الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
وسلام على عباده الذين اصطفى
أما بعد فهذا ما نستأنفه اليوم من السنة الثانية للبيان: نمضي فيه إن شاء الله على ما توخينا من قبل. ونأخذ له في ناحية عريضة من فسحة الأمل، ونستظهر بركن شديد من استعانة الله في التوفيق إلى العمل، ونصبر وإن كان الأمر شديد المزاولة، ونحاول وإن كان عسير الخطة في المحاولة، فقد أتت علينا السنة الأولى ونحن وكأنما نسند بها في حدود المستقبل لهذا الأدب العربي، ونشتد بالمدة القصيرة وراء الغاية المتطاول شأوها فلا نستمد راحة ولا نطمئن إلا خفض ولا نبالي ما أصابنا به من غرضنا البعيد، ملا ما ورد علينا إذا هو رد لنا شيئا مما نبتغي أن نفيد فانه ليست الآفة في خدمة هذه اللغة وآدابها وعلومها أن يلقى المتصدي لها من العنت والبلاء والجهد وأن يغشاه من ذلك ما يغشي ولكن الآفة كيف يذهب عنه أنه سيلقى النصب مما يعاني وهو إنما في قيامه بأمة ويخطو في سعيه بتاريخها. ومتى كان النهوض بالأمة هيناً والخطو بالتاريخ ليناً، فنحن أنشأنا (البيان) وشأنه في الأمل شأنه. وأرصدنا له نفساً مرة أمرها في العمل أمرها وكنا مستبصرين فيما سنلقى فكأنه قدم علينا قبل أن نقدم عليه وأعددنا للأمر عدته فلم ننكل حين أقدمنا، ولم نتأخر إذا تقدمنا، ولا نقول إننا جعلنا غايتنا رضي أحد فرضي أو تسخط وإنما كانت الغاية واجبا لأدب تعين علينا أداؤه، وديناً للغة كان حقاً علينا وفاؤه، فما انتهينا حيث بلغنا من ذلك حتى صرنا إلى منزلة من رضي أهل الفضل لم نكن نطمع فيما دونها وما برح الفضلاء برضاهم وثنائهم وارتياحهم منذ القدم كأنهم ثواب الفضيلة وجزاؤها وكأنهم الوفاء لها في هذه العاجلة يستحثون من همة الواني ويبعثون من عزيمة المخلد ويتلقون غرة المتقدم وهم أنفسهم الذين يضمنون بقاء الفضيلة للحياة ويضمنون للفضيلة بقاء الحياة فلست واحدا منهم إلا كل أروع نباض كأنه قلب من قلوب الدنيا في شرف نزعته، وكرم نحيزته. وإقباله عليك مضافراً، وانصرافك عنه ظافراً، ورؤيتك إياه على حال كالذي ينتظرك في كل غمرة تخوضها، ويقف لك عند كل صعبة تروضها، فهؤلاء كما علمت وإن منهم القوم الكرام الذين سلسلت بهم مطالب البيان من قرائه، وانفرجت بهم مذاهب من كتابه وشعرائه، فلم يحل عليه الحول إلا بالغا ما يضارع التقدير في كرمهم والثقة بالرجاء فيهم حتى أصبح والحمد لله كأنما كشف عن الأدب ليلا فكأن شمسه، ومد للغة يوماً كان يقال أنها لا تتجاوز أمسه، ورد
على الأسلوب الفصيح بقية دماء كان ينزل بها رمسه.
نقول هذا ولا نمتن وإن رفقنا، ولا نتكثر وإن صدقنا ولكن هي المحمدة للذين آزرونا وكانوا لنا فكنا بهم ونحن لا نرضى أن نشكرها لهم حتى نشيد بها ولا نرضى بالإشادة حتى نقدمها في صدر الكلام ولا نرضى بتقديمها دون أن ننزلها مع رضاهم في منزلة مذكورة، ونقرنها إلى فضلهم كما تقرن البسملة إلى كل سورة.
وبعد فقد علم القراء إننا فيما انتهجنا من خطة البيان إنما نرمي إلى غرض من تربية الأمة ليس لنا في البلوغ إليه أوثق من اللغة وآدابها فقد أصبنا الأمة متحللة من تاريخها منفصلة بحاضرها عن ماضيها ذاهبة في غير طريقها وكأنما قطع بها على هذا الضلال فهي تبرح مترقبة من تتبعه وان تبعته إلى الضياع والتلف. ورأينا من نشئنا من سدرت أبصارهم وسحر أعينهم زخرف الغرب ونسوا الله فأنساهم أنفسهم وكانوا على ذلك بيننا نحوطهم ونرعاهم وهم يرون أننا نحن بينهم وإنهم هم الأمة على قلتهم وتصدعهم ويعلم الله أنهم في ثوب الأمة رقع تترك فلا تروق، وتنزع فلا تكشف إلا عن خروق.
هؤلاء يحسبون إن بناء الأمم هندسة نظرية فكل ما قامت عليه مدنية الغرب فهو بعينه الذي يتسق به أمر الشرق وإلا حسبوه ما شاؤا وشاء لهم قصر النظر وضيق المضطرب فأباحوا ذماره وابتلوه بالكره وبرموا بأمره وأنفوا له ولأنفسهم منه ثم هم يرون أنه كما ينسلخ أحدهم من جلدته في الأمة تستطيع الأمة أن تنسلخ من جلدتها في التاريخ فإذا كانت لنا مدنية ولغة وآداب استطعنا إن نتبدل بها مما يحبون مدنية ولغة وآدابا ولا ضرر في ذلك علينا ولا ضرار فأولى لهذه الفئة وأولى لها.
ورأينا بإزاء نشئنا قوماً جمدوا على القديم فكانوا أقدم منه واستمسكوا بكل مالنا من تاريخ ومدينة وعادت حتى كأنهم بعض ما هجر من ذلك فلا يرون أن تأخذ الأمة شيأ إلا ما لا حفل به مما لا ينوع تاريخها ولا يبسط في لغتها ولا ينكر من أمرها كأنها مادة جامدة في الفضاء، وكأن البلى أمنها من البلاء، وأعفاها على الدهر من العفاء، والفريقان إنما أتيا من جهة واحدة وهي سوء التقدير فيما ينفع وما يضر فلا يستبطنون الأمر يغرهم ظاهره، ولا يكتنهون ما يسرهم أوله إذا كان يسوء غيره آخره، ولقد كان من ذلك أن الأمة لم تنتفع بكليهما لأن أحدهما يجهل أمرها على علم بما ينفع غيرها من الأمم والآخر يعلم أمرها
على جهل. فرأينا أن يكون البيان صلة بين الفريقين ليجمع في منفعة الأمة ما ترك الزمن من أدب وحكمة وما استحدث من علم وقوة ويصرف حب نشئها إليها بما يقفهم عليه من آدابها وما يكشف لهم من أسرار مدنيتها فهم إنما بهتوا لظنهم أنها أمة اختلست غفلة الأمم فكان أمر مدنيتها استطالة وتمكنا أو كأمر المستبد بإرادته إذ لا يجد إرادة تعارضها ولا عزيمة تقوم لها فحسبوا أن ما ذهب به الزمن من مجدها ذهب بحقيقته معه إذ لم تكن له في وهمهم حقيقة تجري على سنن الاجتماع وتصلح أن تكون في عصر العلم والفلسفة مما يلائم أرقى ما انتهى إليه العلم والفلسفة.
وذلك الذي أراده البيان منزع لعمري غير أنه بعيد الشقة كثير الغمرات وغير أننا ضمننا أطرافه ونحينا عن النفس في أمره الضجر والملل وسلكنا إليه في مذاهبه وطلبناه بمطالبه وما سنة البيان الخالية إلا مرحلة طويناها بين الأمة وبين قلوب نشئها وكهولها والله المستعان على ما نستقبل.
والقارئ إذا تدبر ما أسلفناه رأي أننا أحكمنا الأمر في اختيار أبواب البيان إذا جعلناها على الجهات الأربعة: اللغة والتاريخ والنقل والتعريب: فما خرج شيء من مجدنا ولا يعود إلا منها وهي أبواب تجمع بيننا وبين مدنيتنا الأدبية ثم تصل هذه بمدنيات الأمم.
(ونحن) قائلون كلمة موجزة في فضل هذه المذاهب الأربعة وشرفها على ما سراها ليعرف القوم لم آثرناها وحتى يكون القراء معنا جميعا على بينة مما نرمي إليه فإن ذلك مما يزكي عملنا وينميه إذ يجعل البيان لكل قارئ كأنه بيان للناس.
فأما اللغة فأصل الأمر فيها أن يديرها المتكلمون على محاكاتهم ويرموا بها إلى أغراضهم ويجعلوها من متناول الحس فإن هي وفت بحاجتهم اقتصروا عليها وإلا استبدلوا منها ذهبوا بها اشتقاقا وبحتا، ومسخا بحتا، لا يبالون ما نسبة حديث إلى قديم من ألفاظها وتراكيبها إذ القديم والحديث سواء عند الحاجة الحادثة إذا لم يبتغ بهما إلا التسبب إليها. ومن ثم كانت العامة وأشباه العامة آفة على اللغات في أخلاق جدتها وتصويح زهرتها والذهاب بما فيها من ماء ورونق حتى تصبح في أطراف الألسنة كزة كأنها مادة لا أثر فيها للفكر بل يلقيها ما تدل عليه من ضروب المادة وأنواعها التي يعبر عنها كما يلقى الإشارات على أصابع الخرس وإن هذه لتجئ أصدق وأوفى بالدلالة في أصل الوضع لأنها تشير إلى الحواس
والحواس لا تكاد تخطى فهم ما تدلها عليه. وقد رأينا من فتياننا الذين لبست العجمة ألسنتهم ما أن قليله ليستعظم في بلائه وشدته وسوء أثره في مدنيتنا الأدبية فهم لا يريدون أن يرجعوا بنا إلى الفصحى من العربية ولا أن يتناولوا من أساليبها ويأنفوا كذلك أن يخطوا بأقلامهم إلى العامية في أسواقها وطرقها بل ينحلون أنفسهم القدرة على خلق اللغات والمواضعة عليها وتيسير سبيلها في الإجتماع العربي ثم لا يتعدون هذا الطور من التأله الكاذب فلا ندري أشر أريد بنا وبهم حتى نزعوا ونزعنا واستجمع كلانا الأقاويل والحجج وافترقنا في سبل الألفاظ كأنا أمتان في أمة واحدة أم هم يمثلون اليوم في تاريخنا أولئك الغزاة الأجلاف الذين انصبوا على مدنيتنا وآدابنا من التتر وغير التتر فأحرقوا كتبنا وعفوا آثار علمائنا وتركوا في تاريخنا مكانا خربا لا يعمر صدعه الزمن كله فإن كان ذلك نتحا في عرف هؤلاء فاللهم أغلق بيننا وبينهم واللهم حوالينا ولا علينا. وإن كان جهلا ونزقا وتحمسا فقد جعلنا من أكبر همنا فيما نكتبه ونستكته في البيان أن نتبسط في الكلام على صلة العربية الفصحى بتاريخنا وقيام مدنيتنا بها وإننا إن نزلنا عنها أو فرطنا في إحيائها وإنمائها فقد تركنا معها أوثق رابطة جمعتنا وأمكن عروة لويت علينا وألنا بانحلالنا ما عجزت الأمم عن الأنته تحت أضراسنا وبين أنيابها حتى قطعنا دهرا من التاريخ الاستعماري في الشرق ونحن نتردد بين الأضراس واللهوات كلما كلت الأولى عن طحننا ونبت عنا دفعتنا إلى الأخرى لتزدردنا جملة واحدة وتعي هذه بازدرادنا وتضيق عنا فنردنا إلى تلك ونحن علي ذلك نحن سيرة بعد سيرة لا يمسكنا إلا لغة نجمعنا بأرقى ما في الدين من الكمال، ودين يجمعنا بأرقى ما في الدنيا من معاني الاستقلال.
وأما التاريخ فهو يتلو اللغة عندنا إذ هو في الحقيقة لغة الحياة الصامتة التي طوى الدهر أشخاصها ولذا كان بديها أن لا تفرط أمة في لغتها إلا فرطت في تاريخها وإن ذلك ليضعفها بما يشبه العبودية وإن لم يتعبدها أحد فترى لها حاضرا لا تنتفع به كأنه ليس لها، وماضيا لا تتصل إليه وكأنه ليس لها، ومستقبلا لا تحفل به فكأنه على هذا القياس ليس لها.
وما بلغت أمة من الذل ما تبلغ هذه الأمة الخيالية التي تنكشف عن ملاجئها المنيعة لتتحصن بالعراء، وتسير في سبيل الحياة ثابتة. . . وهي تجهل ما أمام وما وراء.
من أجل ذلك عنينا بالقول في تاريخ الإسلام وفلسفته وما يداخله من علل الإجتماع ويتصل
به من أسباب العمران ويجتمع إليه من سن الحياة ثم ما نصعب على هذا التاريخ من أحوال الأمم وما تسمح له من قيادها وبالجملة كل ما يصور هذه الحياة الصامتة بأجزائها وألوانها حتى تنطق أو نفهم عنها كأنها تنطق.
وأما النقل فهو مما نعزز به اللغة والتاريخ لأننا قصرنا ذلك على الطرفة الممتعة من الأدب والأسلوب الرائع من الكلام والنادرة الفذة من التاريخ وما يكون من مثلها مما لا يذو مناله إلا الذي باع، ولا يتحصل إلا بعد التوفر على الاطلاع.
وإن لنا في ذلك غرضا هو أكبر الغرضين وأوفاهما بالفائدة نتذرع به من أحياء آثار العقول إلى أحياء العقول نفسها فإن أمة لم يستفتح كل جيل من تاريخها بأسماء رجالها ونوابغها حتى يظلوا فيها أحياء بآثارهم وكأنهم لم يخرجوا من الدنيا إلا ليتجردوا من المادة الفانية وليعودوا إليها عقولا خالدة - هي أمة لا تنبغ فيها العقول إلا نبوغ الإصطلاح الذي تقضي به ضرورة الاجتماع.
وما من جماعة وإن كانوا من عصارة الزنج إلا وأنت واجد منهم النبوغ الاصطلاحي ولو بالعادات والخرافات والعضلات والأنياب والأظفار ونحوها مما تعده الجماعة من مقومات الحياة.
ولولا أن طائفة من حكمائنا وأهل الإصلاح فينا عملت على نشر الكتب القيمة مما تركه أسلافنا لما تخطينا في الأدب ذلك الطور الإصلاحي الذي وقف عنده تاريخنا ولبقينا حيث كنا من قبل نستنفد أيامنا في غير درك ونضيع أنفاس الحياة فيما لا حياة فيه.
(وأما التعريب) والنقل عن اللغات الأجنبية فإننا أردنا به إتمام عملنا إذ لا نزعم إننا أباء الأرض ولا أبناء السماء إنما نحن امة من الأمم تستمد من التاريخ الإنساني لتعمير مكانها من هذا التاريخ، فنحن في أشد الحاجة إلى مبدعات العقول حتى نشا به الأمم التي تطيف بنا في كل ما يجعلنا امة وحتى نجانسها في تاريخ الاجتماع جناسا لا تاما ولا مقلوبا فإن كليهما شر على استقلال الأمة من الأخر. وإنما نريد الجناس المعنوي الذي يشبه عند الترجيح مكافأة قوة لقوة أخرى.
والأمم في منازعة الحياة كالجيوش إن لم تكن في كل جيش قوته الذاتية لم ينفعه ما يقتبسه من أساليب استعمال القوة عن الجيوش الأخرى فكل ما أنتجت العقول الغربية هو عندنا في
الرتبة بعد لغتنا وتاريخنا وأدبنا فإذا نحن استكملنا هذه وأحطنا بها وأمنا جانب التفريط فيها لم يكن شئ انفع عندنا مما نقتبسه من تلك العقول لأننا نأخذ حينئذ لنمكن أنفسنا من القوة التي استعنا بها لا لنمكنها من أنفسنا.
وإذا انعم القراء على تأمل ما بسطناه أدركوا السر الذي من اجله يؤثر البيان كل أسلوب فصيح ويقدمه ويحرص عليه الحرص كله ولا يبالي فيه اعتراض فئة هي خاصة العوام وعامة الخواص فإننا نطلع من اقر الأمر على ما في أبعده ولم نبتغ بهذا البيان إن يكون وسيلة من وسائل العيش التي لا يقدرها أهلها بالأسباب ولا بالنتائج ولا بالمنافع ولا بالمضار ولكن بشئ واحد وهو مقدار الثمن والفائدة. . . .
ولو كنا نجري في أمرنا على الهواء دون الرأي وعلى الموافقة دون التقدير وعلى منفعتنا دون منفعة الأمة لأثرنا أهواء القوم وتقدمناهم بالمواتاة عليها والمساعدة فيها وابتذلنا لغة البيان وأساليبه وعادينا في مودتهم الأدب واتقينا موجدتهم بتقدير أمورنا على مقادير (كيماوية). . . من رضاهم وسخطهم وإقبالهم وإدبارهم ولاعتبرنا كلمة الثناء من أحدهم البيان بمستقبل الأمة كلها. . . . . . .!
بيد إن الأمر جد حقيق إن لا يسمع من هذا السخف كثيرا ولا قليلاً، وحق بين لا يحتمل من الباطل برهانا ولا دليلاً، وإنما هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا.
عبد الرحمن البرقوقي