المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌قانون الحب حب الوطن تابع يره دينا ويعده عقيدة تعتنق. ولقد شهدنا ما - مجلة البيان للبرقوقي - جـ ٦١

[البرقوقي]

الفصل: ‌ ‌قانون الحب حب الوطن تابع يره دينا ويعده عقيدة تعتنق. ولقد شهدنا ما

‌قانون الحب

حب الوطن

تابع

يره دينا ويعده عقيدة تعتنق. ولقد شهدنا ما فعله في عهد الثورة الفرنسية أولئك الفتيان الشباب في سبيل شرف الوطنية المقدسة إذ كانوا هم هياكلها ومعابدها وذبائحها وضحاياها.

وكما أن مجموعة العواطف والفرائض التي تربطنا بأصل الحياة وعنصرها الأول قد اصطلحنا على تسميتها (الدين. . .) كذلك أسمينا مجموعة العواطف والمشاعر والواجبات التي ندين بها لوطننا (الوطنية!)

فالوطنية - أودين الوطن - هذه العقيدة الطبيعية العميقة في حبة القلب الإنساني قد بلغت من الرهبة والقوة بحيث لا نستطيع أن نطلق عليها اسم (الفضيلة) لأن الفضيلة إنما تعيش على محض اختيار الإنسانية وما هي إلا انتصار هذه الحرية في الاختيار على ما يعترض سبيلها من العقبات والموانع وليس أدل على غريزية هذه الحاسة من أنها قد تغلغلت في طبيعتنا حتى لتتراءى كأنها جزء من كيانها. وإحساس مطلق غير متكلف. لا نتعب فيه عاطفتنا. ولا نحمل على إحساسنا لخلقه.

إن الشجرة الفارعة لتوغل بكل قوى جذورها وعصارة جذعها في بطن الأرض التي تحملها وتمد أعناقها نحو السماء التي تساقط عليها خبأها وتسقيها بمائها والطائر يعاود غيره ولا مخطأ العش الذي أظل. وكذلك الإنسان مولع بالأرض التي فتح عينيه الوليدتين أول أمره عليها. مؤثرها على أرض الدنيا ونحن قد رأينا الشعر يرسل ألوانا. وينفث آلاما. ويثير أشجانا. ليصور لنا يصور لنا أحزان الإنسان إذ ينفى عن وطنه وحنينه إلى أرضه. ومن كل ذلك نرى أن الوطنية حاسة نقية غير مفتعلة وغريزة لا فضيلة ووثبة مادية. وليست مجهودا أدبيا.

على أن كثيرين من الناس أرادوا أن يطفئوا نور هذه الحاسة بحاسة أخرى عارضوها بها فقد عرف فولتير الوطنية فقال (إن حب الإنسان لوطنه ليس إلا كراهية أوطان الآخرين!).

وقد حمل طغيان هذه الغريزة والتمادي فيها إلى حد التطرف طائفة الكتاب على أن يروها على غير حقيقتها فد صور الوطنية الكاتب (أوكتاف ميربو) فقال (في هذا العصر الفلسفي

ص: 11

الذي نعيش فيه لا تبعث لدي فكرة الوطن لا صورة شنعاء من القسوة والوحشية والجبروت وتثير في ذاكرتي صور الكراهية والقتل والدماء، إن الوطنية عاطفة جميلة الصورة. ولكنها لا تزال بعد عاطفة مجرمة مجنونة، إذ يتراءى لي الرجل الوطني متوحشا مريش الرأس متمنطقا بسلسلة من الجماجم الآدمية. وقد يرى الناس فيه البطل العظيم ولكنه في الحقيقة ليس إلا قاتلا سفاك دماء!).

ولكن تصوير العاطفة الوطنية وما يصدر عنها من الفعال الجسام بهذه الصورة الهزلية المعيبة إنما هو الخلط بين الحب - وهو الموحي بكل ما هو جميل في الحياة الباعث على التضحية والإيثار - وبين عاطفة الغيرة المجنونة التي لا فرق بينها وبين أشنع ما جاء في سجلات الجرائم وما كان الكاتب الذي ينطلق في مجموعة خرقاء من أمثال هذا الكلام. وينبعث وراء هذا التصوير المذعور إلا رجلا مصروعا متشنجا خبيثا. ونحن لا ننكر أن الوطنية لا تلبث أن تروح ظالمة ناقصة شوهاء شريرة طاغية إذا هي قامت يوما على أساس أنانية أهلية تعلم أصحابها كراهية الأجانب عنها. ونحن نعلم أن حب الذات لدى الفرد لا ينأى يصبح شرا وإحساسا مرذولا إذا هو اتخذ يوما مظهر الأنانية الباغية فاعتدى على حقوق الأفراد الآخرين. وكذلك الحب الغريزي الذي يحسه كل رجل منا بوطنه لا يلبث أن ينقلب إلى حاسة وحشية ثائرة وخطرا مستفحلا إذا هو امتزج بلون من ألوان الأثرة الاجتماعية. ولهذا ينبغي أن تتخلص الوطنية من هذه النوعات وتسير على وحي عقل منتظم وإرادة راجحة مطلقة وتحمي نفسها من أن تكون خارجة عن حدودها ضيقة السرب هوجاء. وقد أصبحت كل أمة اليوم جزءا لا ينفصل عن كيان الإنسانية العامة بما اشتبك في العالم من المصالح التجارية والعلاقات الاجتماعية. والروابط السياسية ونحن نشاهد في كل فرع من فروع الحياة ارتباطا دقيقا بين الأمم والأمم. فأي تقدم وقع لأمة منها ولم يحدث أثره السريع في الأمة المجاورة لها. وأي مخترع استحدثه عالم من العلماء ولم يدع وينطلق طائفا الأمم كلها، وما مصيرنا ومصير سوانا إذا امتنعت الممالك البعيدة عن إمدادنا بالمواد الأولى التي نحتاج إليها في صناعاتنا وماذا يكون مآل السواد الأعظم من الشعوب إذا حمت الممالك مخترعاتها ومبتكرات أذهان أهلها عن جاراتها؟.

ولو أن كل أمة احتكرت آدابها ونتاج عقولها وقصرتها على نفسها. فما كان العالم كله

ص: 12

مدركا يوما نبأ ستيفنسن ونيوتن وجنر وفولتون وشكسبير ودانتي وميشال أنجلو وروفائيل وبيتهوفن وشوبان وفاجنر وأضرابهم أهل العبقريات التي أرسلت روح الوحي الإلهي في أنحاء الإنسانية جمعاء. ولو كان ذلك أيضاً لحرمت الشعوب الأخرى من الانتفاع بآداب شعرائنا ومنتجات علمائنا وخطبائنا وأهل الفنون فينا.

ولقد الرئيس روزفلت يوما تدعي طائفة من الكتاب والمصلحين أن الوطنية ستصير على مدى الأجيال القادمة فضيلة عتيقة بالية ملغاة عقيمة الجدوى أشبه (بالفردية) في الزواج ولو أن الإنسان الحاضر الذي يحب الممالك الأخرى مثلما يحب وطنه ليس إلا عضوا شريرا في المجتمع مؤذيا خبيثا لا يقل في شره وأذاه عن الرجل الذي يحب نساء الأزواج الآخرين بجانب امرأته.

إن حب الوطن فضيلة أساسية كحب عائلة - والأمة الصالحة هي التي تشبعت بالفكرة الأهلية وأدركت حقوقها كأمة ين أمم الأرض وتبينت واجباتها المفروضة عليها قبالة أفرادها النافعين. دون أن يحول ذلك بينها وبين استشعار الاحترام، لحقوق الأمم الأخرى والرغبة في تخفيف ويلات الشعب الضعيفة والأمم المعانية المتألمة الأسوانة المحزونة).

على أنه خليق بعد كل هذا بتلك القلوب العظيمة التي تريد أن تعانق أهل الدنيا جميعا وتثب إلى أحضانهم وتحبهم كما تحب بلادها أن تذكر تلك الكلمة الحلوة التي فاه يوما بها رجلا من المستهزئين بحب أوطانهم (ما أسهل أن تصبح الشعوب جميعا رفاق وأخوة. ولكن أخي الأول هو. . . ابن وطني!. . . ثم تلك الكلمة الفاتنة التي قالها الشاعر فرانسوا كوبيه صاحب رواية. في سبيل التاج فأحاط بكل ما نريد التدليل عليه إذ راح يقول لجمع من الناس اسمحوا يا سادة لرجل أشيب متهدم السن أن يؤثر وطنه على العالم أجمع. غير راغب له شرا. 0أو مضمرا سوءا. وتفضلوا علي فاسألوا أول وليد تلتقون به في الشارع هل يحب أنه أكثر من حبه للأمهات اللائي يسكن في جوارهم أم أقل حبا!) ألا أن الوطن لينهض في الصف الأول وتعلو كفته. ولقد وقف يوما جيزو الوزير الأول في قاعة مجلس الشيوخ خطيبا يحيي المحالفة الإنكليزية الفرنسية يومذاك فختم خطبته الطويلة العريض بهذه الكلمات (لو لم أولد فرنسيا أن أكون إنجليزيا) فانبرى إذ ذاك من وسط المجلس الماركيز دي بريزيه فقاطعه صائحا ولكني أقول (لو لم أولد فرنسيا لوددت أن أكون

ص: 13

فرنسيا) فابتسم الوزير لهذه المقاطعة الحلوة واشترك مع المجلس في التصفيق لها والهتاف.

فإذا تقرر ذلك وجب أن يكون حب الوطن قوة دافعة تبعث في النفس شعورا قويا خصيبا يولد المجهود والعمل والتضحية.

وأنت تعلم أن الحب هو لب كل خير في هذه الأرض أو باعث كل شر وهو مخرج البطولة. أو محدث الفعال السقيمة النكراء ونحن إذا قصرنا الحب في حدود الجمود وشللنا أعضاؤه. وأرسلنا زمهرير النقرس يبرد سوقه فقد بددنا جوهره. وأزهقنا روحه. لأن طبيعة الحب النشاط والحركة والوثب والعدو.

ولهذا كانت الوطنية خليقة بأن تكون وجدانا فعالا نشيطا خفيف الحركة منطلقة ركضا لا هوادة ولا فتور.

ص: 14