأس به! ! [1] يعني: أنه
ليس متهماً بالنفاق! ! .
* وعن عبد الله بن مُغَفّل رضي الله عنه : أنه رأى رجلاً من أصحابه
يخذف. فقال له: لا تخذف، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره أو
قال ينهى عن الخذف؛ فإنه لايُصطاد به الصيد، ولا ينكأ به العدو، ولكنه يكسر
السن ويفقأ العين، ثم رآه بعد ذلك يخذف! فقال له: أخبرك أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- كان يكره أو ينهى عن الخذف، ثم أراك تخذف، لا أكلمك كذا
وكذا..! [2] .
* عن قبيصة الشامي: أن عبادة بن الصامت خرج مع رجل إلى أرض
الروم، فنظر إلى الناس وهم يتبايعون كسرة الذهب بالدنانير، وكسرة الفضة
بالدراهم، فقال: يا أيها الناس إنكم تأكلون الربا، سمعت رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يقول: «لا تَبايعوا الذهب إلا مثلاً بمثلٍ لا زيادة بينهما ولا نَظِرة» .
فقال رجل: لا أرى الربا يكون في هذا إلا ما كان من نظرة! فقال عبادة: أحدثك
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدّثني عن رأيك؟ ! لئن أخرجني الله لا
أُساكنك بأرض لك عليّ فيها إمرة، فلمّا قفل لحق بالمدينة، فقال له عمر: ما أقدمك
يا أبا الوليد؟ ! فقص عليه القصة، فقال: ارجع إلى أرضك وبلدك لا إمرة له
عليك، فقبّح الله أرضاً لست فيها وأمثالك [3] .
* وحدّث أبو معاوية الضرير عند هارون الرشيد بحديث أبي هريرة: «
احتج آدم وموسى» ، فقال أحد الحاضرين: كيف هذا، وبين آدم وموسى ما
بينهما؟ ! قال: فوثب هارون، وقال: يُحدّثك عن الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارض بكيف؟ ! فما زال يقول حتى سكت عنه [4] .
* وقال رجلٌ للزهري: يا أبا بكر: حديث رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: «ليس منّا من لطم الخدود، وليس منا من لم يوقر كبيرنا» ، وما أشبه
هذا الحديث؟ ! فأطرق الزهري ساعة، ثم رفع رأسه فقال: «من الله عز وجل
العلم، وعلى الرسول-صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التسليم» [5] .
* من أجل ذلك كله كان السلف الصالح رضي الله عنهم في أشد التثبت
والتحري والتوقي في فعل السنة، فلا يفعلون شيئاً إلا بعلم صحيح، فها هو ذا
رجلٌ يعطس إلى جنب عبد الله بن عمر، فيقول: الحمد لله، والسلام على رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عبد الله بن عمر: «وأنا أقول: الحمد لله
والسلام على رسول الله، وليس هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
علمنا أن نقول: الحمد لله على كلّ حال» [6] .
* ونظير هذا أن سعيد بن المسيب رأى رجلاً يُصلي بعد طلوع الفجر أكثر
من ركعتين، يُكثر فيهما الركوع والسجود، فنهاه، فقال: يا أبا محمد، يعذبني الله
على الصلاة؟ ! فقال: «لا.. ولكن يُعذبك على خلاف السنة» [7] .
وأمثلة هذا الباب كثيرة جداً، وفيما ذكر كفاية إن شاء الله لبيان المقصود.
وبهذا يتبيّن أن الكتاب والسنة هما أصل الاستدلال، وهما المعيار الذي توزن به
الآراء والاجتهادات، ولايستقيم إيمان المرء إلا بتعظيمهما وامتثال ما دلا عليه من
القول والفعل والاعتقاد، ويُلخّص الطحاوي منهج أهل السنة بقوله: «ولاتثبت قدم
الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم
يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح
الإيمان» [8] .
وقال البربهاريّ: «إذا سمعت الرجل يطعن على الآثار، أو يرد الآثار، أو
يريد غير الآثار: فاتهمه على الإسلام، ولاتشك أنّه صاحب هوى مبتدع» [9] .
وقال ابن تيمية: «وكان من أعظم ما أنعم الله به عليهم يعني أهل السنة
اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين
لهم بإحسان: أنه لايقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه ولاذوقه، ولامعقوله
ولاقياسه، ولاوَجْدِهِ، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات: أنّ
الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم» [10] .
وقال أيضاً: «فمن بنى الكلام في العلم (الأصول والفروع) على الكتاب
والسنة والآثار المأثورة عن السابقين، فقد أصاب طريق النبوة، وكذلك من بنى
الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال
القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد وأصحابه
فقد أصاب طريقة النبوة، وهذه طريقة أئمة الهدى
…
» [11] .
القاعدة الثانية: الاعتماد على السنة الصحيحة:
أمرالله سبحانه وتعالى بطاعة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في آيات
كثيرة، منها قوله (تعالى) :[وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا]
[الحشر: 7]، وقوله تعالى:[مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله][النساء: 80] .
وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني أوتيتُ القرآن ومثله
معه» [12] ، فكل ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حق وصدق
لاريب فيه، قال الله (تعالى) :[وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إنْ هُوَ إلَاّ وَحْيٌ يُوحَى][النجم: 3، 4] .
وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هي الموضحة والمبينة لكتاب الله (عز
وجل) ، كما قال سبحانه وتعالى:[وَأََنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ]
[النحل: 44] .
وقد ذمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواماً يتركون ماجاء في سنته،
فقال: «ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكىء على أريكته، فيقول:
بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه حلالاً استحللناه، وما وجدنا فيه حراماً حرّمناه، وإن ما حرّم رسول الله كما حرّم الله» [13] .
ومن بدائع مواقف الصحابة رضي الله عنهم : أن عمران بن حصين كان
جالساً ومعه أصحابه، فقال رجلٌ من القوم: لاتحدثونا إلا بالقرآن، فقال له: ادْنه، فدنا، فقال: أرأيت لو وُكلْتَ أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد فيه صلاة
الظهر أربعاً، وصلاة العصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، تقرأ في اثنتين؟ ! أرأيت لو
وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن، أكنت تجد الطواف بالبيت سبعاً، والطواف
بالصفا والمروة؟ ! ثم قال: أي قوم، خذوا عنا، فإنكم والله إلاّ تفعلوا
لتضِلّنّ « [14] .
ولهذا قال ابن تيمية:» البيان التام هو ما بينه الرسول؛ فإنه أعلم الخلق
بالحق، وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق في بيان الحق، فما بيّنه من أسماء
الله وصفاته وعلوّه ورؤيته، هو الغاية في هذا الباب « [15] .
وقال أيضاً:» الثواب على ما جاء به الرسول، والنّصرة لمن نصره،
والسعادة لمن اتبعه، وصلوات الله وملائكته على المؤمنين به، والمعلمين للناس
دينه، والحق يدور معه حيثما دار، وأعلم الخلق بالحق وأتبعهم له: أعلمهم بسنّته
وأتبعهم له، وكل قول خالف قوله فهو إما دين منسوخ، وإما دين مبدّل لم يُشرع
قط « [16] .
وبسبب هذه المنزلة العظيمة لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم اهتمّ بها أهل
السنّة اهتماماً عظيماً، علماً وعملاً، وحرصوا على حفظها ونقلها، وقاموا بتحقيقها
وتنقيحها، وتمييز صدقها من كذبها، خاصة بعد ظهور الفتن وانتشار المبتدعة
وفشو الكذب. ولهذا قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه :» إنّا كنا مرة إذا
سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا
وأصغينا إليه بآذاننا، فلمّا ركب الناس الصعب والذلول؛ لم نأخذ من الناس إلا ما
نعرف « [17] .
وقال التابعي الجليل محمد بن سيرين:» لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما
وقعت الفتنة قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السنّة فيؤخذ حديثهم، وينظر
إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم « [18] .
وقال الإمام مالك بن أنس:» إن هذا العلم هو لحمك ودمك وعنه تسأل يوم
القيامة، فانظر عمّن تأخذه « [19] .
ويشرح ابن تيمية الداعي لتنقيح السنة النبوية فيقول:» وبيننا وبين
الرسولمئون من السنين، ونحن نعلم بالضرورة أنّ فيما ينقل الناس عنه وعن غيره
صدقاً وكذباً، وقد روي عنه أنّه قال:«سيُكذب عليّ» ، فإن كان هذا الحديث
صدقاً، فلابد أن يكذب عليه، وإن كان كذباً فقد كذب، وإن كان كذلك لم يجز لأحد
أن يحتج في مسألة فرعية بحديث حتى يُبيّن ما به يثبت « [20] .
وقد رسم أئمة الحديث منهجاً علمياً متميزاً في ضبط أصول الرواية وتقعيد
قواعدها، فحفظوها بفضل الله تعالى من العبث والتزييف، فهم المرجع الذي يُرجع
إليه في معرفة الصحيح من الضعيف، قال ابن تيمية:» المنقولات فيها كثير من
الصدق وكثير من الكذب، والمرجع في التمييز بين هذا وهذا إلى أهل علم الحديث، كما نرجع إلى النحاة في الفرق بين نحو العرب ونحوغير العرب، ونرجع إلى
علماء اللغة فيما هو من اللغة وما ليس من اللغة، وكذلك علماء الشعر والطب وغير
ذلك، فلكل علم رجالٌ يعرفون به، والعلماء بالحديث أجلّ هؤلاء قدراً، وأعظمهم
صدقاً، وأعلاهم منزلة، وأكثرهم ديناً، وهم من أعظم الناس صدقاً وأمانة وعلماً
وخبرة فيما يذكرونه من الجرح والتعديل، مثل: مالك وشعبة وسفيان
…
« [21] .
من أجل ذلك كله: يتبيّن أن الاستدلال العلمي الصحيح يعتمد على الأحاديث
الصحيحة والحسنة، وأمّا الأحاديث الموضوعة والضعيفة فلا يجوز الاستدلال بها،
ويجب الحذر منها. ولهذا قال ابن تيمية:» فالواجب أن يفرق بين الحديث
الصحيح والحديث الكذب، فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث
الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عموماً ولمن يدعي
السنة خصوصاً « [22] .
وقال أيضاً:» الاستدلال بما لاتُعلم صحته لايجوز بالاتفاق، فإنه قول بلا
علم، وهو حرام بالكتاب والسنة والإجماع « [23] .
وقال أيضاً:» ولايجوز أن يعتمد في الشريعة على الأحاديث الضعيفة التي
ليست صحيحة ولا حسنة « [24] .
القاعدة الثالثة: صحة فهم النصوص:
إن صحة فهم النصوص الشرعية ركيزة رئيسة لصحة الاستدلال، ولايستطيع
المرء أن يعرف مراد الله عز وجل ، ومراد رسوله إلا حينما يستقيم فهمه لدلائل
الكتاب والسنة. وكثير من البدع والضلالات إنما حدثت بسبب قلة العلم وسوء الفهم.
أصول مهمة يعتمد عليها:
ومن الأصول العلمية التي يجب الاعتماد عليها في فهم النصوص الشرعية
ودراستها:
أولا: الاعتماد على منهج الصحابة رضي الله عنهم :
للصحابة رضي الله عنهم منزلة جليلة، فقد شرفهم الله (تعالى) ، وأعلى
منزلتهم، ورفع أقدارهم ودرجاتهم، وعدلهم من فوق سبع سموات، فقال (تعالى) :
[وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ] [التوبة: 100] . وقال (تعالى) : [مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ
وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الإنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ
بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً]
[الفتح: 29] .
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه :» من كان منكم متأسياً فليتأس
بأصحاب محمد-صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبرّ هذه الأمة قلوباً، وأعمقها
علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، قوماً اختارهم الله تعالى لصحبة
نبيه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى
المستقيم « [25] .
وقال أبو محمد بن حزم:» فمن أخبرنا الله عز وجل «أنه علم ما في
قلوبهم، ورضي عنهم، وأنزل السكينة عليهم، فلا يحل لأحد التوقف عن أمرهم أو
الشك فيهم البتة» [26] .
من أجل هذا؛ فإن فهم دلائل الكتاب والسنة إنما يؤخذ من الصحابة (رضي
الله عنهم) ففيهم تكلم الرسول-صلى الله عليه وسلم، وعليهم نزل الكتاب، فهم
أعلم الناس بمراد الله (تعالى) ومراد رسوله-صلى الله عليه وسلم، خاصة بعد أن
كثرت البدع، وقل العلم، وفسدت الفهوم،، وهجرت السنّة، وقد صح عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، قوله: «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً،
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم
ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة» [27] .
قال ابن تيمية: «يحتاج المسلمون في العقيدة إلى شيئين: أحدهما: معرفة
ما أراد الله ورسوله بألفاظ الكتاب والسنة، بأن يعرفوا لغة القرآن التي نزل بها،
وما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر علماء المسلمين في معاني تلك
الألفاظ؛ فإنّ الرسول لمّا خاطبهم بالكتاب والسنة عرّفهم ما أراد بتلك الألفاظ،
وكانت معرفة الصحابة لمعاني القرآن أكمل من حفظهم لحروفه، وقد بلّغوا تلك
المعاني إلى التابعين أعظم ممّا بلغوا حروفه..» [28] .
وقال الشاطبي: «.. ولهذا فإن السلف الصالح (من الصحابة والتابعين ومن
يليهم» كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه.. « [29] .
وقال ابن أبي العز الحنفي:» وكيف يتكلم في أصول الدين من لايتلقاه من
الكتاب والسنة، وإنما يتلقاه من قول فلان؟ ! وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله
لايتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول، ولاينظر فيها، ولا فيما قاله
الصحابة والتابعون لهم بإحسان المنقول إلينا عن الثقات النقلة، الذين تخيرهم النقاد، فإنهم لم ينقلوا نظم القرآن وحده، بل نقلوا نظمه ومعناه، ولا كانوا يتعلمون
القرآن كما يتعلم الصبيان، بل يتعلمونه بمعانيه، ومن لايسلك سبيلهم فإنما يتكلم
برأيه، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب فهو مأثوم وإن
أصاب « [30] .
ثانياً: معرفة اللغة العربية:
لكي تفهم دلائل الكتاب والسنة على الوجه الصحيح لابد من معرفة لغة العرب
التي نزل بها القرآن الكريم، والتي خاطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
أصحابه. ولهذا تواتر اعتناء علماء الأمة وأئمتها بلغة القرآن حتى يوضع خطاب
الشارع في موضعه اللائق به شرعاً.
قال الإمام الشافعي:» .. وإنما بدأت بما وصفت من أن القرآن نزل بلسان
العرب دون غيره، لأنه لايعلم من إيضاح جمع علم الكتاب أحدٌ جِهل سعة لسان
العرب، وكثرة وجوهه، وجماع معانيه وتفرقها. ومن علمه انتفت عنه الشبه التي
دخلت على من جهل لسانها « [31] .
وقال ابن عبد البر:» ومما يستعان به على فهم الحديث ما ذكرناه من العون
على كتاب الله عز وجل : وهو العلم بلسان العرب ومواقع كلامها، وسعة لغتها،
وأشعارها، ومجازها، وعموم لفظ مخاطبتها وخصوصه، وسائر مذاهبها لمن قدر، فهو شيء لايُستغنى عنه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى
الآفاق: أن يتعلموا السنّة والفرائض واللحن يعني النحو كما يتعلم القرآن « [32] .
وقال ابن تيمية:» ولابد في تفسير القرآن والحديث من أن يعرف مايدل
على مراد الله ورسوله من الألفاظ، وكيف يفهم كلامه، فمعرفة العربية التي
خوطبنا بها ممّا يُعين على أن نفقه مراد الله ورسوله بكلامه، وكذلك معرفة دلالة
الألفاظ على المعاني، فإن عامة ضلال أهل البدع كان بهذا السبب، فإنهم صاروا
يحملون كلام الله ورسوله على ما يدّعون أنه دال عليه، ولايكون الأمر
كذلك.. « [33] .
وقال الشاطبي:» المقصود هنا: أن القرآن نزل بلسان العرب على الجملة،
فطلب فهمه إنما يكون في هذا الطريق خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: [إنَّا أَنزَلْنَاهُ
قُرْآناً عَرَبِياً] [يوسف: 2] . وقال: [بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ][الشعراء: 195] .
وقال: [لِّسَانُ الَذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ][النحل: 103] . إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب، لا أنه أعجمي ولا بلسان
العجم، فمن أراد فهمه، فمن جهة لسان العرب يُفهم، ولا سبيل إلى تطلّب فهمه
من غير هذه الجهة « [34] .
(1) أخرجه: مسلم في الإيمان، ج1 ص64، ح37.
(2)
أخرجه مسلم في الصيد والذبائح ج3 ص1547، ح1954.
(3)
أخرجه: ابن بطة في الإبانة، ج 1 ص257، وأخرج نحوه عن أبي الدرداء وأبي سعيد الخدري، وأفاد المحقق أن أسانيدها جياد.
(4)
عقيدة السلف ص 117.
(5)
السنة للخلال ج 3 ص 579.
(6)
أخرجه: الترمذي في الأدب ج5 ص 81، ح2738، والحاكم في الأدب ج4 ص265: 266 وإسناده جيد.
(7)
أخرجه: عبد الرزاق في الصلاة ج3 ص52 ح 4755، والبيهقي في السنن الكبرى ج2 ص 466 وإسناده صحيح.
(8)
شرح العقيدة الطحاوية ص 219: 221.
(9)
شرح السنة للبربهاري ص51.
(10)
مجموع الفتاوى ج 13 ص 28.
(11)
المرجع السابق ج 10 ص 363.
(12)
أخرجه: أحمد ج6 ص8 وأبوداود ح4604، والترمذي 2660.
(13)
أخرجه: أبوداود ح 3605، والترمذي ح2663، وابن ماجه ح 12.
(14)
أخرجه: الخطيب البغدادي في الكفاية ص15.
(15)
منهاج السنة النبوية ج3 ص352.
(16)
المرجع السابق ج5 ص 233.
(17)
أخرجه: مسلم في مقدمة صحيحه ج1 ص 12: 13.
(18)
المرجع السابق ج1 ص 15.
(19)
المحدث الفاصل ص 416، والكفاية ص21.
(20)
منهاج السنة النبوية ج7 ص 61.
(21)
المرجع السابق ج7 ص 34: 35.
(22)
مجموع الفتاوى ج 3 ص 380.
(23)
منهاج السنة النبوية ج 7 ص 167: 168.
(24)
مجموع الفتاوى ج1 ص 250.
(25)
جامع بيان العلم وفضله ج2 ص 947، ح1810.
(26)
الفِصَل في الملل والنحل ج4 ص 148.
(27)
أخرجه: أحمد ج4 ص126: 127، وأبوداود ح 4607، والترمذي ح 2676.
(28)
الفتاوى ج17 ص353.
(29)
الموافقات ج2 ص79.
(30)
شرح العقيدة الطحاوية ص 212.
(31)
الرسالة ص 50.
(32)
جامع بيان العلم وفضله ج2 ص1132.
(33)
الفتاوى ج7 ص 116 وانظر: ج7 ص 118: 119 و138 و 169 و286.
(34)
الموافقات ج2 ص64.
دراسات قرآنية
مصادر التفسير:
تفسير القرآن بالقرآن
(1)
بقلم: مساعد بن سليمان الطيار
يراد: بمصادر التفسير: المراجع الأولية التي يرجع إليها المفسر عند تفسيره
لكتاب الله، وهذه المصادر هي: القرآن، والسنة، وأقوال الصحابة، وأقوال
التابعين وتابعيهم، واللغة، والرأي والاجتهاد. وإنما قيل:«المراجع الأولية» ؛
لئلا تدخل كتب التفسير؛ لأنها تعتبر مصادر، ولكن الحديث هنا ليس عنها.
وقد اصطلح شيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728هـ) على تسميتها ب (طرق
التفسير) ، ذكر منها أربعة، وهي: القرآن، والسنة، وأقوال الصحابة، وأقوال
التابعين في التفسير [1] .
وجعلها بدر الدين الزركشي (ت: 794هـ) مآخذ التفسير، وذكر أمهاتها،
وهي أربع: النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الأخذ بقول الصحابة، ثم الأخذ بمطلق اللغة، ثم التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة
الشرع [2] . وسيكون الحديث عن هذه المصادر متتابعاً إن شاء الله تعالى.
تفسير القرآن بالقرآن:
يعتبر القرآن أول مصدر لبيان تفسيره؛ لأن المتكلم به هو أولى من يوضّح
مراده بكلامه؛ فإذا تبيّن مراده به منه، فإنه لا يُعدل عنه إلى غيره.
ولذا عدّه بعض العلماء أول طريق من طرق تفسير القرآن [3]، وقال آخر:
إنه من أبلغ التفاسير [4] ، وإنما يُرْجَع إلى القرآن لبيان القرآن؛ لأنه قد يَرِدُ
إجمال في آية تبيّنه آية أخرى، وإبهام في آية توضّحه آية أخرى، وهكذا.
وسأطرح في هذا الموضوع قضيتين:
الأولى: بيان المصطلح.
الثانية: طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن.
بيان المصطلح:
التفسير: كشفٌ وبيانٌ لأمر يحتاج إلى الإيضاح، والمفَسّر حينما يُجْري
عملية التفسير، فإنه يبيّن المعنى المراد ويوضّحه.
فتفسير المفسر لمعنى «عُطّلت» في قوله (تعالى) : [وَإذَا العِشَارُ عُطِّلَتْ]
[التكوير: 4] بأنها: أُهمِلت، هو بيان وتوضيح لمعنى هذه اللفظة القرآنية.
وفي هذا المثال يُقَال: تفسير القرآن بقول فلان؛ لأنه هو الذي قام ببيان
معنى اللفظة في الآية.
ومن هنا، فهل كل ما قيل فيه:(تفسير القرآن بالقرآن) يعني أن البيان عن
شيء في الآية وقع بآية أخرى فسّرتها، أم أن هذا المصطلح أوسع من البيان؟
ولكي يتضح المراد بهذا الاستفسار استعرض معي هذه الأمثلة:
المثال الأول: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لما نزلت [الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 82] .
قلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيّنا لم يظلم نفسه؟ قال: ليس
كما تقولون، [لم يلبسوا إيمانهم بظلم] : بشرك، أو لم تسمعوا إلى قول لقمان
لابنه: [يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ][لقمان: 13] « [5] .
المثال الثاني: قال الشيخ الشنقيطي (ت: 1393هـ) :» ومن أنواع البيان
المذكورة أن يكون الله خلق شيئاً لحِكَمٍ متعددة، فيذكر بعضها في موضع، فإننا نُبيّن
البقية المذكورة في المواضع الأُخر.
ومثاله: قوله تعالى: [وَهُوَ الَذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا]
[الأنعام: 97] .
فإن من حِكَمِ خلق النجوم تزيين السماء الدنيا، ورجم الشياطين أيضاً، كما
بينّه (تعالى) بقوله: [وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ][الملك: 5] وقوله: [إنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الكَوَاكِب * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ
شَيْطَانٍ مَّارِدٍ] [الصافات: 6، 7][6] .
المثال الثالث: قال الشيخ محمد حسين الذهبي: «ومن تفسير القرآن بالقرآن: الجمع بين ما يُتَوهم أنه مختلف؛ كخلق آدم من تراب في بعضٍ، ومن طينٍ في
غيرها، ومن حمأ مسنون، ومن صلصالٍ، فإن هذا ذِكْرٌ للأطوار التي مرّ بها آدم
من مبدأ خلقه إلى نفخ الروح فيه» [7] .
نقد الأمثلة:
إذا فحصت هذه الأمثلة فإنه سيظهر لك من خلال الفحص ما يلي:
ستجد أن المثال الأول وقع فيه البيان عن المراد بالظلم بآية أخرى، أي: إن
القرآن وضّح القرآن.
لكنك هل تجد في المثالين الآخرين وقوع بيان عن آية بآية أخرى؟
ففي المثال الثاني: تجد أن المفَسّر جمع عدة آيات يربطها موضوع واحد،
وهو حكمة خلق النجوم، فهل وقع بيان لآية بآية أخرى في هذا الجمع؟
لاشك أنه لم يقع هذا البيان، لأن الأية الأولى التي جمع المفسر معها ما
يوافقها في الموضوع لم يكن فيها ما يحتاج إلى بيان قرآني آخر.
وفي المثال الثالث: تجد أن المفَسّر جمع بين عدّة آيات تُوهم بالاختلاف،
لكن هل وقع في جمع هذه الآيات تفسير بعضها ببعض؟ أم أن تفسيرها جاء من
مصدر آخر خارج عن الآيات؟
الذي يبدو أن جمع هذه الآيات أثار الإشكال؛ إذ التراب لا يُُفسّّر بالطين، ولا
بالحمأ المسنون
…
إلخ، كما أن كل واحدٍ من الآخرين لا يُفسّر بالآخر؛ لأنه
مختلف عنه. ولما كان الخبر عن خلق آدم والإخبار عنه مختلف احتاج المفسر إلى
الربط بين الآيات ومحاولة حلّ الإشكال الوارد فيها، ولكن الحلّ لم يكن بآية أخرى
تزيل هذا الإشكال، بل كان حلّه بالنظر العقلي المعتمد على دلالة هذه المتغايرات
وترتيبها في الوجود، مما جعل المفسر لهذه الآيات ينتهي إلى أنها مراحل خلق آدم
عليه السلام، وأن كل آية تتحدث عن مرحلة من هذه المراحل، حيث كان آدم
تراباً، ثم طيناً، ثم
…
إلخ.
وبهذا يظهر جليّاً أنّ جمع الآيات لم يكن فيه بيان آية بآية أخرى، وإن كان
في هذا الجمع إفادة في التفسير.
وبعد.. فإن النتيجة التي تظهر من هذه الأمثلة: أن كل ما قيل فيه: إنه
تفسير قرآن بقرآن، إذا لم يتحقق فيه معنى البيان عن شيء في الآية بآية أخرى،
فإنه ليس تعبيراً مطابقاً لهذا المصطلح، بل هو من التوسع الذي يكون في تطبيقات
المصطلح.
تفسير القرآن بالقرآن عند المفسرين:
ظهر مما سبق أن مصطلح (تفسير القرآن بالقرآن) قد استُعمل بتوسع في
تطبيقاته، ويبرز هذا من استقراء تفاسير المفسرين، خاصة من نصّ على هذا
المصطلح أو إشار إليه في تفسيره؛ كابن كثير (ت: 774هـ) ، والأمير الصنعاني
(ت: 1182هـ)، والشنقيطي (ت: 1393هـ) .
ويبدو أن كل استفادة من آيات القرآن؛ كالاستشهاد أو الاستدلال بها يكون
داخلاً ضمن تفسير القرآن بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره الصنعاني في تفسير قوله تعالى: [لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ
أَلَاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ] [الشعراء: 3] حيث قال: «أي قاتلها لعدم إيمان قومك.
» تكرر هذا المعنى في القرآن في مواضع: [وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ]
[الحجر: 88] وفي الكهف: [فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً][الكهف: 6] . وفي فاطر: [فَلاتَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ][فاطر: 8] .
ونحوه: [إن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَن يُضِلّ][النحل: 37] .
ونحو ذلك مما هو دليل على شفقته على الأمة، ومحبته لإسلامهم، وشدة حرصه
على هدايتهم مع تصريح الله له بأنه ليس عليه إلا البلاغ « [8] .
ويمكن القول: إنه ليس هناك ضابط يضبط المصطلح المتوسع بحيث يمكن
أن يقال: هذا يدخل في تفسير القرآن بالقرآن، وهذا لا يدخل فيه؛ ولذا يمكن
اعتبار كتب (متشابه القرآن)[9] ، وكتب (الوجوه والنظائر) من كتب تفسير القرآن
بالقرآن بسبب التوسع في المصطلح.
فكتب (متشابه القرآن) توازن بين آيتين متشابهتين أو أكثر، وقد يقع الخلاف
بينهما في حرف أو كلمة، فيبين المفسر سبب ذلك الاختلاف.
وكتب (الوجوه والنظائر) تبيّن معنى اللفظ في عدة آيات، وتذكر وجه الفرق
فيها في كل موضع.
* المفسرون المعتنون بهذا المصدر:
إن مراجعة روايات التفسير المروية عن السلف تدل على أن عبد الرحمن بن
زيد بن أسلم (ت: 182هـ) كان من أكثر السلف اعتناءً بتفسير القرآن بالقرآن.
ومن أمثلة ذلك ما رواه عنه الطبري (ت: 310هـ) بسنده في تفسير قوله تعالى: [وَالْبَحْرِ المَسْجُورِ][الطور: 6] قال:» الموقَد، وقرأ قول الله تعالى: [وَإذَا
البِحَارُ سُجِّرَتْ] [التكوير: 6] قال: أُوقِدَتْ « [10] .
أما كتب التفسير، فإن من أبرز من اعتنى به ثلاثة من المفسرين هم:
(1)
الحافظ ابن كثير (ت: 774هـ) في كتابه (تفسير القرآن العظيم) .
(2)
الأمير الصنعاني (ت: 1182هـ) في كتابه: (مفاتح الرضوان في تفسير
الذكر بالآثار والقرآن) .
(3)
الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت1393هـ) في كتابه: (أضواء البيان في
إيضاح القرآن بالقرآن) [11] .
* بيان بعض الأمثلة التي تدخل في المصطلَحَين:
سبق البيان عن مصطلح (تفسير القرآن بالقرآن)، وأنه ينقسم إلى نوعين:
الأول: ما يعتمد على البيان، والمراد أن وقوع البيان عن آية بآية أخرى يُعَدّ
تعبيراً دقيقاً عن هذا المصطلح.
الثاني: ما لم يكن فيه بيان عن آية بآية أخرى، وهو بهذا مصطلح مفتوح،
يشمل أمثلة كثيرة.
وقد مضى أن هذا التوسع هو الموجود في كتب التفسير، وأنها قد سارت
عليه، وفي هذه الفِقْرة سأطرح محاولة اجتهادية لفرز بعض أمثلة هذا المصطلح.
أولاً: الأمثلة التي يَصْدُقُ إدخالها في المصطلح المطابق:
يمكن أن يدخل في هذا المصطلح ما يلي:
1-
الآية المخصصة لآية عامة:
ورد لفظ الظلم عاماً في قوله تعالى: [الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ
أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 82] . وقد خصّه الرسول صلى الله عليه
وسلم بالشرك، واستدل له بقوله تعالى:[إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ][لقمان: 13] .
وفي قوله تعالى: [وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا][الإسراء: 24] . عموم يشمل كل
أبٍ: مسلم وكافر، وهو مخصوص بقوله تعالى: [مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى] [التوبة: 113] . فخرج بهذا الاستغفار
للأبوين الكافرين، وظهر أن المراد بها الأبوان المؤمنان [12] .
2-
الآية المبيّنة لآية مجملة:
أجمل الله القدر الذي ينبغي إنْفَاقُهُ في قوله تعالى: [وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ]
[البقرة: 3]، وبين في مواضع أخر: أن القدر الذي ينبغي إنفاقه هو الزائد عن
الحاجة وسدّ حاجة الخَلّة التي لابد منها، وذلك كقوله: [وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ
العَفْوَ] [البقرة: 219] والمراد بالعفو: الزائد على قدر الحاجة التي لابدّ منها،
على أصحّ التفسيرات، وهو مذهب الجمهور
…
[13] .
وفي قوله تعالى: [أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلَاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ][المائدة: 1] ، إجمال في المتلو، وقد بيّنه قوله تعالى: [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ
الخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ
السَّبُعُ إلَاّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ] [المائدة: 3] .
3-
الآية المقيدة لآية مطلقة:
أطلق الله استغفار الملائكة لمن في الأرض، كما في قوله تعالى:
[وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُون لِمَن فِي الأَرْضِ][الشورى: 5]، وقد قيّد هذا الإطلاق بالمؤمنين في قوله تعالى:[الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا]
[غافر: 7] .
وفي قوله تعالى: [إنَّ الَذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ
تَوْبَتُهُمْ] [آل عمران: 90] ، إطلاق في عدم قبول التوبة، وهو مقيّد في قول
بعض العلماء بأنه إذا أخّروا التوبة إلى حضور الموت، ودليل التقييد قوله تعالى:
[وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ المَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ
الآنَ وَلا الَذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ] [النساء: 14] .
4-
تفسير لفظة غريبة في آية بلفظة أشهر منها في آية أخرى:
ورد لفظ» سِجّيل «في قوله تعالى: [وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ
مَّنضُودٍ] [هود: 82] ، والممطر عليهم هم قوم لوط عليه الصلاة والسلام ، وقد
وردت القصة في الذاريات وبان أن المراد بالسجيل: الطين، في قوله تعالى:
[قَالُوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ*لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ]
[الذاريات: 32، 33][15] .
…
5-
تفسير معنى آية بآية أخرى:
التسوية في قوله تعالى: [يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى
بِهِمُ الأَرْضُ] [النساء: 42]، يراد بها: أن يكونوا كالتراب، والمعنى: يودّون
لو جُعِلوا والأرض سواءً، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى: [وَيَقُولُ الكَافِرُ يَا
لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً] [النبأ: 40][16] .
ثانياً: أمثلة للمصطلح المتوسع:
يمكن أن يدخل في هذا النوع كل آية قرنت بأخرى على سبيل التفسير، وإن
لم يكن في الآية ما يشكل فتُبَيّنُهُ الآية الأخرى، ومن أمثلته ما يلي:
1-
الجمع بين ما يُتوهم أنه مختلف:
سبق مثال في ذلك، وهو: مراحل خلق آدم [17] ، ومن أمثلته عصا موسى
عليه الصلاة والسلام ؛ حيث وصفها مرة بأنها [حَيَّةٌ تَسْعَى][طه: 20] ، ومرة
بأنها [تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانّ][النمل: 10] ، ومرة بأنها [ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ]
[الأعراف: 107] ، فاختلف الوصف والحدث واحد، وقد جمع المفسرون بين هذه الآيات: أن الله (سبحانه) جعل عصا موسى كالحية في سعيها، وكالثعبان في
عِظَمها، وكالجان (وهو: صغار الحيّات) في خِفّتِها [18] .
2-
تتميم أحداث القصة:
إذا تكرر عرض قصة ما في القرآن فإنها لا تتكرر بنفس أحداثها، بل قد يزاد
فيها أو ينقص في الموضع الآخر، ويَعْمَدُ بعض المفسرين إلى ذكر أحداث القصة
متكاملة كما عرضها القرآن في المواضع المختلفة، ومثال ذلك:
قوله (تعالى) : [إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ][طه: 40] ، حيث ورد في سورة القصص ثلاثة أمور غير واردة في هذه الآية، وهي:
1-
أنها مرسلة من قبل أمها.
2-
أنها أبصرته من بُعدٍ وهم لا يشعرون.
3-
أن الله حرّم عليه المراضع.
وذلك في قوله (تعالى) : [وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لا
يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ
يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ] [القصص: 11، 12][19] .
3-
جمع الآيات المتشابهة في موضوعها:
قال الشنقيطي في قوله (تعالى) : [قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَذِي يَقُولُونَ]
[الأنعام: 33] .
قال:» صرح (تعالى) في هذه الآية الكريمة بأنه يعلم أن رسوله يَحْزُنُه ما
يقوله الكفار في تكذيبه، وقد نهاه عن هذا الحزن المفرط في مواضع أخرى كقوله:
[فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات][فاطر: 8]، وقوله: [فَلا تَأْسَ عَلَى القَوْمِ
…
الكَافِرِينَ] [المائدة: 68]، وقوله: [فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إن لَّمْ يُؤْمِنُوا
بِهَذَا الحَدِيثِ أَسَفاً] [الكهف: 6]، وقوله:[لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ][الشعراء: 3] .
والباخع: المهلك نفسه
…
إلخ [20] .
4-
جمع موارد اللفظة القرآنية:
قد يورد المفَسّر «وصفاً» وُصف به شيء، ثم يذكر الأشياء الأخرى التي
وصفت به، أو يعمد إلى لفظة فيذكر أماكن ورودها، ومن أمثلة الأول:
* قال: الأمير الصنعاني «والبقعة مباركة (لما)[21] وصفها الله لما أفاض
(تعالى)(فيه)[22] من بركة الوحي وكلام الكليم فيها.
كما وصف أرض الشام بالبركة، حيث قال:[وَنَجَّيْنَاهُ] أي: إبراهيم
[وَلُوطاً إلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ][الأنبياء: 71]
ووصف بيته العتيق بالبركة في قوله: [إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ] [ال عمران: 96] .
ووصف شجرة الزيت بالبركة في قوله: [شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ]
[النور: 35][23] .
* ومن أمثلة الثاني قوله:» وسمّى الله كتابه هدى في آيات: [ذَلِكَ الكِتَابُ
لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ] [البقرة: 2] ، [إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ]
[الإسراء: 9]، [قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ] [فصلت: 44] ، وفي لقمان:[هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ][لقمان: 3]، وفي النحل: [تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى
وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] [النحل: 89] ، فهو هدى وبشرى للمسلمين والمحسنين، وفي يونس: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ
وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ] [يونس: 57][24] .
…
طريقة الوصول إلى تفسير القرآن بالقرآن:
التفسير إما أن يكون طريقه النقل، وإما أن يكون طريقه الاستدلال، والأول: يطلق عليه (التفسير المأثور)، والثاني: يطلق عليه (التفسير بالرأي) .
ومن هنا فإن تصنيف (تفسير القرآن بالقرآن) ، في أحدهما يكون بالنظر إلى
القائل به أولاً، لا إلى طريقة وصوله إلى ما بعد القائل؛ لأن ذلك طريقهُ الأثر.
وتفسير القرآن بالقرآن ينسب إلى الذي فسّر به، فالمفَسّر هو الذي عَمَدَ
اجتهاداً منه إلى الربط بين آية وآية، وجعل إحداهما تفسر الآخرى.
وبهذا فإن طريق الوصول إليه هو الرأي والاستنباط، وعليه فإنه لا يلزم
قبول كل قول يرى أن هذه الآية تفسر هذه الآية؛ لأن هذا الاجتهاد قد يكون غير
صواب.
كما أنه إذا ورد تفسير القرآن بالقرآن عن مفسر مشهور معتمد عليه فإنه يدلّ
على علو ذلك الاجتهاد؛ لأنه من ذلك المفسر.
فورود التفسير به عن عمر بن الخطاب أقوى من وروده عن من بعده من
التابعين وغيرهم، وهكذا.
حُجّيّةُ تَفْسير القرآن بالقرآن:
كلما كان تفسير القرآن بالقرآن صحيحاً، فإنه يكون أبلغ التفاسير، ولذا: فإن
ورُود تفسير القرآن بالقرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم أبلغ من وروده عن
غيره؛ لأن ما صح مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم مَحَلّهُ القبول.
بيد أن قبوله لم يكن لأنه تفسير قرآن بقرآن، بل لأن المفسّر به هو النبي -
صلى الله عليه وسلم.
ومن أمثلة تفسيره القرآن بالقرآن ما رواه ابن مسعود: أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال: «مفاتح الغيب [25] خمسٌ، [إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ
وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] [لقمان: 34][26] .
أما ورود تفسير القرآن بالقرآن عن غير الرسول فإنه قد قيل باجتهاد المفسر،
والاجتهاد معرض للخطأ.
وبهذا لا يمكن القول بحجيّة تفسير القرآن بالقرآن مطلقاً، بحيث يجب قبوله
ممن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو مقيد بأن يكون ضمن الأنواع
التي يجب الأخذ بها في التفسير [27] .
هذا.. وقد سبق البيان أن تفسير القرآن بالقرآن يكون أبلغ التفاسير إذا كان
المفسّرُ به من كبار المفسرين من الصحابة ومن بعدهم من التابعين.
وأخيراً:
فإن كون تفسير القرآن بالقرآن من التفسير بالرأي، لا يعني صعوبة الوصول
إليه في كل حالٍ، بل قد يوجد من الآيات ما تفسّر غيرها ولا يكاد يختلف في
تفسيرها اثنان، مثل تفسير» الطارق «في قوله (تعالى) :[وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ]
[الطارق: 1] بأنه يُفسر بقوله (تعالى) : [النَّجْمُ الثَّاقِبُ][الطارق: 3] ، ومثل
هذا كثيرٌ في القرآن، والله أعلم.
(1) مقدمة في أصول التفسير، (ت: د عدنان زرزور) ، ص93 وما بعدها.
(2)
انظر: البرهان في علوم القرآن، ج2، ص156-164.
(3)
شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في (أصول التفسير)، (ت: عدنان زرزور) ، ص93.
(4)
ابن القيم في (التبيان في أقسام القرآن)، (ت: طه شاهين) ، ص116.
(5)
رواه الإمام البخاري، انظر: فتح الباري (ط: الريان) ، ج6، ص 448، ح3360.
(6)
أضواء البيان، ج1، ص87.
(7)
التفسير والمفسرون، ج1، ص42.
(8)
مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن، للأمير الصنعاني، تحقيق عبد الله بن سوفان الزهراني (رسالة ماجستير، على الآلة الكاتبة) ص71، 72، وانظر: الأمثلة التي سبق نقلها عن الشنقيطي ومحمد حسين الذهبي.
(9)
تنقسم الكتابة في متشابه القرآن إلى قسمين: الأول: ما يتعلق بالمواضع التي يقع فيها الخطأ في الحفظ لتشابهها، وهذه الكتب تخص القراء الثاني: ما يتعلق بالخلاف في التفسير بين الآيات المتشابهة، وهذا المقصود هنا، ككتاب (البرهان في متشابه القرآن) للكرماني وغيره.
(10)
تفسير الطبري، ج27، ص19، وانظر له في الجزء نفسه ص22، 37، 38، 61، 69، 74، 76، 92، 113، 120، وفي الجزء نفسه عن علي ص18، وابن عباس، ص55، 72، وعكرمة، ص72.
(11)
يمكن أن يستنبط من هذا الموضوع دراسات علمية مقترحة، وهي كالتالي: 1- جمع مرويات السلف في (تفسير القرآن بالقرآن) ودراستها؛ لإبراز طرق استفادة السلف من القرآن ومنهجهم في ذلك 2- دراسة منهج تفسير القرآن بالقرآن عند ابن كثير والصنعاني والشنقيطي، وطرق إفادتهم من القرآن في التفسير، مع بيان الفرق بينهم في هذا الموضوع.
(12)
انظر: تفسير الطبري، ج15، ص6768، والتحرير والتنوير، ج 15، ص72.
(13)
انظر: أضواء البيان، ج1، ص107، 108 أضواء البيان ج1 ص 343.
(14)
انظر: أضواء البيان، ج1، ص343.
(15)
انظر: أضواء البيان، ج1، ص86.
(16)
انظر: تفسير الطبري، ج5، ص93، والحجة للقراءات السبعة لأبي علي الفارسي، ج1، ص246.
(17)
انظر: ص4 من المجلة نفسها.
(18)
انظر: أنموذج جليل في أسئلة وأجوبة من غرائب آي التنزيل، للرازي ص327، وكشف المعاني في المتشابه من المثاني، ص282، 283، وتيجان البيان في مشكلات القرآن، للخطيب العمري، ص173.
(19)
انظر: أضواء البيان، ج4، ص408.
(20)
أضواء البيان، ج2، ص189، وانظر: مفاتح الرضوان للأمير الصنعاني، ص71، 72.
(21)
كذا في الأصل وانظر: حاشية 2، ص194 من التحقيق، حيث قال المحقق: والصواب (كما) .
(22)
الصواب (فيها) انظر: حاشية 7، ص194، من التحقيق.
(23)
مفاتح الرضوان في تفسير الذكر بالآثار والقرآن، ص194.
(24)
المصدر السابق، ص188، 189.
(25)
وردت في قوله (تعالى) : [وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلَاّ هُوَ][الأنعام: 59] .
(26)
رواه البخاري، انظر: فتح الباري، ج8، ص141.
(27)
سبق أن طرحتها في مجلة البيان، ع76، ص15.