المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 43 فهرس المحتويات 1- كلمة العدد 2- إلى الذين يحادون مفاتح الغيب - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ١٦

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌العدد 43 فهرس المحتويات 1- كلمة العدد 2- إلى الذين يحادون مفاتح الغيب

‌العدد 43

فهرس المحتويات

1-

كلمة العدد

2-

إلى الذين يحادون مفاتح الغيب باسم العلم الحديث: لفضية الشيخ عبد الفتاح عشماوي المدرس

3-

تدوين السنة ومنزلتها: لفضيلة الدكتور عبد المنعم نجم

4-

أصول الإيمان: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

5-

مفهوم الربوبية: لفضيلة الشيخ سعد ندا

6-

حكم الاحتفال بالموالد: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

7-

كيف يغرس الأستاذ في نفوس تلاميذه العلم والعمل معا؟ : لفضلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري

8-

وعلاقتها بالقدرات العقلية: لفضيلة الدكتور عباس محجوب

9-

مملكة النبات كما يعرضها القرآن ويصفها: بقلم الدكتور حامد صادق قنيبي

10-

فلسطين مسلمة: للدكتور علي جريشه

11-

كيف سلمت الدولة الإسلامية من تآمر يهود بني قريظة وخيبر عليها: لفضيلة الدكتور جاد محمد أحمد رمضان

12-

شخصية الفقيه الداعية عبد الله بن ياسين واضع الأسس الأولى لدولة المرابطين في المغرب والأندلس: لفضيلة الشيخ إبراهيم الجمل

13-

الأدب العربي في الميزان: للدكتور شوقي عبد الحليم حمادة

14-

يا متاع الغرور: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب

15-

ما هكذا يا سعد تورد الإبل: بقلم فضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي

16-

صحيح المقال في مسألة شد الرحال: لفضيلة الشيخ عبد العزيز الربيعان

17-

وجوب إنكار المعاملات الربوية: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

18-

تعقيب لا تثريب: لفضيلة الشيخ محمد المجذوب

19-

الرد على إباحة الغناء: للشيخ نايف الدعيس

20-

فكرة الجامعة المفتوحة أو جامعة الهواء: لفضيلة الشيخ محمد الشربيني

21-

مجلة الجامعة الإسلامية: للأستاذ عبد السلام هاشم حافظ

22-

الانتفاخ: للدكتور سيد أحمد عبد البر

23-

دراسة عن التخلص من الكحول في الصيدلة والطب: للدكتور أبو الوفا عبد الآخر

24-

مع ابن القيم في كتابه ((حادي الأرواح إلى بلاد الأرواح)) : للدكتور عبد الرحمن بله علي

25-

بين قاض وخليفة من كتاب نفح الطيب

26-

العلم والإيمان

27-

مختارات من الصحف - بداية النهاية

28-

خطاب الرئيس محمد ضياء الحق، رئيس دولة باكستان بعنوان: خطوات لتطبيق نظام الإسلام

29-

برقية من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم: رئيس تحرير مجلة الجامعة الإسلامية: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

30-

من أحداث العالم الإسلامي: بقلم الدكتور عبد الرحمن العدوي

31-

القسم الإنجليزي (English Section)

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 338

كلمة العدد

يصادف صدور (مجلة الجامعة الإسلامية) هذه المرة في عددها الثالث عشر للسنة الحادية عشر مناسبة إسلامية هامة، لها شأنها ولها مكانتها في نفوس المسلمين أجمع.. وهي مناسبة إعلان رئيس جمهورية باكستان تطبيق الشريعة الإسلامية. وتطبيق الشريعة الإسلامية هو الهدف الأول والأخير من انفصال باكستان عن الهند.

ومنذ ذلك التاريخ - تاريخ استقلال باكستان - إلى هذا اليوم لم تزل محاولة تطبيق الشريعة الإسلامية تقطع عقبة بعد عقبة، وتخطوا خطوات بطيئة إلى أن ظهرت اليوم إلى حيز الوجود بذلك الإعلان المبارك الذي نرجو أن يكون نقطة تحول في حياة الشعب الباكستاني الذي سوف يسعد - بإذن الله - تحت ظل الشريعة الإسلامية، كما سعدت جميع الشعوب التي يحكمها الإسلام قديما وحديثا.

والشعب الباكستاني شعب مسلم وصادق في إسلامه. وقد كان منذ الاستقلال متلهفا إلى تطبيق سوف تكون خيرا من حياته قبل التطبيق؛ لأن الإسلام شريعة الله العليم الحكيم، وهو خير وبركة؛ فحيثما نزل الإسلام وعمل به وطبقت شريعته نزلت البركة والرخاء والخيرات

ونزل الأمن والأمان والاستقرار.

وهو ينظم الحياة تنظيما بديعا ودقيقا، يأمن الإنسان تحت ظله على نفسه وعقيدته وماله؛ لأنه يحفظ بأحكامه العادلة أموال الناس وعقولهم ودمائهم، ويطلق لهم حرية العمل وحرية القول، ويكسبهم شجاعة فذه، بحيث لا يخافون إلا ربّهم وخالقهم، ولا يطأطئون رؤوسهم إلا لعظمته.

هذه بعض المعاني التي يمتاز بها إسلامنا العظيم

و (مجلة الجامعة الإسلامية) تنتهز هذه الفرصة لتهنئ جمهورية باكستان الإسلامية - رئيسا وحكومة وشعبا - على هذه النعمة؛ نعمة الإسلام وتطبيق شريعته.

ص: 339

وفي الوقت نفسه تهيب بالدول الإسلامية الأخرى وتدعوها لتحذو حذو جمهورية باكستان الإسلامية؛ فتعلن عن تطبيق الشريعة الإسلامية ثم تتابع الإعلان والتنفيذ والحل؛ لأن الإعلان وحده غير كاف طبعا، ويومئذ نصدق إذا قلنا:"نحن مسلمون"والله الموفق

أوهام يحسبونها أعذارا

وقد يعتذر بعض الحكام عن تطبيق الشريعة ببعض الأعذار نوجزها فيما يلي:

ا- إن شعوبهم ورعاياهم تتكون من مسلمين وغير مسلمين؛ فيظنون أن هذا الواقع يكون لهم عذرا مانعا عن تطبيق الشريعة؛ لئلا يتضرر أفراد الشعب على حساب الآخرين في زعمهم!!!

وللإجابة على هذا الوهم نقول: إن تطبيق شريعة الإسلام رحمة للمسلمين وغير المسلمين {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} .. {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ..

وذلك أن غير المسلمين ينعمون في ظل أحكام الإسلام كما ينعم المسلمون؛ لأن الإسلام الذي حرم مال المسلم ودمه وعرضه كذلك يحرم أموال غير المسلمين ودماءهم وأعراضهم، ما داموا يعيشون تحت راية الإسلام مسالمين دون أن يكونوا حربا على الإسلام والمسلمين، ولا يكونوا عونا لمن يحاربهم. ويسمى هذا الصنف مستأمنا أو معاهدا أو ذميا..

ومن أحكام دين الإسلام أحكام تخص هؤلاء الناس يهوديين أو نصرانيين.. من ذلكم الوعيد الشديد الذي جاء في حق من يقتل معاهدا أو ذميا بأنه لا يراح رائحة الجنة عبد الله [1] بن عمر بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام: "من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد في مسيرة أربعين عاما". رواه البخاري واللفظ له، وللنسائي مثله إلا أنه قال:"من قتل قتيلا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة".

ص: 340

ومن مثل هذه النصوص الصريحة يتضح جليا أن الإسلام دين الرحمة، وهو عنوان الأمن والاستقرار كما تقدم.. وخير شاهد على ذلك ما ينعم به سكان المملكة العربية السعودية التي اكتفت بالإسلام دينا ودستورا بتوفيق الله؛ ينعم سكان هذه المملكة بنعمة الأمن المنقطع النظير في العالم، مواطنين ووافدين على حد سواء، وهى حقيقة ملموسة لمس اليد، ولا تحتاج إلى ذكر الشواهد، بل كل من عرف ما تعيش فيه شعوب العالم من قلق واضطراب وعدم استقرار للأمن، ثم شاهَد ما يعيش سكان هذا البلد الطيب من الأمن على نفسه وماله وعرضه، وينام ليله ملء أجفانه يؤمن تماما أن سر ذلك هو تطبيق شريعة الإسلام.. {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} ..

2-

يظن بعضهم أن تطبيق شريعة الإسلام يعني حمل الناس على اعتناق الإسلام وتكليفهم بذلك بغير رضاهم.!!

وللإجابة على ذلك نقول أن هذا الوهم منشأه عدم التفقه في الدين وقلة البصيرة.

وإلا فإن الإسلام يعلن بكل صراحة في قرآنه بأنه لا يكره أحدا على الدخول في الإسلام بغير اختياره ودون رضاه؛ إذ يقول القرآن الكريم - وهو كتاب الإسلام الوحيد - {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ} .. فدعوة الإسلام إذاً إنما هي عرض وبيان.. عرض الإسلام على حقيقته كاملا كما نزل.. وبيان لمحاسنه وسماحته وشموله ورحمته؛ ليعرف على حقيقته.. فليس في دعوة الإسلام إكراه للناس حتى يكونوا مسلمين قسرا ودون اختيارهم.

ص: 341

وبعد: فهل بقي هناك خيط يتعلق به أولئك الذين لم يطبقوا الشريعة في شعوبهم مع انتسابهم إلى الإسلام؟!!.. فنرجو أن يجدوا في موقف فخامة رئيس باكستان (ضياء الحق) ما يكون خير حافز لهم، ويضيء لهم الطريق ليبادروا فيعلنوا كما أعلن، ثم يطبقوا وينفذوا ولا يجبنوا، والله معهم وسوف يسدد خطاهم ويأخذ بأيديهم.. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} .

"رئيس التحرير"

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

الترغيب والترهيب ص 333.

ص: 342

فلسطين مسلمة

للدكتور علي جريشه

الأستاذ بكلية الشريعة

أولا: كيف استلب الوطن الإسلامي في فلسطين

أ- تاريخ

البعض يرجع ذلك تاريخيا إلى أول مؤتمر صهيوني انعقد في بال عام 1897م بزعامة تيودور هرتزل، حيث قرر اتخاذ فلسطين وطنا قوميا لليهود، ووضع التخطيط اللازم للتنفيذ؛ فسار في خطين: خط دفع اليهود إلى الهجرة إلى فلسطين، وخط البعث عن الشرعية الدولية التي تساند هذا الاغتصاب أو تستره، وفي الوقت نفسه القوة الدولية التي تحمي هذا الاغتصاب بالقوة وبالشرعية [1] معا..

وتأسس البنك الوطني اليهودي لهذا الغرض.. وتأسست معه الجمعيات اليهودية العديدة التي تزكي في اليهود روح الصهيونية، وكان ذلك تنفيذاً للخط الأول.. وبدأت الهجرة تسير في خط بياني بدأ بعدة آلاف، وانتهى اليوم بأكثر من ثلاثة ملايين نسمة.

وفي مدينة القدس الإسلامية - على سبيل المثال - كان عدد السكان اليهود:

سنة 1670 م (القرن السابع عشر) يهودي واحد.

سنة 1750 م (القرن الثامن عشر) 150 يهوديا.

سنة 1977 م (القرن العشررن) 142000 مائة واثنين وأربعون ألف يهودي.

وبدأ انتزاع الأرض من أيدي أهلها بالإغراء بالمال رغبا، ثم بالتخويف والبطش بعد ذلك رهبا.. وسار انتزع الأرض يأخذ الخط البياني التالي:

في العشرينات: تراوحت ما بين 17498 سنة 1923، إلى 176124 دونما عام 1926.

في الثلاثينات: 18893 سنة 1932 إلى 36991 دونما عام 1933 إلى 67114 سنة 1935.

في الأربعينات، وفي نهاية سنة 1946 قدرت السلطات البريطانية ما يملكه اليهود بمساحة 1624505 دونما، ومع ذلك فلم تكن تمثل غير 7% من مساحة فلسطين..

وفي سنة 1967: ملكت إسرائيل كل أرض فلسطين وأضعافها..

ص: 343

وتحقيقا للخط الثاني.. كانت محاولة الشرعية الأولى مع دولة الخلافة.. مع السلطان عبد الحميد رحمه الله.. قيل: إن هرتزل قابل السلطان عبد الحميد بنفسه..

وقيل: إنه أوفد إليه وفدا من ثلاثة:

1) مزراحى قرصو، زعيم اليهود في سالانيك.

2) جاك.

3) ليون (وهما كذلك من زعماء اليهود) .

وعرضوا على السلطان عبد الحميد - في حضور تحسين باشا رئيس الوزراء -.

أ- أن يقوم اليهود بوفاء الديون المستحقة على الدولة العثمانية (وقدرها 133 مليون ليرة إنجليزية ذهبية) .

ب- بناء أسطول لحماية الإمبراطورية العثمانية، (يتكلف 120 مليون فرنك فرنسي) .

ج- تقديم قرض بدون فائدة (قدره 355 مليون ليرة ذهبية) ؛ لإنعاش مالية الدولة ومواردها، وذلك مقابل السماح لليهود بدخول فلسطين للزيارة في أي يوم من أيام السنة، والسماح ببناء مستعمرة لهم قرب القدس الشريف.

وقد رفض الخليفة المفترى على تاريخه، وقيل: إنه بصق في وجه زعيمهم..

ب- أرض بلا شعب إلى شعب بلا أرض (إسرائيل زانغويل) :

وكانت المحاولة الثانية في البحث عن الشرعية الدولية والحماية الاستعمارية.. عن طريق بريطانيا، واستطاع اليهود خلال الحرب العالمية الأولى والثانية أن ينجحوا في المشاركة في هذه الحرب، بما استمال بريطانيا العظمى إليهم، ثم كانت صلات هرتزل ووايزمان من بعده استثماراً لهذه المشاركة واستفادة منها..

ص: 344

وفي الوقت الذي كانت بريطانيا "العظمى"قد أعطت العهد للشريف حسين بمنح الاستقلال للدول العربية - والسماح بقيام خلافة "عربية إسلامية"يقوم عليها أحد الأصلاء من مكة أو المدينة - في نفس الوقت كانت الاتصالات باليهود قائمة، وكان التعاطف معهم على أشده، وتم عقد اتفاقيتين سريتين في مارس سنة 1916 بين روسيا وإنجلترا وفرنسا، وفي مايو سنة 1916 بين الدولتين الأخيرتين (والتي عرفت بمعاهدة سايس بيكو) ، وتقرر وضع إقليم فلسطين تحت حكم دولي يتمتع اليهود في ظله "بالمساواة السياسية والدينية والمدنية"[2] .

ولم يعرف الشريف حسين الذي وثق في شرف بريطانيا "العظمى"بأمر هذه الاتفاقات إلا بعد ستة شهور، وبعد قيام الثورة البلشفية في روسيا.. حيث أعلنت عن هذه الاتفاقات [3] .

وفي نوفمبر 1917 أصدر اللورد (بلفور) - وزير خارجية بريطانيا "العظمى"التصريح التالي: "إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي، وسنبذل جهدنا لتسهيل تحقيق هذه الغاية، وعلى أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يضير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى..".

وبهذا أعطى (من لا يملك) إلى (من لا يستحق) أول حماية، يتم التصريح بها، وأول خطوة عن طريق الشرعية الزائفة، ومع ذلك اعتبرها الصهيونيون تصديقا بريطانيا رسميا على إنشاء دولة يهودية في فلسطين، وذلك عن طريق الهجرة الجماعية وابتياع الأراضي، ووافقت على التصريح فرنسا وإيطاليا في فبراير سنة 1918، وأمريكا في أكتوبر سنة 1918م.

ص: 345

وكانت تتمة المؤامرة البريطانية - الغربية إعلان الانتداب على فلسطين، بعد ضمها مع شرق الأردن والعراق إلى بريطانيا.. واكتشف الشريف حسين - ومن وراءه من العرب - أن فلسطين قد سلمت لليهود، وأن العرب جرى اقتسامهم بين الدول الحليفة.

وكانت المحاولة الثالثة والأخيرة إعلان دولة إسرائيل في 15 مايو سنة 1948م في ظل حماية دولية إنجليزية أمريكية فرنسية روسية..

وسبقتها خطوة خطيرة على طريق الشرعية الدولية، هو قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947م قبل الإعلان بشهور ستة..

هذا ما يراه البعض..

ونحن معهم في أن هذا التسلسل كان السبيل لتنفيذ المخطط عمليا..

ج- تاريخ أقدم:

لكننا مع البعض الآخر.. الذي يرجع الأمر إلى ما قبل هرتزل بقرنين أو يزيد، حين دعا الحاخام ليفا (1520- 1609) من براغ؛ دعا إلى اتخاذ فلسطين وطنا لليهود.

وأعقبه مورس هس (1812-1875) الذي بدأ علمانيا، ثم صبأ إلى الماركسية مرتبطا مع ماركس، لكنه أعرض عن الماركسية متجها إلى مثالية يهودية مغرقة في حبّ اليهود، وأصدر كتابه (روما والقدس) سنة 1862 بسط فيه أفكاره، وتحدث عن أن اليهود "مدعوون مصيريا لتحويل العالم"..

وبدأت الصهيونية المنظمة، وظهرت حركة "أحباء صهيون"تحت زعامة ليوبنسكر (1821- 1891) ، وفي أواخر الثمانينات والتسعينات جرت صياغة عقيدة الصهيونية على يد مدارس متعددة..

فالصهيونية العملية: ومن أشهر زعمائها دافيد عوردون (1856-1922) ، وقد جدد حركة "أحباء صهيون"التي تقوم على العمل في أرض إسرائيل، وإنشاء المستوطنات والمستعمرات..

والصهيونية السياسية: ويقوم على زعامتها ليوبتسكر، في أوربا الشرقية، واليهودي الهنغاري تيودورهرتزل (1860-1904) .

ص: 346

ويقال: إن كليهما في البداية لم يكن مقتنعا باتخاذ فلسطين وطنا قوميا لليهود.. وإن هرتزل كان في البداية يفضل مواقع أخرى مثلا الأرجنتين وقبرص وشبه جزيرة سيناء، لكنه مع المؤتمرات الصهيونية التي انعقدت تغلب الاتجاه إلى فلسطين..

وقد يؤكد القول بأن هرتزل في البداية لم يكن متجها إلى فلسطين محادثاته مع الزعماء الإنجليز التي تم - بناءً عليها - إيفاد بعثة إلى سيناء سنة 1906؛ لبحث مدى صلاحيتها على الطبيعة، لكنه من ناحية أخرى.. فإن سيناء ملاصقة لفلسطين، وهى من ناحية التقديس عندهم لا تقل عن فلسطين؛ ففيها كلم الله موسى، وفيها كتبت الألواح ونزلت الوصايا العشر، ثم هي امتداد طبيعي لدولة فلسطين الموسعة كما تكشفت أطماعهم بعد ذلك:(من الفرات إلى النيل، ملكك يا إسرائيل) .

أما الصهيونية الثقافية: فقد تزعم جناحها أحدها عام (1856- 1927) .

وقد أعلن أن وجود الأمة اليهودية بخصائصها المتأصلة، هو ما يحقق الإنسان الأكثر كمالا..

ونحن نرى أن مراحل استلاب الوطن الإسلامي في فلسطين جرت على النحو التالي:

1-

قبل القرن السادس عشر الميلادي

كان الأمر مجرد أمل لم يصرح به.. [4] .

2-

منذ القرن السادس عشر الميلادي.. كانت مرحلة التفكير والدعوة

3-

منذ القرن التاسع عشر الميلادي.. كانت مرحلة التخطيط

4-

في القرن العشرين كانت مرحلة التنفيذ

وغني عن الذكر أن لا حق لليهود - تاريخيا - في أرض فلسطين..؛ فإنها منذ السنة الخامسة عشرة الهجرية أرض إسلامية.. وهى قبل هذا التاريخ أرض عربية، وطوال خمسة آلاف سنة فإن عمر اليهود على هذه الأرض الطيبة لم يجاوز (145) مائة وأربعين مائة عام على فترين:

الفترة الأولى بين سنة 1000 قبل الميلاد حتى سنة 927 قبل الميلاد..

والفترة الثانية بين سنة 142 قبل الميلاد حتى سنة 75 قبل الميلاد كذلك..

ص: 347

- أما الأسباب التي أدت إلى نجاح اليهود في استلاب الوطن الإسلامي (فلسطين) ؛ فنحن نرجعها إلى الأسباب الآتية:

1-

تخطيط اليهود وصبرهم على إنجاحه:

وقد بدأ التخطيط تفكيرا من مفكر يهم كما أشرنا، ثم انتهى إلى إقرار خطة في مؤتمر (بال) 1897، ترمي إلى تنمية الهجرة وشراء الأرض من ناحية، والحث عن الحماية الدولية من دولة عظمى تظلها الشرعية الدولية الزائفة من ناحية أخرى..

ويقال إن البروتوكولات وضعت في المؤتمر الصهيوني الأول..

وكلا الخطتين تدل على معرفة بأغوار النفس الإنسانية، وإدراك للجو الدولي الموجود، واستغلال لأحداثه، وصبرهم على تنفيذ ذلك التخطيط رغم الأحداث الجسيمة التي واجهتهم من بعده، كالاضطهاد الذي حدث لهم من مشرق أوربا، ثم الاضطهاد الذي حدث لهم في ألمانيا على يدي هتلر، ثم العقبات التي قامت في طريق إقامتهم دولتهم من مقاومة الشعب الفلسطيني، وانضمام الشعوب العربية الإسلامية إلى هذه المقاومة، ومن قبلها رفض الخلافة العثمانية لوجودهم، وتآمرهم على هذه الخلافة بما صرّح به هرتزل في مذكراته من أن السلطان عبد الحميد قد رفض الملايين العديدة لقاء فلسطين؛ فقبل حزب الاتحاد والرقي مليونين لتنفيذ نفس الغرض [5] ..

كل ذلك وغيره يكشف عن حسن تخطيط.. وعن صبر في التنفيذ..

وفي مقابلة ذلك - ونقررها بكل أسف - انتفى التخطيط لدى الأمة الإسلامية، أو بالأصح لدى "اليقظى"من الأمة الإسلامية، وتوافر عندهم إخلاص بغير تخطيط شابه في كثير من الأحيان قلة الصبر على التنفيذ، واستجابة لغير المخلصين لإنهاء أوضاع تقلق اليهود.

2-

إبعاد الإسلام عن المعركة:

واضح أن الإسلام كان الخط الأول في المعركة..

ص: 348

أولاً: بما يحمله لأبنائه من عقيدة قد تؤثر الموت في سبيل الله في الحياة في ظل عبودية تفرضها أذل أمة في الأرض، وبما يحمله كذلك من دعوة إلى الجهاد واعتباره فرض عين، إذا غزيت ديار الإسلام.. هذه العقيدة من غير سلاح كفيلة - بإذن الله - بتحقيق النصر.. فإذا أضفنا إليها أمر الإسلام:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} ..وأحسنّا فهم الأمر الرباني لوجدنا أن الإسلام يأمر:

أ- بالتخطيط القوى.. وهو ما يحمله لفظ (الإعداد) وما يحمله لفظ (القوة) .

ب- الإعداد المعنوي.

ج- الإعداد العسكري.. حشدا، وتدريبا، وتسليحا.

د- الإكثار من السلاح الثقيل، وهو ما تعنيه (رباط الخيل) بعد (القوة) ؛ فهو تخصيص للأهمية والخطر.

ثانيا: ما يحمله دخول الإسلام المعركة من دخول ثقل بشرى لا قبل لليهود به، ونعنى به الأمة الإسلامية التي تناهز اليوم ألف مليون من البشر.

ثالثا: ما يجمله دخول الإسلام المعركة من ثقل سياسي واقتصادي لا قبل لليهود بمواجهته؛ فمصالح أصدقاء إسرائيل أكثرها في أمم الإسلام..

واحتياجات مناصري اليهود الاقتصادية أكثرها في قبضة المسلمين..

أما عن مظاهر إقصاء الإسلام عن المعركة وكيفيته:

فقد بدا وبدأ.. بما رتبه اليهود داخل دولة الخلافة نفسها.. وقام على تنفيذه يهود الدونمة، ومنهم ومعهم حزب الاتحاد والرقى وحزب تركيا الفتاة، وهو ما عناه الكاتب الروسي سرجس نيلوس من اقتحام الأفعى للآستانة في طريقها إلى فلسطين [6] .

ثم تأكد ذلك بإقصاء السلطان عبد الحميد الذي رفض عرض اليهود.

ثم بالقضاء على الخلافة نفسها التي ما كان يمكن أن تسلم بقيام وطن يهودي وسط وطنها.

ص: 349

واستمرت محاولات إقصاء الإسلام عن المعركة بتكوين الجامعة العربية (بدلا من الجامعة الإسلامية) ، بفكر وزير الخارجية الإنجليزي، وقبل تمام الكارثة بثلاث سنوات.. وبحمل الجامعة العربية لواء الجهاد من أجل فلسطين ثم تخدير بقية العالم الإسلامي عن النهوض للمعركة..

وزاد إقصاء الإسلام عن المعركة بدخول جيوش سبع دول عربية إلى المعركة.. فما حاجة بقية المسلمين للجهاد وقد تولته جيوش سبعة فيها أبطال ومغاوير..

وحين دخل عنصر إسلامي شعبي إلى معركة فلسطين، وحين صرح إمامهم الشهيد بإعلان التعبئة الدينية للجهاد في فلسطين وعزمه دخولها في عشرة آلاف مقاتل فدائي.. وحين ذاق اليهود بأس أولئك المسلمين بما شهدوا هم به، وبما شهد به قادة الجيش المصري أمام القضاء المصري.. حين كان ذلك تمت طعنة الفدائيين المسلمين من الخلف على يد الحكومة الحاكمة في ذلك الحين؛ فأصدرت قرارا بحل جماعتهم، وقرارا باعتقالهم، وكانت تتمة الخيانة قتل إمامهم في ميدان عام على يد بعض رجال الشرطة السريين..

وفي كلى مرة كان يتم لإسرائيل التوسع؛ في عامي 1965، 1967 كان يتم إدخال العنصر الإسلامي إلى السجون، ولا يمكن أن يكون هذا الأمر مع تكرره في أعوام 48، 55، 66 من قبيل المصادفات السعيدة..

وتكشفت وثيقة تضمنها حكم قضائي صدر في مصر في 30/3/1975 عما كانت تحمله السلطة الحاكمة وقت التوسع من عداء للإسلام والمسلمين وتخطيط للقضاء عليهم.

3-

إقصاء العب الفلسطيني عن المعركة:

منذ ذاق الإنجليز - ومن بعدهم اليهود - بسالة الشعب الفلسطيني، وتضحيته وتصميمه على الدفاع عن وطنه، وإذ عرفوا أنه صاحب المصلحة الأول في الدفاع عن التراب الإسلامي في القدس وفلسطين.. ومنذ ظهر منه أمثال الشهيد (عبد القادر الحسيني) قائد منطقة القدس، والشهيد (حسن سلامه) قائد المنطقة الوسطى؛ فقد قرروا إقصاءه عن المعركة..

ص: 350

وكانت قمة التخطيط والتنفيذ إدخال سبعة جيوش عربية إلى فلسطين؛ لتخوض المعركة مع اليهود "بالنيابة"عن الشعب الفلسطيني..

وسبقها وعاصرها حرمان الشعب الفلسطيني من التدريب، ومن التسليح، وتشكيك الجيوش العربية في أمانة الشعب الفلسطيني، واتهامه بالعمل لحساب العدو اليهودي.

وكنت أعجب كيف لجيش عربي يقوده إنجليزي صريح أن يخوض حرباً لصالح المسلمين وضد اليهود الذين ضمن لهم الإنجليز بالوعد والتخطيط والتنفيذ قيام وطن في فلسطين؟.. وكنت أعجب لجيش آخر.. بل جيوش أخرى في بلاد يحتلها الإنجليز.. كيف سمحوا لها بالمرور إلى فلسطين..

حتى أدركت أن المطلوب هو إقصاء الشعب الفلسطيني عن المعركة.. وفعلا نجحت الخطة..

وأقصى الشعب الفلسطيني عن المعركة.. وسلمت أراضي فلسطين جزءا جزءاً.. من الجيوش العربية الباسلة إلى إسرائيل المزعومة، وبعد أن انتهت حرب فلسطين سنة 1948 كان الشعب الفلسطيني قد تم إقصاؤه حربيا عن المعركة..

وتمّ بعد ذلك إقصاؤه سياسيا عنها..؛ فتحولت القضية أمام الأمم المتحدة إلي نزاع بين دول ذات سيادة.. عربية وإسرائلية.. [7] .

وحين بدت بادرة ظهور العنصر الفلسطيني سنة 1967.. تم حشد القادرين منهم فيما سمي بجيش التحرير الفلسطيني؛ ليتم التهامهم في أول ضربة لليهود في يونيه سنة 1967، وقامت جيوش أخرى بالواجب في القضاء على العنصر الفلسطيني الثائر..

بعضها في مذبحة "أيلول الأسود"التي قتل فيها اثنان وعشرون ألفا على يد جيش عربي..

والبعض الآخر في مذابح تل الزعتر وما قبلها وما بعدها.. وتدخل جيش عربي ليتم النصر ويتوِّجه ويحميه..

ثانيا: الحاضر الأليم في فلسطين:

من الناحية السياسية:

أ- الدولة شعب وإقليم وسيادة:

والشعب الفلسطيني اليوم.. موزّع بين الأقطار، ممزق بين المنظمات والأحزاب.. مما سنزيده تفصيلا عند الكلام عن الناحية الاجتماعية إن شاء الله..

ص: 351

وإقليم فلسطين اليوم.. غير موجود على الخريطة السياسية، وموجود بدلا منه دولة إسرائيل، وهي لم تكتف بأراضي فلسطين.. بل ابتلعت في توسع سنة 1967 الجولان من سوريا، والضفة الغربية من الأردن، وشبه جزيرة سيناء من مصر.. والأراضي التي ابتلعتها في التوسع الأخير أضعاف ما امتلكت من قبل بغير حق..

ولا سيادة لشعب فلسطين على أرض فلسطين.. بل ولا سيادة له في مكان آخر.. والمنظمة التي نشأت في أواخر الستينات.. نشأت إلى جوارها تيارات أخرى.. بل مزقتها من الداخل تيارات مختلفة.. وأشارت أصابع الاتهام إليها في مذبحة أيلول وما لحقها من مذابح.. أنها مهدت، وأحيانا شاركت.. وهى على أي حال قد احتوتها التيارات التي احتوت كثيرا من الأنظمة ومن المنظمات في المنطقة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العد العظيم..

ب- الشرعية للغصب الإسرائيلي تتم باعتراف أصحاب الحق نفسه:

حرصت إسرائيل منذ قيامها - بل ومن قبل قيامها - أن تستر غصبها بشرعية رفضها أصحاب الحق يوم أن قالوا: "إن من لا يملك أعطى من لا يستحق"..

لكنها - بكل أسف- اليوم في دور اعتراف أصحاب الحق نفسه.. ومتى تم ذلك انتفى عن إسرائيل كل ما قيل من اغتصاب وسلب لأرض الإسلام.. ومن هنا كانت الخطورة..

وقد سبق هذه الخطوة تمهيد على النحو التالي:

1-

تمهيد إعلامي: بأن إسرائيل أمر واقع، وأن لا قبل للعرب بدفعها عن فلسطين..

2-

تمهيد حربي: بإحراز بطولة - ولو جزئية - في جانب العرب؛ ليبدو قبول "السلام"من موقع القوة؛ شلا يرفضه الشعب العربي باعتباره استسلاما..

3-

تمهيد اقتصادي: بإحداث خنق اقتصادي للشعب العربي في المنطقة، خصوصا الجزء الذي يتصدر للمعركة

حتى يلوح "السلام"إنقاذا للشعب مما يعانيه..

ص: 352

4-

تمهيد سياسي: وذلك بإحاطة إسرائيل بأنظمة - تعمل لحساب الصهيونية عن قصد أو غير قصد - بتحطيم معنويات الشعوب، وتحطيم قيمهم وأخلاقهم، والتمهيد إعلاميا للاعتراف بالغصب، بل وللتعاون مع الغاصب، وحسبنا أن نعرف أن نظاما ما استطاع يهودي أن يتسلل إليه وتسمى بغير اسمه، وصار يعدل في الوزارة ويبدل، وقد عرضت عليه هو الوزارة؛ فأبى بنصيحة من كبرائه في إسرائيل؛ لأن مكانه أقوى من وزير..

وفي نظام آخر وصل عملاء الصهيونية وأعضاء الماسونية إلى حدّ تسير دفة الحكم، والجلوس على رأسه، وكان من وزرائهم اليهودي، أو من هو متزوج بيهودية، ولا شك أن ذلك كله لم يحدث إلا بعد أن قامت دولة إسرائيل، وارتأى أن الأنظمة (الرجعية) صارت عاجزة عن تحقيق الهدف.. بل هي حجر عثرة في سبيل تحقيق الهدف.. ومن ثم عرفت المنطقة "مودة" الانقلابات العسكرية..

ج- المستقبل السياسي لإسرائيل:

المغفَّلون أو المغفِلون يعتقدون أن إسرائيل بعد الاعتراف بها والصلح معها سوف تقنع بما هي عليه.. وتاريخ الصهيونية وطبيعتها وأهدافها وكتبها.. كل ذلك يأبى عليها ذلك..

وحسبهم أن يقرؤوا التلمود، وأن يقرؤوا البروتوكولات، بل أن ينظروا إلى ما كتب في الكنيست نفسه.. فلم يعد في الأمر عندهم حياء..

وبلغة أصحاب الحق تحدث رئيس إسرائيل في يوم أليم عن أنهم أصحاب حق يستردون أرض الأجداد، وكأن الذين عاشوا عليها أربعة عشر قرنا ليسوا أصحاب حقوق، وتحدث رئيس إسرائيل عن العبقرية اليهودية، وعما يمكن أن تفعله في المنطقة..

ص: 353

ولئن كان حديثه عن الناحية الاقتصادية.. فإني أقدم عليها الناحية السياسية لأقول: إنه إن ظل الوضع المفتوح فبوسع العبقرية اليهودية أن تفعل ما تشاء في المنطقة، ولها أن تحرك الدمىكما ترى، ولها أن تغير الدمى إن ضاقت بها الشعوب أو أحاطتها الشكوك.. ولها أن تمضي في التوسع بعد ذلك غير عابئة بالضمانات؛ فما ضمانات اليوم بأعظم ولا أبقى من وعود الأمس وقراراته..

كل ذلك.. لأن إسرائيل أسقطت من حساباتها حاليا الإسلام وأهله، بعد ما نزل على رءوسهم من ضربات تدوخ وتكسر وتقتل..

لكن عقيدتنا في الله لم تتزعزع، وإيماننا بانتصار الإسلام لم يهن ولن يهون.. {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} .

ثانيا- من الناحية الاجتماعية

أ- شعب تمزق:

مزقته الخلافات قديما وحديثا.

ومزقه التشريد وحياة الخيام.

ومزقه الجوع والعري والمرض.

ب- شعب تحلل:

تحلل فكريا بعدما مزقه تيارات عديدة.. علمانية، شيوعية، وجودية، يهودية.. وتحلل خلقيا بعدما مزقه التشريد والحاجة، وسرى فيه الاختلاط والانحلال.. وتحلل أسريا بعدما تمزقت الأسرة الواحدة بين بلاد وأقطار.. ولم يعد فيها من ينصت إلا لنداء البطن.. وما حوى..

ج- شعب يهود:

- "إن أمام العرب في إسرائيل ثلاث خيارات: أ- اعتناق الدين اليهودي.. ب- الطرد خارج البلاد.. ج- الإبادة التامة..". (ابن جوريون) .

- "سنصل إلى وقت نعرف فيه كيف نمنع من لا يضع القلنسوة اليهودية فوق رأسه أن يعيش بيننا ". (جولدا مائير) .

ص: 354

- "إن فرعون أخطأ ولم يصب الغرض حيث سلك ببني إسرائيل مسلك الإرهاب والتنكيل؛ فانتصروا عليه وسجل التاريخ عليه لعنات ما اقترفه، ولكنه لو أنشأ مدارس وجامعات يغير فيها أفكارهم ويقتلهم قتلا معنويا،، يجعلهم ينحرفون عن هدفهم الأصيل؛ فيعيشون عالة على غيرهم بلا هدف يتفانون في تحصيله؛ لو فعل ذلك لأراح واستراح، ولسجل التاريخ مفخرة خدمة العلم بدلا من لعنات البطش والإرهاب". (الفيلسوف الهندي أكبر اله أبادي) .

ولتحقيق هذه الغاية تمضي برامج الإعلام، ومناهج التعليم لتحقيق هذه الغاية.. ولتحقق هذه الغاية تمضي السياسة الاقتصادية نحو تنمية الحاجة لدى العرب القانطين داخل إسرائيل.. ولهذه الغاية تمضي سياسة "التهجير"و "الاستيطان "، ونزع ملكية العرب المقيمين في فلسطين..

ثالثا: مستقبل فلسطين

الحديث عن المستقبل حديث شائك؛ إذ لا يعلم الغيب إلا الله.. لكن الله سبحانه.. أجاز لنا الإعداد، ذاك قوله:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} .. والإعداد يقتضي "التوقع"بالنسبة للمستقبل، والعمل على أساس من ذلك التوقع.

والله سبحانه وتعالى جعل لنا كذلك "سنناً كونية"تعيننا على ذلك التوقع:

منها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِم} .

ومنها: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} .

ومنها: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} ..

فمن خلال هذا وذاك.. نستطيع بعون الله.. دون رجم بالغيب.. أن نرسم صورة المستقبل من خلال الأحداث، ثم نحاول من خلال الإيمان..

1-

المستقبل من خلال الأحداث: من خلال الأحداث يستطيع المجتهد أن يستنبط ما يلي:

أ- لا مسقبل لفلسطين:

ذاك منطق الأحداث وتوقعاتها.. إن الصهيونية وضعت أقدامها وأنّى لها أن تتزحزح..

ص: 355

وأنها في كل جولة تكسب الجديد، فتنقلب مطالبة العرب بالجديد وتنسى القديم، وهو ما نراه من مطالبة العرب بالجلاء عن الأراضي التي احتلت سنة 1967.. وكأن الاحتلال الذي تمّ قبل سنة 1967 قد صار شرعيا وحقا مقررا لليهود..

وفي الجولة القادمة - إن بقيت الأوضاع على ما هي عليه - تكون أراضى 1967 أمرا شرعيا وحقا مقررا لليهود، وتكون المطالبة بالأراضي التي احتلت بعد ذلك..

والمجتمع الدولي - بتأثير الصهيونية والصليبية العالمية - يضفي الشرعية ويحرسها في كل توسع صهيوني..؛ فالمجتمع الدولي- بالتأثير السابق- هو الذي قسم أرض فلسطين سنة 1947 بين اليهود والعرب.. وكانت من قبل خالصة للعرب وحدهم، ولم يكن لليهود فيها أدنى نصيب.. والمجتمع الدولي هو الذي عاد بعد ذلك يصدر القرار 242 والقرار المعدل؛ ليعترف بفلسطين كلها لليهود وليطالبهم فقط بالجلاء عن الأراضي العربية الأخرى التي احتلتها إسرائيل علاوة على فلسطين سنة1967، وغدا تحتل إسرائيل أراض أخرى فيكون قرار المجتمع الدولي الاعتراف بالأراضي القديمة والمطالبة بالجلاء عن الجديد.

ومثل أخير.. إن القدس المسلمة قبلة المسلمين الأولى وثالث الحرمين فيها.. تعلن أنها عاصمتها وأنها لا تتنازل عنها، وتعلن أمريكا تأييدها لها في ذلك.. وهكذا

ب- المستقبل للصهيونية:

المستقبل للصهيونية إن بقيت الأوضاع على ما هي عليه؛ فالسنن الكونية تعمل في جانب من يعمل، ولا تعمل في جانب من يتقاعد أو يتكاسل أو يتجابن..

وواضح أن الصهيونية تعمل.. مخططة.. ثم منفذة..

وأن العرب والمسلمين.. يتصايحون.. ويكتفون بالصياح.. ويتسابّون فيما بينهم ويتقاتلون كذلك فيما بينهم؛ أشداء على المؤمنين رحماء باليهود، أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين..

والصهيونية.. كما يبين من مخططاتها.. لا تكتفي بفلسطين..

إنما تحلم بالدولة الكبرى من الفرات إلى النيل..

ص: 356

وتحلم من بعدها بسيادة العالم كله..

وخطواتها التنفيذية تؤكد أنها تنقذ ما تحلم به وما تخطط له..

ونجاحها فيما مضى قد يكون دليلا على نجاحها فيما بقي..

وإذن فأرض الكنانة في مصر مهددة.. ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة مهدد كذلك..

هذا كله.. بشرطين:

- أن تبقى أوضاعنا على ما هي عليه..

أن تبقى السنن الكونية تحدث تأثيرها..

لكن حتى يكون.. تقويمنا.. صحيحا لابد من النظرة الأخرى.. فلها نعيش..

2-

المستقبل من خلال الإيمان:

النظرة الإيمانية تختلف كثيرا عن النظرة من خلال الأحداث وحدها، وهى في اختلافها تقوم على أسس مغايرة:

1-

أن الله سبحانه خالقَ السن الكونية قادرٌ على أن يعطلها أو يغيرها، فمن السنن الكونية أن النار تحرق.. لكن إرادة الله حين شاءت.. جعلت النار بردا وسلاما على إبراهيم..

ومن السنن الكونية أن الماء يغرق.. لكن إرادة الله حين شاءت.. فرقت البحر فرقين، {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} ..

2-

إلى جوار السنة الكونية {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ؛ فان مفهوم المخالفة.. أنهم إذا غيروا ما بأنفسهم غير الله ما بهم، مؤكدا قوله:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .

ومن هنا المنطلق..

ومن هنا يبدأ العلاج.. إن كنا نريد عودة فلسطين..

ونضع بعون الله الشروط:

أ- لابد من التغيير؛ من القمة إلى القاعدة.. من الرأس إلى القدم.. لابد من تغيير كلى.. لما بأنفسنا.. حتى يغير الله ما بنا.

ب- لابد أن يكون التغيير على أساس الإسلام..؛ لأن التغيير من غير إسلام.. لا يكون معه نصر الله.. ولا يكون هر التغيير الذي عناه الله..

ص: 357

وقد رأينا أنهم حين أرادوا سلب فلسطين أبعدوا الإسلام عن المعركة، وتمثل ذلك في إنشاء الجامعة العربية (بديلا وامتصاصا للجامعة الإسلامية) ، قبل إعلان دولة اليهود بثلاث سنين..

ثم تمثل دخول الجامعة العربية وجيوشها لتكون حائلا دون تحرك جيوش إسلامية أخرى.. ففيها الغناء والكفاء.

ثم تمثل في التآمر على العناصر الإسلامية التي بدأت خوض المعركة للحيلولة دون نزولها بثقلها إلى المعركة..

وقبل ذلك كله تآمرهم على دولة الخلافة الإسلامية؛ تنفيذا لما قالوه من أن الأفعى اليهودية لابد أن تمر بالآستانة في طريقها إلى إسرائيل..

وعلى ذلك فإذا كانت فلسطين قد استلبت لمّا أبعد الإسلام عن المعركة؛ فإنها لن تعود إلا إذا عاد الإسلام إلى المعركة..

والإسلام فوق ما قدمنا يقدم:

ثقلا عقديا يغير الكيفية التي تدار بها المعركة ويغير نتيجتها..

ثقلا بشريا..؛ ولهذا أثره في استراتيجية الحروب.

ثقلا سياسيا.. بوقوف الدول الإسلامية كلها - بدلا من الدول العربة المحدودة - خلف المعركة.

ثقلا اقتصاديا.. بوقوف الدول الإسلامية - وهى اليوم أغنى دول العالم - خلف المعركة..

ومن قبل ذلك ومن بعد ذلك.. ما أشرنا إليه من نصر الله الذي لا يتنزل إلا على نوعية معينة.. {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ} .. {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ..

آيات في حفظ اللسان

1-

قال الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} .

ص: 358

2-

{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .

3-

{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ..

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

كثر استعمال كملة (الشرعية) على أقلام الكتاب بغير المعنى (الشرعي) ، ولعل من الخير استعمال كلمة (القانونية) بدلا عنها. "المجلة".

[2]

الشرق الأوسط في مشكلات العالم: ص.77-78.

[3]

انطونيوس: تغطية العرب: ص 208، مشار إليه في كتاب (العرب واليهود) للمستشار محمد عبد الرحمن حسين 105.

[4]

يرجع بعض المحققين تاريخ المرحلة الأولى إلى ما قبل ألفي عام، وذلك بتكوين النواة الأولى بالجمعية الماسونية. انظر: ذيل (تعقيب لا تثريب) في هذا العدد - المجلة-.

[5]

راجع البلاغ الكويتية عدد 431، 24 ذي الحجة 1397هـ.

[6]

ترجمة برتوكولات صهيون ص 216-217 محمد خليفه التونسي.

[7]

مقدمة كتاب (تهويد فلسطين) للدكتور إبراهيم أبو الغد ص 13-14.

ص: 359

كيف سلمت الدولة الإسلامية

من تآمر يهود بني قريظة وخيبر عليها

لفضيلة الدكتور جاد محمد أحمد رمضان

رئيس قسم التاريخ بالجامعة الإسلامية

عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يثرب وادع اليهود الذين كانوا من بين سكانها، وعاهدهم وأمنهم على أموالهم ومواليهم، ومنحهم حرية الاعتقاد؛ فمن تبع المسلمين منهم فله ما للمسلمين من الحقوق وعليه ما عليهم من الواجبات.

واشترط عليهم أن يكونوا مع المسلمين على من هاجم المدينة أو حارب أهلها، على أن يتحملوا نفقتهم ما داموا محاربين، كما يتحمل المسلمون الإنفاق على أنفسهم كذلك.

ولكن اليهود - كما هو شأنهم - نقضوا عهدهم وخانوا حلفاءهم، وكان أول من خان وغدر بنو قينقاع؛ فأجلاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن المدينة، وتلاهم في الخيانة والغدر بنو النضير؛ فكان جزاؤهم مثل جزاء من سبقهم.

ولما رأى بنو النضير أنفسهم عاجزين عن منازلة المسلمين في معركة مكشوفة لجئوا إلى التآمر، وراحوا يستعينون بغيرهم من أعداء الإسلام لعلهم ينجحون في الانتقام من النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من المسلمين.

ص: 360

وذهب حيي بن أخطب وسلاّم بن أبي الحقيق ونفر من زعماء بنى النضير ووجوههم إلى مكة؛ لتحريض قريش على مهاجمة المدينة، وقالوا لهم: سنكون معكم عليه حتى نستأصله، وكأنما قريش تشككوا في نية اليهود فترددوا في ممالأتهم على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو عربي مثلهم، أو كأنما تشككوا في أمر دينهم فأرادوا أن يطمئنوا إلى حقيقة أمره، ويوازنوا بينه وبين الإسلام الذي يدعو إلى الوحدانية ومكارم الأخلاق، كما أرادوا أن يتبينوا موقفهم منه صلى الله عليه وسلم، وهل هم على حق في حربهم له أم على باطل؟ فقالوا:"يا معشر يهود إنكم أهل الكتاب الأول والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير أم دينه؟ فدفعهم حب الانتقام والرغبة في إغراء قريش بحربه إلى تمويه الحقائق وتشويهها؛ فقالوا: بل دينكم خير من دينه؛ فأنتم أولى بالحق منه".

وهكذا شهد اليهود هذه الشهادة الفاجرة؛ حيث شهدوا بأن الشرك خير من التوحيد، وأنكروا ما جاءت به التوراة من وحدانية الله والنهي عن الإثم والفواحش؛ فأنزل الله سبحانه وتعالى فيهم قوله جل شأنه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} .

فلما قال اليهود ذلك لقريش سرّهم وحفوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستعدوا لذلك.

ص: 361

تم ذهب هؤلاء النفر إلى غطفان ودعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبروه أن قريشا قد بايعوهم على ذلك، وتعهدوا لزعماء غطفان بأن يعطوهم ثمار خيبر من النخيل سنة إذا تم لهم النصر على المسلمين؛ فاستجابت غطفان بجميع بطونها لهم، ثم أخذوا يحرضون كل من له ثأر عند المسلمين على حربهم حتى بلغ جيش الحلفاء عشرة آلاف مقاتل، وتولى القيادة العامة أبو سفيان بن حرب، وسار الجيش إلى المدينة في شوال لسنة خمس من الهجرة.

ولما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعزم قريش ومن معهم على مهاجمة المدينة أخذ برأي سلمان الفارسي، وأمر بحفر خندق في شمال المدينة، وكانت هي الجهة المكشوفة التي يستطيع العدو أن يدخل منها.

وحفر الخندق وراء جبل سلع، وعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحفر بنفسه، وتم الحفر بغاية السرعة، وكانت جهات المدينة الأخرى حصينة منيعة؛ حيث كانت ظهور بيوتها من ناحية الجنوب متلاصقة عالية كالسور المنيع، وكانت حرة الوبرة ناحية الغرب وحرة داقم ناحية الشرق كالحصن الطبيعي، وكانت آكام بني قريظة في الجنوب الشرقي من المدينة؛ ولا يمكن دخول العدو منها إلا برضى بني قريظة؛ وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد أن لا يمالئوا عليه أحدا ولا يناصروا عليه عدوا.

ص: 362

ووصل الحلفاء إلى المدينة وضربوا عليها الحصار، ووقف الفريقان أما الخندق وجها لوجه: المسلمون على قلة عددهم وضعف عدتهم، والمشركون على كثرتهم وتمام عدتهم، وطال الحصار ولم ينل الأحزاب منالا من المسلمين، وخاف حيي بن أخطب أن تسأم قريش وغطفان طول المقام فيرجعون إلى ديارهم وبذلك تفلت الفرصة من يده، ورأى أن الأحزاب لن يتمكنوا من دخول المدينة إلا من ناحية بني قريظة وكان هؤلاء لا يزالون على عهدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلابد أن يغريهم حيى بنقض العهد حتى يسهلوا للأحزاب مهمة اقتحام المدينة؛ فذهب إلى زعيمهم كعب بن أسد فأغلق كعب دونه باب حصنه؛ فأخذ حيى يحتال عليه حتى فتح له فدخل عليه وقال:"يا كعب إنما جئتك بعز الدهر: جئتك بقريش وسادتها وغطفان وقادتها قد تعاهدوا على أن يستأصلوا محمدا ومن معه"، فقال كعب "جئتني - والله - بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه، ويحك يا حيي دعني فلست بفاعل ما تدعوني إليه؛ فإني لم أر من محمد إلا وفاءا وصدقا"، فلم يزل حيى بكعب حتى اتفق معه على خيانة المسلمين والانضمام إلى الأحزاب.

وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلى بني قريظة سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج في نفر من أصحابه وقال لهم: "انطلقوا إلى بني قريظة؛ فإن كان ما قيل لنا حقا فألحنوا لنا لحنا [1] ولا تفتوا في أعضاء الناس، وإن كان كذبا فاجهروا به للناس".

فانطلق الوفد إلى محلتهم، فوجدهم قد تغيروا عما كانوا عليه ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا:"لا عهد له عندنا"؛ فجعل سعد بن معاذ يدعوهم إلى الوفاء ويحذرهم عاقبة الخيانة والغدر، وكان مما قاله لهم:"أخشى عليكم يوم بني النضير وأمرّ منه"، فردوا عليه ردا قبيحا، وشاتموه وشاتمهم، فقال له سعد بن عبادة:"دع عنك مشاتمتهم فالذي بيننا وبينهم أكثر من ذلك".

ص: 363

ثم رجع الوفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي جمع من المسلمين فأخبروا - بطريق الكناية - أن ما بلغه من غدر بني قريظة صحيح.. وعلى الرغم من تكتم رسول الله صلى الله عليه وسلم للخبر فإنه وصل إلى المسلمين؛ فاشتد البلاء وعظم الخوف وزاد الكرب وكانت حالهم كما وصفها القرآن {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} .

فلما رأى رسول الله ما بالناس من البلاء والكرب جعل يبشرهم ويقول لهم: "والذي نفسي بيده ليفرجن الله عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة، وليهلكن كسرى وقيصر، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله ".

وقد رجع حيى بن أخطب إلى المشركين وأخبرهم بنجاحه في حمل بني قريظة على الغدر بالمسلمين؛ فقويت روحهم المعنوية.

وكان بنو قريظة قد اتفقوا مع حيى بن أخطب أن يعطيهم مهلة عشرة أيام يستعدون فيها على أن تشتد كتائب الأحزاب في مناوشة المسلمين خلال هذه الفترة حتى يشغلوهم عن بني قريظة، وقد اشتد المشركون في مناوشتهم للمسلمين حتى أجهدوهم.

وتهيأ بنو قريظة للإغارة على المدينة ليلا؛ فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فبعث سلمة بن أسلم في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة رجل يحرسون المدينة من جهة بني قريظة، وكان الخوف على من بالمدينة من النساء والأطفال من بني قريظة أشد من الخوف عليها من قريش وغطفان.

ص: 364

وظل الأمر على ذلك بضع عشرة ليلة؛ فتفاوض الني صلى الله عليه وسلم مع زعماء غطفان في أن ينصرفوا عن المدينة على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة، ولم يبت في الأمر حتى يأخذ رأي الأنصار؛ فلما استشارهم في ذلك قالوا: يا رسول الله! أمر تحبه فنصنعه أم شيئا أمرك الله به لابد من العمل به أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: "بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع إلا لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم [2] من كل جانب؛ فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما"، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله! قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنت وذاك"، فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتابة ثم قال: ليجهدوا علينا.

وقد جعل الله سبحانه وتعالى لرسوله وأصحابه من هذه الشدة فرجا ومخرجا؛ فساق إليهم نعيم بن مسعود الأشجعي من غطفان فقال: يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي؛ فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما أنت فينا رجل واحد؛ فخذل عنا إن استطعت؛ فإن الحرب خدعة".

ص: 365

فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة - وكان لهم نديما في الجاهلية - فقال: يا بني قريظة قد عرفتم ودّي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت! لست عندنا بمتهم، فقال: إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم؛ البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، لا تقدرون أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره؛ فليسوا كأنتم فإن رأوا نهزة [3] أصابوها، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم؛ فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا محمدا حتى تناجزوه، فقالوا له: لقد أشرت بالرأي.

ثم خرج حتى أتى قريشا فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش: لقد عرفتم ودي لكم وفراقي محمداً، وإنه قد بلغني أمر قد رأيت علي حقا أن أبلغكموه نصحا لكم؛ فاكتموا عني، فقالوا: نفعل، قال: أتعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه: إنا ندمنا على ما فعلنا؛ فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين: من قريش وغطفان رجالا من أشرافهم فنعطيكهم فتضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم؛ فأرسل إليهم أن نعم؛ فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.

ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان! إنكم أصلي وعشيرتي وأحب الناس إلي، ولا أراكم تتهمونني! قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمتهم، قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذرهم ما حذرهم.

ص: 366

وكان من حسن الحظ أن أرسل أبو سفيان ورءوس غطفان إلى بني قريظة ليلةَ سبتٍ عكرمةَ بن أبي جهل في نفر من قرش وغطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام وقد هلك الخف والحافر؛ فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا ونفرغ مما بيننا وبينه، فأرسل بنو قريظة إليهم: إن غدا يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نتاجز محمدا؛ فإنا نخشى إن ضرستكم الحرب واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا به.

فلما رجعت الرسل إلى قريش وغطفان بما قال بنو قريظة قالوا: والله إن الذي حدثكم به نعيم بن مسعود لحق، وأرسلوا إلى بني قريظة: إنا والله لا ندفع لكم رجلا واحدا من رجالنا؛ فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا قاتلوا، فقال بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق؛ ما يريد القوم إلا أن تقاتلوا فإذا رأوا فرصة انتهزوها وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش وغطغان: إنا والله لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا؛ فأبوا عليهم وخذل الله بينهم، وبعث عليهم الريح في ليالي شاتية باردة شديدة البرد؛ فجعلت تكفأ قدورهم وتقتلع خيامهم؛ فلم يروا بدا من الرحيل عن المدينة ورحلوا عنها.

وهكذا فعلت حيلة نعيم بن مسعود ما لم تفعله الجحافل الكبيرة؛ فشككت كلا من بني قريظة والأحزاب في نوايا بعضهم البعض وحالت بينهم وبين الاتفاق على خطة موحدة يقتحمون بها المدينة ويقضون بها قضاءا مبرما على الدولة الإسلامية الناشئة.

ص: 367

إنها رحمة من الله سبحانه وتعالى أن ساق للمسلمين - في أحرج الظروف - نعيم بن مسعود، وإلهام منه جلّ شأنه لنعيم حيث وفقه إلى حيلة فرقت كلمة اليهود والمشركين وأوهنت عزيمتهم، ونجّت المسلمين من شرهم، {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً، وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً، وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} .

لم يكن هناك أي سبب يدفع بني قريظة إلى خيانة المسلمين والغدر بهم إلا الحقد الكامن في نفوس اليهود؛ فقد حافظ المسلمون على عهدهم لبني قريظة ولم يقدموا إليهم أي إساءة ولم تبدر منهم أي بادرة تدل على عدم الوفاء لهم؛ يشهد لذلك رد كعب بن أسد سيدهم على حيى بن أخطب حينما أغراه بنقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول له: ويحك يا حيى دعني! فلست بفاعل ما تدعوني إليه؛ فإني لم أر من محمد إلا وفاءا وصدقا.

فلو كان المسلمون قد حادوا قيد أنملة عن الوفاء لبني قريظة لكان لهم بعض العار أن يغدروا بهم وينحازوا إلى عدوهم، أما وقد وفوا لهم أكمل الوفاء وحافظوا على عهد أتم المحافظة فما كان ينبغي لهم أن يغدروا بهم في أحرج الأوقات وأشد الأزمات غدرا كان فيه فناؤهم والقضاء على دعوتهم وإبادة دولتهم، مع أن نصوص العهد كانت تلزمهم بالدفاع عن المدينة مع المسلمين جنبا إلى جنب؛ لحمايتها من المغيرين وعدوان المعتدين، لا أن يتعاونوا مع الأعداء على اقتحامها ويساعدوهم على الفتك بأهلها.

ص: 368

إن موقف بني قريظة من المسلمين كان موقف نقض فاجر للعهد وغدر دنيء بمن وفوا لهم وخيانة آثمة لمن إئتمنوهم؛ حتى لقد استنكره بعض عقلاءهم في حوار لهم مع حيى بن أخطب حيث قالوا: إذا لم تنصروا محمدا فدعوه وعدوه، لكن الأغلبية الغالبة منهم استجابت لوسوسته وطعنت المسلمين من خلفهم طعنة كادت أن تؤدي بكيانهم وتمحوا دعوتهم.

فما الذي كان ينبغي أن يقابل به الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الغدر وهذه الخيانة من جانب بني قريظة، إنه لم يكن من المعقول أن يترك هؤلاء يعيثون في المدينة فسادا أكثر مما عاثوا، ومن يُدري النبي عليه الصلاة والسلام أنهم لن يحاولوا إثارة الأعداء على المسلمين مرة أخرى، ويدعوهم إلى مهاجمة المدينة في غير فصل الشتاء الذي كان له بعض الأثر في تقصير أمد حصارها وإحباط الخطة التي دبروها لاقتحامها؟! كان لابد أن يحاسب النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة على ما اقترفوه من جرم وارتكبوه من إثم؛ فلم تمض ساعات على جلاء الأحزاب عن المدينة حتى أمر أصحابه بالتوجه إلى حصونهم في الجنوب الشرقي المدينة، ودفع اللواء إلى علي بن أبي طالب وأمره أن يتقدم بين يديه إلى بني قريظة في نفر من المهاجرين والأنصار؛ فأساء اليهود استقبالهم وأخذوا يشتمون رسول الله وأزواجه فلم يردّ عليهم المسلمون بأكثر من قولهم: السيف بيننا وبينكم.

ثم ركب صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه - إلى بنى قريظة؛ فأدركوا من كان هناك من المسلمين، فلما رأى اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم تحصنوا بحصونهم؛ فحاصرهم الرسول والمسلمون خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب؛ فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه أن يخرجوا بنسائهم وأبنائهم وما حملت الإبل من أموالهم كما خرجت بنو النضير؛ فأبى عليهم ذلك فأرسلوا إليه أن يخرجوا بنسائهم وأبنائهم بلا مال ولا سلاح فأبى صلى الله عليه وسلم إلاّ أن ينزلوا على حكمه.

ص: 369

وأشار عليهم زعيمهم كعب بن أسد أن يدخلوا في الإسلام، وذكرهم بما عندهم من العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلم يقبلوا مشورته فأشار عليهم أن يخرجوا ليلة السبت والمسلمون آمنون فيبيتوهم؛ فقالوا: لا نحل السبت، ولم يتفقوا على رأي.

ولما اشتد الحصار عليهم أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أن أبعث أبا لبابة لنستشيره في أمرنا، فأرسله إليهم.

وأبو لبابة هو رفاعة بن عبد المنذر الأوسي الأنصاري، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس.

فلما رأوه قام إليه الرجال وأجهش له النساء والأطفال بالبكاء؛ فرقّ لهم وقالوا له: يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال: نعم، وأشار بيده إلى حلقة؛ يشير بذلك إلى أنهم إن نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم سيذبحون، قال أبو لبابة: فوالله ما زالت قدماي عن مكانها حتى عرفت أني قد خنت الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه، ولم يأت رسول الله وذهب إلى المسجد وربط نفسه إلى عمود من عمده، وقال: لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله على ما صنعت، وعاهد الله ألا يدخل محلة بنى قريظة أبدا ولا يرى في بلد خان الله ورسوله فيه أبدا.

ص: 370

فلما بلغ رسول الله خبره - وكان قد استبطأه - قال: "أما أنه لو جاءني لاستغفرت له؛ فإذا قد فعل ما فعل فما أنا بالذي يطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه"، ومكث أبو لبابة ست ليال لا يذوق طعاما ولا شرابا، وكانت امرأته تأتيه في كل وقت صلاة فتحله حتى يصلى، ثم تربطه إلى عمود المسجد كما كان، حتى خرّ مغشيا عليه وقد أنزل الله سبحانه وتعالى توبته على رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله جل بشأنه:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فأقبل الناس على أبي لبابة يبشرونه بتوبة الله عليه، وأرادوا أن يحلوه فأبى حتى يكون رسول الله هو الذي يحله بنفسه؛ فلما ذهب الرسول إلى المسجد حله، فقال يا رسول الله: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي.. فقال صلى الله عليه وسلم:"يجزيك الثلث أن تتصدق به".

أما بنو قريظة فقد نزلوا حكم رسول الله؛ فشفع فيهم الأوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالى إخواننا بالأمس ما قد علمت، يشيرون إلى معاملة رسول الله لبنى قينقاع وبني النضير؛ فقال رسول الله صلى الله وسلم "ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم"؟.. قالوا: بلى، قال رسول الله:"فذاك إلى سعد بن معاذ".

ص: 371

وكان سعد قد أصيب في ذراعه بسهم وقت حصار المدينة فقع أحد عروقه؛ فنقل إلى خيمة امرأة تدعى (رفيدة) ، كانت لها خيمة في المسجد تداوي بها جرحى الصحابة احتسابا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يعوده، فلما حكمه في بني قريظة أتاه رجال من الأوس حملوه على حمار فقدموا به إلى رسول الله وأخذوا يقولون له في أثناء سيرهم: يا أبا عمرو! أحسن في مواليك؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال: لقد آن لسعد ألاّ تأخذه في الله لومة لائم.

ولما انتهى سعد إلى مجلس رسول الله قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: "قوموا لسيدكم"، فقاموا إليه وقالوا له: يا أبا عمرو! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن أحكم فيهم بما حكمت، قالوا: نعم، ثم التفت إلى الناحية التي فيها رسول الله وهو خافض الطرف إجلالا للرسول وقال: وعلى من هنا، قال رسول الله: نعم، ثم قال سعد لبنى قريظة: أترضون بحكمي؟ قالوا: نعم، فأخذ عليهم عهد الله وميثاقه أن الحكم ما حكم به، ثم قال: إني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذرارى والنساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد:"لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات".

ثم خرج رسول الله إلى سوق المدينة وأمر أن تحفر فيها خنادق، ثم أمر بإحضار رجال بنى قريظة، فجيء أرسالا، فضربت أعناقهم ودفنوا في الخنادق، ولما جاء دور حيى بن أخطب - وكان قد دخل مع بنى قريظة حصونهم - نظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"ألم يمكن الله منك يا عدو الله"، قال: بلى أبى الله إلا أن يمكنك منى، والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله؛ كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بنى إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه.

ص: 372

وقد اختلف المؤرخون في تقدير عدد من قتل من بنى قريظة؛ فمنهم من قدرهم بأربعمائة، ومنهم من قدرهم ما بين الستمائة والسبعمائة، ومنهم من قدرهم ما بين الثمانمائة والتسعمائة، وقد أسلم من بني قريظة ثلاثة رجال؛ فأمنهم رسول الله على أنفسهم وأهليهم وأموالهم.

وأمر رسول الله بالذرارى والنساء فنقلوا إلى المدينة، وأمر بالسلاح والأموال فحملت إليها، أما الإبل والغنم فتركت حيث هي ترعى في المراعى، ثم قسم الأموال والنساء والذراري على المسلمين، ولم يفرق في القسم ولا في البيع بين النساء والذرية، وقال:"لا يفرق بين الأم وولدها حتى يبلغوا"، وأرسل بعض السبايا إلى نجد والشام؛ فبيع واشترى بثمنه سلاح وخيل للمسلمين.

لقد جرّ بنو قريظة أنفسهم إلى هذا الحكم الذي حلّ بهم؛ فأودى بحياة رجالهم وسلبت نسائهم وأولادهم نعمة الحرية، ولو أنهم ثبتوا على عهدهم لما أصابهم ما أصابهم، ولظلوا آمنين في ديارهم، لكنها الأحقاد تدفع الناس إلى الهلاك وتسوقهم إلى الفناء.

إن الجزاء الذي حل ببني قريظة من جنس عملهم؛ فلو قدر للأحزاب أن ينجحوا في اقتحام المدينة لصار المسلمون إلى هذا المصير الذي صار بنو قريظة إليه، وهل كان في وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعاملهم كما عامل بني قينقاع وبنى النضير من قبل؛ فيكتفي بإبعادهم عن المدينة كما أبعد أولئك؟ لا! لم يكن في إمكانه ذلك لأن التجربة أثبتت أن الإبعاد لا يكفي؛ فقد يجيّشون الجيوش ويستعدون القبائل على الرسول وأصحابه كما حدث في المرة السابقة.

ص: 373

ثم إن طبيعة الجريمة التي اقترفها بنو قريظة تختلف عن جريمة كل من بنى قينقاع وبنى النضير؛ نعم إن الجرائم كلها جرائم خيانة وغدر لا مبرر لها، غير أن جريمة بنى قريظة كانت أشد خطرا من الجريمتين السابقتين؛ لأن المسلمين كانوا في كل منها في حال تمكنهم من الدفاع عن أنفسهم، أما موقفهم وقت جريمة بنى قريظة فقد كان محفوفا بالخطر من جراء الحصار المحكم الذي ضربه الأحزاب حول المدينة؛ فلم يكن في إمكانهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ولولا عطف الله بهم لأبيدوا عن آخرهم.

لذلك لم يكن في الإمكان الإبقاء على هؤلاء؛ حتى يرسموا خطة أحكم ويدبروا مكيدة أنكى يقضون بها على دولة الإسلام، ويفتنون الناس عن دينهم ويعيدونها جاهلية كما كانت قبل ظهور النبي عليه الصلاة والسلام.

لقد كان في وسع هؤلاء الذين عرضوا أنفسهم للقتل، وأسلموا نسائهم وأولادهم للسبي، وعرضوا أموالهم للضياع؛ كان في وسعهم ألا يتعرضوا لما تعرضوا له لو أنهم أسلموا كما أسلم الثلاثة من منهم؛ فأمنهم الرسول عليه الصلاة والسلام على أنفسهم وأموالهم وأولادهم، لكنه الغي المودى بأهله في النار والعناد المفضي بأصحابه إلى الدمار.

ليتهم ثابوا إلى رشدهم كما ثاب هؤلاء الثلاثة، وأقلعوا عن غيهم كما أقلعوا، وتخلّوا عن عنادهم كما تخلوا؛ إذن لعصموا دماءهم وأموالهم من رسول الله، وكان أجرهم على الله، ولما عرّضوا نساهم وأولادهم للرق وساقوهم إلى الذل وأسلموهم للهوان أبد الدهر.

إن قوانين الحرب وقوانين السلم على السواء تقرّ ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ببني قريظة؛ لأنه عقاب عادل وإجراء وقائي سليم لحماية المسلمين من شرهم ووقايتهم من كيدهم، حتى يتمكنوا من نشر دعوة الحق وإقرار الأمن والسلام على ربوع الأرض، وإزالة الفحشاء والمنكر من جميع أصقاعها.

ص: 374

إن المسؤول الأول عما أصاب هؤلاء التعساء من كوارث، وما حلّ بهم من نكبات هو حيى بن أخطب؛ فهو الذي زين لهم الخيانة وأغراهم بالنكث وحملهم على الغدر، ولا يعفيه من المسؤولية أنه قتل معهم؛ فهو سبب هلاكهم ومعول خرابهم، كما أنه تسبب في إساءتهم الظن بمن بعده من اليهود.

هذا ما صرح به سلاّم بن مشكم أحد بنى النضير عندما بلغه خبر بنى قريظة، حيث قال: هذا كله عمل حيى بن اخطب، لا قامت يهودية بالحجاز أبدا.

وما تنبأ به كعب بن أسد حينما دق عليه حيى بن أخطب بابه يغريه بنقض العهد؛ فأجاب: ويحك يا حيى! إنك امرؤ مشئوم؛ جئتني والله بذل الدهر وبجهام لا غيث فيه.

ومهما يكن فقد قضت هذه الغزوة القضاء الأخير على قبائل اليهود في المدينة، وحرمت المنافقين من حليف كان يؤازرهم في الإساءة إلى المسلمين؛ فكسرت شوكتهم وخفت حدتهم وقل خطرهم، وقوي جانب المسلمين بما خلفه لهم بنو قريظة من أدوات القتال، واستغنوا بما امتلكوه بعدهم من أموال؛ فتمكنوا من توسيع أفق الدعوة الإسلامية، ونشطوا لنشر النور والهداية بين البرية.

غزوة خيبر

تقع خيبر في شمال المدينة على بعد مائة ميل منها، وهى واحة كبيرة خصبة، بها نخل كثير ومزارع واسعة وحصون عالية مقامة بين النخيل والحقول، على مرتفعات من الأرض تزيدها حصانة ومناعة؛ لذلك ظن اليهود أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يستطيع غزوها.

وقد اتخذها اليهود وكرا لهم بعد غزوة بنى قريظة؛ يدبرون منه المكائد ويحيكون المؤامرات ويوجهون الدسائس إلى قبائل العرب يحرضونهم على حرب المسلمين؛ يدفعهم إلى ذلك الحقد المتأصل في نفوسهم للنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، والغل في قلوبهم للإسلام والمسلمين، وغريزة الأخذ بالثأر لمن قتل من بنى قريظة.

ص: 375

ولم يعتبر أهلها بما حلّ بمن سبقهم من ذل وما نزل بساحتهم من كرب وغم، ولم يزدجروا بما أصابهم من قتل وفناء؛ لأن عداوة الرسول ودعوته كانت نزعة سيطرت على مشاعرهم وفكرة تمكنت من عقولهم؛ فلم يقبلوا أن يعيشوا في وئام وسلام مع المسلمين، وتواصى سادتهم وزعماؤهم على الكيد للإسلام والتنكيل بالمسلمين، وكان دستورهم في ذلك ما قاله زعيمهم حيى بن أخطب حين سئل عن موقفه من رسول الله حين وصوله إلى المدينة: عداوته والله مما بقيت.

وقد بذل حيي كل ما يستطيع من الكيد للإسلام ولبني الإسلام، ولكنه لم ينل ما أراد، وحاق به أشد العقاب مع من استجاب له من بنى قريظة، فقاد بعده حملة الكيد أبو رافع سلام بن أبي الحقيق، وبذل ماله واستخدم نفوذه ليكوّن حلفا ضد المسلمين؛ فلم تتحقق أمنيته، ولما لقي مصرعه حمل الراية بعده أسير بن رزام؛ فاتبع خطواته وتفاوض مع غطفان ليتحالف معهم ضد المسلمين.

ص: 376

وهكذا كانت حياة اليهود مع المسلمين سلسلة من الأحقاد والضغائن لا تنقطع، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشأ أن يجاري اليهود في عداوتهم، وكان يحاول مخلصا أن يصلح ما بينه وبينهم؛ فلما علم أن أسير بن رزام يعدّ لحرب المسلمين أرسل إليه يدعوه إلى السلم والموادعة، لعله يثوب إلى رشده ويرجع إلى صوابه فيجنب قومه ويلات الحرب وما تجره من الخراب والدمار، وكان الوفد الذي بعثه إليه مكونا من ثلاثين رجلا من الأنصار بزعامة عبد الله بن رواحة؛ فلما قدموا خيبر دخلوا عليه وقالوا له: هل نحن آمنون حتى نعرض عليك ما جئنا له؟.. قال: نعم! ولي منكم مثل ذلك، قالوا: نعم، ثم عرضوا عليه أن يترك ما عزم عليه من حرب، وأن يقدم إلى رسول الله ليحالفه ويوليه خيبر، ويعيش أهلها في سلام مع المسلمين؛ فاستجاب لذلك أول الأمر وخرج مع المسلمين في ثلاثين رجلا من اليهود متجها إلى المدينة، ولما قطع مرحلة من الطريق ندم على خروجه وهمّ بالغدر بمن معه من المسلمين، وأهوى إلى سيف عبد الله بن رواحة يريد أن ينتزعه منه ليقتله؛ ففطن لذلك عبد الله وقال له: أغدرا يا عدوّ الله؟ تم نزل فضربه بالسيف ضربة أطاحت فخذه بساقه فسقط عن بعيره، ولم يلبث أن هلك، ومال المسلمون على من كان معه من اليهود فقتلوهم.

وخلفه في زعامة خيبر سلام بن مشكم؛ فكان رأيه كرأي سلفه في معاداة المسلمين والتأهب لحربهم؛ وهكذا ظلت فكرة الغدر مبيتة عند اليهود.

فلما عقدت هدنة الحديبية بين رسول الله وبين قريش وأمن كل منهما جانب الآخر يئس اليهود من محالفة العرب ضدّ المسلمين، وأحسوا بالخطر يتهددهم؛ فبادروا إلى تأليف حلف منهم يجمع خيبر ووادي القرى وتيماء، وعزموا على مهاجمة المدينة.

بلغ رسول الله ما اعتزمه اليهود فقرّر أن يفاجئهم قبل أن يباغتوه.

ص: 377

ويقول بعض الرواة إن عبد الله بن أبي أرسل إليهم بما يعتزمه النبي صلى الله عليه وسلم من حربهم؛ فأعدوا عدتهم لصدّه وأدخلوا أموالهم وعيالهم في حصون (الكتيبة) ، وحشدوا المقاتلين في حصون (النطاة) .

وكانت بلاد خيبر مقسمة إلى ثلاث مناطق حربية، في كل منطقة عدة حصون منيعة:

الأولى: منطقة النطاة، وأهمّ حصونها حصن ناعم وحصن الصعب بن معاذ وحصن الزبير.

والثانية: منطقة الشق، وأهمّ حصونها حصن أبي وحصن البريء.

والثالثة: منطقة الكتيبة وأهم حصونها حصن الوطيح وحصن السلالم وحصن القموص.

وكان يهود خيبر أقوى الطوائف الإسرائيلية وأكثرها سلاحا وأوفرها مالا، لكنهم - ككل اليهود - يغلب عليهم الجبن ولا يجرؤن على القتال في الميادين المكشوفة ولا يحاربون إلاّ أمام حصونهم، حتى إذا انهزموا تسللوا إلى الداخل وأغلقوا عليهم.

وقد عرف الرسول فيهم هذه الطبيعة فأعد للأمر عدته، واتجه عليه الصلاة والسلام إلى خيبر في المحرم من السنة السابعة على رأس ألف وستمائة من المسلمين، بينهم مائتان من الفرسان، وجدّ في السير حتى قطع المسافة بينها وبين المدينة في ثلاثة أيام ووصل إليها في فجر اليوم الرابع، ونزل بوادي يسمى (الرجيع) على طريق غطفان؛ ليحول بينهم وبين إمداد أهل خيبر؛ لأنهم كانوا محالفين لهم.

وعسكر النبي عليه الصلاة والسلام قريبا من حصون النطاة، فقال له الحباب بن المنذر: إن أهل النطاة ليس قوم أبعد منهم مدى ولا أعدل منهم رمية، وهم مرتفعون علينا وهو أسرع لانحطاط رميهم، ولا نأمن بياتهم يدخلون في ممر النخيل؛ فتحول يا سول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشرت بالرأي، وتحوّل إلى مكان بعيد عن مدى النبل فعسكر به.

ص: 378

ولم يكن أهل خيبر يتوقعون وصول السلمين بهذه السرعة فباتوا ليلتهم آمنين مطمئنين، حتى إذا كان الصبح خرج العمال إلى الحقول كعادتهم ومعهم مساحيهم ومكاتلهم؛ فلم يرعهم إلاّ المسلمون وقد نزلوا بساحتهم؛ فارتدوا على أعقابهم يصيحون: محمد والخميس! محمد والخميس! ينذرون قومهم بالخطر الداهم والهلاك المحقق، ورأى رسول الله أن يزيد القوم فزعا ويملأ قلوبهم رعبا؛ فرفع صوته مكبرا:"الله أكبر خربت خيبر؛ إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين"، وردّد أصحابه التكبير؛ فدوى صوتهم في الفضاء وتردد صداه فملأ الجو رهبة ورعبا.

واستيقظ أهل خيبر على هذا الصوت فزعين؛ فأسقط في أيدهم ورأوا ألاّ مفر من القتال أو التسليم، وعزّ عليهم أن يسلموا بسهولة فآثروا الدفاع، ولما كانوا - كغيرهم من اليهود - جبناء بطبيعتهم اعتصموا بحصونهم، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} .

ولما كان حبّ المال غالبا على اليهود، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم من هذه الناحية؛ فهددهم بإتلاف أموالهم وأمر أصحابه بقطع النخيل، وهاجم حصن ناعم الذي احتشد فيه المقاتلون تحت قيادة زعيمهم سلام بن مشكم.

وشدد المسلمون الهجوم على الحصن، واستمات اليهود في الدفاع عنه؛ كلما اقترب المسلمون منه ارتدوا إلى داخله ورموهم بالنبل من فوق أسواره، واستمر الحال على ذلك سبعة أيام، في كل يوم يعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء لواحد من أصحابه؛ فيظل طول يومه يقاتل ثم يرجع دون أن يتمكن من اقتحامه، حتى فتحه الله سبحانه وتعالى على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ص: 379

وفي أثناء حصار هذا الحصن استشهد محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رضى من فوق جدار الحصن وهو يستظل بظله في يوم شديد الحرّ، وفي أثنائه أيضا توفي سلام بن مشكم زعيم اليهود وقائدهم، وخلفه في الزعامة والقيادة الحارث بن أبي زينب.

احتشد اليهود بعد سقوط حصن ناعم بحصن الصعب بن معاذ الذي يليه؛ فاعتصموا به وقاتلوا المسلمين قتالا عنيفا، وحملوا عليهم حملة شديدة فتقهقر المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله وهو واقف قد نزل عن فرسه، وثبت الحباب بن المنذر رضي الله عنه، فحضهم رسول الله على الجهاد؛ فعادوا إلى الحصن وزحف بهم الحباب بن المنذر فتقهقر اليهود حتى دخلوا الحصن وأغلقوه عليهم، وشدد المسلمون الحملة حتى فتحوا الحصن بعد أن قتلوا عددا من اليهود وأسروا عددا.

وقد وجد المسلمون في ذلك الحصن شيئا كثيرا من التمر والشعير والسمن والزيت والعسل والمتاع، وكانوا قد أصابتهم مجاعة شديدة حتى أكلوا لحوم الخيل، وخشي رسول الله على المسلمين أن تشغلهم الغنيمة عن القتال فأمر مناديا ينادى في الناس:"أن كلوا واعلفوا ولا تحملوا".

وقد وجد المسلمون في سرداب تحت الأرض بذلك الحصن مجانيق ودبابات ودروعا وسيوفا وشيئا كثيرا من أدوات الحرب؛ دلّهم عليها أسير يهودي فأفادتهم في افتتاح بقية حصون خيبر.

ثم تقهقر اليهود إلى حصن الزبير، وهو حصن منيع مبني على قمة عالية؛ فحاصره المسلمون ثلاثة أيام واليهود معتصمون به يدافعون من فوق أسواره؛ فاستعصى على المسلمين فتحه حتى علم رسول الله أن مَن بالحصن يستقون من جدول وراءه؛ فأمر بسد الجدول عنهم؛ فلما قطع عنهم الماء خرجوا من الحصن وقاتلوا المسلمين قتالا شديدا حتى قتل نفر منهم، وقتل من اليهود عشرة، ثم فتحه الله على المسلمين.

وبسقوط هذا الحصن تم للمسلمين فتح منطقة النطاة.

ص: 380

وفرّ اليهود إلى منطقة الشق؛ فاعتصموا بأول حصونها، وهو حصن أُبَيّ على جبل يسمى (شمران) ؛ فشدد المسلمون عليه الحصار، واشتبكوا مع اليهود اشتباكا عنيفا، ثم حملوا على الحصن حملة صادقة بقيادة أبي دجانة الأنصاري حتى فتحوه.

وهرب من به من اليهود؛ فاقتحموا الجدر إلى حصن البريء وتحصنوا به، وزحف رسول الله إليهم بأصحابه، وكان المعتصمون في ذلك الحصن أمهر أهل الشق في رماية النبل والحجارة، وقد واصلوا الرمي حتى أصاب النبل ثياب رسول الله وعلق بها؛ فأمر صلى الله عليه وسلم أن ينصب عليه المنجنيق؛ فوقع الرعب في قلوب أهله فتركوه وهربوا، وبذلك سقطت منطقة الشق، كما سقطت من قبل منطقة النطاة.

تقهقر اليهود بعد ذلك إلى منطقة الكتبة، وتحصنوا فيها بحصن بني الحقيق، ويسمى حصن القموص، وهو من الحصون المنيعة، وكان به نساء بني الحقيق؛ فحاصره المسلمون عشرين ليلة، ثم فتحه الله على يد على بن أبي طالب كرم الله وجهه.

وقد سبي من هذا الحصن عدد من النساء والذراري من بينهم السيدة صفية بنت حيي بي أخطب، وقد اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين السبايا؛ فأعتقها وتزوجها؛ فشرفها الله بهذا الزواج وكانت من أمهات المؤمنين.

تم انتهى المسلمون إلى حصن الوطيح والسلالم، وهما آخر حصون خيبر؛ فحاصرهما رسول الله بضع عشرة ليلة فلما أحس من بهما من اليهود بعجزهم عن المقاومة وأيقنوا بالهلاك إن اقتحمها المسلمون عليهم؛ لما أحسوا بذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستسلموا على أن تحقن دماؤهم، ونزل كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق؛ فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يحقن دماء من في حصونهم من المقاتلين ويترك لهم الذرية يخرجون بها من خيبر تاركين أرضهم ومالهم وخيلهم وسلاحهم لرسول الله؛ فقال لهم صلى الله عليه وسلم:"وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتوني شيئا".

ص: 381

وبتسليم حصني الوطيح والسلالم انتهت مقاومة أهل خيبر وسقطت خيبر كلها في أيدي المسلمين، وغنموا ما كان فيها من الأموال والأسلحة وآلات الحرب.

عزّ على أهل خيبر أن يهاجروا من وطنهم؛ فرجوا رسول الله أن يسمح لهم بالبقاء في بلدهم، وأن يقوموا بزراعة الأرض على أن يكون لهم نصف ثمارها وللمسلمين نصفها، وقالوا له: نحن أعلم بها منكم وأعمر لها؛ فصالحهم رسول الله على المناصفة.

ولما بلغ أهل (فدك) خبر الصلح بين الرسول وبين أهل خيبر عدلوا عما كانوا يعتزمونه من حرب المسلمين، وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصالحوه على ما صالح عليه أهل خيبر؛ فأجابهم إلى ذلك، وعقد الصلح بينهم وبين رسول الله من غير حرب؛ فكانت (فدك) خالصة لرسول الله؛ لأنها أخذت صلحا من غير حرب، أما خيبر فإنها كانت غنيمة للمسلمين؛ لأنهم فتحوها عنوة.

ثم توجه النبي في أصحابه إلى وادي القرى؛ فحاصرها حتى استسلم أهلها وأذعنوا للصلح؛ فصالحهم صلى الله عليه وسلم على مثل ما صالح عليه أهل خيبر، وبادر أهل (تيماء) فأعلنوا قبولهم لدفع الجزية من غير حرب ولا حصار.

وبهذا تم إخضاع جميع اليهود في جزيرة العرب وانتهى سلطانهم، ولم تعد لهم أي قوة ولا نفوذ، وأصبح المسلمون آمنين من جهة الشمال إلى حدود الشام، كما غدوا – بعد صلح الحديبية - آمنين من ناحية الجنوب إلى حدود اليمن.

ص: 382

على أن خضوع اليهود لم يتم مرة واحدة بعد هزيمتهم أمام المسلمين، بل كانت نفوسهم تنطوي على حقد شديد للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإنما اضطرهم إلى الخضوع عجزهم عن المقاومة؛ فهذه زينب بنت الحارث - امرأة سلام بن مشكم - أهدت شاة مسممة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد توقيع الصلح بينه وبين أهل خيبر واطمئنانه إليهم؛ فلما جلس هو وأصحابه ليأكلوها أخذ قطعة من ذراعها ولاكها؛ فلم يسغها فلفظها وقال:"إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم"، وكان بشر بن البراء قد تناول منها قطعة فساغها وازدردها؛ فدعا رسول الله بزينب فجاءت واعترفت وقالت:"لقد بلغت من قومي ما لم يخف عليك؛ فقلت إن كان ملكا استرحت منه وإن كان نبيا فسيخبر، ومات بشر من أكلته هذه".

وقد اختلف الرواة في شأن زينب؛ فقال أكثرهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنها والتمس لها العذر على فعلتها؛ لتأثرها بما أصاب زوجها، وذكر بعضهم أنها قتلت في بشر الذي مات مسموما.

ويغلب على الظن صحة الرواية الأولى؛ لأنها تتفق وما عرف عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبول العذر، خصوصا من الضعفاء والرأفة بهم، ومن حبه للعفو إيثارا للسكينة والسلام، وتحرجا من سفك الدماء، واختيار أكثر الرواة لها.

وبمضي الزمن استسلم اليهود شيئا فشيئا، واعتادوا الخضوع والانقياد لحكم المسلمين الذين تركوهم على يهوديتهم وأباحوا لهم أداء شعائرهم، ولم يحاولوا أن يردوهم عن دينهم أو أن يتدخلوا في شؤونهم الخاصة، ولم يتعرضوا لحريتهم الشخصية، وحكموهم حكما عادلا نزيها.

ص: 383

وقد خمّس الرسول صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر؛ فقسم أربعة أخماسها بين المجاهدين، وأعطى جميع من حضر الحديبية سواء حضر خيبر أم لم يحضرها، وأعطى من خمسه ما أراه الله؛ فأعطى أهله رجالا ونساء من بني عبد المطلب، وأعطى اليتيم والفقير والمسكين وابن السبيل، وقد أعطى من شهد خيبر من النساء والعبيد شيئا من الغنيمة ولم يسهم لهم.

هذا عرض موجز لموقف اليهود من النبي صلى الله علب وسلم ودعوته والمسلمين، يتبين منه أن اليهود كانوا دائما هم البادئين بالشر؛ فقد كانوا يصدون عن سبيل الله ويتربصون بالمسلمين الدوائر، ويحرضون المشركين عليهم ويحالفونهم ضدهم، ولم يحافظوا على عهدهم مع الرسول ولم يرعوا ما بينهم وبين المسلمين من حقوق الجوار.

فلم يكن رسول الله إذن متعديا عليهم، بل كان يدافع عن نفسه وأتباع دعوته أذى قوم أكل الحسد قلوبهم وأعمى الحقد أبصارهم؛ فدأبوا على الكيد للإسلام والمسلمين، ولم يكن النبي عليه الصلاة والسلام طامعا في أموالهم كما يزعم كثير من المستشرقين، أمثال مرجليوث وغيره، الذين يزعمون أن المسلمين إنما غزوا خيبر طمعا في الحصول على ما فيها من الغنائم، وأن الحجة التي تذرعوا بها هي أن أهلها ليسوا على الإسلام.

ص: 384

إن الذي دفع مرجليوث ومن هو على شاكلته من المستشرقين إلى هذه المغالطة المفضوحة إنما هو التعصب الأعمى والحقد المجنون على الإسلام وبني الإسلام، وإنا لنعجب لهذا الأسلوب الذي اتبعه مرجليوث ومن لفّ لفه من المستشرقين في فهم الأحداث التاريخية؛ فإذا روى المؤرخون أن علي بن أبي طالب قبض على أحد يهود (فدك) ؛ فاعترف له بأنه مبعوث من قبل أهلها إلى خبير يعرض على أهلها معونة فدك على مهاجمة المدينة على أن يجعلوا لهم جزءا من ثمار خيبر؛ إذا قيل لهم ذلك شكوا واتهموا المؤرخين بتزييف الحقائق؛ لأن ذلك سيبطل دعواهم ويدحض حجتهم في اتهام النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه بالإغارة على اليهود لسلب أموالهم.

وإذا ذكر المؤرخون الأسباب الحقيقية لكل عزوة غزاها المسلمون، والدوافع الواقعية لكل عقاب أنزله الرسول عليه الصلاة والسلام بأعداء دعوته، ورووا وقائع ثابتة تدل على وفائه بعهوده وحرصه على المسالمة وكراهية لسفك الدماء ومحافظته على حقوق الحوار؛ وإذا سمعوا ذلك كله وضعوا أصابعهم في آذانهم وأصروا على اتهامهم للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه قد غير سياسته: سياسة المسالمة لليهود التي أعلنها في أيامه الأولى عقب هجرته إلى المدينة.

ويكفي للرد على ما زعمه مرجليوث وغيره من متعصبي المستشرقين من أن المسلمين لم يهاجموا خيبر إلا طمعا في الاستيلاء على أموالها؛ يكفي للرد على هذا الزعم ما أجمع عليه المؤرخون من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان راغبا عن حطام الدنيا مكتفيا منها بما يقيم الأود ويحفظ النفس، وأن أصحابه كانوا يسيرون على نهجه ويتبعون خطاه، ولعل في فرار المهاجرين بدينهم من مكة وتخليهم على أموالهم وإيواء الأنصار لهم وإعالتهم إياهم وتحملهم جميعا آلام الفقر والجوع وصبرهم على الحرمان؛ لعل في ذلك كله ما يثبت عزوفهم عن الدنيا وإعراضهم عن زخرفها ويدحض تلك التهمة التي رمى مرجليوث غيره من المسلمين بها.

ص: 385

ومن الحجج الدامغة لافتراء هؤلاء المتعصبين ما رواه المؤرخون من أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد استنفر من حوله من الأعراب ممن شهد الحديبية للغزو؛ فجاءه جماعة من الذين تخلفوا عن الحديبية ليخرجوا معه إلى خيبر طمعا في الغنيمة؛ فقال لهم: "لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، أما الغنيمة فلا".

ثم إنّ رِضى النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء اليهود في خيبر - بعد أن ألقوا سلاحهم وأمن المسلمون جانبهم وترك أرضها تحت أيديهم يمنحونها وينمون نخيلها وأشجارها، على أن لهم نصف المحصول - يثبت بما لا يحتمل الشك أن الدافع للغزو لم يكن الرغبة في الحصول على الأموال، كما يزعم مرجليوث ومن نحا نحوه؛ لأن الرغبة في الحصول على الأموال كانت تقتضي الاستئثار بها كلها من دون اليهود.

إن فيما ترك لليهود من نصف محصول أرض خيبر ما يكفيهم ويسد حاجتهم، أما أن يترك المحصول كله لهم - يلوّحون به لقبائل العرب تارة وليهود تيماء وفدك ووادي القرى تارة أخرى؛ ليستعدوهم به على المسلمين ويغروهم به لغزو المدينة وتهديد أمنها - فلا..

ثم إن المسلمين قد ملكوا هذه الأرض بحق الفتح؛ فليس كثيرا عليهم نصف محصولها الذي كان يبذل لإغراء الأعداء بحربهم، ولو كانت الرغبة في الحصول على المال هي التي دفعت المسلمين إلى غزو خيبر - كما يزعم المتعصبون - لاستولوا على الأرض واستأثروا بكل خيراتها من دون اليهود.

وفي الحوادث التالية ما يشهد بعدالة النبي صلى الله عليه وسلم وعفته عن أموال اليهود:

ص: 386

- فقد شكا أهل خيبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المسلمين يقعون في حرثهم وبقلهم [4] بعد الصلح؛ فأمر رسول الله عليه الصلاة والسلام بجمعهم، ثم قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:"إن يهود شكوا أنكم وقعتم في حظائرهم، وقد أمناهم على دمائهم وعلى أموالهم التي في أيديهم من أراضيهم وعاملناهم [5] ، وإنه لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها"؛ فكان المسلمون لا يأخذون من بقلها شيئا إلا بثمنه.

- وروى ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصا [6] بين المسلمين ويهود؛ فيحرص عليهم؛ فإذا قالوا: تعديت علينا، قال: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا؛ فتقول يهود: بهذا ما قامت السموات والأرض.

- وروى البخاري بسنده.. إلى أبي سعيد الخدرى وأبي هريرة أن رسول الله استعمل رجلا على خيبر فجاءه بتمر جنيب [7]، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أكل تمر خيبر هكذا؟ "، قال:"لا والله يا رسول الله! إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، أو الصاعين بالثلاثة"، فقال:"لا تفعل! بِع الجميع بالدراهم، ثم ابتع [8] بالدراهم جنيبا".

أفبعد كل هذا يموه المتعصبون من المستشرقين على الناس، ويتهمون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين بأن الذي دفعهم إلى غزو خيبر إنما هو لرغبة من الحصول على المال؛ {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِباً} !.

ص: 387

ومهما يكن من الأمر فقد كان من نتائج فتح خيبر القضاء على قوة يهود الحجاز الدينية والسياسية والإقتصادية، وأخذت شمسهم تميل إلى الغرب شيئا فشيئا؛ فقد ظل اليهود يعملون في الأرض على عهد رسول الله صلى الله عامه وسلم، فلما انتقل إلى الرفيق الأعلى أقرهم أبو بكر رضى الله عنه على ما أقرهم عليه رسول الله، وكذا فعل أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه مدة من خلافته، ثم نقل إليه الثقاة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه:"لا يجتمعن بجزيرة العرب دينان".

فبعث عمر إلى اليهود يقول: "إن الله عز وجل قد أذن في إجلائكم؛ فقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمعن في جزيرة العرب دينان"؛ فمن كان عنده عهد من رسول الله صلى الله عامه وسلم من اليهود فليأتين أنفذه له، ومن لم يكن عنده عهد من رسول الله من اليهود فليتجهز للجلاء.

وقد أجلى عمر رضي الله عنه من ليس عنده عهد من الرسول عليه الصلاة والسلام من يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى؛ لأنهما من أرض الشام، وكان أمير المؤمنين يرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجاز وما وراء ذلك الشام.

وقد ظل اليهود يكوّنون أغلب السكان في وادي القرى إلى القرن الحادي عشر الميلادي، وشوهدت طوائف منهم في نواحي تيماء في القرن الثالث عشر، ثم أخذ اليهود في كلتا البلدين يقلون تدريجيا، ثم اندمجت البقية الباقية منهم في محيط العرب ولم يبق لهم كيان خاص بهم هناك.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمع كلمة المسلمين على الخير، ويوفقهم إلى تطهير الوطن الإسلامي من رجس الصهيونية وحمايته من كيدها.. إنه سميع مجيب.. والحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين..

--------------------------------------------------------------------------------

ص: 388

[1]

فالحنوا لنا لحنا: اذكروه بطريق الكناية.

[2]

كالبوكم: اشتدوا عليكم.

[3]

النهزة: اختلاس الشيء وانتهازه.

[4]

يقعون في حرثهم وبقلهم: ينزلون حقولهم دون إذنهم.

[5]

عاملناهم: عاهدناهم على أن تكون الأرض تحت أيديهم يعملون فيها، ولنا نصف ثمارها وغلاتها.

[6]

الخارص: الذي يخرص ما على النخل والكرم، وهو من (الخرص) أي الظن؛ لأنه تقدير للتمر والعنب بظنه.

[7]

الجنيب. أجود التمر.

[8]

ابتع: اشز.

ص: 389

شخصية الفقيه الداعية عبد الله بن ياسين

واضع الأسس الأولى لدولة المرابطين في المغرب والأندلس

لفضيلة الشيخ إبراهيم الجمل

المدرس في المعهد الثانوي

من هو عبد الله؟..

ولد عبد الله بن ياسين في أوائل القرن الخامس الهجري في المغرب، من أب بربري ملثم صنهاجي يدعى (مكوك بن مسير بن علي) .. وينسب إلى قبيلة جزولة، وهى إحدى القبائل الكثيرة العدد، ومن هذه القبائل جدالة ومسوقة ولمتونة التي قامت بدور كبير في عهد المرابطين في المغرب والأندلس.

وكانت جزولة هذه تحتل المنطقة الممتدة من جبال درن حتى وادي نول القريبة من المحيط الأطلسي.

وقيل: ولد عبد الله في احواز مدينة (اوغشت) في قرية تقع في طرف الصحراء في ديار قبيلة جدالة.

حياته التعليمية:

قضى طفولته في مسقط رأسه، وبعد ذلك تردّد على مدن العلم في المغرب، ثم رحل إلى الأندلس، وتلقى العلم بها، وكان في ذلك الوقت يحكم الأندلس حكام الطوائف، وكانت البلاد الأندلسية ممزقة مشتتة يطمع فيها الصليبيون الغربيون من أسبانيا وفرنسا.

سكتت المراجع عن أن تذكر شيئا عن تعليم عبد الله، وعن الفقهاء والعلماء الذين تلقى العلم عليهم وأثروا فيه، وأيضا لم يذكروا الشيوخ الذين لازمنهم وتأثر بهم.

ولقد عرفناه مفسرا للقرآن وراوياً للحديث وعن طريق التحدث والرواية تتلمذ عليه كثير من أصحابه، ثم إنه درس الفقه وأصوله وفروعه لدرجة أنه كان يفتي ويتصرف في النصوص بما يتفق وأصول هذا الدين القويم، ولا يعقل أن يكون هذا العلم الغزير قد تعلمه في يوم وليلة أو بدون معلم، بل لا نكون مبالغين إذ قلنا إنه فاق علماء عصره.

ص: 390

ويظهر هذا التفوق في أنه نقل ما يمكن نقله، وكل ما عرفه إلى الدور العملي؛ مخالفا بهذا ما كان عليه الفقهاء والعلماء في عصره ومن قبل عصره، حتى استحق أن يلقب بالداعية، بل كان الداعية الأول في المغرب.

صادف - كما قلنا - زمن خروج عبد الله إلى بلاد الأندلس أن كانت واقعة في محنة حكام الطوائف الذين قسموا البلاد فيما بينهم، وكان ذلك بعد بداية القرن الخامس الهجري، الذي يتفق وعمر عبد الله.

ولقد رأى ما آل إليه الحكم في هذه البلاد، وطغيان هؤلاء الذين اغتصبوا الحكم، وما فعله بعضهم ببعض، وكيف التحق بالحكام الشعراء والفقهاء والعلماء من هزيلي العقيدة؛ فأباحوا لهم المنكر وحللوا لهم الحرم.

وكان في المغرب والأندلس فئة قليلة ابتعدت عن طريق الحكام الطائفيين في، وتمسكوا بأهداب الدين القويم، ولم تغرهم المناصب، ولم تسول لهم نفوسهم أن يقتربوا من هؤلاء الحكام تحت تأثير تأويل من التأويلات المريضة التي يظنون أنهم بها يحسنون صنعا، وهم في الحقيقة قد ضلّ سعيهم؛ لم تكن تلك الصفوة التي اختارها الله لتحافظ على الحق إلا سوطا يلهب أحيانا ظهور الحكام الخارجين على تعاليم الإسلام، كانت مخلصة محافظة على نشر مبادئها، لا تعرف المراءاة والمداهنة، وكثيرا ما كانوا يتحسرون على ما آل إليه أمرهم من الفرقة والانقسام وارتماء حكامهم في أحضان غير المسلمين.

رضي هؤلاء الكرام بشظف العيش وخشونة الحياة؛ يقيمون في المساجد، يفسرون القرآن ويروون، الحديث ويدعون الناس إلى التمسك بنهج السلف الصالح، وكثيرا ما كانوا يعرّضون بالحكام ويصورون للناس أعمالهم بصورة لا يجدون لهم منها مخرجا إلا الاستسلام للأعداء الملة؛ لذلك فقد حاربهم أداة الحكم الفاسد، ولكنهم لم يرهبوهم فكانوا يخاطبون الناس ويجهرون بالقول ويحرضون المسلمين على الخروج على الطغاة؛ لذلك فهم على استعداد إما للتقل أو للاستسلام أو التمثيل بهم.

ص: 391

هذا ما كان عليه حال الأندلس إبان طلب عبد بن ياسين للعلم، وربما صرفه عنا لاشتراك مع شيوخه في الدور السياسي في الأندلس شعوره بأن هناك مكانا آخر أولى به وهو المغرب؛ فخير مكان ينشر فيه مبادئه وعلمه إنما هو بين قومه وأهله.

ومرت الأيام.. سبع سنوات..؛ نهل فيها عبد الله ما شاء له، وعرف الكثير مما عليه حال المسلمين، ووعى كل ذلك بفهم الدارس لكل ما وقع تحت سمعه وبصره.

حياته العملية:

قرر عبد الله الرجوع إلى وطنه، وأراد أن يكمل المسيرة، ويرى بنفسه ما آلت إليه البلاد، ويطلع على أحوال أخطر جماعة على الإسلام، وفشل كل محاولات الولاة بالمغرب في القضاء عليها، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك، واستشرى أمرها، وأصبح في استطاعتها الهجوم على من حولها، وتغيير وجه الشريعة الإسلامية بإدخالهم عليها من الكذب والبهتان ما يمكن أن يشوه حقيقتها هؤلاء هم (البرغوطيون) .

وسوف نتعرض لهم بشئ من التفصيل بعد.

لقد مر على تلك الأقوام، ورأى ما آل إليهم من الأمر، وتمنى لو أوتي من القوة ليقضى على هؤلاء القوم، ويطهر أرض المغرب من عبثهم ومكرهم وخطتهم التي يسيئون إلى الإسلام بالتغيير والتبديل، وكان معهم على موعد؛ فقد حقق الله وعده؛ فسيرجع إليهم بجيش كبير من المرابطين.

لم تطل إقامته عند أهله وقبيلته بجزولة، ويعتقد أنه لم يجلس معهم طويلا؛ فربما لم يجد في شبابهم من يستطيع أن يكون عوناً له على أداء رسالته؛ ففضل أن يكمل تعليمه بتهذيب النفس وتأديبها بالانقطاع للعبادة في رباط من الربط القديمة؛ ليزداد خبرة وعلما، وليتعرف أكثر على أحوال القوم، وإن في اختلاطه بمن هو أكبر منه سنا وعلما يكون مدعاة للاستفادة التي قد تنفع في المستقبل الذي خطط له.

ص: 392

لقد اختار رباط نفيس؛ فإن شهرته عمت الصحراء، وإن شيخه التقي الورع (وجاج بن زلو) قد فاق علمه وأخلاقه ومكانته الآفاق، وإن وجوده فيه ضرب من تخطيط القدر الذي قد يمر البعض مر العابر إلا أن الذين لهم أثر في تغيير مجرى الحوادث يكون اهتمام القدر بهم أكثر، ولا شك أن القدر له مع عبد الله موعد في رباط نفيس.

اختيار عبد الله للدعوة:

أحدث عبد الله تغيير كبيرا في الرباط؛ فهو الخطيب صاحب الصوت الذي يجوب الآفاق، وهو المفسر المحدث والفقيه، وهو الذي يجذب الجميع بحديثه وحواره وآرائه ومناقشاته؛ لذلك حينما ذهب الزعيم يحي بن إبراهيم أمير قبيلة جدالة إلى القيروان يطلب من العارف بالله الفقيه والسياسي البارع أبي عمران الفاسي من يعاونه على تعليم قومه أصول الإسلام الصحيحة في قوله: إننا في الصحراء منقطعون لا يصل إلينا إلا بعض التجار الجهال حرفتهم البيع والشراء، وفينا أقوام يحرصون على تعليم القرآن وطلب العلم ويرغبون في الفقه والدين لو وجدوا إلى ذلك سبيلا.

أرسله أبو عمران إلى تلميذه المقرب إليه الفقيه (وجاج بن زللو) شيخ رباط نفيس ومعه رسالة يقول فيها رحمه الله: ابعث إلى بلده من تثق بدينه ورعه وكثرة علمه وسياسته؛ ليعمهم القرآن وشرائع الإسلام، ويفقههم في الدين، ولك وله في ذلك الثواب والأجر العظيم، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

دخل يحي على فقيه السوس وسلّمه رسالة أستاذه أبي عمران، وما أن انتهى من قراءتها حتى انفرجت أساريره، وظهر السرور والبشر على وجهه؛ فقد عادت به إلى ذكريات شيخه ومجالس علمه، وحملاته على الحكام الذين أساءوا إلى الشريعة، وتنقلاته مطرودا من بلد إلى بلد.

ص: 393

جمع أتباعه ومرديه، وقرأ عليهم الرسالة، ثم راح يتشاور لاختيار من يثق به لتحقيق رغبة إمامه؛ فاتجهت الأنظار إلى عبد الله؛ لما عرف عنه من محافظته على المبادئ السلفية، وأخذ من الرسول الأعظم والصحابة والتابعين بلا تأويل ولا ابتداع، ومواظبته على الصلاة وفي جماعة، ومن قوته في الخطابة وقدرته على المناقشة وشدته فلا تأخذه في الحق لومة لائم.

واستسلم عبد الله لتفكير عميق؛ فإما أن يحقق مما يصبو إليه وما عاش من أجله؛ أمة متحدة متماسكة تستمد تشريعها من كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه الصحابة والتابعين، وإلا فبطن الأرض خير من ظهرها.

وأمسك يحي بن إبراهيم بزمام جمله حتى غابا عن القوم.

في الطريق إلى جدالة:

كان الركب يتوقف في الطريق للصلاة، وعبد الله يؤمن إيمانا جازما أن أوّل الطريق للمسلم هو المحافظة على الصلاة، وفي أول وقتها لا يشغله شاغل أو تأويل حتى يؤخرها؛ فكان إذا دخل الوقت وقف ركبه ليؤذن بنفسه ويدعو الناس فيجتمعون، فإذا ما أقيمت الصلاة راح ينظم الصفوف للجماعة، فإذا ما انتهت الصلاة قام ليعظ الناس ويذكرهم بما يجب عليهم نحو خالقهم، وليعلمهم أصول الدين بلغة عربية سهلة وبربرية واضحة يفهمها الجميع؛ فيدعو الناس إلى الجهاد وإعلاء كلمة الله.

كان الزعيم يحي بن إبراهيم الجدالي يقدم الداعية إلى الحاضرين قائلا: هذا عبد الله بن ياسين محي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، جاء ليعلمنا أمور ديننا ويدعونا إلى ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم.

ص: 394

كان يفعل ذلك في كل وقت وفي كل مكَان يمر به؛ فلا عجب أن أثار في الناس الحب الشديد لهذا الدين القويم، لقد فرحوا فرحاً شديدا باللحظات التي قضوها معه، وفهموا جيدا ما يدعو إليه، فلا غرابة أن نرى شيخا بربريا يسرع ليقترب من راحلة عبد الله وأن يمسك بزمام دابته قائلا بصوت مرتفع: أرأيتم هذا الجمل، لابد أن يكون له في هذه الصحراء شأن عظيم.

لقد أطلق يحي بن إبراهيم على عبد الله إمام الحق لما لمس فيه من سعي وراء الحقيقة وعمل على إحياء الشريعة وإحياء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

عبد الله والجدالين:

وصل عبد الله دور قبيلة جدالة، وبدأ يدرس حالة القوم، إنهم ما يزالون يتزوجون بأكثر من أربع، وما تزال المكوس تفرض، والناس نوعان أسياد وعبيد، والخمور تشرب وكأن القوم لم يسمعوا أنها محرمة، وآلات الطرب تباع ويقبل عليها القوم وليس لهم من الإسلام إلا اسمه.

وكان الداعية عبد الله فرحا بلقاء القوم، فأعد لهم مصلاهم، واهتم بالجماعة والمحافظة على وقت الصلاة، وواظب على وعظ الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن ذلك لم يغير من عاداتهم؛ فبدأ يحزنه حال القوم فأضرب عن طعامهم، وكان جماعة منهم قد استجابوا للداعية وتسابقوا في حبه وطاعته في كل ما يأمر به.

جمع اتباعه وطلب من بائعي الخمر أن يريقوا خمورهم، ومن بائعي آلات اللهو والطرب أن يكسروا آلاتهم، وأمهلهم وقتا؛ فلما لم يقوموا بأنفسهم قام هو ومن معه بإراقة الخمور وتكسير آلات الطرب، ولم يكتف بذلك بل قام خطيبا يبين للناس ضرر الخمر وموقف الدين منها، والأضرار التي تصيب الناس من اللهو والغناء، ثم دعا الناس إلى الجهاد وما أعده الله للمجاهدين.

وصل الخبر إلى رؤساء القوم؛ فتعجبوا من أفعاله التي لم يسبق إليها فقيه قبله، ونادوه ليسألوه: كيف يقبل على هذا الأمر من غير أن يستشيرهم أو يأخذ رأيهم؟ ثم كيف يفسد أمتعة الناس ويحرمهم من أرزاقهم؟

ص: 395

لقد كانت إجابات عبد الله موسومة بالحجة والدليل، مبينا لهم أن الذين يحللون ما حرمه الله ما هم إلا قوم فسقة فجرة خارجين على الدين..

قالوا له: "أترمينا بالكفر؟.."فقال لهم: "أما أنتم فلكم حساب ستعرفونه قريبا إن شاء الله؛ فإني أرى أنكم ما تزالون تجمعون بين أكثر من أربع من النساء، وهذا كفر بالشريعة والتشريع الإلهي وهو زنى عاقبته الرجم، والتفرقة بين الناس فسق، وخروج على تعاليم الإسلام، ثم إن الأدهى والأمرّ أكلكم أموال الناس بالباطل، وجباية الأموال بدون وجه حق، ما هو إلا زور وبهتان".

وترك القوم وهم يتوعدونه، إلا أنهم عزموا على مراجعة يحي بن إبراهيم الذي أتى به إلى ديارهم، ولما كلموه في ذلك انبرى يحي يدافع عن عبد الله، ويطلب من القوم أن يستجيبوا له، وأن ينفذوا طلبه، لكنهم قالوا له: لقد قلنا لك، وسنفعل به ما نشاء، فهو ليس رجلا هينا أو ضعيفا، وأنهم لا يستطيعون إغراءه؛ فهو من صنف لم يروا مثله من قبل.

أغروا به سفهاءهم، ولكنه واتباعه ثاروا عليهم وأشبعوهم ضربا حتى الموت، فجروا إلى كبرائهم الذين هدءوا من روعهم، واجتمع كبار القوم بأنفسهم ليعلنوا العداوة والنزال.

كان من أشدهم عداوة للداعية شخص يدّعي التفقه يقال له الجوهر ابن سحيم؛ فجادل عبد الله، ونقض عليه بعضا من آرائه، واتهمه بالتناقض فيما يدعو إليه، ولم يترك الداعية ليرد عليه، فقد قام اثنان منهم يقال لأحدهما أيار وللآخر انتيكو، وقررا عزله عن الرأي والمشورة ووافقهم القوم، وهددوه بالموت إن لم يترك البلاد، وجروا إلى داره؛ فانتهبوها وأخذوا ما فيها وهدموها، وقرروا قتله فخرج منها خائفا يترقب [1] .

رباط السنغال:

ص: 396

فكّر عبد الله في الذهاب إلى السودان [2] لينشر الإسلام بين قوم على الفطرة، وما يزالون يعبدون الأوثان، وقد تكون استجابتهم للإسلام أقوى من أولئك الذين تلوثت عقائدهم بالسيئ من العادات والتقاليد، وجمع من معه واستعدوا للرحيل، إلا أن يحي بن إبراهيم جاءه ليعتذر عما حصل من قومه، ثم سأله إلى أين تذهب؟ قال عبد الله إني ذاهب إلى السودان.

قال له يحي: "إني لا أتركك تنصرف، وإنما أتيت بك لأنتفع بعلمك في خاصة نفسي وديني، وما عليّ من ضل من قومي [3] ، وسكت عبد الله على غير عادة؛ فلم يكن من طبعه السكوت عن جوابه، فأتم يحي كلامه قائلا: ولكن هل لك في رأي أشير به عليك إن كنت تريد الآخرة؟ قال: وما هو؟ قال: إن هاهنا جزيرة في البحر ندخل إليها فنعيش فيها".

فقال له عبد الله: "إذاً نبني رباطا؛ فهلم بنا ندخلها باسم الله تعالى، وبنى عبد الله بن ياسين رباطه الذي سمي برباط السنغال".

في هذا الرباط أنشأ أول جماعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أفريقية، وبدأ يختار لدخول الرباط؛ فلا يترك الباب مفتوحاً ليدخل من يريد، بل كان يتردد طويلا ويمتحن المريد ليعرف الهدف الذي من أجله يريد الانضمام ومدى إخلاصه للدعوة؛ فإذا وجد منه استماتة في الانضمام ألزمه بأن يطهر نفسه من الرجس والدنس عما اقترفه من ذنوب وآثام، ثم يطلب منه أن يتوب من ذنوبه قائلا: قد أذنبت ذنوباً كثيرة في شبابك؛ فيجب أن يقام عليك حددوها؛ فإذا أقر بذنب أقام عليه الحد، فإن كان غير محصن وزنى جلد مائة جلدة، أو أقر بشرب الخمر وقع عليه حدها، وكان أحيانا يطلب من الواحد منهم أن يسلم إسلاما جديدا.

ص: 397

كان الداعية عبد الله في رباطه الجديد يتولى تعليم أتباعه بنفسه، وكان رائده الإمام مالك رحمه الله؛ فكان يرى أنه أشد الناس التزاماً لكتاب وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وما سار عليه الصحابة والتابعين، كان يخوفهم من النار وعذاب الآخرة ويشوقهم إلى لقاء الله وما أعده للمؤمنين الصادقين من ثواب في الجنة، كان يطلب منهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن يتهيئوا للجهاد الذي هو عصب الدعوة الإسلامية.

والظاهرة الجديدة في تعاليم ابن ياسين بالرباط هي اهتمامه بالصلاة والمحافظة عليها في أول أوقاتها وأدائها في جماعة، ومعاقبة المتخلف عنها ومحاسبته على كل ركعة يتخلف عنها؛ فالذي يتأخر عن الجماعة يضرب عشرين سوطا، والذي تفوته ركعة مع الجماعة يضرب خمسة أسواط [4] ، وكان يطلب من تركها في الماضي أن يؤدى ما فاته، وبجانب هذا كان احترامه لمسجد الرباط شديدا، وكان يعزر كل من يتكلم في المسجد في أمور الدنيا.

وهكذا رأى عبد الله أن المخالف لابد أن يؤخذ بالقوة حينما يخرج عن أمر الله وطاعته، وأن حدود الله تلتزم التزاما، وأن العاصي يستحق العذاب، وأن المخالف عليه أن يتقبل القصاص بنفس راضية.

ولقد استقام أمر الجماعة، ورضخ الكل لحكم الله حتى أصبحوا أعضاء صالحين في مجتمعهم الجديد؛ فزاد إقبالهم وكثرت جموعهم وأطاعوا وآمنوا بما يدعو إليه إمامهم، وأقبلت جموع الملثمين تعاهد الله على الوفاء والإخلاص والتضحية، وكثيرا ما كان يحثهم على تحمل المسؤولية، ويهيب بهم أن يكونوا دعاة لأمر الله؛ فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

خطبهم يوما فكان مما قال: "يا معشر المرابطين إنكم جمع كثير، وأنتم وجوه فئاتكم ورؤساء عشائركم، وقد أصلحكم الله تعالى وهداكم إلى صراطه المستقيم؛ فوجب عليكم أن تشكروا نعمته وتأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر وتجاهدوا في الله حق جهاده".

ص: 398

لقد نظم عبد الله جماعته تنظيما يكفل لها النجاح وأعدها إعدادا طويلا، وتزايد عددها حتى بلغ أكثر من ثلاثة آلاف، وكان لابد لمجتمعه الجديد من المال والسلاح والتدريب؛ فجمع الزكاة والعشور وما يتبرع به؛ حتى استطاع أن يواجه ما يحتاج إليه كي يؤدي رسالته كاملة، فيخضع الخارجين على تعاليم الدين بالقوة إذا اقتضى الأمر.

ورأى داعية الله ابن ياسين ما للدعاية الروحية من أهمية كبيرة في حياة المسلمين؛ فأراد أن يتفرغ لها ويحث المسلمين على التمسك بتعاليم الشريعة، فكثير ما كان يردد قوله: إنما أنا معلّم لكم دينكم."

واختار لقيادة الجيش يحي بن عمر اللمتوني؛ لما يمتاز به من صفات حازت الرضا والإعجاب، فلقد كان من أهل الدين والفضل والزهد والصلاح، مكافحا في سبيل توحيد دعائم الدعوة، ولم يتركه عبد الله وحده، ليتصرف كما يريد، بل كان يراقبه ويشير عليه بما يجب عمله.

لقد اكتمل العقد وتهيأ الجميع للخروج لنشر الدعوة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، مستعدين لخوض المعارك مع الخارجين والمخالفين؛ فقد خطبهم عبد الله وكان مما قاله:"اخرجوا على بركة الله تعالى، وأنذروا قومكم، وخوفوهم عقاب الله، وأبلغوهم حجته فإن تابوا ورجعوا إلى الحق وأطاعوا فخلوا سبيلهم، وإن تمادوا في غيهم ولجوا في طغيانهم استعنّا بالله عليهم وجاهدناهم حتى يحكم الله بيننا، وهو خير الحاكمين".

واستعد الرباط بمن فيه للذهاب إلى الجهة التي يعينها الأمير ابن ياسين.

نشر الإسلام في غانا

أراد عبد الله أن يضرب المثل الأعلى للقبائل المحيطة به في الجهاد والقتال في سبيل نشر الدعوة الإسلامية بين الوثنيين، والذين هم على الفطرة؛ فأمر المرابطين أن يستعدوا لنشر الإسلام في غانا وقتالهم إذا اعتدوا عليهم، ثم سار نحو منحني النيجر، ليحمل أهل غانا على الإسلام.

ص: 399

لم يشأ عبد الله أن يفاجئهم ويعمل فيهم السيف على غرة، بل اتبع الطريق الذي سار عليه المسلمون في عهدهم الأول؛ فأرسل إليهم من يدعوهم للدخول في الإسلام، أو الجزية أو القتال، ولكنهم غدروا بالرسل وقتلوهم عن أخرهم؛ فأهم الداعية هذا الأمر، فأمر المرابطين بالاستعداد لقتالهم، وصعد عليهم الجبل، وقاتلهم ثلاثة أيام، استبسل فيها المرابطون ومات منهم عدد كبير، وكاد الأمر يخرج من أيديهم؛ فالأعداء أكثر منهم عدداً وعدة، ولكن المرابطين وضعوا في تفكيرهم ما يصيبهم إن هم انهزموا سيتعرضون للسخرية والاستهزاء، ولن ترحمهم ألسنة الأعداء؛ فقد يقومون بدعاية تؤثر على سير الدعوة، وأيضاً فقد يطمع فيهم أهل غانا، فيُهْدَم كل ما بنوه، زيادة على العداء بين الداعية وكبراء القبائل المحيطة بالرباط؛ لذلك نجد الداعية عبد الله بن ياسين يخطب المسلمين في اليوم الرابع فيقول:"أنا احتسبنا أنفسنا في حق الله وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأراكم قد أعياكم حرب هؤلاء المشركين ولم يأمرنا الله أن نتركهم إذ.. فاستعينوا بالله ر بكم ينصركم عليهم"[5] .

كان لكلمات الداعية الإمام رحمه الله أثرها الفعال في قلوب المرابطين، فاستعدوا لدخول المعركة، واثقين من نصر الله، مقدرين النتائج السيئة المترتبة على الهزيمة، وحمي وطيس المعركة وهجم المسلمون على المشركين حملة رجل واحد؛ فانهزم الجمع وولوا الأدبار، والمسلمون ورائهم يقتلون ويأسرون؛ لقد قتلوا منهم أعدادا كثيرة، وسلبوا أموالهم، وتوغلوا في ديارهم حتى أشرفوا على ديار التكرور؛ فانضموا إليهم وأصبحوا قوة للمرابطين.

حمل الركبان نبأ هذا الانتصار في قلب الصحراء إلى كل مكان، لقد مكنوا لدين الله في أرضه، وضموا أعدادا كثيرة إلى المرابطين؛ خاضوا معهم الحروب، ورجع المسلمون إلى الرباط، وأقبل الناس ليروا الفئة المؤمنة الصابرة، ولينضم إليهم من يريد شرف الجهاد في سبيل الله.

ص: 400

فلا غرابة أن يزداد إيمان المرابطين وأن يؤكدوا لله العهد على مواصلة الجهاد ورفع راية الإسلام الصحيح.

وسوف يقرر إمامهم ومعلمه وقائد هم الجهة التي سيتحركون إليها.

- يتبع -

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

البيان المغرب لابن عذارى ج 4 ص 8، 9.

[2]

كانوا يطلقون (السودان) على كل ما عدا المغرب الكبير من وسط أفريقية.

[3]

روض القرطاس ص 78.

[4]

البيان المغرب لابن عذارى المراكشي ج 4 ص16.

[5]

البيان المغرب لا بن عذارى ج4 ص 12.

ص: 401

الأدب العربي في الميزان

للدكتور شوقي عبد الحليم حمادة

أستاذ الأدب بكلية اللغة العربية

الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.. عبد الله ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه.. وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

يقول الحق تبارك وتعالى في كتابه الكريم: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ، سورة الذاريات الآية 55.

وعن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أشعر كلمة تكلمت بها العرب كلمة لبيد: "ألا كال شيء ما خلا الله باطل" وفي رواية: "أصدق كلمة" متفق عليه.

وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشعر بمنزلة الكلام؛ حسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيح الكلام".. أخرجه البخاري في الأدب المفرد، والدارقطني في سننه.

في هذه الفترة العصيبة من تاريخ الأمة الإسلامية تتطلع شعوبها المجاهدة إلى كل زاوية، وإلى كل اتجاه عساها أن تبصر ومضة من هنا أو إشعاعة من هناك، وليس شيء يلهب عزائم الجموع ويؤجج مشاعر الملايين كالتذكير بالمثل العليا والنماذج الرائعة للسلف الصالح، وربط الأمة بماضيها المشرق الزاهر وتراثها المجيد.

ومما لا ريب فيه أنّنا عندما ننظر نظرة فاحصة في عمق الباحث وتفكير العاقل المتدبر - على امتداد الوطن العربي الإسلامي - نجد أن غثاء كثيرا أوجده الفكر الدخيل في مجرى الفكر العربي الإسلامي الأصيل، ويتضح ذلك في المذاهب الفاسدة المنتشرة:(الماركسية والعلمانية والليبرالية.. الخ) ، وهى مصطلحات ترتبط ارتباطا وثيقا بالسياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم، مأخوذة من أيدلوجيات ونظم غربية تتناقض تناقضا شديدا مع مفاهيم وأصول الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتعليمي الإسلامي، وإن كانت تلتقي معه أو تختلف عنه بصورة أو بأخرى.

ص: 402

إن من أخطر التحديات التي واجهت أمتنا العربية الإسلامية تلك المتابعة للفكر الغربي في مفاهيمه ونظمه السياسية والاجتماعية، التي أوقفت التشريع الإسلامي وألغت نظام التربية الإسلامية، وفتحت الطريق أمام مناهج التعليم المنقولة من الإرساليات والتبشير، القائمة في كثير من الأقطار على تمجيد الغرب ودينه ولغته وتاريخه، والتي كانت سببا في الدعوة إلى التخلي عن الدين والأخلاق والقيم؛ بحثا وراء منهج إقليمي يقيم الحواجز الحصينة بينه وبين الامتدادات العربية من ناحية والعالم الإسلامي من ناحية أخرى، والفكر الإسلامي بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع من ناحية ثالثة، وكان من مؤيدي هذا الاتجاه والداعين إليه لفيف من الأدباء، ممن اشتروا الضلالة بالهدى وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وأبصارهم غشاوة؛ مما جعل التيار الأدبي في الأمة العربية يسير على الوجه التالي:

1-

فهم الأدب بمنطق الغرب؛ استمداداً من نظريات (ثين وبرونتير وسانت بيف) ، تلك التي تنظر إلى الإنسان على أنه مادة خالصة لا روح فيها، أو على أنه حيوان تطبق عليه تجربة الحيوان وغرائزه، وتفصل ما بينه وبين الروح، كذلك فإن هذه النظريات تحصره في إطار البيئة والعصر وحدهما دون أن تربطه بالعقيدة الممتدة على الزمن، والتي كان لها - وسيظل بمشيئة الله - أثرها البعيد في تشكيل الإنسان، وتصرفه وحركته وتفسير أهوائه وغاياته، كما اعتمدت أحكام الأدب والنقد على مفاهيم دارون وماركس وفريزر وفرويد، وهى في مجموعها مفاهيم ترد النتاج الأدبي إلى التفسير المادي للإنسان، وترجعه إلى حيوانيته سواء في الجنس أو في لقمة العيش، أو في التطور المطلق، أو في الجبرية؛ فتحول بينه وبين امتلاك الإرادة التي هي مصدر حركته ومصدر مسئوليته وجزائه عند الله.

ص: 403

وبديهي أن هذا الاتجاه الأدبي إنما يستهدف طعن الفطرة الإنسانية وتدمير العقيدة الإسلامية والأخلاق، ولا سيما عندما علت صيحة (في بعض البلاد) تنادى بفصل الأدب عن الفكر الإسلامي؛ ليكون حرا في الانطلاق نحو الأدب المكشوف، مما كان سببا في تكوين مذهب وأدب فتح طريق الشر للأجيال التي جاءت بعد ذلك، وكان من أهم الركائز التي أعانت دعاة الفكر الشيوعي والصهيوني التلمودي؛ لأن هذا الانحدار الأدبي كانت له أسوأ النتائج في كل الهزائم التي وقعت بالعرب المسلمين، وبه تمكنت الصهيونية من السيطرة على الأرض والفكر..

2-

كان من أكبر أهداف الأدب الحديث - الذي قام به كتاب ما بعد الحرب العالمية الأولى - هو الانقطاع عن الأدب العربي الذي يمتد عقده منذ ظهور الإسلام؛ ولذلك لم نر كاتبا واحدا من هؤلاء يصل نفسه بهذا الأدب، (ما عدا الرافعي؛ وكانوا يسمونه رجعيا)، وكل ما عرضه هؤلاء الكتاب من الأدب العربي القديم إنما كان محاولة لتصوير الأدب بصورتين:

أ- صورة الشعر الهابط، ممثلا في أبي نواس وبشار ومجموعة الزنادقة الذين شغل بهم البعض، أو الشعر الجاهلي الوثني.

ب- أدب السجع والمحسنات اللفظية الذي لم يكن من الأدب العربي الأصيل، والذي جاء به الفرس والوثنيات القديمة.

وكانت النظرية الشائعة إبعاد (ابن تيمية وابن القيم الجوزية) - وكل هؤلاء وغيرهم - عن مجال الأدب، ووصفهم بأنهم فقهاء، وذلك حتى يتحرك الشباب المسلم في دائرة مغلقة.

ولقد ظل عمل هؤلاء مقطوع الصلة بالأدب العربي في امتداده يركز على المناهج الفرنسية أو المناهج الإنجليزية.

إن هناك مفازة واسعة وقف عندها هؤلاء الرواد ولم يجاوزها إلا بين حين وحين؛ عندما كتبوا عن المتنبي أو ابن الرومي، أما من حيت قيام دراسة متصلة شاملة تربط حلقات الأدب كلها فلم يكن هناك غير الأسلوب المدرسي الذي يقسم الأدب إلى عصور.

ص: 404

3-

لقد كانت، هذه التجزئة في الأدب مساوية تماما للتجزئة السياسية التي وجدت بعد الحرب العالمية الأولى، حيث الدعوة إلى الإقليمية والوطنية الضيقة، وبذلك أغلقت الأبواب دون الفهم الصحيح للروابط الاجتماعية والسياسية والفكرية بين الأمة العربية من ناحية وبين العرب والمسلمين من ناحية أخرى، ودعا بعضهم إلى إغلاق الأبواب في وجه كل ما يسمى عروبة أو إسلاما.

في هذه الفترة الحرجة من تاريخ أمتنا يتسائل الكثيرون عن (اختفاء الفكر العربي الأصيل) ، ويردونه إلى عجز الأدب (إبان النكسة والنكبة، وخلال مرحلة 1948م إلى 1967م) عن العطاء.

وقد أجاب البعض إجابات جانبية وعجزوا عن أن يفهموا أعماق هذه الظاهرة.

إن الأزمة أكبر من الأدب نفسه، فالقضية قد انتقلت إلى مجال الفكر الإسلامي بعد أن فشل الأدباء في الاستجابة الحقيقية للأمة، وكان أغلب ما قدموه لا يمثل حقيقة هذه الأمة ولا جوهر فكرها ولا مضمون روحها، وإنما كان مترجمات ضالة من الفكر الوثني والمادي.

ولقد حجب في هذه الفترة كل كتّاب الأصالة حتى ماتوا كمدا بعد أن حجبت آثارهم ومنع إنتاجهم، وكثيرون غيرهم اعتقدوا أن راية الإسلام هي المظلة الحقيقية.

إن الأدباء كانوا تابعين لمدارس وأيديولوجيات ومفاهيم موزعة بين المذاهب المادية والبشرية، وكانوا يحاولون أن يتخذوا من القصة وسيلة إلى هدم المقومات، ويتخذوا من النظْم وسيلة إلى هدم عمود الشعر، ويتخذوا من البرامج الإذاعية وسيلة إلى هدم الفصحى وتغليب العامية بما تحمله من مفاهيم فاسدة.

وكان هذا النتاج كله يدور حول الأحقاد التي يحملها الشيوعيون والشعوبيون للإسلام والعرب ولغتهم ودينهم وفكرهم وتاريخهم، وكانوا يدورون في دائرة ضيقة هي الهدم والصراع الطبقي.

وكيف يمكن أن يكون هذا أدبا أصيلا؟..

ص: 405

لقد فشل الأدب نتيجة أنه تخلى عن رسالته وعن أصالته، وعن موقعه الصحيح بالنسبة للفكر الإسلامي؛ ولذلك فقد كان لابد وأن يسقط، وأن يقدم الفكر الإسلامي نفسه ليحمل الأمانة.

إن حركة اليقظة الإسلامية منذ ظهورها بدأت تعمل على تحرير الحركة الوطنية من الإقليمية، والأدب من التبعية، وظلت تفتح الطريق لهذه الأمة إلى الأصالة في منابعها الثلاث:

1-

أسلوب تربية إسلامي بديلا للمناهج التعليمية الواحدة.

2-

الشريعة الإسلامية بديلا للقانون الوضعي.

3-

بناء المجتمع الإسلامي على أساس الأخلاق والعقيدة.

ولقد كانت كل محاولات الغزو الثقافي متمثلة في ضرب هذا التيار الإسلامي وحربه والقضاء عليه؛ لعلمهم بأن ذلك يعنى عظمة الأمة ومجدها وعزها وكرامتها وحريتها.

أجل! إن الذوق الإسلامي أقرب إلى الحقيقة وأحلى للسمع وأوسع في المحتوى والمضمون.

إذن يجب علينا - نحن الأدباء العرب المسلمين - أن نعود من ذوق علماني إلى ذوق الإسلامي، من ذوق مادي هابط إلى ذوق روحي شفاف؛ إن الذوق فسد فكيف ننشئ هذا الذوق في الجيل المعاصر؟..

ومن أين نأتي به؟.. هل نأتي به عن طريق المؤتمرات والدراسات والمناقشات، أو عن طريق التربية والتعليم، أو عن طريق الإعلام ووسائل التبصير والتثقيف؟..

ص: 406

إن هذه الأساليب طبيعية لابد منها في صوغ الأفكار والميول والاتجاهات، وفي إثارة الأشواق والأذواق، بشرط أن تركز هذه الوسائل كلها على نقطة واحدة هي نقطة إنشاء جيل يختلف في وجدانه وذوقه وعقليته وسلوكه عن جيله السابق كل الاختلاف، جيل يضع إقامة ميزان الإيمان؛ فيربح فيما يخسر فيه الآخرون ويخسر فيما يربح فيه الآخرون، ممن يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله، جيل تختلف عنده مقاييس الغضب والرضا والفقر والغنى والإخفاق والنجاح والتقدم والتخلف؛ فهو يشفق على عمالقة الغرب وأبطاله وأساتذته وفلاسفته، كما يشفق الخبير البصير على ضرير ضلّ الطريق ووصل على حافة بئر سحيق أوشك أن يقع فيه، ويعتبرهم أشدّ جهلا وعجزا من أي شعب آخر؛ إيمانا وتسليما بقول الله عز وجل:{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} (الآيات 103- 104 من سورة الكهف) .

إننا حقاً مرضى ألسنتنا التي أصبحت لا تميز بين المر والحلو؛ لماذا؟ لأننا فقدنا حاسة الذوق كما فقدنا حاسة الشم، لابد أن نتجه - في ظل المنهج والنظام والشرع طبعا - إلى ذوق إسلامي يحرسنا من النزوات الفكرية والتلوث الذهني وصدأ القلب.

يجب علينا أن نضم إلى سلاح العلم والعرفان؛ سلاح الذوق والإيمان، وبهذا الذوق وحده نفرق بين الخبيث والطيب، ولا يتحلب فمنا على كل حماقة غريبة إذا كانت غربية.

إن أمتنا العربية المسلمة لا يمكن أن تسترد عزتها المسلوبة ولا كرامتها المفقودة إلا يوم أن تعود إلى دينها؛ تستقي من معينه الفياض وترتشف من ينبوعه الصافي.

ص: 407

وينبغي أن يكون واضحا أمام أعين الأدباء والشعراء أن عصر صدر الإسلام - عصر السلف الصالح رضوان الله عيهم - هو المشعل الذي تستضيء به البشرية في كل عصورها وفي جميع شئونها؛ مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم.. الحديث"..، وقوله:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ عضوا عليها بالنواجذ"

أجل: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها..

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .. {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} .. {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} ..

والله نسأل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ويرزقنا الإخلاص في القول والعمل؛ إنه على ما يشاء قدير وهو حسبنا ونعم الو كيل..

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان:

ا- أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.

2-

أن يحب المرء لا يحبه إلا لله.

3-

أن بكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار". رواه الشيخان.

ص: 408

يا متاع الغرور

لفضيلة الشيخ محمد المجذوب

المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين

ثقُلَ الحملُ يا صديقي، والزا

د زهيد، والدرب وعر طويل

وازدهاك الغرور لما (تمليت)

فأوشكت لا تعي ما تقول

وهوى المال يا أخيّ بلاء

بل وباء تضلّ فيه العقول

فتَخَفّفْ؛ إن المخِفَّ هو النا

جي إذا آذن الحسابُ المهول

وتذكرْ أن الكفاف هو الخير

وكل الذي عداه فضول

قد بلونا عسر الحياة زماناً

ثم وافى يسارُها المأمول

فإذا مرّها وحلو جناها

محض حُلمُ بقاؤه مستحيل

فإلَام الشقاءُ في طلب الوهم

وندري أن المقام قليل

ولعمري ما أنت أجوجُ مني

لنصيح يقول لي ما أقول

كلنا وارد السراب وكلٌّ

يدعى الطبَّ وهو ذاك العليل

.. يا متاع الغروو حسبك ما أسـ

ـلفت بي من جراحة لا تزول

زنتْ لي الضرب في الظلام إلى أن

خار عزمي وأرهقتني الكبول

وشبابي نزفته في ضباب

من ضياع قد حار فيه الدليل

فدع الشيب لي أكفُر به الما

ضي فقد آن أن يثوب الجهول

وإذا الشيب لم يزعني عن الغيّ

فما لي إلى النجاة سبيلُ

ص: 409

ما هكذا يا سعد تورد الإبل

بقلم فضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي

عميد كلية الحديث الشريف والدراسات الإسلامية

بالجامعة الإسلامية

وفي ليلة الجمعة 8/1/1399هـ سمعت صدفة ومن غير قصد.. ندوة علمية تبث من إذاعة القاهرة موجهة إلى طلاب وطالبات (جامعة القاهرة)، وكان من بين الأسئلة التي وجهت للدكتور (أحمد شلبي) السؤال التالي؟:

(هل يعتبر القسم بغير الله شركا) ..

وجهت السؤال طالبة من طالبات جامعة القاهرة لم أتمكن من ضبط كليتها، كما لم أضبط اسمها.

ولم يوفق الدكتور شلبي في الإجابة على السؤال، بل حاول أن يميع الإجابة على الرغم من أن السؤال صريح والجواب عليه واضح في السنة - لو وفق الدكتور، وكان من أهلها -.

ولكن لم يوفق، بل أخذ يلف ويدور، وقال مرة في جولته في الدوران قول الإنسان بحياة أبي، أو حياة الرسول، أو بحياة الحسين ليس بقسم وإنما يقصد التأكيد، وفات الدكتور أن القسم نفسه إنما يقصد به تأكيد الخبر بالحلف بعظيم يخشى انتقامه لو كان الحالف كاذباً.

ولست أدرى كيفا اختلط الأمر على فضيلة الدكتور، وأعتقد أن السائلة ومن كان معها يدركون خطأ الدكتور ومحاولته التمييع، ولكن الحياء أو الستر على الدكتور أو كونها امرأة تعجز عن المناقشة؛ فهذه المعاني أو بعضها حالت دون مناقشة الدكتور، ولو كان السائل رجلا يعلم الحكم؛ فيقوى على مناقشته لما تركه وهو يتلاعب بحكم من أحكام دين الله، ولكنها أنثى (وليس الذكر كالأنثى) فيقوى على المناقشة.

ص: 410

ومما قاله الدكتور في أثناء محاولته التهرب عن الإجابة الصحيحة: أن بعض الجماعات المتشددة تقول: "إن القسم بغير اسم الله يعتبر شركا"، وأنا لا أوافقهم على ذلك، ثم بالغ في التهرب من الإجابة فخرج عن الموضوع، فقال:"وهناك نقطة أخرى وهي أن الإنسان إذا حلف لا يفعل شيئا كأن يقول: والله لا أزور أخي مثلا؛ فينبغي أن يزور أخاه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا..} ، الآية.. "إلى آخر الكلام الكثير الذي الغرض منه التهرب عن الإجابة الصحيحة التي يعلمها أو يجهلها، ولست أدرى أيهما يختار الدكتور لنفسه.

وأخيرا ختم الإجابة على السؤال بهذه الجملة الجريئة: (القسم بغير الله لا يعتبر شركا!!..) .

نقول للدكتور: "ما هكذا يا سعد تورد الإبل! ".. أي ما هكذا يا دكتور تكون الإجابة العلمية..

يا سبحان الله! هل الذي حمل الدكتور على هذا الموقف الخطير.. الذي مضمونه تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم والخروج عليه، وعدم اطلاعه على النصوص الواردة الدالة على أن الحلف بغير الله شرك؟ أو الحامل له مجاراة العوام ومداهنتهم وكتمان الحكم الشرعي؛ التماسا لرضى العوام وأشباه العوام؟

وسواء أكان الحامل له هذا أو ذلك فإن الدكتور قد تورط؛ فلا عذر له في كلتا الحالتين، فأي الأمرين يختار فضيلته؟.. هل يختار أن يقال له: إنه جاهل؟.. لا أظن ذلك، أو يختار أن يقال له تعمد في مخالفة النصوص والخروج عليها مع الاطلاع عليها والعلم بها؟. هما أمران أحلاهما مرّ، ولكن الاحتمال الأخير هو الأقرب؛ لأنه لا يليق بمكانته العلمية الرفيعة أن يقال إنه جاهل للحكم.

فإذاً إنه عالم تجاهل لحاجة في نفس يعقوب..

ص: 411

وبعد.. أريد أن أذكر الدكتور - فالذكرى تنفع المؤمنين - أن حياة المسلمين اليوم في الغالب الكثير مزيج من العادات والتقاليد المخالفة لما جاء به الإسلام من الهدى والتشريع.. وهذه التقاليد والعادات على نوعين:

1-

نوع جاء به المستعمرون الذين استعمروا أكثر بلاد المسلمين، ثم رجعوا إلى بلادهم تاركين خلفهم عاداتهم وتقاليدهم؛ فورثها المسلمون السذج.. وهم ورثة المستعمرين دائما.

2-

النوع الثاني عادات وتقاليد كانت موجودة في المنطقة قبل دخول الإسلام إلى المنطقة، ثم بقيت ممتزجة بما جاء به الإسلام، ولم يستطع كثير من الناس أن يميز بينها وبين الحق الذي جاء به الإسلام؛ فتوارثوها، ثم مع بعد كثير من الناس عن تعلم الإسلام ودراسته والتفقه في الدين، وكثرة علماء السوء الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويفضلون ثمن الرغيف على رضا ربهم؛ لهذا كله راجت تلك التقاليد فالتبس الأمر على العوام؛ لا يفرقون بين السنة المحمدية والبدع المحدثة والأقوال والأفعال الدخيلة؛ فقد اختلطت مع ما جاء به الإسلام من العبادات والأحكام ولم يفرقوا بين الحق والباطل؛ فأخذ كل جيل يرث البدعة عمن كان قبله حتى صارت مألوفة غير مستنكرة؛ فلا يقوى على إنكارها إلا طائفة قليلة غريبة بين الناس وفي أرضها وبين بنى جنسها، وهى الطائفة التي رزقها الله الفقه في الدين، ذلك الفقه الذي يمكن الإنسان من التفريق بين الحق والباطل، ويحمله على مراقبة الله والخوف، والتفقه في المعاني يورث المرء الشجاعة والإقدام والقدرة على القول بالحق وبيان الحق والدعوة إليه، وما جاء به خاتم النبيين هو الحق.. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟

ص: 412

ومن فقد هذه المعاني يغلب عليه الجبن والخور ومداهنة الناس والتزلف، وإيثار رضاهم على رضى ربه وخالقه وولي نعمه، وقد كان علماء المسلمين سابقاً يتمتعون بالشجاعة وقول الحق ولو كان أمام السلطان الجائر، ويعتبرون ذلك نوعا من الجهاد في سبيل الله، والله المستعان!

ولعل الذي جعل الدكتور أحمد الشلبي يتهرب من القول (بأن القسم بغير الله شرك) كما تدل السنة الصحيحة الصريحة هو ظنه بأن المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر الناقل عن الإسلام، والذي يرادف الكفر

إن كان الحامل للدكتور هو هذا الظن!

فليعلم الدكتور أن الشرك ينقسم إلى قسمين إذا أطلق في لسان الشارع؛ يعرف ذلك بدراسة السنة دراسة فاحصة والفقه في الدين، "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"، والفقه في الدين شيء وكثرة الإطلاع أو كثرة الحفظ شيء آخر، ورب قليل للحفظ وقليل الإطلاع يرزقه الله الفقه في الدين، وحقيقة الفقه (الفهم الصحيح في الإسلام، والتصور السليم لما جاء به رسول الله عليه الصلاة والسلام :

1-

القسم الأول: شرك أكبر يخرج صاحبه من دائرة الإسلام، وهو صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله واتخاذ غيره نداً ومعبوداً معه؛ لأن ذلك يتنافى وكلمة التوحيد التي تحصر جميع العبادة لله وحده، وتحرم عبادة من سواه وما سواه؛ إذ معناها لا معبود بحق إلا الله؛ فمن عبد غير الله بالدعاء والاستغاثة والذبح والنذر والتوكل - وما في هذه الأشياء من أنواع العبادة كالركوع والسجود والطواف - فقد أشرك مع الله شركا لا يغفر إلا بالتوبة التي هي الإقلاع والندم والعزم على عدم العودة؛ {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} .

2-

القسم الثاني: الشرك الأصغر، ويسمى في اصطلاح السلف شركا دون شرك، كما يقال: كفرٌ دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.

ص: 413

ومن لم يدرك هذه الأقسام فليس بفقيه ويكثر تخبطه ويلبس عليه الأمر دائماً، وقد يخرج من الإسلام من هو صحيح الإسلام، وقد يدخل في الإسلام من هو بعيد عن الإسلام.

فتأمل المقام فإنه مهم جداً.

ومن أنواع الشرك الأصغر القَسم بغير الله، وقول الرجل للرجل: ما شاء الله وشئت، ولولاك حصل كذا، وهذا النوع لا يخرج مرتكبه من الإسلام إلا أنه إثم كبير يؤدي إلى الشرك الأكبر.

وقد ينتقل بعض أفراد هذه النوع من الشرك الأصغر إلى دائرة الشرك الأكبر بأمور خارجة تطرأ أحيانا وتصاحب القول، كأن يصل تعظيم المحلوف به في قلب الحالف والخوف إلى حد تعظيم الموحد ربه وخالقه أو أعظم من ذلك، وفي هذه الحالة ينتقل القسم بغير الله من الشرك الأصغر إلى الشرك الأكبر؛ لأن من بلغ إلى هذه الحالة فقد خرب قلبه، وحقيقة الكفر هو خراب القلب، ويفقد تقدير الله حق قدره وتعظيمه والخوف منه، ويحل محل تعظيم الله تعظيم مخلوق؛ فنسأله تعالى العفو والعافية.

وهذا الباب باب خطير جداً، ومع خطورته قد أهمل الاهتمام به كثير من طلاب العلم والعلماء الرسميين، وعدم تحقيق هذا الباب هو الذي أوقع الدكتور الشلبي في هذا الخطأ الفادح؛ عفا الله عنا وعنه!

فها أنا ذا أسوق هنا بعض النصوص الدالة علما أن (القسم بغير الله شرك) .

1-

عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فلحلف بالله أو ليصمت"، رواه مالك والبخاري وأصحاب السنن، وفي رواية لابن ماجه من حديث بريدة قال: سمع النبي صلى الله عليه سلم رجلا يحلف بأبيه فقال: "لا تحلفوا بآبائكم! من حلف له بالله فليصدق، من حلف بالله فليرض، ومن لم يرض بالله فليس من الله".

ص: 414

2-

عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رجلا يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا تحلف بغير الله؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك"، رواه الترمذي وحسنه ورواه ابن حبان وصححه، ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين، وفي رواية الحاكم: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: "كل يمين يحلف بدون الله شرك".

3-

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقاً"، رواه الطبراني موقوفاً، وقال المنذري: رواته رواة الصحيح، قال بعض أهل العلم تعليقاً على هذا الأثر:"وذلك لأن الحلف بغير الله كفر أو شرك كما صرح به الحديث السابق، والحلف بالله وهو كاذب معصية لها كفارة وفرق بين الاثنين".

4-

وعن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: "من حلف بالأمانة فليس منا"، رواه أبو داود.

وهذه الأحاديث كما ترى صريحة الدلالة - بالجملة - علما على عدم جواز القسم بغير الله، وأما حديث ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فصريح الدلالة على أن القسم بغير الله يعتبر شركا.

والقول بأن الحلف بغير الله لا يعتر شركاً بعد الاطلاع على هذه النصوص - ولا سيما حديث ابن عمر - ووصف من يقوك بذلك بأنها جماعة متشددة؛ فقول في غاية الجرأة؛ فيوقع قائله في فتنة ويعرضه لعذاب الله إذ يقول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، قال الإمام أحمد: الفتنة الزيغ والله أعلم.

ص: 415

والدكتور شلبي ليس وحيد دهره أو فريد عصره في هذا الموقف الجريء، بل قد ابتليت هذه الأمة منذ أمد غير قصيرة بمجموعة ممن ينتسبون إلى العلم من هذا الصنف الذي عظمت لديهم الدنيا، وهانت لديهم الآخرة فلم يقيموا لها وزناً وسخروا علمهم للحصول على ثمن الرغيف، وإذا لم يتيسر ذلك إلا بالكذب على رسول الله أو تكذيبه والخروج على سنته فلا مانع لديهم أن يقترفوا كل ذلك طالما يحقق ذلك المصلحة الشخصية، اللهم عافنا فيمن عافيت!.

ولست أذهب بعيداً للاستدلال على ما ادعيت، ولدينا فتوى الدكتور الشلبي:"القسم بغير الله لا يعتبرشركا"، ثم نسب القول بأن ذلك إلى جماعة متشددة كما زعم.

وهذا القول كما ترى يكذب الحديث الذي تقدم ذكره قريبا؛ حديث عبد الله بن عمر، ولو وجهنا إلى المجموعة الشلبية الأسئلة الآتية:

1-

هل الطواف بقبور الصالحين يعتبر شركاً؟

2-

هل السجود على عتبة ضريح الحسين يعد شركاً؟

3-

هل التقرب إلى غير الله بالنذور والذبائح يعتبر شركاً؟

4-

هل الاستغاثة بغير الله والتضرع إلى غيره فيما لا يقدر عليه إلا الله يعتبر شركاً؟

5-

هل إقامة حفلات مولد النبي أو الحسين أو البدوي أو زينب يعتبر بدعة في الدين؟

6-

هل اختلاط الجنسين في تلك الحفلات وفي مناسبات أخرى جاهلية يعتبر منكراً؟

لو وجهت هذه الأسئلة وأمثالها للمجموعة المذكورة لكان الجواب هكذا بكل بساطة:

ص: 416

"إن بعض الجماعة المتشددة تعتبر ما جاء في رقم (1) إلى (4) شركاً، وما جاء في رقم (5) يعدونه بدعة، كما يعتبرون ما بعده منكرا، إلا أننا لا نوافقهم على ذلك، وليس هناك شرك ولا بدعة ولا منكر، والناس إنما يفعلون ما يفعلون محبة للصالحين، وهم يفعلون لله، أما مولد الني فلا ينكره إلا أولئك الذين لا يحبون الرسول ولا الصالحين، ثم إن البدعة قد تكون حسنة كما تكون خبيثة؛ فلا ينبغي التشديد في هذه الأمور، والمسلمون بخير والحمد لله، وقلوبهم طيبة (موش عاوزه كلام) ، ومسألة الاختلاط لا تؤدي إلى شيء كما هو الواقع؛ لأن الناس قد ألفوا ذلك، ثم إن الدين يسر ولم يجعل الله علينا في الدين من حرج".

هكذا يخطبون، وهكذا يضللون، وهكذا يزخرفون القول، سبحانك ما أحلمك يا رب العالمين!

والادهى والأمر أن هذه الحذلقة وهذا الكلام وهذه الخطبة الرنانة تقاطع بالتصفيق أو التكبير أحياناً! علام هذا التصفيق؟ وعلام التكبير؟ على الجهل؟ على المداهنة؟ بل على تكذيب الرسول والخروج على سنته؟ أعلى هذه المخالفة السافرة لأحكام الشريعة الإسلامية؟ علام؟

والعجيب من أمرنا نحن المسلمين أن هؤلاء هم العلماء المشار إليهم بالبنان، ما أعظم مصيبة المساكين في علمائهم فلم تنتشر هذه الجهالات التي تحدثنا عنها ومثلنا لها بعدة أمثلة، ولم يرج سوق البدع والمخالفات ولم تتمكن جاهلية الاختلاط والكفر بالحجاب والدعوة إلى السفور، ولم تحل القوانين الوضعية محل الشريعة الإسلامية في التحليل والتحريم وغير ذلك؛ فلم يقع شيء مما ذكر إلا تحت توجيهات وتأويلات المجموعة الشلبية، ولو سلمت الأمة الإسلامية من شر علماء السوء - بعبارة أخرى: لو صلح علمائها - لصلحت حياتها ولاستقام أمرها.

أكذوبة سادن البدوي

ص: 417

تحكى قصة مضحكة - ومن المصائب ما يضحك - عن سادن عند قبر أحمد البدوي، ملخصها: أن رجلا سرق سمكة مملحة وأكلها فاستحلفه المسروق منه بالله فأقسم بالله ثلاث مرات أنه لم يأخذها ولم يرها، فلم يحصل له شيء، فاستحلفه بأحمد البدوي فما كاد يتلفظ اسم البدوي حتى سبقت السمكة فلفظها.

هذا ما وصل إليه وضع عوام المسلمين بسبب تساهل جمهور علماء المسلمين المعاصرين الذين منهم المفتي (الشلبي) ، ولا يخالطني شك أن الدكتور الشلبي ومجموعته يعلمون دون شك أن الحلف بغير الله شرك أو كفر، لكن السياسة الاقتصادية بالنسبة لهم ى تسمح أن يصرحوا خلاف ما عليه جمهور العوام.

هذا هو عذرهم غالباً؛ فما رأي القراء الكرام في مثل هذا العذر؟.

وقصارى القول أننا ندعو الدكتور أحمد شلبي إلى إعادة النظر في إجابة ليلة الجمعة 8/1/1399 في حكم القسم بغير الله؛ ليرجع إلى الحق، والرجوع إلى الحق فضيلة دائماً، وهو خير من التمادي في الباطل، وما قاله الدكتور في إجابته تلك باطل ولا شك.

فنسأل الله لنا له العفو والعافية والتجاوز عن أخطائنا وسيئاتنا؛ "كل بني آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون"، رواه الترمذي وابن ماجه، وقال صاحب كشف الخفاء: سنده قوي والله ولي التوفيق.

1-

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت". متفق عليه.

2-

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله! أي المسلمين أفضل؟ قال: "من سلم المسلمون من لسانه ويده".. متفق عليه.

3-

وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام:"من ضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة"..

ص: 418

صحيح المقال في مسألة شد الرحال

لفضيلة الشيخ عبد العزيز الربيعان

مدير المعهد المتوسط بالجامعة الإسلامية

الحمد لله وصلاته وسلامه على رسوله ومصطفاه، وعلى آله وصحابته والمهتدين بهداه..

أما بعد.. فهذا هو الموضع الثاني الذي وعدت ببحثه ومناقشة فضيلة الأخ الكريم الشيخ عطية محمد سالم فيه، والذي قلت في مقدمة الموضوع السابق المنشور في مجلة الجامعة العدد السابق لهذا العدد تحت عنوان (البحث الأمين في حديث الأربعين) .. قلت هناك: إن فضيلة الشيخ عطيته وقع في أخطاء تقليدية يجب التنبيه عليها وبيان الحق فيها، ومعنى قولي تقليدية أعنى أنها أخطاء قديمة في مسائل قد بحثت وظهر وجه الحق فيها؛ فلا داعي لإعادة بحثها وبلبلة الأفكار حولها؛ كيف وعلماء بلادنا لا اختلاف بينهم في حكمها، وأنه المنع والتحريم؛ فكيف ساغ لفضيلته أن يضرب بمذهبهم عرض الحائط ويعلن من بينهم مذهبا يعتبرونه بدعة، بل معصية الله ورسوله؛ لمصادمتة الحديث الصحيح ومحالفته مذهب السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان.

وهذا الوصف الأخير أعني به موضوعنا هذا، وموضوعا آخر تذبذب فيه فضيلة الشيخ؛ فلا تكاد تجزم برأيه الثابت فيه، وأعنى بذلك موضوع الاحتفال بالمولد النبوي، إحدى البدع التي جارى فيها المسمون النصارى؛ مصداق قوله عليه السلام:"لتتبعن سنن من كان قبلكم.." الحديث.

وقد تعرض الشيخ لهذا الموضوع أثناء كلامه على سورة الإنسان.. ومن هنا ندخل في الموضوع متوكلين على الله ومستعينين بحوله وقوته.

ص: 419

بدأ الشيخ في بحثه في مسألة حكم شدّ الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم بترجمة هذا نصها: "شد الرحال إلى المسجد النبوي للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ثم أتبع ذلك بقوله:"ومما اختص به المسجد النبوي - بل من أهم خصائصه بعد الصلاة فيه - السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم من داخل هذا المسجد قديما وحديثا"..

مناقشة:

ونريد أن نناقش فضيلته فيما تقدم فنقول:

هذه الخاصية التي أثبتها فضيلته للمسجد النبوي، وجعلها من أهم خصائصه ما الدليل عليها؟.. ومن الذي قررها أصلا وجعلها كما ذكر فضيلته؟.. هل قررها القرآن؟.. فليتكرم على المسلمين بذكر الآية التي بينت ذلك أو أشارت إليه، هل قرر ذلك الرسول؟.. فليتكرم بذكر الحديث الذي أفاد هذا الحكم؛ فإننا بأمس الحاجة إلى معرفته لأسباب لا تخفى على من يهمه أمر الإسلام والمسلمين.

هل أجمع على ذلك أصحاب رسول الله وعملوا به؟ أم ذهب إليه جمهورهم أو كثرة منهم أو حتى ولو بضعة من كبارهم وفقهائهم؟.. إن كان كذلك فعلى الرأس والعين، ولكن نريد من فضيلته أن يرشدنا إلى المصدر الذي ذكر ذلك من المصادر المعتبرة عند علماء الإسلام، ونعنى بعلماء الإسلام أئمة السلف خاصة، ونعى بالسلف القرون الثلاثة الأولى من هذه الأمة؛ لشهادة المصطفى عليه السلام بفضلهم، ولما عرف لهم من أحوال في العلم والدين تختلف عنها أحوال من جاءوا بعدهم، ولأن فبما بعدهم كثرت الأهواء والابتداع في الدين ولم يسلم من ذلك إلا القليل، ومن ثم فإننا لا نطمئن إلى نقل كثير من المتأخرين ولا بآرائهم ما لم يكن المصدر الذي نقلوا عنه موجودا بين أيدينا، خاصة في الأمور التي فيها خلاف جوهري يمس العقيدة، أو يخشى أن يمسها، أو له صلة ببدعة فتن بها كثير من المسلمين كمسألتنا هذه.

ص: 420

كما نذكِّر مسبقا بأننا لا نعتبر عمل الصحابي الواحد حجة في الدين إذا انفرد به دون غيره من الصحابة، ولم يرد أنهم وافقوه قولا ولا عملا وما لم نعلم له مستندا من الكتاب أو السنة؛ ذلك لأن التشريع من حق الله ورسوله فقط ولا نصيب لأحد بعد الله ورسوله فيه، أما المجتهدون من العلماء فهم معرّضون لأن يصيبوا ولأن يخطئوا، وصوابهم أن يوافقوا حكم الله ورسوله بفهم مقتضى نص شرعي، وخطؤهم أن لا يوافقوا حكم الله ورسوله بأن لا يوفّقوا لفهم النص الشرعي الذي يريدون فهمه.

أما التخرص والاعتماد على واقع الناس، والاستدلال بما تفعله الجماهير فليس حجة في الدين عند أحد يعرف أن الإسلام هو دين الله الذي أنزله على رسوله ورضيه لهم منهجا في العبادات والمعاملات والأخلاق والآداب والسلوك؛ فأكمله وأتم به النعمة على المسلمين وبيّنه رسوله صلى الله عله وسلم لأمته أتم بيان، كان ذلك قبل أن يقبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم إليه، فما من خير إلا دل عليه أمته وما من شر إلا نهانا عنه وحذرها من الوقوع فيه، خاصة ما يتعلق بتوحيد الله وحمايته من شوائب الشرك وسد الذرائع التي يخشى أن تتدرج بأمته إلى الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيا عن أمته.

أما زعم الشيخ أن السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان إلا من داخل المسجد قديما وحديثا؛ فتعبيره بقديم وحديث يدل على أنه يستدل بالواقع، ويؤكد ذلك كون فضيلته لم يورد أي دليل شرعي على صحة ما ذهب إليه، وإنما استدل عليه بما ظن أنه عمل الناس، ثم إن زعمه ذلك قول بلا علم، ودعوى بلا بينة؛ إذ إن فضيلته لم يوجد إلا منذ خمسين سنة تقريبا، فكيف علم ما عليه الناس في هذا الأمر منذ ألف سنة؟.. لا يعلم ذلك، من عاش هذه القرون كلها.

إذاً كيف علم فضيلته أن السلام على رسول الله ما كان يوما من الأيام إلا من داخل المسجد؟

ص: 421

أظن كل هذا من أجل محاولة الربط الوثيق بين القبر والمسجد، كما سيأتي تصريحه بذلك والاستدلال العجيب عليه بحديث:"ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".. ونسي - سامحه الله - أن المساجد تختلف عن الأضرحة، وليس بينهما وجه شبه ولا جامع مشترك.

وقال الشيخ: كما جاء في الصحيح: "ما من أحد يسلّم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه السلام"، ثم قال: ومجمعون على أن ذلك يحصل لمن سلم عليه من قريب، ثم أكد ما ادّعاه أولا بقوله: وما كان هذا السلام يوما من الأيام إلا من المسجد النبوي، سواء قبل وبعد إدخال الحجرة بالمسجد.

مناقشة:

وهنا نناقش الشيخ من نواح حول ما نقلنا من كلامه:

1-

ما مراده بالصحيح؟.. أيعني البخاري ومسلم أو أحدهما كما هو اصطلاح العلماء غالبا، وكما يشير إليه اكتفاءه هو بكلمة الصحيح دون كلمة الحديث؛ إذ حسب فهمي أنه لو كان مراده غير الصحيحين لقال: كما في الحديث الصحيح، ولكن - كما يقولون - (لا مشاحة في الاصطلاح) لو كان الحديث المشار إليه صحيحا، ولكن هذا الحديث ليس في الصحيحين وليس واردا بسند صحيح؛ فأيا ما كان قصد الشيخ بهذا الوصف فهو خطأ؛ لأن الحديث في أبي داود وبعض الكتب الأخرى غير البخاري ومسلم بسند حسن فقط؛ إذ إن في سنده أبا صخر حميد بن يزيد قال فيه ابن حجر في التقريب:(صدوق يهم) .

2-

في الحديث الذي نحن بصدده قوله عليه السلام: "ما من أحد يسلم علي"، وكلمة (أحد) نكرة مسبوقة بنفي ولم توصف بما يميزها ولم تقيد بما يخصصها؛ فمن ثم تكون عامة تشمل جميع من يصدقها عليه بأنه أحد، فإذ كان الأمر كذلك من أين تكون الفضيلة الخاصة التي يدندنون حولها محاولين تأويل النصوص من أجلها؟

وقد ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنه لا فضيلة هنا للمردود عليه، وإنما الفضيلة للراد صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك من باب المكافأة على الإحسان ورد الجميل بمثله.

ص: 422

ثم إن الشيخ وفقنا الله وإياه! يميل بقوة - حسب فهمي من كلامه - إلى أن رد السلام منه عليه السلام المشار إليه في الحديث إنما يصل لمن سلم من قريب دون من سلم من بعيد، ودليل ذلك كونه حكى الإجماع على أن ردّ السلام يحصل لمن سلم من قريب وسكت عن رأي من يرى أنه لا فرق بين البعيد والقريب، مما يشير إلى أنه غير معتد بذلك المذهب ولا ملتفت إليه.

مع أن ما أعرض عنه فضيلته هو الصحيح للأدلة الآتية:

أ- دعوى الاختصاص لا دليل عليها، لا من النقل ولا من العقل، وكل دعوى لا تؤيدها الأدلة مآلها للرد والبطلان.

ب- الحديث مطلق من القيود، وما أطلقه المشرع لا يجوز تقييده بدليل سوى الظن؛ فقد وصف الله الظن بأنه لا يغنى من الحق شيئا.

ج- في هذا التخصيص قياس لحال ما بعد الموت على حال الحياة، وهو قياس فاسد؛ لبعد الفارق بين الحالين؛ إذ حال الحياة محسوس مشهود، وحال ما بعد الوفاة غيب لا يعلم حقيقته إلا الله، والذي يظهر أنه لا فرق هنا بين البعيد والقريب.

ثم إن الله تعالى مكّن رسوله عليه الصلاة والسلام من رد السلام على من سلم عليه من قريب وهو في حال وفاة ومفارقة للحياة الدنيا، لا يعجز أن يمكنه من ذلك بالنسبة للبعيد أيضا؛ إذ إن القضية غيب وقدرة إلهية خارقة - والله أعلم -.

ص: 423

ثم لو كان الأمر كما ظن البعض وهو أن الردّ لا يحصل إلا من قريب لكان المسلّم يحتاج من أجل الحصول على ذلك إلى أن يدخل الحجرة ويقف على شفير القبر، أما وهو داخل المسجد فقط فذلك بعيد وليس بقريب، والشيخ جعل الفارق بين البعيد والقريب هو المسجد؛ فمن سلم من داخل المسجد فهو في نظره قريب، ومن سلم من خارجه فهو بعيد، ولم يخصص مكانا من المسجد دون مكان، ونحن نتساءل: كيف يكون من سلم وهو في غربي المسجد - خاصة بعد الزيادات الأخيرة، وبينه وبين القبر مئات الأمتار - يكون قريبا، ومن سلم من خارج المسجد من الناحية الشرقية أو القبلية - وبينه وبين القبر أمتار محدودة قد لا تبلغ الخمسة عشر أو العشرين مترا - يكون بعيدا، مع أن المعتمد في ذلك والأساس الذي بنى عليه فضيلته هذا الحكم هو الاجتهاد المجرد من الدليل؟.. أما أنا فلا أجد جوابا لهذا التساؤل سوى ما ذكرت قبل، وهو حرصه على أن يربط بين المسجد والقبر.

4-

قد ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بطرق متعددة وشواهد كثيرة يرويها أئمة أهل البيت النبوي الطاهر وغيرهم؛ يفيد هذا الحديث بطرقه وشواهده أن لا فرق بين القريب والبعيد بالنسبة للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يفيد أيضا أن النبي عليه السلام نهى عن اتخاذ قبره عيدا، وقد فهم رواة هذا الحديث من آل البيت النبوي أن من اتخاذ قبره عليه السلام عيدا التردد على القبر؛ فقد أنكر كل من علي بن الحسين زين العابدين وابن عمه الحسن بن الحسن على من يتردد على القبر مستدلين عليه بالحديث المشار إليه، والذي يرويانه بإسناديهما إلى جدهما سيد الخلق صلى الله عليه وسلم كما أخبرا أنه لا فرق في السلام عليه صلى الله عليه وسلم بين أن يكون من قريب أو من بعيد.

ص: 424

وهذا نص الحديث: قال أبو يعلى في سنده: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة.. ثم ساق السند إلى علي بن الحسين زين العابدين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيدخل فيها، فنهاه ثم قال: ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسم.. قال: "لا تتخذوا قبرى عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا؛ فإن تسليمكم يصلني أينما كنتم". وفي بعض الروايات: "وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم! ".. وفي رواية: "فإن صلاتكم وتسليمكم".

وفي مسند سعيد بن منصور: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أني سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أنا طالب رضى الله عنهم عند القبر؛ فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلمّ إلى العشاء! قلت: لا أريده، فقال: رأيتك عند القبر؟.. قلت: سلمت علي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبرى.. وفي رواية: بيتي عيدا، ولا بيوتكم قبورا؛ لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"، ثم قال الحسن بعد روايته لهذا الحديث:"ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ورواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم".

وفي سنن أبي داود نص الحديث المتقدم - لفظا بلفظ - عن أبي هريرة.

وقال شيخ الإسلام في كتاب الرد على الاخنائي: "هذا حديث حسن رواته ثقات مثساهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به، خاصة وأن لهذا الحديث شواهد متعددة"، ثم ذكر واحدا من شواهده في سنن سعيد بن منصور.

قلت: وسيأتي إن يشاء الله نقل احتجاج العلامة محمد بشير السهسواني بهذا الحديث برواياته في رده على زيني دحلان.

ماذا نستفيد من هذا الحديث؟

ص: 425

ونستفيد من هذا الحديث ما يلي:

1-

الرد على من زعم أن السلام على رسول الله بعد وفاته عليه السلام ما كان يوما من الأيام إلا من داخل المسجد النبوي، وأن السلام من قريب أفضل وأنفع مما إذا كان من بعيد.

2-

أن علي بن الحسين والحسن بن الحسن اعتبرا التردد على القبر داخلا في اتخاذه عيدا نُهِىَ عنه في الحديث، وأن ذلك التردد يتعارض مع مقتضى ذلك النهي الصادر عن المصطفى صلى الله عليه وسلم.

3-

يدل نهيهما وإنكارهما على من تردد إلى القبر أنّ عمل جمهور المسلمين في زمانهما - وخاصة العلماء - عدم التردد إلى القبر؛ إذ لو كان الأمر بالعكس لما استنكر كل واحد منهما تردد من أتى إلى القبر، ولما نهاه عن أمر يفعله سائر المسلمين ولا ينكر بعضهم على بعض، ولاحتج المنهي بأن ما فعله يفعله سائر الناس ولا ينكر عليهم من قبل العلماء، علما بأن ما أنكره هذان الإمامان لم ينفردا بإنكاره بل نقل عن جمهور علماء السلف وأئمتهم، كالإمام مالك؛ إذ ثبت عنه أنه يكره قول الرجل: زرت قبر النبي أو سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم.. يعنى عند قبره.

ص: 426

ولم يكن معروفا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يترددون على القبر، إلا ما عرف عن عبد الله بن عمر من أنه إذا أراد سفرا أو قدم من سفر جاء إلى القبور الثلاثة بعد ما يصلي في المسجد ركعتين؛ فيقول:"السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا خليفة رسول الله، السلام عليك يا أبتاه"، ولا يزيد على هذا؛ فماذا يقول من يزعم أن السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخص خصائص المسجد النبوي؟.. وأن السلام على رسول الله ما كان يوما من الأيام إلا من داخل المسجد.. وماذا يقول من يرى وجوب أو استحباب أو إباحة شد الرحال لزيارة القبر الشريف، معارضا بذلك نهيه عليه السلام، ومحاولا تأويل ذلك النهى، غير ملتفت لعمل السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم في هذه المسألة

بل حاول أن ينسب إليهم ما لم يقولوا أو يفعلوا.

لا أعلم لهم جوابا إلا أن يدعوا إحدى ثلاث دعاوى:

الأولى: أن يدعوا ضعف الحديث الذي أفاد النهي عن اتخاذ قبره عليه السلام عيدا، وأفاد أن لا فرق في السلام عليه عليه السلام بين أن يكون من قريب بعيد، وهذه الدعوى لو لجأوا إليها لقلنا لهم: إن طريقا واحدة من طرق هذا الحديث تساوى طرق حديث "ما من أحد يسلم علي.." الخ. وتبقى بقية الطرق لا مقابل لها بالنسبة لذلك الحديث.. علما بأن حديث "لا تتخذوا.."قد استدل به في الموضوع أئمة الإسلام قديما وحديثا كما تقدم، وكما تجده في أي كتاب تعرض لهذه المسألة، والحديث إذا ارتفع عن درجة الضعف فهو أولى بالقبول من آراء الرجال.

الثانية: أن يتهموا إمامي أهل البيت -وغيرهم ممن استدل بهذا الحديث على عدم جواز التردد على القبر - بسوء الفهم، وأنهم نزلوا الحديث في غير منزله، ووضعوه في غير موضعه.

ص: 427

والجواب على هذه الدعوى أن نقول: لا يشك من له أدنى إلمام بعلوم الشريعة وتاريخ الإسلام أن السلف أعلم بنصوص الشريعة ومقاصدها وأهدافها من الخلف مرات متكررة، وخاصة راوي الحديث، ومن شاهد التطبيق العملي لمقتضاه من جهة سلف الأمة والقرون المفضلة أحرى وأجدر بمعرفة مراد الله ورسوله ممن جاء بعدهم، كيف وفيما بعدهم تدخلت الأهواء وتأثر كثير من الناس بما حدث من بدع ونحل وأفكار دخيلة على الإسلام؟..

الثالثة: أن يقولوا: إذا كان من السلف من لا يرى مشروعية السلام عند القبر، أو يرى ذلك مكروها فقد وجد فيهم من يرى استحباب ذلك وأنه من الأعمال الصالحة، أو أنه مباح على الأقل، وليس من يرى ذلك أولى باعتبار رأيه من الفريق الثاني.

ص: 428

والجواب على ذلك أن نقول: إذا كان من يرى عدم مشروعية السلام عند القبر بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم قد وجد من يعارضه من معاصريه وأقرانه؛ فإن الله قد أمرنا أن نرد ما اختلفنا فيه إليه تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فعلينا أن نطبق هذا الأصل العظيم وأن نسلك هذا السبيل القويم؛ فننظر من يكون الدليل بجانبه فنعلم أنه هو المصيب وأن مخالفه على خطأ وقد حرم الصواب، ولكن إن كانت المسألة في فروع الشريعة، وهذا المخطئ قد بذل وسعه في تحرى الصواب والتماس الحق؛ فلا لوم عليه ولا إثم بشرط أن يكون أهلا للاجتهاد ومن الحائزين على مؤهلاته، أما إن كانت القضية قضية عقيدة فالذي نعتقده والذي فهمناه عن علماء أهل السنة أن الخطأ في أمور العقيدة غير معذور فيه إذا كان المسلم يعيش في بلاد الإسلام التي يوجد فيها من يبين العقيدة الصحيحة؛ إذ إن الإنسان إما أن يكون عالما قادرا على فهم نصوص الوحي؛ فسيكون مؤاخذا على الخطأ؛ لأن أمور العقيدة واضحة جلية، ولذلك لم يختلف السلف في أمور العقيدة مع أنهم اختلفوا في بعض مسائل الفروع، وإما أن يكون جاهلا؛ فعليه أن يسأل أهل الذكر من علماء السنة الذين إذا ذكروا حكما ذكروا دليله من الكتاب أو السنة.

وربما قالوا: صحيح أن هذا الحديث يفيد أن السلام يبلغه عليه السلام من البعيد كالصلاة، ولكن لا يرد إلا على من سلم من قريب!

فنقول لهم حينئذ: ما الدليل على ما زعمتم؟.. هذا مجرد ظن وتدخل في أمور الغيب التي هي من اختصاص الله وحده، ولا سبيل إلى علمها من غير طريق الوحي.

ص: 429

الناحية الثانية: ماذا يعني فضيلة الشيخ حين يقول: وما كان هذا السلام يوما من الأيام إلا من داخل المسجد سواء قبل أو بعد إدخال الحجرة؟.. إن كان يعني هذا النوع المبتدع الذي تمارسه العامة والدهماء، وهذا الضجيج والأصوات العالية بين مناد وداع ومتوسل ومستجير وطالب للشفاعة من غير مالكها.. إن كان هذا هو الذي يقصد الشيخ فليقل فيه فضيلته ما شاء، وليس لدينا أي اعتراض أو مناقشة؛ لأننا لا نعترف بهذا النوع من السلام أصلا ولا نعتبره من الدين الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنه من مخلفات عصور الانحطاط الذي نتج عنه قيام الوثنية في أغلب بلدان المسلمين إلا ما طهره الله - كأرض المملكة العربية السعودية - من هذه الوثنية، بفضله تعالى ثم ببركة الدعوة الصالحة والحركة الناجحة التي قام بها شيخ الإسلام ومجدده محمد بن عبد الوهاب، وقام بنصره وحمايته أمراء آل سعود رحم الله أسلافهم وبارك في أخلافهم ووفقهم لحماية دين الإسلام من عبث العابثين وكيد الكائدين.

ص: 430

أما إن كان مراد الشيخ السلام على النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر الله به المسلمين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} ، والذي يعنيه المصطفى صلى الله عليه وسلم حين يقول:"من صلى عليَّ مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرا"، والذي يردده المسلم في كل صلاة مفروضة أو راتبة أو نافلة ضمن التشهد المفروض؛ فيقول:"السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، والذي يأتي به المسلم كلما دخل مسجدا من المساجد أو خرج منه؛ فيقول:"بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله"، وكذلك كلما ذكر المسلم نبيه أو سمع ذكره قال:"صلى الله عليه وسلم"

إن هذا النوع من السلام هو الذي يعنيه فضيلة الشيخ فليس صحيحا أن هذا السلام ما كان يوما من الأيام إلا من داخل المسجد النبوي، بل إن هذا السلام يمارسه المسلم في كل مكان وفي كل مناسبة، ولم يكن يوما من الأيام مقصورا على مكان من الأمكنة.

ص: 431

وإن كان فضيلته يرى أن هناك نوعين من السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحدهما عام في كل مكان؛ في الصلاة، وعند دخول المساجد، وعند ذكره عليه السلام، والآخر خاص بالمسجد النبوي، وأنه هو الذي يعنيه صلى الله عليه وسلم بقوله: "ما من أحد يسلم علي

"الحديث؛ فليقدم لنا دليله على ذلك، وله منا الشكر، وليعلم فضيلته من جديد أننا لا نقبل من أحد أن يقول على الله ورسوله ودينه بلا علم ولا برهان؛ إذ يقول تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} ، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} ، {إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} ، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، ويقول: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، ويقول عليه السلام: "عليكم بسنتي.." إلى قوله: "وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار".

الناحية الثالثة: وكيف علم الشيخ أن السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يشير إليه قوله عليه السلام: "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي فأرد عليه السلام" - كيف علم الشيخ - وفقه الله - أن هذا السلام ما كان يوما من الأيام إلا من داخل المسجد قبل وبعد إدخال الحجرة فيه؟.. ومن أين علم فضيلته أن المسلمين منذ ألف وأربعمائة سنة إلى يومنا هذا نزَّلوا هذا الحديث على السلام عند القبر في دون غيره؟.. وأنهم مجمعون على ذلك ولم يخالف منهم أحد؟.. وماذا يقول عن الصحابة الذين لم يرد أن أحدا منهم يسلم على النبي عند القبر ما عدا عبد الله بن عمر؟.

ص: 432

ثم هل عاش فضيلته ألف وأربعمائة سنة حتى يرى ماذا فعل كل مسلم عاش على وجه الأرض منذ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا؛ حتى يتسنى له أن يجزم بما جزم به ويدعي ما ادعاه من أمر لا يدرك إلا بالحس والمشاهدة؟..

إذا كان هذا مستحيلا فتحقيق ما ادعاه الشيخ مستحيل أيضا، فلو أن فضيلته قرر ذلك حكما شرعيا لكانت المشكلة أخفّ، سواء أصاب أو أخطأ؛ لأن الحكم الشرعي يدرك بالاجتهاد في نصوص الشرع، والمجتهد يصيب أحيانا ويخطئ أحيانا أخرى، ولكن ما قرره فضيلته دعوى علم بما جرى عليه المسلمون منذ أربعة عشر قرنا من الزمان؛ فيا عجب العجاب! وإن كان الشيخ - وفقه الله - بنى حكمه هذا على أساس اعتقادي بأنّ هذا هو الحق في هذه المسألة شرعا؛ لأننا نقول له: حتى وإن استطعت أن تثبت أن هذا هو الحق شرعا فإنك لا تستطيع أن تثبت أن الناس جميعا التزموا به وحافظوا عليه، فهناك فرائض الإسلام وأركانه ولوازم التوحيد ومقتضياته قد أخلّ الناس بها ولم يحافظ عليها ويؤديها - وفق ما جاء به الرسول عليه السلام إلا بعض المسلمين، وهى أمور ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع إجمالا وتفصيلا؛ فما بالك بهذه المسألة التي وقع الخلاف في أصلها وفروعها، ووقع قوم منها في مهالك منذ اختلط على الكثير من المسلمين الصواب بالخطأ والحق بالباطل والهدى بالضلال، علما بأن التخرص والتخمين وقياس الماضي بالحاضر والاعتبار بواقع الناس في عصر من العصور ما كانت هذه الأمور يوما من الأيام مصادر علم تقام على أساسها الأحكام، خاصة أمور الدين التي لا مصدر لها سوى الوحي السماوي والتنزيل الرباني والتشريع الرباني، ولو كان الظن والتخرص مصدر علم يوصل إلى حقائق الأمور لصار العلم من أسهل الأشياء تحصلا، ولاستطاع أجهل الناس أن يتحمل أية متاعب.

المسألة الثانية:

ص: 433

قال الشيخ عطية ص 577: "ولنتصور حقيقة هذه المسألة ينبغي أن نعلم أولا أن البحث فيها له ثلاث حالات:

الأولى: شد الرحال إلى السجد النبوي للزيارة وهذا مجمع عليه.

الثانية: زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم من قريب والسلام عليه بدون شد الرحال، وهذه أيضا مجمع عليها.

الثالثة: شد الرحال للزيارة فقط، وهذه الحال هي محل البحث ومثار النقاش السابق.

مناقشة:

ونحن نناقش ففضيلة الشيخ هنا في فقرة واحدة من هذا الكلام الذي نقلناه هنا من كتابه، وهى دعواه بأن ما عبر عنه هو (بالحالة الثانية) مجمع عليه، فنسأل فضيلته متى انعقد هذا الإجماع؟.. ومن هم الذين أجمعوا على ذلك؟.. وما دليلك على حصول هذا الإجماع؟..

وهل انعقد هذا الإجماع زمن الصحابة؟.. أم زمن التابعين؟.. أم متى كان ذلك؟..ومن الذين أجمعوا على هذا الأمر؟.. هل هم أهل الاجتهاد من أمة محمد عليه السلام أم غيرهم؟.. ومن نقل إجماعهم؟.. هل علم بهذا الإجماع الإمام مالك- رحمه الله ومع ذلك يكره أن يقول الإنسان: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟.. وهل علم به علي بن الحسين والحسن بن الحسن إماما أهل البيت النبوي في زمانهما؟

ومع ذلك ينهيان عن التردد على القبر الشريف.. وهل علم بهذا الإجماع قاضى المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وهو أحد أئمة التابعين وأحد قضاة المدينة وأحد فقهائها وسكانها، وكذلك من ذكروا قبله نشأوا في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعايشوا وتلقوا العلم فيها بجوار قبره الشريف وشاهدوا بأعينهم عمل الأئمة من التابعين وتابعيهم ممن يقيمون بالمدينة، ومن الوافدين إليها من أقطار الأرض، وماذا كانوا يعملون.

فعلى كل حال هم أعلم ممن يدعى الإجماع في هذه المسألة من غير أن يقدم دليلا يثبت صحة دعواه.

ص: 434

فإما أن يقول الشيخ: إن الإجماع انعقد قبل هؤلاء وهم خالفوه، وإما أن يقول: انعقد الإجماع في زمنهم ولا عبرة بخلافهم، وإما أن يقول: إن الإجماع انعقد بعدهم.

فالأول في غاية البشاعة، والثانية مثلها، والثالثة يحتاج لإثباتها إلى دليل مقبول عند من يخالفه في هذه الدعوى، ولا أظنه يثبت وجود إجماع بعد خلاف؛ إذ إن الناس كلما كثروا وكلما طال الأمد بينهم وبين عصر النبوة كثر خلافهم وتشعبت آراؤهم وكثرت أهواؤهم؛ فكيف يتصور أن يتفقوا بعدما اختلف من في قبلهم في حكم من الأحكام أو مسألة من المسائل؟..

من أجل ذلك نكرر الرجاء إلى فضيلته ليدلنا على المصدر الذي استفاد منه فضيلته خبر هذا الإجماع الذي خفي على جهابذة العلماء قديما وحديثا، ولكننا نشرط مسبقا بأننا سوف لا نكتفي بأن يقول لنا فضيلته ذكر هذا الإجماع فلان أو علان في كتاب كذا، حتى نعلم المصدر الأساسي الذي اعتمد عليه فلان أو علان فيما نقل من هذا الإجماع؛ لأن مجرد كلام مدون في كتاب لأحد العلماء يدعى مؤلفه أن الإجماع قد انعقد على كذا وكذا - دون أن يبين مستند - لا يكفى لإثبات وقبول ما ادعاه، وما الفرق بين نسبة الإجماع إلى الأمة وبين نسبة الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ألم تر أن الحديث المنسوب إليه صلى الله عليه وسلم لا يقبل ولا يعتبر حديثا لمجرد وجوده في كتاب من الكتب مهما علت منزلة صاحب ذلك الكتاب رتبة في العلم والتقوى؛ حتى يقدم السند الذي عنه تلقى ذلك الحديث؛ فينظر أهل العلم وطلاب الحق في هذا السند، هل هو ممن يقبل خبره أم ليس كذلك؟.. أليس مما يؤخذ على طالب العلم أن يتكلم في موعظة أو خطبة أو كتاب؛ فينسب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا أو أكثر وهو غير متأكد من صحته سندا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟..

ص: 435

إذا ما بال الإجماع أمره خفيف عند بعض المشايخ فيسهل عليه أن يقول: هذا مجمع عليه، أو ثبت ذلك بالإجماع دون أن يكون هناك مستند مقبول عند التحقيق لهذا الإجماع المزعوم؟.. ولو أن فضيلة الشيخ - وفقنا الله وإياه - سلك الطريق الذي سلكه بعض العلماء، وهو قول أحدهم عندما يتعرض للكلام على مسألة لا يعلم فيها خلافا لأحد فيقول:"حكم هذه المسألة كذا من غير خلاف نعلمه"؛ - فيقيد ذلك بعدم علمه - لكان خيرا له، وصدق الإمام أحمد رحمه الله إذ يقول:"من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريه لعل الناس اختلفوا".

ثم إن فضيلة الشيخ - هداه الله - لم يوضح لنا على أي شيء انعقد هذا الإجماع من الأحكام الثلاثة؛ إذ إنه اكتفى بقوله: "وهذا أيضا مجمع عليه"، والإشارة هنا تعود إلى الحالة الثانية - حسب تعبيره - التي شرحها فضيلته بأنها (زيارة الرسول والسلام عليه بدون شد رحال) ؛ فقرر أن هذه الزيارة مجمع عليها، ولكن أعلى أنها واجبة أو مستحبة أو مباحة؟..

لا ندرى؛ فأي فائدة من ذكر هذا الإجماع الذي لم يبين على أي شئ انعقد؟..

ثم نسأل الشيخ هل ورد على لسان المشرع صلى الله عليه وسلم كلمة (زيارة فلان من الموتى) ؟.. الذي أعتقد أن الجواب بالنفي؛ إذ إن الذي ورد على لسانه عليه السلام.. زيارة القبور أو المقابر أو القبر فقط، كقوله صلى الله عليه وسلم:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة"، وقوله:"لعن الله زوارات القبور"، وقوله:"استأذنت ربي في زيارة قبر أمي"، وهكذا

فالتعبير بزيارة فلان الميت تعبير عامي غوغائي بدعي لا يليق بطلبة العلم؛ فليتنبه لذلك من يحب الاتباع ويكره ما سواه".

المسألة الثالثة:

ص: 436

وقال فضيلة الشيخ حفظه الله ص 577: "الثالثة: شد الرحال للزيارة فقط، وهذه الحالة الثالثة هي محل البحث عندهم ومثار النقاش السابق، قال ابن حجر في فتح الباري على حديث شد الرحال: قال الكرماني: "وقد وقع في هذه المسألة في عصرنا في البلاد الشامية مناظرات كثيرة وصنفت فيها المسائل من الطرفين".

قلت: إن ابن حجر يشير بذلك إلى ما رد به الشيخ تقي الدين السبكي وغيره على الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وما انتصر به الحافظ شمس الدين بن عبد الهادي وغبره لابن تيمية، وهي في مشهورة في بلادنا، وهذا يعطينا مدى الخلاف فيها وتاريخه.

وقد أشار ابن حجر إلى مجمل القول فيها بقوله: "إن الجمهور أجازوا بالإجماع شد الرحال لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن حديث "لا تشد الرحال.." إنما يقصد به خصوص الصلاة.. الخ".

مناقشة:

ومناقشتنا للشيخ هنا حول قول فضيلته: "وهذا يعطينا مدى الخلاف فيها وتاريخه"؛ إذ إن عبارته تلك تفيد أنه يرى أن مبدأ الخلاف في هذه المسألة كان على يد ابن تيمية، وكذلك ما نقله عن ابن حجر من قوله: إن الجمهور أجازوا بالإجماع.. الخ.

لهذا نسأل فضيلته فنقول: إذا كان مبدأ الخلاف في مسألة شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم على يد ابن تيمية ومن في زمنه، ومعلوم أن ابن تيمية عاش- رحمه الله بين القرن السابع والثامن، فماذا كان عليه علماء الأمة الإسلامية قبل وجود ابن تيمية بخصوص هذه المسألة؟.. هل كانوا مجمعين على مشروعية شدّ الرحال لزيارة القبر الشريف، أو لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو تعبير فضيلته؟.. وهل إجماعهم على أن هذا العمل واجب أو على أنه مستحب أو على أنه مباح؟. إن كان الأمر كذلك ألا يكون ابن تيمية خارجا على إجماع الأمة هو ومن وافقه؟.

ص: 437

أم أنهم مجمعون على المنع؛ فيكون السبكى ومن وافقه خارجين على الإجماع؛ فيستحقون ما يستحقه من خرق الإجماع وخرج عليه؟.. لا ندرى أي ذلك يكون الجواب عليه بنعم، فأي من هذه الأسئلة أجاب عليه فضيلته بنعم؛ فهي ورطة لا يستطيع التخلص منها.

إن الخلاف قائم في هذه المسألة منذ تكلم فيها، وإن الكلام فيها والخلاف حولها حادث بعد القرون الثلاثة من هذه الأمة، أما زمن القرون الثلاثة فلم يوجد أحد يقول بجواز شد الرحال لزيارة قبر من القبور؛ فضلا عن الوجوب أو الاستحباب.

والذي أعتقده أن فضيلة الشيخ لا ينسب ولا يرضى أن ينسب إلى مثل شيخ الإسلام ابن تيمبة أنه يخرج على إجماع الأمة ويضرب به عرض الحائط، ويأتي بمذهب يخالفه.

وأنا أعجب كثيرا كيف فهم فضيلة الشيخ من عبارة ابن حجر وما نقله ابن حجر عن الكرماني؛ كيف فهم من ذلك أن مبدأ الخلاف في هذه المسألة كان على يد ابن تيميه؟.. أما أنا فأقول: هذا الفهم لا وجه له ولا مأخذ من كلام الرجلين، وإنما ذكرا أمرا وقع في ذلك الزمان دون أن يقولا فيه إنه مبدأ الخلاف في تلك القضية، وكيف يزعمان ما فهمه فضيلة الشيخ مع أن الخلاف فيها قد نشأ منذ وجد من يقول بجواز شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين، وممن نُقل عنه هذا القول الغزالي ومن لف لفه من المبتدعة، وممن نُقل عنهم القول بالمنع قبل ابن تيمية بمئات من السنين القاضي عياض، والقاضي حسين، وإسحاق ابن إسماعيل، وأبو محمد الجويني وغيرهم كما سيأتي إن شاء الله، فهل خفي ذلك على الكرماني وابن حجر؟.. أنا أقول: ليس في كلامهما ما يدل على أن ذلك خفي عليهما، ولكنه خفي على فضيلة الشيخ فليراجع مكتبته من الآن إن أحب أن يقف على الحقيقة، علما بأن الثلاثة المذكورين أعلاه كلهم من المالكية، وما ذهبوا إليه هو مذهب مالك نفسه في هذه المسألة.

تم قال فضيلة الشيخ - نقلا عن ابن حجر-:"إن الجمهور أجازوا بالإجماع شد الرحال.. الخ.."

ص: 438

فنسأل فضيلته: هل هذا التعبير صحيح؟ ....هل هناك إجماع للجمهور وإجماع للأمة كلها؟.. وهل الجمهور عدد محدود معين حتى نعلم أنهم اتفقوا فنقول أجمع الجمهور؟.. وهل مذهب الجمهور يسمى إجماعا؟ أليس إذا قيل: (يرى الجمهور) فمعنى هذا أن هناك من يخالفهم ممن يعتد برأيه ويحسب لمذهبه؟.. وهل خطأ الأول يسوغ الخطأ للثاني؟.. أليس على كل واحد من العلماء أن يحرص على أن لا يقع فيما وقع فيه غيره من الأخطاء؟..

الصحيح في نظرنا أن هذا التعبير خطأ، وأن الإجماع ما اتفق عليه المجتهدون من علماء هذه الأمة قاطبة، في عصر من العصور دون أن يخالف واحد منهم، وبدون ذلك لا ترد كلمة إجماع، وإنما يقال: يرى الجمهور كذا، أو ذهب الجمهور إلى كذا.

ثم مَن هؤلاء المعبر عنهم بالجمهور الذين يرون جواز شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل هم جمهور الصحابة، أم جمهور التابعين، أو تابعيهم، أو الأئمة الأربعة ومن في عصرهم، أو جمهور علماء القرن الثالث؟

لا ندري أي جمهور هذا، غير أننا لا نستبعد أن يكون المراد هنا جمهور العامة في القرن الرابع وما بعده، بما فيهم بعض المبتدعة من العلماء أو المنسوبين للعلم.

إن كان أولئك هم الجمهور المراد في هذا الموضوع فالنقل صحيح.

ص: 439

أما إن كان المراد به جمهور العلماء من أهل القرن الأول أو الثاني أو الثالث، أو الملتزمين بالسنة من العلماء إلى يومنا هذا فالنقل غلط والدعوى مردودة، بل الصحيح العكس على طول الخط؛ ففي القرون الثلاثة لم يوجد من يقول بجواز شد الرحال لزيارة القبور من العلماء المعتبرين، وبعد الثلاثة وجد من يرى ذلك، ولكن ممن شاركوا في الابتداع في الدين ومن لا يتقيدون بالنصوص الشرعية، ولا يميزون بين الحديث الصحيح من غيره، أمثال أبي حامد الغزالي، ومع الأيام استقرت هذه البدعة - بل المعصية - حتى صارت عند كثير من المنتسبين للعلم أمرا واقعا لا يجوز الجدال فيه، بل يساء الظن بمن ينكره أو يتردد في الجزم بمشروعيته؛ فأولوا الأحاديث الواردة في النهي منه وما أثر عن الأئمة من إنكاره كلما احتج عليهم المتمسكون بالسنة بحديث أو قول إمام، كقولهم: إن مالكا كره اللفظ فقط، وإلا فزيارة قبر النبي عليه الصلاة والسلام من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال، دون أن يقدموا أدنى دليل من السنة على صحة ما زعموا.

ص: 440

ثم نوجه هذا السؤال إلى فضيلة الشيخ فنقول: حسب علمنا لا يجوز أن يعتبر الجمهور بكثرة العدد في الشؤون العلمية والمذاهب الفقهية والعقيدة الإبراهيمية المحمدية، وإنما ينبغي أن ينظر إلى الكيف أولا، وبعد أن نميز العلماء على الحقيقة لا على الإدعاء والألقاب ننظر بعد ذلك إلى مذاهبهم في مسألة ما، فإذا وجدنا كثرتهم ذهبوا مذهبا، وقليلاً منهم ذهب مذهبا آخر قلنا عن مذهب الكثرة: إنه مذهب الجمهور، أي جمهور العلماء الذين يستحقون أن يوصفوا بالعلم، أما مجرد الكثرة فتسميتهم بالجمهور فيه شئ من المغالطة والتغرير بالناس، أرأيت في زمن الإمام أحمد لما تبنى المأمون فكرة القول بخلق القرآن وسقط في تلك الفتنة آلاف العلماء بين مقتنع ومداهن، ووقف بالمقابل عدد قليل من العلماء قد لا يبلغ عددهم أصابع اليد على رأسهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل، أيجوز أن يقال عن مذهب المأمون وشلته مذهب الجمهور، ومذهب هؤلاء القلة مذهب شاذ يخالف لجمهور المسلمين؟..

وواقع الأمر في مسألتنا هذه هو أنه عبر بكلمة (الجمهور) عمن هبّ ودب من عالم مبتدع وجاهل متعلم، وصار مذهب فطاحل العلماء وأئمة الهدى - أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية - مذهبا شاذا مخالفا للجمهور.

وصدق من قال: "لا تفتر بالباطل لكثرة الهالكين ولا تزهد بالحق لقلة السالكين".

(ابن تيمية في زمنه هو الجمهور حتى ولو كان وحده خاصة في موضوعات العقيدة) ..

ونقول لفضيلة الشيخ: نحن نعتقد أن ابن تيمية ومن وافقه في زمنه هو الجمهور، خصوصا في أمور العقيدة؛ لالتزامهم بالسنة الصحيحة مهما كلفهم الأمر، ومن خالفه فهو صاحب المذهب الشاذ وحتى ولو وافقه أكثر الناس؛ لأن الحق بالبرهان والدليل لا بكرة الآخذين به وقلة المتنكرين له.

ص: 441

وبرهانا على ما قلنا بالنسبة لابن تيميه أن من قرأ كتبه وتتبع فتاواه وبحوثه ورسائله - وهو من أهل البصيرة في الدين - يجد أنه على مذهب السلف الصالح والرعيل الأول من الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة ومن على شاكلتهم من معاصريهم، فهو دائماً يدعو مخالفيه إلى الكتاب والسنة؛ فيقول لهم: بيني وبينكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فما أثبتا فهو الثابت وما بطلا فهو الباطل، ويقول لهم: إذا اختلفنا في فهم آية أو حديث رجعنا إلى فهوم الصحابة والتابعين والأئمة المهديين من بعدهم؛ فننظر بماذا فسروا تلك الآية أو ذلك الحديث؛ فهم أعلم منا وأفْقَهُ للغة والشرع.

فمن كان هذا مذهبه وهذه طريقته فهو ومن وافقه هم الجمهور مهما قلوا وكثر مخالفوهم؛ لأن من تبع جمهور السلف من الخلف فمذهبه مذهب الجمهور، ومن خالف جمهور السلف من الخلف فمذهبه خلاف مذهب الجمهور، بل مذهب شاذ ليس حرياً بالصواب.

والخلاصة:

أن من كان مع الدليل فهو على الصواب ولو كان واحداً بين جميع أهل الأرض، ومن قال أو عمل بغير دليل فهو بعيد عن الصواب ولو أنهم أهل الأرض جميعاً، وبصرف النظر عن كل ما تقدم وعن كل من تقدم قبل زمن ابن تيمية، وعن كل ما هو الواقع عند التحقيق في هذه المسألة، بل يصح ما قيل من أن مذهب جمهور العلماء في هذه المسألة جواز شد الرحال لزيارة القبر الشريف - وأعني بذلك زمن ابن تيمية دون غيره من الأزمنة - الصحيح أن الواقع بالعكس، وهو أن مذهب جمهور العلماء في ذلك الزمان هو ما ذهب إليه شيخ الإسلام، وهو طاعة الله ورسول بالتزام مقتضى حديث "لا تشد الرحال

" الخ.

ص: 442

وقد ذكرنا فيما سبق أن مسألة شد الرحال لزيارة القبر سواء قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لم يتكلم فيها أحد من أهل العلم، ولم تخطر على بال أحد منهم في القرون الثلاثة الأولى من تاريخ الإسلام؛ عملا منهم بحديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد"؛ ولذلك لما سئل الإمام مالك عمن نذر السفر لزيارة القبر الشريف، نهى عن الوفاء بهذا النذر قائلا: إن كان مراده المسجد فليأت المسجد وليصل فيه، وإن كان مراده القبر فلا يأته؛ لحديث "لا تعمل المطي

". انظر: الرد على الأخنائي ص35 قال شيخ الإسلام - يعني الإمام مالك-: ومذهبه المعروف في جميع كتب أصحابه الكبار والصغار المدونة لابن قاسم، والتفريع لابن الجلاب أنه من نذر إتيان المدينة النبوية إن كان أراد الصلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وفَّى بنذره، وإن كان أراد غير ذلك لم يوفّ بنذره.

قلت: ومعلوم أن النذر إذا كان فيه طاعة الله وجب الوفاء به، وإذا كان فيه معصية حرم الوفاء به، وإذا كان في أمر مباح فلا يلزم الوفاء به، وإذا وفى به فإنه لا يستفيد شيئا عند الله؛ ولهذا لما كان مالك رحمه الله -يرى أن شد الرحال لزيارة قبر الني صلى الله عليه وسلم داخل في النهي الذي تضمنه حديث "لا تشد الرحال.." نهى عن الوفاء بنذر من نذر السفر لهذه الزيارة، واستدل لذلك بالحديث نفسه.

أما الذي حصل فيه الخلاف بين أئمة السلف حول موضوع الزيارة فهو مسألة الفرق بين القريب والبعيد بالنسبة للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ قد رأى بعضهم أن السلام من قريب يحصل به الرد منه عليه السلام دون السلام عليه من بعيد؛ لأن هذا البعض أوّل حديث "ما من أحد يسلم علي.." الخ. على أنه خاص بمن سلم من قريب، وكذلك استأنسوا بفعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ نُقل ذلك عن الإمام أحمد وابن حبيب.

ص: 443

كما ذهب البعض الآخر إلى عدم الفرق بين القريب والبعيد كما تقدم، ومعلوم أن هذا لا يدخل في مسألة شد الرحال.

وتقدم أن ذكرنا عددا من علماء الأمة الإسلامية قبل زمن ابن تيمية يحرمون شد الرحال لزيارة أي قبر من القبور، ويستدلون بحديث "لا تشد الرحال.." منهم القاضي عياض والقاضي حسين وأبو محمد الجويني وإسماعيل بن إسحاق، وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله كما تقدم، بل ورد عنه قوله لما سئل عن نذر السفر الزيارة القبر الشريف: لا وفاء لنذر المعصية وهذا معصية؛ لأن الحديث يقول

وذكره.

ونعود الآن إلى الموضوع الذي بدأنا الكلام فيه، وهو إثبات كون مذهب ابن تيمية في هذه المسألة هو مذهب جمهور علماء زمانه فنقول:

إنه لما حصلت المناظرة بين ابن تيمية وبعض القضاة الرسميين في مسألة شد الرحال، واختلاف بعضهم معه فيها أثاروا الحكومة ضده، وأغروها به فسجن ظلماً بسببهم، - ودائماً العاجز عن إقامة الحجة يلجأ إلى قوة الحاكم؛ فيوهمه أن خصمه مجرم ينبغي التنكيل به وإهانته وإرغامه على الرجوع عن رأيه بالقوة - فلما سجن هبَّ العلماء من أقطار العالم الإسلامية يطالبون الحكومة بالإفراج عنه معلنين أمامها أن ما ذهب إليه هذا الرجل هو والحق والصواب، وهو الذي عليه أئمة الإسلام قديما وحديثاً.

انظر لذلك ما دونه الإمام الحافظ ابن عبد الهادي في كتابه العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية، وانظر هناك كم كتاباً نقله عن علماء بغداد وحدها لتعرف صحة ما قررنا.

ملخصات لبعض خطاباتهم:

وأنا أورد هنا مقتطفات مما تضمنته خطاباتهم:

قال ابن عبد الهادي ص342 من الكتاب المشار إليه - العنوان (انتصار علماء بغداد للشيخ في مسألة شد الرحال للقبور) - ثم قال: "وقد وصل ما أجاب به الشيخ في هذه المسألة إلى علماء بغداد؛ فقاموا في الانتصار له وكتبوا بموافقته، ورأيت خطوطهم بذلك وهذه صورة لما كتبوا:

ص: 444

ملخص الخطاب الأول:

ولا ريب أن المملوك وقف على ما سئل عنه الإمام العلامة وحيد دهره وفريد عصره تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية، وما أجاب به فوجدته خلاصة ما قاله العلماء في هذا الباب حسب ما اقتضاه الحال من نقله الصحيح، وما أدى إليه البحث من الإلزام والالتزام لا يداخله تحامل ولا يعتريه تجاهل، وليس فيه - والعياذ بالله - ما يقتضي الإزراء والتنقيص بمنزلة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهل يجوز أن يتصور متصور أن زيارة قبره تزيد في قدره؟.. وهل تركها مما ينقص من تعظيمه؟ حاشا للرسول من ذلك..

إلى أن قال:

مع أن المفهوم من كلام العلماء وأنظار العقلاء أن الزيارة ليست عبادة وطاعة لمجردها، حتى لو حلف أنه يأتي بعبادة أو طاعة لم يبر بها - يعني القيام بزيارة القبر الشريف - ما اعتبر بارا بيمينه.

لكن القاضي ابن كج - من متأخري أصحابنا - ذكر أن نذر هذه الزيارة عنده قربة تلتزم ناذرها.

وهو منفرد به لا يساعده في ذلك نقل صريح ولا قياس صحيح، والذي يقتضيه مطلق الخبر النبوي في قوله عليه السلام:"لا تشد الرحال"إلى آخره.. أنه لا يجوز شد الرحال إلى غير ما ذكر؛ فإن فعله كان مخالفا لصريح النهي، ومخالفة النهي إما كفر أو غيره على قدر المنهي عنه ووجوبه وتحريمه وصفة النهي، والزيارة أخص من وجه؛ فالزيارة بغير شد الرحال غير منهي عنها ومع الشد منهي عنها.

حرره ابن الكتبي الشافعي..

ملخص كتاب آخر:

ص: 445

ما أجاب به الشيخ الأجل الأوحد، بقية السلف وقدوة الخلف رئيس المحققين وخلاصة المدققين تقي الملة والحق والدين من الخلاف في هذه المسألة صحيح منقول في غير ما كتاب أهل العلم لا اعتراض عليه في ذلك؛ إذ ليس فيه ثلب للرسول صلى الله عليه وسلم ولا غض من قدره عليه السلام، وقد نص الشيخ أبو ناصر الجويني في كتبه على تحريم السفر لزيارة القبور، وهذا اختيار القاضي الإمام بن موسى في إكماله، وهو من أفضل المتأخرين من أصحابنا.

تم قال: ومن المدونة: "ومن قال علي المشي إلى المدينة أو بيت المقدس؛ فلا يأتيها أصلا إلا أن يريد الصلاة في مسجديهما فليأتهما، فلم يجعل نذر زيارة قبره صلى الله عليه وسلم طاعة يجب الوفاء بها؛ إذ من أصلنا أن من نذر طاعة لزمه الوفاء بها، وكان من جنسها ما هو واجب بالشرع، كما هو مذهب أبي حنيفة، أو لم يكن قال القاضي أبو إسحاق عقيب هذه المسألة: لولا الصلاة فيهما لما لزمه إتيانهما"، ثم ذكر أن ذلك في كتب المالكية كالتقريب للقيرواني، والتنبيه لابن سيرين.

كتبه محمد بن عبد الرحمن البغدادي، الخادم للطائفة المالكية بالمدرسة الشريفة المستنصرية.

ملخص كتاب ثالث:

ص: 446

بعد البسملة والحمد له والصلاة والتسليم على خير البرية وآله وصحابته قال: ما ذكره مولانا الإمام العالم العامل جامع الفضائل بحر العلوم، ومنشأ الفضل جمال الدين - جمل الله به الإسلام وأسبغ عليه سوابغ الأنعام - أتي فيه بالحق الجلي الواضح، وعرض فيه عن أعضاء المشايخ؛ إذ السؤال والجواب اللذان تقدماه لا يخفى على ذي فطنة وعقل أنه أتي في ذا الجواب المطابق للسؤال بحكاية أقوال العلماء الذين تقدموه، ولم يبق عليه في ذلك إلا أن يعترضه معترض في نقله فيبرزه له من كتب العلماء الذين حكى أقوالهم، والمعترض له بالتشنيع إما جاهل لا يعلم ما يقول، أو متجاهل ليحمله حقده وحمية الجاهلية على رد ما هو عند العلماء مقبول، أعاذنا الله من غوائل الحسد، وعصمنا من مخائل النكد.

كتبه الفقير إلى رضوان ربه: عبد المؤمن ابن عبد الحق الخطيب.

هذه ثلاثة خطابات من مجموع عدد كبير من الخطابات الموجهة من علماء بغداد إلى حكومة الشام؛ للدفاع عن ابن تيمية ومذهبه في مسألة شد الرحال، والشهادة منهم بأن مذهبه فيها هو الحق المتمشي مع الحديث الصحيح، وأنه مذهب جماهير علماء الأمة وأن من خالفه فلا حجة معه ولا بينة لدعواه.

وأنا أحيل على كتاب (العقود الدرية في مناقب شيخ الإسلام ابن تيمية) لابن عبد الهادي؛ من أراد مزيداً من الإطلاع والتأكد بالنسبة لما لخصت من خطابات هؤلاء العلماء، وبالنسبة لما تركت تجنباَ للإطالة؛ فإنه سيقول معي إن الجمهور المزعوم - يا فضيلة الشيخ - إنما يوجد في الخيال فقط، أما في عالم الحقيقة فلم يوقف له على أثر ولم يعثر له على خبر، هذا الجمهور الذي يضرب بالحديث الصحيح عرض الحائط أو يؤوله حسب مزاجه وعاطفته؛ ليشرع للناس ما لم يأذن به الله ولم يكن من هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم!.

العلامة السهواني والشيخ دحلان:

ص: 447

وإلى فضيلة الشيخ خاصة وطلبة العلم عامة أنقل ما سطره العلامة محمد بشير السهواني الهندي في كتابه (صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان)، قال رحمه الله وهو ينكر أن يكون ثبت عن أحد من السلف عمل الزيارة مطلق حتى ولو بدون شد رحال - قال: وكذلك دعواه إجماع السلف والخلف على قوله - يعني قول دحلان - فإن أراد بالسلف المهاجرين والأنصار والذين تبعوهم بإحسان فلا يخفى أن دعوى إجماعهم مجاهرة بالكذب، وقد ذكرنا غير مرة فيما تقدم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة شيء في هذا، إلا عن عبد الله بن عمر وحده؛ فإنه ثبت عنه إتيان القبر للسلام عند القدوم من سفره، ولم يصح هذا عن أحد غيره ولم يوافقه أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لا من الخلفاء الراشدين ولا من غيرهم، وقد ذكر عبد الرازق في مصنفه عن معمر عن عبيد الله بن عمر أنه قال: ما نعلم أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا عبد الله، ثم قال رحمه الله: وكيف ينسب مالك إلى مخالفة إجماع السلف والخلف في هذه المسألة، وهو أعلم أهل زمانه بعمل أهل المدينة قديماً وحديثاً، وهو يشاهد التابعين الذين شاهدوا الصحابة وهم جيرة المسجد وأتبع الناس للصحابة، ثم يمنع الناذر من إتيان القبر، ويخالف إجماع الأمة؟ هذا لا يظنه إلا جاهل كاذب على الصحابة وأهل الإجماع.

ص: 448

ثم قال: وقد نهى علي بن الحسين زين العابدين - الذي هو أفضل أهل بيته وأعلهم في وقته - ذلك الرجل الذي كان يجيء إلى فرجة كانت عند القبر فيدخل فيها فيدعو، واحتج عليه بما سمعه من أبيه عن جده علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبورا؛ فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم"، وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن بن علي شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً، وقال للرجل الذي رآه عند القبر: مالي رأيتك عند القبر؟.. فقال: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيداً ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"، ثم قال: ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء.

تم قال: العلامة السهسواني رحمه الله: "كذلك سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري أحد الأئمة الأعلام، وقاضي المدينة في عصر التابعين ذكر عنه ابنه إبراهيم أنه كان لا يأتي القبر قط، وكان يكره إتيانه".

ثم قال رحمه الله: "أفيظن بهؤلاء السادة الأعلام أنهم خالفوا الإجماع، وتركوا تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنقصوه؛ لما لم يروا مشروعية زيارة قبره، عاملين بالحديث الثابت عنه عليه السلام؟ "

ثم قال: "فهذا لعمر الله هو الكلام الذي تقشعر منه الجلود".

تم قال: "وليس مع عباد القبور من الإجماع إلى ما رأوا عليه العوام والطغاة في الأعصار التي قل بها العلم والدين، وضعفت فيها السنن

الخ ما كتبه رحمه الله من كلام صحيح وتحقيق يعجز عن نقضه من ادعى سواه".

ص: 449

قلت: إن هؤلاء العوام والطغاة في الأعصار المتأخرة - كما أشار العلامة محمد بشير السهسواني رحمه الله هم الجذور الذي يعنيه من زعم أن جواز شد الرحال لزيارة القبر الشريف هو مذهب الجمهور، والذي نقله فضيلة الشيخ عطية موافقاً عليه أو مستدلا به [1] .

وأقول مرة أخرى: أليس مذهب ابن تيمية أقرب إلى مذهب خصومه مما نقل عن هؤلاء الأئمة من التابعين وتابعيهم؟.. الجواب بلا؛ ذلك لأن ابن تيمية لا يمنع زيارة القبر الشريف مطلقاً، بل يصرح بأن زيارته بدون شد رحل عمل صالح إذا لم يصل الأمر إلى المبالغة والغلو، كالإكثار من التردد عليه بحيث يصل ذلك بالإنسان إلى اتخاذه عيداً، أو يتجاوز ذلك إلى دعائه عليه السلام والإستغاثة به، ونحو ذلك من أمور العبادة التي صرفها لغير الله كفر وشرك.

أما هؤلاء الأئمة فكما ترى النقل عنهم يرون عدم مشروعية هذه الزيارة ونمها ليست عملا صالحا وينهون عنها، ويستدلون على ذلك بالأحاديث [2] .

فلينظر المنصف، ولتأمل طالب الحق، وليتراجع المندفع على غير هدى، وليعلم أن الدين ليس بالعواطف وليس بالتقليد الأعمى، وأن أي عالم مهما ارتفعت درجته وعلت منزلته لا ينبغي أن يعتبر قوله ومذهبه واختياره أموراً مسلمة غير قابلة للمناقشة والتمحيص.

سؤال موجه يرجى الجواب عليه:

وهذا سؤال نوجهه إلى فضيلة الشيخ نرجوه الجواب عليه وهو:

إذا كان ابن حجر قال: يرى الجمهور بالإجماع جواز شد الرحال

الخ، فبصرف النظر عما تقدم من مناقشتنا لهذه الدعوى أصلا وشروعاً أقول الآتي: مادام أن القضية قضية جواز - أعني إباحة فقط - فما فائدة هذه الزيارة؟.. أتريدون من الإنسان أن يسافر من أقصى الأرض إلى أدناها يجوب المسافات الشاسعة والفيافي البعيدة والقفار الموحشة، وينفق الأموال ويعرض نفسه للمخاطر؛ ليتوصل إلى أمر مباح غاية ما فيه أنه غير محرم ولا مكروه؟..

ص: 450

يا للعجب العجاب - يعني مجرد سياحة لا أقل ولا أكثر -، هذا إذا ثبت أن الصحيح هو هذا المذهب المنسوب للجمهور _ كما زعموا - فمعنى هذا أن هناك مذهباً آخر لغير الجمهور يرى عدم الإباحة، وهذا المذهب الآخر قد يكون هو الصواب [3] ؛ إذ إنه لا يلزم أن يكون الحق دائما مع الجمهور.

المسألة الرابعة:

وقال فضيلة الشيخ صح578 نقلا عن ابن حجر: ومما استدل به على عدم شد الرحال لمجرد الزيارة، وما روى عن مالك من كراهية أن يقال:"زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم"، وأجيب على ذلك بأن كراهية مالك للفظ فقط تأدبا، لا أقل ولا أكثر، لا أنه كره الزيارة؛ فإنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال، وان مشروعيتها محل إجماع.

سطر الشيخ هذا الكلام ولم يتعقبه بحرف واحد، بل إن صنيعه فيما كتبه بعد ذلك يدل على تنبيه لهذا الكلام ورضاه؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!.

فتعال معي أيها الأخ المحب للسنة والتحقيق، والكاره للبدعة والتلفيق.. تعال لترى العجائب:

أولا: المنقول عن مالك هو كراهية الزيارة بدون شد رحال، بينما الكلام هنا عن مسألة شد الرحال؛ فبماذا نفسر صنيع الحافظ ابن حجر هذا؟.. إن ابن حجر كغيره من الناس يخطئ ويصيب.

ص: 451

ثانيا: من الذي أخبر ابن حجر أن كراهية مالك للفظ فقط؟.. وإذا كانت الزيارة مشروعة ومجمعا على مشروعيتها كما زعموا كيف يكره الإمام مالك التلفظ بذكرها؟

[4] هل يكره مالك للرجل أن يقول: صليت أو صمت أو تصدقت أو حججت؟

وقوله: كره مالك اللفظ تأدبا، نقول: يا للعجب العجاب.. تأدب مع من؟.. وعن ماذا؟.. أتأدبا مع الشرع بأن لا يذكر ما شرعه؟.. أم تأدبا عن ذكر المشروع فلا يتلفظ به اللسان؟

وهل هذه القاعدة تسري على جميع العبادات؛ فيتأدب المسلم عن ذكرها؟.. أم هي خاصة بهذه العبادة المجمع عليها؟ [5] . ثم ما الذي سوغ هذا الانتقال المفاجئ؟.. الحديث عن شد الرحال.. وذكر أدلة المخالف تعلق بمطلق الزيارة؟.. يا للإسلام من أهله.

ثم هذا الإجماع المزعوم هل انعقد على أساس دليل من الوحي؟.. أم بدون ذلك؟.. إن كان على أساس دليل فأين ذهب ذلك الدليل؟.. ابن حجر محدث كبير وإحاطته بالأحاديث لا تكاد توجد عند غيره بعد القرون الثلاثة - هذا مبلغ علمي وقد أكون على خطأ- فلِمَ لم يطلع على الدليل الذي استند إليه هذا الإجماع؟.. وإن كان قد اطلع فلِمَ لم يذكره.؟

أم أنه انعقد على غير أساس من الوحي؟.. إن كان كذلك فلدينا أسئلة كثيرة منها:

أولاً: هل يوجد إجماع بدون مستند شرعي؟..

ثانيا: قدمنا من القول ما يثبت أن من أئمة الإسلام من ينهى عن زيارة القبر الشريف، فأين هم من الإجماع وأين الإجماع منهم؟

ثالثا: على مدعي الإجماع أن يثبته، وإلا فهي دعوى بلا بينة..

رابعا: إذا كانت هذه المسألة - ونعنى الزيارة فقط- محل إجماع، أي مشروعية الزيارة؛ فأين الصحابة من هذه المشروعية ومن هذه العبادة؟.. هل علموا بها؟ هاتوا برهانكم وأثبتوا دعواكم إن كنتم صادقين.

ثالثا: قوله: فإنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال.

ص: 452

نقول: هذا الكلام لا يليق بمثل الحافظ ابن حجر، ولا بمثل فضيلة أخينا في الله الشيخ عطية.

إن الحافظ ابن حجر، وكذلك الشيخ عطية يعلمان أن التشريع من حق الله ورسوله، ولا مدخل فيه لأحد من الناس سوى الرسول عليه السلام الذي أخبرنا الله جل وعلا عنه أنه لا يأتي بشيء من التشريع من تلقاء نفسه {إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} ؛ فإذا كان الأمر كذلك فكيف يسوغ للعلماء أن يقولوا عن مسألة لا دليل إطلاقا على مشروعيتها لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع.. كيف يسوغ لهم أن يدعوا أنها من أفضل الأعمال وأجل القربات الموصلة إلى ذي الجلال..؟.

والخلاصة نقول: يا من زعمت مشروعية الزيارة بشد الرحل أو بدون شد الرحل! تفضل علينا ببيان دليلك؛ فإننا ومن قبلنا أئمتنا أهل السنة والتوحيد منذ ألف وأربعمائة سنة والبحث جار عن دليل هذه المسألة ولم يعثر عليه، فيا حبذا ويا عظم فضلكم لو تقدمتم إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالكشف عن هذا الدليل، وإلا فارجعوا إلى الحق تؤجروا عند الله، وتسلموا من تبعة القول على الله ورسوله بلا دليل، ولكن اعلموا مقدما أننا لا نقبل حديثا ما لم تثبت صحته عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، أما أحاديث الوضاعين والدجالين التي كفانا مؤنة إبطالها أهل العلم والدراية فنحن وأنتم متفقون على عدم الالتفات إليها؛ لأنها لا تقوم بها الحجة ولا يجوز الاستدلال برها، ونحن نريد دليلا من وحي الرحمن [6] .

ص: 453

ثم التعبير بقولهم: "ومما استدل به على عدم مشروعية شد الرحال"تعبير ركيك ناقص؛ إذ أنه لا يوجد ولم يوجد من يقول إن شد الرحال- بمجرده - مشروع أو ممنوع؛ فالتعبير الصحيح أن يقال: "ومما استدل به على عدم جواز شد الرحال لزيارة القبور.. الخ"، وكذلك قولهم عن المانعين إنهم استدلوا بما روى عن مالك.. الخ. الصحيح أن قول مالك وغيره من العلماء لا يستدل به في الأحكام الشرعية، وإنما يستدل بنصوص الشرع إن وجد شيء منها في الموضوع، وإلا نظر هل حصل إجماع من الأمة في حكم المسألة المبحوثة، وإن لم يوجد رجع إلى القياس إن كانت المسألة في غير العقيدة وفي غير العبادات.

أما قول العلماء كل واحد على انفراد فلا ينبغي أن يسمى أو يعتبر دليلا تثبت به الأحكام الشرعية، وإنما يستأنس به فقط، كما يستفاد منه فهم هذا الإمام أو العالم لنص من النصوص أو مذهبه في مسألة من المسائل، وكذلك يحتج به على من نسب إلى هذا العالم خلاف ما ثبت عنه، أما اعتبار قول مالك أو غيره دليلا من أدلة الأحكام الشرعية دون أن يكون هناك إجماع من علماء الأمة فاصطلاح غير مقبول، كما أنه لا يصدر إلا عن إنسان مبالغ في تعظيم المذاهب الفقهية والآراء البشرية إلى حد إحلالها محل النصوص الشرعية- عياذا بالله -.

المسألة الخامسة:

وقال فضيلة الشيخ وفقه الله:

(ولعل مذهب البخاري حسب صنيعه هو مذهب الجمهور؛ لأنه أتى في نفس الباب بعد حديث شد الرحال مباشرة بحديث: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه"، مما يشعر بأنه قصد بيان موجب شد الرحال وهو فضيلة الصلاة - هكذا في كتاب الشيخ - فيكون النهي عن شد الرحال مختصا بالمساجد ولأجل الصلاة إلا في تلك المساجد الثلاثة لاختصاصها بمضاعفة الصلاة فيها دون غيرها من بقية المساجد والأماكن الأخرى، ثم نقل كلاما لابن حجر مفاده أن النهي منصب على المساجد فقط دون غيرها من الأغراض والبقاع والصلوات.

ص: 454

وهذا الاستنباط الذي توصل إليه فضيلة الشيخ، واستطاع بواسطته أن يكتشف مذهب الإمام البخاري في مسألة شد الرحال - التي ما حدث الكلام فيها إلا بعد وفاة الإمام البخاري رحمه الله بما لا يقل عن مائتي سنة - غير سليم لما يأتي:

أولا: في زمن البخاري وقبله لم يوجد من علماء المسلمين من يقول بمشروعية ولا بجواز شد الرحال لزيارة القبور، حتى ننظر مذهب البخاري، هل هو مع المانعين لشد الرحال إلى القبور أو جمع غيرهم، والسبب أنه حتى ذلك التاريخ لم يحدث في الأمة الإسلامية قبوريون.

ثانيا: عدم صحة قول من زعم أن مذهب الجمهور مشروعية أو جواز شد الرحال لزيارة القبور في يوم من الأيام حتى يومنا هذا، إلا أن يراد بالجمهور طغام العوام ومن على شاكلتهم من العلماء.

ثالثا: البخاري فقيه ملهم؛ لذلك لا نستبعد أن يكون الله تعالى قد ألقى في روع ذلك الفقيه الملهم أن سيحدث بعدك في أمة محمد قبوريون لهم مزاعم فاسدة، ومن مزاعمهم أن يدّعوا أن الحكمة من استثناء المسجد النبوي من المسجدين الآخرين في حديث النهى عن شد الرحال هي من أجل زيارة القبر النبوي الشريف - كما زعم ذلك أبو زهرة في كتابه (ابن تيمية)، وما أظنه أول من قال بذلك ولا آخر من يقول به - فألقى الله في روع ذلك الإمام بأن يتقدم بالرد عليهم قبل وجودهم بما يقارب مائتي سنة؛ فيقول: إن المساجد الثلاثة استثنيت في حديث لا تشد الرحال لما تميزت به من فضل على جميع بقاع الأرض ترتب عليه مضاعفة ثواب الصلاة فيها.

هذا هو السبب الذي من أجله أورد البخاري حديث فضل المساجد الثلاثة بعد حديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد.."، أي أنه أراد أن يبين حكمة الاستثناء وموجبه، وأنها لولا ذلك لكانت كغيرها من المساجد والبقاع لا تشد لها الرحال.

فالقضية - في نظر البخاري وأمثاله - قضية مساجد وصلوات، لا قضية أضرحة ومزارات.

ص: 455

وبعد أن كتب فضيلة الشيخ ما تفلسف به حول صنيع البخاري الذي فرغنا الآن من الكلام حوله، نقل كلاما لابن حجر مفاده أن النهي الذي تضمنه حديث "لا تشد الرحال.." خاص بالمساجد والصلوات، دون غيرها من البقاع والأغراض والعبادات.

ونحن نناقش فضيلته فيما هو من ابتكاره، وفيما نقله عن غيره؛ فنبين بحول الله وتوفيقه أنها مزاعم مجردة عما يسندها ويشد عضدها من لغة أو شرع؛ فنقول: أنتم معترفون بأن حديث "لا تشد الرحال.." يشمل المساجد شمولا أوليا مباشرا سوى المساجد الثلاثة المستثناة، بل تحاولون أن تجعلوه خاصا مقصورا عليها، فهل ترون أن الأضرحة أفضل عند الله من المساجد؟.. أليس الحديث الآخر قد نص على أن المساجد هي أحب البقاع إلى الله؟.. وفي القرآن الكريم {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .. وفيه قوله تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ..

فكيف ساغ لكم ولمن قلدتموهم أن تقولوا: الممنوع زيارة المساجد، دون زيارة المشاهد؟

بإمكانكم أن تقولوا: لأن المساجد يعوض بعضها عن بعض؛ فلا فرق بين مسجد وآخر عدا المساجد الثلاثة، أما القبور خاصة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعوض بعضها على بعض، كما أن المساجد أيضا لا تعوض عنها لأنها ليست من جنسها.

وجوابنا على ذلك أن نقول:-

ص: 456

إن الله تعالى جعل المساجد أماكن للعبادة؛ فيتوجه المسلم إلى مسجد ليؤدى فيه عبادته لربه كما أمره سبحانه وتعالى، فكان من السائغ عقلا أن يكون السفر إليها فضيلة محمودة لمن يريد أن يجعل لعدد كبير من بيوت الله نصيبا من عبادته، تلك البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه تبارك وتعالى، وقد قرر الفقهاء أن المسجد الأقدم والأكثر جماعة والأبعد من منزل الإنسان أفضل من عكسه، وهذا مسجد قباء قد ثبت فضله شرعا، ومع ذلك لم يستثن مع المساجد المستثناة، أما القبور فلم يجعلها الله ورسوله أماكن للعبادة، بل على العكس فقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في المقابر، وجعلها من المواقع التي لا تصح الصلاة فيها، ولعن اليهود والنصارى لاتخاذهم المساجد على القبور محذرا أمته من أن تحذوا حذوهم، مكررا ومؤيدا حتى آخر لحظة من حياته الشريفة، ولكنه مع هذا قد أخبر عليه السلام أن أمته ستحذو حذو اليهود والنصارى وتتبع سننهم؛ رغم تحذيره ومبالغته في النصح والتنبيه، ومن أبرز سننهم التي حذر الرسول أمته من اتباعها - وقد اتبعوها - اتخاذ القبور مساجد، وهذه مبدؤها الغلو في القبور واتخاذها أعيادا بكثرة التردد عليها، ثم التعلق بأهلها وتوجه القلوب إليهم ثم دعاؤهم من دون الله، ثم.. ثم.. ثم.. ثم.. الخ.

ص: 457

ثم نقول: إن المساجد كما يصدق عليها أنها مساجد كذلك يصدق عليها أنها بقاع وأنها أماكن، والحديث لم يذكر فيه المستثنى؛ فهو مبهم، والمبهم ينبغي أن يقدر بأعم مدلولاته ما لم يرد دليل آخر يفسره؛ لأن الاقتصار على بعض المدلولات دون بعضها الآخر تحكم واتباع للهوى؛ فما دام أن المستثنى منه حديثنا هذا يجوز أن يكون المساجد فقط ويجوز أن يكون البقاع والأماكن جميعاً - والشارع لم يخصص - فيجب علينا والحالة هذه أن نعتبر الأعم الأشمل، ونجري الحديث على ظاهره، ولا يكون لنا تدخل في نصوص الشرع بمجرد أهوائنا؛ لأن أحدا منا لو سئل فقيل له: لم قصرت هذا العام على بعض أفراده بلا دليل؟

فإنه لا جواب لديه يخرج به من طائلة العتاب، أما لو سئل فقيل له: جعلت هذا العام على التخصيص، ومن ثم لا يتوجه إليه عتاب.

إذاً فالتوجيه للحديث كما يلي:

لا تشد الرحال لمكان في الأرض أو بقعة من البقاع طاعة لله أو لأداء عبادة يبتغي بها وجه الله إلا المساجد الثلاثة؛ لما لها من الفضل على سائر البقاع..

أما الأسفار الدنيوية كالذي لتجارة، آو زيارة قريب أو صديق، أو لسياحة؛ فلا مدخل لها هنا؛ لأنها ليست مما يمارسه العبد لله بنية أنه مشروع يثاب عليه، بل هي من الأمور العادية المباحة؛ فإدخالها في موضوع شدّ الرحال واتخاذها وسيلة لتأويل الحديث وصرفه عن ظاهره - موهما من فعل ذلك أن إجراء الحديث على ظاهره يفضي إلى منع شد الرحال لهذه الأمور العادية الدنيوية - فهذا غير صحيح، بل خلط بين أمور الدنيا وأمور الدين.

ثم إن هذا الذي قلناه في معنى الحديث هو الذي فهمه منه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، وهم الذين سمعوه مباشرة من مصدره الأصلي.

وبرهان ذلك كما يلي: قال أبو يعلى في مسنده:

ص: 458

1-

حدثنا محمد بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع

وساق الإسناد إلى سعيد بن أبي سعيد المقبري قال: لقي أبو بصرة جميل بن بصرة أبا هريرة رضي الله عنهما وهو مقبل من الطور، فقال: لو لقيتك قبل أن تأتيه لم تأته، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إنما تضرب أكباد المطي إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى".

2-

وعن قزعة قال: سألت عبد الله بن عمر: آتي الطور؟ قال: دع الطور لا تأته، ثم قال:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد". رواه ابن أبي شيبة والأزرقي في أخبار مكة، وإسناده صحيح.

انظر تخذير الساجد للألباني ص139.

أما السفر لطلب العلم ولزيارة الوالدين والصالحين والعلماء الأحياء؛ فليس المراد من مثل ذلك السفر البقعة التي يحلون فيها، إنما المراد زيارة الأشخاص الأحياء بأي مكان حَلّوا.

أما زيارة القبور لتذكر الآخرة ودون شدّ رحل؛ فجائزة، ومن زارها لهذا الغرض فليدعُ لأصحابها على العموم اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين سمعوا الحديث منه مباشرة - قد فهموا منه أن النهي في هذا الحديث يعم جميع البقاع ولا يختص بالمساجد؛ فالطور الذي أنكر أبو بصرة على أني هريرة إتيانه والسفر إليه ليس بمسجد، ولكنه مكان من الأمكنة، وأبو هريرة يقره على إنكاره ولا يرد عليه، وفي الأثر الثاني يفتي عبد الله بن عمر من استفتاه في السفر إلى الطور فيقول:"دع الطور لا تأته"، وكل منهما يستدل بحديث:"لا تشد الرحال.."، أفيقول أحد بعدهم إنه أعلم باللغة أو بالشرع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

ص: 459

أو يظن بأحد أنه أعلم منهم؟.. وحتى لو حاول أحد التشكيك في أسانيد هذه الأخبار فإنه - أولا - لا سبيل له إلى ذلك، ثانياً لو فعل لطالبناه بأن يقدم لنا أسانيد صحيحة إلى من نسب عنه، حتى يعلم أن طلب الإثبات منوطه إليه كغيره، وأن مجرد الدعاوى بدون بينات لا يفيد شيئاً، ولا سبيل له إلى ذلك أيضاً، بل مجرد نقول في الكتب قل إن تثبت إلى من نسبت إليه، وكذلك ما نقل من الإجماعات المزعومة.

الخطر على عقيدة التوحيد في القبور لا في المساجد:

السؤال موجه إلى من يقول بمنع زيارة المساجد وإباحة أو مشروعية زيارة القبور نقول فيه:

معلوم أن أحكام الشرع لا تأتي إلا لحكمة، وهذه الحكمة قد تكون منصوصاً عليها وقد لا ينص عليها، وقد تدرك بالاجتهاد وقد لا تدرك، وقد تدرك جزماً وقد تدرك ظناً، وعلى كل حال أحكام الشرع لها حكم ووارده لعلل إما تحصيل مصالح وإما دفع مفاسد.

ص: 460

فهل تتصورون أن من الحكمة منع زيارة المساجد بشد الرحال وإباحة أو مشروعية زيارة القبور ولو بشد الرحال؟.. ألستم تعلمون أن فتنة بني آدم ووقوعهم في الشرك بالله وعبادة المخلوقين كان منشؤها الغلو في الأموات من الصالحين؟.. ولا يزال الأمر كذلك حتى ساعتنا هذه؛ ففي بعض البلاد الإسلامية لا تجد مسجداً تصلي فيه إلا ومبني على قبر، وقد يكون هذا القبر قد اتخذ وثنا يعبد من دون الله، كالضريح المنسوب للحسين، والمنسوب للسيدة زينب والبدوي، و.. و.. وإلى مالا يحصى في مصر وغيرها من آلاف الأضرحة والقباب المقامة على القبور وعليها المساجد التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من بناها، وأبطل صلاة من صلى فيها، وذلك على مسمع ومرأى من العلماء أو المحسوبين على العلماء من أصحاب الشهادات الكبيرة، بل إن من هؤلاء بعض المنتسبين إلى العلم قد يشاركون العوام في عبادة الأموات بالحج إلى قبورهم والطواف، حول مقاصيرهم ويطلبون منهم مالا يملكه إلا الله معتقدين أنهم يملكون النفع والضر، والسعادة والشقاوة، ولذلك حذر الني صلى الله عليه وسلم أمته من الوقوع فيما وقعوا فيه، ولكنهم وقعوا إلا من عصمه الله وقليل ما هم.

ونخن في هذه البلاد - والحمد لله - لا نزال في آثار الدعوة الخيرة التي قضى الله بها على مظاهر الوثنية في بلادنا؛ نسأل الله تعالى أن يديم علينا نعمة التوحيد التي هي أعظم نعمة تمتع بها إنسان على وجه الأرض، وأن يوفق ولاة أمورنا لمزيد من حماية هذه النعمة ومعرفة قدرها والحرص عليها والاغتباط بها، إنه سميع مجيب.

أما المساجد فما كانت يوماً من أيام الدنيا مصدر فتنة وخطر على عقائد أهل التوحيدي وإتباع الرسل، فلماذا يتصور البعض أن المشرع يعني بالقبور أكثر من عنايته بالمساجد، فيبيح شد الرحال لها في الوقت الذي يمنع فيه من شد الرحال للمساجد؟.

ص: 461

اللهم وفقنا لاتباع رسولك والرضى بسنته، وأن لا نبتدع في دينه، اللهم حبب إلينا المساجد واجعلنا من أهلها وعمارها، ولا تفتنا بالقبور وأحداثها

المشرع الحكيم يبيح زيارة المقابر بعد منعه منها مبينا الحكمة في ذلك:

كان الني صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور؛ لما يعلمه عليه السلام من خطر فتنتها على من لم يتمكن من معرفة الله على بصيرة، ويتشبع من معرفة التوحيد الذي خلق الجن والإنس من أجله.

فلما انتشر الإسلام حسياً ومعنوياً، وتمكنت المعرفة بالله وتوحيده في نفوس المؤمنين، وانتشر نور هدى الله في الأرض أباح لهم زيارة القبور معللا ذلك بأنها تذكر الآخرة، فقال عليه السلام:"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فأهما تذكر الآخرة".

هذه إحدى حكمتين أو علتين من أجلها رخص الرسول عليه السلام بزيارة القبور بعد أن كان ناهياً عنها مانعاً منها.

أما العلة الثانية فهي الإحسان إلى الموتى بالدعاء لهم من الزائر، وهذه العلة أو الحكمة أخذت من عمل الرسول وتعليمه لمن سأله ماذا يقول إن هو زار المقابر، وليس هناك حكمة ثالثة أو علة ثالثة من أجلها تزار المقابر، بل العلة الأولى هي الأصل والأساس، أعني تذكرة الآخرة، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكرها لما أذن في زيارة القبور ولم يذكر الأخرى.

ص: 462

فيا ترى من زار قبر الرسول، وشد الرحال لهذه الزيارة من أقصى الأرض أو أدناها؛ أي العلتين قصد؟ أيريد أن يتذكر الآخرة؟ فعنده في بلاده، وفي كل بلد من المقابر والأجداث الهامدة ما يسيل دموعه ويحرك قلبه ويذكره بالموت وما بعده؛ فلا داعي لقطع القفار وجوب الديار لقبر أو قبرين أو ثلاثة في أقصى الأرض وأدناها، ومع ذلك هذه القبور الثلاثة - مع أن المقصود منها واحد فقط - وهي محاطة بالجدران المنيعة والأستار الجميلة والزخارف البديعة وشباك الحديد.. الخ. تمنع ذلك الزائر من الوصول إلى القبر أو القبور الثلاثة وتذكر الآخرة بها، بل إن أرضية تلك القبور وما حولها مبلطة مستوية، ولا يعلم أحد على وجه الأرض كيفية تلك القبور الكريمة بالنسبة لبعضها.

(انظر وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى للسمنهودي) .

فهذه الأشياء في نظرنا تمنع من تحقق الحكمة المقصودة شرعاً من زيارة القبور.

أم أن ذلك الزائر يريد الحكمة الثانية، وهي الدعاء للأموات

أيريد أن يدعو لرسول الله وعلى الله عليه وسلم بالمغفرة والعتق من النار؟.. الرسول عليه السلام ليس بحاجة إلى الدعاء من أحد؛ إذ قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد تحققت له السعادة بجميع معانيها وأنواعها صلى الله عليه وسلم. صحيح أنه رغّب إلى أمته في أن يسألوا الله له الوسيلة، وكذلك قد أمر بالصلاة والسلام عليه، ولكن ذلك لمصلحتنا نحن لا لمصلحته هو، وإلا فدعاؤه لنفسه ولغيره أحرى بالإجابة من دعاء جميع الناس له، وهذا الدعاء الذي هو سؤال الوسيلة له عليه الصلاة والسلام، وكذلك الصلاة والسلام عليه ليس مكانه عند القبر، بل ليس له مكان مخصوص غير أن سؤال الوسيلة مقيد بسماع الأذان وإجابة المؤذن لحكمة لا نعلمها.

ص: 463

فإن قالوا: قبر الرسول عليه السلام له خصائص؛ فلا يماثل بقبر غيره، ولذلك يزار من قريب ومن بعيد وتشد له الرحال، وليس من ذلك تذكر الآخرة الذي يحصل بالمقابر الأخرى أكثر، ولا الدعاء لصاحب القبر، بل لحقوق الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته وعظيم قدره..

إن قالوا ذلك أجبناهم بأن نقول: أولا أصحابه رضي الله عنهم أعلم منكم بحقوقه وأكثر منكم تعظيماً له، وما رأوا أن ذلك يستلزم زيارة قبر لا بشد ولا بدونه، وكذلك التابعون لهم بإحسان إلى يومنا هذا، بل إن الذين يزورون القبر الشريف من أهل السنة بدون شد رحل يدخلون زيارته تحت الأمر الشرعي إن كان أمرا أو إباحة، أما حقوقه عليه السلام فمعلومة لديهم وعظيمة في نفوسهم وقلوبهم واعتقادهم، وليس منها شد الرحل لزيارة قبره؛ إذ لو كان منها لأمر به وحث عليه؛ فما من جزئية ولا كلية تعود على أمته بالخير والمنفعة في أمور دينهم إلا بينها أتم بيان ودعا إليها ورغب فيها، فما باله - يهمل هذه المسألة؟ أنسياناً

أم تقصيراً؟

حاشاه من كل ذلك.

وأنا والله أعجب كثيراً لفضيلة الشيخ عطية عندما أمرّ ببعض المواضع في بحثه لهذه المسألة، وعندما ألاحظ بعض العبارات وبعض التصرفات، من ذلك أنه لم ينقل في هذا البحث عن غير ابن حجر، وكأن أحدا من علماء المسلمين لم يوجد، أو لم يتعرض لهذه المسألة من أي جانب من جوانبها؛ فلا أدري أكلّ ذلك ثقة مطلقة بابن حجر دون غيره، أم ذلك نتيجة لكسل حالَ بينه وبين بحث القضية في كتب فحول العلماء وأئمة الإسلام، مثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذا كتب شمس الدين ابن القيم، وكذا الصارم المنكي لابن عبد الهادي الذي خصصه لبحث هذه المسألة، وقد استقصى رحمه الله البحث فيها ووفى الموضوع حقه.

ص: 464

أليس من الإنصاف، بل ومن حق البحث العلمي، بل ومن لازم الاحتياط للدين وللعلم ولتجنب نقد الآخرين أن ينظر الباحث فيما قدمه الطرفان من بحوث واستدلال وتعليل؛ حتى يكون على بصيرة من أمره؛ فيبدي رأيه ويقدم نتيجة اجتهاده بعد تأمل ونظر عميق؟

أعتقد ما فيه أحد يخالفني فيما قلت هنا..

إذاً فما الذي حال بين الشيخ وبين النظر والتعمق في التحقيق؟.. هل خفيت عليه تلك المراجع العظيمة والمباحث الهامة النفيسة؟.. لا أعتقد ذلك، فالجواب عند فضيلته.

ومن ذلك أيضاً أنه سطّر أكثر من صفحة من كتابه في إثبات جواز شد الرحال للتجارة وللسياحة ولزيارة الأقارب والأصدقاء الأحياء، ولطلب العلم، وراح فضيلته ينقب عن الأدلة التي تثبت جواز السفر لهذه الأمور، كأن أحداً من خلق الله زعم أن السفر لهذه الأشياء غير جائز، وقصد فضيلته - حسب ظني، وعسى أن لا يكون هذا الظن صواباً - إرادة التهويل أمام السذج؛ لأنه قال بعد كلامه المتعلق بإثبات جواز السفر لهذه الأمور: فيكون السفر لزيارة الرسول من ضمنها، ولأنه رتَّب ذلك على قوله - بالمعنى لا بالنص -: إننا لو أخذنا بظاهر الحديث - على ما فهم ابن تيمية - لأدى بنا ذلك إلى تعطيل مصالح الناس والحجر عليهم بتحريم ما أحله الله من الأسفار للأمور المشار إليها.

وقد سبق أن قلنا لفضيلته: إنه لا يصح الخلط بين أمور الدين التي أمر الشرع بها أو نهى، وبين أمور الدنيا المباحة، ولا الخلط بين ما نهى عنه الرسول عليه السلام وبين ما بقي على الأصل والبراءة، ولا الخلط بين أمر يتعلق بالأماكن والعبادات، وبين أمور تتعلق بالأغراض الدنيوية والمقاصد العادية.

ونسأل الشيخ فنقول: هل مشروعية أو جواز شد الرحال خاص بقبر الرسول عليه السلام أم عام لقبور الصالحين والعلماء مثلاً؟.. أم عام لجميع مقابر المسلمين؟.

ص: 465

إن قلتم: خاص بقبر النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، قلنا: هل عرفتم ذلك بدليل أم بتعليل؟.. إن قلتم: بدليل، قلنا: تكرموا علينا وعلى عامة المسلمين فبينوا هذا الدليل؛ لأنه خفي علينا، وكتمان العلم حرام، وإن قلتم: عرفنا ذلك بتعليل، قلنا: العلة التي بينها المصطفى عليه السلام لزيارة القبور هي تذكر الآخرة فقط، فهل عثرتم على علة أخرى؟.. أفيدونا مأجورين.

أما مسألة الدعاء للأموات التي قلنا إنها أخذت من فعل الرسول عليه السلام وأجابته لمن سأله ماذا يقول إن هو زار القبور فقد قلنا: لا تنطبق في حق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لاستغنائه عن دعاء غيره إلا فيما بيّنه، ولم يقل عند قبري بل قال:"إذا سمعتم المؤذن"، وهذا بالنسبة لسؤال الوسيلة، وبالنسبة للصلاة والتسليم عليه فهما في الصلاة المفروضة والمستحبة، وعند دخول المسجد، وعند ذكره عليه الصلاة والسلام، وفي كل مناسبة وكل زمان ومكان.

بل قد قال عليه الصلاة والسلام: "وصلوا علي؛ فإن صلاتكم وتسليمكم يبلغني حيثما كنتم"، قال ذلك في الوقت الذي نهى فيه عن اتخاذ قبره عيدا، فالله المستعان..

وإن قلتم عام لقبور الصالحين والعلماء والأقارب، أو لجميع المسلمين وما إلى ذلك.. قلنا: ولِمَ لا تذكرون الصالحين أبداً؟.. بل كلامكم خاص بقبر الرسول عليه الصلاة والسلام، ومقصور عليه مما أوهم العامة أن هناك نصوصاً وإرادة بالأمر بزيارة قبره صلى الله عليه وسلم على الخصوص [7] .

وقال الشيخ - وهو يروي لنا تأويل ابن حجر لحديث النهي عن شد الرحال -: وبتأمل كلام ابن حجر نجده يتضمن إجراء معادلة على نص الحديث بأن له حالتين فقط:

الأولى: أن يكون النهى منصباً على شد الرحال لأي مكان سوى المساجد الثلاثة من أجل الصلاة، وماعدا المساجد والصلاة خارج عن النهي، وعلى هذا تخرج زيارة القبور مع غيرها من الأمور الأخرى عن دائرة النهي.

ص: 466

والثانية: أن يكون النهي عاماً لجميع الأماكن ماعدا المساجد الثلاثة وبلدانها، ولكن لا لخصوص الصلاة، بل لكل شيء مشروع بأصله..

إلى أن قال: ومن هذا كله السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا معارضة على حالة من الحالتين، ولا يتعارض مع ما معهما الحديث. انتهى كلام فضيلته باختصار وتصرف في بعض الكلمات مع الالتزام بالمعنى.

ونحن نناقش هذا الكلام من نواح:

الناحية الأولى: نحمد الله حيث إن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في غاية من البيان والوضوح؛ فلا نحتاج لفهمها إلى إجراء معادلات ولا استخدام فلسفات.

الناحية الثانية: لِمَ هذا التعويل على آراء ابن حجر دون غيره من علماء الأمة الإسلامية، خاصة السلف الصالح من لدن الصحابة إلى آخر القرون الثلاثة؟ [8] هل لم يتعرض لمعرفة وبيان معنى هذا الحديث أحد من أئمة الإسلام قبل ابن حجر؟.. بل لقد تعرضوا وفهموا وبينوا وعملوا بمقتضاه قبل ابن حجر، وقبل أن يستنبط فضيلة الشيخ معادلته الفلسفية من كلام الحافظ ابن حجر هذه.

الناحية الثالثة: من أين أتيتم ببلدان المساجد الثّلاثة وأدخلتم في الموضوع ما ليس منه؛ محاولين أن تجعلوا شد الرحل لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مشروعة أو مباحة؟.. وما الدافع والحامل على هدا اللف والدوران يا فضيلة الشيخ؟.. هل الأمة واقعة في مشكلة صعبة تحاول أنت إيجاد حل لها وسبيل لخروجها من هذه المشكلة؟..

ص: 467

لا داعي لهذا يا فضيلة الشيخ، أمور الدين واضحة جلية، وسنة محمد صلى الله عليه وسلم قد تركها بيضاء نقية، لا تشتبه على من قصد الحق بتجرد وإخلاص، ولا تلتبس لا في كلياتها ولا في جزئياتها على من ولى وجهه شطر كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما الذي يحدث المشاكل ويسبب البلبلة هذه الفلسفات وتلك التأويلات والتحريفات لنصوص الكتاب والسنة لتوافق مذهب فلان وتؤيد رأى علان، وإلا كيف يتصور أن عالما من علماء الأمة الإسلامية يدعي مشروعية شئ من غير دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح؟.. ما الذي يحمله على ذلك؟.. هل يشعر بأن في دين محمد عليه السلام نقصا يريد أن يكمله؟..

والخلاصة:

أننا نقول ونعتقد جازمين مائة على مائة أن كل شئ ينفعنا عند الله إذا التزمنا به وعملنا بمقتضاه قد بينه لنا صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل بيان، فلا مكان في الدين لزيادة، ولا مجال فيه لفلسفة أو معادلة يراد من ورائها استنباط شرعيات قد خفيت على سلف الأمة وأئمتها.

أما المعنى الصحيح للحديث فهو الذي فهمه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم - بدون إجراء معادلة وبدون تكلفة وتمحل، وهو الذي بيناه فيما سبق من هذا البحث؛ فلا نعيده.

وقال فضيلة الشيخ بعد سياقه الكلام الذي تقدم:

(وجهة نظر)، ثم قال تحت هذا العنوان:"وبالتحقيق في هذه المسألة وإثارة النزاع فيها يظهر أن النزاع والجدال فيها أكثر مما كانت تحتمل، وهو إلى الشكلي أقرب منه إلى الحقيقي، ولا وجود له عملياً".

ونناقش فضيلة الشيخ فنقول:

ص: 468

1-

هذا اتهام صريح للعلماء إما في عقولهم وأفهامهم، وإما في مقاصدهم وأغراضهم؛ إذ مادام أن الجدال شكلي كما تقولون، والخلاف فيها صوري لا وجود له في الواقع؛ فما الذي حملهم على هذا النزاع الطويل العريض؟ ثم من المتهم يا فضيلة الشيخ بإثارة الجدال وتطوير النزاع الذي ليس تحته من الحقيقة شيء؟.. نحن وجدناك في بحثك تميل إلى الرأي المخالف لما ذهب إليه ابن تيمية في هذه المسألة، فهل هو المتهم في نظركم؟..

2-

مادام أن الجدال في هذه القضية صوري لا حقيقة له، فما الذي دعاك إلى أن تكتب صفحات عديدة، وتنفق وقتك وجهدك في البحث والتحقيق والتدليل والتعليل، والترجيح والمقارنة وإجراء المعادلات ونقل الإجماعات الخاصة والعامة؟.. لِمَ لمْ توفر على نفسك هذه الجهود وهذا الوقت الثمين، وتبدي وجهة نظرك هذه مسبقاً فتستريح وتريح؟..

3-

ما الذي اشتملت عليه الرسائل التي ألفت من الطرفين، كما يقول الكرماني، وينقل عنه ابن حجر، وفضيلتكم عن بني حجر؟.. هل هو هذيان فارغ وسفسطة ليس لما معان؟..

إن كان كذلك فهل هذا ناتج عن سوء فهمهم أم عن سوء مقاصدهم؟..

4-

ألستم بنفسكم - يا فضيلة الشيخ - تقولون: ولعل مذهب البخاري حسب صنيعه هو مذهب الجمهور في هذه المسألة؟.. أليس معنى هذا أنكم قد فهمتم أن في المسألة مذهبين، أحدهما للجمهور والثاني لغير الجمهور، والأول تبناه السبكي والثاني تبناه ابن تيمية- حسب تقريركم؟ أليس ابن حجر يقول - حسب نقلكم -:" أجمع الجمهور كان جواز شد الرحال..؟ "، أليس إذا قيل: مذهب الجمهور كذا؛ فمعناه أن في المسألة مذهبين؟

ص: 469

فكيف بعد ذلك ظهر لفضيلتكم أن لا شيء من هذا، وإنما هو في الحقيقة مذهب واحد؟.. وأي المذهبين يا فضيلة الشيخ بدا لكم أنه لا وجود له؟.. هل هو مذهب ابن تيمية ومن وافقه الذي في سابق تقريركم ومناقشتكم أنه مذهب شاذ حادث بعد مضي سبعة قرون من تاريخ الإسلام؟.. أم مذهب السبكي ومن وافقه الذي قررتم فيما تقدم من بحثكم أنه مذهب الجمهور.؟.

ثم أخذ فضيلته يشرح وجهة نظره تلك فقال:

وتحقيق ذلك كالآتي وهو: ماداموا متفقين على شدّ الرحال للمسجد النبوي للسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومتفقون على السلام على رسول الله بدون شد الرحال، فلن يتأتى لإنسان أن يشد الرحال للسلام دون المسجد، ولا يخطر ذلك على بال إنسان، وكذلك شد الرحل للصلاة في المسجد النبوي دون أن يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يخطر على بال إنسان، وعليه فلا انكفاك لأحدهما عن الآخر؛ لأن المسجد النبوي ما هو إلا بيت، وهل بيته صلى الله عليه وسلم إلا جزء من المسجد، كما في حديث الروضة.

ومناقشتنا لفضيلة الشيخ هنا في نقاط، علماً بأنني والله لا أرى هذا الكلام يستحق المناقشة:

1-

لماذا (متفقين.. متفقون) ، أليست الثانية معطوفة على الأولى بالواو؟.. أليس التعاطف يقتل الاشتراك في الإعراب؟..

2-

تقولون يا صاحب الفضيلة: إنهم متفقون على شد الرحال للمسجد النبوي للسلام على رسول الله.. أرجوكم إعادة النظر من الآن في هذا الكلام للطبعة القادمة إن شاء الله؛ لأن الواقع الذي هو موضوع البحث من أوله إلى آخره هي هذه النقطة، فلو كانوا متفقين عليها لم يجر شيء من هذا الخلاف أبداً، ولا ألّفت مؤلفات من الجانبين، ولا صار هناك مذهب للجمهور ومذهب لغير الجمهور كما قررتم، ولا سجن شيخ الإسلام ابن تيمية، ولا قام العلماء في بغداد وغيره للانتصار له والشهادة بأنه على الحق، كما قدمنا نقل ذلك من مصادره.

ص: 470

بل الصحيح أيها الشيخ أنهم متفقون على زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمكن ذلك بدون شدّ رحل، ومتفقون على مشروعية شد الرحال لزيارة المسجد النبوي للصلاة فيه، لا لزيارة القبر.

أما شد الرحال للمسجد النبوي للسلام فموضع خلاف وافتراق لا موضع اجتماع واتفاق.

نقول لفضيلته: ما معنى قولكم (فلن يتأتى) ؟ هل معنى ذلك أنه مستحيل؟.. فما وجه استحالته؟..

أنا نفسي مستعد أن أثبت لك أنه ممكن بكل سهولة ويسر؛ فأنني لا أجد أي مانع أو مشكلة لأن آتي عند القبر الشريف وأسلم وأنصرف دون أن أصلي، ودون أن أجلس؛ حتى لا تلزمني تحية المسجد ودخول المسجد ثم الخروج منه بدون صلاة لا فائدة منه، فوجوده وعدمه سواء، وإنما أفعل ذلك من أجلك، حتى إنه يتأتى وغير مستحيل كما تصورت، وكذلك باستطاعتي أن أقف خارج المسجد، وأسلم على رسول الله ثم أنصرف دون أن أدخل المسجد.

فإن قلتم: بذلك لا تكون قد زرت ولا تعتبر قد سلمت لأنك بعيد، أجبتكم بأن قلت: أرأيتم لو أن حائط الحجرة الموجود حاليا ألصق بجدار المسجد الشرفي وبجداره القبلي، هل تتوقفون عن زيارته عليه السلام والسلام عليه لأن القبر صار بعيدا؟.. إن قلتم نعم، قلنا: موقفكم الآن للسلام بعيد؛ لأن بينكم وبين القبر مسافة ليست بقليلة، بل إن فضيلتكم قررتم أن رد السلام منه عليه السلام يحصل لمن سلم داخل المسجد، ولم تحددوا مكانا معينا محدودا من المسجد، والمكان الذي قلت إنني أقف فيه خارج المسجد وأسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب إلى القبر الشريف من أكثر نواحي المسجد.

تم يقول فضيلته: ولا يخطر ذلك على بال إنسان.

ص: 471

من الذي يعلم يا فضيلة الشيخ ماذا يخطر في قلوب الناس، وعلى بال كل واحد من بني آدم سوى خالقهم تبارك وتعالى؟ فعلى أي أساس بنيت هذا الجزء المؤكد؟.. حتى ولو كان ذلك كفرا يخرج من الملة الإسلامية فقد خطر الكفر على بال مئات الملايين من البشر؛ ألست ترى أن أكثر أبناء المسلمين، وأن الملايين من المنتسبين للإسلام قد ضيعوا الصلاة، ومنعوا الزكاة، وارتكبوا الفواحش والمنكرات؟.. أليس كل واحد منهم يسمى إنسانا؟.. فلماذا مسألتك هذه لا تخطر ولن تخطر على بال إنسان؟.. أرأيت لو علتم أن شخصا وصل المسجد النبوي قادما من مصر أو الشام أو أي قطر من أقطار الأرض، وصلى فيه ركعتين أو أكثر، ثم سافر ولم يأت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا سلم عليه السلام الخاص الذي يقال عند القبر، ولكنه يصلي ويسلم على نبيه في صلاته وعند دخول المسجد وعند الخروج منه وعند ذكره وفي كل مناسبة؛ فبماذا تحكمون عليه يا فضيلة الشيخ؟.. أتقولون: إن ذلك لن يتأتى، نقول لكم: قد تأتى ووقع فعلا، أتقولون إن ذلك لن يخطر على بال إنسان.. نقول لكم: خطر على باله ووقع منه، أتقولون إنه كفر بذلك؟.. نقول لكم: لم يكفر، ولم يرتكب كبيرة من الكبائر ولا صغيرة من الصغائر؛ فمن زعم غير ذلك فعليه الدليل ودون ذلك الدليل خرط القتاد.

ثم ما معنى قولكم يا فضيلة الشيخ: "فلا انفكاك لأحدهما عن الآخر"، وأنتم تعنون إتيان المسجد النبوي للصلاة فيه، وزيارة القبر الشريف، فعدم الانفكاك هذا هل هو لأمر شرعي أم لأمر عقلي؟.. ومرة أخرى هل أخذتم هذا الحكم من شرع الله المنزل على رسوله؟.. فلماذا لم تذكروا دليلكم على ما قلتم، وبه حكمتم؟.. هل خطابكم وبحثكم موجه إلى العامة فقط؟ ولا نصيب فيه لطلبة العلم.. إن كان كذلك فقد أجحفتم يا فضيلة الشيخ في حق طلبة العلم، وتجاهلتم حصتهم في الفائدة..

ص: 472

أم أنكم أخذتم هذا الحكم من مقتضى العقل؟.. فلو تكرمتم فبينتم وجه استحالة هذا الانفكاك من الناحية العقلية؛ لأني بحثت مع عدد لا بأس به من طلبة العلم في هذا الموضوع، والتمسنا وجه عدم الانفكاك بين وصول المسجد النبوي والصلاة فيه، وبين زيارة القبر النبوي؛ بحثنا ذلك من الناحية الشرعية ومن الناحية العقلية؛ فلم يظهر لنا شئ من ذلك.

الخلاصة:

وخلاصة القول هنا أن فضيلة الشيخ أراد أن يقضي على مشكلة طالما استثارت النقاش والجدال بين المتمسكين بالسنة المتقيدين بالنصوص الشرعية- خاصة في أمور العبادات - من جانب، وبين غيرهم ممن تهاونوا في أمر البدع وتساهلوا معها، بل وحاولوا أن يجعلوا من بعض البدع سننا يلزم الناس بها، ويهاجمون ويتهمون إذا لم يقبلوها أو طولبوا بالدليل على أنها من دين الإسلام - من جانب آخر.

أراد الشيخ أن يقضي على هذه المشكلة، ويوجد الرأي تجاه تلك المسألة بجرة قلم، وبكلمات لا تبلغ العشرة أسطر، ونحن نقول: بارك الله فيك، ونحن من ورائك ضد الخلاف وضد أسبابه، ولكن بشرط - يا فضيلة الشيخ - أن يكون المذهب المقبول الذي نبني عليه هو المذهب المتمشي مع السنة، والذي عليه سلف الأمة، ولو لم يكن هو الموافق لعواطف العامة والمناسب لأذواقهم.

ويقول الشيخ حفظه الله: لأن المسجد ما هو إلا بيته صلى الله عليه وسلم، وهل بيته إلا جزء من المسجد؟ كما في حديث الروضة:"ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".. ثم قال: فهذه قوة ربط بين بيته ومنبره في مسجده.

ص: 473

وهنا نناقش فضيلته فنقول: المسجد النبوي ليس هو بيت الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو بيت الله ومسجد رسوله، وبيت الإنسان غير مسجده، وبيته عليه السلام ليست جزءا من المسجد لا قبل وفاته عليه السلام ولا بعد وفاته ودفنه فيه، فداؤه آباؤنا وأمهاتنا وأنفسنا وأبناؤنا، ماذا لو كان الأمر كما زعم لكان الرسول وصاحباه مدفونين في المسجد، وهل يجوز دفن الأموات في المساجد واتخاذها مقابر؟.. أبعد الله ذلك اليوم الذي تصبح فيه مساجدنا مقابر، مثلما وقع في بعض البلاد الأخرى، ولو كان بيته جزءا من المسجد ما ساغ أن يقع فيه ما لا يليق بالمساجد كقضاء الحاجة؛ إذ المساجد لا يليق بها إلا العبادة من صلاة وتلاوة وذكر، وما يمت إلى ذلك بصلة من مدارسة علم وبحث شؤون المسلمين ونحو ذلك، وهو صلى الله عليه وسلم كان يقيم قي بيته مع أهله ليلا ونهارا ويقضي حاجته، ولا يفعل هذا في جزء من المسجد، وكان صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف خرج من بيته ودخل المسجد؛ فلو كان بيته جزءا من المسجد كما زعم فضيلة الشيخ لما احتاج- عليه السلم- إلى أن يترك البيت من أجل الاعتكاف.

ص: 474

أما إن كان قصدكم بعد وفاته ودفنه – عليه الصلاة والسلام، وبعد إحاطة المسجد بالحجرة بعمل وتدبير حاكم لم يراجع الشرع، ولم يستثر علماء الأمة الإسلامية في عمله هذا - وهذه من الأدلة العديدة التي عرفنا منها أنكم تعتبرون الواقع دليلا على الشرع، مع أن الواجب أن يقاس الواقع بالشرع؛ فإن أقره ووافقه فهو شرعي وإلا فهو عمل باطل ينبغي رده والقضاء عليه - إن كان ذلك هو قصدكم - يا فضيلة الشيخ - فنحن نفيدكم أن الحجرة لا تزال ولن تزال إلى يوم القيامة ليست من المسجد ولا جزءا من أجزائه؛ لأن في داخلها مقبرة، والمقبرة لا تكون مسجدا شرعيا أبدا، والصلاة فيها باطلة بنص الحديث النبوي الصحيح بل إن من اتخذ المقبرة مسجدا فهو ملعون على لسان سيد الخلق محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

أما استدلالكم بحديث الروضة على أن المسجد هو نفسه بيت الرسول، وأن بيت الرسول جزء من المسجد فأنتم باستدلالكم هذا كمن يحاول أن يجعل من خيوط العنكبوت أربطة للسفن الكبيرة حتى لا تذهب بها أمواج البحار.

ألا تعلم يا فضيلة الشيخ أن الغاية لا تدخل في المغيَّى؟.. إنني أفهم من حديث: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" أن الموصوف هو المساحة الواقعة ابتداءً بجدار المسجد الملاصق للحجرة وانتهاءً بالمنبر، والمنبر يدخل في تلك المساحة الموصوفة؛ لأنها تحيط به لصغر حجمه ولوجوده داخل المسجد، وقد لا يدخل المنبر، الله أعلم؛ لا نجزم بهذا قطعا ولا بهذا قطعا، وإنما نقول ما يترجح في نظرنا والعلم عند الله.

وقال الشيخ: "ومن ناحية أخرى هل يسلم أحد عليه صلى الله عليه وسلم من قريب؛ لينال فضل رد السلام منه عليه السلام إلا إذا كان سلامه عن قرب ومن المسجد نفسه".

ص: 475

نقول يا فضيلة الشيخ: هذا كله من تخيلاتك وتصوراتك الخاصة ولا مستند له من شرع ولا من عقل، وقد أجبنا على هذا مفصلا في ما تقدم من هذا البحث فلا داعي لتكراره.

تم قال الشيخ: "وهل تكون الزيارة سنية إلا إذا دخل المسجد وصلى أولا تحية المسجد؟.."

نقول: إن أردت زيارة المسجد فأنت صادق، والواقع كما قلت، لا تكون الزيارة سنية شرعية إلا إذا دخل المسجد وصلى فيه، أما مجرد أن يصل المدينة ثم يرجع دون أن يدخل المسجد ويصلي فيه؛ لا يعتبر ذلك قد زار المسجد ولا يعد منتفعا بتلك الزيارة.

إما إن كنتم تعنون بالزيارة السنية زيارة القبر، وأنها لا تكون سنية إلا بأن يدخل الإنسان المسجد فيصلي ثم يزور؟.. فمن هو الذي وضع هذه السنة؟.. هل علمها الرسول- صلى الله عليه وسلم أصحابه في حياته؟.. فقال: إذا أنا مت فادفنوني في المكان الفلاني ثم زوروني وسلموا علي، وإذا وصلتم المدينة فادخلوا المسجد أولا ثم صلوا كذا وكذا، ثم توجهوا إلى قبرى للزيارة والسّلام؟.. هل قال الرسول ذلك

دلونا على المرجع الذي روى فيه هذا الحديث من كتب السنة، ولكم ألف شكر.

أم هي سنة تقررت بعد وفاته عليه السلام فمن الذي قررها بالله عليكم؟.. وهل لأحد بعد رسول الله وبعد انقطاع الوحي من قبل السماء أن يسن في الدين سننا ويقرر شرائع؟.. لا حول ولا قوة إلا بالله.

ربما يقول الشيخ: نعم، الخلفاء الراشدون لهم أن يشرعوا بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بدليل "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" الخ..

ص: 476

إن قال ذلك قلنا أولا الخلفاء الراشدون ما ثبت عنهم تشريع شدّ الرحال لزيارة القبر، ولا بقولهم ولا فعلهم، وثانيا هم لا يشرعون من عند أنفسهم ولكن المراد بسنتهم طريقتهم وهديهم في الاجتهاد في فهم نصوص الشرع وتقرير الأحكام المستمدة من نصوص الوحي وسياستهم للدولة الإسلامية في أحوال حربها وسلمها وسائر أحوالها، ولذلك خصّ الخلفاء دون غيرهم ممن قد يكون في مستواهم علما وصلاحا.

تم قال الشيخ: "وبهذا فلا انفكاك لشد الرحال إلى المسجد عن زيارة الرسول- صلى الله عليه وسلم ولا لزيارته عن المسجد؛ فلا موجب لهذا النزاع".

ونحن نقول لفضيلته: إن الذين تنارعوا أعلم بدين الله، ولو أن النزاع لفظي - كما توهمتم - لما تنازعوا، ولكنهم فهموا في الموضوع غير ما فهمتم فضيلتكم، ومن ضمن ما فهموا "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.." الخ الحديث؛ لهذا قال مَنْ لا يرى جوار شد الرحال لزيارة القبور: إن من جمع في نيته زيارة المسجد وزيارة القبر فقد جمع بين مشروع وممنوع، ومن ثم له أجر المشروع وعليه إثم الممنوع، ولم يوافقوكم على أن الممنوع يشترك مع المشروع فيؤجر على الجميع، بل هذا فهمكم الخاص، ولهذا قلتم. فلا موجب لهذا النزاع.

أما الذين يوافقونكم على أنه لا داعي ولا مبرر للنزاع فيه فهو بالنسبة لمن سافر ناويا زيارة المسجد النبوي للصلاة فيه، ولم يدخل في نية سفره زيارة القبر، وبعد أن يصل إلى المسجد ويصلي ركعتين أو أكثر يتوجه إلى القبر، فتكون بداية نية زيارة القبر بعد وصول المسجد والصلاة فيه؛ حتى لا يكون لها نصيب من السفر البعيد وشد الرحال؛ هذه الصورة هي التي لا مجال للنزاع فيها، وفعلا لم يحدث ولم يحصل فيها نزاع بين ابن تيمية وخصومه، أما من قبلهم فقد بينا مذهبهم.. والحمد لله رب العالمين.

--------------------------------------------------------------------------------

ص: 477

[1]

يفهم من كلام الكاتب ومن كلام السهسواني الذي نقل عنه أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم غير مشروعة، ولم تثبت عن أحد من السلف مطلقا، وأن مجرد إتيانه يعتبر اتخاذه عيدا.

وهذا خلاف ما يدل عليه عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزروها فإنها تذكر الآخرة"، وقد خلط الكاتب - عفا الله عنه - بين حكم شد الرحال وبين حكم زيارة القبر نفسه، والفرق واضح بين الحكمين لمن تأمل؛ لأن شد الرحال غير جائز لقصد القبر عند التحقيق، أما زيارة القبر بدون شد الرحال فمشروعة، والله أعلم.. "المجلة".

[2]

بل الحديث الصحيح وهو "كنت نهيتكم.. الخ"، يدل على عكس ما يراه الكاتب، وما نفل عنهم وسماهم أئمة، وقد أثبت شيخ الإسلام ابن تيمية الحق الذي دل عليه الحديث المذكور، والعجيب من الأمر أن الكاتب نقل كلام شيخ الإسلام في هذا المعنى في نفس هذه الصفحة، ثم تركه دون تعليق، ونقل كلام من تبنى فكرتهم من عدم مشروعية زيارة القبور مطلقاً، وأنه عمل غير صالح وحبذه، ودعا إليه كما ترى 00"المجلة".

[3]

بل الصواب هو ما ذكر في التعليق رقم (1) .. "المجلة".

[4]

الصحيح ما تقدم أن مالك يكره مطلق الزيارة لا التلفظ بها، أما شد الرحال لها فقد صرح بتحريمه كما تقدم في أكثر من موضع من بحثنا هذا. المجلة.. (بل الصحيح أن الزيارة مشروعة بدون شد الرحال ولا معنى لكراهتها لفظا ولا معنى، ولا تفهم كراهة مطلق الزيارة من قول مالك المشار إليه، كيف وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:"ألا فزوروها" في الحديث الذي تقدم ذكره في التعليق السابق.

[5]

على حد زعمهم.

ص: 478

[6]

أما مشروعية زيارة القبور بما في ذلك قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون شد الرحال - فقد سبق أن ذكرنا في تعليقاتنا السابقة دليلها بالحديث الصحيح: "كنت نهيتكم

الحديث"، كما نوهنا على أن شد الرحال غير جائز لغير المساجد الثلاثة؛ عملا بحديث: "لا تشد الرحال

الحديث" والذي يلاحظ أن الكاتب يقع أحيانا في الخلط بين الأمرين. "المجلة".

[7]

ولماذا أمر عمر رضى الله عنه بإخفاء قبر (دانيال) عليه السلام حين وجد جثمانه في بلاد فارس؟ أليس نبيا كنبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ لِمَ لَمْ يترك قبره معلوماً للمسلمين ليزوروه ويفعلوا عنده كالذي يفعل الناس اليوم عند قبر نبينا عليه السلام؟ أيريد عمر أن يحرم المسلمين من هذا الخير العظيم؟.

[8]

بل الأربعة.

ص: 479

وجوب إنكار المعاملات الربوية

لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد

الحمد لله رب العالمين.. والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.. نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد..

فمن الظواهر السيئة التي برزت في صحفنا الدعوة إلى الربا، ومن ذلك ما نشر بجريدة الجزيرة عدد (2263) وتاريخ 11 شوال عام 1398هـ تحت عنوان (خططنا للضمان الممتاز) ، وكذلك ما جاء من الدعوة إلى الربا في الصحف والمجلات المحلية.

وهذه المعاملات من الربا المحرم بالكتاب والسنة والإجماع، وقد دلت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على أن أكل الربا من كبائر الذنوب، ومن الجرائم المتوعد عليها بالنار واللعنة.. قال الله سبحانه وتعالى:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} ، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} .

ص: 480

ففي هذه الآيات الدلالة الصريحة على غلظ تحريم الربا، وأنه من الكبائر الموجبة للنار، كما أن فيها الدلالة على أن الله سبحانه وتعالى يمحق كسب المرابي ويربي الصدقات، أي: يربيها لأهلها وينميها حتى يكون القليل كثيرا إذا كان من كسب طيب، وفي الآية الأخيرة التصريح بأن المرابي محارب لله ورسوله، وأن الواجب عليه التوبة إلى الله سبحانه وأخذ رأس ماله من غير زيادة.

وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال:"هم سواء".

وهذه المسألة التي كثرت الدعاية لها في الصحف والمجلات من المسائل التي بحثها مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وهذا مضمون ما قرره:"وضع الأموال في البنوك لأخذ فائدة ربوية بنسبة معينة يحصل عليها صاحب المال من البنك ونحوه، ويدفعها له إما بعد مضي الأجل الذي يتفق عليه، وإما عند سحب المال فيدفع له ما اتفق عليه من الربا الذي سمي ربحا أو فائدة.. وهذا ربا صريح حرمه الله ورسوله وأجمع سلف الأمة الإسلامية على تحريمه، وتسميته وديعة أو باسم غير ذلك لا يغير من حكم الربا المحرم فيه شيئا؛ فقد جمع ربا الفضل وربا النسيئة؛ لأنه بيع نقود بنقود نسيئة بزيادة ربح ربوي إلى أجل". انتهى.

ص: 481

والواجب على ولاة الأمور وعلى علماء الإسلام في كل مكان إنكار مثل هذه المعاملات الربوية والتحذير منها، كما أن الواجب على وزارة الإعلام منع نشر هذه المعاملات الربوية والدعاية إليها في جميع وسائل الإعلام؛ عملا بقول الله عز وجل:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} .. وقوله سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .. وقوله عز وجل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .. وقوله سبحانه: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ إِنَّ الأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} .

وبالله التوفيق.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه..

- خير الكلام كلام الله.

- خير الهدى هدى رسول الله.

- خير القصص قصص القرآن.

- خير الأمور عواقبها.

- شر الأمور محدثاتها.

- شر العمى عمى القلب.

- شر الضلالة الضلالةُ بعد الهدى.

- شر المعذرة معذرة العبد حين يحضره الموت.

ص: 482

تعقيب لا تثريب

لفضيلة الشيخ محمد المجذوب

المدرس بكلية الدعوة وأصول الدين

من عثرات الأقلام والأوهام:

أسوأ ما يتعرض له المشتغلون بالعلم، وخاصة ما يتصل منه بالنواحي الشرعية وتاريخ الإسلام، هو استكانتهم للكسل الذي يدفعهم إلى إرسال الأحكام دون تدقيق ولا تحقيق.

وقد أسلفنا في ما قدمنا من بحوث في هذا الباب (تعقيب لا تثريب) بعض النماذج الحية عن ذلك الوهن، الذي لا يسيء فقط إلى أصحابه، بل إنه ليسيء إلى الحقيقة التي يتصدرون للحديث عنها.

وها نحن أولا.. نقف عند تعقيب اليوم على نماذج من هذه الظواهر التي تفوق بوفرتها جهد المعقب، بالغا ما بلغ من الصبر والمتابعة، وكل ما نرجوه هو أن نوقظ بهذه الملاحظات وأخواتها همم هؤلاء الفضلاء، حتى لا يسمحوا لأنفسهم باتباع الظن، الذي لا يغني من الحق شيئا، ولئن قصر بنا الجهد عن استيفاء الأخطاء فحسبنا بذل الاستطاعة، والعجز صفة الإنسان، وقديما قيل:"ما لا يدرك كله لا يترك جله"..

1-

أخرج البيهقي عن طريق إبراهيم بن عبد الرحمن الغدرى مرسلا، أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال:"يحمل هذا العلم من كل خَلَفٍ عدُولُه؛ ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين"[1] .

وهذا الحديث الشريف يعتبر من جوامع الكلم، ومن الإشارات الخطيرة إلى مستقبل الإسلام، ومسيرة الدعوة الربانية.

ولكي يتضح المضمون العظيم لهذا البلاغ النبوي يحسن بالباحث إبراز بعض دقائقه ليكون القارئ على بينة مما سنقصه عليه.

ص: 483

فالرسول - صلوات الله وسلامه عليه - يبشرنا أن حقائق هذا الدين الحق ستظل أبدا مشمولة برعاية الله، الذي يقيض لحراستها مدى الدهر طائفة من خيرة عباده المميزين بالعلم والعدالة والشجاعة، التي تؤهلهم للشهادة على الناس، وتصحيح ما يتعرض له دينه من انحرافات على أيدي المفسدين من المضللين والمضلَّلين.. وهو نفسه المعنى الذي يحمله الحديث المتفق عليه الذي يقول:"لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك"[2] .

وعن كلا الأثرين الشريفين تفصيل مجمل في قوله تعإلى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ؛ ومعلوم أن من أهم صور الحفظ لكتاب الله تجرد فئة من المجاهدين في سبيله يحبسون وجودهم على حماية دين الله من تحريف الغالين، الذين لا يرتضون ما أنزل الله وبلغ رسوله، فيتصيدون له الزوائد من هنا وهناك، حتى تغيب حقائقه وراء حجب البدع، ومن انتحال المبطلين، الذين يشرعون لأتباعهم من الدين ما لم يأذن به الله؛ فما يزالون بهم حتى يخرجونهم من نور الحق إلى ظلمات الباطل، ومن تأويل الجاهلين، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

ذلك كله أول ما يواجه الناظر في خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حملة هذا العلم.. فهم ورثة السلف الصالح في الحفاظ على تراث النبوة صافيا لا تخالطه الشوائب، وهم حجة الله القائمة على عباده حتى يرث الله الأرض وما عليها.

ص: 484

ومع ذلك فقد سمعنا من متحدثي بعض الإذاعات من يجهله عن تبين الحقيقة في هذا الحديث الشريف؛ فإذا هو يحرف الكلم عن موضعه؛ فيقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: "عدوله" - وهو جمع عدل.. أي الدقة الضابط الصدوق - يقرؤه (عَدوُّ له) من العداوة، فيجعل حملة هذا الدين هم (أعداءه) لا (عُدُوله) .. تم يمضي في منحدره هذا مفسرا الحديث على النحو الذي يتفق مع زلته.. فما زال يتخبط حتى استوفي دقائقه المقررة في لغو لا مفهوم له..

هذا المحدث يحمل مؤهلا من أقدم جامعة في العالم الإسلامي، وكان من قبل أحد المفتين، وإن يكن ذلك منصبا تشريفيا لا يُشترط له العلم في بلده، وقد امتحنه الله بالوزارة، فلأحاديثه صفة التقارير الرسمية التي لا تقبل الرد.. ولعله بدافع من هذه الحصانة يرى من حقه أن ينطلق على هواه؛ فيقول في حديث رسول الله ما يحضره من قول، دون ما حاجة إلى روية أو تأمل.. وقد نسى أن المفسر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعدو كونه مفتيا يؤدي شهادته بأن ذلك هو مراده صلوات الله وسلامه عليه، وأن الغالط في تلاوة ما يروى عنه يعتبر واحد من الكاذبين عليه، الذين أنذرهم بمقعدهم من النار؛ لأنهم استراحوا إلى الكسل، فلم يكلفوا أنفسهم جهدا التيقن من الواقع، ولم يرجعوا إلى أهل الذكر في الاستيثاق من سلامة اللفظ وصحة المضمون، وهم على ذلك قادرون، لكنهم استهانوا بواجب العلم، ولم يفطنوا إلى أنهم عن الله ورسوله يتحدثون.

والغريب في أمر هذا المتحدث أنه قرأ كلمة (خلف) من الحديث على وجهها الصحيح، ثم لم ينتبه إلى التضاد المعنوي القائم بينها وبين لفظ (عدو) ؛ لأن الخلف - بفتح اللام - لا يكون إلا في معرض الخير، فلا تكون منه العداوة، وإنما تأتي العداوة من (الخلف) بسكون اللام، الذي لا يكون إلا في الشر، ومن ذلك قوله تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ..} (19/59) .

ص: 485

فليت هذا الوزير قد تذكر بعض ما قرأه أيام الطلب من أخبار السلف عن مواقفهم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ليته يقرأ نبأ مالك إمام المدينة رحمه الله؛ إذ كان يستوضح زواره عما يريدون من العلم، فإذا طلبوا الفقه خرج إليهم دون كبير احتفال؛ لأن الفقه فهم يتوصل إليه الرجال، فإذا كان المطلوب هو الحديث لم يواجههم حتى يغتسل ويتهيأ له بما يليق بلقاء رسول الله من الإجلال..

وأغلب الظن أن معالي الوزير سينفي عن نفسه ما قصصناه عنه تنزها عن مثله.. غير أنه لا مندوحة له عن التفكير مليا قبل إقدامه على النفي؛ إذ يتذكر أن حديثه (العالي) مسجل، وسيتعذر عليه إزالته، فخير له أن يعود لتصحيح خطئه من الإذاعة نفسها، وبذلك نكون له مع السامعين من الشاكرين.

2-

وهذا رابع الوزراء الذين قدر لنا أن ننبه إلى بعض أغاليطهم في هذا التعقيب.

كتب فضيلته ذات يوم - في مجلة إسلامية محترمة تصدر برعايته - حديثا تناول فيه بعض مشاهد السيرة النبوية الطاهرة، وكان مما تعرض له خبر الصحيفة الظالمة التي سجل فيها المشركون اتفاقهم على مقاطعة نبي الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين والمؤيدين.. حتى إذا صار الكلام عن نقضها ألقى الشيطان على قلمه أن بعض المطلعين قد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بسطو الأرضة على الصحيفة حتى لم تدع فيها سوى اسم الله..

ولما روجع معاليه في ذلك، وطولب بذكر المراجع الذي استند إليها في روايته الغريبة تلك، جاء جوابه أكبر من غلطته؛ إذ اسند الخبر إلى أحد المستشرقين..

ونعود إلى خبر الصحيفة في كتب السيرة وغيرها من المؤلفات المعتبرة؛ فلا نجد أصلا لهذا القول.

والمحقق في أمر نقضها أنه جاء نتيجة تعاون بعض ذوى الغيرة من قريش، الذين آلمهم ما رأوا من أثر المقاطعة في أقربائهم؛ فاتفقوا على القيام بنقضها، على الوجه الذي أثبتته تلك الكتب..

ص: 486

أما الرواية التي تقول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عمه أبا طالب بتسليط الله الأرضة على الصحيفة؛ فقد أوردها المحققون - كابن هشام وابن القيم وابن كثير - على أنها وصلت إليهم على لسان (بعض أهل العلم) دون أن يسندوها إلى راو بعينه..

ومهما يكن من أمر فقد كان على معالي الوزير أن يرد الخبر إلى موضعه من كتب السيرة، ولو فعل لما تورط في نسبته إلى مستشرق؛ لأن الخبر في مصادره الأساسية معروض على أنه مستند إلى الوحي، الذي أنبأ رسول الله بفعل الأرضة، فأنبأ رسول الله عمه بذلك..

وإنه لمن المفارقات المؤسفة كل الأسف أن نأخذ أخبار السيرة النبوية عن مستشرق أو مستغرب، وبين أيدينا أكداس المصنفات التي كتبها الثقات عن حياة نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ فلا تزال تمد المفكرين والباحثين كل يوم بالكنوز التي لا تنفذ من تراثنا العظيم.

3-

وفي حديث إذاعي لأديب معروف عن غزوة الخندق يقول: (لقد انفض القوم يومئذ من حول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حتى لم يبق معه سوى ثلاثمائة فقط..

ولا جرم أن تحديد عدة المسلمين بثلاثمائة لا معتمد له نقلا ولا عقلا؛ فالعدو قد زحف على المدينة بعشرة آلاف مقاتل من قريش وأحابيشهم ومن تبعهم من كنانة وتهامة وغطفان.. فمن غير المعقول أن يخرج المسلمون لمواجهتهم بذلك العدد الضئيل وهم قادرون على تعبئة أكبر.. فكيف وقد أجمعت كتب السيرة على أن عدد المسلمين لم ينزل يومئذ عن ثلاثة آلاف [3] .

ص: 487

وقد يفهم من كلام صاحب الحديث أن الثلاث المئات هم الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد المنفضين، وهو رأي مردود أيضا؛ لأنه يعنى أن كثرة الخارجين مع الرسول كانوا يومئذ من المنافقين الذين جعلوا يتسللون لواذا زاعمين أن بيوتهم عورة، ولو صح هذا التوهم لطمع المنافقون بالقلة المؤمنة، ولأسرعوا بالاتفاق مع الغزاة على استئصال الإسلام.. وإنما منعهم من ذلك يقينهم بضعفهم، وبخاصة بعد غزوة أحد التي كشفتهم، إذ لم يتجاوزون المئات الثلاث ثم جعلوا يتناقصون بما شرح الله صدور بعضهم للإسلام، حتى لم يبق حول رأسهم ابن سلول إلا القليل الذي لا يؤبه له..

والحديث عن يوم الأحزاب يستدعى التوقف عند ذكر نعيم ابن مسعود - رضى الله عنه - الذي كان له دوره الفعال في مصير الغزوة، وتخذيل المتخالفين من أهل الشرك ويهود قريظة.. ولكنه لفظ اسمه بفتح النون، وهو مضبوط في سيرة ابن هشام، بضمها على التصغير.

ولعل الأديب الفاضل يستدرك هاتين الهفوتين عندما يتجه لنشر أحاديثه النافعة في كتاب نرى أن يكون مخرجه قريبا إن شاء الله.

4-

وللعربية - لغة القرآن العظيم ووسيلة الدارس إلى فهم مراد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم حظها من أغاليط الكتاب والمؤلفين أيضا، فضلا عن عدوان الكارهين لها المؤتمرين بها.. فلها من أجل ذلك على الأقلام المؤمنة حق الدفاع عن حياضها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، وسأضع بين يدي القارئ في هذا التعقيب بعض النماذج لما نواجهه من هذه الأغاليط.

في كتاب يقدم نفسه بعنوان: (طريق النجاح في القواعد والإعراب) وجدتنى أطالع في بعض تدريباته البيت التالي:

ثُبْت أن أبا قابوس أوعدني

ولا قرار على زأر من الأسد

ثم يليه هذا الشرح العجيب: لقد أخبرني الناس بأن أبا قابوس يتوعدك وينذرك؛ فقلت لهم: ألقوا عنكم هذا، فأبو قابوس ووعيده لا يساوى عندي جنح بعوضة!..

ص: 488

وأنا هنا لا أحب أن أحاسب المؤلف على أسلوبه السوقي في التعبير عن مفهومه للبيت، ولكنى أكتفي بالإشارة إلى بعده الشاسع عن غرض الشاعر.. ولو هو عاد إلى ديوان النابغة وتعقيبات شراحه من اللغويين لعلم أنه إنما يصف خوفه الشديد من أبي قابوس الذي أنذره بالقتل، ويعتذر عن هذا الخوف بتشبيه ضمني يجعل أبا قابوس بمنزلة الأسد الذي يرسل زئيره؛ فلا يجد سامعه سبيلا إلى الاطمئنان على نفسه.

ومن هذا الضرب عمله في تدريب آخر حول معنى البيت التالي:

وترمينني بالطرف أي أنت مذنب

وتقليننى.. لكن إياك لا أقلي

فيقول في شرحه: "لقد نظرت إلي نظرة بطرف عينها اننى مذنب.. وإنني لأعجب كيف تتمكن من هجري، مع أني لا استطيع اصطبارا على فراقها"..

ويلاحظ كل ذي صلة بالبيان العربي أن الشارح لم يزد على أنه شوه مراد الشاعر، عن الركاكة التي لا تتوقع من مبتدئ فضلا عن مؤلف يقيم من نفسه ملعما حتى للجامعيين..

ووارحمتاه للعربية!..

5-

ويذكرني هذا بموقفين مشابهين عرضا لي أثناء تدقيق امتحان الشهادات في بلد عرني مجاور قبل بضع عشرة سنة؛ ذلك أني اختلفت مع ممثل لجنة الأدب حول قول شوقي - من النص المقرر على الطلاب:

منت بالله واستثنيت جنته

دمشق روح وجنات وريحان

فقلت: علينا أن نتفق أولا على رأي الشاعر بشأن الجنة كي نعرف أي الإجابات تقبل وأيها يرفض.

فقال سيادة الممثل: الأمر أوضح من أن يختلف عليه، إن شوقيا يستثنى الجنة من إيمانه، ويعتبر دمشق هي الجنة..

قلت: بهذا تخرج شوقيا من حظيرة الإسلام على الأقل؛ إذ لا يصح إيمان بالله مع إنكار ما أخبر به.. وعرضنا الأمر على اللجنة؛ فكلهم وافق رأيه دون استثناء، حتى أخذت أذكرهم بما أورده الشاعر في القصيدة نفسها من دلائل إيمانه بالجنة ومحتوياتها.. فإذا هم ينفضون من حوله، إلا صديقا لي كان شريكي في تأليف أحد كتب الأدب!..

ص: 489

أما الموقف الثاني فمع رأي آخر للمثل نفسه في كتاب له يدرس في السنة النهائية من القسم الثانوي؛ إذ أورد قول المعري من لزومياته:

لو كان لي أو لغيري قيد أنملة

من التراب لكان الأمر مشتركا

فراح يقرر إيمان المعري بالاشتراكية على أنه سابق لأهلها بالدعوة إليها!.. وقد نسي - هداه الله - أن المعري إنما يتحدث في توحيد الله عز وجل جلاله، فينفي أن يكون لأي مخلوق أي أثر من الملكية في هذا الوجود، فالبيت إذن تقرير لوحدانية الخالق، وتنزيهه سبحانه عن كل ألوان الشرك، والمعصوم من عصمه الله، ولا حول ولا قوة إلا به.

إذا جرى على العبد مقدور يكرهه فله فيه ستة مشاهد:

1-

مشهد التوحيد؛ وأن الله هو الذي قدره وشاءه وخلقه.. "ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن"..

2-

مشهد العدل؛ وأنه ماضي فيه حكمه عدل فيه قضاؤه..

3-

مشهد الرحمة؛ وأن رحمته في هذا المقدور غالبة لغضبه وانتقامه ورحمته وحشوه..

4-

مشهد الحكم؛ وأن حكمته سبحانه اقتضت ذلك، لم يقدره سدى ولا قضاه عبثا.

5-

مشهد الحمد، وأن له الحمد التام على ذلك من جميع وجوهه..

6-

مشهد العبودية، وأنه عابد محصن من كل وجه تجري عليه أحكام سيده القدرية، كما تجرى عليه أحكامه الدينية..

(من كتاب الفوائد لابن القيم)

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

يرى محقق (مشكاة المصابيح) أن الحديث قد روي موصولا من طريق جماعة من الصحابة، وورد تصحيحه عن الإمام أحمد.

[2]

متفق عليه.

[3]

راجع سيرة ابن هشام ص 219، 220 ج3 ج1 الحلبي عام 1955 بتحقيق السقا ورفيقه.

ص: 490

الرد على إباحة الغناء

للشيخ نايف الدعيس

الطالب بالدراسات العليا

بالجامعة الإسلامية

جاء في الكتاب السنوي للتربية الاجتماعية في رعاية الشباب بالمدينة المنورة لعام 97- 98هـ ما يتضمن إباحة الغناء- ونرد على هذا فيما يلي:

قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} .

وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .

وقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .

في عصر التخصصات يتطفل كثير من دعاة العلم على موائده وينسبونه لأنفسهم، ويتصنعون التفكير وبعد النظر على حساب كتب مقدسة وديانة محفوظة؛ فلا يسلمون للعلماء والفقهاء ويذعنون للأطباء والمهندسين وغيرهم ويعترفون بعجزهم أمام تخصصاتهم، وقسم إن هذا لهو البلاء المبين، يسكت العلماء وينطق آخرون ممن تحلوا بما لم يعطوا، وحجتهم أنهم رجال وأولئك رجال، وجهلوا ما بأنفسهم من جهل حتى يعجز أحدهم أن يقول كلاما فصيحا أو يكتب عبارة سليمة، ثم نراه يتطاول على كتاب الله أو سنة رسوله يفسرها بآرائه واجتهاداته؛ فما وافق هواه استدل به وإلا أوله وبدله من تلقاء نفسه دون اكتراث بالكتاب ومصدره، وما علم أن دين الله أنزله من السماء وتعهد بحفظه.

ص: 491

وإن مما يعجب له المرء أن يرى قولا جريئا على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من بلد الإيمان ومصدر الهداية وإشعاع النور، مأوى المهاجرين ودار الأنصار ومدرسة المسلمين؛ قولا يدعو للغناء والضرب على الأوتار دون إدراك لمعنى هذه الكلمة وما تحمله في طياتها من إفساد للدين والأخلاق والمجتمع، ودون تمييز ببن ما كان موجودا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من حداء وإنشاد لأبيات شعرية وادعة وبريئة أو جزلة قوية تقال في مناسبات الأعراس والأعياد، وبين أقوال ساقطة رذيلة يتغنى بها المغنون وعشاق الغناء، ويعشقها أطفالنا من بنين وبنات؛ فيرجعونها على ألسنتهم في الغدو والآصال.

ويا للأسى والأسف أن يصدر عن هيئة مسئولة عن تربية شبابنا وتنشئتهم على المبادئ الإسلامية التي تدعو إلى الاستقامة لا إلى الخلاعة والمجون.

إذا كان رب الييت بالدف ضارباً

فشيمة أمل البيت كلهم الرقص

خطاب أوجهه إلى الأستاذ الذي بدأ حديثه بغير ذكر الله؛ "وكل أمر ذي بال لم يبدأ فيه ببسم الله فهو أجذم"، وهو ناقص مبتور؛ فهذا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل أربعة عشر قرنا على ما كتبته حول ما سميته بالفن الشعبي ومفهومه في نظرك، وأنه يحكي ثقافة الأمم وتراثها الحضاري وعاداتها وتقاليدها في ألعابها وفنونها ورقصاتها على الأنغام التي تصاحبها، سواء كانت بالدفوف أو التصفيق، أو استخدام الآلات الوترية وغيرها.

ص: 492

وأحسبك قد وقعت فيما لم يكن في حسبانك حتى صار استدلالك عليك في كل ما ذكرته من الأدلة مما لم تنعم النظر فيه، فقلت على الرسول صلى الله عليه وسلم ظلما وعدوانا، وافتريت عليه بأنه كان لا يحرم الغناء، ولم تدرك معنى الكلمة هذه، وذكرت أن الغناء كان في عهده وعهد الخلفاء الراشدين من بعده.. ويا لها من حجة واهية وكلام سقيم وتعدّ على حرمة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام الطيبين الذين مدحهم ربهم بإعراضهم عن اللهو وعن الزور.

وأنهم إذا مروا به مروا كراما، وأنت تدعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحرمه، ولا أصحابه من بعده لم ينكروه؛ فهذا تجنّ وقول بغير فهم، وكيف لك أن تقول في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس لك به علم، أوَ ما علمت أن رجالا نقبوا عن الحق حتى لم يدعوا لوارد منهلا؟ فكيف بك وأنت لا تنتسب للعلماء أو طلبة العلم، وتقول برأيك ولا تخشى أن تحل ما حرم الله وتجعله عنوانا للحضارة والرقي؟! وكأني بك حين أنقض حجتك وأبطل دعوتك، وأنت حائر في صنعتك أو مقلع عن رأيك مشتت الذهن سارح البال.

وإلا يكن كذلك فأتحفنا بأخبار بعض المغنين الذين اشتهروا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء الراشدين.. من هم؟ ومن أين جاءوا؟ وهل كانوا رجالا أم نساء؟.. وما نوع الغناء الذي كانوا يصدحون به؟

وما أشكال الآلات الوترية التي كانوا يعزفون عليها أغانيهم؟ وما التصفيق الذي نسبته إليهم هل كان بفرقعة الأصابع أم بضرب الكفوف؟

وهل كانوا يؤدون ذلك في المساجد أو على قارعة الطريق؟ وما هي القواعد التي رسموها للغناء والتي لم تكن معروفة في الجاهلية؟ ومن الذي نسب النغم للحجاز؟ هل هو سعيد بن المسيب أم الإمام مالك؟ أو هو من الفساق الذين رغبوا عن القرآن واستبدلوا به مزمار الشيطان؟.

أسئلة أطرحها عليك يا مربي الأجيال قبل مناقشتك..

ص: 493

أما يكفيك ما ترى من المغنين والمغنيات حتى تريد أن تنشيء عليه الأجيال القادمة؟ وما الذي أعجبك في سلوكهم؟ وقد امتازوا بالخنوثة والميوعة حتى اختلط المخنثون منهم بالإناث.

عجيب أمرك يا أستاذ! فبدل أن تدعو إلى الإكثار من مدارس القرآن وتدريب النشء على الأخلاق الحميدة وخالص الرجولة؛ تدعو إلى اللهو والغناء وما لا خير فيه، وتخالف الأئمة الأعلام وجهابذة العلماء؛ فهم يقولون حرام وأنت تراه أحل الحلال؛ فمن أين جاءك هذا العلم!؟.. أمن حديث الهجرة الذي أنشد فيه بنات النجار وغيره من الأدلة التي أوردتها؟.. أم اتبعت فيه أقوالا لا يعتد بها وهى شاذة مردودة؛ لوضوح اتباع أهلها أهواءهم، وعدم تحكيم عقولهم فيما اقترفوه وفتحوا على المسلمين فجوة لا ترقع ما وجد أدعياء العلم والمتطفلون عليه.

وإني لأحسبك لا تعر ف هذا ولا ذاك..

ولكنها حكمة الله فيما يحوط به هذا الدين؛ فكلما خبت فتنة ظهرت أخرى ليتحفز لها المؤمنون؛ فيكونوا أقوى مما كانوا عليه.

وما مثل ما كتبته وإياهم إلا كالمصل يعطى للمريض فتتكون عنده قدرة الدفاع عن المرض.

ولكنها لأعجب من استدلالك بحديث بنات النجار وإنشادهن على إباحة الغناء والتصفيق والضرب على الأوتار، ولم تر ما قاله العلماء فيه، وأجزم أنك لم تقف عليه، وأين كل ذلك من الحديث؟..

ألا ترى أنهن لم يصحبن عودا ولا مزمارا، ولم يرددن ما تنبو له الأسماع من كلام ضليع يتردد على ألسنة المغنيين والمغنيات بتلحين وتطريب وتمطيط وتكسير، وتشويق وتهييج، وهل يلزم من إباحة الضرب بالدف إباحة غيره من الآلات؟.. وقل مثل ذلك - يا أستاذ - في حديث عائشة الذي لم تكمل نصه وفيه:

أتيناكم أتيناكم

فحيونا نحييكم

ولولا الذهب الأحمر

ماحلت بواديكم

ولولا الحبة السمرا

ماسمنت عذاريكم

ص: 494

أفترى في هذا دلالة على جواز الغناء والضرب على الأوتار التي تدعو إليها؟ وكيف تستدل به؟ وليس فيه بغيتك، ولا يمكنك أن تقضي منه نهمتك، وهو خاص للنساء فيما بينهن وفي يوم عرس لا مزمار فيه ولا عود ولا آلة من الآلات الشيطانية، ولم يحدث فيه من اختلاط الرجال بالنساء كما يشاهد في زماننا.

اعلم أنك لم تزدنا بذكر يزيد بن معاوية واهتمامه بالغناء والمغنين إلا توكيدا لما قاله فيه العلماء من الفسق والدعارة.

وأشنع من ذلك ما ادعيته على أهل المدينة وأنهم كانوا يخرجون- جميعاً - إلى وادي العقيق؛ ليستمعوا الغناء من المغنيين في عهد لم يزل فيه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعمرون مساجد الله ومعهم من التابعين أمثال محمد بن علي بن أبي طالب (ابن الحنفية) ، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار وغيرهم ممن يشار إليهم بالتقي والزهد والورع، وجعلت من المغنيين طبقة مميزة ولاشك في ذلك، ولكن بغير ما تظنه وتهواه، وإنما بالفسق والفجور، كما أجاب عليه علم من أعلام المدينة وهو الإمام مالك رحمه الله؛ فقد سئل عن المغنيين، فقال:(أولئك الفساق) . وهم الذين ذكرتهم (كطويس) الذي كان يتغنى بالأشعار لإثارة الفتن بين الأوس والخزرج، و (معبد) الذي يتغزل بالنساء وحسنهن ويرجو الوصال منهن، و (ابن عائشة) الذي لم يعرف أبوه، والذي فسد بمحادثته ومجالسته فتيان من المدينة و (ابن أبي السرح) الذي يقول:

ويجدر بنا ونحن في مقام التذكير أن نشير إلى بعض أدلة العلماء في تحريم الغناء إشارة وجيزة وإلمامة لطيفة تغنى عن الإطالة والاسهاب:

يصيب من لذة الكرام ولا

يجهل أي الترخيص في اللمم

ص: 495

1-

فمن كتاب الله قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، وقوله:{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} ، قال ابن عباس رضي الله عنه:(سامدون) هو الغناء بلغة حمير. وقوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} .. وغيرها من الآيات.

2-

أما من السنة المشرفة فقوله صلى الله عليه وسلم: "ليكوكن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف

" الحديث. وقوله: "ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير".

3-

ومن أقوال الصحابة رضي الله عنهم قول الصديق: "أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ودخول عمر على الجارية التي أخفت دفها تحتها، وقول عثمان:"ما تغنيت ولا تمنيت".

4-

ومن أقوال التابعين قول محمد بن الحنفية في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} ، قال: المراد بالزور اللهو والغناء، وكذلك فسره لإبراهيم النخغي وغيره.

وقد ذهب الأئمة الأربعة وغيرهم إلى تحريمه حتى قال أصحاب أبي حنيفة: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر.

وقد نهى الإمام مالك عن الغناء واستماعه، وهو مذهب سائر أهل المدينة، وكذلك الشافعي والإمام أحمد وغيرهم من أئمة المسلمين.

أما من قال بجوازه - وهم قلة - فلا يعتد بأقوالهم الشاذة، لا سيما وأنهم رأوا حرمة ذلك في ظروف وملابسات؛ فقال بعضهم: والسماع يحرم بخمسة عوارض:

الأول: أن يكون المسمع امرأة لا يحل النظر إليها.. وفي معناها الصبي الذي تخشى فتنته.

الثاني: أن تكون الآلة من شعائر أهل الشرب أو المخنثين، وهي المزامير والأوتار وطبل الكوبة.

ص: 496

الثالث: في نظم الصوت، وهو الشعر؛ فإن كان فيه شيء من الخناء والفحش والهجاء، أو هو كذب على الله عز وجل أو على رسوله.. فسماع ذلك حرام بألحان وغير ألحان.

الرابع: في المستمع، وهو أن تكون الشهوة غالبة عليه، وكان في غرة الشباب، وكانت هذه الصفة أغلب من غيرها عليه؛ فالسماع حرام عليه.

الخامس: أن يكون الشخص من عوام الخلق، ولم يغلب عليه حب الله فيكون السماع له محبوبا، ولا غلبت عليه الشهوة فيكون في حقه محظوراً.

وقد بين العلماء رحمهم الله أن الغناء محظور في كل وقت ومكان، إلا ما جاء فيه ترخيص من الشارع؛ فنقتصر عليه لورود الأدلة ولا نتجاوزه لغيره.

ولعل ما ذكرته فيه كفاية، والله أسأل أن يهديني وإياك والمسلمين سواء السبيل؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون والحمد لله رب العالميين

ص: 497

إلى الذين يحادون مفاتح الغيب باسم العلم الحديث

لفضية الشيخ عبد الفتاح عشماوي المدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة الإسلامية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. .

لا نجد مفتاحا لمحاضرتنا هذه؛ نفتح به ما قد يكون أغلق علينا، وعلى قلوب ليست معنا، عليها أقفالها خيرا من آية المفاتيح،. . . نعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وهذه الآية العظيمة، وإن كان بعضها فقط سيكون موضوع المحاضرة، إلا أننا ذكرناها كاملة لنتعرض لمعنى سريع لكلماتها، قبل أن نأخذ صدرها الذي سيكون ينبعنا الدفاق لمحاضرتنا، إن شاء الله تعالى. . .

فعن الآية جملة نبدأ فيها بإيضاح كلمة (الغيب) ؛ فهي بمعناها العام تعطينا معنى ذا قسمين: غيب يختص بالدنيا، وغيب يختص بالآخرة؛ فغيب الدنيا يمكن أن يظهر منه ما تحيط بصورته حواس الإنسان، وغيب الآخرة لا يظهر ولا يحاط منه شيء إلا بعد الموت، والآية التي قرأناها الآن من النوع الأول، من غيب الدنيا الذي يجوز أن يظهر ويدرك، ولمجرد أن نقرأها نجد كل صورها المسماة فيها جُسِّم من نوعه لنا، وأحاطت به أحاسيسنا {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} .

ص: 498

فالمفتاح: اسم الآلة يغلق به على شيء يحتاج إليه، والحاجة تقتضي أن يفتح به بين حين وآخر، وإن كانت المفاتيح في الآية معنوية، إلا أنها أعطت معنى الفتح على غيب ليس أبديّ الإغلاق، وإنما يفتح سبحانه علينا منه وبالقدر الذي يجعله قياما لوجودنا في دنياه؛ {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} ، {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} ، فخزائنه غيب وما ينزل منه هو الذي يبدو لنا، هذا هو غيب الدنيا الجائز فيه الظهور، وبقية الآية دليل على ذلك، {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} فقد أطلعنا على بعض ما في البر كالزرع - مثلا - حُزْناه، وفي البحر ضمنا سمك اصطدناه، وما تسقط من ورقة وتبدل بأخرى كذلك ولا حبة في ظلمات الأرض بعد أن أخفيت ثم بالنبت شقت، ولا رطب ولا يابس نرى منه فعلا ما نرى، كل ذلك في كتاب محفوظ مبين.

فهو سبحانه بعد أن نشر هذه الأمثلة لفها بعد ذلك في قوله: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِس} ، فمن الرطب واليابس تتكون الدنيا، ومنهما تفتح علينا مقومات بقائنا، من كل أمر عجيب أبصرناه، وما لم نبصره لا بد أكثر وأعجب؛ {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ} .

ص: 499

أما غيب الآخرة فليس منه في دنيانا ما نبصر، وإنما كله فيما لا نبصر، والرد على القول في أن بعض الرسل رأى الجنة والنار وهو في الدنيا، فمع الخلاف في أنهم رأوا ذلك حقيقة أو مناما، أو بوصف الوحي فإن خصوصيات الرسل - على ترجيح الرؤية البصرية - لا تقوم عليها بالضرورة قاعدة لبقية الناس، {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} ، وأصحاب الآراء الأخرى لهم وجه مقبول فيما قالوا، عندما ذكروا قول النبي صلى الله عليه سلم عن الجنة بأن "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، أوضحوا أن كلمات (عين) و (أذن) و (قلب) تشمل عين النبي وأذنه وقلبه صلى الله عليه وسلم، خاصة قوله:"ولا خطر على قلب بشر"، فهو ضمن البشر، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ، فلم يستثن نفسه من كلمات الحديث بشيء؛ فيكون ذلك قيل ليبلغه وما أبصره، فهذا إيضاح لا تنكر وجاهته.

وسيقال أيضا: إن الآيات القرآنية صورت لنا الكثير عن غيب الآخرة، كاللحم والفاكهة، والحور العين والمساكن الطيبة، وأنهار اللبن والخمر بلا غول والعسل المصفى، والنخل والرمان، هذا مع الأحاديث التي وصفت قصور الجنة بأنها لبنة من ذهب ولبنة من فضة، وأن تراب الجنة مسك. . إلى غير ذلك.

ص: 500