المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌صورة مشؤومة وهنالك انغمس ذلك الفتى في عمله انغماسا لهاه عم - مجلة البيان للبرقوقي - جـ ٦٢

[البرقوقي]

الفصل: ‌ ‌صورة مشؤومة وهنالك انغمس ذلك الفتى في عمله انغماسا لهاه عم

‌صورة مشؤومة

وهنالك انغمس ذلك الفتى في عمله انغماسا لهاه عم كل شيء آخر: وجعل دأبه وديدنه غشيان المتاحف حيث كان ربما وقف الساعات العديدة المتوالية إزاء تصاوير الفحول الأقدمين يستطلع أسرارا الفن ويستجلي غوامضه باقتفاء آثارهم ونقرى أساليبهم وتتبع مذاهبهم. وحبذا الدروس الصامتة والإرشادات الخافتة التي كان يتلقاها عن تلك البدائع الخالدة وكان يأخذ من كل نابغة من أولئك القدماء أحسنه وأطيبه. وينقل عن كل نفيس مكن آثارهم الباقية آنفه وأعجبه. ثم جنحت به طبيعته ومالت به سليقته نحو أمام المصورين قاطبة وسيدهم غير مدافعرافائيل المقدس مثلما ينحاز الشاعر بعد إدمان النظر في دواوين الفحول إلى أسلوب سيد الشعراء هوميروس فيتخذه إمامه وقدوته إذ يرى فيه جماع ما قد تفرق في أشعار سائر الشعراء من المحاسن والمزايا.

لما دخل الغرفة شارتكوف وجد طائفة من الوفود مزدحمين أمام الصورة قد شملهم السكوت كأن على رؤوسهم الطير. فأشعر وجهه سيما الخبرة والدراية من الصورة بكبرياء الحبر العلامة المتضلع ولكن ما أبصر أمامه!.

لقد تجلت الصورة لعينه كالعروس جمالا وفتنة وجلالا. ووقف النقاد أمامها مطرقين حيرة ودهشة قد جمعت فأوعت إذ ضمت أفانين بدائع الفن صنوف ملحه وأعجب من كل ذلك ما نمت عليه من أسمى مراتب الابتكار والإبداع. حيث بدا للناظرين في غضونها وثناياها أن صاحبها كان ممن لا يزال يرتاد كنوز الطبيعة فسيتوعب نفائسها في خزانة خياله فإذا انصب للعمل استماحها ثانية من ذلك المنبع الروحاني العبقري فأفرغها في أعجب قالب من الحسن وصاغها على أغرب مثال من الملاحة ثم وسمها بأفتن ميسمم من الإبداع وطبعها بأسحر طابع من الروعة، لقد هز منظر الصورة من نفوس الجماعة وحرك من أوتار شعورهم حتى شرقت بالدموع أجفانهم. وكأن الجميع قد اشتروا معا في أنشودة صامتة تجلة لتلك الآية المقدسة وإكبارا.

وقف شارتكوف أمام الصورة شاخص البصر فاغرا فاه. ولما استرد الجمع عازب عقولهم واستجمعوا شارد أحلامهم وبدؤوا يتهامسون بآرائهم عن الصورة ويتبادلون الكلام فيها التفتوا إلى شارتكوف فسألوه رأيه فيها فعند ذلك ثاب إلى رشده فحاول أن يتظاهر بقلة الاكتراث والمبالاة واجتهد أن يلفظ بكلمة عادية مبتذلة مما جرت به العادة في وصف

ص: 55

الصور التي لا قيمة لها ولا خطر كقولهملا بأس بها. إنها لا تخلومن بشيء من القيمة - نقول لقد اجتهد شارتكوف أن ينطق بشيء كهذا ولكن أرتج عليه فاعتقل لسانه. واحتبس بيانه. ومات المنطق على شفتيه وفاض جفنه عبارات وصدره زفرات وغر هاربا من الغرفة لا يلوي على شيء في طريقه.

وبعد برهة رأى نفسه واقفا في غرفته الفاخرة. لقد كان في غفلة وفي غرور وفي غمرة. فما هي إلا أن أبصرت تلك الصورة حتى انجلت غمرته وانجابت عمايته وانقشعت غوايته، لقد كان الترف والنعيم وما أعقباه من تبلد الملكات واسترخاء القوى وعجز الهمة قد أطفأت فيه جذوة العبقرية وأغاضت معين الحياة وحجبت أشعة الوحي الفني فما هو إلا أن أبصر تلك الصورة حتى ثار ثائره. وكأنما انبعثت روح النبوغ من أعماق روحه وهبت ريح العبقرية من أنحاء نفسه وكأنما انتبه جنانه. واستيقظ وجدانه. للتو واللحظة. وكأنما استعاد صباه. واسترد شرة سبابه وحماياه. وكأنما سقطت عن عينيه الغمامة. وانجلت عن سماء ذهنه الغمامة. يا للداهية ويا للبلية ويا للقصمة الظهر ويا للطامة الكبرى! لقد أضاع زهرة العمر وصفوة الحياة في غير ثمرة ولا طائل. لقد أخمد في قلبه تلك الشرارة التي لو صانها لكانت ربما تأججت حسنا وتلهبت جمالا فأصبحت آثارها فتنة القلوب وزينة الأبصار. ومحل الإعظام والإكبار. واستدرت دموع الفرح والإعجاب كما فعلت تلك الصورة التي شاهدها آنفا ولقد خيل إليه في تلك الساعة كأنما العواطف والنزعات والآمال والوجدانات التي كان يجيش بها صدره في عهد الشباب قد ثارت من مكامنها وهبت من مدافنها في أعماق روحه.

فتناول ريشة وتقدم إلى بعض ألواحه وقد استحوذت عليه فكرة ملكت مشاعره ووجدانه وذلك أنه أراد أن يرسم صورة ملك ساقط قد زل عن مقام الملائكة وهوى إلى وهدة الإثم والخطيئة. وشد ما انطبقت هذه الفكرة على إحساسه إذ ذاك التأمت مع شعوره. فأقبل بريشته على اللوحة يبذل أقصى جهوده وقد تحلب جبينه عرقا ولكن ما فاضت به الريشة من الأشكال والمواقف والأفكار كانت لسوء الحظ تأبى أن تتلاءم وتنتظم وتتناسق وأدرك أن يده قد فقدت مهارتها وحرمت براعتها وسلبت ملكة التصرف والافتتان بطول انحباسها على أسلوب واحد والتزامها طريقة واحدة. وجعل عجزه عن التخلص مما قد ضر به على

ص: 56

نفسه من القيود والأغلال يبدو في مظاهر شتى من الخطأ والانحراف والزلل لقد أسف على ما كان منه من احتقاره الطريق الوحيد المؤدي إلى العلم والعرفان أعني الطريق الوعر الطويل المتعب الممل وازدراء الشرط الأول الأساسي لبلوغ النبوغ والمجد والخلود أعني الكد والكدح والدؤوب. أجل لقد أحزنه ذلك وأسفه ولن يتمالك كتمان هذا الحزن والأسف ولا استطاع تهوينا لبرحاء شجنه وغلواء كمده بل أطلق العنان لثائر غضبه ووجدها فأمر بجميع ما لديه مكن رسومه وصوره التي صنعها خلوة من سمات الإتقان والإجادة صفرا من آيات النبوغ والعبقرية فأخرجت من متحفه (أي غرفة تصويره) ثم أحرقت:

وحبس نفسه في متحفه وامتنع عن الطعام والشراب وتفرغ قلبا وقالبا للعمل يعكف عليه كالتلميذ دنى وقت امتحانه. ولكن ما كان أضعف وأسخف وأحقر وأضأل كل ما فاض من ريشته: لقد كان يقوم في سبيل ريشته لدى كل سحابة عائق من الجهل بأبسط قواعد الصنعة. لقد حال هذا الجهل دون كل إلهام من وحي الخاطر وفيض القريحة وقام عقبة كؤودا وسدا منيعا دون وثبات الخيال وطموحاته.

وأخيرا ناجى نفسه قائلاأراني مدفوعا عن أدنى مراتب الإتقان ولا جرم فقد حيل بين العير والنزوان ولكن هل حقا كان لي في عهد الشباب ملكة وسليقة وهل كنت انطوي على سر العبقرية؟ أم كنت في نفسي مغشوشا مخدوعا؟.

وعلى إثر هذه المناجاة قام فتوجه غلى رسوماته القديمة - مأثورات عهد سشبابه البائس الطاهر ثمرات الروح النقية والنفس الزكية وحرية النبوغ وشذوذ العبقرية ثم أقبل على هذه الرسومات ينعم النظر فيها ويدقق ويتأمل ما خفي من حسناتها وما ظهر. ويتدبر ما برز من مزاياها واستتر. فلما استوعبها جميعا وعرف ما هنالك صاح صيحة منكرة ملؤها اليأس.

أجل لقد كان لي ملكة وسليقة وقد اوتيت براعة وعبقرية وهاتي آياتها بادية في كل خط من خطوط تلك الصور - وتلك آثارنا تدل علينا.

وهنا احتبس لسانه وعرته رعشة شملت جميع جسده ووقعت عيناه على عينين آخرين بالغرفة - أعني عيني تلك الصورة المشؤومة التي كانت السبب فيما انتابه اليوم من هذه

ص: 57

المصيبة. لقد بقيت أثناء تلك الفترة الطويلة محجوبة عن بصره بما كان يغطيها من طبقات الصور والرسوم المتكاثفة فوقها وقد ندت عن ذاكرتها فكأنها لم تكن. فلما أخرج اليوم ما كان بالمتحف من الصور المألوفة المرغوبة برزت هذه الصورة هي وكل مصنوعاته القديمة من حجبها ومكامنها. ولما تذكر شارتكوف ما اقترن بتلك الصورة المجهولة من عجيب الأحداث والطوارئ - لما تذكر أن هذه الصورة كانت بشك لم سببا في زلاته وعثراته وأن ما أورثته تلك الصورة من بدرة الذهب المخبوء في إطارها هو الذي استثار في نفسه تلك النزعات المنكرة التي أفسدت ملكته وأودت بعبقريته - لما تذكر كل هذا أوشك أن يجن وكاد عقله أن يذهب. فأمر في الحال بالصورة الملعونة أن تزال من المتحف.

ولكن إزالة الصورة لم يسكن من هياج خاطره ولا هدأ من ثائرة نفسه وكيف ولقد كان جذع الحياة فيه كأنما يزلزل من جذوره وإن ركن الحياة فيه كان يزعزع ن أساسه. وعلى أثر ذلك ألم به إحساس فظيع من الحسد لذوي النبوغ من رسامي عصره كاد أن يكون جنونا فكان كلما بصر بطريفة من بدائع الصور احتدم قليه حسدا لصاحبها فجعل يصرف عليه نابه حنقا وحقدا ويلتهم الصورة بعينيه التهاما وما لبث هذا الحسد والحقد القادح في كبده أن حداه إلى تدبير حيلة جهنمية نم أشنع ما دبر مغيظ محنق ثم أسرع بكل ما للجنون من قوة إلى تنفيذ هذه الحيلة فشرع ينفق مكنوز المال ومدخره في شراء كل ما جادت به ملكة التصوير من نفائس ملح معاصريه من الرسامين. وكلما اشترى صورة من تلك الطرائف هرع بها إلى غرفته ثم انقض عليها بسطوة القسور الغضنفر فمزقها إربا إربا وداس على جذاذها بقدمه وعلى شفتيه ابتسامة الظافر المنتصر.

وكان قد سبق في قضاء الله أنه أراد بالفن وأهله وعشاقه خيرا فقدر أن لا تطول حياة مثل هذا الرجل إذ كانت ثورات نفسه الهائجة أشد ما يطيقه جثمانه الضعيف. فجعلت نوبات الجنون تعتاده من حين لآخر وكثر عليه ترددها وتتابع تكرارها حتى انتهت به إلى أسوء حال من المرض فأخذت حمى عنيفة مصحوبة بسل سريع وبلغ من شدة وطأتها عليه أن لم يبق منه بعد ثلاثة أيام إلا خيال. وبدا عليه مع ذلك أعراض الجنون الميؤوس من شفائه. فكان ربما أصابته النوبة فتعجز الفئة من أقوياء الرجال عن كبح جماحه. وجعل يتراءى له

ص: 58

وهو في هذه الحال شبح العينين المخوفتين اللتين كانتا أصل بلائه فيورث ذلك المنظر المرعب أشد الألم وألذعه. وإذ ذاك يتناهى جنونه صورة وفظاعة وكان يخيل إليه أن كل من أحاط به من العواد صور منكرة تحملق إليه بأعين شنيعة. لقد تضاعفت الصورة الرهيبة لناظره حتى خيل إليه أن جدران الغرفة قد رصعت بالمئات منها وكأن العيون المخوفة تطل عليه من السقف ومن الأرض وعن يمينه ويساره ومن أمامه ومن خلفه وكأن الحجرة قد استطالت وتعرضت إلى ما لا نهاية له لتفسح المجال للمزيد من تلك العيون الشاخصة الرهيبة. وحاول الطبيب بعد أن عرف ما يعلمه العواد من ماضي حياته أن يدرك سر العلاقة ما بين رؤيا تلك الأشباح المزعجة وحوادث حياته فلم يفلح وذلك أن المريض لم يكن يدرك ولا يحس بسوى مضيض أوجاعه وآلامه ولم يفه سوى صرخات نكراء. ورطانة عجماء. ثم فاضت روحه أخيرا إثر نوبة من أفتك النوبات. ولم يعثر بعد وفاته على شيء ما من ثروته الواسعة. ولكنهم لما أصابوا أنقاض ما حطمت يداه من أروع بدائع الفن وأغرب محاسن الصناعة مما يربو ثمنه على المليون أدركوا ما بددت في سبيله تلك الأموال الجسيمة.

الفصل الثاني

ازدحمت طائفة من المركبات على باب بيت كان معقودا فيه جلسة مزاد علني على مخلفات رجل من عشاق فن التصوير ممن ينفقون ثروة أجدادهم في اقتناء الطرف الأحاسن من آثار هذه الصنعة.

كانت الردهة غاصة بالوفود والزوار من كل صنف وطبقة كأنهم جوارح الصقور والعقبان تحوم على جثث القتلى. وكان من بين هؤلاء فيلق كامل من تجار الصور وباعة الثياب القديمة قد طرحوا على وجوههم ما يلبسونه عادة للزبائن من علامات الملق والخداع والنفاق والمداهنة وسيما التذلل والخضوع والمسكنة وبدت في ألوانها الطبيعية هادئة ثابتة بالرغم من التصاقهم في ذلك المكان بنفوس أولئك الزبائن الأرستقراطيين الذي لو لاقوهم في حوانيتهم لخروا لهم ركعا ولكنسوا التراب المتساقط من نعالهم. لقد أولئك التجار والباعة في تلك الردهة وقفة الوداع المطمأن المطلق من قيود الكلفة والاحتشام لا يبالي ولا يحفل بمن حوله كائنا من كان وطفقوا يقلبون الصور والرسوم ليتأكدوا قيمها وأقدارها. وكان ن

ص: 59

بين الجماعات كثير من عشاق المزادات العمومية الذين لا تكاد تفوتهم جلسة من جلساتها أعني غواة الصور من طبقة الأرستقراطيين الذين يرون من أوجب واجباتهم ألا يدعوا فرصة تمر دون أن يزيدوا أعداد ما لديهم من مدخرات الرسوم والتصاوير والذين لا شغل لهم فيما بين الساعة 12و2 إلا حضور هذه الجلسات. يضاف إلى هؤلاء فقراء الأرستقراط الذين يذهبون إلى تلك المزادات في أثوابهم الشريفة البالية لا طمعا في شراء ما يعرض ولكن لمجرد الاطلاع على ما يؤول إليه أمر المزاد.

كان ثمة طائفة من الصور ملقاة بلا نظام ولا ترتيب يخالطها أمتعة من الأثاث وشيء من الكتب عليها أسماء أربابها الذين ما خطر ببالهم قط أن يفضوا أغلفتها وآنية صينية وألواح من رخام المناضد وبسط وأنماط وزرابي ونمارق وكراسي وأرائك وثريات ومصابيح وشتى ضروب من آلات الزخرف والزينة يكدس بعضها فوق بعض أكداس مشوشة مختلطة كأنها كثيب مهيل من الفنون الجميلة.

وكان المزاد قد بلغ أقصى غلوائه.

وكان الجمع المحتشد يتبارك ويتنافس في صورة تأبى إلا لفتا لأنظار أهل الفن واجتذابا لأبصارهم. إذ كانت تبدو في غضونها بلا شك آيات قدرة بديعة وبراعة مدهشة وهذه الصورة التي كان يبدو عليها أثر تكرار التجديد والترميم فكانت تمثل شخص رجل أسيوي في ثياب فضفاضة تنم صفحة وجهه عن معاني رائعة خطيرة. ولكن أغرب ما في الوجه فرط توقد العينين. فكلما أطال إليها المشاهد نظره خيل إليه أن ألحاظها تزداد تغلغلا في أحشائه ونفاذا إلى حبة قلبه هذه الفتنة الغريبة الخداع التي أبدعها المصور بقوة براعته كانت موضع العجب والدهشة من الجميع. وقد بلغوا من ارتفاع ثمن الصورة في المزايدة أن كثيرا من المساومين كفوا أيديهم لعجزهم عما وصلت إليه من الثمن الفاحش الخارق للعادة. ولم يبق غير اثنين من عشاق الصور من طبقة الأرستقراطيين وإنهما قد أصرا على اقتناء الصورة مهما بلغ ثمنها فحمى بينهما وطيس المساومة وقد كانا بلا شك بالغين بالثمن حد الإعجاز والاستحالة لولا ما اعترضهما به أحد النظارة من قولهاسمحا لي أن اقطع تيار المساومة برهة من الوقت فلعلي نم بين سائر الحاضرين أحق الناس بإحراز هذه الصورة.

ص: 60

هذه الكلمات لفتت في الحال أنظار الجميع نحوه. فإذا رجل طويل يناهز الثلاثين أسود الشعر منسدله ينم وجهه الطلق عن فرط الاستخفاف بصروف الزمان وفراغ البال من أكدار الحياة وهموم الدنيا. وكانت ثيابه ساذجة غفلا من آثار التجمل والتأنق وكل ما به دليل ناطق على أ، هـ من أهل الصناعة. ولواقع أنه كان المصور المعروفة محاسن آثاره لدى كثير ممن حضر هذه الجلسة.

واستمر الرجل في خطابه فقال مهما أثارت كلماتي هذه في نفوسكم من العجب فلسوف تحقونها وتبررونها متى وعيتم ما أنا ملقيه عليكم الآن من نبأ هذه الصورة فإني على يقين من أن هذه هي عين الصورة التي ما زلت أدأب باحثا عنها سنين عدة. .

هنا سطعت آية العجب على وجوه لسامعين واشرأبت إلى الرجل أعناقهم وسموا إليه بأبصارهم حتى منادي المزاد نفسه وقف فاغرا فاه دهشة رافعا عصاه في الهواء تهيأ للإنصات إلى النبأ الغريب. وفي مقدمة القصة أقبل الجمع ينظر إلى الصورة فلما انحدر القاص في قصيصه وتدفق في شعاب روايته تحولت إليه الأنظار وانصاعت نحوه القلوب وانقادت الأذهان طوع بيانه. وتعلقت الأرواح بأسلة لسانه. حدث الرجل الجماعة قالتعرفون ذلك الحي من المدينة المسماة كولوما هذا الحي يخالف سائر أحياء موسكو فهو ملجأ المتقاعدين من ضباط الجيش ومأوى الأرامل وموائل الفقراء المعسرين وقصارى القول مثوى كل أولئك الأقوام الذين يصح أن ننعتهم بكلمة الطوائف الغبراء (أي التي لونها لون الغبار) من تراهم كأنما نسجت على ثيابهم ووجوههم وشعورهم وعيونهم طبقة من الغبار أو الرماد التي تكسو الجو في يوم لا شمس فيه ولا غيم. وقد يصادف بين هؤلاء القوم متقاعدو الممثلين ومتقاعدو المحامين ومتقاعدو الفرسان والمقاتلة ذوو الشفاه الوارمة والعيون الخربة.

أجل إن الحياة في حي كولوما تمل وتسأم والعيش فيها لا رونق له ولا مذاق. وقلما تجري فيه المركبات إلا مركبة تحمل ممثلا تنحدر به في الطريق وقد أزعجت روح الصمت والسكون بدوي صريرها وصليلها وقد تحصل في دورها على السكن لمرضي بأزهد أجرة - خمسة روبلات في الشهر ضمنها ثمن القهوة وأعرق سكانها ارستقراطية الأرامل ذوات المعاشات والمكافآت وهؤلاء يسرن سيرة مرضية يصن أعراضهن ويكنسن حجراتهن

ص: 61

ويحادثن أصحابهن وصويحباتهن عن أسعار الضان والعجل والكرنب والكرنبيت والبطاطس كثيرا ما يكون لإحداهن ابنة فتية قلما تجدها إلا رزينة ركينة خفرة صموتا وقد تكون جميلة وكلب قبيح الخلقة وساعة حائط تدق دقات مؤلمة حزينة. ويجيء من بعد الأرامل طائفة المثليين الذين كسائر أهل الفنون الجميلة يعيشون في الدنيا للهو والمتاع واللذة. أولئك تراهم جلوسا في مباذلهم ينظفون مسدساتهم وسيوفهم ويصنعون كل شيء في الوجود من الورق مع كل من هب ودب وبذلك يقضون صباحهم وعلى هذا النحو يقضون أيضاً مساءهم مضافا إليه النبيذ والبنش.

ص: 62