المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بطل مصر العظيم   ‌ ‌سعد زغلول وكذلك لبثنا أجيالاً كأكوام الحطب المكدسة الجامدة - مجلة البيان للبرقوقي - جـ ٥٩

[البرقوقي]

الفصل: بطل مصر العظيم   ‌ ‌سعد زغلول وكذلك لبثنا أجيالاً كأكوام الحطب المكدسة الجامدة

بطل مصر العظيم

‌سعد زغلول

وكذلك لبثنا أجيالاً كأكوام الحطب المكدسة الجامدة الهادمة الميتة ننتظر تلك الشعلة المستعرة بلهيب العبقرية المقدسة، نرتقب نزولها من السماء لتوقظ غفلتنا وتنبه رقدتنا - وها هي قد نزلت أخيراً وقد اشتعل بشواظها الجانب الأعظم من أكداس الحطب الهامدة - فما بال فئة تتذمر وتتسخط؟ وما لها تتعتب وتتغضب؟ وتنتقد وتتعقب؟ وما هذا العمى او التعامي؟ وما هذه الحماقة أو التحامق؟ وما هذا الجحود والنكران وما هذه الصدور الحرجة والأعطان الضيقة؟ وما لقومي يريدون أن ينظروا إلى البطولة نظرتهم إلى الشخصيات اليومية العادية ويستعملون في قياسها وسبر أغوارها تلك المقاييس والميابير الت ييختبرون بها الذهنيات المألوفة الشائعة والنفسيات المعروفة المنتشرة. وكان حقاً عليهم أن يعرفوا أن البطولة لا تقاس مقاييسها العادية بل لا تقاس البتة لأنها أعظم من ذلك وأهول بل لأنها لا تحد ولا تحصر. وما زال البطل العظيم إذا ظهر في شعب أو أمة كان موضع الدهشة والحيرة، فيهابه أقوم ويذعر منه آخرون ويبغضه جماعة ويراه البعض شراً وآفة والبعض آية وعيد وتهديد ويراه الجميع لغزاً وأحجية وقد قال هيجل في هذا المعنى. (الرجل العيم يجثم الدنيا مشقة القيام بشرحه وتفسيره لأنه لغز من أصعب الألغاز) وبعد هذا كله وبعد حكمة هيجيل البالغة يأيى حماقة المتعاقلين المتحذلقين إلا أنت يحملوا شخصية البطل العظيم إلى معملهم العلمي فيضعونها على المشرحة ثم يشرحوها كما تشرح الجثث وبعد ذلك يحللون موادها تحليلاً كيماوياً ويزنون عناصرها وزناً كيماوياً ويقدمون غليك بعد ذلك حساباً كيماوياً عن نتيجة تجربتهم والجرام والملليجرام. مرحى مرحى؟ ما هكذا يا سادة تقاس العظمة ولا هكذا توزن العبقرية ولا قال أحد ما أن أعاظم الأبطال يقاسون بالمسطرة والبرجل ويوزنون بالمثقال والدرهم - البطولة شيء عظيم هائل، لا يستطيع امرؤ أن يتلقاه إلا بالهيبة والاحترام والخشوعه والإجلال، والبطولة سر رهيب كالحياة ذاتها ترغم كل إنسان على مخافتها والخضوع لها، ولا يجرؤ على انتقادها إلا المعتوه والأبله والمغرور والسفيه والأحمق، ومن أصر على تخنتطها وانتقادها فلن يجد مكاناً أصلح لذلك من مستشفى المجاذيب. وما نقوله لناقد الحياة نقوله أيضاً لناقد البطولة.

ص: 69

قل للذي يأخذ على الرجل العظيم عناده واستبداده وخشونته وغلظته وقسوته ما بالك لا تذم في نظام الكائنات البركان والإعصار والصاعقة والزلزال والعاصفة والطوفان - فكما أن هذه من عناصر المون اللمتتمة له وهي لازمة له لزوم أضدادها مما تراه أنت من حسنات ومنافع - وكلاهما سواء في الفضل لتساويهما في اللزوم - فكذلك مل تراه أنت رذائل في البطل وآفات هو لازم لكيانه وقوامه لزوم فضائله وحسناته إذ من النقيضين معاً وليس من واحد دون الثاني تتكون البطولة. وماذا أدل على صدق هذا القول مما لا يزال يشهد به التاريخ من اتخاذ الطبيعة وسائل القسوة والغلظة لبلوغ ما تريده من غايات الصلاح والخير وأوضح مثال على ذلك الثورة الفرنسية التي بالرغم من أنها كانت سلسلة فظائع وشنائع فقد كانت هبة الأمم الوسنى من رقاد كاد يخنقها أثناء كابوس الظلم والاستعباد وصيحة الشعوب ثارت من هجعة شبيهة بالموت فبدأت تشعر بأن هذه الحياة الدنيا ليست بأكذوبة ولا أبطولة، وأن عالم الله ليس بمكينة تساس بالمكر والدهاء.

قال كارليل (إنا لنرحب بالثورة الفرنسية ترحاب الغريق بالصخرة العبوس - فهي على عبوسها ووحشتها وإفقارها معاذ من الهلاك وعصمة من التلف. وهل كانت الثورة الفرنسية إلا وحياً حقاً من الله ورسالة صادقة وإن راعت القلوب وأزعجت الخواطر - أجل - بالثورة الفرنسية انتهى التصنع والزور والغش والخداع والباطل الأجوف الفارغ - انتهى شر كبير وفساد عظيم. فالثورة الفرنسية ثمرة حرة من ثمار هذا العالم وهي حق وإن كان حقاً متلفعاً في شواظ جهنم، - بيد أنها على كل حال حق لا باطل - وهي رسالة الله إلى الأرض صدع بها صوت من الرعد القاصف أو دوت بها نفخة اسرافيل في الصور.

انظر بعد ذلك غلى ما قاله نابليون بونابرت ممثل الديمقراطية وزعيم الشعب وبطل الحرية (إنما أدركت غايتي وبلغت مرادي بقوة النفوذ) ثم انظر إلى نظريته في النفوذ. ماذا قال في ذلك (لا أعرف لا قوتين لتحريك الرجال: الرغبة والرهبة. أما الحب فهذا سفه وحماقة وبله وجنون. وأما الصداقة فهذا اسم بلا مسمى. هذا وإني شخصياً لا أحب إنساناً بل لا أحب أخوتي. ولعلي أميل قليلاً إلى يوسف أخي بحكم العادة ولأنه ليس مني وقد أحب (ديروك) ولكن لماذا؟ لأني معجب بصرامة حده. ومرارة جده: وفي اعتقادي انه ما ذرف قط من عينه دمعة. هذا وإني واثق أنه ليس في الدنيا من يحبني أو يخلص لي - فما دامت أي

ص: 70

دولة والسلطان فليس أكثر ممن يدعون مودتي تزلفاً وملقاً. فإن ركدت ريحي انفضوا من حولي. ألا فلتدعن الرأفة والرقة واللين للنساء أما الرجال فلا بد لهم من الصلابة والقسوة والصرامة إذا تعرضوا للحرب أو السياسة.

فكيف بعد هذا كله يعينون على بطل النهضة المصرية صلابة خلقه وصرامة طبعه؟ ومتى كانت الملاينة والمحاسنة والملاطفة والمجاملة والتسامح والتساهل والاعتدال من شيمة أبطال الجهاد ومحرري الشعوب من ربقة الاستعباد وفرسان ميادين السياسة المغامسين حومة الطعان الجلاد.

البطل لا يسأل عما يفعل فإن أساس بطولته وقوامها وسرها هو ذلك الاعتزاز بالنفس والاستبداد بالرأي الذي به يدوس على كافة الاعتبارات والتقاليد اندفاعاً وراء غرضه وبغيته - مبتذلاً في سبيل ذلك الأمن والراحة والسلامة، لا ترده عقبة ولا يثنيه مانع - ولكنه يسير إلى غايته على عزفات موسيقى روحه الجياشة الصداحة ولو ثارت حوله الزوابع وطارت العواصف وزمجرت القواصف وأوشك الكون أن يتحطم ويتهدم. ولذلك قد يكون في البطولة أحياناً ما ينافي اللياقة ويخالف الآداب ويعارض الحكمة والفلسفة ولكن البطولة لا تعبأ بالياقو ولا تحفل بالآداب ولا تأبه للفلسفة. لأنها قبل كل شيء متكبرة مختالة تياهة جبارة. وعلى الغم من كل هذا فالواجب علينا جميعاً إكبارها وإجلالها وذلك لأنها محفوفة من جلال العظمة والروعة بما يجب أن يغض من أبصارنا وينكس من رؤوسنا أمامها، وما زال في كل عمل من أعمال البطل ما يملأ صدورنا هيبة ويقعدنا عن تعقبه واقتفاء أثره وانتقاده وبحثه. ففعلة البطل هي فعلة الله يأتيها على يد البطل وما كان لبشر ما مهما ظن نفسه عظيماً أن ينالها بذم أو انتقاص أو نقد - وليس في صنع الإله لعبيده مغمز أو مطعن. والبطل متى اندفع بقوة الله وبإلهامه ووحيه إلى إيتان فعلته لم يبال بصحة ولا حياة ولا أخطار ولا بذم ولا تأنيب ولا بعداوة ولا ببغضاء ولا بوعيد ولا تهديد ولا تراه موقناً أن إرادته أعلى واجل وأشرف وأفضل من جميع من يتبرى ومن سوف ينبري له من أهل المعارضة والمناوأة.

البطولة هي انقياد وإذعان لدافع باطني في ضمير فرد من الأفراد فليس إذن يتأتى أنم تظهر حكمة هذا الدافع وصوابه لسائر الناس مثلما تظهر لهذا الفرد إذ كان كل امرئ أنفذ

ص: 71

بصراً وأبعد نظراً في منهاجه المختص به دون غيره. فإذا سخط أقوام على البطل فإنما هو سخط مؤقت لا يلبث أن يزول متى انجابت سحب الشك والريبة عن أعمال البطل فتجلت حقائقها مشرقة بلجاء. ناصعة بيضاء. وحينئذ يعلم الناس أن فعلة البطل كانت مجردة من الأغراض والأهواء بريئة من كل أثر للشهوة والأنانية بل هادمة للشهوة والأنانية مملوءة بالإيثار والتضحية. ولكن في ذلك لذتها وهو سبيل نجاحها.

الاعتزاز بالنفس والاستبداد بالرأي عنصر البطولة وجوهرها. والاعتماد على النفس هو شيمة النفس الثائرة على الأكاذيب والأباطيل. المتمردة على الظلم والطغيان وشيمتها القدرة على احتمال كل ما في طاقة الظلم والطغيان أن يرسله عليها من ضروب عذابه ومصابه. وشيمتها أيضاً ترفعها عن الاهتمام بالصغائر والحقائر واحتقارها احتقار الناس إياها. وشيمتها المثابرة والثبات والجرأة والإقدام وصبر لا ينفذ وجلد لا يهن وشيمتها الاستهزاء بغرور الحياة وحقارة الدنيا وما زالت تجد في اهتمام الناس بصيانة الصحة والمال وشدة المحافظة على الأرواح وعلى مصادر الللذات والأفراح أوسع مجال للضحك والتهكم والسخرية.

ولكن حساد البطل من ذوي الحقد والضغينة ينكرون هذه الحقيقة الظاهرة إذ يعزون كل أعمال البطل إلى حاجة في النفس وهوى في الفؤاد وباعث شخصي ربما كان دنساً خبيثاً. ومن ثم يحكمون على البطل باللؤم والفجور والخسة. أمثال هؤلاء السخفاء الأغبياء ممن أكل الحقد قلوبهم ونحب الحسد أفئدتهم لا يرون في أبطال العالم الذين هم بناة المجد والعلاء ومشيدو المدينة والحضارة وأعلام التاريخ المؤلفة منهم سلسلته الذهبية إلا أشراراً فجاراً بغاة طغاة لا فضل لهم ولا خير فيهم وإنهم لم يخدموا سوى أغراضهم الذاتية وأهوائهم الشخصية ولم يبلغوا ما بلغوا إلا بالكذب والغدر وبالظلم والجريمة. والواقع أن هؤلاء الأفاكين لم يسلم من ألسنتهم بطل ما حتى ولا أساطين العالم وقادته وأعلامه - فلقد قالوا عن الاسكندر الأكبر أنه مصاب بجنون الغزو والفتح لأنه دوخ بلاد اليونان وفتح آسيا - وزعموا أن الولوع بالشهرة كان باعثه الوحيد بدليل أن أعماله أدت إلى الشهرة ومثل هذا قاله أولئك السخفاء في يوليوس قيصر وهانيبال والسفاح وتيمورلنك وصلاح الدين وشارل مان ونابليون فأثبتوا بحججهم الواهية السخيفة أن أثمة العالم أشرار فجار مجرمون

ص: 72

فينتج ضمناً من هذا أنهم هم (أعني أولئك السخفاء) أفضل وأشرف من أثمة العالم وقادته لبراءتهم من تلك الجرائم ولنقاوة قلوبهم من تلك الأهواء اللئيمة والشهوات الأثيمة - والدليل على ذلك أنهم لم يغزوا آسيا كالاسكندر ولم يسقطوا روما كهانيبال ولم بدوخوا أوروبا كنابليون. ولكنهم يعيشون ويتركون غيرهم يعيش وينعمون بالحياة ويتركون غيرهم ينعم. ومن حماقة أولئك السخفاء أنهم إذا حاولوا انتقاد البطل كانت عنايتهم بتأمل الجانب العبقري وخلال البطولة أقل من عنايتهم بتأمل الخصال الشخصية التافهة العادية التي يشارك البطل فيها جميع خلق الله بل حيواناته. وما دام البطل لابد له من أن يأكل ويشرب وينام ويعبس ويبتسم ويضحك ويبكي ويواصل ويقاطع ويحب ويكره وتتعاقب على مزاجه الأهواء والعواطف والنزعات المختلفة التي منها تتكون الطبيعة البشرية وبدونها يكون المخلوق إما ملكاً أو شيطاناً - أقول ما دام البطل شأنه في هذا شأن سائر الخلائق فيجد الناقد السخيف في صفحة عرضه ألف مأخذ ومطعن ومن ثم قيل أن المرء لا يكون البتة بطلاً في عين خادمه لأن الخادم لا يكاد يبصر مولاه إلا في الحالات الاعتيادية التي يشبه فيها سائر الناس ويشبه فيها الخادم ذاته ولكن لا عار على السيد في ذلك فما سببه أن السيد ليس ببطل بل الخادم ليس إلا خادماً. وما دام رجال التاريخ يتولى نقدهم أولئك الخدام الانتقاديون فسيخرجون من سوق النقد بأخسر الصفقات وتشييل كفتهم في الميزان أو يبوؤون بالخزي والعار ويهبطون إلى أدنى من مستوى أولئك النقاد أنفسهم. فلا ينسى القارئ أن ثرسيثس الوارد ذكره في إلياذة هوميروس كان مولعاً بسب الملوك وشتم الأمراء - لم يكن مقصوراً على ذلك العهد الخرافي القديم بل موجوداً في كل عصر لم يخلو منه جيل من الأجيال ولكنه - مع الأسف الشديد - لا يلقى في كل جيل ما لقيه أيام هوميروس من عقوبة الضرب بالعصا والسياط على أن آفة حسده وحقده هي الشوكة الدامية التي كتب عليه أن يحملها في جلده. والجمرة الحامية التي قيض له أن يدفنها في كبده. وحسبه بعد ذلك غيظاً وكمداً أن آراءه السديدة وانتقاداته الوجيهة ستذهب بعد كل مجهوداته العظيمة هباء منثوراً.

ص: 73