المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

دراسات شرعية ‌ ‌مصادر التفسير (2) التفسير بالسنة -الحلقة الثانية- بقلم: مساعد بن سليمان الطيار   في الحلقة - مجلة البيان - جـ ٩٧

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: دراسات شرعية ‌ ‌مصادر التفسير (2) التفسير بالسنة -الحلقة الثانية- بقلم: مساعد بن سليمان الطيار   في الحلقة

دراسات شرعية

‌مصادر التفسير

(2)

التفسير بالسنة

-الحلقة الثانية-

بقلم: مساعد بن سليمان الطيار

في الحلقة الماضية تحدث الكاتب عن التفسير بالسنة من حيث: تحرير

مصطلح التفسير بالسنة، وتحرير مصطلح التفسير النبوي، وأنواع كل منهما،

وأمثلة من كل نوع، ويتابع في هذه الحلقة استكمال عناصر هذا الموضوع.

- البيان -

ثلاث مسائل متممة للحديث عن التفسير بالسنة:

المسألة الأولى: التفسير بالسنة عند المحدّثين:

يورد المحدثون التفسير النبوي والتفسير بالسنة في كتبهم تحت كتاب يعنونونه

بـ (كتاب التفسير) .

وممن كتب في هذا الباب: الإمام البخاري في صحيحه، والنسائي في سننه

الكبرى، والترمذي في سننه، والحاكم في مستدركه [1] .

وما أريد إبرازه هنا أمران:

الأول: أن استعمالهم للتفسير بالسنة كثير.

الثاني: أن ربطهم معنى الحديث بالآية وذكر ذلك تحت آية من الآيات التي

يعنونون بها الأبواب هو اجتهاد خاص بهم، مما يعني أنهم شاركوا في هذا الجانب

من التفسير.

وقد كان هؤلاء المحدّثون يحرصون على إيراد مايصلح من كلام النبي -صلى

الله عليه وسلم- تفسيراً لآية، ولو من طرف خفي.

بل كانوا يذهبون إلى أبعد من ذلك، حيث يوردون مايتعلق بالآية من

الأحاديث لأي سبب كان؛ كذكر بعض لفظ الآية في الحديث أو ذكر قراءة الرسول

صلى الله عليه وسلم لتلك الآية في زمن مخصوص، أو غير ذلك من الأسباب،

وهذا يدل على مدى حرصهم واهتمامهم بربط الآية بما يتعلق بها من الحديث النبوي، وإن لم يكن جائياً في مساق التفسير، وقد أشار إلى هذا بعض شراح صحيح

الإمام البخاري، ومنهم:

1-

أبو مسعود الكنهكوهي (ت: 1323)، قال: ثم الذي ينبغي التنبه له:

أن التفسير عند هؤلاء الكرام أعمّ من أن يكون شرح كلمة، أو بيان مايُقرأ بعد تمام

سورة، ولا أقّل من أن يكون لفظ القرآن وارداً في الحديث.

وكون الأمور المتقدمة من التفسير ظاهر [2] ، وإنما الخفاء في هذا الأخير

والنكتة فيه: أن لفظ الحديث يفسر لفظ القرآن بحيث يُعلم منه أن المراد في

الموضعين واحد، وكثيرا مايُكشف معنى اللفظ بوقوعه في قصة وكلام لايتضح

مراده لو وقع هذا اللفظ في غير تلك القصة؛ فإذا لاحظ الرجل الآية والرواية معا

كانت له مُكنة على تحصيل المعنى [3] .

2-

وقال (صاحب الفيض) : (ثم اعلم أن تفسير المصنف (أي: البخاري)

ليس على شاكلة تفسير المتأخرين في كشف المغلقات، وتقرير المسائل، بل قصد

فيه إخراج حديث مناسب متعلق به ولو بوجه) [4] .

وبهذا يتلخص أن المحدّثين يوردون من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم

ما يصلح أن يكون تفسيرا، كما يوردون ما يتعلق بالآية من كلامه أوفعله لأدنى

سبب.

ومن أمثلة الأول (ما يصلح من كلامه تفسيرا) :

1-

ترجم البخاري في باب: ذكر إدريس عليه السلام بقوله (تعالى) :

[ورفعناه مكانْا عليا][مريم: 57] ثم روى تحت هذا الباب حديث المعراج، وفيه

أن الرسول صلى الله عليه وسلم وجد في السموات إدريس وموسى وعيسى....)

2-

وذكر النسائي تحت قوله (تعالى) : [فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي

حَدِيثٍ غَيْرِهِ] [النساء: 140] حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، عن

النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ويلٌ للذي يحدث القوم فيكذب، فيضحك به القوم، ويلٌ له، ويلٌ له)[6] .

3-

وذكر الترمذي في تفسير قوله (تعالى) : [فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن

قُرَّةِ أَعْيُنٍ] [السجدة: 17] حديث المغيرة بن شعبة، يرفعه إلى رسول الله -صلى

الله عليه وسلم-، يقول: (إن موسى عليه السلام سأل ربه، فقال: أي رب، أي

أهل الجنة أدنى منزلة؟ قال: رجل يأتي بعدما يدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له:

أدخل الجنة.

فيقول: كيف أدخل الجنة وقد نزلوا منازلهم، وأخذوا أخذاتهم، قال: فيقال

له: أترضى أن يكون لك ما كان لملك من ملوك الدنيا؟

فيقول: نعم، أي ربّ، قد رضيت. فيقال له: فإن لك هذا، ومثله، فيقول

رضيت أَيْ ربّ.

فيقال له: فإن لك هذا، وعشرة أمثاله. فيقول: رضيت أي ربّ، فيقال له: فإن لك مع هذا ما اشتهت نفسك، ولذت عينك) [7] .

ومن أمثلة الثاني (مايكون لأدنى سبب) :

1-

ماذكره البخاري تحت باب [وهو ألد الخصام][البقرة: 204] ، من

حديث عائشة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

(أبغضُ الرجال إلى الله الألد الخَصِم)[8] .

2-

وتحت تفسير قوله (تعالى) : [قالوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأََنَّنَا مُسْلِمُونَ] [المائدة:

111] أورد النسائي أثر ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان

يقرأ في ركعتي الفجر: في الأولى منهما إلى قوله: [قولوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ

إلَيْنَا] [البقرة: 136] إلى آخر الآية، وفي الأخرى [قالوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأََنَّنَا

مُسْلِمُونَ] [المائدة: 111][9] .

المسألة الثانية: نظرة وصفية لأمثلة التفسير النبوي:

من خلال إلقاء نظرة سريعة على الوارد من التفسير النبوي يمكن فهرسة

الأمثلة تحت عناوين كالتالي:

1-

بيان معنى لفظة:

إن المتأمل في ما نقله الصحابة عن الرسول صلى الله عليه وسلم يلاحظ

أنهم لم يوردوا عنه تفسيراً للألفاظ، ويظهر والله أعلم أن ذلك بسبب معرفتهم

المعاني اللغوية؛ لأنهم عرب يفهمون معاني الخطاب، ولو ورد لهم استشكال في

فهم ألفاظه أو مدلولاته اللغوية لسألوا عنها، ومما يدل على ذلك حديث ابن مسعود

في نزول آية: [الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ][الأنعام: 82] فهم فهموا

الظلم بمعناه العام في لغتهم (أي أنهم استشكلوا مدلول لفظة: الظلم) فشق عليهم هذا

الخطاب حتى بينه لهم رسول الله.

إذن.. لم يكن الصحابة بحاجة إلى بيان المفردات اللغوية، ولذا لم يرد في

التفسير النبوي إلا نادراً، ومنه ماجاء عن أبي سعيد الخدري من تفسير الرسول -

صلى الله عليه وسلم للفظة (وسطاً) من قوله (تعالى) : -[وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً

وَسَطاً] [البقرة: 143] قال (والوسط العدل)[10] .

2-

بيان حكم فقهي في الآية:

قد يرد الحكم في آية مطلقا فيذكر الرسول صلى الله عليه وسلم مزيد بيان

له، وذلك إما بتحديد مقدار الحكم الفقهي، أو تخصيص اللفظ العام أو غير ذلك.

ومن تحديد المقدار: مارواه البخاري في تفسير قوله (تعالى) : [فَمَن كَانَ

مِنكُم مَّرِيضاً أََوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاًسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أوْ صَدَقَةٍ أََوْ نُسُكٍ]

[البقرة: 196] عن كعب بن عجرة قال: حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال: ماكنت أرى أن الجهد قد بلغ بك هذا، أما تجد شاه؟

قلت: لا

قال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين؛ لكل مسكين نصف صاع من

طعام واحلق رأسك) فنزلت فيّ خاصة، وهي لكم عامة [11] .

فأنت ترى أن البيان القرآني لم يحدد المقدار في الفدية، فلما فسر الرسول -

صلى الله عليه وسلم فسرها بالمقدار، وأنت تعلم أن هذا أحد أنواع بيان السنة

للقرآن.

ومن تخصيص العام في الحكم الفقهي، مارواه مسلم عن أنس قال: كانت

اليهود إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يجامعوهن في البيوت، فسأل أصحاب

النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل [َيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ

هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ] [البقرة: 222] إلى آخر الآية، فقال

رسول الله: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)[12] .

فلو أُخذ بظاهر العموم في قوله (فاعتزلوا) لفهم أن اعتزال المرأة عام: في

مؤاكلتها ومشاربتها ومخالطتها ومجامعتها، فكان هذا البيان النبوي مخصصا لذلك

العموم القرآني.

3-

بيان المشكل:

إنما يعرف المشكل بسؤال الصحابة عنه؛ لأن السؤال لايقع إلا بعد استشكال

في الغالب ومن أمثلة ماسأل عنه الصحابة: حياة الشهداء.

قال مسروق: سألنا عبد الله عن هذه الآية: [َولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي

سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] [آل عمران: 169] فقال: أما إنا

قد سألنا عن ذلك، فأخبرنا أن أرواحهم في جوف طير خضرٍ، لها قناديل معلقة

بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل..)

الحديث [13] .

وعن المغيرة بن شعبة (رضى الله عنه) قال: لما قدمتُ نجران سألوني: إنكم

تقرؤون: [يا أخت هارون][مريم: 28] وموسى قبل عيسى بكذا وكذا.

فلما قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن ذلك فقال: إنهم

كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم) [14] .

4-

ذكر مصداق كلامه من القرآن:

ورد في تفسير النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة يذكر فيها مصداق

كلامه من القرآن، وتأتي عبارات:(ثم قرأ)(اقرؤا إن شئتم) (مصداق ذلك من

كتاب الله) ، ومن ذلك مارواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله-صلى

الله عليه وسلم-: (من اقتطع مال امرئ مسلم بيمين كاذبة لقي الله وهو عليه

غضبان، وقال عبد الله: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداق ذلك

من كتاب الله جل ذكره: [إنَّ الَذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا

خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ..] [آل عمران: 77][15] .

5-

بيان مبهم:

القاعدة الغالبة أن ما أبهمه القرآن فلا فائدة عملية تنال من ذكره، ومع ذلك

فإنه ورد سؤال الصحابة عن ذلك، إلا أنه نادر، ومن ذلك ما رواه مسلم عن أبي

سلمة بن عبد الرحمن، قال: مرّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، قال:

قلت له: كيف سمعت أباك يذكر المسجد الذي أسس على التقوى؟ .

قال: قال أبي: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت

بعض نسائه، فقلت: يارسول الله، أي المسجدين الذي أسس على التقوى؟

قال: فأخذ كفاً من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا؛

لمسجد المدينة.

قال: فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره) [16] .

أخيراً..

هذه بعض الأمثلة للتفسير النبوي، والموضوع يحتاج إلى جمع وتأمل لتحديد

نوع المثال، مما يفيد في معرفة ماكان يحتاجه الصحابة من البيان النبوي للقرآن،

ولعل أقرب ما يذكر هنا هو ندرة ماورد عنه من بيان معنى غريب القرآن؛ مما

يترتب عليه أن فهم عربيته كان موكولا للصحابة رضي الله عنهم ، والله أعلم.

المسألة الثالثة: ما يستفاد من التفسير

النبوي في أصول التفسير:

إن النظر في التفسير النبوي، واستنطاق الأمثلة التفسيرية فيه يفيد في

جوانب عدة، ومما يفيده هنا أن طريقة التفسير النبوي أصل معتمد في التفسير،

فإذا ورد عنه تعميم للفظ، أو تفسير بمثاٍل، أو غير ذلك، حُكِم بصحة هذه

الأساليب التفسيرية في التفسير، وأنها في المجال الذي يمكن الاقتداء به ولاقياس

عليه.

كما أنه يفيد في بيان صحة بعض الأساليب التي اعتمدها المفسرون من السلف.

ثم إن هذا يفيد في تصحيح بعض مرويات السلف التي جاءت مخالفة للعبارة

النبوية في التفسير، ذلك أن تحرير هذه الأساليب في التفسير النبوي يبين مدى

احتمال النص لغير عبارة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيما أظن حسب علمي

أن (فِقهَ النصّ التفسيري) من التفسير النبوي لم يلق عناية من هذا الجانب، ولذا

قمت بهذه المحاولة الاجتهادية لبيان هذه الفكرة من خلال أمثلة توضح ذلك.

إن مثل هذه الدراسة السريعة لا تكفي في تأصيل قضية كهذه، ولكنه جهد

المقل، وبذرة ألقيها لتجد طريقها إلى النماء إن شاء الله وإليك أخي القارئ عرض

الأمثلة:

* المثال الأول:

عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله -صلى الله

عليه وسلم- وهو على المنبر يقول: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةُ]

[الأنفال: 60] ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة

الرمي) [17] .

وجاء عن جمع من السلف ما يلي:

1-

لقوة: الرمي من القوة (مكحول) .

2-

لقوة: الرمي والسيوف والسلاح (ابن عباس)

3-

مرهم بإعداد الخيل (عبّاد بن عبد الله ابن الزبير)

4-

لقوة: ذكور الخيل (عكرمة ومجاهد) .

5-

لقوة: الفرس إلى السهم ومادونه (سعيد بن المسيب)[18] .

لقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم القوة بالرمي، فهل يُطّرح ماورد

عن السلف من عبارات مخالفة لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، ويقال: مادام

النص قد ثبت طاح ما دونه.

أم يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يشير إلى القوة التي

هي أنكى أنواع القوة، وأشدها تأثيراً في الحرب؟ .

الذي يظهر والله أعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد هذا، وقد أشار

إلى ذلك الإمام الطبري فقال: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر

المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب، ومايتقوون به على جهاد عدوه وعدوهم من

المشركين من السلاح والرمي، وغير ذلك، ورباط الخيل.

ولا وجه لأن يقال: عنى بالقوة معنى من معاني القوة، وقد عمّ الله الأمر بها.

فإن قال قائل: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين أن ذلك مراداً

به الخصوص؛ بقوله: (ألا إن القوة الرمي) . قيل له: إن الخبر وإن كان قد جاء

بذلك، فليس في الخبر مايدل على أنه مراد به الرمي خاصة دون سائر معاني القوة

عليهم، فإن الرمي أحد معاني القوة؛ لأنه إنما قيل في الخبر:(ألا إن القوة الرمي)

ولم يقل: دون غيرها.

ومن القوة أيضا: السيف والرمح والحربة، وكل ماكان معونة على قتال

المشركين، كمعونة الرمي، أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم. هذا مع

وهاء سند الخبر بذلك عن رسول الله) [19] .

وبهذا يمكن القول أنه لما لم يكن في تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم

مايدل على التخصيص، دل ذلك على أن مراده التمثيل، ولما مثل للقوة ذكر أعلى

القوة وأشدها.

وإذا كان ذلك كذلك فإن روايات السلف لاتكون معارضة للتفسير النبوي، ولذا

يصح قبولها والتفسير بها؛ لأنها تدخل في عموم القوة.

ونتيجة القول: أن التفسير بالمثال أسلوب صحيح في التفسير؛ لأنه وارد عن

الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا الحديث، والله أعلم

* المثال الثاني:

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

مفاتح الغيب خمس: [إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ

وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] [لقمان: 34][20] .

في هذا المثال تجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر (مفاتح الغيب)

في قوله تعالى: [َوَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلَاّ هُوَ

] [الأنعام: 59] بآية

لقمان: [إنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ

] [لقمان: 34] .

ويمكن القول: إن تفسير القرآن بالقرآن مسلك صحيح من مسالك التفسير بناء

على هذا المثال.

ولعلك تقول: إن هذا المسلك واضح ومعروف مشهور.

فأقول لك: إن المراد هنا تأصيله بوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم،

إذ في وروده عنه ماينبه إلى استعمال هذا المسلك.

ومما يدل على ذلك أن الصحابة لما استشكلوا قوله (تعالى) : [الذِينَ آمَنُوا

وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ] [الأنعام: 82] قال لهم: إنه

ليس بذاك ألا تسمعُ إلى قول لقمان لابنه: [إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ]

[لقمان: 13][21] .

فكأنه صلى الله عليه وسلم يرشدهم إلى هذا المسلك بقوله: (ألا تسمع) ،

وكان يمكن إجابتهم وحل إشكالهم بدون الإشارة إلى الآية والله أعلم.

وأخيراً..

إذا كان يمكن استنباط بعض الأساليب التفسيرية في التفسير النبوي والقياس

عليها، فإن هناك مالايقاس عليه، ومنه:

أولاً: أن يكون التفسير في بيان حكم شرعي:

عن أنس بن مالك قال: (كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها،

ولم يجامعوهن في البيوت. فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل

الله عز وجل [ويَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ]

[البقرة: 222] .

فقال رسول الله: (اصنعوا كل شيء إلا النكاح)[22] .

إن قول الله (تعالى) : [فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ] لفظ عام، ويمكن أن

يفهم منه اعتزال النساء في المؤاكلة والمنام والبيوت، فذكر الرسول -صلى الله

عليه وسلم- ما يدل على تخصيص الاعتزال بالمجامعة دون غيرها من المعاشرة.

ثانيا: أن يكون التفسير لبيان أمر غيبي:

عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود عن هذا الآية [َولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ

قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] [ال عمران: 169] . فقال:

أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل

معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل) [23] .

إن صفة حياة هؤلاء الشهداء لايمكن إدراكها إلا عن سماع من النبي -صلى

الله عليه وسلم-، ولذا سأل الصحابة عن هذه الحياة الخاصة بالشهداء.

إنه في مثل هذين المثالين لايمكن استنباط (أسلوب تفسيري (لأن المجال في

هذا ليس مفتوحا بحيث يمكن الاستنباط منه، بل هو محدد لبيان حكم شرعي أو أمر

غيبي، ولذا يقف المفسر عند النص ولايمكنه تجاوزه، ليستفيد منه في نص آخر

يقيسه عليه.

(1) كان ابن كثير من أكثر المفسرين تأثرا بهذا المنهج الذي عند المحدثين.

(2)

ماذكره من قوله: (بيان مايقرأ بعد تمام سورة) ظاهر أنه ليس من التفسير، فتأمل.

(3)

لامع الدراري: 9/45.

(4)

انظر: لامع الدراري: 9/4 (حاشية رقم (1)) .

(5)

انظر: فتح الباري 6/431.

(6)

السنن الكبرى 6/ 329.

(7)

سنن الترمذي 5/347.

(8)

انظر: فتح الباري 8/36 ومثله النسائي في السنن الكبرى 1/301.

(9)

السنن الكبرى للنسائي 6/339.

(10)

رواه البخاري (فتح الباري 8/21) .

(11)

رواه البخاري (فتح الباري 8/34) .

(12)

رواه مسلم ح/رقم 302.

(13)

أخرجه مسلم ح/ 1887.

(14)

رواه مسلم ح/2135.

(15)

رواه البخاري.

(16)

رواه مسلم ح/1398.

(17)

رواه الإمام مسلم ح/1917.

(18)

انظر: الدر المنثور: 4/83 ومابعدها.

(19)

تفسير الطبري (ط: شاكر (14/37 وما ذكر الطبري من وهاء السند؛ لأنه رواه من طريق ابن لهيعة (14/3) ولذا ضعفه فيما يظهر ولم يكن عنده له إسناد آخر، والحديث كما علمت رواه مسلم وغيره، فلا شك في صحته.

(20)

رواه البخاري في مواضع من صحيحه (فتح الباري 8/141 (ومن الطريف في تفسير القرآن بالقرآن عند النبي أنه فسر آيتين من سورة الأنعام بآيتين من سورة لقمان.

(21)

رواه البخاري في مواضع من صحيحه (فتح الباري 8/372) .

(22)

رواه مسلم برقم 302.

(23)

رواه مسلم برقم 1887.

ص: 20

دراسات تربوية

رمضان بين الواقع والواجب

بقلم: فيصل بن علي البعداني

رمضان من مواسم الخيرات التي امتن الله (تعالى) بها على عباده، ليقوى

إيمانهم، وتزداد فيه تقواهم، وتتعمق صلتهم بربهم، قال (تعالى) : [يَا أََيُّهَا الَذِينَ

آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ]

[البقرة: 183] . والمتأمل في النصوص الشرعية الواردة في الصيام، التي تتحدث عن حِكَم الصيام وغاياته في الشريعة وفي واقعنا معاشر المسلمين يجد بوناً كبيراً لدى أكثر عامة الأمة وكثير من شباب الصحوة بين الواقع والواجب.

وسأحاول بإذن الله (تعالى) أن أتلمس أبرز الأسباب التي أدت إلى هذا التباين، معرجاً على شيء مما ييسر الله (تعالى) له من طرق العلاج.

أولاً: الأسباب:

هناك أسباب كثيرة من أبرزها:

1-

الجهل بأهداف وحِكَم الصيام وغاياته:

يعد الجهل بأهداف وحكم الصيام وغاياته في الشريعة لدى كثير من المسلمين، وقيامهم بالتطبيق تقليداً ومسايرة للمجتمع من دون التأمل والدراسة من أبرز

أسباب هذا التباين، يقول الشيخ الدوسري: (فإن لم يكن البشر واعين لحكمة

التشريع الإلهي وثمراته في الدنيا قبل الآخرة، فإنهم لن يطبقوه على تمامه، أو

على الوجه الصحيح) [1]، ويمكن إيجاز أهم تلك الحكم فيما يلي:

* تحقيق التقوى:

تعد التقوى من أبرز حكم الصيام.

يقول الرازي: (إن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع

الهوى؛ فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهون لذات الدنيا ورياستها،

وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، فمن أكثر منه هان عليه أمر هذين،

وخفت عليه مؤونتهما، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهوناً

عليه أمر الرياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى..) [2] .

* التربية على الصبر وقوة الإرادة:

التربية على الصبر من أبرز مرامي الصيام حتى سمى النبي -صلى الله عليه

وسلم- شهر الصيام: بشهر الصبر إذ في الصوم (تربية لقوة الإرادة على كبح

جماح الشهوات وأنانية النفوس، ليقوى صاحبها على ترك مألوفاته أكلاً أوشرباً أو

متاعاً، فيكون قوي الإرادة في الإقدام على أوامر الله، صلى الله عليه وسلم التي

من أعظمها حمل الرسالة المحمدية والدفع بها إلى الأمام، ساخراً بما أمامه من كل

مشقة وصعوبة.. والصوم يمثل ضرباً من ضروب الصبر، الذي هو الثبات في

القيام بالواجب في كل شأن من شؤون الحياة) [3] إذ يصبر فيه الإنسان نفسه على

طاعة الله (تعالى) بالوقوف عند حدوده فعلاً وتركاً، قال تعالى بعد أن ذكر شيئاً من

أحكام الصيام [تلك حدود الله فلا تقربوها][البقرة: 187] ، كما يضبطها ويمنعها

عن لذاتها طواعية وامتثالاً لأمر الله (تعالى) وطلباً لثوابه، وفي ذلك من التربية

على قوة العزيمة والإرادة ما يجعل الإنسان متحكماً في أهوائه وشهواته.

* التربية على الاستسلام والخضوع لله (تعالى) :

يربي الصيامُ المسلم على ضبط نفسه الأمارة بالسوء، ويمكنه من السيطرة

عليها والإمساك بزمامها، بحيث لايكون مستسلماً لها بل مستسلماً لأوامر ربه

خاضعاً منقاداً لنواهيه، مؤثراً لمحابه سبحانه، مقدماً لها على رغائب الجسد

وشهواته.

* إنشاء الخوف من الله (تعالى) ومراقبته:

الصيام عبادة خالصة بين العبد وربه، ولذا فإنه يربي في المسلم الخوف من

الله (تعالى) ومراقبته والتطلع لثوابه، إذ بإمكانه أن يُظهر الصيام أمام الخلق وهو

غير صائم أصلاً، سواء أكان عن طريق تناول شيء من المفطرات، أو بمجرد

فقدان النية، وإن أمسك عنها طوال النهار، وفي ذلك من ظهور صدق الإيمان

وكمال العبودية وقوة المحبة لله (تعالى) ورجاء ماعنده ماجعل جزاء الصيام عند الله

(تعالى) أعظم من جزاء جل العبادات، قال الله (تعالى) في الحديث القدسي: (كل

عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ماشاء الله

عزوجلّ، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من

أجلي..) [4] . قال ابن القيم: (والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فهو أمر لايطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم)[5] .

* لمّ شعث القلب، والتفكر في ملكوت الله (تعالى) :

لما كان فضول الطعام والشراب والكلام والمنام ومخالطة الأنام مما يزيد القلب

شعثاً ويشتته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله (تعالى) ، أو يضعفه أو يعوقه

ويوقفه، اقتضت رحمة الله (تعالى) بعباده أن شرع لهم من الصوم مايذهب فضول

الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات وشرع لهم من العبادات

أثناءه من اعتكاف وقيام ودعاء وتلاوة قرآن مايذهب فضول الكلام والمنام ومخالطة

الأنام. ولذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الصوم جنة وحصن

حصين من النار) [6] بل عده حصناً للمؤمن، وذلك لكونه:

كاسراً للشهوة ومضعفاً لها، قال:(خصاء أمتي الصيام)[7]، وقال:

(يامعشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم

فإنه له وجاء) [8] .

ومضيقاً على الشيطان مجاريه بتضييق مجاري الطعام والشراب قال: (إن

الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) [9] ، فتسكن بذلك وساوس الشيطان.

كما أن القلب في حال الصيام يتفرغ للتفكر في آيات الله (تعالى) وملكوته،

لأن الإفراط في تناول الشهوات يستوجب الغفلة، وربما يقسي القلب ويعمي عن

الحق، قال ابن رجب: (وخلو الباطن من الطعام والشراب ينور القلب ويوجب

رقته ويزيل قسوته ويخليه للذكر والفكر) [10] .

* معرفة العباد لما هم فيه من نعم، وتذكر

الأغنياء لحال إخوانهم الفقراء:

يحصل للأغنياء نتيجة امتناعهم عن الطعام والشراب في نهار الصيام مشقة،

فيوجب ذلك لهم معرفة قدر نعمة الله (تعالى) عليهم بالغنى؛ حيث مكنهم من تلك

النعم طوال العام مع ابتلاء عبادٍ له آخرين بالحرمان؛ مما يستوجب الشكر لله

(تعالى) على ذلك.

كما أن الفقراء ينظرون في العطايا التي يعطاها العباد خلال هذا الشهر من

خلو الذهن للتفكر والعبادة والذكر نتيجة الجوع وخلو البطن، ويرون أن حالهم

مقاربة لذلك في غالب العام، وأنهم مؤهلون لاستغلال تلك النعم طوال الوقت مما

يستدعي شكرها. كما أن الصيام يجعل الأغنياء يتذكرون حال من حولهم من

إخوانهم الفقراء، ويدعوهم إلى رحمة المحتاجين ومواساتهم بما يمكن من ذلك.

* قوة الأجساد وصحتها:

الأصل في مشروعية الصيام أنه يقوي الإيمان ويكسب العبد التقوى التي

تحجزه عن المعاصي والآثام إلا أن له حكماً وفوائد أخر، من أبرزها: ما اتضح

في عصرنا من تقويته للأجساد وأثره في صحتها بالوقاية من العلل والأمراض

الجسمية والنفسية.

2-

تعليق الصيام بالتروك فقط:

يعتقد كثير من الناس أن الصيام جملة من التروك فقط، متناسين أن الله

(تعالى) شرع الصيام وشرع معه جملة من الأعمال التي تتظافر لتحقيق غايات

الصوم وآثاره المرجوة منه، ولعل من أبرز تلك الأعمال التي دلت عليها النصوص:

* قيام الليل، قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ماتقدم من

ذنبه) [11] .

* العمرة، قال:(عمرة في رمضان كحجة معي)[12] .

* تفطير الصائمين، قال: (من فطر صائماً كان له مثل أجره، غير أنه

لاينقص من أجر الصائم شيئاً) [13] .

* قراءة القرآن وختمه: قال: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة،

يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته

النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان) [14] ، وثبت أن النبي -صلى الله عليه

وسلم- كان يلقاه جبريل في كل سنة في رمضان، فيعرض عليه النبي -صلى الله

عليه وسلم- القرآن.

* الصدقة: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله -صلى

الله عليه وسلم- أجود الناس بالخير، وكان أجود مايكون في شهر رمضان) [15]

قال الشافعي: (أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداء بالرسول -صلى

الله عليه وسلم-؛ لحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم

والصلاة عن مكاسبهم) .

* الاعتكاف: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله -صلى

الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان) [16] . قال الزهري: (عجباً

للمسلمين تركوا الاعتكاف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ماتركه منذ قدم

المدينة حتى قبضه الله عز وجل .

* الدعاء: حيث ذكر الله (تعالى) في ثنايا آيات الصيام قوله: [وَإذَا سَأََلَكَ

عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ] [البقرة: 186] ليرغب

الصائم في كثرة الدعاء، وقال: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة

المظلوم، ودعوة المسافر) [17] .

* التوبة: رمضان موسم التوبة والعودة إلى الله عز وجل وذلك لعظيم جوده

(تعالى) وفضله في كل وقت، وفي هذا الشهر خاصة، حيث تصفد الشياطين [18] ، وله سبحانه في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار بالإضافة إلى تهيؤ الإنسان

بالصوم وسائر العبادات لذلك، ولذا قال: (رغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم

انسلخ قبل أن يغفر له) .

* الاجتهاد في العمل مطلقاً في العشر الأواخر: عن عائشة رضي الله عنها

قالت: (كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله وجد

وشد المئزر) [19] وقالت رضي الله عنها أيضاً (كان رسول الله -صلى الله عليه

وسلم- يجتهد في العشر الأواخر مالايجتهد في غيره) [20] .

والأفعال المشروعة في رمضان كثيرة، فالمفترض في حق المسلم أن يحرص

على شغل وقته بما يعود عليه بالنفع أكثر عند لقاء الله عز وجل .

3-

عدم استشعار أثر المعاصي على الصيام:

الذنوب سبب حرمان الله للعبد من الاستفادة من الصيام وتحقيقه التقوى فيه،

قال تعالى: [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ]

[الشورى: 30] ولذا فإن: (الصوم ينقص ثوابه بالمعاصي وإن لم يبطل بها، فقد

لايحصل الصائم على ثواب مع تحمله التعب بالجوع والعطش لأنه لم يصم الصيام

المطلوب) .

وقد وردت عدة أحاديث تبين ذلك المعنى وتجليه منها قوله: (رب صائم ليس

له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر) [21] وقال:

(ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد،

أو جهل عليك، فقل: إني صائم) [22] ، وقال صلى الله عليه وسلم (من لم يدع

قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه [23]

4-

أخطاء بعض الصائمين:

يقع بعض الصائمين في أخطاء منها:

* الإسراف في الإنفاق: الأصل في الصيام أنه مدرسة عملية للاقتصاد

وتعويد النفس الجلد وقوة التحمل عند الأزمات، وضبط النوازع والرغبات، ولكن

الذي يحصل في واقع الكثير من المسلمين في وقتنا الحاضر العكس، حيث تزداد

النفقات وتتجاوز حد الاعتدال إلى التبذير والإسراف.

* التوسع في تناول الأطمعة والأشربة وسائر الملذات: صار موسم الصيام

في حياة أناسٍ موسماً لتنويع المآكل والمشارب وتناول الملذات، ولايخفى مافي ذلك

من منافاة لغرض الصيام ومراميه.

* السهر في الليل والنوم في النهار: ينقلب الحال في رمضان في حياة

الكثيرين، فيصبح الليل نهاراً والنهار ليلاً؛ بحيث يصبح الليل وقتاً للاجتماع

والسهر، والنهار وقتاً للنوم والكسل، هذا إذا لم يصاحب ذلك اجتماع على محرمات

وتضييع للواجبات، وعدم القيام بالعبادات كما يجب.

* التعلق بالدنيا وعدم الاهتمام بشأن الآخرة: مع دخول رمضان يزداد انشغال

كثيرين بتجاراتهم وبيعهم وشرائهم، ويأخذ ذلك منهم جل الليل والنهار، ومع أن

البيع والشراء حلالان في الإسلام، إلا أن المذموم من ذلك، هو تعلق القلب بمتاع

الدنيا، وإعطاء كل جهدِه ووقته لذلك مع إغفال المرء لحظ نفسه في الآخرة

وحاجتها إلى أعمال صالحة تهذبها، وتزيل عنها درنها وشوائبها.

* مخالطة البطالين: وهم مضيعوا أوقات العباد فيما لايعود عليهم بنفع ديني

أو دنيوي وليس من شرطهم الإفساد والانحراف عن جادة الحق الصواب ومخالطة

العبد لهم وإكثاره من ذلك يعود عليه بالندم والحسرة في كل وقت فكيف في مواسم

الخيرات؟ !

* أخطاء في أداء بعض العبادات:

يحرص بعض الموفقين للخيرات على القيام ببعض العبادات، ولكن يعتري

تطبيقهم بعض الأخطاء، ومن ذلك:

أ- التأخر عن الصلاة: وذلك للتأخر في الخروج من المنزل لصلاة العشاء

والتراويح والذهاب إلى مسجد بعيد ليصلي مع إمام يجيد القراءة، وقد يؤدي ذلك

التأخر إلى فوات صلاة الجماعة أو بعضها، مع أن صلاة الجماعة واجبة على

الأرجح، وصلاة التراويح نافلة.

ب- تشدد بعض الحريصين على الاتباع في تحديد عدد صلاة التراويح، مما

يؤدي ببعضهم إلى أن لايصلي مع إمامه حتى ينصرف إذا كان يزيد على الحد

المعروف عنده، وأحسب أن هذا اجتهاد مأجور إن شاء الله، لكن أخشى أن يفوته

أجر قيام ليلة مع مايصاحب ذلك عند بعضهم من البغضاء والشحناء بين المختلفين

في العدد.

ج- حرص بعض المسلمين على ختم القرآن في رمضان مرة أو أكثر:

ولاإشكال في ذلك لثبوت مشروعيته، ولكن الإشكال في كيفية تلاوتهم إذ يهذّ بعض

القراء في التراويح وغيرها القرآن هذّاً كهذّ الشعر بدون تدبر لمعانيه وتفهم لأحكامه، وقد قال الله (تعالى) : [كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا

الأَلْبَابِ] [ص: 29] . صحيح أنه ثبت عن بعض السلف أنه كان يختم القرآن في

رمضان كل ليلة، حتى قال الزهري: (إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن

وإطعام الطعام (ولكن خير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال:

(لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث) .

د- يحرص بعض المسلمين على الاعتكاف، ولكن قد يعتكفون جماعات،

فيحلو بينهم الحديث وتتسع أبوابه، ويكون الاعتكاف موضع عشرة ومجلبة

للزائرين، يقول ابن القيم بعد ذكره لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في

الاعتكاف: (كل هذا تحصيل لمقصود الاعتكاف وروحه، عكس مايفعله الجهال من

اتخاذ المعتكف موضع عشرة، ومجلبة للزائرين وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم،

فهذا لون والاعتكاف النبوي لون) .

هـ- تتفتح أبواب الخير وطرقه على الصالحين في رمضان بشكل لايمكن العبد الإحاطة بها جميعاً، مما يتطلب منه المفاضلة بين الأعمال واختيار ما يكون أصلح لقلبه وأكثر نفعاً لأهله ومجتمعه، والملاحظ في واقع كثير من الصالحين أنه يريد الإحاطة بكل خير يمكنه القيام به فلا يقوم بشيء منها، أويقوم بأعمال خيرة يمكنه أن يقوم بأفضل منها، أو يوكل القيام بها إلى شخص حوله لايمكن أن يقوم بشيء منها بدون ذلك ويقوم هو بغيرها.

5-

الوسائل الإعلامية والعلاقات الاجتماعية:

لوسائل الإعلام سواء أكانت مرئية أو مسموعة أو مقروءة دور كبير في

تشتيت أذهان كثير من الصائمين وبالأخص الشباب والنساء، وبالتالي إشغالهم عن

استيعاب غايات الصيام ومراميه، والاستفادة منها في إصلاح النفوس والمجتمعات

بالشكل المطلوب وذلك من خلال المواد التي تقدمها تلك الوسائل والتي تصب غالباً

في الجانب الترويحي، وماتبقى من مجالات تكون في الغالب سطحية مع اشتمال

كثير منها على جوانب محرمة.

كما أن للتوسع في العلاقات الاجتماعية بين الأسر والأصدقاء دوراً ملحوظاً

في إضاعة الأوقات، ولذا فإني أرى أن الخير للمسلم أن يقلل من علاقاته تلك في

هذا الشهر ما أمكن، وأن يجعلها مقصورة على الصلة أو المواساة والدعوة إلى الله

(تعالى) ، وتدارس أحكام الإسلام وتعاليمه.

ثانياً: العلاج:

كانت تلك أبرز الأسباب لتلك الظاهرة، ولعل من أبرز وسائل علاجها

بالإضافة إلى معالجة مسببات تلك الأسباب وآثارها، مايلي:

1-

أن يقوم العلماء والدعاة بدورهم في التربية والتوجيه للأمة، سواء عن

طريق الاختلاط بالناس لتعليمهم، أو تقديم القدوات الحسنة لهم، عن طريق السلوك

والممارسات المنضبطة بالشرع.

2-

أن يستوعب المسلم حقيقة وظيفته في الحياة، وأهمية الوقت بالنسبة إليه؛ ليكون ذلك دافعاً له للجدية في حياته، والموازنة بين مايمكن أن يقوم به من أفعال، ولكي يستفيد من نعمة الوقت بشكل أفضل، بعيداً عن الإغراق في المباحات

والمستحبات على حساب الفرائض والواجبات، كما عليه أن يقوم بترويض نفسه

على القيام بالأعمال الصالحة، كالتبكير للصلاة، والجلوس بعد الفجر في المسجد

إلى طلوع الفجر.. ونحوها، ليتعود على ممارستها والاستمرار عليها بعد رمضان.

3-

أن يعمل الجميع على تعميق روح الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم

والتأسي به في سائر شؤون الحياة عموماً وفي شهر الصيام خصوصاً، وهذا يتطلب

تعلم فقه الصيام وآدابه، واستيعاب حِكَم الصيام وغاياته، وتقريب الوسائل التي

تتيح لسائر فئات الأمة الاستفادة من الصيام في تهذيب النفوس، ونشر الخير

والفضيلة ومحاربة الشر والرذيلة، بشكل أفضل.

4-

أن تقوم مؤسسات التوجيه سواء أكانت إعلامية أو تعليمية أو تربوية أو

تروحية بدورها التوجيهي المنطلق من ديننا والمدرك لطبيعة التحديات التي تمر بها

أمتنا عن طريق نشر الجدية، والاستمساك بالدين بقوة في سائر حياة الأمة عموماً،

والشباب منهم على وجه الخصوص.

5-

أن يعيد الدعاة أفراداً ومؤسسات تقويم برامجهم الدعوية سواء من حيث

الكم أو الكيف حتى تساعد بشكل أفضل على معالجة هذا التباين، وتعمل على إزالة

وتصحيح آثاره حتى تتحقق تقوانا ويقوى إيماننا بإذن الله (تعالى) . والله نسأل أن

يجعلنا من المقبولين.

(1) صفوة الآثار والمفاهيم 3/82.

(2)

مفاتيح الغيب 5/70.

(3)

تفسير المنار 2/45.

(4)

مسلم 2/807، ح/ 1151.

(5)

زاد المعاد 2/29.

(6)

أحمد 2/402 وحسنه الألباني انظر صحيح الجامع، ح/ 3880.

(7)

أحمد 2/173وصححه الألباني في صحيح الجامع، ح/3228.

(8)

مسلم 2/1018، ح/1400.

(9)

مسلم 2/1712، ح/2175.

(10)

لطائف المعارف ص 290.

(11)

مسلم 1/523، ح/ 759.

(12)

الحاكم 1/483 وصححه الألباني في الإرواء ح 1587.

(13)

أحمد 2/174وصححه الألباني في الإرواء ح/6415.

(14)

أحمد وصححه الألباني في الإرواء ح/3882.

(15)

مسلم 4/1803، ح/2308.

(16)

مسلم 2/830، ح/ 1171.

(17)

صحيح الجامع، ح/ 3030.

(18)

انظر مسلم ك2/875، ح/1079.

(19)

مسلم 2/832، ح/1174.

(20)

مسلم 2/832، ح/1175.

(21)

أحمد 2/373، وانظر صحيح الجامع، ح/3488.

(22)

الحاكم 1/420، صحيح الجامع، ح/5376.

(23)

البخاري مع الفتح 4/116، ح/1903.

ص: 30