المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 45 فهرس المحتويات 1- كلمة التحرير 2- افتتاحية العدد: فضيلة الدكتور عبد - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ١٨

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌العدد 45 فهرس المحتويات 1- كلمة التحرير 2- افتتاحية العدد: فضيلة الدكتور عبد

‌العدد 45

فهرس المحتويات

1-

كلمة التحرير

2-

افتتاحية العدد: فضيلة الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد

3-

فتاوى هيئة كبار العلماء في أحداث الحرم

4-

حادث المسجد الحرام وأمر المهدي المنتظر: لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

5-

دروس من الفتنة: فضيلة الشيخ محمد المجذوب

6-

آية العدد: فضيلة الشيخ: أبو بكر الجزائري

7-

حول الوحي - محاولة لفهم ومدرجة إلى درس: لفضيلة الدكتور عبد الفتاح إبراهيم سلامة

8-

علم الجرح والتعديل: لفضيلة الدكتور عبد المنعم السيد نجم

9-

مفهوم الأسماء والصفات (الحلقة الأولى) : فضيلة الشيخ سعد ندا

10-

نماذج من الدعاة (الحلقة الثانية) : لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري

11-

مرتكزات التربية الإسلامية (الحلقة الثانية) : لفضيلة الدكتور عباس محجوب

12-

في المشارق والمغارب: فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري

13-

الهجرة النبوية - دراسة وتحليل: لفضيلة الدكتور محمد السيد الوكيل

14-

البحث عن سيف صلاح الدين: لفضيلة الدكتور عبد الرحمن بله علي

15-

حقوق الإنسان في الإسلام (الحلقة الأولى) : لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي

16-

نظم القرآن فوق مفتريات النقد والتجريح: بقلم الدكتور علي البدري

17-

من أبحاث فقه السنة - سنن الفطرة بين المحدثين والفقهاء (الحلقة الثانية) : لفضيلة الدكتور أحمد علي طه ريان

18-

أبو الأعلى المودودي: لفضيلة الشيخ محمد شريف الزئبق

19-

عبد الله بن ياسين - واضع الأسس الأولى لدولة المرابطين في المغرب الأندلس (الحلقة الثانية) : لفضيلة الشيخ إبراهيم الجمل

20-

رسائل لم يحملها البريد: بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

21-

الأفعال الملازمة للمجهول (الحلقة الثالثة) : فضيلة الدكتور مصطفى أحمد النماس

22-

غوثاه: لفضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري

23-

قياسية المصادر: لفضية الدكتور محمد بن زين العابدين حسن سلامة

24-

نظرات في التمثيل البلاغي: لفضيلة الدكتور محمود السيد شيخون

25-

سهام طائشة: فضيلة الدكتور مصطفى يونس

26-

الرد على من كذَّب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي: لفضيلة الشيخ عبد المحسن بن حمد العباد

27-

بل فلنعود أنفسنا أسلوب النقد النزيه: فضيلة الدكتور صلاح الدين عبد التواب

28-

كيس المرارة: للدكتور سيد أحمد عبد البر

29-

الخمر والإدمان الكحولي - خطر يجتاح العالم - فاحذروه: الدكتور أبو الوفاء عبد الآخر

30-

ملحق رسالة دكتوراه في التحقيق

31-

نداء لمساعدة المجاهدين الأفغان: لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز

32-

ماذا تعرف عن أورومو!؟ : لفضيلة الشيخ محمد أمان بن علي

33-

ملخص لبعض بحوث المؤتمر الثالث للسيرة والسنة النبوية الرسالة الإسلامية الأولى في مواجهة الفساد العالمي: بقلم الشيخ محمد المجذوب

34-

مجتمع المدينة قبل الهجرة وبعدها: دكتور أكرم ضياء العمري

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 178

كلمة التحرير

الحمد لله، وصلاة الله وسلامه وبركاته على رسول الله وعلى آله وصحبه..

وبعد: فإن حادث المسجد الحرام الذي وقع في أول المحرم عام 1400 هـ (أي في مطلع القرن الخامس عشر الهجري) أمر لا ينبغي أن يمر كما يمر أي حادث من حوادث الدهر الكثيرة، لأنه فجيعة عالمية فاجأت المسلمين في أقدس مكان حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، وفي الشهر الحرام الذي ظل محل احترام في الجاهلية والإسلام، واستبيح فيه الدم الحرام من حاضري المسجد الحرام وغيرهم من ضيوف الرحمن من الحجاج والمعتمرين، فهو حادث في غاية الغرابة، فيجب الوقوف أمامه، وقفة تأمل وتساؤل: لماذا وقع؟ وكيف وقع؟..

نعم يجب الوقوف أمامه وتقليب أمره لننظر فيه من جميع جوانبه، لنستخلص منه ما فيه من عبر، ثم لنراجع صحائف أعمالنا لنرى ما فيها من تقصير أوجب أو سبَّب هذه الفتنة العمياء المدهشة، لنمحو أثر ذلك التقصير بالإنابة إلى الله {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} ، الذي قدر ولطف فيما جرت به المقادير؛ وهو اللطيف الخبير، حيث انتهى الحادث إلى تلك الفرحة التي غمرت القلوب، قلوب المؤمنين في كل مكان، وهى فرحة تطهير المسجد الحرام للطائفين والقائمين والركع السجود، بعد أن دنسه أولئك المتهورون العصاة المتمردون، تلك الفرحة التي بردت قلوب المسلمين المفجوعة التي باتت تنتظر فترة التطوير بفارغ الصبر.

وإن أول آذان بعد الحادث يعتبر إعلانا بأن الفتنة انتهت بما حملت من أحزان وهموم وكآبة، وحل محلها الفرح والسرور، الفرح بنعمة الله، نعمة التمكين من تطهير المسجد الطاهر مما طرأ عليه من أعمال الجهيمانيين السفهاء.

ص: 179

وهذا أمر له أهميته، ينبغي التنويه به، وهو أن أولئك الصبية السفهاء كانوا يطلقون على أنفسهم- فيما بلغني- أنهم (سلفيون)، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا- وإطلاقهم هذا الاسم على أنفسهم لا يخرج من أحد أمرين:

1-

إما أنهم لا يعرفون المفهوم الصحيح للسلفية، فيكون إطلاقهم ذلك الاسم نتيجة جهل قد يكون مركبا.

2-

وإما أنهم أرادوا المغالطة والتضليل، فيكون الإطلاق نتيجة سوء قصد لتشويه هذا الاسم الحبيب الذي يعنى الرعيل الأول في هذه الأمة ومن سلك مسلكهم.

فليعلم القارئ الكريم أن الجهيمانيين ليسوا (بسلفيين) ، وليسوا أهلا للدعوة ولكنهم (متسلفون) ومدعون السلفية، وزاعمون الدعوة إلى الإسلام، وهم بعيدون عن الإسلام ذاته فضلا عن الدعوة إليه.

هذا وإذا نظرنا إلى الحادث الأثيم بعين القدر يمكن القول: لعل الله أراد أن يفضح أولئك المتهورين المجرمين على رؤوس الأشهاد، إذ كان اقتحامهم المسجد الحرام في الوقت الذي يتواجد فيه حجاج بيت الله الحرام بأعداد كثيرة حيث استطاعوا أن ينقلوا أخبارهم وتصرفاتهم الجاهلية إلى أقطار الدنيا عن مشاهدة لا بواسطة مذياع أو.. صحف.. هذه من ناحية.. ومن ناحية أخرى فإن الشيطان زين لهم أن يقتحموا المسجد الحرام بأعداد هائلة، وكأن الشطان، وعدهم بالنصر وقال لهم:{وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} ولما تورطوا وأحاط بهم جنود الحق وحماة البلد الحرام (الجيش السعودي) تبرأ منهم، وكأني به وهو يقول لهم:{إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ} كعادته المعروفة، في تغرير البسطاء، وتوريطهم، ثم البراءة منهم في آخر المطاف - نعم لعل الله أراد أن يفضحهم، ثم ينتهي شرهم، وتنطفئ فتنتهم بتلك الصورة التي تم بها القضاء عليهم، والله عليم حكيم، وله الحمد والمنة وحده.

ص: 180

وسوف يتحدث في هذا العدد من (مجلة الجامعة الإسلامية) - الذي يصادف صدوره انتهاء الحادث - عدد من الكتاب حول الحادث الأليم، وما انطوى عليه من الأحقاد الكمينة، حديثا يتضمن بيان حكم الإسلام في أولئك الصبية السفهاء من أنهم من المفسدين في الأرض، الذين يجب أن يقتلوا تقتيلا جزاء وفاقاً، كما يتناول حديثهم الإشارة بذلك الأسلوب الحكيم الذي وفق الله تعالى إليه حكومة جلالة الملك خالد بن عبد العزيز أثناء القضاء على الفتنة العمياء.

ومجلة الجامعة الإسلامية لتنتهز هذه الفرصة، فرصة الفرحة الكبرى بيوم التطهير لتهنئ جلالة الملك المعظم الذي شرفه الله بحماية الحرمين الشريفين والذود عندهما بالنفس والنفيس، أيده الله بنصره.

كما تهنئ المجلة صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء بهذه النعمة العظيمة، وصاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني.. وكذلك تهنئ المجلة أولئك الأبطال من رجال الحرس الوطني الذين ساهموا مساهمة فعالة في تطهير المسجد الحرام.

كما تهنئ المجلة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز، وزير الدفاع، وصاحب السمو الملكي وزير الداخلية الأمير نايف بن عبد العزيز، وجميع الذين اشتركوا في القضاء على تلك الفتنة من أفراد الجيش السعودي الأبطال، وأفراد الأمن العام البواسل.

وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين..

محمد أمان بن علي الجامى

رئيس تحرير المجلة

ص: 181

نماذج من الدعاة

(الحلقة الثانية)

لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري.

رئيس قسم التفسير بالجامعة الإسلامية.

إمام الدعاة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم

إذا كان بين عظماء الرجال نماذج من دعاة الحق والخير صالحون فإن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إمامهم وقدوتهم في كل كمال كانوا عليه ودعوا الناس إليه.

فمن هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

إنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ابن كعب بن مرة بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النظير بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن معد بن عدنان من ولد إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام.

ولد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بدار أبي يوسف، ولدته آمنة بنت وهب بن زهرة بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. ولدته صبيحة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول عام الفيل الموافق لأغسطس عام (570) ميلادية. مات والده عبد الله بن عبد المطلب وهو حمل في بطن أمه، فكفله جده عبد المطلب وماتت والدته وهو ابن ست سنين، فحضنته أم أيمن جارية أبيه، ومات جده عبد المطلب فكفله عمه أبو طالب.

مظاهر الكمال المحمدي

إن الكمال في محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتي عليه وصف، ولا يمكن أن يوضع به كشف، فصفاء نفسه التي أشرقت بنور الله فكانت كأصفى مرآة قد انعكست عليها مظاهر الكمال البشري كله، حتى كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم مضرب الأمثال في كل كمال، وبذلك قدم لإمامة الأنبياء، وجعل قدوة للمؤمنين.

وها نحن نذكر بعض جوانب الكمال المحمدي ليورد عليه الطالب الداعي قلبه، ويحيله بخاطره فيحصل على طاقة من الكمال النفسي ما يكون عوناً له على حمل رسالته، وأداء واجب دعوته التي تحملها بإيمانه وعلمه.

ص: 182

الاستعداد الروحي لتلقي الوحي:

وعن استعداد محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الروحي لتلقى الوحي نقول: إن النبي الكريم محمدا صلى الله عليه وسلم كان قبل إنبائه وبعثته آية في النظافة والطهر، نظافة العرق وأصالته وطهارة الروح وسلامته، لقد اتصلت ارومته بأصل جماله وكماله إبراهيم، والذي كان محمد صلى الله عليه وسلم أشبه الناس به كما أخبر بذلك عن نفسه، وانحدر سلسبيل النقاء في أصلاب الآباء حتى انتهى إلى قرار مكين فنبع منه محمد خير الناس أجمعين. هكذا كانت نظافة العرق الكريم والنسب الشريف. وأما طهارة الروح وسلامته فحسبنا أن نلقي نظرة على ربيع حياته، فتتجلى لنا من معاني الطهر آياته، وتفصح لنا عن سلامة روحه السنة عداته.

لقد كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نبوته في شبابه وفتوته يتمتع بأفضل الأخلاق وأطيب الشمائل فلم يؤثر عنه ما يخل بمكارم الأخلاق قط. إنه لم يأت ولا مرة واحدة ما كان يأتيه بنو قومه أبدا. فلم يسجد لصنم، ولم يشرب خمرا ولم يلعب قمارا ولا ميسرا، ولم يستقسم بزلم ولم يظلم في عرض أو مال أو دم أحدا. لقد كان بشهادة أعدائه وخصوم دعوته مثاليا في أخلاقه وناهيك بإجماع قريش على إضفاء لقب الأمين عليه. هذا اللقب الذي لم يظفر به أحد في ديارها وبين شبابها ورجالها أبدا، لقد كان - فداه أبي وأمي ونفسي وإني لصادق- كان أمينا في سره وفي علنه، وفي قوله وفي عمله، أمينا في غيبه وفي مشهده، أمينا في كل شيء وعلى كل شيء.

وإذا كانت قريش قد أجمعت على منحه ذلك اللقب السامي الكريم وهو لقب الأمين فإن الله تعالى قد أقسم له في مطلع نبوته على أنه على خلق عظيم وهي شهادة لا تعدلها والله شهادة إذ قال تعالى في فاتحة سورة القلم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ. مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .

ص: 183

إن الكمال الروحي الذي عاش عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف به قبل نبوته لم يكن نتيجة تربية أم أو أب، أو أثر تعليم أستاذ أو مرب قط، وإنما كان أثر عناية الله تعالى به. فالله الذي أوجده ليكون واسطة بينه وبين عباده في تبليغ دينه وشرعه هو الذي حماه من كل ما يلوث نفسه ويعكر صفاء روحه، وكان ذلك إعدادا له لحمل رسالة الله إلى عباد الله، إذ حمل مثل تلك الرسالة يتطلب كمالا نفسيا، يكون صاحبه فيه مثلا أعلى لغيره من سائر الناس، وكذلك كان رسول الله، وها هو ذا فداه أبي وأمي ونفسي يحدث عن صيانة الله تعالى له وحفظه ليبقى طاهرا زكيا فيتأهل لما هيئ له من الوحي والنبوة، فيقول كما روى البيهقي عن علي رضي الله عنه: يقول: "ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا ليلتين كلتاهما عصمني الله عز وجل فيهما. قلت ليلة لبعض فتيان مكة جاء ونحن في رعاء غنم أهلها وقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة اسمر فيها كما يسمر الفتيان"، فقال:"بلى"، قال:"فدخلت حتى جئت أول دار من دور مكة فسمعت عزفا بالغرابيل والمزامير، فقلت ما هذا؟ "قالوا: "تزوج فلان فلانة""فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي". فقال: "ماذا فعلت؟ "فقلت: "ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت"وذكر أنه حصل له مرة أخرى فتم له مثل الذي حصل في الأولى، ثم قال:"فوالله ما هممت ولا عدت بعدهما لشيء من ذلك حتى أكرمني [1] الله عز وجل بنبوته".

نزول الوحي:

إن تلك الطهارة الروحية الكاملة التي كان عليها محمد بن الله قبل نبوته وبعثته هي التي هيأته بإذن ربه تعالى للاصطفاء للنبوة والرسالة فكان بعد الوحي إليه ونزول جبريل عليه نبي الله ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.

ص: 184

إنه على رأس الأربعين من عمره المبارك نبئ صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه الحق وهو بغار حراء بعد أن كان قد حبب إليه الخلاء وكان ذلك في شهر رمضان حيث نزل عليه جبريل عليه السلام وهو به فضمه إلى صدره وأرسله ثلاث مرات وهو يقول له: اقرأ، فيرد قائلا:"ما أنا بقارئ". وفي الرابعة قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق. خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} . فذهب بها صلى الله عليه وسلم إلى زوجه خديجة رضي الله عنها يرجف بها بوادره، وهو خائف على نفسه. فهدأت رضي الله عنها من روعه، وسكنت من اضطراب نفسه وهي تقول له:"والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق".

ص: 185

وانطلقت به رضي الله عنها إلى ابن عمها ورقة بن نوفل بن أسد، وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي بصره. فقالت له خديجة:"يا ابن عم اسمع من ابن أخيك"، فقال له ورقة:"يا ابن آخي ماذا ترى؟ "فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقال له ورقة:"هذا الناموس [2] الذي نزل الله على موسى ليتني أكون فيها جذعا. يا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك"، فقال صلى الله عليه وسلم:"أو مخرجي هم؟ "قال: "نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا". ثم لم يلبث ورقة أن توفي فتر الوحي

وأثناء فترة الوحي تبدى له جبريل عليه السلام في صورته الملائكة وقد سد الأفق، وله ستمائة جناح ثم أخذ يدنو منه؟ ويتدلى حتى كان منه قاب [3] قوسين أو أدنى فأوحى الله إليه ما أوحى، ونزل عليه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ. وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ. وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ. وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} .

الدعوة سراً:

ص: 186

وبعد فترة الوحي التي فترها وكانت سنتين ونصف سنة حمي الوحي وتتابع وآمنت خديجة وورقة بن نوفل أول من آمن برسالة رسول الله، ثم آمن علي بن أبى طالب وكان صبيا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمن بعده زيد بن حارثة الكلبي وكان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ورقة فإنه مات قبل مشروعية الصلاة، وكانت قبل الإسراء ركعتين في الصباح وركعتين في المساء لقوله تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} ، ثم أسلم أبو بكر رضي الله عنه، وأسلم بدعوته نفر كريم كان منهم عثمان بن عفان، وعبد الرحمن ابن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله. ولما استجابوا لدعوته رضي الله عنهم أجمعين أتى بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا وصلوا. فكانت هذه فضيلة لأبي بكر تضاف إلى أخرى قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردد إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة ما عكم عنه (تلبث) "قال رؤية (وأنصاع وثاب بها ولما عكم) حين ذكرته له وما تردد فيه.

ص: 187

ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن الجراح، ثم الأرقم بن أبي الأرقم، الذي اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من داره مركزا للدعوة يعلم فيها من آمن من أصحابه ويصلي بهم طيلة ما كانت الدعوة سرا بمكة وبين قريش، وأسلم في هذه الفترة من النساء غير خديجة أسماء بنت عمير امرأة جعفر بن أبي طالب، وأمها هند بنت عوف بن الحارث أخت ميمونة بنت الحارث الهلالية زوج الرسول صلى الله عليه وسلم وأخت لبابة أم الفضل امرأة العباس. وهي والدة عبد الله بن جعفر جواد العرب في الإسلام وتزوجها أبو بكر الصديق بعد استشهاد جعفر بموته فولدت له محمدا، وتزوجها بعد وفاة أبي بكر علي رضي الله عنه فولدت له يحي، فما أكثر بركة هذه المؤمنة، وما أعظم يمنها رضي الله عنها وأرضاها.

واستمرت الدعوة سرا زهاء ثلاث سنوات فأنزل الله تبارك وتعالى قوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} .

الدعوة جهراً:

امتثل رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه فجهر بدعوته التي كانت سرا، ولما رأت قريش ذلك لا سيما بعد أن ذكر آلهتهم وعابها ناصبته العداء، وأجمعت على خلافه وعداوته ووقف أبو طالب إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم يذود عنه ويحميه، حتى اضطرت قريش إلى إرسال وفدها يفاوض أبا طالب في شأن رسول الله، ويطلب منه أن يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تسفيه أحلامهم، وسب آلهتهم، وعيب دينهم، أو يخلي بينهم وبينه لينالوا منه. وعرض أبو طالب وجهة نظر وفد قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال صلى الله عليه وسلم:"والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته". واستعبر رسول الله فبكى ثم قام فناداه أبو طالب، فقال:"اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا".

ص: 188

ولما علمت قريش بعدم خذلان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشت إلى أبي طالب تساومه في الموضوع فقدمت له شابا هو أنهد فتى في قريش وأجمله، وقالت:"خذ هذا بدل ابن أخيك فاتخذه ولدا واسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي قد خالف دينك ودين آبائك فنقتله فإنما هو رجل برجل"، فرد أبو طالب قائلا:"والله لبئس ما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون".

ولما بلغ الأمر هذا الحد، أظهرت قريش عداءها السافر، وأخذت تشن حربا ضروسا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، وقد كثر عدد هم وتزايد أمرهم فأغرت برسول الله صلى الله عليه وسلم سفهاءها فكذبوه وأذوه، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفي به، مبادلهم بما يكرهون من عيب دينهم، واعتزال أوثانهم. وحدث أن نال أبو جهل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت حين كان أبو جهل يسب ويشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم مولاة لعبد الله بن جدعان تسمع، فلما جاء حمزة وكان في قنص أخبرته بما صنع أبو جهل إزاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتمل حمزة الغضب، وطلب أبا جهل حتى وجده فضربه ضربة عنيفة فشج رأسه وقال له:"أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول"ولما رأت قريش أن حمزة قد أسلم علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه صلى الله عليه وسلم.

ص: 189

وكان أول من جهر بالقرآن وأسمعه قريشا عبد الله بن مسعود حيث اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما وقالوا: "والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه" فقال عبد الله: "أنا". فأبوا عليه ذلك غير أنه أبى إلا أن يكون هو فذهب في ضحى النهار إلى المسجد فوقف عند المقام، وقريش في أنديتها حول المسجد وقرأ بأعلى صوته: بسم الله الرحمن الرحيم {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} ، ولما سمعت قريش قراءته تأملوها، وجعلوا يقولون:"ماذا قال ابن أم عبد؟ "ثم قالوا: "إنه يتلو بعض ما جاء به محمد". فقاموا إليه فجعلوا يضربونه في وجهه، ولما عاد عبد الله وأثر الضرب في وجهه قال له أصاحبه:"هذا الذي خشيناه عليك". فقال: "ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لاغادينهم بمثلها غدا". قالوا: "لا، قد أسمعتهم ما يكرهون" ولما عز المسلمون بإسلام حمزة رضي الله عنه وعظم أمرهم وكثر عددهم كسرت قريش عن نابها وضاعفت من أذاها للمؤمنين الذين ليس لهم مناعة من قومهم. ولما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك عرض على المستضعفين الهجرة إلى الحبشة، فقال لهم:"لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم مخرجا مما أنتم فيه"، فخرج عند ذلك المسلمون إلى أرض الحبشة [4] .

ص: 190

وما زال أذى قريش منصبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أصحابه بحيث لا يستطيع أحد من المؤمنين أن يصلي في المسجد الحرام حتى أسلم عمر رضي الله عنه وقاتل قريش حتى صلى حول الكعبة وعندها عز المسلمون بعمر ابن الخطاب وأصبحوا يصلون حول الكعبة جهارا نهارا كما قال عبد الله بن مسعود: "إن إسلام عمر كان فتحا، وإن هجرته كانت نصرا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنا لا نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشا حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه". بيد أن قريشا لما رأت انتصار المؤمنين بعمر رضي الله عنه جنت جنونها وركبت رأسها وطالبت من أبي طالب وبني هاشم تسليم الرسول صلى الله عليه وسلم للقتل. ولما فشلت في ذلك أمرت بمقاطعة بني هاشم مقاطعة تامة فلا يباعون ولا يبتاع منهم ولا يكلمون، ولا يقدم لهم أدنى مساعدة ولا تقضى لهم أية حاجة وحاصرتهم في شعب أبي طالب، وكتبت بذلك صحيفة وعلقتها بالكعبة ودام حصارها للرسول صلى الله عليه وسلم وبني هاشم ثلاث سنوات جاع فيها بنو هاشم حتى أكلوا ورق الشجر، وقيض الله تعالى رجالا من قريش منهم هشام بن عمرو بن الحارث، وزهير بن أمية بن المغيرة والمطعم ابن عدي فأتوا على الناس وهم حول الكعبة وقالوا:"يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى، لا يباعون ولا يباع منهم، والله لا نقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة"، وانتهى الأمر بنقض الصحيفة وخروج بني هاشم والحمد لله، وعلى أثرها توفي أبو طالب وتوفيت خديجة رضي الله عنها فاشتد الكرب برسول الله صلى الله عليه وسلم وعظم ألمه وحزنه.

ص: 191

ومن سجل التاريخ أنهم عذبوا في ذات الله تعالى من المؤمنين في مكة سمية أم عمار ابن ياسر وولدها وزوجها فقد ماتت سمية تحت العذاب قتلها أبو جهل بحربة طعن بها في فرجها، فكانت أول شهيدة في الإسلام، كما عذب بلال إذ كان مولاه أمية بن خلف الطاغية الجمحي يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له:"لا والله لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى"فيقول وهو في ذلك البلاء: "أحد.. أحد". وكان بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه وكانوا أهل بيت إسلام إذا حميت الظهيرة يعذبونهم برمضاء [5] مكة فيمر بهم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: "صبرا آل ياسر موعدكم الجنة".

الدعوة في دار الهجرة:

إنه بعد موت أبي طالب اشتد أذى قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إلى الطائف يطلب نصرة رجال من ثقيف فعمد إلى ثلاثة نفر من سادة ثقيف وهم عبد ياليل ابن عمرو، ومسعود بن عمرو، وأخوهما حبيب بن عمرو فكلمهم في شأن نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قريش بعد أن دعاهم إلى الله سبحانه وتعالى فأسمعوه ما ألمه، وألم كل مؤمن إذ قال له الأول:"هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك"، وقال الثاني:"أما وجد الله أحدا يرسله غيرك". وقال الثالث: "والله لا أكلمك أبدا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليكَ الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك". فقام رسول الله من عندهم وقد يئس من خبر ثقيف.

وواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على القبائل العربية في أسواقها وعلى مياهها، يدعون إلى الله تعالى ويطلب النصرة على قومه الذين أذوه وبالغوا في أذاه.

ص: 192

ولما أراد الله تعالى أن يعز رسوله وينصر دينه، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على سابق عادته إلى موسم الحج يدعو إلى ربه ويطلب نصرته على قومه فشاء الله تعالى أن يلقى نفرا من الخزرج عند العقبة فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم ما شاء الله من القرآن فآمنوا وأسلموا وكانوا ستة نفر منهم أسعد بن زرارة من بني النجار، فلما عادوا إلى المدينة نشروا الدعوة حتى لم يبق بيت إلا فيه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام.

ولما كان الموسم من العالم المقبل، وأتى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا، فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة وبايعوه على الإسلام بأن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا. ولما لم يكن في نصوص البيعة ذكر الحرب قيل فيها بيعة النساء وذلك لعدم فرض القتال يومئذ. ونصوص البيعة هي الواردة في قوله تعالى من سورة الممتحنة:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ} الآية.

ص: 193

ولما أرادوا العودة إلى المدينة بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب ابن عمير رضي الله عنه يقرئهم القرآن ويعلمهم شرائع الإسلام ويفقههم في دين الله، فذهب معهم ونزل على أسعد بن زرارة رضي الله عنهما، وكان يؤمهم في الصلاة. (خرج يوما أسعد بن زرارة بمصعب بن عمير إلى حائط لبني الأشهل فاجتمع عليهما ناس من المسلمين فسمع بذلك سعد بن معاذ، فقال لأسيد بن حضير، وكل منهما كان سيدا في قومه:"لا أبالك انطلق إلى هذين الرجلين اللذين أتيا دارينا ليسفها ضعافناءنا فأزجرهما وأنههما أن يأتيا دارينا بعد. ولولا أن سعد منا من حيث علمت لكفيتك ذلك". فذهب أسيد بعد أن أخذ حربته، فلما رآه سعد، قال:"يا مصعب هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه". فقال: "مصعب إن يجلس أكلمه". فجاء أسيد ووقف عليهما وقال: "ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا، اعتزلا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة"، فقال له مصعب:"أو تجلس، فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره؟ " قال: "أنصفت"ثم ركز حربته وجلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن.. فقال: "أسيد ما أحسن هذا الكلام وأجمله. كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين"قالا له: "تغتسل فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ففعل أسيد ذلك"، ودعا أسيد سعد بن معاذ فحضر مجلس مصعب فأسلم وهكذا انتشر الإسلام بالمدينة بإسلام أسعد بن زرارة ووجود مصعب بن عمير وبدخول أسيد بن حضير وسعد بن معاذ في الإسلام فلم تكن إلا أيام قلائل وما في المدينة بيت إلا وفيه إسلام ومسلمون إلا ما قل وندر..

ص: 194

وما إن دارت السنة دورتها وخرج حجاج المدينة من المسلمين والمشركين إلى موسم الحج، وخرج معهم مصعب بن عمير رضي الله عنه واتصل مصعب برسول الله صلى الله عليه وسلم مع رجال من أهل المدينة بمكة وواعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (العقبة) أيام التشريق، وحج الجميع وقضي الحج، ولما كانت ليلة الميعاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا في نصف الليل يتسللون من رحالهم حتى نزلوا بالشعب عند العقبة ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما هي إلا ساعة وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب، حضر وهو مشرك يومئذ ليطمئن على ابن أخيه ويستوثق له من مسلمي المدينة فيما عاهدوه عليه. وتمت بيعة العقبة الثانية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين نحو من ثلاثة وسبعين رجلا من الخزرج والأوس وكانت البيعة بعد أن تكلم العباس أول متكلم فقال:"يا معشر الخزرج: إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلاده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه". فقال الخزرج: "قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.."

ص: 195

فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا إلى الله تعالى ورغب في الإسلام، ثم قال:"أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون به نساءكم وأبناءكم" وإلى هنا قام البراء بن معرور رضي الله عنه فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:"نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا"[6] وقاطعه أبو الهيثم بن التيهان قائلا: "يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الّله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟؟ "فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:"بل الدم [7] الدم الهدم الهدم. أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم". ثم خطب العباس بن عبادة الأنصاري فكرر ما قاله ابن عبد المطلب تقريبا. فقال أهل المدينة: "إنا نأخذه - رسول الله - على مصيبة المال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك يا رسول الله؟ قال: "الجنة".

عندئذ قالوا أبسط يدك يا رسول الله نبايعك فبسط صلى الله عليه وسلم يده فبايعوه، واختار منهم أثني عشر نقيبا وهم: أسعد بن زرارة وسعد بن الربيع، وعبد الله بن رواحة، ورابع بن مالك، والبراء بن مرور، وعبد الله بن عمرو بن خزام، وعبادة بن الصامت ابن قيس، وعبادة بن الصامت بن دليم بن حارثة، والمنذر بن عمرو بن خنيس. وهؤلاء من الخزرج.

ومن الأوس: أسيد بن حضير بن سماك، وسعد بن خيثمة بن الحارث، ورفاعة بن عبد المنذر بن زبير.

وعاد أهل البيعة إلى المدينة ولم يتخلف منهم إلا سعد بن عبادة حيث أسرته قريش، وذلك أن قريشا لما بلغها بيعة أهل المدينة للرسول صلى الله عليه وسلم على حربها طلبت أهل البيعة فلم تدركهم حتى تحملوا راحلين فنجوا إلا سعدا أدركته فأسرته فهو في أسرها حتى أطلقه الله تعالى من أسرها بواسطة جبير بن مطعم بن عدي بعد أن عذبته قريش العذاب الشديد.

ص: 196

وما أن وصل المبايعون المدينة حتى انتشر خبر البيعة في ربوع المدينة وتحولت فعلا المدينة إلى دار إسلام وقلعة من قلاعه، وعندئذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهاجروا إليها فهاجروا إرسالا، ولحق بهم مهاجروا الحبشة كذلك وانتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ربه بالهجرة حين جاء الإذن فخرج مع أبي بكر الصديق مهاجرا إلى المدينة، وكان في هجرته آيات منها ما كان في غار ثور ومنها في شاة أم معبد، ومنها مع سراقة بن جعشم.

أما غار ثور فقد أعمى الله تعالى المشركين عن رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه فيه. وهم يقلبون الحجارة حجرا حجرا بحثا عنه صلى الله عليه وسلم ولم يروه، إذ العناكب نسجت [8] على فم الغار والحمامة عششت وبيضت في الحال مما جعل المشركين لا يشكون أن بالغار أحدا وهم يمرون به في كل لحظة متتبعين الآثار، حتى قال أبو بكر:"لو أن أحدا نظر إلى قدمه لرآنا"، فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم قائلا:"ما ظنك [9] باثنين الله ثالثهما يا أبا بكر"، وفي القرآن الكريم:{إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا..} .

ص: 197

وأما شاة أم معبد فالآية فيها أنها كانت في درها بعد أن كانت لا تحلب لما أصابها من جهد السنة الشهباء، إذ مر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه بخيمة أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة جلدة برزة تختبئ بفناء بيتها وتطعم وتسقي من يمر بها. فسألها:"هل عندها شيء يشترونه منها؟ " فقالت: "والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى، والشاة عازب". فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شاة في كسر البيت. فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد؟ " فقالت: هذه شاة خلفها الجهد عن الغنم، فقال:"هل بها من لبن؟ " فقالت: "هي أجهد من ذلك"، قال:"أفتأذنين لي بحلبها؟ " قالت: "قم بأبي وأمي، إن رأيت بها حليبا فأحلبها"، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح ضرعها، وذكر اسم الله، وقال:"اللهم بارك لها في شاتها"، فتفاجت ودرت واجترت، فدعا بإناء لها يربض [10] الرهط فحلب فيه حتى علته الرغوة، فسقاها فشربت حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا وشرب صلى الله عليه وسلم آخرهم فشربوا جميعا عللا بعد نهل، ثم حلب فيه آنية حتى ملأ الإناء فغادره عندها ثم ارتحلوا عنها. وجاء زوجها فوجد عندها اللبن فعجب وقال:"من أين لك هذا؟ والشاة عازب ولا لحلوبة بالبيت"، فقالت:"إنه مر بنا رجل [11] مبارك كان حديثه كيت وكيت". فقال زوجها أبو معبد: "والله إني لأراه صاحب قريش الذي تطلبه، صفيه لي يا أم معبد"فوصفته له، فقال:"هذا والله صاحب قريش، ولو كنت وافقته لالتمست أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا".

ص: 198

أما سراقة فالآية فيه أنه لما بلغه أن قريشا جعلت مائة بعير لمن يرد عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتا ركب فرسه وحمل سلاحه وخرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما أن سار وجدَ به السير حتى أخذ فرسه يعثر في الأرض وكلما عثر الفرس سقط سراقة على الأرض. وهكذا عدة مرات فلما رأى أنه دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفاقه عثر الفرس وذهبت يداه في الأرض وسقط سراقة عنه، ورأى دخانا كالإعصار فعرف حين رأى ذلك أنه الرسول صلى الله عليه وسلم قد منع منه وأنه ظاهر لا محالة. فنادى:"أنا سراقة بن جعشم أنظروني أكلمكم، فوالله لا أريبكم، ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه". ولما عاد سراقة خائبا لامه أبو جهل فأنشده الأبيات التالية:

لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه

أبا حكم والله لو كنت شاهدا

رسول ببرهان فمن ذا يقاومه؟

علمت ولم تشكك بأن محمد

بأن جميع الناس طرا يسالمه

بأمر يود الناس فيه بأسرهم

ومن أولى آيات الهجرة أنه لما خرج رسول الله وصاحبه من الغار ولم يعرف أين كان اتجاههما جاء رجل من الجن من أسفل مكة وأخذ يتغنى بالأبيات التالية من الشعر، والناس يتبعونه يسمعون صوته وما يرونه حتى خرج من أعلى مكة:

فيقين حلا خيمتي أم معبد

جزى الله رب الناس خير جزائه

فأفلح من أمسى رفيق محمد

هما نزلا بالبر حيث تروحا [12]

ومقعدها للمؤمنين بمرصد

ليهن بني كعب مكان فتاتهم

فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد

سلوا أختكم عن شاتها وإنائها

به من فعال لا يجازى وسؤدد

فيا لقصي ما زوى الله عنكم

أبر وأوفى ذمة من محمد

فما حملت من ناقة فوق رحلها

ص: 199

ووصل الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر الصديق المدينة ودخلها من جنوبها حيث نزل بديار بني عمرو بن عوف بضاحية قباء وكان ذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأول فأقام بها خمسة أيام دعا فيها إلى الله تعالى وتلا القرآن وعلم المؤمنين دين الله تعالى وصلى بالناس، وبنى مسجد قباء فكان أول مسجد بني في الإسلام وترك منازل بني عمرو بن عوف قاصدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة فصلاها في حي بني سالم بن عوف بالمسجد الذي يعرف الآن بمسجد الجمعة بواد يقال له (رانوناء) فكانت أول جمعة تصلى في دار الهجرة وعرضت له رجالات أحياء الأوس والخزرج كل يطلب النزول إليه ويقول: أقم عندنا في العدد والعدة والمتعة، والرسول صلى الله عليه وسلم يأبى عليهم ذلك، وكلما اعترضوا ناقته لينيخوها بأحيائهم يقول لهم:"دعوها فإنها مأمورة" حتى وصل إلى حي بني النجار من أخواله [13] فبركت الناقة وألقت بجرانها [14] في المكان الذي بني فيه المسجد النبوي الشريف على مقربة من دار أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه والذي نزل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيفا وبقي بمنزله حتى بنيت الحجرات الشريفة فسكنها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان أول عمل قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة بناء مسجده الشريف والذي شارك في حمل حجارته وهو يرتجز يقول: "اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة.. فاغفر للأنصار والمهاجرة.."

وعمار بن ياسر يرتجز ويقول:

يدأب فيه قائما وقاعدا

لا يستوي من يعمر المساجدا

ومن يرى عن الغبار حائدا

ففهم أحد الصحابة أنه يعترض به فهدده بالضرب فغضب لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "مالهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار".

ص: 200

ودخل عمار بن ياسر وقد أثقلوه بحمل اللبن فقال: "يا رسول الله قتلونى يحملون علي مالا يحملون"فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته بيده وهو يقول: "ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك: إنما تقتلك الفئة الباغية".

ولم تدر السنة حتى استجمع للرسول صلى الله عليه وسلم إسلام الأنصار فلم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهله إلا ما كان من ثلاث أو أربع بيوتات من الأوس فإنهم بقوا على شركهم، وتم بناء المسجد والحجرات في خلال تلك السنة، وأول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك التي رويت عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ونصها: "أنه قام فيهم فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال أما بعد

أيها الناس فقدموا لأنفسكم. تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع، ثم ليقولن له ربه، وليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك؟ وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك؟ فلينظرن يمينا وشمالا ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة، فإن بها تجزى الحسنة عشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف. والسلام عليكم ورحمة الله وبركا ته.."

ص: 201

وخطب مرة أخرى أيضا فقال: "إن الحمد لله

أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا ما أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم، ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي، قد سماه الله خيرته من الأعمال ومصطفاه من العباد والصالح من الحديث، ومن كل ما أًوتى الناس من الحلال والحرام؛ فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده. والسلام عليكم".

ومن أجل ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأعمال في مجال الدعوة بالمدينة بعد بناء المسجد وجمع المؤمنين فيه للصلاة والتربية والتعليم هو كتابه الذي كتبه بين المهاجرين والأنصار، وقد ضمنه موادعه يهود المدينة، ومعاهدتهم وإقراره لهم على دينهم وأموالهم، وما شرط لهم واشترط عليهم وهو كتاب يقع في أكثر من ثلاث صفحات تضمن خطوطا سياسية إصلاحية حربية وسلمية لا نظير لها في معاهدات الناس وكتاباتهم في هذا الشأن بحال من الأحوال، وهو في كتاب السيرة لابن هشام.

ص: 202

ومن أجل الأعمال كذلك مؤاخاته صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار حيث قال في مجمع حاشد من المهاجرين والأنصار: "تآخوا في الله أخوين أخوين، ثم أخذ بيد علي بن أبى طالب فقال هذا أخي

" فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي ابن أبي طالب أخوين، وكان حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة أخوين وهكذا حتى لم يبق أحد من المهاجرين والأنصار إلا آخى أحدا وآخاه، والله أكبر ماذا نتج عن هذه المؤاخاة من الخير والبركة الأمر الذي لا نظير له ولم تعرف الدنيا له مثيلا. كل ذلك في نطاق الدعوة إلى الله تعالى التي يجب أن يتخذ لها كل الأسباب الكفيلة ببلوغها وانتشارها وانتصارها وإسعاده للناس عليها في الدنيا والآخرة.

وبعد هذه الخطوات الجبارة التي خطاها الرسول صلى الله عليه وسلم في مضمار الدعوة بدار الهجرة اتسع الطريق أمامه فداه أبي وأمي، فضاعف الجهود، إذ نجم النفاق بين سكان المدينة من عرب مشركين ويهود على حد سواء، وأخذت التجمعات والتكتلات ضد الرسول والمؤمنين تظهر هنا وهناك وتبعتها الاتصالات بالعدو بمكة، وعظم الأمر، واشتد الخطب، ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون وقفة البناء الشامخ والجبال الراسية فلا تزعزع ولا تضعضع. ولكن الجهاد بالسيف والمال والقال والحال حتى نصر الله أولياءه وخذل أعداءه ولكن ما بين ذلك من الأحداث الجسام والأعمال العظام مالا يأتي عليه وصف!! وليراجع له كتب السير والمغازي فإنه كان العجب العجاب في حياة الدعوة بالمدينة وحياة سيد الدعاة بها صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه تسليما كثيرا.

الصورة المثالية في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم:

ص: 203

إن الصورة المثالية الكاملة في شخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم تتجلى في خلقه وفي خُلُقِه معا وهي بالغة في كل منهما منتهى الكمال، والحمد لله واهبه والمتفضل به. أما في خلقه صلى الله عليه وسلم فإن أصحاب السير وجميع كتب من كتب في السيرة المحمدية مجمعون على أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكمل الناس ذاتا، وأجملهم وجها، وأحسنهم قدا واعتدالا، ولنترك الرواة الصادقين يصفون لنا الذات المحمدية كما رأوها وعرفوها. فقد روى مسلم عن البراء أنه قال:

"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا مربوعا بعيد ما بين المنكبين، عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه، عليه حلة حمراء ما رأيت شيئا قط أحسن منه صلى الله عليه وسلم".

كما روى مسلم عن أنس رضي الله عنه أنه قال:

"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهر اللون كأن عرفه اللؤلؤ، إذا مشى تكفأ، ولا مسست ديباجة ولا حريرة ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكة ولا عنبرة أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: "سألت هند بن أبي هالة عن حلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان وصافا، وأنا أرجو أن يصف لي منها شيئا أتعلق به فقال:

ص: 204

"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخما مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر، أطول من المربوع وأقصر من المشذب (البائن الطول) عظيم الهامة رجل الشعر أزهر اللون، واسع الجبين، أزج الحواجب، سوابغ من غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، أقنى العرينين، له نور يعلوه، يحسبه من لم يتأمله أشم، كث اللحية، أدعج، سهل الخدين، ضليع الفم، مفلج الأسنان، دقيق المسربة، كان عنقه جيد دميه في صفاء الفضة، معتدل الخلق، بادنا متماسكا، سواء البطن والصدر، بعيد ما بين المنكبين، ضخم الكراديس (رؤوس العظام) أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزندين، رحب الراحة، سائل الأطراف، عبل الذراعين (غليظهما) خمصا الأخمصين ينبوعهما الماء، إذا زال زال تقلعا، ويخطو تكفؤا، ويمشي هوناً، إذا مشى كأنما ينحط من صبب، وإذا التفت التفت جميعا، خافض الطرف نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، جل نظره الملاحظة، يسوق أصحابه، ويبدأ من لقيه بالسلام".

وأما في خلقه العظيم فإنه بأبي هو وأمي كان مثالا من أمثلة الكمال البشري، فلا يسامى في أخلاقه ولا يدانى بحال فهو فريد دهر الدنيا ووحيد عصرها.

حنثت يمينك يا زمان فكفري

حلف الزمان ليأتين بمثله

وها نحن نستعرض شذرات [15] من ذهب كماله في كل مجالات حياته الأخلاقية والنفسية والعقلية لنقف على عين الحقيقة، ونعرف الكمال المحمدي الذي كان به سيد الدعاة الصالحين وإمامهم أجمعين.

في عفوه وحلمه:

إن العفو كالحلم كلاهما من الأخلاق الإنسانية الفاضلة. وإن الاستقصاء للشمائل المحمدية غير محتمل أصيلا، ولقد أحسن من قال:

كما مثل النجوم الماء

إنما مثلوا أصفائك للناس

ولذا فإننا نكتفي دائما بنماذج لذلك الكمال المحمدي في كل مظهر من مظاهره. ومن شمائل الحلم والعفو عنده صلى الله عليه وسلم نذكر الأمثلة الثلاثة الآتية:

ص: 205

1-

صح أنه كان صلى الله عليه وسلم في غزاة فأعطى رجاله فرصة للاستراحة فيها فانشروا في واد يسّتريحون تحت ظلال أشجاره، وأتى هو شجرة فعلق صلى الله عليه وسلم سيفه في أحد أغصانها ونام فجاء أعرابي من المشركين فاخترط السيف وقال للرسول صلى الله عليه وسلم:"من يمنعك اليوم مني يا محمد؟ "فرفع إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه وقال: "الله.." فارتاع الرجل وسقط السيف منه، فتناوله الرسول صلى الله عليه وسلم وقال:"من يمنعك أنت الآن مني"فقال الأعرابي: "لا أحد

"فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف. إن هذا لهو العفو بعد المقدرة الذي يستحق صاحبه الإجلال والإكبار، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ذاك.

2-

قسم صلى الله عليه وسلم مالا بين أصحابه فجاءه أعرابي فجذبه من طرف ردائه وقال: "هذه قسمة ما أريد بها وجه الله"، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما زاد على أن قال:"ويحك من يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر".

3-

دخل أعرابي المسجد، واضطرته الحاجة إلى التبول فانحنى ناحية من المسجد وأخذ يبول، فانتهره أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وصاحوا فيه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعوه لا تزرموه"(أي لا تقطعوا عليه بوله) فتركوه حتى قضى بوله، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلو من ماء فصبه عليه. فحلم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا أنطق الأعرابي فقال:"اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا". فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لقد تحجرت واسعا يا أخا العرب".

رجاحة عقله:

ص: 206

من الكمالات المحمدية رجاحة عقله صلى الله عليه وسلم، ولنورد برهانا على ذلك أربعة مواقف كانت له صلى الله عليه وسلم اثنان منها في عهد ما قبل الإسلام، واثنان في عهد الإسلام وهي أربعة مواقف من عشرات أو مئات المواقف كل موقف منها دال على ما أوتي صلى الله عليه وسلم من رجاحة العقل وكمال الإدراك.

فالأول:

هو حضوره صلى الله عليه وسلم حلف الفضول وقوله فيه: "لقد حضرت حلف الفضول بدار عبد الله بن جدعان. وما أحب أن لي بحلف حضرته في دار عبد الله ابن جدعان حمر النعم ولو دعيت به لأجبت"[16] إن هذا الحلف عقد على أساس نصرة المظلوم والوقوف إلى جنبه حتى يؤخذ له الحق ممن ظلمه، فحضور النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحلف مؤيداَ له مغتبطا به، حتى قال:"ما أحب أن لي به حمر النعم"، دال على كمال عقله صلى الله عليه وسلم ورجاحته..

والثاني:

حكمه صلى الله عليه وسلم بأن يوضع الحجر الأسود في ثوب، ثم تأخذ بأطرافه القبائل القرشية حتى إذا بلغ الحجر مكانه من جدار البيت تناوله هو ووضعه في موضعه، وكذلك فعل حتى قضى بذلك على فتنة متوقعة وخصومة قائمة من أشد الخصومات أوشكت أن تزهق فيها الأرواح، فدل تصرفه الحكيم هذا على رجاحة عقله وكماله الذي أهله لأن يكون أكمل الناس عقلا بلا منازع.

والثالث:

أنه لما دخل مكة يوم الفتح منتصرا ووجد رجالات قريش قد تجمعوا حول الكعبة ينتظرون حكم الفاتح المنتصر عليهم ماذا يفعل بهم، ناداهم قائلا:"يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ " قالوا: "أخ كريم وابن أخ كريم". فقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء.."

إن هذا الموقف المثالي في تاريخ العظماء ينم فعلا على ما أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجحان العقل وكماله، الأمر الذي أصبح به مثلا عاليا في هذا الشأن.

الرابع:

ص: 207

أنه تنازل لقريش عن كتابة لفظ الرحمن الرحيم، وعن لفظ رسول الله في كتابة وثيقة المعاهدة التي أبرمها مع قريش عام صلح الحديبية، إذ أمر الكاتب أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال ممثل قريش الدبلوماسي سهيل بن عمرو:"أمسك. لا أعرف الرحمن الرحيم، بل أكتب باسمك اللهم"، فتنازل عن ذلك وكتب باسمك اللهم. ولما قال للكاتب:"أكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" قال ممثل قريش: "أمسك لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن أكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله"، فتنازل عن ذلك وكتب، في حين أن أصحابه وعلى رأسهم عمر وعلي رضي الله عنهم قد كرهوا ذلك وأبوا أن يفعلوه، ورأوا أنه إعطاء للدنية في دينهم، غير أن النتائج الطيبة التي عقبت ذلك التنازل دلت على قصر نظر القوم، وبعد نظر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكمال عقله ورجاحته، الأمر الذي كان به مضرب المثل في كمال العقل وحسن السياسة وكمال التدبير.

رحمته:

إن الرحمة التي كان يحملها قلب محمد صلى الله عليه وسلم كانت رحمة مثالية لم يحظ بها أحد من الناس، ولم تكن وصفا في كمالها لغيره صلى الله عليه وسلم وها نحن نعرض لبعض مظاهرها التي تجلت فيها فنقول: رفع إليه ولده إبراهيم وهو مريض يجود بنفسه فوضعه بين يديه وبكى صلى الله عليه وسلم وقال: "إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".

وزار مرة قبر أمه فوقف عليه وبكى طويلاً وانصرف وهو يقول: "استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي".

ص: 208

ولما فتح صلى الله عليه وسلم حصن بني أبي حقيق من خيبر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي بن اخطب وبامرأة أخرى، فمر بهما بلال على قتلى يهود، فلما رأتهم الجارية التي مع صفية صاحت وصكت وجهها، وحثت التراب على رأسها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الجارية ما رأى قال:"أنزعت منك الرحمة يا بلال تمر بالمرأتين على قتل رجالهما؟ ".

هذا ولم تكن رحمته صلى الله عليه وسلم قاصرة على بني الناس مؤمنهم وكافرهم فحسب بل دعت ذلك إلى الحيوانات، فقد قال وهو يقرر الرحمة ويحض عليها ويورثها في القلوب:"في كل ذات كبد رطبة أجر"، ويقول:"عذبت امرأة في هرة أوثقتها فلم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت" وقال: "بينما كان كلب يطيف بركيه كاد يقتله العطش إذ رأته امرأة بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت موقها فسقته فغفر الله لها به".

كرمه:

إن الكرم النفسي الذي يتحلى به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي عليه الوصف، وكيف يوصف كرم من لم يسأل شيئاً طول حياته وهو في حوزته فقال لا أبدا. خرج يوما وعليه حلة من أجمل الحلل وأبهاها فرآه أحد أصحابه، فقال:"يا رسول الله أعاينها"فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته فخلعها وأتاه بها فأعطاه إياها. ولم يسأله له؟ وكان قصد الرجل السائل أن تمس جلده بعد أن مست بشرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما يره في ذلك من البركة.

وجاءه مرة رجل يسأل مالا، فأعطاه غنما بين جبلين، فرجع الرجل إلى قومه وقال:"يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخاف الفقر أو قال من لا يخشى الفاقة".

ص: 209

وبايع مرة جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في جمل له، قد كل من السفر فباعه إياه بكذا مائة درهم، ولما جاء يتقاضاه الثمن أعطاه الثمن والجمل معا الله أكبر فماذا عسانا أن نذكر.. هذا من كرم محمد صلى الله عليه وسلم، إنه بحق أكرم من على الأرض بلا نزاع

عدله:

إن المثالية في عدل محمد صلى الله عليه وسلم والعدل خلق من أخلاق النفس الكاملة، تتجلى في مواقف عديدة كانت له صلى الله عليه وسلم وإنا لنكتفي منها بذكر موقفين فقط الأول: أنه لما سرقت المخزومية وجاء أسامة بن زيد حب رسول الله وابن حبه جاء مدفوعاً برجالات قريش ليشفع لها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ليسقط عنها حد السرقة وهو قطع يدها. قال له الرسول صلى الله عليه وسلم وهو غضبان: "أتشفع في حد من حدود الله يا أسامة، والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها".

وثانيهما: أنه صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه المجاهدين في وقعة بدر، وكان بيده قدح من القداح يعدل به الصفوف للقتال، فرأى سواد بن غزية حليف بني عدي بني النجار متقدماً على الصف فطعن في بطنه بالقدح الذي بيده وقال:"استو يا سواد"، فقال:"يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فاقدني من نفسك"، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال استقد.

إن في هذين الموقفين من مظاهر العدالة مالا يقادر قدره.

شجاعته:

إن شجاعة قلب النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن أقل من شجاعة عقله، إنه قد بلغ فيها بحق المثالية التي لا توصف، وناهيك في إثبات هذا الخلق العظيم أن يقول أفذاذ الأبطال كعلي بن أبي طالب والزبير بن العوام وخالد بن الوليد وغيرهم ممن عرفوا بالبطولات النادرة، والشجاعات الفذة أن يقولوا:"كنا إذا حمى الوطيس واشتد البأس نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم نتقي به".

ص: 210

وشاهد آخر، قد انهزم الجيش الإسلامي يوم حنين هزيمة منكرة وتفرق رجاله هاربين في كل واد، ويثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم كالجبل الأشم في الميدان يقاتل وحده وينادي أصحابه فثابوا إليه وقاتلوا معه حتى انتصروا وهزموا أعداءهم شر هزيمة.

وشاهد آخر على شجاعته صلى الله عليه وسلم هو شهادة أنس بن مالك بقوله كما روى ذلك مسلم: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا، وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس أبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول: "لم تراعو لم تراعوا".

وحسبنا دليلاً على شجاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَاّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} ، فلولا علم الله تعالى بما وهب رسوله من الشجاعة التي لا توجد عند غيره لما كلفه بأن يقاتل وحده

إن شخصا يكلف بالقتال وحده، وقتال من؟ إنه قتال كل أهل الكفر على الأرض، وما على الأرض يومها إلا كافرا باستثناء تلك الحفنة المؤمنة من أصحابه رضي الله عنهم لشخص هو من أشجع من طلعت عليه الشمس وغربت في دنيا الناس. ذلك هو محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

ص: 211

وأخيراً: إن هذا الكمال الخلقي الذي أصبح به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل إنسان وأفضله وأعظمه على الإطلاق، الأمر الذي أهله بحق لأن يكون مثالاً أكمل للدعاة الصالحين ونموذجاً نادراً بين كل دعاة الحق والخير في دنيا الدعوة والدعاة، إنما هو مستمد من مصدر كل كمال، ونابع من فيض رباني لا يعرف النضوب ولا يغيض، ولكنه سلسبيل متدفق لا يقف ولا ينتهي ذلكم هو القرآن الكريم الذي استمد منه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كماله النفسي والخلقي فكان مثالاً للكمال البشري في هذه الحياة، ولقد صدقت أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله عنها وقد سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:"كان خلقه القرآن".

وها هي ذي أوصافه صلى الله عليه وسلم في القرآن، تلك الأوصاف التي استحق بها أن يكون خير الدعاة بل سيدهم وأمامهم ولا فخر، فلنورد ما ذكرا ولنورد الخاطر عليها وردا.

وصفه ربه تعالى بكمال الخلق وعظمته فقال من سورة القلم: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ. مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ. وَإِنَّ لَكَ لأجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .

ووصفه بكامل الرأفة وعظيم الرحمة بما لم يصف به غيره من صالحي عباده فقال تعالى من سورة التوبة: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .

ووصفه بكمال العدالة، وحمل شرف الرسالة، وقوة الهداية فقال تعالى من سورة الأحزاب:{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} .

ص: 212

ووصفه بالمزكي للنفوس المهذب للأخلاق والمثقف للعقول المطهر للأرواح فقال من سورة الجمعة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} .

ووصفه بأنه برهان على نفسه في إثبات رسالته وتقرير نبوته وكمال هدايته لخلقه قال الله تعالى من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} .

ووصفه بكمال الشجاعة وقوة الاعتصام بالله والتوكل عليه فقال من سورة النساء والأعراف: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَاّ نَفْسَكَ} . وقال: {قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ. إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} .

ووصفه بكمال العبودية له وشرفه باختصاصه به دون سواه من سائر عباده الصالحين فقال تعالى من سورة الجن: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} وقال من سورة الإسراء: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} .

ووصفه بأنه الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر المحل للطيبات المحرم للخبائث وهي صفات عظيمة وكمالات عديدة مازه بها وفضله بمثلها تعظيما له وتكريما فقال تعالى من سورة الأعراف: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} .

ص: 213

هذه بعض صفات الكمال المحمدي في القرآن الكريم وغيرها كثير اكتفينا بهَا إشارة إلى أن الكمال المحمدي في النفس والخلق إنما هو مستقى من فيض القرآن الذي هو ينبوع الكمالات وبحر الفيوضات، وها نحن نذكر طرفا آخر مما أدب الله تعالى رسوله فكمله وللمعالي أهله ورفعه فجعله أسوة للمؤمنين وقدوة للصالحين، ولنعرف بذلك سر الكمال المحمدي الذي أصبح به أنموذج للدعاة الصالحين، وأفضل الخلق أجمعين.

قال تعالى له وهو يؤدبه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ. وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (الأعراف) .

وقال له: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم} .

وقال له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} .

وقال له: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى. وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى. وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا..} .

وقال له: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً. إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} .

ص: 214

وقال له: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً. فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً} .

وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً. وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً. وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} .

وقال له: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} .

وقال له: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ. إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} .

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

ذكر هذه الحادثة ابن كثير في تاريخه. وقال فيها هذا حديث غريب جدا وقد يكون عن علي نفسه. وقد يكون قوله في آخره حتى أكرمني الله بنبوته. والله أعلم. أهـ

[2]

صاحب سر الملك. الجاسوس في الخير والجاسوس في الشر.

[3]

كناية عن القرب. والقاب: ما بين وتر القوس وطرفه وهو مقلوب الأصل قابا قوس.

[4]

كان عدد المهاجرين 83 رجلا ما عدا أطفالهم الذين هاجروا معهم ومن ولد في الهجرة.

[5]

الرمضاء: الرمل الحار من شدة حرارة الشمس.

[6]

أزرنا: كناية عن النساء، إذ الازار يكنى به عن المرأة.

ص: 215

[7]

الهدم كناية عن الحرمة فمعنى الحديث: ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم أهل الهدم الدار تهدم وقد كانت تحوي الحرمات وتحوطها

[8]

خبر نسج العنكبوت وتعشش الحمامة ذكره البزار ومسنده.

[9]

أخرجه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد.

[10]

يشبع الجماعة.

[11]

أصبح آل أبي معبد يؤرخون به فيقولون بعد أن جاءنا الرجل المبارك أو بعد رأينا الرجل المبارك.

[12]

وردت رحلا من الرحيل.

[13]

لأن أم عبد المطلب والد عبد الله أبي الرسول صلى الله عليه وسلم أمه سلمى بنت عمرو من بني عدي بن النجار.

[14]

الجران ما يصيب الأرض من صدر البعير وبطنه.

[15]

الشذرة والجمع شذرات بالتحريك وشذور قطع الذهب تلتقط من معدنه.

[16]

عبارة ابن هشام: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب لي به حمر النعم. ولو أدعى به في الإسلام لأجبت.

ص: 216

مرتكزات التربية الإسلامية

(الحلقة الثانية)

لفضيلة الدكتور عباس محجوب (كلية الدعوة)

ثالثاً: مرتكز العلم

يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [1] .

فالقرآن هو كتاب الهداية والتربية وهي هداية وتربية لا تختص بجيل دون جيل أو قوم

دون قوم ولا بزمان ومكان معينين ولكنها هداية أجيال من البشر، وأقوام من الناس باختلاف الأزمنة والأمكنة - على منهج الخير ومنهج الله لذا كان استعمال الفعل المضارع (يهدي) الدال على الحال والمستمر في المستقبل، وهداية الله وتربيته لا تتأثران بالرأي ولا تنقادان مع الهوى ولا تميلان مع المودة والشنآن ولا تخضعان للمصالح والأغراض لأنها هداية وتربية خالق الكون وفاطر السموات. وتشمل هذه التربية عدة مجالات هي:

أولاً: مجال العقيدة: فهي تهدي إلى عقيدة واضحة بسيطة لا غموض فيها ولا التواء، تحرر الروح من الأوهام والأساطير والخرافات وتحرر طاقات البشر للعمل والبناء وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.

ثانيا: مجال الإنسان: تهدي الإنسان إلى التناسق بين مظهره ومخبره وسلوكه ودوافعه وبين النظرية في الإيمان والتطبيق في الواقع الأمر الذي يجعل الإنسان يسمو بنفسه إلى عالم أفضل وأحسن ويترجم أعماله كلها إلى عبادات حتى ولو كانت من متع الحياة مادام المقصود بها وجه الله تعالى.

ص: 217

ثالثا: مجال العبادة: هي هداية وتربية إلى عبادات سهلة بسيطة تتوازن فيها طاقات الإنسان والتكاليف التي أمره الله بها. بحيث لا تتعارض التكاليف مع طاقة الإنسان وقدراته وبحيث يكون التوازن بينهما محفوظا بنسبة ثابتة {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ، ثم {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} .

والموازنة الدقيقة بين التكاليف والواجبات هي التي تجعل هذه التكاليف سهلة معقولة لا مشقة فيها فتملها النفس وتيأس منها الروح ولا سهولة فيها بالدرجة التي تجعل المرء يستهونها ويستهزئ بها فهي وسط لا تتجاوز حدود الطاقة والاحتمال، والقصد والاعتدال.

رابعا: في مجال الجماعة والدولة:

للإسلام هدايته وتربيته للدولة من القاعدة ممثلة في الأمة الإسلامية إلى القمة ممثلا في الحاكم أو الراعي وتوجيهه في نظامه الأساسي الذي يشمل:

1-

نظام الحكم.

2-

نظام الاقتصاد والمال.

3-

النظام الاجتماعي.

4-

نظام التعامل الدولي.

أما تربيته للجماعة فتشمل علاقة الناس بعضهم ببعض والضوابط الاجتماعية التي تحكم الأفراد والأسر والدول والأجناس والآباء والأبناء وغير ذلك من مجال العلاقات [2] .

وقد ذكرنا أن العقيدة الإسلامية لا تتعارض مع القوانين العلمية والنواميس، الكونية ولابد لهذا أن تكون الناحية العلمية أساسا من الأسس، التي تقوم عليها التربية الإسلامية.

ص: 218

إن القوانين العلمية التي بنيت عليها التربية الإسلامية ليست هي قوانين علم من العلوم النفسية أو الاجتماعية أو الطبيعية أو غيرها فحسب وإنما هي مبنية على مجموع العلوم والحقائق وأهمها نظرة الإسلام لقوانين الكون والحياة ولكننا سندرسها من خلال تحديد الدكتور الكسيس كاريل الذي يرى أن القوانين الأساسية التي تقوم عليها الحياة الإنسانية تنحصر في ثلاثة قوانين هي قانون المحافظة على الحياة، وقانون تكاثر النوع، وقانون الارتقاء العقلي والروحي [3] .

أما بالنسبة لقانون المحافظة على الحياة فإن الإسلام يدعو إلى المحافظة على حياة إذ البشر ويذم كل أمر يؤدي إلى إبادة هذه الحياة أو قتلها ومن هنا كان تحريم الإسلام للقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر والكذب والزور والربا وما إلى ذلك لأنها إذا نظرنا إليها جميعها وجدناها وسائل هدم للحياة وقتل لها كما أن الإسلام يدعو إلى ما يثري هذه الحياة ويقويها ويحقق للإنسان الأمن والاستقرار والهدوء فينصرف إلى أداء رسالته في الحياة وعلى قمة هذه الإيمان بالله وعدم الشرك به في أي مظهر من مظاهره وطاعة لوالدين والإحسان إلى الناس وترجمة ذلك كله في المعاملة والسلوك والاقتصاد والتوسط في أمور الحياة والعدل والوفاء بالعهد وحفظ المواثيق وما إلى ذلك من كل أمر دعا الإسلام إليه للمحافظة على الحياة وإنمائها وازدهارها.

ص: 219

إن الإيمان بالله وحده وعدم الإشراك به يمثل أول عنصر في عناصر المحافظة على الحياة إذ أن الإيمان هو الذي يعطي الإنسان الأمن والاستقرار والسكون الأمر الذي يدفعه إلى العمل والإنتاج وإثراء الحياة وتعمير الأرض والتعايش بسلام مع الآخرين جماعات أو دولا، ونقيضه الإشراك بالله واتخاذ الآلهة دونه باعتبار الإشراك بالله العنصر الأول في إبادة الحياة وقتلها إذ أن العقل لا يقبل ولا يستقر على الاستسلام بأن لهذا الكون بنظامه الدقيق من تعاقب الليل والنهار والمد والجزر في البحار والتوافق بين العناصر التي يتألف منها جسم الإنسان والعناصر التي تكون التربة الزراعية وغيرها لا يقبل العقل إلا أن يكون الموجد واحدا والمنظم واحدا والقوانين التي أودعها الكون واحدة كما أنه لا يقبل الشريك إذ أن الشراكة في الخلق تعني التنافس والتطاحن والتباين والاختلاف والعجز والفساد ثم يترتب على ذلك اضطراب الحياة وفقدان الطمأنينة والاستقرار والأمن والنظام، وإذا فقد الإنسان ما يؤمن به حقا ويحتاج إليه دوما ويستنجد به متى أراد ويدعو متى احتاج وهو متيقن من النجدة والإجابة- فقد الطمأنينة والأمن وفقد الدافع للحياة فضلا عن المحافظة عليها وفقدان الدافع والداعي يؤديان إلى قتل الحياة وتدميرها {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (الانبياء) 22

ص: 220

يقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} .

فالوجود كله وما فيه من حركة وسكون لم يترك للصدفة فالليل والنهار آيتان من آيات الله المتجددة الدقيقة والليل جعله الله للهدوء والراحة والنوم والنهار للجد والكدح والسعي ومن تعاقب الليل والنهار علم الناس حساب الساعات والأيام والشهور والفصول، وبهذا الناموس الإلهي ارتبط العمل وما يترتب عليه من ثواب وعقاب ومسئولية فردية جعلت الإنسان يختار بين الهدى والضلال والطاعة والمعصية ولا يتحمل أحد وزر أخيه لأنها مسؤولية فردية كما ذكرنا.

أما المبادئ التربوية التي تبين طرق الهداية وتربط قواعد السلوك والتكاليف الفردية بالعقيدة فإنها تتمثل في الأحكام والنظم والقيم التي دعا الإسلام المسلم إلى التمسك بها حتى تتحقق له الهداية واقعا ويرقى بآدميته في الخلق والسلوك وهذا ما تضمنته الآية {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} فما هي النظم التي دعا إليها مما يهدي للتي هي أقوم؟.

ص: 221

يقول الله تعالى: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا

ص: 222

بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [4] .

ويقول تعالى أيضا: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [5] .

الآيات السابقة من سورتي الأنعام والإسراء تبين تكاليف الهداية والأوامر والنواهي التي يربي بها الله عباده ونلاحظ أن هذه الآيات قد اتفقت في عدد من التكاليف الفردية والاجتماعية التي تؤدي إلى حفظ الحياة وسلامتها وقوتها سواء في النواحي الإيجابية أو النواحي السلبية وهى:

ص: 223

عدم الإشراك بالله باتخاذ الآلهة معه لأن هذا يمثل محور العقيدة التي يقوم عليها منهج الله في التربية فالقرآن في كثير من سوره وقصصه يركز على الحقيقة الكبرى وهي عبادة الله وحده والنهي عن عبادة غيره فقضية الألوهية والعبودية هي قضية الإنسان الأولى والأخيرة في هذا الوجود لذا كانت وصية الله الخالدة لعباده والتي حملتها رسله إليهم هي {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} . الأعراف آية 59- 65- 73- و85.

ولأن العقيدة مسألة خاصة بالإنسان يحاسب على أساسها فإن الله يوجه الخطاب للفرد مع عمومية الأمر فقال: {لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَر} . {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} والنهي عن الشرك يقتضي توحيد المعبود الواحد الأحد لذلك قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ} وهذه الصيغ نجدها كثيرة في القرآن الكريم إذ نجد الأمر بعبادة الله ثم النهي عن عبادة غيره أو الشرك به وكلا المعنيين واحد إلا أن أحدهما منطوق والآخر مفهوم {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} ألا تعبدوا إلا الله و {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} الخ.

ثم الإحسان إلى الوالدين: ونجد في الآيتين استعمالا لكلمة (الإحسان) للربط بين حسن المعاملة للوالدين وتقوى الله ومراقبته إذ الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وسنفصل هذا المعنى في الحديث عن تربية القرآن في مجال العلاقة بين الأبناء والآباء.

ص: 224

أما عن قتل الأولاد الذي حكاه القرآن عن الجاهليين والذي لا زال مستمرا فإن القرآن يحدثنا أن العقيدة الصحيحة تؤدي إلى توافق الإنسان مع فطرته وصحة مشاعره وسلامته كفرد وكعضو في المجتمع، وكما أن العقائد الصحيحة تنعكس آثارها على المجتمع فكذلك العقائد المنحرفة تنعكس على المجتمع لأن المجتمع في حركته لا يصدر إلا عن عقائد فالعقيدة هي الحياة، والقرآن يحدثنا عن انعكاس المعتقدات على المجتمع بما كان يفعله الجاهليون من قتل الأولاد خشية الفقر والإملاق ولو كانوا يعتقدون اعتقادا صحيحا بأن الأرزاق بيد الله لما وجدوا علاقة بين كثرة الأولاد والفقر فالدافع إلى ذلك التفكير هو فساد هذه العقيدة التي لا تترك الأمر بيد الله خالق الكون ورازق الأحياء ونجد اختلافا في التعبير بين الآيات باختلاف مقتضى الحال فلما كان قتل الأولاد بسبب فقر الآباء قدم رزق الآباء على الأبناء في سورة الأنعام {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} ولما كان القتل لاعتقاد أن سبب الفقر هم الأبناء قدم رزقهم على رزق آبائهم في الإسراء.. {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} إننا نجد الصورة تتكرر في الجاهلية التي نعيشها فقد نشأ عن انحراف عقائد المسلمين وإبعادهم لتولي الله الأرزاق من تفكيرهم أن ربطوا بين ظروفهم المادية وكثرة النسل فظهر في واقعهم العملي والنظري حركة تحديد النسل بادعاء صعوبة الحياة وارتفاع تكاليف المعيشة وتحسين التربية بالإقلال من عدد الأولاد وهى فكرة يهودية قصد منها إضعاف الجنس البشري بعامة والإسلامي بخاصة ليسهل لهم السيطرة على البشر وهى فكرة تتمشى مع اعتقادهم في أنهم الجنس الأسمى والشعب المختار الذي يجب أن يحكم ويسود العالم.

ص: 225

ومع ذلك فإننا نلحظ في الدول التي أخذت بنظام تحديد النسل كثيرا من المشكلات الاقتصادية والتفكك الأسري والحيرة في أوساط الشباب بل إن دولا إسلامية أخذت بهذا النظام وجندت له الأموال والإمكانيات المختلفة وجعلت لها مصالح قائمة بهذا الأمر إلا أنها فشلت في ذلك لتعارض الفكرة مع الفطرة السليمة بله المسلمة وارتفعت فيها نسبة المواليد بنسب عالية وكبيرة، وتطالب التربية القرآنية للفرد من الإنسان البعد عن الفواحش خاصة الزنا ففي سورة الأنعام {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} وفي سورة الإسراء تحديد الزنا باعتباره فاحشة وفي السورتين ربط بين ثلاثة أنواع من القتل، قتل الأولاد خشية الفقر وقتل ناشئ عن الزنا ثم قتل النفس التي حرمها الله.

وعن القتل الناشئ عن الزنا يقول المرحوم سيد قطب: "إن في الزنا قتلا من نواحي شتى، إنه قتل ابتداء لأنه إراقة لمادة الحياة في موضعها، يتبعه غالبا الرغبة في التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يتخلق أو بعد أن يتخلق قبل مولده أو بعد مولده. فإذا ترك الجنين للحياة ترك في الغالب لحياة شريرة أو حياة مهينة فهي حياة مضيعة في المجتمع على نحو من الإنحاء وهو قتل في صورة أخرى للجماعة التي يفشو فيها فتضيع الأنساب وتختلط الدماء وتذهب الثقة في العرض والولد وتتخلل الجماعة وتتفكك روابطها فتنتهي إلى ما يشبه الموت بين الجماعات.

ص: 226

وهو قتل للجماعة من جانب آخر إذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريقه يجعل الحياة الزوجية نافلة، ضرورة لها، ويجعل الأسرة تبعة لا داعي لها والأسرة هي المحضن الصالح للفراخ الناشئة لا تصح فطرتها ولا تسلم تربيتها إلا فيه [6] . وقد حرم الإسلام قتل النفس التي حرمها الله إلا بالحق وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحق الذي يقتل به النفس المسلمة في حديثه صلى الله عليه وسلم:"لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس والزاني المحصن والتارك لدينه المفارق للجماعة". رواه البخاري ومسلم.

ص: 227

فالذي يقتل مسلما يقتل به حفاظا لدماء المسلمين على أن لا تعم الفوضى وتراق الدماء وتكثر الثأرات ببن الناس فلا بد من القصاص حتى لا تمتد يد على نفس بريئة إذا علمت بأن القصاص لا يلحقها وفي القصاص حياة لنفوس أخرى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَاب} وقد رأينا مدى انتشار الجرائم في الدول التي ألغت عقوبة الإعدام والتي يطالب فيها الناس بإعادة هذه العقوبة حتى تحد عدد الجرائم المتزايدة لاطمئنان المجرم على أن حياته لن تزهق. أما الزاني المحصن ففي قتله وقاية للمجتمع من انتشار جرثومة الفساد واختلاط الأنساب وما يترتب على جريمة الزنا من جرائم القتل والإجهاض ومحاولات إخفاء الحمل غير المشروع وأبناء السفاح ونظرة المجتمع لهم وموقفهم من المجتمع وما إلى ذلك، أما الخارج عن جماعة المسلمين ففي قتله حماية للنظام من الفوضى الدينية والجماعة من التفكك والضعف فالدين لا إكراه في اعتناقه أما من اعتنقه وآمن به فليس مخيرا في الخروج منه فقد كانت له الحرية الكاملة قبل أن يسلم ويؤمن، أما بعد ذلك فالأمر مختلف وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.."رواه الترمذي والنسائي. وقد أخذت الجماعات العلنية والسرية حتى العصابات والمنظمات الإرهابية بهذا المبدأ من الإسلام، فالجماعات تقتل كل من خرج عليها حتى لا يفضح أسرارها ويكشف خططها ويطلع الأعداء على أسرار جماعته فإذا كانت مبادئ البشر تحمى بهذا المبدأ في عالمنا فكيف بمبادئ خالق البشر؟ ونظامه ودينه؟.

ص: 228

إن جماعة المسلمين مطالبون بتوفير الأسباب التي تحفظ حياة البشر الأسوياء الذين يعيشون في ظروف عادية وغير الأسوياء الذين يعيشون في ظروف غير عادية كاليتامى، وبالرغم من أنهم ينطبق عليهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"كل المسلم على المسلم حرام عرضه وماله ودمه" رواه الترمذي. إلا أن الجماعة المسلمة مطالبة برعاية مال اليتيم وحفظه وتنميته بما يعود بالفائدة إليه فاليتيم ضعيف محتاج إلى غيره حتى يبلغ أشده والوفاء بحقوقه من الوفاء بالعهد وعندما تسهر الجماعة المسلمة على شئون الأيتام والأرامل والمساكين والفقراء فإنها تحفظ حياتهم وتجعلهم أناسا صالحين في المجتمع.

أما عن تربية القرآن في مجال المعاملات والبيع والشراء فواضح أن الجماعة المسلمة تتحرك وتتعامل فيما بينها، والمجتمع المستقر المزدهر هو الذي يقوم فيه التعامل على أسس من العدل والأمانة والاستقامة والنظافة في القلب والضمير ولذلك ذم الله سبحانه المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون إذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون وذلك استعجالا للكسب الفاني والقليل الذي يذهب الثقة ويهدر الكرامة.

والأوامر التي تدعو إلى سلامة الحياة ونقائها كثيرة كالوفاء بالعهد وقول الحق ولو على ذوي القربى وإتباع هدى الله والاقتصاد في الإنفاق والنهي عن التبذير وإلقاء النفس في التهلكة وغير ذلك من الأوامر والنواهي التي يحفل بها كتاب الله وسنة نبيه وكلها تؤدي إلى توفير حياة هانئة سعيدة خالية من القلق والإضراب والفوضى.

أما عن قانون تكاثر النوع:

ص: 229

فإن هذا القانون مرتبط بسابقه فالحياة التي يطالب الإنسان بحفظها وصيانتها هي الحياة التي ينشئها المجتمع النظيف الطاهر بين الرجل والمرأة وهما عماد الأسرة التي تكون الحياة المشتركة بين الجنسين الذكر والأنثى، والله سبحانه شرع الزواج الذي يحقق السكينة والمودةْ والرحمة وتكاثر النوع من آياته:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [7] . لذلك شرع الإسلام الزواج وحض عليه ليبتغي الناس ما كتب الله لهم من الذرية وإنشاء الأجيال ولذلك حض الرسول عليه الصلاة والسلام الشباب على الزواج "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"[8] .

فالزواج هو العلاقة الشرعية الوحيدة التي عن طريقها يحفظ النسل ويستمر، فالشخص القادر على الزواج والمستطيع تحمل أعبائه الاقتصادية والاجتماعية والتربوية عليه أن يؤدي واجبه ودوره في استمرار الحياة وتكاثر النوع ولهذا جعل الإسلام للأسرة نظاما كاملا فالمرأة مساوية للرجل في الحقوق والواجبات والرجل هو رب الأسرة ورئيسها ومديرها لذلك كانت له القوامة وعليه التكاليف المترتبة على هذا الامتياز، والعلاقة في الأسرة قائمه على السكينة والمودة والرحمة والعطاء والبذل والطاعة والتفاهم، كما أرسى الإسلام الضوابط والنظم التي تحفظ هذه العلاقة في الظروف العادية كما وضع الحلول للمشكلات التي قد تنجم بين الرجل والمرأة وتدرج في خطوات العلاج حتى لا تنهار هذه العلاقة بمجرد الخلافات الناتجة من حركة الحياة بين الزوجين.

ص: 230

ولأن الزواج هو الوسيلة الشرعية لتكاثر النوع زيادة على أنه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل بمعنى الانقطاع عن النساء عبادة لله فعن انس رضي الله عنه انه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالباءة وينهى عن التبتل نهيا شديدا ويقول: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة".

وقد سبق أن ذكرنا أن الإسلام يحرم كل أمر يعوق الحياة ويعطلها ويهدمها ويحبذ كل أمر يدعو إلى إثرائها ونمائها وزيادتها ومن هنا كان تحريمه للتناسل الذي لا يقوم على أساس شرعي لأنه ضد المحافظة على الحياة وتشجيعه التناسل الشرعي وتحريمه كل أمر يعوق حفظ النوع واستمراره وتكاثره لذلك حرم الإجهاض إلا للضرورة ومنع الإخصاء لما رواه الصحابة من قولهم: "كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا شيء فقلنا: ألا نستخص فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب". ثم قرأ علينا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} رواه البخاري.

ص: 231

إن حركة تحديد النسل التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر في أوربا حركة مناقضة لقوانين الحياة في زيادة النسل الإنساني وتكاثره وقد استحدث المجتمع المعاصر وسائل كثيرة للحيلولة دون زيادة النسل كان من أخطر نتائجها حسب الإحصاءات انتشار الفواحش والأمراض الخبيثة المزمنة، وقد كان من نتائج انتشار الزنا وسهولة ارتكابه أنه يولد في كل عام 80 ألف طفل غير شرعي أما في أمريكا فنسبة أولاد الحلال هي 1: 5 أما عن الأمراض الخبيثة المترتبة على الزنا مثل السيلان والزهري فإنها كثيرة وأخطارها مدمرة للعالم. (ففي مدن أمريكا كلها تقريبا نجد أن الزهري والسيلان في انتشار وتقدم بسرعة لا توصف وأن أكثر من يفشو فيهم هذان المرضان هم الأحداث من الفتيان والفتيات الذين سنهم أقل من عشرين سنة بل الحقيقة أن نصف المصابين بهذين المرضين هم هؤلاء الأحداث [9] وهناك إحصاءات مذهلة عن انتشار الأمراض الخبيثة في العالم يمكن الرجوع إليها في كتاب (حركة تحديد النسل) للشيخ أبو الأعلى المودودي) .

وترتب على حركة تحديد النسل أيضا ضعف العلاقات الزوجية وانتشار نسب الطلاق والهجر بين االأزواج وحرمان الأطفال من رعاية أسرهم وآبائهم وتشرد الشباب الناشئ في هذه البيئات، وذلك لما للأبناء من أهمية في استمرار العلاقات وازدياد الروابط الأسرية ولما لانعدامهم من فتور في العلاقات وكآبة ووحشة يشعر بها الزوجان، كما ترتب على هذه الحركة انخفاض نسبة المواليد مع استعمال الموانع وارتفاع نسبة الإجهاض وقد كان رد الفعل في أمم الغرب واضحا وأصبحت نسبة المواليد المنخفضة مدعاة للقلق مما حدا بكثير من الدول إلى البحث عن طريق لجان متخصصة لدراسة تلك الظاهرة ووضع الحلول المناسب لها فأوصت اللجنة التي شكلت في إنجلترا بما يأتي:

1-

أن تمنح كل أسرة مكافأة مالية على قدر ما يكون لديها من الأطفال.

2-

تخفيف وطأة الضرائب على من لديهم عدد من الأطفال.

ص: 232

3-

زيادة عدد حجرات النوم في البيوت.

4-

معالجة مشاكل قلة السكان بواسطة جمعيات.

5-

العمل على رفاه الأسرة الكبيرة ورخائها الاقتصادي عن طريق مشاريع المحافظة على الصحة والأعمال الخيرية.

وقد أيدت مقترحات اللجان بما يحفظ الحياة الاجتماعية والعائلية وأعطيت للمقترحات صفتها القانونية ورصدت مكافآت مالية للأطفال وأمهاتهم وإجازات للعاملات وتوفير فرص التعليم والعلاج والسكن للمتزوجين من أصحاب الأطفال حتى يزيلوا كل عائق مادي أو تربوي يمنع إنجاب الأطفال أو يحتج به المؤيدون [10] .

أما فرنسا فقد "أصدرت فيها الحكومة قانونا يحرم تعليم منع الحمل ونشر المعلومات عن طرق ووسائله خطابة أو كتابة أو إشارة بالسر أو العلانية حتى أن الأطباء أنفسهم ملزمون بموجب هذا القانون أن لا يقوموا سرا أو علانية بشيء قد ينتج عنه منع الحمل، ولحمل السكان على كثرة التناسل قد وضعت فيها أكثر من عشرة قوانين بموجبها تمنح الأسرة ذات العدد الكبير من الأطفال مكافآت مالية وتعفيها من بعض الضرائب، وتوفر لها تسهيلات متعددة في الرواتب والأجر والمعايش وفي أجور السفر في القطار بل هي تمنحها الجوائز والوسائل وعلى العكس من ذلك تفرض فيها الضرائب الإضافية على الذين لا يتزوجون أو يتزوجون ولكن لا ينجبون ذرية"[11] وكذلك فعلت إيطاليا في عهد (موسليني) الذي وضع عقوبات مالية وبالسجن لمن يفعل أمرا يؤدي إلى منع الحمل وكذلك فعلت السويد التي انخفضت فيها المواليد بصورة خطيرة.

ص: 233

أما عن موقف الإسلام فيقول المودودي: "إن قوانين الإسلام للحياة الاجتماعية والاقتصادية، مع تعاليمه الخلقية وتربيته الروحانية قد محت كل سبب أو داعية من تلك الأسباب والدواعي التي لأجلها نشأت ثم تقدمت وانتشرت حركة تحديد النسل في المدنية الغربية، فالإنسان إذا كان مؤمنا بالإسلام مصدقا لتعاليمه وقوانينه من الوجهة الفكرية والعملية فإنه من المحال أن تنشأ في نفسه رغبة في تحديد النسل أو تعرض له في حياته ظروف ترغمه على الانحراف عن طريق الفطرة المستقيم"[12] .

ص: 234

ويرى المودودي أن امتناع الرجل والمرأة عن الوفاء بالتزاماتهما في الإنجاب وزيادة النسل هو المقصود من قوله تعالى: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّه} والقرآن يقول: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُم} ويقول أيضا: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} فغرض القرآن من إقامة العلاقة الزوجية واللذة التي يجدانها في الاتصال إنما هي للإبقاء على النوع البشري وتكاثره وزيادته وهى المناسبة مع فطرة الإنسان فإذا لم يتحقق هذا الغرض من الزواج وكانت المتعة هي المقصودة فإنهما يرتكبان جريمة قتل النفس وتغيير خلق الله وفطرته وفي ذلك يقول الدكتور ازوالد شوارز "من الحقيقة التي لا غبار عليها أن هذه الغريزة إنما هي لإنجاب الذرية وتخليد النسل إذ من القوانين الثابتة في علم الأحياء أن كل عضو في جسد الإنسان يجب أن يؤدي وظيفته الخاصة المستقلة حتى يحقق بذلك المهمة التي قد أسندتها إليه الفطرة، وعلى هذا إذا منع هذا العضو من أداء وظيفته الخاصة فلابد أن تتعرض حياة الإنسان لمشاكل مرهقة متعددة - ومما يتعلق بهذا البحث أن جسد المرأة لم يخلق في معظمه إلا لوظيفة الحمل والتوليد فهي إذا منعت أن تعمل لتحقيق هذه الوظيفة الأساسية لنظامها الجسدي والعقلي، فلابد أن تذهب ضحية الاضمحلال والتذمر والعقد النفسية المتعددة وعلى خلاف هذا فإنها عندما تصبح أما، تجد جمالا جديدا وبهاء روحيا يتغلب على ما قد يعتريها من الضعف والاضمحلال بسبب وضع الطفل وإرضاعه".

ص: 235

إن خطورة هذه الحركة هي في دخولها وانتشارها بين المسلمين وترويج أجهزة الإعلام والحكومات لها وقد استغل دعاة التحديد ما يعانيه المسلمون من فقر وسوء ترشيد لتوزيع ثرواتهم التي من الله عليهم بها استغلوا فقرهم وروجوا لهذه الحركة وربطوها بصعوبة التربية والتعليم لعدد من الأولاد وقلة الدخول ومحدوديتها وارتفاع تكاليف المعيشة وقلة الموارد وصعوبة الرقي والتحضر مع كثرة الأولاد، وقد وجدت هذه الأسباب مع ضعف العقائد والإيمان بالله الخالق الرازق المدبر المعطي المانع - وجدت قبولاً ورواجاً وانتشاراً تحت ظل الأنظمة البعيدة عن منهج الله وشريعته ونظامه الاجتماعي والاقتصادي كما أنهم وجدوا من يذكرون بعض الأحاديث الخاصة بالعزل والتي لو درست ووضعت أمام الأحاديث التي تنفر من العزل لما وجدوا إباحة لذلك إلا في ظروف خاصة وحاجات ضرورية لا ترقى إلى مستوى الدعوة الجماعية.

ص: 236

إن تكاثر النوع وزيادته من الوسائل الحقيقية لزيادة الإنتاج وارتفاع مستوى دخل الفرد والاكتفاء الذاتي في القوى البشرية المؤثرة في زيادة الدخل، والأمة الإسلامية أمة حضارة وبناء ودعوة وجهاد وهذه الصفات تستلزم الدعوة إلى تكاثر النسل وتدريب الكوادر المؤهلة الجيدة لميادين الاقتصاد والدعوة والجهاد والبناء وفي ذلك يرى المؤرخ ويل درانت أن كثرة السكان من أهم أسباب التقدم المدني كما يرى المؤرخ المعروف الإنجليزي - أرنولد توينبى- أن على زيادة السكان يتوقف تقدم أي حضارة إنسانية ويقول أورجابنسكي:"أن التضخم العظيم، مطلق العنان، لعدد من السكان كان له الأثر القوي والقول الفيصل في الارتفاع بأوروبا وجعلها قوة من الدرجة الأولى في العالم، إنه لم يكن من نتائج انفجار عدد السكان في أوروبا بعد أن تهيأت الأيدي العاملة لتيسير حياتها الاقتصادية الصناعية من جانب ومن جانب آخر ظل يتهيأ لها المهاجرون والجنود والعمال للانتشار في العالم وتسيير مختلف دولها المنتشرة في أصقاعه البعيدة المترامية الأطراف حيث كان قد دخل في حوزته السياسية نصف مساحة الكرة الأرضية وثلث عدد سكانها"[13] .

ص: 237

إن الأمة المسلمة عليها أن تكرر هذا الدور وهذا الانتشار في العالم لأن واجبها أن تقدم للعالم منهج الله ونظامه لأن في ذلك سعادته الدنيوية والأخروية، وما قوة الصين الشعبية ونظرة العالم لها إلا من خلال العدد الهائل لسكانها وتوجس العالم منهم، وإن أعداء الإسلام لا يهابون إلا تزايد عدد المسلمين الذي سيؤدي إلى قوتهم وعن ذلك تقول مجلة التايم الأمريكية في عددها بتاريخ 11/ 1/1961م:"الحقيقة أن سيادة أوروبا السياسية تتوجس خطرا سياسيا شديدا من تزايد السكان في آسيا والعالم الإسلامي في النصف الثاني من القرن الجاري". [14] إن قوى الشرك والصليبية والاستعمار والشيوعية والصهيونية العالمية كلها أعداء يتربصون بالعالم الإسلامي ويحيكون الدسائس والمؤامرات التي تعطله عن بناء قوته الاقتصادية والسياسية والعسكرية ومن أهم المعوقات التي يركزون عليها الدعوة إلى تحديد النسل في الوقت الذي تحرم الصليبية واليهودية على اتباعها تحديد نسلهم بل تطالب فيها إسرائيل من دول العالم مدها بالرجال لتزيد من قوتها العسكرية والسكانية والعالم لا يعترف اليوم إلا بمنطق الأقوى والأشد ولا شدة ولا قوة بعد الله إلا بزيادة الكفاءة السياسية والقتالية للعالم الإسلامي ولا سبيل إلى ذلك كله إلا بتكاثر النوع وزيادة السكان.

ص: 238

أما بالنسبة لقانون الارتقاء الروحي والعقلي فإن الإسلام يدعو الإنسان إلى المحافظة على عقله الذي كرمه الله به وميزه عن الحيوانات الأخرى لذلك حرم عليه كل شيء يؤدي إلى فقدانه لهذه الخاصية المميزة له فحرم عليه المسكرات والمخدرات باعتبارها عوامل هدم للمجتمع وقتل لمواهب الإنسان وصرف للطاقات البشرية في غير الوجهة التي يجب أن توجه إليها وهي تتنافى مع مطالبة الإنسان بالسمو الروحي الذي هو من مميزات الإنسان وهي التي تمنحه السكينة والطمأنينة {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} وهي التي ترفعه عن الخلود إلى الأرض واتباع الشهوات والانغماس في الحياة المادية {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [15] .

إن فقدان التربية الروحية للإنسان يؤدي به إلى الانحلال والفوضى وسيطرة الشهوات وانتشار الأدواء الاجتماعية مثل الحسد والبغضاء والكذب والنفاق الخ. إذ أن الجانب الروحي في حياة الإنسان يمثل إحدى حاجاته الطبيعية التي تبعده عن كثير من الأمراض المادة وتحقق له السعادة في الدنيا والآخرة وتسمو نفسه إلى درجات الكمال والنماء والرقي والعبادات التي فرضها الإسلام من صلاة وصوم وزكاة وحج وخضوع كامل لله هي الطريق إلى السمو الروحي والكمال العقلي ووسيلة إلى السعادة في الدنيا والنعيم المقيم في الآخرة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [16] .

ص: 239

إن الإسلام قد كلف الإنسان بتكاليف وواجبات تتناسب مع طاقته وتميزه عن الحيوان وغير الحيوان ممن عجزت طاقاتهم عن القيام بواجب تلك التكاليف وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [17] .

والإنسان بتحمله عبء التكاليف والقيام بها قد ميز نفسه عن الحيوان فهذه التكاليف والواجبات ما هي إلا تمييز لإنسانية الإنسان وإعزاز لمكانته وتأكيد لتكريم الله له عن سائر المخلوقات والذي ميز الإنسان وجعله له هذه الخاصية هو تميزه من الناحية العقلية والروحية والأخلاقية فإذا تخلى الإنسان عن حمل هذه التكاليف غلب صفات الحيوان في شخصه وأصبح كما وصفه القرآن من الأنعام أو الدواب {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [18] . بل إنهم قد يكونون في منزلة أقل من الأنعام {إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [19] وأهم مظاهر هذا الرقي هو التحلي بحسن الخلق ولين الجانب وتزكية النفس وإصلاحها وتطهيرها باعتبارها أهم الحاجات التي اقتضت إرسال الله الرسل للناس إذ يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [20] ويقول: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [21] .

ص: 240

فالله سبحانه وتعالى يذكر عباده ما أنعم به عليهم من إرسال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ليتلو عليهم آيات الله المختلفة وبمدلولاتها ومظاهرها المتباينة "ليطهرهم من رذائل الأخلاق ودنس النفوس وأفعال الجاهلية ويخرجهم من الظلمات إلى النور ويعلمهم الكتاب وهو القرآن والحكمة وهي السنة ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون فكانوا في الجاهلية الجهلاء يسفهون بالعقول الغراء فانتقلوا ببركة رسالته ويمن سفارته إلى حال الأولياء وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علما وأبرهم قلوبا وأقلهم تكلفا وأصدقهم لهجة". وقال تعالى:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم} ولمن يعرف قدر هذه النعمة ويقدرها يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} قال ابن عباس: "يعني بنعمة الله محمدا صلى الله عليه وسلم [22] ولأن الله سبحانه ذكر هذه النعمة نعمة إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم طلب الله مقابلة تلك النعمة بما يجب له من شكر وذكر فقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [23] . وحين نتدبر اللفظ يزكيهم نجد أن المقصود بالتزكية انتزاع ما هو غير مرغوب فيه، وتعزيز ما هو مرغوب به فهي إذن تعديل للسلوك بلغة التربية الحديثة.

والقرآن يقدم التزكية على التعليم كما هو واضح من ترتيب السياق ويجعلها مقدمة له تسهل التعليم وتعززه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} وجاء أيضا: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} .

ص: 241

وفي ميدان التزكية هذه تشدد التطبيقات النبوية على الابتعاد بالفرد عن البيئات التي تتنكر للقيم الإسلامية وعن مؤسساتها الثقافية والتوجيهية والوظيفية ابتعادا يستهدف توفير نوع من الحمية الفكرية والروحية والسلوكية، ويمكن التربية الإسلامية من الانفراد بإعادة تشكيل سلوكه [24] .

وفي سبيل هذه التزكية اتخذت التطبيقات التربوية الإسلامية ثلاث خطوات أولها تعديل السلوك بإبعاد المسلم عن المنابع الدينية الأخرى وتوحيد المنبع الذي يستقي منه المسلم وهو القرآن ومخالفة المظاهر الحياتية لغير المسلمين، وثانيها إبعاد المؤثرات الثقافية الخارجية من أنماط التفكير والقيم والعادات والتقاليد والتصورات ثم الخطوة الثالثة وهي:"الشروع بتعديل السلوك غير المرغوب به وتعزيز ما هو مرغوب به، ويلاحظ أن القرآن الكريم والسنة الشريفة قد حددا للنفس ثلاثة مراتب يتدرج الفرد خلالها حتى يبلغ السلوك العاطفي والعقلي والعملي منتهاه المرغوب به. وهذه المراتب هي: مرتبة الإسلام وتستهدف تعديل السلوك الظاهر ثم مرتبة الإيمان حيث يتدعم السلوك الظاهر بالإيمان الباطن ثم مرتبة الإحسان حيث تتناسق مهارات التفكير مع تطبيقات الجوارح وانفعالات الشعور وتتضافر جميعها لإخلاص العبودية لله وإصابة الحق في كل ميدان من ميادين العبادة أو العمل وبذلك تتضافر جميع أنماط السلوك لتعزيز الموقف الذي تحدده أهداف التربية الإسلامية"[25] .

ومرحلة الإيمان التي ذكرها الأستاذ ماجد عرسان والتي يطلب فيها مطابقة المخبر للمظهر هي التي عبر عنها القرآن الكريم في الآية: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [26] .

ص: 242

أما المرحلة الثالثة فهي التي عبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه، يراك"[27] أو التي قال فيها: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع مالا بأس به حذرا مما به بأس"[28] .

ولو استعرضنا التكاليف والأوامر التي أمرنا الله بها لوجدناها في نهاية الأمر كمال السلوك وقمة الاستقامة وغاية الرقي الروحي والعقلي وصلاح الفرد والأمة فالصلاة والصيام والزكاة والحج ومراعاة حقوق الله كلها من إيمان بذاته وصفاته وأفعاله ورسله وملائكته وكتبه وبعثه وحسابه وجنته وناره وحلاله وحرامه ونصر شريعته والجهاد لإقامة حكمه وإعلاء كلمته، ومراعاة أوامر الله في طاعة الوالدين وحقوقهما وبرهما والدعاء لهما وتفقد أمورهما ما داما على قيد الحياة ثم مراعاة حقوق الزوجة والأولاد من إحسان وبر ونفقة وتربية وهداية ثم حقوق الأقارب والجيران والمسلمين عامة ثم حقوق الدولة الإسلامية والجماعات كل هذه الأشياء هي التي تؤدي إلى الإنسان الكامل الخلق الموجه لطاقاته التي أودعها الله فيه في اتجاهها الصحيح وكلها في النهاية تؤدي بالإنسان إلى تحقيق سر وجوده على هذا الكون وهو عبادة الله وحده خالق هذا الكون الذي سخره لعباده ليكونوا سادة الكون وعبيد الله..

ص: 243

إن الرقي الكامل لا يتم بمجرد الجهود التي يبذلها الفرد لإصلاح نفسه والسمو بها والترفع بها عما يهين آدميته ويذهب عقله ولكن جهود الأمة والدولة كلها يجب أن تتجه إلى ذلك فإذا كان العلم المجرد يرى ضررا كبيرا على إنسانية الإنسان من إباحة الخمور وأنواع الدخان والانقياد وراء الشهوات بلا رابط فإن أنظمة الحكم وقوانين الجماعات يجب أن تحرم ذلك صيانة لعقل الإنسان وكرامته وإنسانيته، وإذا كان التفكير الحر المعقول حقا يميز آدمية الإنسان فإن الأنظمة التي تحجر التفكير وتمنع النقد والمناقشة والتأمل كالمجتمعات الشيوعية والاشتراكية وتوابعها والأنظمة التي تبيح التفكير بلا قيود ولا ضوابط كلها تحط من قدر العقل وإنسانية الإنسان.

والقرآن قد جاء بدعوة لتحرير العقل البشري من قيود الحجر كلها قديمة وحديثة وأنكر على الذين يعطلون هذه الخاصية خاصية التفكير في أنفسهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [29] . وقوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [30] .

ص: 244

لذلك كله دعا القرآن إلى تحرير العقل البشري والتأمل في ملكوت الله والكون بنظامه وتنسيقه وآياته وحقائق الوجود الدالة على عظمة الخالق المدبر المنسق {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [32] . والنظر في الكون والتأمل في ملكوت الله جعل كثيرا من علماء الغرب فضلا عن المسلمين يؤمنون بأن لهذا الكون خالقا ولنظامه مدبرا يقول (أوبختون) : "إن من وراء هذا الكون عقلا مدبرا حكيما، هذا العقل هو الروح الأعظم، هو الله سبحانه وتعالى"ويقول العالم (بليغن) في كتابه (العلم ينظر إلى السماء) : "إن الكون كله بنجومه المختلفة الأحجام التي لا حصر لها، والتي تندفع في جميع الاتجاهات كأنها شظايا قنبلة متفجرة، صورة لا يكاد المرء يتخيلها حتى يدركه البهر وتنقطع أنفاسه، ولكن يبدو أن الأجدر بأن يبهر ويقطع الأنفاس، هو رؤية هذا الحيوان البشري الضئيل الذي يعيش على شظية من شظايا نجم صغير، في زاوية صغيرة من زوايا مجرة لا تختلف شيئا عن الملايين من أمثالها، هذا الحيوان يجرؤ على أن يسمو ببصره إلى إطراق الفضاء، يجرؤ فيتحدى ثم يجرؤ فيحاول أن يعرف سر الكون"[33] .

وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [34] .

ص: 246

إن ارتقاء الإنسان عقليا وروحيا هو الوسيلة لسعادته في الدنيا والآخرة لأن الإنسان في حاجة إلى الحياة الروحية كحاجته للمتطلبات المادية والعقل والروح هما المميزان للإنسان عن بقية المخلوقات إذ أن معرفة الله سبحانه والمداومة على ذكره والامتثال للواجبات الروحية التي فرضها على عباده هي التي تفضي على حياة المرء البهجة والمسرة والرضا والإطمئنان في الدنيا والنجاة والفلاح في الآخرة وفي ذلك يقول تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} . هذا في الدنيا أما في الآخرة {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [35] .

رابعا: مرتكز المسؤولية والجزاء:

تربية الإحساس والشعور بالمسئولية من الأمور التي بنت التربية الإسلامية ركائزها عليها وذلك لما للإحساس بالمسئولية وغرسها في النفوس وممارستها في الواقع من أثر كبير في تربية الأفراد والمجتمعات، والمسؤول هو الشخص الذي يتحمل نتيجة أعماله وتصرفاته أمام الله سبحانه وتعالى وأمام نفسه ومجتمعه وعلى مدى الالتزام بهذه المسؤولية أو عدم الالتزام بها يكون الجزاء خيرا أو شرا والمسؤول في الإسلام هو الراعي كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه:"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية ومسؤولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسؤول عن رعيته"[36] .

ص: 247

فالمسؤوليات تتدرج لتشمل الفرد والأسرة والجماعة والحاكم والعامل مما يدل على أن الراعي هو كل شخص في موقع المسؤولية أيا كانت المسؤولية المناطة به، والمسؤولية بهذا المعنى تشمل كل فرد من أفراد الأمة توفرت فيه الأهلية للتكاليف والوعي بنفسه وسلوكه وواجباته في الحياة.

والعرب يطلقون كلمة (الراعي) على من ينظر إلى الأشياء بعين المصلحة والخير والقرآن استعمل الكلمة في دلالتها الحقيقية {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} [37] والمعنوية {وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [38] . وارتباط المسؤولية بالأمانة كثير في القرآن باعتبار أن الأمانة تشمل كل الواجبات المناطة بالإنسان في الحياة إزاء ربه أولاً ثم إزاء نفسه وأسرته ومجتمعه ولذلك يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [39]، والأمانة هنا كما يقول ابن عباس:"الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد من فرائض وغيرها"[40] .

ص: 248

ولذلك يشترط الإسلام في الشخص المسئول شروطا تبين الأهلية كشرط العقل والبلوغ والحرية في الإرادة والاختيار والقبول والرفض والقدرة على التحمل، فالمجنون غير مطالب بالمسؤوليات وكذلك الصغير والذي لا يملك إرادة نفسه أولا يستطيع تنفيذ اختياراته ولذلك أخرج الإسلام من دائرة المسؤولية المجنون والنائم والناسي والمضطر {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وكذلك {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [41] كما أخرج ما تتحدث به نفس الإنسان من هواجس ووساوس إلا إذا ترجمت أحاديث النفس إلى أفعال فعندما نزل قول الله تعالى:{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [42] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهرعوا إليه يتساءلون عن مؤاخذتهم على حديث نفوسهم وهواجس قلوبهم فطلب منهم أن يسمعوا ويطيعوا فنزلت الآيات التالية لها قال ابن عباس: "فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها وصار الأمر إلى أن قضى الله عز وجل أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل"[43] ، فالمسؤولية على قدر طاقة الإنسان وقدرته {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا} ، وتكاليف الإسلام كلها من واجبات وفرائض وسنن وغيرها لا تجد فيها أمرا خارجا عن طاقة الإنسان فهي تكاليف ليست شاقة ومتعبة بحيث يعجز عنها الإنسان وليست سهلة وبسيطة بحيث يستهتر بها الإنسان ويستهزئ وهو مع مسؤوليته غير مخاطب على النسيان والخطأ {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا

ص: 249

تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [44] .

بل إن الإسلام جعل مسؤولية الإنسان عما تحدثه به نفسه من معصية في صالحه إذا تخلى عن ذلك خشية للَه وتذكرا له ففي الحديث القدسي يقول الله عز وجل:"إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها فإن عملها فاكتبوها سيئة وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشرا" والأحاديث حول هذا المعنى كثيرة وكلها تدل على ربط المسؤولية بالسلوك العملي ولكن الإسلام يوضح فرقا بين ما تقدم وبين نوع من أحاديث النفس المرتبطة بالإرادة وسبق الإصرار كما يقولون وهو نوع من السلوك يؤاخذ عليه الإنسان في الإسلام سواء ارتبط بالعمل أم لم يرتبط وهو الذي قال فيه الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أو قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ} وقوله عليه الصلاة والسلام:"إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" والمقتول مؤاخذ لأنه دخل تحت طائلة الشروع في القتل وسبق العزم والإصرار على القتل إلا إذا كان دفاعا من المقتول أو القاتل عن نفسه.

وحديث المسؤولية السابق يوضح أن الإنسان في الإسلام لا تقتصر مسئولياته على نفسه وإنما تتدرج هذه المسئوليات من الفرد إلى الأسرة إلى الجماعة إلى الحاكم أو الراعي ففي مسئولية الفرد نحو أسرته يقول الله تعالى {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [45]، {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [46] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [47] . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أم ضيع حتى يسأل الرجل عن أهل بيته"[48] .

ص: 250

وبما أن أقل عدد يتكون منه الأسرة فردان هما الزوج والزوجة فإن لكل واحد منهما مسئولياته وكذلك الأبناء والأقارب إن كانت الأسرة كبيرة، وقد وضع الإسلام المسئولية الكبرى، في الأسرة على عاتق الزوج باعتباره المتولي لزمام القيادة والنظام والتوجيه للأسرة والمسئولية عنها أمام الله والمجتمع وعلى عظم المسئوليات والتكاليف تكون الامتيازات الممنوحة للرجل ومنها امتياز القوامة ومقابل هذا الامتياز الامتياز الذي منح للمرأة هو إطلاق صفة الصلاح عليها إن قامت بواجبها وأعانت زوجها على مسئولياته والله تعالى يقول:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [49] .

وهذه القوامة قد حددها الله تعالى من خلال الوظائف والخصائص النفسية والعضوية والعقلية لكل من الرجل والمرأة وهما يمثلان نفسا واحدة واختصت كل واحد من شطري النفس بتكاليف وأعباء حسب استعداداته الفطرية وخصائصه العقلية والعاطفية، لأن الرجل والمرأة يكونان مؤسسة تسمى بالأسرة فإن رئاسة هذه المؤسسة هي القوامة والقوامة بهذا "وظيفة، داخل كيان الأسرة، ولإدارة هذه المؤسسة الخطيرة، وصيانتها وحمايتها ووجود القيم في مؤسسة ما، لا يلغي وجود ولا شخصية ولا حقوق الشركاء فيها والعاملين في وظائفها"[50] .

ص: 251

وقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم مسئوليات كل من الزوجين في خطبة الوداع حيث يقول: "أما بعد: أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقا ولهن عليكم حقا ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا فإهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولي فإني قد بلغت"[51] . فمسئوليات الزوج تتمثل في حسن الخلق والمعاشرة والتحمل وضبط النفس والمودة والملاطفة وحسن الظن والإنفاق بحسب الاستطاعة {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} . وكذلك العدل إذا عدد الزوجات وهو العدل فيما يملك مثل العدل في النفقة وفي المبيت دون العاطفة والحب، أما الزوجة فمسئولياتها واضحة في الخطبة وهي طاعة الزوج إلا في معصية وعدم مخالفته في حدود قدرتها وإمكانياتها والمحافظة على بيته وماله وعرضه وتوفير سبل الراحة المادية والمعنوية له وعونه على الدنيا والآخرة وتحبيب نفسها إليه وإحسان عشرته وإطراء معروفه فهي راعية ومسئولة أمام الله عن رعيتها.

ص: 252

أما مسؤولية الآباء نحو الأبناء فكثيرة أهمها اختيار الاسم الصالح المعبر عن أمله فيهم، وتغذية أجسامهم بالغذاء وأرواحهم وعقولهم بالعلم والمعرفة والفضائل والقيم والأخلاق الحسنة والتربية الشاملة القائمة على حسن العقيدة وسلامة الضمير والخوف من الله، أما مسئولية الأبناء فعظيمة وجسيمة والقرآن قد أكثر من وصاية الأبناء بالآباء ولم يوص الآباء بالأبناء لأن إحساس الآباء فطري وعطاؤهم مطلق وحبهم غريزي لذا كان وصية القرآن للأبناء أما الآباء فقد وصوا مرتين في مشكلة قتل الأبناء {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَاّ تَعْبُدُوا إِلَاّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [52] .

وفي حديث ابن مسعود يقول: "سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله تعالى فقال: "الصلاة على وقتها"، قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" [53] .

فرب الأسرة مسئول عن كل فرد من أفراد أسرته رعاية وعناية وتربية وتعليما وتوجيها في حدود طاقته وقدراته حتى يخلي بذلك مسئوليته أمام الله سبحانه وتعالى.

ص: 253

أما المسئولية الجماعية فإن الفرد مسئول عن تصرفات أعضائها وسلوكهم باعتبار الجماعة وحدة واحدة لهما شخصيتها الاعتبارية ولأن الأمة الإسلامية أمة دعوة ورسالة فإن أولى المسئوليات المناطة بها هي القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. يقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [54] ، {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [55] .

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [56] ويقول عن بني إسرائيل {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [57] .

ص: 254

ولأن انحراف الأفراد يؤدي إلى فساد المجتمع فقد عقب الرسول صلى الله عليه وسلم على الآية السابقة بقوله: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنَه على الحق أطر ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم"[58]، وفي هذا المعنى قول الله تعالى:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [59]، ولأن المسلمين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فإن الرسول صلى الله عليه وسلم شبه الجماعة بالجسد لتضامنها في مسئولياتها وشبهها بالسفينة وبمسئولية الجماعة عنها بصفتهم الجماعية لا الفردية فقال:"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعا"[60] .

وقد أخذت كل النظريات الحديثة في الأخلاق بما قرره الإسلام من أن حرية الأفراد ليست مطلقة بل مقيدة بقيود كما أخذ بها في (إعلان حقوق الإنسان) وعرفت الحرية فيها بأنها "القدرة على عمل كل شيء لا يضر بالغير"، وحقوق الغير في الإسلام تشمل حق الله أولا ثم المجتمع أفرادا وجماعات، وإزالة المنكر أمر جعله الرسول صلى الله عليه وسلم من مسئوليات الأفراد في الجماعة وواجباتهم بالطرق المتاحة لهم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"[61] .

ص: 255

ومجاهدة الخارجين عن الإسلام والمنحرفين في السلوك دليل على الإيمان فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل"[62] والمسئوليات الجماعية كثيرة في الإسلام وفي القرآن والسنة المزيد لمن أراد ذلك.

أما المسئولية الفردية فإن الفرد المسئول هو من توافرت فيه صفات الأهلية للقيام بمسئولياته، والمسئوليات المناطة بالفرد المسلم تتميز بالوسطية بين الصعوبة والسهولة كما أسلفنا ولم يكلف الله عباده بمسئوليات تفوق إمكاناتهم وقدراتهم الجسدية والعقلية والنفسية لأن الله يريد لعباده اليسر ولا يكلف نفسا فوق طاقتها والرسول صلى الله عليه وسلم يطلب من المسلمين أن يمتثلوا وينفذوا الأمور التي نها عنها وأن يؤتوا من أوامره ما يستطيعون والإنسان مسئول أمام الله سبحانه عن نفسه وهو وإن كان مسئولا عن تصرفات الآخرين وسلوكهم من حيث التوجيه والإنكار والأخذ بيدهم إلا أنه غير مسئول عما وقع من أعمالهم، فالله يقول:{وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [63] .

ويقول: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [64] .

ص: 256

أما مسئولية الراعي أو الحاكم أو الدولة فتتمثل أساسا في تنفيذ شريعة الله ومنهجه في الحياة وإقامة حدوده وأحكامه وصيانة حقوق المسلمين والسهر على مصالحهم ودرء الفساد في كل أنواعه ويتمخض عن المسئوليات السابقة نوع الجزاء الذي يترتب على العمل الذي قام به الفرد باختياره وإرادته ومارس فيه الحرية التي أعطاها الله له لأن الفرد المسلم تقوم تربيته على أساس مراقبة الله سبحانه وتعالى الدائمة للإنسان في سره وعلانيته خيره وشره وأنه مثاب على الخير ومعاقب على الشر وهذا الإحساس هو ضابط السلوك بالنسبة للفرد الذي يعلم أن الله مطلع على كل صغيرة وكبيرة {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [65] . ولذلك صور القرآن حال المجرمين يوم القيامة وشفقتهم وخوفهم من ذلك الإحصاء الدقيق المتناهي في الدقة والذي يحصى عمر الإنسان بالثواني إن عمل مثقال ذرة من خير وجده وإن عمل مثقال ذرة من شر وجده {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [66] لأن المحصي والمحاسب هو الله سبحانه وتعالى الذي أحاط علمه بدقائق الأمور ولطائفها محسة وغير محسة {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [67] كيف لا يكون ذلك وهو الذي يقول عن ذاته العلية {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [68] .

ص: 257

إن العقل الإنساني لا يقبل الظلم ولا يرضي به، والعدالة تقتضي إثابة المحسن وعقاب المسيء والله قد حرم الظلم على نفسه وجعله محرما بين الناس ووعد بالجنة وهو لا يخلف وعده، ولأن العدالة تقتضي انتفاء المساواة بين الخبيث والطيب والمحسن والمسيء والصالح والطالح والمؤمن والكافر يقول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَاب وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [69] . ويقول: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [70] .

ص: 258

والفرد الذي وعده الله بالثواب أو العقاب يأتي يوم القيامة وحده {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [71] . {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [72] . فإذا وجد خيرا حسب ما قدم كان مصيره الجنة والنعيم المقيم وإذا قدم شرا كان مصيره ما يستحقه من عقاب الله، والقرآن قد فصل ذلك كثيرا وبين جزاء المحسن والمثيب إلا أن الله سبحانه وتعالى لا يثيب إلا بمضاعفتها لمن يريد والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يعلم قدره إلا الله وقد يغفر الله لمن يشاء من عباده الذنوب دون الكفر فإنه لا يغفره {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [73] ولأن الشركَ بالله ليس من الذنوب فإنه يقول:{لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [74] .

والجزاء قد يكون في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معا كما أنه قد يكون قصاصا يقوم به ولي الأمر وقد يكون مباشرة من الله في الدنيا بالهلاك كما حدث لعاد وثمود وغيرهم من الأمم التي قص القرآن أخبارها وقد يكون بالأمراض والأوبئة أو الذل والاستكانة والضلال أو الابتلاء بفقدان السكينة والأمن والاستقرار والانحلال الخلقي من حسد وبغض ونفاق وشقاق ومجانة وخيانة ورشوة ومحسوبية.

ص: 259

إن السعادة والشقاء في الدنيا والآخرة تتوقفان على مدى التزام المسلم والمسلمين بمنهج الله وتربيته ونظامه وأحكامه وأوامره ونواهيه مراعاة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَاّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [75] .

ولأهمية الجزاء في سلوك الإنسان فإن الله سبحانه وتعالى رغب في الخير وحث عليه وربط مصير الإنسان في حياته الدنيا والآخرة بمدى التزامه بالعمل والسلوك المرغوب فيه أو غير المرغوب فيه إذ أن العقل البشري لا يتصور عدم الجزاء على ما يعم الحياة من خير ورحمة ومودة وإخاء أو ما يكدرها من ظلم وشر وفرقة واستعباد وبعد عن الله.

ص: 260

أما بالنسبة للجزاء الدنيوي فالقرآن يقرر أن في القصاص حياة للناس وقد قسم بعض الباحثين العقوبات إلى مؤيدات فطرية تتمثل بالعقوبة التلقائية التي تترتب على مخالفة أمر الله وربانيته هي عقوبة القهر الإلهي في الدنيا أو الثواب والعقاب في الآخرة ففيه يقول الأستاذ سعيد حوى: "إن أي انحراف عن أي جزء من أجزاء الإسلام يحمل في طياته عقوبته التي تحيق بالمنحرفين عنه، فمن رفض العبودية لله عاقبته سنن الله بأن تجعله عبدا للإنسان ومن غش ليربح عاقبته سنن الله بأن يفقد الثقة ويخسر ومن فرط في واجب اليوم عاقبته سنن الله بمضاعفة التعب في يوم آخر، وهكذا فما من انحراف عن أي جانب من الإسلام إلا تقابله عقوبة تليق به في الدنيا لأن الانحراف عن قوانين الله في الكون والإنسان والاجتماع دائما ليس لصالح الإنسان بل هو تدمير له أو تعذيب"[76] .

ص: 261

ثم ضرب الباحث عشرة أمثلة من عقوبات الفطرة على أمثلة من الانحراف عن أمر الله يوضح هذا المؤيد القوي من مؤيدات الإسلام وهذا عين ما يقصد إليه الدكتور الكسيس كارل في كتابه تأملات في سلوك الإنسان إذ يقول: "وليس من العسير أن الخطيئة انتهاك إرادي أو غير إرادي لقوانين الحياة، وقوانين الحياة صارمة صرامة قوانين اختلاط الغازات وسقوط الأجسام ولما كان انتهاك هذه القوانين لا يعاقب عليه إلا بعد مضي زمن من وقوعه وبطريقة خفية فإن الإنسان لم يدرك بعد فداحة النتائج التي تترتب على الخطيئة فكل خطيئة تؤدي إلى اضطرابات عضوية أو عقلية أو اجتماعية وهى اضطرابات لا يمكن علاجها على وجه العموم، وإذا كانت التوبة لا تشفي تليف الأنسجة لدى السكير أو الأمراض العصبية لدى أولاده فإنها تعجز أيضا عن إصلاح الاضطرابات الناجمة عن الحسد والإسراف الجنسي والغيبة والنميمة والبغضاء كما أنها كذلك لا تبعد االشقاء عن الشواذ الذين يولدون لأبوين مصابين بالعيوب، فالخطيئة تؤدي إن عاجلا أو آجلا إلى التدهور والموت، التدهور للجاني نفسه أو للوطن أو للنوع ولهذا يجب على كل فرد أن يكون قادرا على التمييز بين الخير والشر"[77] .

إن التربية الإسلامية وقد وضعت كل فرد من الأمة في موقع المسئولية التي يترتب عليها المحاسبة والجزاء يتناسب مع القوانين الطبيعية في الكون والنزعات الفطرية في الإنسان إذ أن الإنسان يريد أن يرى نتيجة أعماله وثمار جهده لأن العمل يكون على قدر الثواب في الدنيا، فكيف بالآخرة..

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا في الجنة كلما غدا أو راح".

وقال:

ص: 262

"من تطهر في بيته ثم خرج إلى المسجد لا ينهزه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة، فإذا دخل المسجد لم يزل في صلاة ما انتظر الصلاة والملائكة تصلي عليه وتقول: (اللهم اغفر له اللهم ارحمه) ".

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

الإسراء 9.

[2]

راجع سيد قطب في ظلال القرآن ص 16 ج 15 وما بعدها المجلد الخامس.

[3]

تأملات في سلوك الإنسان ص 47.

[4]

الإسراء 22- 28.

[5]

سورة الأنعام 151-153.

[6]

سيد القطب في ظلال القرآن ص 29 المجلد الخامس جزء 15.

[7]

سورة الروم آية 21.

[8]

كتاب النكاح سبل السلام 109 ج الأول وكتب السنة.

[9]

كتاب (مشاكل السكان) نقلا عن المودودي حركة تحديد النسل ص 31.

[10]

المصدر السابق59.

[11]

المصدر السابق ص 6970.

[12]

ازوالد سوارز نفسية الجنس ص 17 نقلا عن حركة تحديد النسل للمودودي ص 7677.

[13]

حركة تحديد النسل ص 179.

[14]

حركة تحديد النسل ص 183.

[15]

العنكبوت:45.

[16]

البقرة: 277.

[17]

الأحزاب:72.

[18]

الأنفال:23.

[19]

الفرقان:44.

[20]

آل عمران:164.

[21]

البقرة: 151.

[22]

تفسير ابن كثير ص 195196 ج 1.

[23]

البقرة: 152.

[24]

ماجد عرسان الكيلاني تطور مفهوم النظرية التربوية الإسلامية ص 41.

[25]

المصدر السابق.

[26]

الحجرات:14.

[27]

رواه مسلم.

[28]

رياض الصالحين: 279.

[29]

البقرة: 170.

[30]

الأعراف: 70.

[31]

الزخرف: 2124.

[32]

البقرة: 164.

[33]

نقلا عن محمد شديد منهج القرآن في التربية ص 94.

[34]

الذاريات: 21.

[35]

سورة طه: 124 125، 126.

ص: 263

[36]

رواه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي عن ابن عمر مرفوعا.

[37]

سورة طه:54.

[38]

سورة المعراج: 32.

[39]

الأنفال:27.

[40]

ابن كثير ص 301 ج 2.

[41]

البقرة: 173

[42]

ابن كثير ص 239

[43]

ابن كثير ص239

[44]

البقرة:286

[45]

طه:.132

[46]

مريم: 55.

[47]

التحريم: 3

[48]

ابن حبان

[49]

النساء: 34

[50]

سيد قطب في ظلال القرآن ص 61 ج 5 م 2.

[51]

سيرة ابن هشام ج 2 ص 604.

[52]

الإسراء: 23.

[53]

رواه البخاري ج 8 ص 163.

[54]

آل عمران: 110.

[55]

آل عمران: 104.

[56]

التوبة:71.

[57]

المائدة:78.

[58]

رواه أبو داود والترمذي رياض الصالحين ص 105.

[59]

الأنفال:25

[60]

أحمد أمين /الأخلاق.

[61]

رياض الصالحين ص 100101.

[62]

رواه مسلم المصدر السابق ص 101.

[63]

الأنعام: 164.

[64]

الإسراء: 1314.

[65]

غافر: 19.

[66]

الكهف: 49.

[67]

لقمان: 16.

[68]

المجادلة: 7.

[69]

ص: 2628.

[70]

الجاثية: 21.

[71]

مريم: 95.

[72]

الأنعام: 94.

[73]

النساء: 48.

[74]

الزمر: 53.

[75]

هود: 105،108.

[76]

سعيد حوى الإسلام ص 7 ج 4.

[77]

راجع سعيد حوى الإسلام المؤيدات الفطرية ص 7 62.

ص: 264

في المشارق والمغارب

فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري

عميد كلية اللغة العربية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أما بعد:

سبب الكتابة:

فقد رأيت أن أسجل في هذه الصفحات ما تذكرته أو دونته في رحلتي التي أتاحت لي أن أعبر الكرة الأرضية من شرقها إلى غربها، وأن ألتقي في هذه الرحلة بأجناس العالم المختلفة، إما لقاء مقصودا أو لقاء غير مقصود، ولكنه لا يخلو من فائدة يسجل من أجلها. وفي السير في أرض الله عبر لمن اعتبر، وفيه الجديد الإيجابي المفيد، والسلبي الذي يجب أن يجتنب. وهذا هو السبب الذي جعلني أقدم على التسجيل. أسأل الله أن يكون فيه لي أولاً، ثم لشعبي المسلم- في كل أنحاء الأرض- ثانياً ما ينفعنا في ديننا ودنيانا.

وها أنا أروي القصة من أولها:

تردد وترجيح. وسبب:

عرض علي فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في الربع الأخير من السنة الدراسية الماضية السفر إلى أمريكا لحضور مؤتمر علماء المسلمين الاجتماعيين في أنديانا.

فطلبت إمهالي لأيام قلائل لأدرس أموري الخاصة وأقرر ما إذا كانت تسمح لي بالسفر أم لا؟ وكانت الرغبة في السفر شديدة، لأني أود أن أرى إخواني المسلمين في البلدان الأجنبية، وكيف يعيشون مطبقين تعاليم دينهم هناك في جو كله عقبات في طريق ذلك التطبيق وأرى أيضاً المجتمعات الغربية وحياتها التي أسمع عنها من أفواه الزوار، وعلى صفحات بعض المجلات والجرائد الإسلامية وغير الإسلامية، وكذلك بعض الكتب التي تتضمن بعض المعلومات عن المجتمعات الغربية قديماً- أيام انحطاطها مادياً ومعنوياً - وحديثاً- في عنفوان رقيها المادي.

لا بد من رفيق:

ص: 265

وبعد يومين أو ثلاثة قررت أن ألبي رغبة فضيلة نائب رئيس الجامعة ورغبتي معا. وكان فضيلة الدكتور أحمد الأحمد مرشحاً لنفس المهمة وأنا شديد الرغبة في أن يوافق كما وافقت، ولكنه اعتذر لظروف خاصة.

وعندئذ ألححت على فضيلة نائب الرئيس في أن يرشح شخصا آخر يجيد اللغة الإنجليزية، إذ من الصعب على مثلي وأنا لا أقدر على التفاهم مع القوم أن أسافر وحدي لما أتصوره من صعوبة العيش في المأكل والمشرب والمسكن دون تفاهم مع الناس، لا سيما مع علمي بأن أغلب مأكولهم ومشروبهم لا يخلو من حرام عليّ في ديني. فقال لي فضيلته رشح من ترى، فرشحت الأخ الدكتور محمد بيلو أحمد أبو بكر السوداني أحد مدرسي كلية اللغة العربية لأنه قام بتدريس اللغة الإنجليزية لطلبة السنة الأولى في الكلية [1] عندما تعذر الحصول على مدرس آخر، لأنه لابد أن يكون في مقدوره التفاهم مع الناس ولو بصعوبة فوجود شيء خير من لا شيء. وافق فضيلة نائب رئيس الجامعة على الترشيح وطلب مني أن أبلغ فضيلة الدكتور بذلك فبلغته فطلب مني إمهاله ليفكر في أمره، فإذا سنحت له ظروفه فإنه لا مانع عنده. فقلت له لا بأس ولكن أرجو أن يكون ذلك في أسرع وقت ممكن للحاجة إلى أخذ تأشيرات دخول من الدول التي نريد السفر إليها من قبل سفاراتها والوقت قد اقترب.

يوم السفر في مطار المدينة:

وفي اليوم التالي جاء الدكتور بجوازه موافقاً على السفر وبدأ كل منا يستعد لذلك.

ص: 266

وقبل ظهر يوم السبت الموافق 19/ 7/ 1398 هـ تحركنا إلى مطار المدينة المنورة. وبعد انتهاء الإجراءات ودعنا إخواننا الذين رافقونا إلى المطار، وودعت أنا أبنائي الخمسة الذين كانوا معي، وذكرتهم بالله وأوصيتهم بتقواه. وفي داخل قاعة الانتظار قعدنا أنا وزميلي على مقعدين متجاورين فجاءت مناسبة لا أذكرها الآن. فذكرت له بيتاً من الشعر يقال فيمن لا يضبط الأمور، وكان يردده لنا فضيلة شيخنا العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في دروسه:

ويكتبه عمرا ويقرؤه بكرا

أقول له زيدا فيسمع خالدا

وبعد ذلك بقليل أخذ الزميل ينظر إلى أرقام الرحلات التي تظهر على الجهاز في القاعة ليتأكد من موعد إقلاع طائرتنا وبدلاً من قراءة رقم الإقلاع قرأ رقم الوصول، فاستغرب فقلت له: عد مرة أخرى فاقرأ.. فقرأ فعرف الخطأ، فقلت له: لقد طبقنا بيت الشعر ولا زال رطبا على ألسنتنا وفي مذكرتك، وكان قد أعجبه البيت فكتبه في مذكرته عندما سمعه مني، فضحكنا جميعا، وجاء الموعد فخرجنا إلى الطائرة وأقلعت بنا في موعدها المحدد والحمد لله إلى جدة.

فندق الإخاء واللقاء المفيد:

ص: 267

وصلنا مطار جدة، وكان بعض الإخوان في انتظارنا في المطار، وكنا نظن أن نزولنا في جدة سيكون في فندق الشركة - أي إقامة ترانزيت وعندما سألنا المختص في علاقات الركاب. ذكر لنا أنه لا يحق لنا ذلك لأنا حجزنا على رحلة في اليوم التالي، وفي نفس اليوم رحلات إلى لندن، فقال صاحبنا الذي كان ينتظرنا في المطار الحمد لله الذي حال بينكم وبين فندق الشركة، فبيتنا فندق للإخوان فحياكم الله، وفعلا نزلنا ضيوفا على أخينا واجتمعنا ببعض الأحبة الذين جاءوا يودعوننا عندما علموا بوجودنا وسفرنا إلى الخارج. ومن هؤلاء الأخ الشاب الصالح حامد البار، أحد الطلبة السعوديين الذين يتلقون تعليمهم في أمريكا وكان قد عاد منها قريبا، وكان لقاؤنا به فرصة للاستفسار عن بعض الأمور التي يهمنا معرفتها، كالحصول على الأكل الحلال، وقائمة بالأطعمة التي يجب اجتنابها، وكذلك أرقام هواتف بعض الأشخاص في بعض المدن الأمريكية للاتصال بهم لمساعدتنا عند الحاجة، ولقد كان ذلك مفيدا جدا لمسنا فائدته في أوقات الحاجة.

وبهذه المناسبة فإني أوصي كل مسلم يريد السفر إلى بلاد الغرب أو الشرق من البلدان غير الإسلامية أن يسجل أي عنوان أو رقم هاتف لمن يمكنه مساعدته شخصيا أو في أمور الدعوة إلى اللَه.

وفي يوم الأحد الموافق 20/ 7 أقلعت بنا الطائرة السعودية من مطار جدة الدولي إلى لندن في الساعة العاشرة والدقيقة العشرين صباحاً، وكان وصولنا إلى مطار لندن في الساعة الرابعة والدقيقة العشرين، أي كانت مدة الطيران الفعلي ست ساعات.

تمتع وتكدير:

ص: 268

وكان الجو في هذا اليوم صحوا، وكنت أنظر من النافذة إلى الأرض لأتمتع بالمناظر الطبيعية، فكنت تارة أرى الصحاري الغبراء وتارة ماء البحر، وأخرى التواءات نهر جار، ومرة خضرة غابات أو بساتين، وأخرى بعض السحب المتراكمة أو المتفرقة، كما كنت أرى بعض المدن ذات التخطيط الجميل والشوارع المستقيمة، وهكذا مرت الساعات الست وأنا لا أشعر بأني مسافر لما كنت أتمتع به من جمال خلق الله.

ولكن مضيفي الطائرة عكروا علي ذلك الجو الممتع عندما أخذوا يغلقون النوافذ وطلبوا مني إغلاق نافذتي التي كنت أطل منها على خلق الله لماذا؟ لأن فيلما سينمائيا سيعرض ليشاهده الركاب ويستمتعوا به ألا ما أحقره من فيلم وإنه لاستبدال الذي هو أدنى بالذي هو أعلى.

ولقد تحملت مشقة فراق ذلك الأعلى دون أن أحفل بالأدنى وكنت أختلس رفع غطاء النافذة بين حين وآخر لألمح شيئا من ذلك الجمال وكان الفيلم ثقيل الظل علي، لأني أريد أن أفتح النافذة بمجرد انتهائه.

وبالقرب من مضيق دوفر انتهى الفيلم فرفعت ستارة النافذة لأرى مضيق سباق السباحة.

وعندما قطعنا المضيق حال السحاب بيننا وبين الأرض فما كنت أرى منها قطعة إلا ليغطي السحاب أختها، ولي مع السحاب حوار، سيأتي عندما تعبر بنا الطائرة فوق المحيط الهادي، في رحلتنا من لوس انجلوس إلى طوكيو. وهبطت بنا الطائرة في مطار لندن عاصمة الدولة العجوز التي لم تكن الشمس تغيب عنها.

في مطار لندن:

ص: 269

وعندما نزلنا من الطائرة كنت أقول في نفسي: متى تنتهي إجراءاتنا في مطار لندن الدولي الذي تهوي إليه الطائرات المليئة بالركاب من كل حدب وصوب؟ وما إن دخلنا قاعة الإجراءات حتى تبددت تلك المخاوف فلكل رحلة جناح خاص، وفي كل جناح موظفون ينقسم القادمون إلى مجموعات صغيرة فلا تمضي ربع ساعة إلا وقد انتهى كل الركاب من إجراءات الجوازات، ونذهب إلى مكان تسلم العفش، فإذا عفشنا قد وضع بجانب الساحب الموزع. وهكذا كنا نتسابق نحن وأثاثنا في مطارات الغرب كلها وفي اليابان، لسرعة المعاملة والإجراءات.

فندق لندن:

هكذا سميته فندق لندن، أما اسمه الحقيقي فقد أنسانيه كرهه الشديد عندي- أي كره الفندق- لسوء مناظره وخبث روائحه وكثرة أوساخه، وكثرة المرضى من نزلائه، هل تصدق أن فندقا هذه أوصافه يوجد في لندن عاصمة المملكة المتحدة؟ أي وربي صدق فالكاتب كان من نزلائه. وله قصة أرويها هنا ليحذر نزلاء لندن الجدد من العرب، وخاصة من يصر على ارتداء زيه العربي هناك.

قصة الفندق والناصحون المتسولون:

فلقد قابلتنا فتاة لابسة زي موظفي المطارات، وبيدها جهاز لاسلكي وسألتني سؤالا لا

أدري ما هو فأحلتها لفضيلة زميلي الدكتور فإذا هي تسأل: أتريدون مساعدة مني؟ فأجاب نعم. نريد أثاثنا - كان ذلك قبل وصولنا إلى قاعة تسلم الأثاث - ونريد موظفي الخطوط السعودية لنتفاهم معهم، فرافقتنا إلى مكان الأثاث ودلتنا على عربة النقل الصغيرة وأوصلتنا إلى موظفي الخطوط السعودية. وهنالك سلمتنا لموظف في علاقات الركاب - وأظنه مدير العلاقات - واستلمنا منها بابتسامات وترحيب واهتمام إنها محسنة سلمتنا إلى محسن وبدون أي مقابل مادي ظهر لنا إلى الآن.

ص: 270

وأخذ زميلي يتفاهم معه ومع بعض زملائه عن السكن الملائم وعن وسيلة المواصلات. فبدءوا يحدثونه عن الفندق الفذ في لندن الذي لا يوجد الأمان إلا فيه، وكل الفنادق سواه لا يأمن الإنسان فيها على نفسه ولا على ماله. الذي يجمع بين الأكل الإفرنجي والطعام العربي. الذي ينزل به السعوديون وغيرهم من الشرقيين.

والمواصالات؟ أشار إلى سائق بجانبنا وقال: هذا سائق الملحق العسكري السعودي، وهو الذي يوصلكم إلى الفندق فظننا أن السفارة السعودية وصلت إلى حد استقبال كل وافد سعودي إلى هذه البلاد لمساعدته عندما يصل لعدم معرفته بالبلد ولغة أهل البلد، الحمد لله رب العالمين. وبعد قليل سأل زميلي الموظف المبتسم المعني بنا: ما اسمك ومن أين أنت؟ فذكر اسمه المسيحي ولا أذكره الآن، إنه فلسطيني، فوقع الشك في نفسي وبدأت أحافظ بشدة على الحقائب ولا سيما التي فيها الجوازات وخرجنا مع السائق فوجدنا حافلة صغيرة تنتظرنا فرفعنا أثاثنا وركبنا فوجدنا شخصاً آخر يرافقنا في السيارة، ومعه زوجته المشلولة والظاهر أنه قد وصف له هذا الفندق كما وصف لنا. وبعد أن أخذ السائق طريقه بدأ يذم فنادق لندن كلها التي لا يأمن الإنسان فيها على نفسه وماله. وأن هذا الفندق الذي ستنزلون به هو الفندق الوحيد الذي يطمئن فيه النزلاء. ودخل في نفسي الشك ورأيت فندقاًَ على يميني فسألته كيف هذا الفندق - عن طريق زميلي- فأجاب: الليلة في هذا الفندق بعشرين جنيهاً أتريد أن أنزلك فيه وهو غال وغير مؤتمن وكان الجواب لا وفي نفسي أن نعم خير من لا ولكن دون جزم وعندما وصلنا بجوار تلك العمارة القديمة أخذنا نساعد صاحبنا زوج المرأة، منا من يأخذ له المظلة ومنا من يأخذ له حقيبة اليد وهو يحاول بجهد إسناد زوجته حتى تدخل إلى إدارة الفندق، وسلم السائق ركابه بالعدد لأحد العاملين في الفندق. وذهب دون أن يستلم منا الأجرة.

ص: 271

وأخذت أقلب النظر في ممرات الفندق الفذ، وفي مكاتبه وفي بعض الحجر المجاورة، وبدأت أشم الروائح الكريهة، وأرى بعض النزلاء الذين قد لا يقدرون على استئجار مكان آخر غيره لفقرهم وطول إقامتهم للعلاج وأرى أشخاصاً آخرين ينظرون كما أنظر وهم متقززون من هذا النزل الكريم.

إيثار الخداع:

وبعد قليل اصطحبنا العامل الذي استلمنا من القائد بالعدد إلى إحدى الحجر التي وصفها بأنها خير حجر الفندق، وأنه آثرنا بها لأنا مشايخ علم كما قال: وكان لباسنا يوحي بذلك، فأنا سعودي ألبس الثوب والغترة ولبست العقال لأول مرة في حياتي حفاظاًَ على غترتي لشدة الهواء. وزميلي سوداني، وله عمة كالبرج وأكمام كالخرج وعلمنا عند الله. وعندما رأينا الحجرة الطويلة العريضة ذات الأسرة الأربعة قلنا للرجل إنا نريد حجرة بسريرين فقال: لا يهم إننا نحسبها لكم بسريرين. أي والله لقد وصلت الفريسة إلى الفم ولا يمكن لجائع إفلات فريسته. تركنا وذهب.

نظرات اشمئزاز:

فأخذ كل منا ينظر إلى البسط والأغطية ويقلبها وينظر إلى الوسائد وأكياسها، وإلى أرجاء الحجرة وما تحتوي عليه جدرانها من بقع تتقزز منها النفوس، ثم أخذنا نفتش لنجد بيت الماء خارج الغرفة وهو مشترك وعندما دخلته أسرعت بالخروج منه، فسألني الزميل أتوضأت بهذه السرعة؟ فقلت له: أدخل وتوضأ قبلي لأعد نفسي للدخول مرة أخرى.

وبعد إجبار أنفسنا على الوضوء صلينا المغرب والعشاء حتى لا نتوضأ مرة أخرى، وأخذنا نفكر ماذا نفعل؟ أننام في هذه الحجرة؟ وهل يا ترى يأتينا النوم فيها، ومن أين نأكل؟ ونظرنا من بعيد إلى المطعم فوجدنا حجرة كبيرة، يطبخ النزلاء فيها لأنفسهم ويلتمسون الأكواب للشرب فلا يجدونها.

لا بد من مخرج:

ص: 272

فقلت لزميلي: عندي صديق يسكن في ضواحي لندن، وقد أعطاني بعض إخوانه رقم هاتفه قبل مغادرتنا المملكة، وما كنت أريد إزعاجه في الليل ويسكن خارج المدينة ولا أدري كيف ظروفه ولكن لابد من حل ولا نعرف غير الاتصال بصديقنا لينقذنا من هذه الورطة.

اتصل الزميل بالصديق: محمد أشرف حياه وأخبره أن صديقك- فلاناًَ- موجود في المكان الفلاني، فتردد الصديق في معرفة المكان ولكنه كان ذكياً فطلب رقم هاتف الفندق وقيده عنده.

بجانب الشارع:

وخرجت أنا من الفندق لأقف بجوار بابه على الرصيف والهواء البارد شديد وأحس بالتعب والبرد ولكني أشم هواء لا أوساخ فيه وأنظر إلى الشارع لعل الصديق يصل بين لحظة وأخرى، وكنت مع الشارع كما قال الشاعر:

وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه

بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها

نعم: الشارع نظيف والفندق قذر، في الشارع هواء طلق، وفي الفندق روائح منتنة، فالصبر على البرد والقيام خير، وكنت كلما رأيت شخصاً قادماًَ إلى الفندق فيه بعض القسمات التي أتخيلها في صديقي ظننته إياه، وطال الانتظار والصديق صهري ولكن لم التق به من قبل، وعندما تعبت جلست على مقعد أكل عليه الدهر وشرب في أقرب ممر إلى الباب، وتعب صديقنا في التماس الفندق الفذ الذي لا يدري أهل لندن عنه شيئا، ولما لم يستطع الاستدلال عليه ذهب إلى موظفي الهاتف فأعطاهم رقم الهاتف وطلب منهم عنوان الفندق فدلوه عليه إنه يقع في قلب لندن، وفي مكان مشهور جدا إنه قرب حديقة: هايدبارك.

فرج بعد استبطاء:

ص: 273

وبعد انتظار طويل قريب من اليأس وصل محمد أشرف إلى الفندق، قال: أيوجد هنا عبد الله القادري فلم أتمالك أن أعتنقته قبل أن يجيبه أحد وكان ينظر إلى نواحي الفندق القريبة منه نظر استغراب، وكنت أقرأ في نظراته العبارة التالية: صهري عبد الله القادري، القادم من بلاد غنية، كالمملكة العربية السعودية، ذو الوظيفة الجيدة، عميد كلية اللغة العربية ينزل في هذا المكان الذي لا يصلح مأوى إلا للمعدمين ولكنه لذكائه لم يفصح عما في نفسه فطلب منا أن نصعد إلى الحجرة ليكون حديثنا مقصوراً علينا.

إنه لم يقدر على الاستمرار في الترحيب، كما هي عادة الأصدقاء والأحبة الذين يستقبلون صديقا حبيبا، فبدأ يسأل كيف نزلتم في هذا المكان؟ فأخبرناه بقصتنا، وكان الوقت تقريباً الساعة الثانية عشرة بتوقيت بريطانيا الصيفي.

قصة العشاء وفرش الملابس:

فسألنا هل تعشيتما؟ فقلنا: لا ونحن في أمس الحاجة إلى الطعام ولم نقدر أن نذهب إلى أي مطعم خشية أن نصادف حراماً والثقة في أعدائنا غير متوافرة، وكنا مشغولين بالوضع الذي كنا فيه، فاتفق مع زميلي على أن يذهبا للبحث عن طعام حلال، وأن يدعاني أرتاح في الحجرة، وحقا لقد كنت مضطرا للراحة، فأبعدت الغطاء الذي كان على أحد الأسرة وفرشت بعض الغتر وبعض الثياب الخاصة بي على البساط والوسادة، واضطجعت بعد تردد شديد وجسمي يكاد يقفز من على السرير ولكن لشدة التعب وعدم النوم في ذلك اليوم الطويل أغاثني الله بالنوم فكان كما قال الله تعالى:{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} أي راحة.

ص: 274

وبعد زمن غير قصير نسبياً سمعت طرقاًَ بالباب ففتحت فإذا الصديق والزميل قد جاءا فنظرت إلى الساعة فإذا هي الثالثة صباحا، فسألت أهذه المدة كلها كنتما في بحث عن الطعام فذكرا أنهما ركبا قطارا وذهبا إلى مكان بعيد فيه شخص يبيع الطعام الحلال، وكان عبارة عن خبز محشو باللحم (سندوتش) فأكلنا ونام صديقنا معنا بدلاً من مطالبته الملحة قبل ذلك بمرافقته لننام في منزله، لأن منزله بعيد عن المدينة ولم يبق على الفجر إلا قليل.

واتضح لنا بعد ذلك أن أهل الفندق مع موظفي الخطوط السعودية الذين هم مسئولون عن علاقات الركاب وهم فلسطينيون وغيرهم يكونون شركة خداع وغش لأمثالي ممن لا خبرة له بالبلاد، وأن المغنم يقسم بين الجميع.

لا عودة بعد اليوم إن شاء الله:

وفي صباح يوم الاثنين الموافق 21/ 7 حزمنا حقائبنا ونزلنا إلى إدارة الفندق لنحاسبه ونودع الفندق إلى غير رجعة إن شاء الله، وفي الإدارة اتفقنا على الاتصال بالحاج أحمد بابا السوداني هاتفياً إذ كان اسمه ضمن الأسماء التي سجلناها مع رقم هاتفه، وهو في أنديانا بلس، وكان الاتصال تقريبا في الساعة التاسعة، فلم نجد الحاج وإنما أجابتنا زوجته وذكرت أنه مسافر وكان أهل أنديانا لا زالوا نائمين في الليل، فذكرنا لها أننا سنصل إلى نيويورك غداً الثلاثاء ولا نعرف هناك أحداً ونحب أن يقابلنا أحد الأصدقاء فقالت إنها ستعمل جهدها هي ولقد وفت بوعدها كما سيأتي الكلام عند وصولنا إلى نيويورك.

واتفقنا على أن نتجول هذا اليوم في لندن لنزور بعض المراكز الإسلامية، فقال لنا أخونا محمد أشرف: نذهب أولاً إلى محطة القطار الرئيسية لإيداع الأثاث هناك، ثم إلى الأماكن التي تريدون زيارتها.

إلى أين يجري الناس ولماذا؟

ص: 275

فذهبنا إلى المحطة المذكورة ونزلنا في الطوابق السفلى لنرى عالم الذر الكبار يموج في كل اتجاه. لقد رأينا الناس يجرون جرياً غير عادي. عندنا كل طائفة تيمم جهة وبعضهم يقف ويتأمل في كتابات الجدران ثم ينطلق مهرولا، فقلت في نفسي لعل حربا عالميا قامت، أو حرائق نشبت، ولكن رأيت صاحبنا محمد أشرف يعمل مثلهم يقف ويتأمل في كتابة الجدران ثم ينطلق ونحن مضطرون أن نتبعه وعرفنا بعد ذلك أن الناس منطلقون إلى أعمالهم وإذا لم يجروا فإن القطار يفوتهم- ويأتي قطار آخر ولكن بعد أن تمضي بعض الدقائق التي تعتبر فائتة من وقتهم، ويقف الناس في طوابير ليأخذوا تذاكر الركوب، ولكن ينتهي الطابور بسرعة دون ازدحام أو محاولة المتأخر أن يتقدم على من قبله كما هو الحال عندنا.

وهناك آلات خاصة لمن هو أكثر عجلة لا يريد الوقوف بالطابور يستطيع أن يرمي فيها قروشه المطلوبة ويضغط على الزر فتعطيه البطاقة ولكنها أغلى من البطاقة التي تؤخذ من البشر.

والسلالم صاعدة وهابطة بعشرات الناس تسعى بهم سعياً حثيثاً ولكنهم لا يكتفون بسرعة تلك السلالم فيجرون هم أيضا عليها إنهم يسابقونها لأنها بطيئة في نظرهم وذلك من أجل أن يدركوا ما هو أسرع منها وهو القطار، ولا يقف على درجات تلك السلالم إلا العجزة ومن لا ارتباط لهم بالوقت وكنا من هذا الصنف الأخير وكنت أخشى في أول الأمر أن تلحق إحدى السلالم الأخرى فتطحن رجلي ولكن الله سلم.

زحام وهدوء:

وكل تلك الجموع الكثيرة وتلك الحركات السريعة والهدوء يسود الناس والنظام يسير معهم، لا تسمع صوتا ولا ضوضاء، بل لا يلتفت أحد لأحد ولا يسأل أحد أحدا، وإنما يسيرون على حسب التعليمات المكتوبة على اللوحات في الجدران.

ص: 276

وذهب بنا محمد أشرف إلى مكان إيداع الأثاث لقاء أجر قليل من القروش وأخذ بطاقة استلام بذلك. ثم نزلنا فوقفنا لحظات جاء بعده القطار فركبنا. وأخذت أنظر إلى الناس فإذا هو ما بين قارئ في جريدة أو كتاب أو متحفز للنزول في المحطة القادمة. وهناك أماكن في القطار يحظر فيها التدخين وأخرى يباح فيها، كل راكب يستطيع أن يكون في المكان الذي يناسبه.

إلى دار الرعاية الاجتماعية:

وكنا متوجهين إلى زيارة دار الرعاية الاجتماعية في لندن فخرجنا من أنفاق القطار من الطوابق السفلى إلى ظهر الأرض فوقفنا لحظات، فإذا الحافلة ذات الطابقين واقفة فركبناها ونزلنا في المكان الذي يظن أن المقر قريب منه فدلنا بعض أهل الحارة على منزل فطرقنا بابه فخرجت امرأة سورية محتشمة تخاطب زميلي وصديقي باللغة الإنجليزية فلما رأتني ألبس اللباس العربي انطلقت عقدة لسانها ورحبت بنا فسألنا عن المسئول عن الدار فقالت: إن هذا المنزل تابع لها (أي للدار) ولكن فيه تعليم بعض الأطفال وأشارت لنا إلى مكان الدار في الجهة التي أتينا منها فرجعنا أدراجنا نلتمس الدار، فإذا أنا أرى مكتبة تجارية تحتوي على كتب عربية كثيرة فقلت للأخوين ندخل هذه المكتبة لعلنا نجد من يدلنا على الدار، فدخلنا وسألنا مدير المكتبة فقال إنكم الآن في الدار. فتفضلوا على الرحب والسعة.

ص: 277

واتصل بالأخ المسئول عن الدار فجاءنا فورا، وكان على خلق فاضل وسمت المسلم الفاضل- ولا أزكي على الله أحدا - فتعرف علينا ورحب بنا وطلب منا أن نبقى حتى نتناول طعام الغداء فاعتذرنا لضيق وقتنا وقد وعدنا بعض الجهات بالزيارة، فتوضأنا وصلينا معهم الظهر وشربنا الشاي، ثم تجولنا في المكتبة التي تحتوي على كتب إسلامية كثيرة، ومنها كتيبات صغيرة للأطفال والمبتدئين في اللغة العربية، وأشرطة لتعليم اللغة الإنجليزية، ومصاحف مسجلة في أشرطة ويشتمل المركز على مسجد وبجانبه دورة مياه كاملة للوضوء، وقاعة لبعض الألعاب الرياضية الخفيفة ومكان للاستقبال، ويفد إليهم بعض الطلبة المغتربين للصلاة معهم والمذاكرة والقراءة وهم يقومون بمجهود يشكرون عليه على رغم قلة الإمكانات.

بعد ذلك ودعناهم وذهبنا إلى منطقة (وستئند) ذات المباني القديمة، المزدحمة بالسكان والسائحين الأجانب والمشهورة بالمراقص والمسارح ودور السينما والفساد الذي لا ينبغي وصفه بالتفصيل.

تائهون لفقدهم ذكر الله:

ص: 278

وقبل وصولنا إلى المنطقة المذكورة وجدنا في طريقنا طائفة من البشر مختلطة من الرجال والنساء لا يعرف الفرق بينهم إلا بلحا الرجال أطلقوا شعورهم ولبسوا ملابس رثة، وتبدو القذارة على ثيابهم والحسرة على وجوههم، وهم يحملون أدوات الموسيقى ويوقعون عليها ويضربون الدفوف ويرقصون ويغنون، وكنت لا أفهم من كلامهم إلا هوم هوم فسألت ماذا يريدون من ذكر المنزل فقيل لي إنهم يقولون في أغنيتهم كيف السبيل إلى عودتنا إلى منازلنا والناس مجتمعون حولهم، منهم من يسمع صامتاً، ومنهم من يضحك، ثم شرح لنا محمد أشرف حالهم، فقال: إن هؤلاء كانوا من أولاد الأغنياء ذوي الأموال الطائلة والقصور العالية والسيارات الفخمة تعبوا من عيشتهم المادية وخرجوا يلتمسون في الشوارع وعلى الأرصفة وفي الحدائق العامة وغيرها شيئاً يريحهم فلم يجدوا ذلك أيضا ويريدون أن يعودوا إلى البيوت ولكنهم قد جربوها فهم يسألون عن السبيل إلى بيوتهم مع وجود الطمأنينة والرضا فقلت لزميلي الدكتور- وهو الذي يترجم بيني وبين محمد أشرف قل له يدعوهم إلي فعندي بإذن الله السبيل الذي يعيدهم إلى منازلهم مع وجود الرضا والطمأنينة. وكنت جادا في ذلك ومتيقنا أنهم لو سمعوا مني شرح كلمة التوحيد وبعض ما تقتضيه من طاعة الله والصلة به لتحولوا من ضائعين إلى مرشدين ولكن أخانا محمد أشرف أجاب بأن هؤلاء وصلوا إلى درجة من القناعة التي لا تسمح لهم بأن يسمعوا من أحد من المجتمع أي نصيحة لأنهم لم يخرجوا إلى هذه الحال إلا بعد أن يئسوا من إصلاح هذا المجتمع وهم ذوو عنف فقد يضربون من يحثهم فحوقلت ودمعت عيناي حسرة على انحطاط المسلمين الذي خسر به العالم كما قال الأستاذ الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟، وبدأت أتأمل عنوان هذا الكتاب من جديد مع أني قد قرأت الكتاب مرارا وبدأت أشعر بعاطفة المؤلف وتخيلت أنه أسال دمع عينيه مع حبر قلمه عندما كتب هذا العنوان.

مستنقع اسن:

ص: 279

واصلنا السير إلى منطقة (وستئند) فرأيناها فعلا تختلف عن الأماكن الأخرى التي مررنا بها في المدينة.

وكان أشرف يقرأ بعض الإعلانات المكتوبة على بعض المباني ويخبرنا بمعناها وأنها لا حظ من أن أسجلها هنا بقلمي وكان يقول لنا أن أموال الأثرياء في الشرق الأوسط تنفق بين هذه الجدران وأن هذا المكان من أهم الأماكن التي ينطلق منها تحطيم أخلاق المسلمين في كل مكان وأن اليهود هم الذين يسيطرون عليه، ولقد ضقنا ذرعا بالمناظر القذرة والمشكلة أني كنت أرتدي اللباس العربي، والعرب الساقطون معروفون بالتردد على هذا المكان، لذلك أشعرت الأخ محمد أشرف أننا في حاجة إلى الذهاب إلى المركز الإسلامي.

وفي هذا المكان القذر رأينا بعض المطاعم التي كتب عليها أنها تقدم الطعام الإسلامي فتعجبت وسألت أشرف أحقا هذا أم أنها مصيدة لمن بقي عندهم شيء من الصلاح يترددون على مثل هذا المطعم فتصطادهم حبائل الشيطان فأجاب أن هذا هو الصحيح.

المركز الثقافي الإسلامي:

ص: 280

ثم ذهبنا إلى المركز الثقافي الإسلامي الذي يحتوي على مسجد كبير بطابقين: أحدهما للرجال والآخر للنساء، وبه دورات مياه واسعة ونظيفة ومجهزة، ومكتبة، وبه مكاتب إدارية. وتعجبنا عندما رأينا بعض الفتيات يعملن في مكاتب المركز الإسلامي فقيل لنا إنهن مسلمات بريطانيات ولابد لهن من عمل وعملهن في مكاتب المركز أولى من عملهن في أماكن أخرى، هكذا قيل وأرى أن مثل هؤلاء الفتيات إذا لم يوجد من يعيلهن شرعا أن تفتح لهن أبواب عمل أخرى ينفعن فيها أكثر مثل دار الحضانة لأبناء المسلمين وروضة أطفال وما شابه ذلك وهناك بقينا فترة ننتظر حتى جاء أخونا الكريم الدكتور سيد متولي الدرش إمام المسجد، وعندما رآنا رحب بنا وأدخلنا معه إلى مكتبه، وبدأنا التعارف كما زرنا الأخ مدير المركز الدكتور زكي بدوي وكانت الجلسة مع الأخ الدكتور سيد طويلة عرفنا من خلالها بعض أعمال المركز، والحقيقة أنها في نظري محدودة جداً على رغم أن منظر المسجد والمكاتب الإدارية يعطي انطباعا بأعمال أكثر، وذكر لنا الأخ سيد أن الجاليات الإسلامية في بريطانيا كثيرة وأعدادها كثيرة، وأنها في أمس الحاجة إلى مديد من العون لها بفتح مدارس لأبنائهم وبناء مساجد وأئمة ومدرسين ودعاة.

وذكر أن هناك من يقوم بشيء من الدعوة والتبليغ، كالباكستانيين الذين يبذلون جهودا طيبة، ولكنهم ليسوا على المستوى المطلوب في فهم المشكلات المعاصرة والأحزاب المعادية للإسلام وشبهاتها، وفي نفس الوقت عندهم تعصب للمذهب الحنفي ولا يتعاونون مع من يخالفهم في آرائهم وطلب منا الدكتور سيد أن نبلغ المسئولين في المملكة العربية السعودية أنه ينبغي أن تبذل جهودا أكثر في الدعوة إلى الله، ومن أهم وسائلها: المدارس والمدرسون والأئمة المزودون بالعلم والمربون على أساليب الدعوة، فوعدناهم بأننا سننقل ذلك.

جولة سريعة في بعض معالم لندن:

ص: 281

بعد ذلك اتصل أخونا محمد أشرف حياة بأحد أصدقائه، المدعو شيهان حسين الذي يدير إحدى محطات القطار في لندن وأخبره بوجودنا، والظاهر أنه كان علم عني في الجملة بمصاهرتي الأخ أشرف فقال له شيهان: انتظروني سآتيكم بعد قليل، وجاءنا فعلا بسيارته، وأخذنا للتجول في بعض الأماكن المشهورة في لندن.

وكان مرورنا سريعا، وقد لا ننزل من السيارة في بعض الأماكن فمررنا بحديقة هايدبارك التي خصص جزء منها لحرية الكلمة والنقد، إذ يأتي إليه من يريد ويلقي ما يشاء من الكلام حتى يفرغ كل ما في جعبته دون أن يمس بأذى ولو كان كلامه في الملكة أو رئيس الوزراء أو أعضاء البرلمان أو غيرهم وليس له كل ذلك خارج هذا الجزء من الحديقة- وبالمناسبة فقد كان فندق لندن قريبا منها.

ثم ذهبنا إلى مبنى مجلس الوزراء وتجولنا حوله، وكذلك مباني البرلمان ثم مقر الملكة الذي لا يوجد في باب حائطه حراس، وإنما حارس أو حارسان في باب القصر والناس يحومون حوله ويصورون (والظاهر أنه لابد من حراس غير ظاهرين) وهناك وقفنا على جسر ووترلو.

ومررنا بالبرج الذي أقيم عليه تمثال نلسن تخليدا لذكراه وتحيط به تماثيل أخرى لبعض زعماء بريطانيا، كما تحيط به تماثيل الأسود، والمياه تتدفق من كل جانب.

ولا أدرى متى يسمع صوت المسلم الذي يحطم تلك التماثيل وهو يقول: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة؟

إلى منزل أشرف:

وبعد جولة في شوارع لندن اصطحبنا الأخ محمد أشرف إلى منزله في مدينة لوتن- إحدى ضواحي لندن في الشمال منها- وتبعد عنها بثمانين كيلو مترا وكان قائدنا الأخ شيهان حسين الذي بلغت سرعة قيادته في بعض الأماكن أكثر من مائة وأربعين كيلو في الساعة.

ص: 282

وهناك نزلنا ببيته الصغير ذي الطابقين: الطابق الأول فيه غرفة الاستقبال والمطبخ، والثاني فيه غرف النوم وبيت الماء والحمام وأخذ يقدم لنا أبناءه عمر وإخوانه وأخواته فسلموا علينا كأنهم يعرفوننا من قبل وتحلقوا حولنا فذكروني أنا وزميلي الدكتور بأبنائنا الذين تركناهم قبل يومين، وسنغيب عنهم أكثر من شهر، وكأن الأولاد أحسوا بعواطفنا فلم ينفضوا عنا، لاسيما عندما عرف الكبار منهم صلة الرحم والمصاهرة بيننا، وبدأنا المذاكرة مع الإخوة في أمور الإسلام ووجوب التمسك به وحفظ الأبناء من تيار الكفر الجارف، وأن العمر الحقيقي للمسلم هو الذي يقضيه في طاعة الله.

على من تقع المسئولية؟

فاعترف الإخوة بذلك، ولكنهم قالوا: نحن رجال أعمال لا نعرف الإسلام معرفة تمكننا من تعليم أبنائنا، وليس عندنا الأوقات الكافية لنكون معهم فلابد من مساعدة الجاليات الإسلامية هنا بالمدرسين وأئمة المساجد والكتب التي تشرح مبادئ الدين الإسلامي. ولابد من تكرار الزيارات لنا من العلماء لتذكيرنا ودلالتنا على ما يمكن القيام به، وإنا نحملكم المسئولية هذه لتنقلوها إلى المسئولين في المملكة العربية السعودية التي لم تبق دولة في العالم مثلها في التمسك بالإسلام والدعوة إليه، وقد أغناها الله بالإمكانات التي تستطيع بها أن تغزو العالم كله بالإسلام، فوعدناهم بأننا سننقل رغبتهم ولكنهم يجب أن يعملوا شيئا بأنفسهم، وإن كان من الواجب مساعدتهم.

وقدم لنا أخونا طعام العشاء الذي أعد في المنزل، وهو يذهب على دراجته النارية إلى مكان بعيد لشراء اللحم الحلال الذي ذبحت دابته على الطريقة الإسلامية، فكنا نتناول طعاما لا نفرق بينه وبين طعام بيوتنا.

ص: 283

وبعد مذاكرة ونقاش حول الأمور الإسلامية استأذن الأخ شيهان حسين ليعود إلى لندن ويدعنا ننام في بيت محمد أشرف، وكنا قد تعبنا في نهار ذلك المساء حيث كنا نجري كما يجري البريطانيون أو أقل قليلا وتنقلنا بالقطار لجهات متعددة ولم نذق النوم بعد أن صلينا الفجر، بل إننا في اليوم السابق كله لم ننم، وفي الليلة الماضية نمنا قليلا جدا لذلك كله كان نومنا عميقا طول الليل.

وداع الصغار:

وفي يوم الثلاثاء الموافق 22/ 7 نهضنا من النوم متأخرين فصلينا الفجر وكان قد أعد لنا طعام الإفطار فأفطرنا، ومر بنا أولاد محمد أشرف الصغار يودعوننا للذهاب إلى المدرسة.

من دخل بلادنا حمر:

وكأننا تأخرنا قليلاً عن موعد الحافلة التي تقف عند باب المنزل لتوصلنا إلى محطة القطار الدنيا، فخرج محمد أشرف يجري قبلنا ونحن نجري أيضا والناس يجرون من كل جانب رجالا ونساء وأطفالاً لإدراك الحافلة في شارع مجاور لمنزل أشرف. لقد ألفنا الجري مع البريطانيين، وإنها لعادة طيبة أن يحافظ الإنسان على وقته.

عمارة وخسارة:

ولكن هل ترى هؤلاء المهرولين للحفظ على أوقاتهم، حقا يحافظون على أوقاتهم؟

نعم: إنهم لا يفوتون أوقات الأعمال، ولا الأوقات المعدة للطعام، ولا الأوقات المعدة للنوم، ولا الأوقات المعدة للقراءة في غيرها، بل كل عمل يعطونه وقته، ولذلك ترى ثمارا جبارة مادية لأعمالهم ونكران ذلك يعتبر حماقة وظلما.

ص: 284

ولكن القوم- وهذه حقيقة كسابقتها- بدون أعمار في نظر الإسلام لأن العمر الحقيقي هو الذي يفنى في طاعة الله- ومن طاعة الله تلك العمارة المادية الضخمة للدنيا، من شق شوارع وبناء جسور وتيسير مواصلات تحت الأرض وفوقها على ظهرها وفي أجواء السماء، وفي أعماق البحار ومن دقة في المواعيد، وسرعة في المعاملة، وغير ذلك مما يشهد به الواقع- ولكن هذه الأمور كلها لا تكون طاعة لله إلا على أساس الإيمان به وطاعته في أمره ونهيه، وإقامة العدل في الأرض، ومحبة الخير للبشرية ودعوتها إلى ما ينفعها أي الإسلام الكامل لله، وهذا ما يفقده القوم، لذلك أقول إنهم محافظون على أوقاتهم، ولكنهم ضيعوا أعمارهم.

لوعة الفراق:

وكان الأخ محمد أشرف يحس بلوعة الفراق لاقترابه، وكنا نرى ذلك على وجهه، وفعلا ودعنا وودعناه، وعيناه تغرورقان وأوصانا بالحذر على نقودنا وجوازاتنا وتذاكر سفرنا في الغرب لأنه يعج بالمجرمين فشكرناه على ذلك ودخلنا إلى البوابة، وكنا نظن أننا سنخرج إلى باحة المطار لتستقبلنا حافلة تنقلنا إلى الطائرة، ولكنا فوجئنا بوجودنا في مقدمة الطائرة والمضيفة تنظر في بطاقات الدخول وتشير إلى مقعدينا، فعرفنا أن الطائرة تقف بجانب ممر مصنوع بدل السلم لا يسمح للشمس أن تلفح الراكب ولا للمطر، -وهو هناك كثير- أن يبلله. ولعلنا نجدها قريبا في مطاراتنا.

دلتنا المضيفة على مقعدينا أنا وزميلي، وقد وضعوا بطاقة وراءنا بمقعدين أو ثلاثة كتب عليها: ممنوع التدخين، وفاء بالشرط الذي اشترطناه.

عناية المضيفين بالركاب:

وكان إقلاع الطائرة من مطار لندن الدولي في الساعة الثانية عشرة والدقيقة الثلاثين، وكان الاتجاه إلى الغرب مع ميل قليل إلى الجنوب، والرحلة كلها كانت فوق المحيط الأطلسي:(بحر الظلمات سابقا) .

ص: 285

وبدأ المضيفون يقدمون للركاب الهدايا التذكارية وهي عبارة عن محفظة من البلاستيك بها قارورة عطر وجوارب متينة يلبسها الراكب بدلاً من النعلين لطول المسافة وأشياء أخرى وعندما بدأت أتصفح الجريدة فوجئت بأن زعيم اليمن الجنوبية سالم ربيع قد قتل وأن معارك تدور رحاها بين أعضاء الحزب الشيوعي الحاكم في عدن فذكرت بيت الشعر المشهور:

حقا وكل كاسر مكسور

حجج تهفات كالزجاج تخالها

وبدءوا يسألوننا بصفة خاصة عن الطعام الذي نريد، لأنا قد طلبنا من قبل طعاماً حلالاً، وأخذ زميلي يشرح ما نريد وما لا نريد والمضيفة تصغي وتفهم منه كلمات وتشكل عليها أخرى فتستفسر عنها إذا ظنت أنها فهمت منه ذهبت وجاء المضيف الآخر ليتأكد من صحة ما نقل ويؤكد اهتمامهم بتقديم ما نريد. وإنهم ليتفاهمون معنا وهم يستغربون من خوفنا وشكوكنا في أطعمتهم وأشربتهم وكنت أقول لزميلي أخبرهم أنا مسلمون وأن ديننا يحرم علينا ما فيه ضرر بأجسامنا أو عقولنا كالخنزير والخمر وكانوا إذا ذكر الإسلام أبدوا اهتماماً بنا وهزوا رؤوسهم تعجبا.

كرماء بالخمر بخلاء بالسكر:

وقدم الطعام، وجاء دور الشراب، فكانت قوارير الخمر وكؤوسها تحدث رنيناً والمضيفون والمضيفات يترددون على الزبائن كلما رأوا كأسا فارغة ملأوها لصاحبها ليشرب مرة أخرى وهم يقدمون للراكب أجود أنواع الخمر في مثل هذه الرحلات الطويلة، لا سيما ركاب الدرجة الأولى كما أنهم يسقونهم حتى لا تبقى بهم حاجة للسقي.

ص: 286

أما نحن فقدموا لنا كوبي ماء وكوبي شاي، وانتهى الأمر فبقي المضيفون متضايقين من الحالة التي نحن عليها، وهي أن الركاب أخذوا حقوقهم وزيادة، أما نحن فشرابنا ماء وشاي فقط، فكانوا يترددون علينا ويقولون ماذا نفعل لكم، هل تحبون أن نعطيكم شيئا؟ فيجيب- زميلي ثنكيو، أي شكرا، وهنا وقعت نكتة بين الزميل وبين المضيف: الغربيون لا يكثرون من السكر في الشاي، وزميلي سوداني - أصلا- مصري - مهاجرا ومصاهرة، يحب أن يكون السكر كثيرا، فجاء المضيف بكوب الشاي ومعه علبة فيها أكياس السكر فأعطى الزميل كيسا فقال له: أعطني آخر فأعطاه فقال: وآخر فأعطاه، وما كان موجودا غير الآخر فأعطاه وقال له: المطعم قد أقفل فلا تطلب كيسا آخر، مع استغرابه لأخذ هذه الكمية الكبيرة في نظره لأنه لم يزر مصر ولا السودان كما يبدو.

إنعام وكفران:

وبعد تناول طعام الغداء وإكثار الركاب من الشرب أخذت الصيحات تتعالى والأصوات ترتفع فخشينا أن يقوم هؤلاء الناس كلهم يتضاربون فيما بينهم وقد لا نسلم منهم إذا غابت عقولهم ولكن الله صرفهم عنا فذهبوا إلى الدور الثاني وتركوا لنا المكان.

ثم أخذت المضيفة تنزل أغطية النوافذ لعرض فيلم الرحلة، وأنا من طبيعتي أحب أن أرى مناظر خلق الله على طبيعتها فأسرعت بقفل نصف النافذة الأعلى وأبقيت نصفها الأسفل وعندما مرت بقربى خشيت أن تحرمني تلك الفتحة فقلت لزميلي أخبرها أني أحب أن أتمتع بمنظر البحر والسحاب والجزر إن وجدت فأخبرها فتركتني وشأني.

البوصلة أخافت المضيف:

وكانت بيدي بوصلة أعرف بها الاتجاه وبها مفاتيح الزميل ورآها المضيف وأظنه من رجال الأمن، فلما رآني أنظر إليها بين آونة وأخرى شك في أمرها ولعله ظنها من المفرقعات الموقوتة فجاء إلى زميلي يسأله ما هذا الذي بيد رفيقك فأجابه الدكتور فاطمأن وسكت.

ص: 287

وعندما بدأنا نقترب من مدينة نيويورك بدت بعض الجزر ذات الأشكال الهندسية العجيبة، وبدت بها مرتفعات ووديان وكانت كلها خضراء.

في مطار نيويورك:

وهبطت الطائرة في مطار نيويورك الدولي في الساعة السابعة والدقيقة الخامسة بتوقيت بريطانيا، فكانت مدة الطيران على المحيط الأطلسي ست ساعات وخمسا وثلاثين دقيقة، والفرق الزمني بين لندن ونيويورك خمس ساعات، إذ كانت الساعة في نيويورك وقت هبوط الطائرة الثانية والدقيقة الخامسة والثلاثين.

ودخلنا قاعة تسلم الأثاث فأخذنا أثاثنا ومررنا في صف بالجمرك الذي لم يمض عليه إلا قليلا وقد انتهى من التفتيش وكان يفتش أثاث الركاب بدقة ولكنه لم يفتح حقائبنا إلا الحقيبة اليدوية التي كانت بيد الزميل، ونظر في الجوازات فوجد البطاقة التي كتبت في الطائرة ثم خرجنا فوجدنا الأخ ضاحي الحكيم في انتظارنا وهو شاب فلسطيني يحمل الجنسية الأمريكية ويعمل نهارا وما كان يعرفنا ولا نعرفه. ولكن زوجة الحاج أحمد بابا السوداني التي اتصلنا بها من لندن يوم الاثنين 21/ 7 وهي في أنديانا قد اتصلت بصديقة لها في نيويورك وطلبت منها تكليف من يستقبلنا ممن يجيد اللغة العربية فجزاها الله خيرا على اهتمامها وكثر من النساء أمثالها، فإن وجود شخص من أهل البلد يدل النازل الجديد من أهم الأمور، وإذا تذكرنا فندق لندن عرفنا نعمة وجود الأخ ضاحي في استقبالنا.

وكان الأخ ضاحي قد حجز لنا حجرة.. في فندق تودر الذي يقع قرب مبنى هيئة الأمم المتحدة، وبعد أن نزلنا في الفندق ودعنا وأعطانا رقم هاتف منزله لنتصل به إذا دعت الحاجة، وفهمنا منه أن والده موظف في الأمم المتحدة وأن أخته إحدى الدليلات في هيئة الأمم المتحدة إلا أن أباه في جنيف.

في مكتب رابطة العالم الإسلامي:

ص: 288

وفي يوم الأربعاء 23/ 7 اتصلنا بمكتب رابطة العالم الإسلامي في نيويورك فوجدنا شقيق الأخ مدير المكتب أحمد صقر وأخبرناه أننا في الفندق المذكور وأنا نريد زيارة المكتب ولكنا لا نعلمه فقال: إن المكتب قريب منكم جداً ولكن انتظروا دقائق في نفس الفندق، فانتظرنا خمس دقائق تقريباً فجاءنا وسلم علينا واصطحبنا معه إلى المكتب.

وهناك تم اللقاء بالأخ الدكتور عثمان أحمد الذي جلس معنا طويلا وشرح لنا أحوال المسلمين في أمريكا وذكر لنا بعض ما يقوم به المكتب من الأعمال في هيئة الأمم المتحدة، ومساعدة بعض المسلمين في الحدود المتاحة له، وأن المكتب في حاجة إلى دعم أكثر وصلاحيات أوسع، لأن المشاكل التي تتطلب الحلول للمسلمين في أمريكا كثيرة لا يفي بها المكتب ولا المراكز الإسلامية الأخرى بوضعها الحالي.

وضرب لنا أمثلة بالمسلمين الذين يدخلون السجون ويتصلون بالمكتب يطلبون العون، كما أن المشاكل الأسرية التي تحدث للمسلمين تستدعي تقديم بعض العون والمكتب لا يستطيع أن يقدم إلا في حدود ضيقة جدا بعد زمن طويل من الكتابات والمعاملات الرسمية.

وليت المسئولين عن المراكز الإسلامية يعلمون ما تقدمه المراكز المسيحية وغيرها من المعونات لأتباعهم ويتعظون بذلك وهم أهل الحق وغيرهم أهل الباطل.

في مبنى هيئة الأمم:

كما التقينا ببعض أعضاء المكتب وحصل التعارف بيننا وبينهم. واصطحبنا الأخ أحمد أسعد وهو من موظفي المكتب فلسطيني الأصل هاجر إلى أمريكا بعد معركة دير ياسين بعد أن ذاق البطش اليهودي في غياهب السجون وهو الآن أمريكي الجنسية، اصطحبنا إلى مبنى هيئة الأمم المتحدة، وهو بناء ضخم وبه مكتبة فيها كتب باللغات المختلفة وبها وثائق حكومية وثائق جماعات وأقليات ومشردين ولكن هذه الوثائق لا يمكن الإطلاع عليها إلا بترخيص وشروط.

ص: 289

وعند مرورنا ببعض طوابق المبنى رأينا صورا لبعض زعماء العالم ومفكريه وفلاسفته، كما رأينا صورا للمشردين من الأقليات كالفلبينيين والإرتريين وغيرهم وتظهر في صورهم حالة البؤس والتشرد والجوع والعري والمرض يعلق هذه الصور هناك الجمعيات المضطهدة لاستجلاب العطف العالمي الوهمي الذي يضم هذا المبنى الكبير.

ومن الأماكن التي زرناها في هذا المبنى: مجلس الأمن الذي يتلاعب بأمن العالم ما عدا دول النقض. وهناك رأينا قاعة كبيرة ذات مدرجات وفي وسط صحن القاعة وضعت مقاعد الأعضاء الدائمين وتحيط بها مقاعد من أستطيع أن أسميهم بالمتفرجين من دول العالم.

فتأملت في القاعة قليلا لآخذ في نفسي صورة عن المكان الذي تدير منه دولتان العالم كله ويتلاعبان بأمنه واستقراره، ثم ذهبنا لنرى مجلس هيئة الأمم المتحدة فوجدنا في الباب الخارجي جنديا يعتذر لأن الهيئة مجتمعة في القاعة وأصر الأخ أحمد أسعد علينا لتناول وجبة الغذاء في مطعم المبنى فتناولنا الطعام وعدنا إلى المكتب.

ص: 290

وكنا قبل أن يذهب إلى مبنى هيئة الأمم المتحدة عرفنا أن الأخ الشيخ أحمد شيت الرفاعي النيجيري الذي تخرج في الجامعة الإسلامية قبل ثلاث سنوات موجود في نيويورك يدعو إلى الله على نفقة رابطة العالم الإسلامي ويعمل مع البلاليين فاتصلنا به في الهاتف وعندما عرف أن الذي يكلمه عبد الله القادري صاح بأعلى صوته قائلَا الله أكبر ووعد بسرعة المجيء إلى المكتب، وعندما عدنا إلى المكتب وجدناه ينتظرنا وهنا شرح لنا الأخ الدكتور عثمان أحمد قضية المرأة النيجيرية المسلمة الأصل والتي اضطرت للزواج برجل مسيحي في أمريكا لعدم وجود معيل لها وجهلها بدينها، وأن زوجها أصطحبها معه للعمل في بعض الشركات الأمريكية في أفريقيا وأنجبت له أربعة أولاد، وأنها اتصلت ببعض علماء المسلمين وعندما عرف أنها كانت مسلمة الأصل ذكرها بأهمية دينها ووجوب رجوعها إليه والحرص على أن يكون أبناؤها مسلمين بدلاً من تنصيرهم.

وهنا بدأ النزاع بينها وبين الزوج وبعض أهله، إذ كان يطلب منها أن تأخذ أولادها كل يوم أحد إلى الكنيسة، وهي تأبى وتصر على دينها وعلى جعل أبنائها مسلمين، ثم اضطرت للهرب إلى أمريكا بأولادها، لأنها تحمل الجنسية الأمريكية، وهو يهدد بجعل الأولاد نصارى بالتعاون مع بعض أهله.

وأن المرأة تستصرخ ضمائر المسلمين في الجامعات الإسلامية لتخصيص منح دراسية لأبنائها حتى ينجوا من دنس العقيدة النصرانية الفاسدة.

وقد وعدت الأخ عثمان أحمد أن أنقل للجامعات في المملكة هذا الأمر وأسعى في إنقاذ هؤلاء الأولاد، إضافة إلى السعي في مساعدتها مادياً من بعض أهل الخير، إذ أنها الآن تعاني من ضغط النصارى عليها بلقمة عيشها.

ص: 291

كما رأيت امرأة تحمل طفلها تطلب المساعدة بقيمة تذاكر سفر لها ولابنها لتسافر إلى زوجها الذي يواصل دراسته في السودان على منحه - لعلها في جامعة أم درمان الإسلامية - وقال لي الأخ عثمان أحمد: إن مشاكل المسلمين هنا لا حدَ لها، وهم يلجأون إلى المراكز الإسلامية باسم الإسلام يطلبون المساعدة، كما يلجأ المسيحيون إلى المراكز المسيحية إلا أن المراكز المسيحية عندها من إمكانات المساعدة المادية ما لا يوجد عند المراكز الإسلامية أقل نسبة منه ولذلك نقع في حرج، فلم يسعني إلا أن أحوقل، لأني لا أقدر أنا أن أعمل شيئا أيضا.

جولة في مدينة نيويورك:

بعد ذلك اصطحبنا الأخ أحمد الرفاعي في سيارته للتعرف على بعض مناطق نيويورك، وأنى لنا أن نمر بمثل هذه المدينة الكبيرة التي تعتبر العاصمة التجارية للولايات المتحدة الأمريكية، ونحن لم يبق أمامنا إلا مساء هذا اليوم في هذه المدينة.

في عمارة:

ولكن الأخ أحمد اختار لنا زيارة ثلاثة أماكن: مكان سياحي تجاري عالمي مشهور، وهو العمارة العالية الثانية في الارتفاع التي تبلغ طوابقها اثنين ومائة طابق، فذهبنا إليها واشترينا التذاكر اللازمة للصعود، وهنا رأينا مئات من الناس صاعدين وهابطين، والمصعد الواحد يتسع لما لا يقل عن خمسين شخصاً وهو في غاية من السرعة، فصعدنا إلى أعلى العمارة هذه وأخذنا ننظر من كل جانب إلى أنحاء مدينة نيويورك، وكنا نرى الناس، والناس هناك ذو أجسام ضخمة مثل البهم أولاد الغنم الصغار أو أصغر، ولكن المصيبة كانت في قوة الهواء الذي كاد يأخذ الملابس الساترة، فما بالك بغيرها؟.

في حي هارلم:

ص: 292

ثم نزلنا لنذهب إلى المكان الثاني الذي اختاره لنا الأخ أحمد ألا وهو (هارلم) التي يسكنها الزنوج فقط. وكانت مباني هذه المنطقة مساكن لليهود وملكاً لهم، ولكنهم غادروها عندما جاء مشروع إسكان الزنوج فيها. لماذا اختار لنا الأخ أحمد هذه المنطقة بعد أن كنا في منطقة تجارية وسكنية راقية، يرى بريق عماراتها ولمعانها وهي في غاية من النظافة والنظام والهدوء على رغم كثرة الناس بها. إنه أراد أن يرينا كيف يعيش هؤلاء السود المساكين في مدينة نيويورك فماذا رأينا؟ لقد رأينا بيوتا محطمة النوافذ والأبواب، قد اشتعلت فيها الحرائق ورأينا الزنوج وهم يتسكعون في الشوارع مثل المجانين منهم السكران ومنهم الشبيه بالسكران.

رأينا أناسا لا أظن أن يجد السائح أشباههم في أدغال أفريقيا من البؤس والحرمان والشقاء، إنهم يتجمعون على أبواب البارات ويتراقصون وهم قيام أو قعود، ومنهم من يضرب الدفوف المكسرة ويرقص عليها.

ولا أستطيع أن أصف ما رأيت إلا بالبؤس والجهل والحرمان، ولقد كان الأخ أحمد لا يقف بسيارته إلا ريثما يتحرك، لأن المنطقة منطقة إجرام وكان يخشى علينا من أجل لباسنا.

عندئذ قلت: هل حقا أنا في أمريكا؟ هل حقا أنا في نيويورك؟ هل حقا أنا بجانب مكرفون كارتر المنادي بحقوق الإنسان في العالم؟، هل حقا أنا بقرب هيئة الأمم المتحدة التي كنت في مبناها صباحا؟ كل تلك الأسئلة دارت بخاطري وأنا أعبر تلك الشوارع المخيفة.

منبع الإجرام:

ألا إنها منطقة إجرام مشهورة فعلا، ولكن إجرام من؟ أهو إجرام السود؟ أم أن الأصل هو الإجرام الأبيض الذي يقتل الإنسان وينادي بحقوقه؟

لقد شبهت إجرام السود وإجرام البيض بالتشبيهين التاليين:

إجرام البيض هو بحيرة من الأقذار: عذرة الناس وأبوالهم، وإجرام السود على الرغم أنهم هم المباشرون - ريح ينقل تلك الروائح إلى أنوف الناس، فأي الإجرامين أشد عند أولي الألباب؟.

ص: 293

قارن:

ثم مر بنا الأخ أحمد ونحن في طريقنا إلى منزله في منطقة سكنية سماها لنا، ولكني لم أحفظ اسمها، ذات عمارات متناسقة وشوارع غاية في التنظيم وهدوء عجيب، وهي تبعد قليلا عن منطقة الزنوج وذكر أن هذه المنطقة يسكنها الأغنياء والأسر الراقية وعلق الأخ أحمد على ذلك فقال: قارنوا بين هذه المنطقة وبين منطقة (هارلم) ، وهذه المنطقة لا توجد بها بارات. أما منطقة (هارلم) فإن أغلب عماراتها المتهدمة توجد بها بارات. وهل خلق هؤلاء المساكين عند الرجل الأبيض الذي أفني عمره للدعوة إلى حقوق الإنسان لغير البارات والتسكع؟

كل شيء هناك بالدولار حتى الأمن وموقف السيارة:

وصلنا إلى جانب العمارة التي يسكنها الأخ أحمد فإذا هو يخرج مفتاحا ويدخله في قفل بجانب الجدار، وهو في سيارته فانفتح باب كبير أمامه يبعد عن موقع السيارة بمقدار عشرة أمتار فسألنا: ما هذا؟ فأجاب هذه مظلة السيارات لسكان العمارة يدفع صاحب السيارة أربعين دولارا ويستلم مفتاحا يدخل سيارته ويخرجها متى شاء حفظا لها من الشمس ومن الثلج أيام الشتاء وكذلك من السرقة وبعد دخوله ينغلق الباب بنفسه. وهكذا..

دخلنا منزله وصلينا المغرب وتحدثنا معه قليلا وسألناه عن مدى كفاية راتبه له فقال:

المنزل أجرته ثلاثمائة دولار والهاتف والكهرباء تكلف تقريبا مائة دولار وموقف السيارة يكلف أربعين دولار، ومواقفها في الشوارع كما رأيتم والذي رأيناه أن المواقف في الشوارع كلها بالأجرة فوقوف السيارة ساعة بثلاثة دولارات وقد تزيد وقد تنقص حسب المكان. ولا يجد موقفا لسيارته بدون أجرة، وهذا قد يفسر جزءا من الرأسمالية.

مقارنة مخجلة:

ص: 294

وقفنا خمس دقائق تقريبا ولا يزال نفسنا في شدته من الجري فإذا الحافلة تقف بجانبنا فصعدنا وأخذنا مقاعدنا، وإنهم على سرعتهم تلك لا تجدهم يتزاحمون مطلقا في جميع معاملاتهم فالأول يأخذ مكانه ولا يتقدم عليه أحد، وهكذا الذي يليه دون أن يمس اللاحق السابق، أو يكلمه كلمة واحدة، بخلاف الحال عندنا فإنك تجد العدد القليل يتزاحم ويدفع كل واحد الآخر ويكذب بأنه أسبق من غيره، لذلك تجد الصف الطويل في بلاد الغرب ينتهي بسرعة مذهلة، وترى أقل من ذلك بكثير في الشرق يضيعون وقتهم في التدافع والخصام وتحطيم أبواب الحافلات والكذب.

سارت الحافلة، وأخونا أحمد سعد يشرح لنا بعض المعالم على يمين الطريق وشمالها: هذا مصنع كذا، وهذا مبنى كذا، وهذا مرقص، وهذا بار، والأرض كلها خضراء ما عدا الطريق والحيوانات تنتشر في المزارع.

محطات القطار:

وعندما وصلت الحافلة إلى المحطة أخذ الناس في الخروج منها والدخول إلى محطة القطار مسرعين، فما هي إلا لحظات حتى قطعنا التذاكر ووقفنا على جانب خط القطار، فإذا هو مقبل يجر عرباته الكثيرة فوقف ودخل الناس من كل باب وكل واحد أخذ مكانه، إن شاء أن يرتاح من رائحة التدخين فلكارهي التدخين أجنحة أخرى وهكذا نجد مواصلات الغرب في القطار وفي الطائرة وفي الباخرة وفي السيارة يخصصون أماكن منها لغير المدخنين. إنهم يحترمون - على الأقل- المال الذي قدمته من أجل راحتك فعيب عليهم أن يقلبوا لك ظهر المجن فيزعجوك.

في قاعات المطار إلى نيويورك:

ص: 295

وصلنا إلى المحطة الرئيسية للقطار التي كنا بالأمس أودعنا فيها حقائبنا فاستلمنا الحقائب بمجرد إبراز البطاقة، وذهبنا إلى المطار إلى الشركة التي تم الحجز فيها من المدينة المنورة قبل سفرنا بأسابيع فضغطت الموظفة على زر آلتها فأعطتها المعلومات الكافية عنا فأخذوا العفش، والعفش لا يوزن في جميع دول الغرب إلا إذا كان كثيراً للشحن. وذهبنا نتجول في أسواق المطار فاشترينا بطاقات تذكارية وكتبنا رسائل بها إلى الأولاد، ثم ذهبنا نلتمس لعلنا نجد بعض الصحف العربية لنتابع أخبار اليمن الشمالية التي اغتيل رئيسها يوم سفرنا من المدينة إلى جدة يوم السبت الموافق 19/ 7. فلمحت جريدة عربية، فأخذتها دون أن أنظر إلى عناوينها لأننا كنا على وشك التوجه إلى بوابة خروجنا.

ذكر أن التأمين الصحي له مبلغ، والتأمين على السيارة إجباري هذا عدا الطوري والنفقات اليومية والملابس والمحروقات الخاصة بالسيارة، والغلاء هناك فاحش جداً.

شكوى متكررة جديرة بالاهتمام:

وعندئذ بث الأخ أحمد ما عنده فشكا من الدين وعدم كفاية الراتب الذي يتسلمه من الرابطة، مع العلم أنه في بعض الأوقات يتأخر كثيراً عن موعده فيزيد الطين بله، وهذه الشكوى تكررت من جميع الإخوان الذين تعاقدت معهم رئاسة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ورابطة العالم الإسلامي لا سيما الذين عندهم عوائل.

ص: 296

وقد ضمنت ذلك التقرير الذي قدمته للجامعة عند رجوعي من هذه الرحلة، وإن من أهم ما يجب أن تعمله المؤسسات الإسلامية المسئولة سواء كانت في المملكة العربية السعودية أو غيرها كوزارة الأوقاف الكويتية أن تعيد النظر في رواتب الذين تتعاقد معهم وتبعثهم إلى بلدان الغرب أو اليابان لغلاء المعيشة هناك، ولا ينبغي أن يظهر الداعية المسلم بمظهر المستجدي حالاً، وإن لم يكن مستجديا بقوله، فالمبشرون يمنحون من الإمكانيات المادية ما لا يكفي راتب الداعي المسلم لعشر معشار راتب الفرد من المبشرين. وأيهما أحق بالإكرام والظهور بمظهر الغني عن الناس دعاة الحق أم دعاة الباطل؟ ألا هل بلغت؟

صوتك مسموع وحركتك منظورة وأنت في داخل منزلك:

وعند خروجنا من منزل الأخ أحمد اطلعنا على سر غلاء أجرة منزله فقال إن الساكنين هنا يتمتعون بالهدوء والحراسة الكاملة وأرانا صفة الحراسة.

الحارس يقعد في مكان خاص خارج العمارة داخل سورها وأمامه تليفزيون، وهو يرى على الشاشة كل سكان العمارة في داخل شققهم كيف؟ ركبت كاميرات في كل شقة، وهي تنقل الصورة إلى الحارس باستمرار والحارس مسلح، إذا ارتاب في شقة من الشقق عمل ما يجب عليه، فقلت للأخ أحمد: معنى هذا أنه يكشف عليكم في كل وقت، وأنتم عندكم عوائل فكيف تعملون؟

فأجاب أن في استطاعة صاحب كل شقة أن يغطي الكمرة التي في شقته فلا يستطيع الحارس أن يرى شيئا في الشقة.

واستطرد الأخ أحمد في موضوع الراتب فقال: إن السفير النيجيري عرض علي وظيفة في هيئة الأمم المتحدة براتب يكفيني ويزيد ويكون إيجار البيت والهاتف ومحروقات السيارة والتأمين الصحي وتذاكر السفر إلى البلاد كل ذلك على حسابهم، وزارني في البيت وألح علي كثيرا ولكني رفضت، لأني لا أريد أن أترك مجالا فضلته منذ بدأت أطلب العلم، وهو مجال الدعوة إلى الله.

ص: 297

أوصلنا الأخ أحمد إلى الفندق وودعنا على أن يعود إلينا صباح يوم الخميس الذي سنسافر فيه إلى أنديانا.

إلى المطار ثم إلى أنديانا بلس:

رتبنا أثاثنا ونمنا إلى الصباح، وبعد صلاة الفجر بقليل جاءنا الأخ أحمد فأنزلنا الأثاث وحاسبنا إدارة الفندق وسرنا إلى مطار نيويورك- مطار داخلي- عندما وصلنا إلى الباب الخارجي في المطار وجدنا من يتسلم منا الأثاث ويعطينا البطاقات ولم ندخل إلى موظفي الخطوط إلا بحقائب اليد.

وأخذ الموظف المختص التذكرة وعمل اللازم وناولنا بطاقة الدخول، وتجولنا قليلا في أسواق المطار. وكان زميلي الدكتور مغرما بمناظر كل بلد وهي متوافرة في المطارات، وغرامه بذلك انتقل إلي أيضا بحكم المجاورة، كما يقول علماء النحو، فاشترى لنا صورا مناظر نيويورك (إلى انديانا) وصعدنا بعد ذلك إلى الطائرة التي أقلعت صباحاً وكانت مدة الطيران ساعتين تقريبا بين نيويورك وأنديانا بلس. وكنت أنظر خلال زمن الطيران إلى الأرض، فلا أرى بقعة غبراء لا فرق بين جبال ووديان وسهول ومرتفعات. كل الأرض خضراء وبين كل مسافة وأخرى أرى قرية ذات شوارع منظمة وأرى أنهاراً جارية. فقلت: سبحان الذي فتح لهم أبواب الرزق، وسبحان الحليم الذي فتح لعباده هذه الأبواب وهم يجاهرونه بالمعصية في العقيدة والسلوك والشريعة.

في مطار أنديانا أمر غريب ولكن بعذر:

وعندما وصلنا إلى مطار أنديانا بلس كنا نتوقع أن نجد من يستقبلنا مباشرة عند نزولنا، لأن سفرنا أصلا إلى هذه المدينة من أجل المؤتمر وقد جاءت برقية خاصة من بعض المسئولين عن المؤتمر طلب فيها رقم الرحلة وزمن الوصول من أجل استقبالنا وأجيبوا على ذلك رسمياً من الجامعة الإسلامية برقيا وتم الاتصال بهم من لندن من دار الرعاية الاجتماعية هاتفيا.

ص: 298

فلم نكن نتوقع أن ننزل ولا نجد من يستقبلنا، فلما استلمنا الأثاث وأخذنا نلتفت هنا وهناك ولم نر أحداً انتظرنا ما يزيد عن ساعة إلا ربعاً، ثم اتصل الزميل بالهاتف فقيل له الذي يستقبلكم في الطريق وجاء فعلاً أحد شباب أعضاء اتحاد الطلبة المسلمين (وفيق العطار) حيث اصطحبنا إلى فندق في شمال غرب المدينة يسمى: رمادا.

صلاة الجمعة وافتتاح المؤتمر:

بقينا في الفندق بقية يوم الخميس وليلة الجمعة ويومها إلى قبيل صلاة الجمعة حيث جاءنا الدكتور منذر قحف ليصطحبنا لصلاة الجمعة، ويعتذر عن تأخرهم في استقبالنا بالمطار والفندق لأنهم في حالة إعداد للمؤتمر ولا يوجد أحد متفرغ للاستقبال لقلتهم.

كانوا قد فرشوا قاعة كبيرة في أسفل إحدى العمارات للصلاة فيها، كما استأجروا بعض قاعات كلية مجاورة للأْعمال الخاصة بالمؤتمر. خطب وصلى بنا الجمعة رئيس اتحاد الطلبة المسلمين، وهو طالب سوداني، وكانت الخطبة باللغة الإنجليزية، وبدأت أشعر بالضيق لجلوسي في مكان عبادة أسمع كلاماً لا أفهمه، وهو عبادة يجب الإنصات له، إلا أنني كنت أتخيل معاني الخطبة عندما يذكر الخطيب بعض الأعلام الإسلامية، من أشخاص وأماكن، كذكره: غار حراء وشعب أبى طالب وآل ياسر والحبشة ثم المدينة فعرفت أن الخطبة كانت تدور حول الدعوة ومحنة الدعاة وصبرهم ونجاحهم في النهاية.

ص: 299

وبعد الانتهاء من صلاة الجمعة ذهبنا إلى قاعة الاجتماعات العامة لافتتاح المؤتمر، فبدأ بتلاوة بعض آي القران الكريم. ثم كلمه الدكتور التيجاني عبد الرحمن أبو جديري السوداني الذي يعتبر من كبار أعضاء الاتحاد، بل كان يرأسه رسميا قبل ذلك ولا زال له حركته الفعالة في الاتحاد، ثم كلمة للدكتور منذر قحف الذي هو رئيس المؤتمر وقد انتخب مرة أخرى لرئاسته، وهو الذي تلا على الحاضرين منهاج سير المؤتمر وأسماء المتحدثين وعناوين البحوث التي ستلقى ملخصاتها. ثم دعينا لتناول طعام الغداء، وبعده رجعنا لمواصلة الاستماع إلى البحوث والمناقشات، وقد أسعفوني بمترجم، بعد أن هددت مداعباً بترك القاعة والعودة إلى الفندق لعدم استفادتي. فجلس بجانبي الأخ عمر الصوباني، وهو طالب أردني يحضر الماجستير في ولاية ديترويت، فكنت أتمتع بسماع الكلمات المقتضبة منه لسرعة تلاوة البحوث.

أما زميلي الذي كان يعتبر قائد السفر في اللغة فكان يجاهد ليدرك بعض المعاني بسماعه لنفسه، وليس في إمكانه أن ينقلها إلى غيره، لأنه إذا بدأ يترجم كلمة فسيفوت عليه ربع البحث، فتركته يجاهد لنفسه.

استمر الاجتماع والمناقشة إلى صلاة المغرب حيث ذهبنا لأداء الصلاة ثم رجعنا مرة أخرى لمواصلة العمل إلى أن صلينا العشاء، وتناولنا طعام العشاء وبعد ذلك سمح لنا بالعودة بعد جلسات طويلة لا سيما إذا تذكرنا طول النهار هناك الذي لا يقل عن خمسة عشرة ساعة في تلك الفترة.

وفي يوم السبت 26/ 7/ 98 بدأ الاجتماع من الساعة الثامنة صباحا واستمر إلى الساعة الثانية بعد الظهر تقريبا، ثم استؤنفت في الساعة الرابعة واستمر إلى الساعة العاشرة مساء، وهكذا كل يوم الأحد 27/ 7/ 98 الذي تم فيه اختتام الجلسات، قبل قراءة التوصيات والقرارات إلا أنه تم فيه انتخاب رئيس المؤتمر ومساعده..

ص: 300

وكنت من خلال الترجمة التي تعاقب عليها أربعة أشخاص أجد بعض المطبات التي أحتاج إلى الاستفسار والسؤال فيها، وكلما وجدت مطباً طلبت إزالته من الطريق. وهكذا.

مفتاح قفل البشرية الشهادتان:

وفي ختام المؤتمر طلبت فرصة لإلقاء كلمة ولم يسمح لي إلا بخمس دقائق، وكنت آسفا على هذا الضغط الشديد للوقت الذي سمح لي فيه بالكلام، فقد صبرت ثلاثة أيام متوالية على سماع كلام لا أفهم منه إلا النتف التي يلقى المترجم إلى كلماتها ثم يحال بيني وبين ثلاثين دقيقة على أكثر تقدير؟

ولكني استعنت بالله تعالى ووجهت للحاضرين كلمتي وخلاصتها أن جميع العلوم لو طوعت في إصلاح الإنسان الفرد والأسرة والمجتمع لا يسعها أن تصل إلى تلك الغاية ما لم يكن الإصلاح الأول بكلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه الإصلاح بهذه الكلمة يجعل الإنسان عبدا وحده، ولا يتلقى إلا من رسوله صلى الله عليه وسلم فيكون صلاحه نابعا من داخل نفسه والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

ولذلكَ يجب أن يكون علم الاجتماع وعلم النفس وغيرها من العلوم التي يراد بها إصلاح الإنسان، وهي ما تسمى بالعلوم الإنسانية، أن تكون كلها مستمدة من هذا الأصل الأصيل ثم مقتضياته التي فصلها الكتاب والسنة وإلا فإننا سنبقى نحاول عبثاً إصلاح هذا الإنسان كما هو حاله الآن.

مع الطلبة المبتعثين:

ص: 301

وكنا خلال هذه الأيام التي قضيناها في المؤتمر بأنديانا نلتقي ببعض الطلبة المسلمين الصالحين من المملكة العربية السعودية وغيرها فنجد فيهم روح الشباب المسلم الغيور على دينه المحب لتقدم بلاده على أساس الإسلام الذي لا تقدم لأي بلد بدونه، وإن ظهرت بعض الثمار لجهود مادية بذلها الناس في بعض الشعوب، فإن ذلك في الحقيقة ليس تقدما إلا في ميزان الإنسان الذي خرج عن فطرته التي فطره الله عليها لما يشاهد من ويلات وآثار سيئة في حياة هذه الشعوب التي تسمى المتقدمة، وليس الخبر كالعيان كما يقال.

لقد كان هؤلاء الطلاب يبثون شكواهم من حالة أكثر زملائهم الذين ابتعثوا لتلقي العلوم النافعة ليعودوا إلى بلادهم روادا متفانين في رفع مستواها العمراني- مادية ومعنوية- ولكنهم ذابوا في المجتمع الغربي وخلعوا ثياب شخصية الآباء والأجداد وانغمسوا في الشهوات والملذات القذرة ففقدوا شخصية المسلم المعتز بدينه وعقيدته ولم يصلوا إلى شخصية الغربي المبدعة في العلوم المادية، بل تسيبوا وأصبحوا وصمة عار على بلادهم، ومنهم من جمع مع ذلك الانخراط في صفوف منظمات الحادية أو ماسونية أو قومية حاقدة على الإسلام والمسلمين.

وطلب منا هؤلاء الأخوة الغيورون أن ننقل هذه الشكوى إلى من يعنيهم الأمر في هذه البلاد التي لم يبق للمسلمين أمل واضح إلا فيها وهكذا تكررت شكوى الصالحين في كل مدينة زرناها في الولايات المتحدة.

لسعات عقارب منفرة ولدغات ثعابين قاتلة:

ص: 302

وإنني لأتساءل، كما يتساءل غيري: ماذا سيكون مصير بلدان المسلمين عندما يتربع على كراسي إداراتها ذوو أدمغة أفرغت من كل معاني الإسلام التي بفقدها يصير الفرد أجنبياً عن بلاده وبني قومه وشحنت بمعاني أخرى غير إسلامية تكسب الفرد عداء لدينه فيعود وقد وضع لنفسه أو وضع له أساتذته الذين أفرغوا دماغه وملؤه منهاجا يقضي به على كل مظهر للإسلام، ويحقق به أهداف الكفر وأوليائه أقول: ماذا سيكون غير الويلات والمصائب التي حدثت فعلا في كل شعوب العالم الإسلامي العربية منها وغير العربية إلا ما شاء الله.

أليست الانقلابات العسكرية التي لم تهدأ في تلك الدول نتيجة لهذا الجيش الذي رباه الغرب على ما يريد؟

أليس المسخ التعليمي في بلدان المسلمين نتيجة للمناهج الجاهزة التي نقلها هؤلاء من بيئة غير بيئتهم وقسروا أبناء شعوبهم قسراً عليها، وهو لم تفصل على قدهم؟

أليس وبال أجهزة الإعلام الذي هد أركان العقيدة من قلوب المسلمين وأوقعهم في شباك المسخ الخلقي والفكري من آثار مسخ شبابنا الذي رباه الغرب؟

أليس فقدان الغيرة على الدين والعرض والوطن ثمرة من ثمار فقد العقيدة والأخلاق الإسلامية في نفوس شبابنا الذين أخرجهم لنا الغرب؟ أليس التناحر السياسي والقلق النفسي والتنافر الاجتماعي من عطاء شبابنا الذي وجهه أساتذة الغرب؟

ألا إن في ارتداد كثير من زعماء الشعوب الإسلامية ممن طعنوا في القران الكريم والسنة النبوية وسخروا من رسول الإسلام ودين الإسلام لعبرة لمن أراد أن يعتبر.

عبر لم نتعظ بها:

ص: 303

وإن في عدن والصومال وأفغانستان وغيرها لعظة لمن أراد أن يتعظ ولا أريد أن أطيل في ضرب الأمثال، ولكن أريد أن أقول: لقد ارتفعت أصوات حداة الخير منذرة بهذا الخطر في أول أمره، ولقد ارتفع صوت العبد الضعيف قبل سبع أو ثماني سنوات مع تلك الأصوات وإذا لم يسمع العقلاء تلك الأصوات فسيسمعون غيرها ويندمون يوم لا ينفع الندم.

وسأعود لهذا الموضوع مرة أخرى، إن شاء الله، عند الحديث على النتائج في نهاية هذا البحث.

آمال وأعمال:

وفي يوم الاثنين 28/ 7/ 1398 هـ اصطحبنا بعض أعضاء اتحاد الطلبة المسلمين في أنديانا، وعلى رأسهم الأخ الدكتور محمود رشدان إلى المزرعة التي اشتراها الاتحاد لإقامة مشاريعه فيها، وهي تتكون من مائة وعشرين فداناً، كما قال الأخ محمود، وبها بعض المرافق التي تستعمل مؤقتا ريثما يتيسر لهم تعميرها حسب المخطط النهائي.

فيها مكاتب إدارية وغرف نوم تستعمل لضيوف الاتحاد من أعضائه ومن غيرهم ومطابخ، وقاعات للاجتماعات، ومسجد تؤدى فيه الصلاة وهي مفروشة ومؤثثة تأثيثاً طيباً.

وبها أيضا مستودع للكتب المتنوعة باللغة العربية والإنجليزية، وبها موظفون يستقبلون الكتب التي ترد للاتحاد من أمريكا ومن خارجها من بعض الدول العربية عن طريق المؤسسات الإسلامية، ويرتبونها كما يعدون الكتب التي تبعث إلى أنحاء العالم- الولايات المتحدة، ودول أوربا وأفريقيا وغيرها في طرود، ويكتبون عليها العناوين وهكذا

وتنقسم هذه الكتب إلى قسمين: قسم يأتي للاتحاد منحة من بعض المؤسسات الإسلامية، وهذه توزع بدون مقابل، وكتب يشتريها الاتحاد، وهذه تباع بثمن رمزي، وقد يوزعون بعضها لبعض المستحقين بدون مقابل.

ص: 304

وتحيط الأشجار بالمزرعة من كل جانب، بل إن في ناحية منها غابة كثيفة، وبحيرة من الماء المتجمع من مسايل الأمطار وذكر الأخ محمود أنه يوجد بها الصيد، وقد بلغ مقدار قيمتها نصف مليون دولار. وإنها لفي غاية الرخص.

بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه:

ويعمل في المزرعة أحد المزارعين الأمريكيين على طريقة المزارعة الإسلامية بنسبة معينة من الغلة، وكانت عندئذ مزروعة بالذرة. وفي باب المزرعة رأينا اللافتة التي كتب عليها اسم الاتحاد قد كسر عمودها الذي نصبت عليه، فسألنا الأخ محمود عن السبب فأفاد أن بعض النصارى المتعصبين من الجيران يضايقونهم بعض المضايقات وأنهم قدموا شكوى في المحكمة يبدون تضررهم من شراء الاتحاد لهذه الحديقة بحجة أنهم لم يشتروها لمجرد إقامة شعائر دينية، وإنما للتجارة، قال الأخ محمود: وقد كسبنا الجولة الأولى في المحكمة وسنكسب الثانية إن شاء الله. والحق دائماً دامغ للباطل يقهر العقول قهرا على الإقرار به والحكم به- ولو في داخل النفس إذا كان صاحبها متبعا لهواه. وتحدث الأخ محمود عن بعض المشاريع التي ينوون إقامتها على هذه الأرض، فذكر أنهم سيبنون عليها مسجدا كبيرا وقاعة محاضرات ومدرسة تكون نواة لكلية إسلامية (كلية شريعة) تجمع المدرسة بين الدراسات الإسلامية والمواد المطلوبة في مدارس الولايات المتحدة الأمريكية حتى يتمكن الطالب من حمل مؤهل للجامعات الأمريكية.

كما ذكر أن جميع المكاتب الإدارية للاتحاد سيضمها مجمع واحد، وستبنى بها مكتبة تضم الكتب الإسلامية باللغات المختلفة، كما ستبنى منازل لأسر المتفرغين للعمل، ومنازل لأسر الضيوف من أعضاء الاتحاد وغيرهم.

ص: 305

وذكر الأخ محمود مشاريع غيرها كثيرة، وأرانا مخططها الهندسي وإنها في الحقيقة لآمال إسلامية طموحة تستوجب الشكر لهؤلاء الفتية الذين أقاموا ولا يزالون يقيمون مشاريع إسلامية بجودهم الخاصة واشتراكاتهم التي يقتطعونها من أرزاقهم من أجل الدعوة إلى الله وتقتضي أن يبذل أغنياء الأمة الإسلامية من حكومات وشعوب الإعانة المادية لهؤلاء الذين رأينا نفعهم في كل مكان حللنا به.

اتق الله يا رجل:

وكان معنا في هذا اليوم الدكتور محمد عبد الرؤوف، رئيس المركز الإسلامي في واشنطن الذي كان حضر المؤتمر، وكذلك الأخ عمر الصوباني الأردني الذي يحضر الدكتوراه في ولاية ديترويت، وقد جرى بينهما نقاش حول موضوع استعمال بعض المسلمين للقاعات التابعة للمساجد للاحتفالات التي تقام في الأعياد، أو للزواج أو غير ذلك من المناسبات، فكان الأخ عمر ينتقد ذلك انتقادا شديداً ويقول: إن المساجد لم تبن إلا لذكر الله واستعمالها في هذه الأمور يعتبر معصية لا تليق ببيوت الله.

ولم يرق هذا الرأي للدكتور فبدأ يناقش أن ذلك لا شيء فيه، ويستدل بعمل الأحباش في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن الأخ عمر اشتد في نقاشه وقال له: اتق الله يا رجل إن هؤلاء الذين يعملون الاحتفالات الآن يرتكبون فيها معاصي بعري النساء واختلاطهن مع الرجال والرقص واستعمال أدوات الموسيقى والدفوف وغير ذلك من الفحش وكان الدكتور لطيفاً في نقاشه لكبر سنه واهتزاز موقفه بالنسبة لموقف الأخ عمر.

متابعة مريبة:

كما كان يلازمنا أحد المسيحيين الذي حضر أيضا المؤتمر وكان يتصنت لكل كلمة تقال، غير أن الكلام انقلب إلى اللغة العربية التي لا أظنه يفهمها، والرجل متهم بأنه يهودي يتستر بالنصرانية وهو يدرس الأديان في إحدى كليات اللاهوت، وإن وجهه لوجه متجهم للإسلام والمسلمين، وإن كان يحاول أن يظهر بغير ذلك، ولكن حسبنا الله ونعم الوكيل.

ص: 306

شاب أمريكي مسلم طموح:

وكان من ضمن المشتركين معنا شاب أمريكي لا يتجاوز عمره الخامسة والعشرين، في تقديري اسمه عثمان لو لن يحضر رسالة الماجستير في جامعة بنسلفانيا، لا أذكر عنوان رسالته الآن، ولكن موضوعها يدور حول مقاصد الشريعة الإسلامية في التخطيط المعماري أي كيفية بناء العمارة الإسلامية الشرعية، والشوارع وغير ذلك والأخ عثمان شاب مسلم متحمس يتكلم باللغة العربية، وإن كان ذلك بصعوبة، ويكتب بها أيضاً وقد قرأ بعض الكتب الإسلامية المهمة مثل كتاب الموافقات للشاطبي وكتاب إعلام الموقعين لابن القيم وغيرهما كثير، وهو يفهم فهماً جيداً إلا أنه يبدو عليه نوع من التكلف الذي يدفعه إلى الاستشهاد بنصوص إسلامية من الكتاب والسنة ومن أقوال العلماء قد لا تكون في محلها، لذلك ناقشته كثيراً حتى فهمت مراده ونصحته بألا يقحم نصاً من النصوص في أي موضوع إلا بعد فهمه فهما جيدا أنه في محله، وهو في الحقيقة طالب علم يريد الحق، ولذلك لم يتردد في قبول نصيحتي..

وعندما سألت الأخ عثمان عن أسرته وموقفها من الإسلام أجاب أنه يحاول بجد إقناع أبويه بالدخول في الإسلام، وأنهما راضيان عن إسلامه ولكنهما لا يحبان الالتزام بأحكام الإسلام.

العقول المهاجرة:

تناولنا بعد ذلك طعام الغداء وعاد بنا الأخ محمود إلى الفندق وفي يوم الثلاثاء 29/ 7/ 1398 هـ كنا على موعد مع الطبيب الباكستاني المسلم الذي يحمل الجنسية الأمريكية، إنه من العقول المهاجرة، (شهيد أطهر) من أجل الكشف الطبي العام، نقلنا إلى المستشفى الأخ السوداني عز الدين يوسف علي وهو طبيب أيضاً ضويق في بلاده فهاجر إلى بلاد الكفر التي تتلهف لاقتناص أي إنسان نافع، بخلاف كثير من بلدان العالم الإسلامي. وقد ذكر لي الأخ عز الدين أنه قد تم تعاقده مع جامعة الرياض ليكون مدرساً في كلية التربية: الطب النفساني.

ص: 307

وكان الكشف عند الدكتور شاملا لتحليل الدم والكشف على القلب، ثم حولني إلى الأشعة للكشف العام، وكنت قد تناولت طعام الإفطار الذي لم يكن في ذلك اليوم ضعيفاً كالمعتاد، فطلب مني أن أعود غدا الأربعاء صائماً ففعلت- المقصود بالصوم هنا الصوم اللغوي- إلا أنه تم الكشف على الأعصاب.

وفي يوم الأربعاء30/ 7/ 98 نقلنا الأخ السوداني عوض عثمان بسيارته إلى المستشفى لأن الأخ عز الدين يوسف الطبيب الذي نقلنا بالأمس كان على موعد لدخول المستشفى لإجراء عملية جراحية خفيفة (وقد اتصلنا به من ديترويت وفهمنا أن العملية كانت ناجحة فحمدنا الله على شفائه) .

أتعبوني:

وبعد انتظار قليل نادت الممرضة المختصة في بعض أقسام الأشعة ذاكرة لقبي: قادري، ولكن بنطق لم يفهمه إلا زميلي الدكتور فقمت ودخلت غرفة صغيرة فخلعت ملابسي ولبست اللباس الرسمي الذي كدت أفر من المستشفى لنفوري منه، ولكني وقد وقعت لابد من إتمام المشوار، فعزمت على زميلي الدكتور أن يدخل معي بحجة أني لا أقدر على التفاهم مع هؤلاء الناس (وكان ذلك خوفاً من الخلوة بأجنبية) فكان لي ما أردت.

كنت أظن أن الزمن إذا طال بي هو ربع ساعة، وكان في أول الأمر ربع ساعة فعلا وظننت أن الأمر انتهى، ولكن الممرضة قالت لزميلي انتظر ربع ساعة خارج الحجرة، ثم عودا وعند تمام خمس عشرة دقيقة تماماً قبل أن نتحرك خرجت وتنادينا للدخول وهكذا تكرر الأمر لمدة لا تقل عن خمس ساعات، كانوا يطلبون مني أن أنقلب على جنبي الأيمن فيكشفون على الجنب الأيسر ثم العكس ويحركون الآلة فتقف وأقف أنا معها شئت أم أبيت، ثم يضغطون عليها لتنام فتنيمني معها كذلك وكانوا في كل مرة يطلبون مني أن أكتم أنفاسي فأكتمها حتى تكاد نفسي تخرج لولا أن الأجل لم ينته بعد، وهم يسرعون في إجراء الكشف فأستعيد نفسي.

ص: 308

وكانوا يسقونني باستمرار سوائل ملونة مرة ملء كوب الشرب أشرب بنفسي الكوب، ومرة في كأس صغير بواسطة أنبوب صغير من البلاستيك مثل أنبوب شراب الليمون ونحوه، وكان مذاق تلك السوائل صعباً علي فكنت أشربه وأكاد أتقيأ، وزاد الطين بلَة أن بطني امتلأ فلم أقدر على أن أزيده ولكنهم صمموا على المزيد حتى أنقذني الله منهم فخرجت ولبست ثيابي وقلت للدكتور اذهب بنا قبل أن يتذكروا شيئاً فينادوننا مرة أخرى.

ومررنا بالطبيب الدكتور (شهيد أطهر) وأخبرنا ببعض النتائج الأولية من الكشف الذي حصل عنده، وكتب لنا بعض الأدوية، ووعد ببعث النتيجة النهائية إلينا في المدينة لذلك أخذ العنوان عنده.

ألا يعلم من خلق؟

وكنا ننتظر أن يعود إلينا الأخ عوض عثمان لنقلنا في سيارته ولكنه اضطر لمرافقة الأخ الدكتور مالك بدر رئيس قسم علم النفس بجامعة الخرطوم والذي كان من المشتركين في المؤتمر، وهو رجل متحمس للإسلام ومقبل على استخراج قواعد علم النفس من الكتاب والسنة، مقتنع بأن القرآن كله ما نزل إلا لإصلاح النفس الإنسانية، وكل من التمس إصلاح هذه النفس من خارج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن مآله إلى الفشل لأن الخالق أعلم بخلقه وقد أنزل لهم ما يصلحهم. وقد نبهت الأخ مالكا إلى نهج ابن القيم رحمه الله في استخراج المعاني النفسية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. كان الأخ عوض يرافقه في بعض أسواق المدينة ولكنه لم يتركنا بدون أن يعمل على مساعدتنا لكوننا كنا في انتظاره، فأخبر بعض المسئولين عن الاتحاد فبعثوا لنا شابا لبنانياً لا يزيد عمره في الغالب عن سبع وعشرين سنة، واسمه ناظم محمد سعيد منقاره. نال شهادة الليسانس من الجامعة اللبنانية في بيروت، حاز الأولية في دفعته. كما نال الماجستير بامتياز في الفيزيا من إحدى الجامعات الأمريكية وشهادة الماجستير في الكمبيوتر أيضاً، وقدم رسالتين فيهما.

ص: 309

وهو يعمل الآن مع اتحاد الطلبة المسلمين في الكومبيوتر وله زوجة لم يرض بخروجها للعمل، كما أنها كما يقول راضية ببقائها في البيت على الرغم من أن الجو هناك يدعو المرأة والرجل معا إلى الخروج ولا تبقى في المنزل إلا المرأة الشريفة، وعلى الرغم من أن عملها سيدر عليه دخلاً ماديا يساعده على العيش هناك للغلاء الفاحش في الأسعار وأجور المنازل والمحروقات وغيرها. ويبدو على الأخ ناظم الصلاح والحماس لدينه، ويشكو من سوء معاملة النصارى له في لبنان، حيث حرموه من الابتعاث مع أنه كان الأولى به لأنه الأول في دفعته، فقدموا عليه بعض زملائه النصارى الذين هم أقل درجات منه، وصدق الله العظيم القائل:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} ومع ذلك فإننا نجد أكثر المسلمين يجاملون اليهود والنصارى وهم لا يجاملوننا إلا بألسنتهم في أوقات حاجتهم إلى المجاملة، كما قال الله تعالى:{يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} .

تسخير واستغلال:

ركبنا مع الأخ ناظم وبدأت أسأله أنا عن دراسته وبلده وعمله فذكر لي هذه المعلومات، وسألته عن الكومبيوتر الذي يعمل فيه الآن فذكر أنه يعمل فيه مهندساً هو وشاب آخر معه، وأن هذا الكومبيوتر يختزن الآن المعلومات كاملة عن اتحاد الطلبة المسلمين وأعضائه من الطلبة وغيرهم وكذلك معلومات عن زوارهم، وهو ميسر لهم الأعمال الإدارية.

ص: 310

كما أن هناك مشروعاً لتزويده بمعلومات الحديث النبوي الشريف- الأمهات الست وغيرها بحيث يكون مستعداً لإعطاء أي معلومات تستدعى منه عن الحديث ورواته وتراجمهم باختصار ودرجة الحديث وهو الآن في دور التجارب، وهو يعمل بالحروف العربية والحروف الإنجليزية. وكان من ضمن الأماكن التي زرناها هو مقر الكومبيوتر المذكور الذي تلقى معلومات عن زيارتنا قبل الوصول إليه، وعندما وصلنا رحب بنا بأسمائنا ووظائفنا بالخط العربي الواضح، وأبدى استعداده للإجابة عن أسئلتنا في حدود طاقته فسألناه بعض الأسئلة التي أجاب عليها واعتذر عن بعضها لعدم توافر المعلومات عنده.

وإنه لمشروع يشكر عليه المسئولون في الاتحاد، وكان على الجامعات الإسلامية في العالم العربي أن تمنح الاتحاد بعالم من علماء الحديث على الأقل يساعدهم بخبرته في إعطاء المعلومات لهذه الآلة السريعة الفائدة والتي يجب ألا تعطى إلا معلومات صحيحة دقيقة من ذوي الخبرة والاختصاص.

كما أنه ينبغي للجامعات الإسلامية أن تحرص على استجلاب هذه الآلة على أوسع نطاق للاستفادة منها في الإدارة والعلوم الإسلامية على اختلاف تخصصاتها، وأن تبتعث بعض طلبتها الصالحين الذين تثق فيهم من الآن للتدرب والتخصص في هذا المجال، حتى لا تضطر إلى التعاقد مع من هب ودب رغماً عليها.

ألسنا أولى بعقولنا:

ولقد أبدى الأخ ناظم رغبته في الانتقال من أمريكا إلى بعض الدول العربية للعمل فيها، لا سيما المملكة العربية السعودية التي تهفو نفسه إلى الاستقرار فيها، ووعدته أن أبذل جهدي في الاتصال ببعض الجهات التي يمكنها الاستفادة منه للتعاقد معه، وقد تم الاتصال فعلا ببعض الجهات وأن العالم الإسلامي لأحق بهذه العقول الإسلامية المفيدة من أعداء الإسلام الذين يقتنصون عقول أبنائنا بكل الوسائل.

ص: 311

تجول بنا الأخ ناظم في مدينة أنديانا بلس وفي بعض أسواقها دون أن ننزل من السيارة إلا قليلا لأن الوقت لا يتسع للتجول مشيا على الأقدام.

طاقة صامتة:

كما كنا على موعد مع الدكتور أحمد العسال الذي أعارته جامعة الرياض لاتحاد الطلبة المسلمين لمدة ستة أشهر وله نشاط مفيد جداً هناك والرجل يعمل في صمت ورزانة ويحاول جمع كلمة المسلمين ما استطاع إلى ذلك سبيلا، كنا على موعد معه لتناول طعام العشاء، كما تناولنا العشاء في الليلة السابقة في بيت الدكتور محمود رشدان، وصلنا إلى بيت الدكتور العسال وصلينا هناك المغرب والعشاء، وكان معنا الأخ الدكتور مالك بدر ذو النكات السودانية الطريفة التي كان يتحفنا بها كلما التقينا به وغيره من الأخوة.

ومن منزل الدكتور العسال تم اتصالنا بالأخ الشيخ عبد الغفور البركاني الذي يعمل في مدينة ديترويت الصناعية في صفوف العمال والجاليات الإسلامية ولا سيما العمال اليمنيين الذين يشكلون الكثرة هناك وهو مبتعث من الرئاسة العامة للبحوث والدعوة والإرشاد في المملكة، أخبرناه بموعد وصولنا غدا الخميس وطلبنا منه أن يحجز لنا في أحد الفنادق هناك.

نبذة عن اتحاد الطلبة المسلمين:

وقبل الانتقال إلى الكلام عن ديترويت رأيت أن ألخص تعريفاً باتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا ليكون القارئ على بصيرة ومعرفة بنشاط إخوانه في الله من أجل رفع كلمة الله:

- أسس الاتحاد نخبة من الطلبة المسلمين في عام 1383 هـ. وتزيد فروعه الآن على مائة وسبعين فرعا، ونشاطه يتركز في الجامعات لأهميتها وله نشاط في الجاليات الإسلامية.

- يضم الاتحاد في عضويته الطلاب والعلماء والمهندسين ويزيد عدد أعضائه على ستة آلاف عضو (كان هذا الإحصاء في رمضان سنة 1397 هـ) .

ص: 312

الاتحاد مسجل لدى السلطات الرسمية في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ويعتبر جمعية ثقافية علمية دينية وهو منظمة مستقلة عن أي هيئة أو حكومة أو حزب سياسي.

أهداف الاتحاد:

. إعانة وتنظيم الطلبة المسلمين ليسهل عليهم التحصيل العلمي الرفيع مقروناً بالعقيدة الصحيحة والخلق القويم وتهيئة الوسائل والبرامج التي تمكنهم من ممارسة شعائرهم الدينية والارتباط الوثيق بقضايا بلادهم والعمل الواعي على نصرتها.

. تعريف المجتمع الأمريكي بتعاليم الإسلام ودعوتهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة (وتصحيح مفاهيمهم عن الأمة الإسلامية والعربية) .

. تيسير تعليم الإسلام وممارسة تعاليمه للمسلمين الجدد وربطهم بعقيدة التوحيد وتجنبهم مواطن الانحراف والزلل في العقيدة والسلوك.

. تجهيز المكتبات والمؤسسات العلمية والجامعات بالمصادر الإسلامية حول العالم الإسلامي وقضاياه لتيسير مراجعتها على الباحث الأمريكي والطالب المسلم بحيث تكون بديلاً لكتب المستشرقين.

. إنشاء المؤسسات الإسلامية اللازمة لمستقبل المسلمين والإسلام في القارة الأمريكية كالمدارس والمعاهد ومخيمات الشباب وبيوت الطلبة والمستشفيات وغيرها.

. العمل على وحدة المسلمين في أمريكا الشمالية وزيادة التعارف والتآلف فيما بينهم.

. هذا وقد أنجز الاتحاد إنجازات طيبة ني حدود طاقته: كبيوت الطلبة ومخيمات الشباب.

أنشأ بعض المؤسسات المتخصصة النافعة:

1-

كهيئة الوقف الإسلامي التي كان من نتائجها: مطابع الاتحاد ودور الثقافة والنشر، ومركز بيع الكتب الإسلامية، ومشروع استعمال الطاقة الشمسية، ومشروع الكشف عن الفطريات المرضية..

2-

مركز التعليم الإسلامي.

3-

الجمعيات العلمية المتخصصة: كجمعية الأطباء المسلمين، ورابطة علماء الاجتماعيات المسلمين، وجمعية العلماء والمهندسين المسلمين.

ص: 313

4-

الأمانة العامة الدائمة التي أسست سنة 1395 هـ وللاتحاد منجزات أخرى يستطيع القارئ أن يعود إلى الكتيب العربي الذي نشر باسم: اتحاد الطلبة المسلمين في الولايات المتحدة وكندا والذي اقتطفت منه هذه النقاط.

أما إلى هؤلاء وإما أولئك:

والذي أود أن أختم به الكلام عن هذا الاتحاد وفروعه أن أنادي أغنياء الأمة الإسلامية أن يبذلوا من أموالهم ما يعينون به هؤلاء العاملين وغيرهم ممن يقومون بواجب ليس عليهم وحدهم بل هو واجبنا جميعاً، والذي لا يقدر أولاً يحاول المشاركة بنفسه وهو قادر على المشاركة بماله في سبيل الله ثم لا يشارك فليخف على نفسه من أن يكون فيه شيء من صفات غير المؤمنين.

إن هؤلاء القوم - اتحاد الطلبة المسلمين وغيرهم - ذوو اختصاصات علمية متنوعة، وذوو مقدرة إدارية وعمل دؤوب، في وسعهم أن يوسعوا دائرة دعوتهم إلى إنشاء مدارس وكليات ومساجد ومراكز متنوعة الأعمال، والذي ينقصهم المال ألا فلينتظر الأغنياء وبال غناهم الذي يبطر أكثرهم فينفقون أموالهم في غير طاعة الله، ونداء الواجب يدعوهم فلا يستجيبون.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

كلية اللغة التي كلفت عمادتها.

ص: 314

الهجرة النبوية

دراسة وتحليل

لفضيلة الدكتور محمد السيد الوكيل: وكيل كلية الحديث الشريف

ليست الهجرة في عرف الدعاة والمصلحين وسيلة راحة، ولا حيلة للاستجمام من عناء طال صبرهم عليه، ولا هي فرصة للترويح عن النفس بالسير في الأرض، والإطلاع على عوالم جديدة لم تتح لهم فرصة الإطلاع عليها، ولكنها في الحقيقة عناء يضاف إلى عنائهم وجهد يتحملونه فوق طاقاتهم، ووحشة تضاف إلى ما هم فيه من غربة في بلادهم.

أليست الهجرة انتقالا من الوطن إلى أرض جديدة؟ ومن يضمن للمهاجر السعادة والأمن في تلك الأرض الجديدة؟ أليس في الهجرة مفارقة الأحباب والخلان؟ ومن يكفل للمهاجر من يعوضه عن أحبابه وخلانه في مهاجرة؟

أو ليس في الهجرة قلق للنفس بعد استقرارها، ووحشتها بعد أنسها؟ وأنى للمهاجر الاستقرار والأنس وهو غريب شريد؟.

إن حب الوطن غريزة فطر عليها كل مخلوق، ومفارقة الوطن تترك في النفس اضطرابا مهما كانت الغاية من مفارقته، والإنسان عندما يفارق وطنه على أمل العودة يعلل نفسه بسرعة الأيام، ويمنيها بأنس اللقاء بعد الفراق، أما إذا لم يكن أمل في العودة، وانقطعت آمال المهاجر في لقاء من فارق، وأصبح اللقاء أمنية عزيزة بعد أن كان حقيقة واقعة، فإن المهاجر يرى كل شيء بعين اليائس، ويسمع كل لحن بأذن الأصم، فهو لا يستلذ بعيش، ولا يهنأ براحة، ولا يأنس بجليس.

على أننا يجب أن نفرق بين التضحية والتغلب على نزعات النفس من أجل القيام بالواجب، وبين شعور الإنسان باللوعة وإحساسه بالألم عند القيام بعمل يخالف الفطرة، ويتعارض مع الجبلة.

وليس هذا الشعور وذلك الإحساس مما يلام عليه الإنسان لأنه جبلة خلق الإنسان بها، وإنما يلام عليه إذا أقعده عن واجب، وحال بينه وبين معالي الأمور.

ص: 315

ولعل هذا الشعور هو الذي خالط نفس بلال بن رباح رضي الله عنه بعد هجرته إلى المدينة حينما كان ينظر إلى السماء ويقول: "لا شك أن سماء مكة أجمل من هذه السماء، وأن هواء مكة أنقى من هذا الهواء"[1] .

ويزداد حنينه إلى الوطن، فيضطجع في فناء البيت، ويرفع عقيرته قائلا بعد أن تفارقه الحمى:

بفخ وحولي إذخر وجليل

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة

وهل يبدون لي شامة وطفيل [2]

وهل أردن يوما مياه مجنة

إن حب الوطن قد أدى ببلال أن يعود بخياله إلى مكة، وأن يشعر بحنين زائد إلى أحيائها التي تربى بينها، وقضى شبابه بين ربوعها، فتمنى أن يقضي فيها ولو ليلة، ويمتع ناظريه برؤية جبالها ونباتاتها.

ويعلم الرسول- صلى الله عليه وسلم بذلك فلم يلم بلالا على ما قال، ولكنه يرق لحال المهاجرين، ويقدر عواطفهم، ويدعو الله- عز وجل أن يثبتهم على هجرتهم وأن يحبب إليه المدينة كحبهم مكة أو أشد [3] .

أفبعد هذا يقول قائل إن الهجرة فرصة للراحة من عناء التعذيب، أو وسيلة ترويح عن المضطهدين؟

مكة البلد الأمين:

ولد الرسول في مكة، وقضى شبابه في ربوعها، وتزوج سيدة نسائها، وكان فيها محبوبا أثيرا، كل أهلها يقدره ويجله، ويرون فيه جميعا أنموذجا للشباب الطموح، حيث كان يترفع عن التافه من الأمور، ويربأ بنفسه عن سفسافها.

وكانت مكة تتميز عن قرى الجزيرة كلها بقدسية لم تطمع فيها قرى تفوقها جمالا وخصوبة، وتمتاز بنسيمها العليل، وحدائقها الغناء.

إن قرى الجزيرة مهما تفوقت في الخصائص المادية لن تبلغ مبلغ مكة في منزلتها الروحية، فقد اختارها الله تبارك وتعالى لتكون محل بيته العتيق، وجعلها حرما آمنا، ليس للإنسان فقط ولكن الإنسان والحيوان والطيور والنبات، ففي رحابها يأمن الخائف، وفي كنفها يأنس المستوحش، وبين جنبيها يجد الحائر السكينة.

ص: 316

عرف العرب لأم القرى تلك المكانة فقدسوها، وأدركوا أنها لا يبغي فيها ظالم إلا قصمه الله فتجنبوا الظلم، عاش أهلها في ظل بيت الله آمنين في وقت كان الناس يتخطفون من حولهم وقد ذكرهم الله عز وجل بتلك النعمة فقال- جل من قائل-:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [4] .

ولما استحلت جرهم حرمة البيت، وأكلوا ما كان يهدى إليه، وظلموا فيه سلط الله عليهم خزاعة فقاتلوهم حتى أخرجوهم من مكة.

"وكانت مكة في الجاهلية لا يقر فيها ظلم ولا بغي، ولا يبغي فيها أحد إلا أخرجه الله منها، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك مكانه، فيقال: ما سميت بكة إلا لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا أحدثوا فيها"[5] .

وبلغ من احترام العرب لمكة أنهم كانوا لا يبنون بها بيتا إلى جوار بيت الله، وأنهم كانوا لا يبيتون فيها ولا يستحلون الجنابة بها تعظيما لشأنها [6] .

وظل هذا البلد الأمين يتمتع بتلك القدسية، لا يستحله إلا فاجر، وكان العرب يستحلون أحيانا الشهر الحرام، ولكنهم لا يستحلون مكة، وقد وجد بعضهم مخرجا من حرمة الأشهر الحرم بالنسيء، فكانوا يقدمون ويؤخرون ليواطئوا عدة ما حرم الله.

وقد رأينا في حرب الفجار أن هوازن قاتلت قريشا قتالا شديدا حتى إذا دخلت قريش الحرم أمسكت هوازن عنهم [7] ، وأنذرتهم الحرب بعكاظ من العام المقبل [8] .

ولم يرو لنا التاريخ أن أحدا انتهك حرمة البيت وأفلت من الهلاك في الدنيا قبل الآخرة، ولعل أبرهة كان أول المعتدين عليه بعد جرهم، وقد أثارت محاولة أبرهة حمية العرب فهبوا يدافعون عن البيت الحرام.

فخرج ذو نفر في قومه من أشراف اليمن وهزمهم أبرهة، وأخذ ذو نفر أسيرا، ثم تصدى له نفيل الخثعمي في قومه فتغلب عليهم أبرهة وأخذ نفيلا أسيرا، ولما رأت ثقيف قوة جيش أبرهة هادنته وأرسلت معه أبارغال ليدله على طريق مكة.

ص: 317

واعتقد أبرهة أنه خالص لا محالة إلى البيت، فأرسل رجلا من جيشه فاستولى على أموال أهل مكة، وساقها إلى أبرهة، وزادت ثقة أبرهة في قدرته على تحقيق أمله، وتهيأ لدخول مكة، وعبأ جيشه ولكن الله كان له بالمرصاد.

لم يكن هناك من يحمي البيت فحماه الله، ولم تستطع قوة صد جيش أبرهة فسلط الله عليه من صده وأهلكه {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [9] .

وزادت تلك الحادثة من مكانة مكة في نفوس العرب إذ ثبت لهم بما ليس فيه ريب حفظ الله لبيته وإهلاكه من أراده بسوء، كان ذلك في الجاهلية قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم وأما بعد البعثة فقد حدث أن اعتدت بكر على خزاعة وألجأتهم إلى دخول الحرم ولم تحترم بكر حرمة البيت، وإن هابت اقتحامه بادئ الأمر، ونبهوا قائدهم نوفل ابن معاوية الديلي، وقالوا له:"يا نوفل، إنا قد دخلنا الحرم، إلهك إلهك"، ولكن نوفل كان قد صمم على الأخذ بثأره، ولم يعبأ بتحذير قومه، وقال:"لا إله اليوم، إنكم تسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه؟ "[10] .

وعلم رسول الله بما ارتكبت بكر من انتهاك حرمة البيت ونقض العهد والاعتداء على حلفائه الخزاعين فهب لإنقاذهم، وفتح مكة وأذل الله قريشا وحلفاءهم بكرا، ولكن الرسول منّ عليهم وأطلق سراحهم، فعرفوا بالطلقاء.

وفي سنة ثلاثمائة وسبع عشرة من الهجرة كانت فتنة القرامطة في مكة حيث سفكوا دماء الحجاج وعطلوا الشعائر واعتدوا على بيت الله الحرام، وانتزعوا الحجر الأسود وأخفوه اثنتين وعشرين سنة.

وصال أبو طاهر القرمطي وجال بفرسه حول الكعبة، وكان مخمورا على رواية بعض المؤرخين، واخذ يصيح:

يخلق الخلق وأفنيهم أنا [11]

أنالله وبالله أنا

ص: 318

ويقول الإسفرائيني عن أبي طاهر سليمان بن الحسن القرمطي: "أنه قتل ثلاثة آلاف مسلم، وأخرج سبعمائة بكر من خدورهن، واقتلع الحجر"[12] .

فماذا كان مصير هذا المعتدي الأثيم، المنتهك لحرمات بيت الله؟ يقول الإسفرائيني:"في عام ثلاثمائة وثمانية عشر قصد سليمان بن الحسن بغداد، فلما بلغ هيت رمته امرأة من سطحها بلبنة فقتلته"[13] .

هذا الجبار الذي تحدى أهل مكة واستباح حرمة البيت تقتله امرأة ليكون أحقر قتيل، وأهون فقيد، وهكذا يدافع رب البيت عن بيته.

وعادت للبيت حرمته، وعاد الأمن إلى أهله، وعاش الناس في جواره آمنين لا يروعهم أحد، ولا يعتدي عليهم معتد قرابة ألف وثلاثة وثمانين عاما حتى روعتهم تلك الفتنة العمياء التي غامر بها شباب - أغلب ظني أنهم مخدوعون - لم يتبصروا الأمور، ولم يفكروا في العواقب، خدعتهم فكرة ظهور المهدي، فحسبوا أن هذا أوانه، فلووا أعناق الأحاديث ليا، ليخضعوها لهواهم، وينزلوها على رغبتهم.

ونسي هؤلاء أن المهدي سيكون بين يدي الساعة، وأنه هو المنقذ الذي سيلجأ إليه الناس، ويكرهونه على قبول البيعة، وليس هو الذي يطلب البيعة لنفسه، ونسوا كذلك أن المهدي لن يبايع بقهر السلاح، ونسوا فوق ذلكَ كله أن حرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة، وأن قطرة دم من مسلم تراق بغير حق أعظم جرما من أية جريمة مهما كانت.

ص: 319

وإن الإنسان ليقف أمام تلك الفتنة مذعورا من هولها، حائرا من تدبيرها، على من ينحي باللائمة؟ أعلى هؤلاء الذين علموهم التزمت المقيت وأفهموهم أن الإسلام هو هذه الشكليات، ونفخوا في رؤوسهم أنهم العلماء وحدهم ومن سواهم يجب أن يتتلمذ على أيديهم ويتلقى عنهم، أم على هؤلاء الذين أهملوهم حتى استفحل أمرهم، وعظم خطرهم. إن الإسلام يحتم علينا أن نعلم هؤلاء وأمثالهم، وأن نقرع حججهم بحجج أقوى منها وأوضح، وأن نبين الحق إذا التبس على الناس، حتى يفيق الغافلون، ويهتدي الحائرون، ولو أننا سلكنا هذا السبيل لماتت الفتنة في مهدها، ولكفينا ويلاتها.

وإننا لنحمد الله عز وجل أن أعاد للبلد الأمين حرمته، ورد على أهله السكينة والاطمئنان، ووفق أولي الأمر لإعادة الأمور إلى نصابها فاللهم أصلحهم وأصلح بهم، وزدهم من فضلك توفيقا وتسديدا.

الهجرة سبيل الأنبياء:

الهجرة كما قلت سابقا ليست وسيلة للراحة، وإنما هي أسلوب من أساليب نشر الدعوة، وطريقة للمحافظة عليها من بغي الباغين وعدوان الطغاة، ولهذا كانت الهجرة سبيل الأنبياء من قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يرتادون فيها الأرض الخصبة التي تحتضن الدعوة، ويبحثون أثناءها عن البذور الطيبة الصالحة للإخصاب.

فإبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء يدعو قومه إلى التوحيد الخالص والعقيدة الصحيحة فيتآمرون عليه، ويكيدون له، ويتعصبون ضد دعوته، فيترك بلده الذي ضاق به، ويودع أهله الذين تآمروا عليه، ويفر من كوثى في سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام، والقرآن الكريم يقص علينا ذلك فيقول:{فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [14] .

ص: 320

ولوط عليه السلام لما رأى أن النار لم تحرق عمه إبراهيم، وأنه خرج منها كأنه لم يدخلها آمن لإبراهيم، وصدقه فيما جاء به، وخرج معه مهاجرا {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [15] .

وموسى يتآمر عليه فرعون، ويضايقه في دينه، فيأمره الله أن يترك هذا البلد الذي لم يستطيع فيه تبليغ دعوته، وأن يهاجر بقومه إلى حيث يمكنه عبادة ربه وأداء رسالته، قال تعالى:{فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ} [16] .

لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من هاجر من الرسل، بل سبقه بالهجرة رسل كرام على الله، خرجوا بدينهم امتثالا لأمر الله عز وجل فسنوا بذلك الهجرة لمن أتى بعدهم من النبيين والمصلحين حتى لا يعتذر معتذر ببغي الباغين واضطهاد الظالمين، أو يقول قائل: كنت في أرض يسيطر عليها الطغاة ولم يسمحوا لنا بنشر الدعوة ولا بقول كلمة الحق، وحينئذ يكون السؤال {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا؟} [17] .

فماذا تكون الإجابة؟؟

ولقد ثبت بالتجربة أن الهجرة من أنجح الوسائل لنشر الدعوة، وأن الدعاة إلى الله متى ما هاجروا بدينهم مخلصين لله هجرتهم، لا يبغون من ورائها إلا إرضاء الله تبارك وتعالى يجري الله على أيديهم، فتنفتح لهم القلوب، ويجتمع عليهم الناس. فيؤازرون دعوتهم وينشرون عقيدتهم، ويوسع الله لهم في أرزاقهم، ويسبغ عليهم نعمته. {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأََرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} [18] .

ذكريات:

ص: 321

عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ذلك البلد الأمين، قضى فيه طفولته وصباه، وشبابه وكهولته وشطرا كبيرا من شيخوخته، وله فيه ذكريات عزيزة يوم كان شابا يافعا، إن حرب الفجار تركت في نفسه رغبة في مقاومة الظلم والوقوف في وجهه، وإن حلف الفضول وما يتضمنه من مكارم الشيم وعظيم الأخلاق قد ملك عليه قلبه حتى أنه قال:"ولو دعيت به في الإسلام لأجبت".

ثم هذه المروج التي كان يخرج إليها يرعى فيها الغنم، لقد أصبحت جزءا من حياته لا يستطيع مفارقتها بسهولة، وإن ذكرى زواجه بالسيدة خديجة رضي الله عنها وما قضاه معها من أيام طويلة وجميلة لا تزال ماثلة أمام عينيه، يرى فيها سعادته بزوجه الرءوم، وأولاده الصغار الأبرياء.

وإنه صلى الله عليه وسلم ليذكر يوم اشتراكه في بناء الكعبة المشرفة، ويوم رضيه المتخاصمون حكما ينهي بقضائه ما نشب بينهم من نزاع.

إنه يتذكر كل هذا فيجد نفسه مشدودا إلى مكة برباط وثيق، ويذكر حب قومه له وإعجابهم به، وتسميتهم له بالصادق الأمين فترتاح نفسه، ويطمئن قلبه، ولكن ما بالهم الآن يتآمرون عليه، أو ليس هو هو؟ ما الذي حدث حتى يحاولوا قتله؟؟ ماذا جرى حتى يتربصوا به الدوائر؟

وتدور برأسه صلى الله عليه وسلم كلمة ورقة بن نوفل: "ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك"ويتذكر سؤاله له "أو مخرجي هم؟ "وهو أقرب إلى الاستنكار منه إلى الاستفهام، ويجيب ورقة إجابة الواثق المتأكد:"نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا"[19] .

ص: 322

هذا هو السبب الحقيقي لتآمر قومه به، وثورتهم عليه، إنه جاءهم بالحق، ولكنهم يكرهون الحق الذي جاء به، وإنه ليدلهم على طريق الخلاص، ولكنهم يتمنون أن يمطروا بحجارة من السماء ولا تكون نجاتهم على يديه، لقد أعماهم الحقد، وغشي أبصارهم الحسد. ولم يعد يدور بخلدهم إلا التفكير في التخلص من محمد وما جاء به صلى الله عليه وسلم

المؤامرة:

ضاق القوم ذرعا بالرسول صلى الله عليه وسلم ووجدوا أنفسهم قد فشلوا في كل محاولاتهم، فشلت وسائل التعذيب والإرهاب، كما فشلت أساليب الخداع والإغراء، كذلكَ باءت حرب الإشاعات بخيبة الأمل.

ورأى المشركون بأعينهم انتشار الإسلام في كل مكان، وعلموا بما تم بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة من البيعة على النصرة والإيمان، فأزعجتهم تلك الأخبار، وأقلق نفوسهم ما يتوقعون من انتصار التوحيد على الوثنية التي استماتوا في الدفاع عنها، وحز في نفوسهم أن يتغلب محمد صلى الله عليه وسلم عليهم بعد هذا العناد الطويل.

تواعد القوم أن يلتقوا في دار الندوة، وأن يطرحوا هذا الموضوع الذي شغل بالهم على بساط البحث، وعزموا على أن يتخذوا فيه قرارا حاسما مهما كلفهم ذلك.

لقد ماتت خديجة التي كانت تقف دونه بمنزلتها ومن يؤازرها من عشيرتها، ومات أبو طالب الذي كان يفديه ويدافع عنه، لم يعد هناك ما يحول بينهم وبين الإيقاع به فلماذا يترددون؟

وبدأت الجلسة بحماس لم تعرفه دار الندوة من قبل، إن المسألة في نظرهم مسألة كرامة، لقد سفه محمد عقولهم، وعاب آلهتهم، وعرض بآبائهم فماذا بقي لهم؟، إنهم إن لم ينتصروا لآلهتهم المهانة وعقولهم المسفهة وآبائهم المجرحين فلا خير في العيش، ولا فائدة في الحياة.

قال أحدهم في انفعال شديد: "أرى أن تحبسوا محمدا في الحديد، وتغلقوا عليه بابا، ثم تتربصوا به ما أصاب الشعراء من أشباهه".

ص: 323

ورفض الاقتراح من غير مناقشة طويلة حيث لا يستحق المناقشة لأنهم يعتقدون أن أصحاب محمد لا تعجزهم فرصة يختلسونها ثم يطلقون فيها سراحه.

وقال آخر: "خير لكم من ذلك أن تنفوه من بلادكم، فإذا خرج عنا فلن نبالي أين ذهب ولا حيث وقع، وحينئذ نصلح أمرنا، وتعود إلينا ألفتنا كما كانت".

ولم يكن هذا الاقتراح خيرا من سالفه، فقد رفض لأول وهلة، لقد غاب عن صاحب الاقتراح أن خوفهم من خروجه أكثر من خوفهم من بقائه، ولم يفطن إلى أنه لو خرج من بينهم يكون خطره عليهم أشد، وتهديده لعقيدتهم أقوى حيث يستطيع أن يجمع من الاتباع ما يمكنه بهم أن يجتاح عليهم ديارهم، ويغلب عليها دونهم عندئذ قام أبو جهل وقال:"إن لي رأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد"، وقال الحاضرون في لفهة:"هاته يا أبا الحكم"، قال أبو جهل:"أرى أن نأخذ من كل قبيلة شابا جليدا نسبيا وسيطا فينا ثم نعطي كل واحد منهم سيفا صارما، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فيرضوا منا بالعقل، فنعقله"[20] .

وفرح القوم برأي أبي جهل، وأيدوه من غير نظر ولا مناقشة، وكيف لا وهم لم يجتمعوا إلا ليتخلصوا من محمد. إن اقتراح أبي جهل هذا قد كشف عن قبح الاقتراحين السابقين وسخفهما بقدر ما كشف عن حمق صاحبيهما، لا شك أن حبس محمد في الحديد سيثير عاطفة بني هاشم إن لم يحرك عاطفة كثير من الناس الذين يرونه مكبلا بالحديد من غير جرم ولا جريرة، فيتعاطف معه كثير ممن لم تربطهم به عاطفة ولا قرابة. لأن تعاطف الناس مع المظلوم حقيقة لا يماري فيها أحد.

ص: 324

كما أن نفيه من البلد سلاح رهيب يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يستغله ضدهم فيألب عليهم القبائل، وهم جميعا على أتم استعداد ليستمعوا إليه لولا أن قريشا تحول بينهم وببن ذلكَ، فإذا ما خلا له الجو للالتقاء بهم في حرية من غير ضغط ولا تشويش لا شك أنه سيقنعهم فيكونون معه عليهم.

لهذا رأى الجميع في رأي أبى جهل الفرصة التي ينشدونها، فيجب ألا يضيعوها، وغادروا دار الندوة وقد أجمعوا أمرهم على تنفيذ اقتراح أبي جهل.

ومكروا ومكر الله:

أوحى الله إلى نبيه ما بيت القوم له، وأمره بالهجرة، وكان الطريق قد تمهد من قبل ببيعة الأنصار، وهجرة المسلمين إلى المدينة المنورة، وقد وجدوا فيها وطنا بدلا من وطنهم، وألفوا فيها أهلا خيرا من أهلهم، وعاشوا فيها آمنين على أرواحهم وإيمانهم.

وبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يواجه الموقف الجديد في ثبات لا يزعزعه التردد، وبحزم لا يوهنه اللين، وكان عليه أن يواجه كيدهم بكيد هو أنكى منه وأشد، وكان عليه أن يقابل تخطيطهم بتخطيط هو أدق منه وأتقن.

لقد خطط القوم وفكروا، وناقشوا الأمر وقلبوه على كل وجوهه ثم أجمعوا أمرهم على ما رأوه يحقق آمالهم، فهل يجوز أن يواجه الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الاهتمام بالكسل، والتخطيط بالتواكل؟

كلا، لا بد أن يولي الأمر اهتماما أكثر من اهتمامهم، لأنه متعلق بعقيدته أولا، وبشخصه ثانيا، كما لا بد أن يواجه تخطيطهم بتخطيط يفسد عليهم حيلتهم، ويحبط كيدهم.

وإننا لنعجب غاية العجب إذا وقفنا على خطة الرسول صلى الله عليه وسلم التي واجه بها خطة القوم، وإن المحققين ليقفون مدهوشين من روعة تلك الخطة وإحكامها، ولن أتعرض لقصة الهجرة هنا إلا بالقدر الذي أستنبط منه العبرة، وأستخلص منه الدروس التي يحتاجها المسلم في طريقه الطويل الشاق إلى غايته السامية الغالية، فالقصة برمتها مسطورة في كتب السيرة والتاريخ.

ص: 325

اجتمع شباب قريش وفتيانها في الليلة التي حددوها لتنفيذ المؤامرة، وأحدقوا ببيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والسيوف في أيديهم تخطف الأبصار ببريقها، ويترقبون خروج رسول الله لينهشوه بتلك السيوف.

وكان على رسول الله أن يخرج من بين هذه الجموع المحتشدة المترقبة، وكان عليه كذلك أن يضللهم حتى لا يفطنوا لخروجه فيتبعوه، ويفسدوا عليه خطته، عندئذ أمر عليا رضي الله عنه أن ينام في مكانه، وأن يتغطى ببردة الحضرمي الأخضر، فامتثل علي لأمره، ونام في مكانه مضحيا بنفسه يفدي بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وضرب علي بذلك أروع أمثلة التضحية والفداء.

نام علي على فراش الرسول، ونظر المشركون من خصاصة الباب فاطمأنوا على سلامة خطتهم، وظلوا يتحينون فرصة خروجه ليضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل.

وهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخروج من بيته، وكانت لحظة جد خطره فالمشركون على باب الرسول وسيوفهم مشرعة في أيديهم كأنها الحيات تتلمظ لتنهش فريستها، وحانت لحظة الوداع، فودع الرسول عليا وطمأنه قائلا:"لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم"[21] وأوصاه أن يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس [22] .

وخرج رسول الله على القوم وهو يعلم مكانهم وما جاءوا من أجله ولكنه خرج وكله ثقة في الله عز وجل وفتح باب بيته ليجد فتيان قريش يغطون في نوم عميق، وكأنهم لم يناموا منذ زمن بعيد.

ماذا دهى القوم؟ لقد كانوا منذ لحظات يسمرون، وقد حضر معهم سادة قريش: أبو جهل، والحكم بن أبي العاص، وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وأمية بن خلف، وربيعة بن الأسود، وطعيمة بن عدي، وأبو لهب، وأبي بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج [23] .

لقد حضر هؤلاء السادة ليشجعوا فتيان قريش على أداء مهمتهم وليتشفوا في رسول الله، ويمتعوا أبصارهم برؤية دمه الشريف وهو يهراق أمامهم، فما بالهم يغطون في هذا النوم العميق؟

ص: 326

ولقد كان أبو جهل - لعنه الله - منذ لحظات يحدث القوم ساخرا من رسول الله- صلى الله عليه وسلم ويقول: "إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كجنان الأردن؛ وإن لم تفعلوا

كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها" [24] .

يا سبحان الله!! لقد سمع رسول الله ذلكَ من أبي جهل وهو في طريقه إلى الباب ليخرج، فأي مصيبة حلت بهم فصرفتهم عن غايتهم؟؟

إنها إحدى المعجزات، لقد أخذ الله أبصارهم، وضرب على قلوبهم حتى خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يروه، وسخر من أبي جهل كما كان يسخر منه قبل لحظات، وقال:"نعم، قلت ذلك، وأنت أحدهم"، وأخذ حفنة من تراب فجعلها على رؤوسهم، وهو يتلو قوله تعالى: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ

فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [25] .

فلم يبق أحد منهم إلا قد وضع على رأسه ترابا [26] .

أي سخرية هذه؟ وأي احتقار للقوم؟ شباب أقوياء وسيوفهم في أيديهم، يخرج عليهم رسول الله وحيدا، ولكنه في رعاية الله، ويضع التراب على رؤوسهم متحديا تلكَ السيوف التي ذبلت في أيديهم كأنها أغصان فصلت عن شجرتها، فلم تغن عنهم شيئا.

ويمر بالقوم رجل فينبههم، فإذا التراب على رؤوسهم، والخزي يجلل وجوههم، وينظرون من خلال الباب فيرون النائم متسجيا بالبرد الحضرمي الأخضر فيقولون:"هذا محمد نائم على فراشه"، وظلوا في حصارهم ينتظرونه، حتى أصبحوا، فقام علي رضي الله عنه عن الفراش فقالوا:"قد صدقنا والله من حدثنا"[27] .

وخاب أمل القوم، وضل سعيهم، ألم يكن في هذا الحدث وحده واعظ لهم ينبههم إلى أن الرسول ممنوع منهم؟ وأنهم مهما دبروا فالله من ورائهم ولكن {رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [28] .

ص: 327

إلا تنصروه فقد نصره الله:

خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من بيته على النحو الذي ذكرت متوجها إلى بيت أبي بكر، وكان قد أخبره بالهجرة وبالموعد الذي سيغادران فيه مكة، وأمره أن يكتم عليه، ومن أوفى من أبي بكر بعهد قطعه مع رسول الله؟

وكان أبو بكر رضي الله عنه ينتظر تلك الساعة بفارغ الصبر، وكان قلقا على الرسول خائفا أن يصيبه مكروه من القوم، ولكن الرسول كان محفوفا بالعناية الربانية، ولهذا خرج على القوم دون أن يتردد وإني أشهد شهادة حق أنه صلى الله عليه وسلم لو لم يكن رسولا حقا ما خرج في تلك الساعة مهما كانت قوته وشجاعته.

وفي بيت أبي بكر وضع الرسول خطة كاملة للهجرة، وأعد لكل شيء عدته، لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن اتخاذ الأسباب أمر يقتضيه كمال الإيمان وحسن التوكل، وعلى هذا الأساس وضع برنامج الهجرة.

كان لابد من سلوك طريق غير مألوفة حتى لا يعترضه أحد من أعدائه، فاستأجر لذلك الدليل - عبد الله بن أريقط- وكان ماهرا يعرف الطريق معرفة جيدة، وكان عبد الله مشركا، ومع ذلكَ ائتمناه على هذا السر الخطير، ووفى الرجل بعهده فلم يخن ولم يغدر، ولو فعل لم يلم لأنه على دين قومه، ولا يهمه أمر المسلمين في شيء، ورصدت قريش مائة ناقة لمن يأتي بمحمد حيا أو ميتا [29] وأبت نفس ابن أريقط أن يربح هذه الجائزة على حساب رجل ائتمنه ورضي بأجره المتفق عليه.

وكان لابد أن يختفي رسول الله فترة عن أعين الناس حتى يهدأ الطلب وتفتر الهمم في اقتفاء أثره فيتمكن من السير وهو آمن.

فأدلج إلى غار ثور، أقام فيه ثلاثة أيام، ولم ينس رسول الله أن يدبر أمر الطعام والشراب والأخبار في تلك الفترة التي سيقضيها في الغار، فجعل أسماء بنت أبى بكر رضي الله عنها لإعداد الطعام والشراب تأتيهما به ليلا حتى لا يراها أحد [30] .

ص: 328

وجعل على أخبار القوم عبد الله بن أبي بكر، كان يسمع ما يدور في مجالس القوم نهارا ويعيه فإذا جن الليل أتاهما بأخبار الناس وأعلمهما بما يتكلمون به، وعلى أساس هذه الأخبار يخطط للبقاء في الغار أو لمغادرته وكان صلى الله عليه وسلم يخشى أن يرى أحد من المشركين أثار أقدام عبد الله بن أبي بكر وأخته أسماء فيسدل بها على مكانهما فأمر عامر بن فهيرة مولى أبي بكر أن يسرح بالغنم مبكرا على آثارهما فيعفى عليها، ويزيل ما قد يكون سببا في معرفة مكانهما، كما كان يريح الغنم عليهما ليلا فيذبحان منها، ويحلبان فيشربان.

ومع كل هذه الاحتياطات، ورغم كل التخطيطات وصل القوم إلى الغار، ولكن هل على الرسول وصاحبه لوم إذا عرف القوم مكانهما بعد ذلك، كلا، فقد اتخذا كل الاحتياطات اللازمة وبذلا كل ما في وسعهما والله – سبحانه - بعد ذلك يتولى ما لم يقدرا عليه.

وصل المشركون إلى الغار، ورأى سيدنا أبو بكر رضي الله عنه أقدامهم فقال:"يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر تحت قدميه أبصرنا"، والرسول يهدئ من روع أبي بكر ويقول:"يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا"[31] .

لقد كان رسول الله في ثقة تامة بالله عز وجل وكيف لا وهو لم يهمل سببا من الأسباب، ولم يقصر في أمر يستطيعه، وأكثر من هذا فقد كان خروجه بأمر الله، والله تبارك وتعالى لا يضيع نبيه أبدا.

لهذا كان الرسول يخاطب أبا بكر وهو موقن أن الله لن يضيعهما ولابد أن يرد عنهما عدوهما، وقد كان.

وتولى الله صرف المشركين عن الغار، أما كيف؟ وبماذا؟؟ فهذا ما لم يخطر لأحد على بال. لم يرسل الله ملائكة تحرس النبي وصاحبه، ولم يسلط على القوم جيشا يردهم عن وجهتهم. ولكن أمر العنكبوت فنسجت على وجه الغار، وأرسل حمامتين فباضتا عليه [32] .

ص: 329

وتنازع المشركون أمرهم بينهم، هذا القائف يقول: قد دخلا هنا، وهذا العنكبوت والحمام يوحي إليهم بكذب القائف، حتى قالوا: كيف يدخل الغار ولم يتكسر بيض الحمام، ولم يتمزق نسج العناكب، ولو صح أنهما دخلا قبل بيض الحمام ونسج العنكبوت. فهل يتمكن العنكبوت من نسج ذلكَ في تلك المدة الوجيزة، إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يغب عنهم إلا منذ يوم فقط، فكيف يستطيع العنكبوت نسج ذلك كله حتى يغطي فم الغار في يوم؟ ولو صح ببض الحمام في هذا اليوم فإن ذلك يستحيل على العنكبوت.

لقد حسب المشركون الأمر بحسابهم المادي المعتاد، ولم يدروا أن لله جنود السماوات والأرض، وأن الخوارق طوع إرادته -سبحانه - {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [33] .

وبهذا الأمر الكريم نسجت العناكب فوق ما يتصوره عقل الإنسان، وباضت الحمائم على وجه الغار، وهكذا صرف الله عن نبيه أعداءه بأوهى الأسباب، وأضعف المخلوقات، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [34] .

إلى المدينة:

مضت على الرسول الأيام الثلاثة وهو في الغار، وهدأ الطلب ويئس المشركون، واطمأن الدليل فوافاهما براحلتيهما، وغادر رسول الله الغار مع صاحبه في رعاية الله وحفظه.

وسلك الدليل بهما طريقا لا يعرفها كثير من أهل مكة إمعانا في تضليل المشركين، وضمانا لسلامة المهاجرين، وكان السائرون في هذا الدرب أربعة: رسول الله، وأبو بكر، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر صحبهما ليقوم بخدمتهما، ثم عبد الله بن أريقط دليلهما.

أخذ الدليل بهما طريق الساحل، وسار أمامهما، وجد الناس في طلبهما رغبة في الحصول على الجائزة الثمينة التي رصدتها قريش لمن يأتي بهما أو بأحدهما حيا أو ميتا.

ص: 330

ورغم إمعان الدليل في التضليل، ورغم الجهد المبذول في التخفي إلا أن سراقة ابن مالك أدرك المهاجرين، وخاف أبو بكر رضي الله عنه مرة أخرى وقال:"هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله"، وأجاب الرسول بكل ثقة واطمئنان:"لا تحزن إن الله معنا".

لقد حاول سراقة أن يفوز بالجائزة، إنها ليست شيئا هينا بل هي مائة ناقة عن كل واحد منهما، يقول سراقة:"كنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة الناقة"[35] .

وفرح سراقة عندما رأى الرسول وصاحبه، وحدثته نفسه بالثروة العظيمة التي تنتظره، لا شك أنه سيكون من سادة قريش وأثريائهم، ومن سيكون أكثر ثراء منه فيهم إنه سيكون بعد قليل صاحب مائة ناقة إن لم يكن صاحب مائتين.

وهمز سراقة فرسه ليدرك الركب، وجد في السير، وأجهد فرسه ولكن حيل بينه وبين ما يشتهي، فكيف حصل هذا؟ ولنترك سراقة يحدثنا بما حصل له، قال سراقة:

"فلما بدا لي القوم ورأيتهم عثر بي فرسي، فذهبت يداه في الأرض، وسقطت عنه، ثم انتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار، قال: فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني، وأنه ظاهر"[36] .

إن سراقة رجل قد أراد الله به الخير فهداه إلى الحق، وأدرك أنه ما دام لم يستطع الوصول إليه وهو أمامه فلا بد أن يكون له شأن، وإلا فما الذي يحول بينه وبينه؟

وأدرك سراقة سر هذه الحيلولة فأمن بالله ورسوله، وأخذ على نفسه أن يرد عن الركب كل ما يطلبه.

لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل في رد سراقة، ولكن الله هو الذي رده، إن الرسول قد اتخذ الأسباب التي يستطيعها، فسلك طريقا غير معروفة، وأخذ الدليل ليهديه، واستخفى عند خروجه وذلك ما يستطيعه، فإذا حدث ما لم يكن في الحسبان فالله عز وجل يتولى دفعه، وقد كانت المعجزة التي شاهدها سراقة فعلم أن الرسول ممنوع لا محالة فآمن به.

ص: 331

وقف سراقة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليه الزاد والمتاع وأخبره بما يريد به الأعداء، فلم يقبل الرسول منه زادا ولا متاعا وأمره أن يخفي أمره ولا يخبر أحدا به [37] .

والتفت الرسول إلى سراقة وقال: "كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ "[38] إنها كلمة لا يقولها في مثل هذا الموقف إلا رجل عظيم تام الثقة بالله عز وجل إن الرسول يطارده قومه، وقد خرج من بينهم مهاجرا إلى بلد آخر مستخفيا، ثم يخبر سراقة بأنه سيلبس سواري كسرى، إنه أمل عظيم في الله - سبحانه - وثقة تامة في نصره المبين.

ويعود سراقة بهذه البشارة الطيبة وبكتاب أمان كتبه له أبو بكر بأمر الرسول، ويعود فوق ذلك بإيمان ملأ قلبه فكان ذلك عنده خيرا من ألف ناقة.

ومر الرسول وصاحبه بخيمتي أم معبد وهي امرأة من خزاعة كانت تجلس في خيمتها تطعم وتسقي من يمر بها فسألاها عن شيء يشترونه، فأجابت لو كان عندي ما أعوزكم القرى.

ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جانب الخيمة شاة فقال: "ما هذه الشاة يا أم معبد؟ "فقالت: "هي شاة خلفها الجهد عن الغنم".

فاستأذن منها، وحلبها فتفاجت فدرت، وملأ الرسول منها إناء يكفي الرهط فسقاها ثم سقى أصحابه ثم شرب أخرهم، ثم حلب في الإناء مرة أخرى حتى ملأه وتركه عندها وغادرها.

وهكذا يضرب الرسول المثل في حب الخير للناس لقد كان يستطيع أن يرحل عن أم معبد دون أن يحلب لها، ويكفي أنه سقاها وسقى أصحابه ولكنه صلى الله عليه وسلم كان حريصا على أن يصل الخير إلى الناس جميعا. ولعلها لا تجد ما تطعم منه زوجها إذا حضر فترك عندها ما تستعين به على ذلك.

وفي الطريق لقي الركب الزبير بن العوام رضي الله عنه قادما من الشام في تجارة له، ومعه بعض المسلمين، فكسا الرسول وأبا بكر ثيابا بيضاء مما جلبه من الشام.

ص: 332

وسار الركب المبارك ميمما شطر المدينة، وعلم الأنصار بمقدمه فخرجوا لاستقباله وقد لبسوا سلاحهم وتلقوه بظهر الحرة المعروفة بحرة الوبرة - الحرة الغربية - فمال بهم صلى الله عليه وسلم ذات اليمين متجها إلى قباء حتى نزل في بني عمرو بن عوف وكان ذلك في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

بلال مؤذن الرسول ص 45.

[2]

ابن هشام (2/169) .

[3]

نفسه (2/169) .

[4]

العنكبوت الآية 67.

[5]

مختصر سيرة الرسول ص 18. ابن هشام (1/105) .

[6]

العصامي (1/161-162) .

[7]

ابن هشام (1/170) .

[8]

هيكل ص 117.

[9]

الفيل الآيات: 5،4،3.

[10]

ابن هشام (4/23) .

[11]

تاريخ مكة (1/152) .

[12]

الفرق بين الفرق ص 290.

[13]

نفسه.

[14]

الصافات: الآية (98ـ99) .

[15]

العنكبوت: الآية: 26.

[16]

الدخان الآية: 23ـ24.

[17]

النساء الآية: 97.

[18]

النساء الآية: 100.

[19]

رواه البخاري.

[20]

ابن هشام (2/90ـ91) والعقل الدية.

[21]

ابن هشام (2/91) .

[22]

نفسه 93.

[23]

مختصر ص 165.

[24]

ابن هشام (2/91) .

[25]

سورة يس الآيات: 1- 9.

[26]

ابن هشام (2/91) .

[27]

نفسه ص 92.

[28]

المطففين الآية: 14.

[29]

مختصر السيرة ص 169.

[30]

ابن هشام (2/93) .

[31]

مختصر السيرة ص 168.

[32]

مسند البزار.

[33]

سورة يس الآية: 82.

[34]

سورة ق الآية: 37.

[35]

ابن هشام (2/96) .

[36]

نفسه ص 96-97.

[37]

صحيح البخاري.

[38]

الإصابة (2/19) .

ص: 333

البحث عن سيف صلاح الدين

لفضيلة الدكتور عبد الرحمن بله علي

في عام 490 هـ الموافق 1096 م حشد الغرب الصليبي بنيه من كل جنس وهجم على الشرق الإسلامي في أعداد كموج البحر. وحتى يبرروا الهجوم العدواني لابد من استغلال العاطفة الدينية فصاحوا في الناس أن بيت المقدس أصبح في يد شعب غريب يقصدون المسلمين وما كان ذلك هو السبب وإن علقوا على صدورهم الصلبان لكنهم نظروا في واقعهم ووجدوا أنهم على حالة من الفقر والعوز لا يصلح معها عيش، أرضهم تضيق بهم وتعجز عن إمدادهم بالطعام، وأرض الشرق لا نظير لها في خيراتها.. هم في حاجة إلى ثروات وإمكانات يريدونها للنهوض بغربهم وهي لا توجد إلا في الشرق الإسلامي.

هذا إلى جانب ما هم عليه من حقد دفين على الإسلام وأهله فهم لا يألون جهدا، ولا يدخرون وسعا في حربه وطيّ راياته، والقضاء على أمته. وفي سبيل تلك الغاية يعتسفون الطرق، ويركبون الصعب والذلول.

من أجل هذا وذاك سالت بهم الوديان كل مسيل، يدفعهم حقد أسود ويسوقهم عدوان أثيم على ديار المسلمين الذين استحكمت يومئذ بينهم العدوات وضعضعت من قوتهم عميق الحزازات مما جرأ النصارى عليهم ودفعهم إلى أن يغزوهم في عقر دارهم.

وهكذا اندفعت كتائبهم، وتوالت حملاتهم، لا ينقضي منها عنيف إلا جاء بعده أعنف، وقد صور ذلك القاضي الفاضل وزير صلاح الدين الأيوبي أصدق تصوير حين قال للسلطان:"إنه لما اجتمعت كلمة الكفر من أقطار الأرض، وأطراف الدنيا، ومغرب الشمس ومزخر البحر، ما تأخر منهم متأخر ولا استبعد المسافة بينك وبينهم مستبعد وخرجوا من ذات أنفسهم الخبيثة، لا أموال تنفق فيهم، ولا ملوك تحكم عليهم ولا عصا تسوقهم، ولا سيف يزعجهم، مهطعين إلى الراعي، ساعين في أثر الساعي، وهم من كل حدب ينسلون ومن كل بر وبحر يقبلون"[1] .

ص: 334

وما راع المسلمين إلا رؤيتهم النصارى يقتحمون عليهم ديارهم، ويرفعون السيوف في وجوههم، ويدفعون بالخيول في صدورهم. وأمام هذه المباغتة تنادى المسلمون والتحمت صفوفهم وواجهوا هذا العدوان بشجاعة لا نظير لها، ودارت بين الفريقين معارك عنيفة انتهت باستيلاء المسيحيين على بيت المقدس.

وعندما لعبت بعقولهم نشوة الانتصار راحو يذبحون النساء والأطفال والشيوخ وأئمة المسلمين وعبادهم وهم داخل بيت المقدس وفي رحابه.. لم تمنعهم قدسية المكان عن ارتكاب هذه الجريمة التي تنشق لها المراير، وتنفطر من هولها القلوب.

وتمكن الصليبيون من السيطرة على الشام وخاصة الجزء الساحلي من آسيا الصغرى إلى خليج العقبة. وبهذا تحكموا في منافذ الشرق الإسلامي فتفتحت لهم طرق التجارة، وسيطروا على الأسواق الشرقية فأصبحت لهم مورد كسب، وينبوع ثروة، ومصدر غنى ورخاء.

وقف المسلمون أمام هذه الهزيمة التي طعنت كرامتهم بأصمى سلاح، وتركت في حلوقهم أمر من طعم العلقم وقفوا يتطلعون بعين الأمل إلى قائد راشد الرأي قوي العزيمة مشدود الشكيمة لا يرام ما وراء ظهره، صبور في ميدان القتال، لا يستسلم مهما عظمت الخطوب، وكثرت عقبات الدروب.. إذا رأى خرقا بادر بسده، وإذا أبصر سارع برده، توحيدا للكلمة، وذوداً عن حرمات الأمة وحماية لظهرها وتمكينا لدينها..

ص: 335

وجدوا ضالتهم المفقودة وأمنيتهم المنشودة في القائد الفذ صلاح الدين الأيوبي الذي ترجمت له مواقفه المشهورة وأعماله المذكورة التي جعلته يقف في تاريخ الإسلام معلما فريدا وقمة شاهقة الذرى.. وأول شيء فعله أن عمد إلى الكلمة فجمعها، وإلى الصدع فرأبه، وإلى الصف فوحده، جاعلا من مصر والشام والجزيرة العربية وديار بكر أمة واحدة، وقوة ضاربة، واستنفرهم للجهاد في سبيل الله، وانصرف يتألَفهم بشتى الوسائل ومختلف الطرق، ولقد كانت غاية وعرة الطريق صعبة المنال كثيرة العقبات، ولكنه تخطاها واحدة وواحدة، بالصبر والحكمة، وقوة العزيمة وشدة شكيمته. يقول له وزيره القاضي الفاضل:"وليس لك من المسلمين كافة مساعد إلا بدعوة، ولا مجاهد معك إلا بلسانه، ولا خارج معك إلا بهمَ، ولا خارج بين يديك إلا بأجرة، ولا قانع منك إلا بزيادة، تشتري منهم الخطوات شبرا بذراع وذراعا بباع، تدعوهم إلى الله فكأنما تدعوهم لنفسك، وتسألهم الفريضة وكأنما تكلفهم النافلة، وتعرض عليهم الجنة وكأنك تريد أن تستأثر بها دونهم"[2] .

ص: 336

ولكن القائد الراشد يستطيع بعمق تفكيره وحسن تدبيره أن يجعل من الضعف قوة، ويجني من الشوك عنبا، ويصنع من الناس ذهبا. فها هو يجعل من المسلمين وهم على حالهم ذاك أمة موحدة الهدف، مسموعة الكلمة مرهوبة الجانب، متخذة من الإسلام آصرة، ومن كتاب الله إماما ومن العربية لسانا، ومن جميع المسلمين إخوانا. راجعا في هذه الوحدة إلى سالف عزها وسابق مجدها.. تلك كانت أمنيته التي ظل يعمل لها، ويهبها جهده ووقته وسيفه، لا يبتغي من وراء ذلك كسباً شخصياً، وليس أدل على ذلك من أنه بادر بعد القضاء على الدولة الفاطمية، بمصر- بادر بالانضمام إلى علم الدولة العباسية الكبرى في بغداد حتى تكتمل الوحدة، ويتم بتوحيد الكلمة والصفوف أمام الغزو الصليبي، ولا يجد أمام تماسكهم من الهزيمة خلاصا، ولا عنها مناصا. يحدثنا التاريخ بأن بعض وزراء الدولة الفاطمية بدءوا يراسلون الصليبيين سرا، يكشفون لهم عن وجهها، ويرغبونهم في غزوها، فبات السلطان مقتنعا بضرورة القضاء عليها وطي بنودها ومسح وجودها، فلما تم له ذلك لم يبادر بقطع الخطبة عن الخليفة الفاطمي ويدعو لأمير المؤمنين ببغداد، لأن الجو لم يتهيأ بعد لمثل هذه الخطوة إذ لا يزال ملبدا بالغيوم منذرا بالخطر، وبعد مشاورة من يثق في رأيه اهتدى إلى إبطال الزيادة المعروفة في آذان الشيعة:.."حي على خير العمل"جسا للنبض وتحسسا لمشاعر الناس. وتلك نظرة صادقة وسياسة راشدة، لأن الدولة الفاطمية التي حكمت مصر (297- 567) كانت تغدق المال على المصريين خاطبة ودهم، راغبة في تأييدهم وانتمائهم إلى المذهب الشيعي الذي تقوم عليه الدولة.

ص: 337

والناس في كل زمان ومكان عبيد المال والإحسان. فلما تمكن واستوثق عفى على آثارها تماما فحرق كتبها، وأبطل آراءها، وحارب عقيدتها المنحرفة عن نهج الحق، ومنع أن يفسر القرآن على حسب الأهواء والميول كما يفعل الشيعة، وأمر بتدريس فقه المذاهب الأربعة، بعد أن كان ذلك ممنوعا أمام فقه الشيعة، كما أمر بقطع الخطبة عن الخليفة الفاطمي، وإعلانها لخليفة بغداد.

وهكذا طوى هذه الصفحة بكل هدوء طيا محكما، وأسدل ستاراً سميكا على تلك الحقبة من التاريخ بما عليها.

وحتى تنتظم الوحدة جميع المسلمين كتب رسالة إلى ملك المغرب يعقوب بن يوسف ابن عبد المؤمن ينهي إليه فيها أن هناك مددا متصلا يأتي الكفار من الغرب، ذلك أن فرع الكفار بالشام استصرخ بأصل الكفار من الغرب فأجابوهم رجالا وفرسانا، وشيبا وشبانا، الأمر الذي جعلهم قوة متزايدة النماء، وأخر استرجاع ما اغتصبوه، ويطلب منه النجدة وقطع الطريق أمام المدد الصليبي، وينبئه أنهم كانوا يأملون أن يصلهم هذا المدد من جانبه ليكون للمسلمين آمالا وللكافرين آجالا، فلما بطأ أرسلوا هذه الصيحة علها تحرك هذا المدد ولا غرو في ذلك، (فقد تحفل السحابة ولا تمطر إلا أن تحركها أيدي الرياح، وقد تترك النصرة فلا تظهر إلا أن تضرع إليها ألسنة الصفاح..) .

والرسالة طويلة دبجها شيخ أهل الترسل في زمانه وكاتب الديار المصرية وزير صلاح الدين- القاضي الفاضل [3] وهي وثيقة تاريخية بالغة الأهمية، وقطعة باهرة البيان- ويذكر المؤرخون أن الظروف الداخلية والقلقة للمغرب أخرت الاستجابة إليها، وتلبية ندائها.

ص: 338

وعلى الصعيد الداخلي أدرك بنور بصيرته وصفاء روحه وصائب حكمته أن ما عند الله تعالى لا ينال إلا بطاعته والتزام شريعته، فعمد إلى المظالم يرفعها عن كاهل الناس، وإلى المنكرات الفاشية يزيل أسبابها، ويغلق أبوابها، ويفرض حرمة الأخلاق، ويضرب على أيدي العابثين ويؤكد حاكمية الدين. واستطاع أن يجمع الناس حول راية الجهاد، ويتجه بهم إلى ميدان القتال، وينازل بهم كتائب الأعداء، صابرا محتسبا، لا يجد اليأس إلى نفسه سبيلا، ولا ترى في مواقفه من الرياء فتيلا، فلا غرو أن نصره الله نصرا بقي على مر الحقب ذكرا طيبا في الدنيا، ووسام شرف على هامات المسلمين. فقد نازل الصليبين في كثير من المعارك انتهت بنصره، وبث الخوف في أوصالهم لما امتاز به هو وجنوده من تضحية وبذل وفداء، وكلّ قد تدجج بسلاح العقيدة والإيمان، وهو سلاح فعال إذا دخل معركة آمال كفتها، وغير نتيجتها.

وعلى مشارف (حطين) دارت رحى معركة فاصلة انتصر فيها صلاح الدين انتصارا باهرا. ورأى أن يجهز على الصليبيين قبل التقاط أنفاسهم وتجميع شتاتهم، فبادرهم بجيش عرمرم إلى (بيت المقدس) وأمام قوته الضاربة وسطوته القاهرة رأوا ألا قبل لهم به ولا طاقة، فرفعوا أكفهم طالبين الصلح رابحين حياتهم، فدخله يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب عام ثلاثة وثمانين وخمسمائة من الهجرة.

ص: 339

ثم تعقبهم فأجلاهم عن كثير من الحصون والقلاع التي اغتصبوها، وسيطروا عليها فتم له استرجاع المقدسات.. وإطفاء جمرة الأعداء ورفع راية الإسلام عالية خفاقة على كثير من الأماكن واضعا الحروب الصليبية على قدم النهاية؛ وكان رحمه الله في كل معاركه معهم مثلا أعلى في المروءة والسماحة، فكان انتقامه عند المقدرة عفوا شاملا، وهو يرمي من ذلك إلى إظهار سماحة الإسلام وشكر فضل الله، إلى جانب ما جبل عليه من كرم الخلق ونبل الطبع وسماحة النفس. وفي أيامه الأخيرة كان يسر لبعض خاصته أن أملَه المنشود إعادة الأرض المغتصبة ورد خطر الصليبيين عنها، وتعيين من يثق فيه لتصريف شؤونها وحماية ثغورها، ثم يتفرغ حينئذ إلى الدعوة إلى الله تعالى فلا يدع مكانا في العالم إلا حملها إليه حتى لا يرى على وجه الأرض إلا مؤمنا بالله رب العالمين، أو معطيا الجزية للمسلمين خاضعا لهم داخلا تحت طاعتهم.

إلا أن آثار الجهاد بدأت تظهر على القائد، فقد عاش لله أكثر مما عاش لنفسه، ومكث في ميادين القتال أكثر مما مكث في حدائق القصور، وعاشر سمر الرماح وبيض الصفاح أطول مما عاشر أهله وذويه. وأخيرا أدرك الإعياء البطل فلزم الفراش في الشام وفي شهر صفر عام 589 هـ فاضت روحه إلى ربه، وتذكر بعض المراجع أنهم دفنوا معه سيفه الذي كان يجاهد به، كأنه جرى في خلدهم أن ليس هناك أحد جدير بحمل سيفه وإتمام دوره وتحقيق أمله.

ص: 340

والواقع أن أمتنا قد تنهزم في بعض الأحيان حتى أن عدوها ليظن أنها أصبحت رمادا هامدا، ولكن ما هي حتى يظهر قائد عبقري التفكير عميق النظر والتدبير فيكتشف أن تحت الرماد شرارة فما يزال ينفخ فيها حتى تتأجج نارا تلتهم الأعداء ويخافها الأقوياء. وفي تاريخنا من العبر والدروس ما لو تأملناه ووعيناه لعادت هزائمنا نصرا، وخسائرنا مكسبا وربحا، خاصة في الأوقات التي نتعرض فيها للهزائم العسكرية والهزات النفسية، فيكون عونا لنا- بعد الله- على الثبات أمام العدو المتربص بنا الطامع في أرضنا. فهلا راجعنا رصيدنا التاريخي لنعرف كيف بلغت عزتنا، وركيزة مجدنا وقوتنا وإن كان التاريخ لا يعيد نفسه، فإن أوجه المماثلة في حوادثه المعادة أكثر من أوجه المخالفة، فما الحرب العالمية الأولى إلا امتداد للحروب الصليبية، وليس أدل على ذلك مما قاله (غورو) القائد الفرنسي بعد أن تم له النصر على السوريين في معركة (ميسيلون) فقد مضى هذا القائد إلى قبر صلاح الدين، وخاطبه قائلا:"ها قد عدنا يا صلاح الدين"ولولا أن الله حكم على الأموات ألا يتدخلوا في شؤون الأحياء لقام إليه القبر يلحمه السيف.

فلنأخذ لذلك أهبته، ولنعد له عتاده وقوته. والله حسبنا وهو مولانا فنعم المولى ونعم النصير.

الشريعة الإسلامية

تمتاز الشريعة الإسلامية عن القوانين الوضعية بأنها مزجت بين الدين والدنيا، وشرعت للدنيا والآخرة، وهذا هو السبب الوحيد الذي يحمل المسلمين على طاعتها في السر والعلن والسراء والضراء لأنهم يؤمنون بأن الطاعة نوع من العبادة يقربهم إلى الله.

(الشهيد عبد القادر عودة)

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، أبو شامة ط 1287 هـ، جـ 2 ص 168.

ص: 341

[2]

مختارات من كلام القاضي الفاضل (مخطوط) بدار الكتب المصرية رقم (2882) .

[3]

الكامل في التاريخ ابن الأثير ط 1 جـ 11، ص 247.

ص: 342

حقوق الإنسان في الإسلام

(الحلقة الأولى)

لفضيلة الشيخ عبد الفتاح عشماوي

المدرس بكلية الحديث الشريف

بما يلي نقدم أوَلا:

سبحان من لا أحد أصدق منه قيلا، ومن قوله عن الإنسان الذي خلقه:{إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} ، فالموجد يعرف سر ما أوجده {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} .

فقد راح هذا الإنسان يضع لنفسه حقوقا، فجعلها على نفسه حتوفا.

راح يضعها وكأنه وضع لنفسه شيئا عجز خالقه عن أن يصنعه له.

فعل ذلك وكأنه راحم لنفسه أكثر من الذي كتب على نفسه الرحمة، سبحانه.

فعل ذلك وهو الضعيف المصنوع، وكأنه ينبئ صانعه بما لم يعلمه عنه {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأََرْضِ} .

ذهب هذا الإنسان ينشئ لنفسه ما سماه (حقوق الإنسان) ، لا لشيء إلا أنه مع ربه كثير الجدل طويل اللسان، {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} .

وكأن القرآن العظيم والسنة السنية التي شرحته، وقد وسعا شؤون الدنيا والآخرة لم يسعا حقوقه.

وأخذ هذا القاصر (حقوقه) وقدمها إلى (هيئة الأمم المتحدة) لتقوم على هذه الحقوق وتؤديها له كاملة غير منقوصة.

فإذا بالإنسان قد استبان له بعد أن أفاق من غشيته أن هيئة الأمم المتحدة التي ائتمنها على حقوقه هي (هيئة أمم مختلفة) ، لم تتحد يوما داخل مبناها، ولم يفد وجودها شيئا لنفسها، فهل تقيم حقوقا لكل إنسان في كل أرجاء الأرض؟ هي ومجلس أمنها المعروف؟!

ص: 343

إن الأرض ما ضجت بكل أصقاعها إلا من اعتداء الظلمة الجبارين والذين أوتوا من زينة الدنيا ما تربعوا به في مجلس (أمنها) فحولوه إلى مجلس (خوفها) والمسمون بالأعضاء الدائمين الناقضين لكل قرار لا يتفق وهواهم، لأن لهم من دون الدنيا حق نقض القرارات (الفيتو) ، ولو هلك بهذا الفيتو المفتئت كل عداهم، بعد أن وضعوا حقوق الإنسان التي ائتمنوا عليها تحت نعال أحذيتهم أثناء جلوسهم في مجلس (الأمن) .

فمتى أخافت هيئة الأمم ومجلس أمنها معتديا وردته عن عدوانه وطغيانه؟. إن الصراع الإنساني، والتوحش البشري، والنزيف الدموي، والضواري التي افترست صغار غابتها، والشعوب التي محيت بأكملها، والتشريد لأمم طردت من ربوعها ومهادها، ومقدسات غالية لطخها بالدنس أعداؤها، ومعتنقو الخسران من تشيع وتصهين يطاردون بني الإنسان تنكيلا وتمزيقا، أصبح هو السمت المميز والمبدأ المعتنق لحضارة إنسان القرن العشرين، كل هذا لم يحدث إلا في عهد الأمم المختلفة ومجلس خوفها، وهما القائمان على تنفيذ (المواد الثلاثين لحقوق العالمين) .

وقد أعدت هذه الهيئة العالمية بجربها هيئات إقليمية أخرى فسارت على نفس السليقة التي سارت عليها الهيئة الأم. كمجموعة (دول الكومنولث الإنجلوسكسونية) ومجموعة (دول الكومنفورم الشيوعية) ومجموعة (دول عدم الانحياز) و (المجموعة الأوروبية) و (منظمة الوحدة الإفريقية) و (منظمة الجامعة العربية) ، وسواها.

هذا غير الأحلاف العسكرية، كحلف الأطلنطي لدول أوربا الغربية، وحلف وارسو لدول أوربا الشرقية، وحلف دول شمال شرقي آسيا، والحلف المركزي المسمى بحلف بغداد سابقا، وغير ذلك كثير من المنظمات والأحلاف المنتشرة في مختلف البقاع العالم.

ص: 344

وكل هذه المنظمات منقسمة على نفسها، حيث كل أعضائها ممثلون في الهيئة المختلفة الرئيسية، وهي المسماة (بهيئة الأمم المتحدة) والتي أنشأتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بعد توقفها ووضع أوزارها مباشرة، وذلك لتستمر لها الهيمنة السياسية بعد أن تمت لها الهيمنة العسكرية.

وليت الخلاف في الهيئة الأم وأشباهها من المنظمات الأخرى وقف عند التنابز بالألقاب فيما بينها، بل تنابزت بالمدافع والدبابات والمقاتلات في حروب متلاحقة بين أعضائها كانت وما زالت يهلك بها المشاركون في هذه المنظمات الآلاف من أبناء أممهم، فلم تربطهم المواثيق التي اتفقوا عليها إلا وهم متهالكون على المقاعد قبالة بعضهم عند عقد الاجتماعات، {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} ، وبعد الافتراق يظهر أثراً النفاق خرابا ودمارا، ولنكتف بضرب المثل بأقرب منظمتين بالنسبة لنا، منظمة الوحدة الإفريقية، ومنظمة الجامعة العربية، فلم تكد سنة تمر أو حتى بضعة أشهر منذ أنشئتا دون أن يقع قتال بين أعضائها يقتل فيه البراء، وتطفح به برك الدماء، وتؤول ديار عامرة إلى بلا بلاقع، هذا غير سباب بذيء تفضح به الأسرار، ويهتك به الأستار ينقله الأثير إلى سمع أهل الأرض، تلك هي أخوة بني الإنسان التي فج ضوءها الأزرق من (نيويورك) مقر لجنة حقوق الإنسان، والتي أفاءت من زرقتها المعتمة على الإنسان في جنبات الآفاق، بما في ذلك منظماته المتشاجرة، والتي لا تندمل لها جراحات، والذي نقول ليس بالمجهول، فالكل معنا له مثلنا أذن وعين، إلا أن بعض الحكام الموقعين على إعلان حقوق الإنسان ومنهم من هو في منطقتنا هذه أيضا، ينكلون بأبناء شعوبهم بأنواع من النكال لا أسمح لقلمي أن يسيل لها مداده، حيث لا تكاد تصدق أو تخطر ببال، فقد تعدى بعضها كل حدود الصفة البشرية، وما أظنها تقع من زواحف الأجحار، وكواسر الأحراش، حتى لا يظن التالي لكلماتي هذه أني قد قسوت في

ص: 345

التعبير أو نبا القلم من يدي، إني سأكتفي بالتلميح الكافي عن التصريح، بما أنا موقن منه حق اليقين، حين سلب شرف وانتهك عرض والمعتدى عليه أو عليها مغلول بأصفاد في غيابة السجن، فقط لأنهم قالوا لحكامهم هذا حرام وهذا حلال، ولم يجد بشيء ذلك التوقيع على إعلان للإنسان في ورقة لتقرأ أو تنشر، فلم يصاحب ذلك خوف من الله بقليل أو كثير، زيادة على معظم مواد الإعلان التي وضعت لتميل حيث مال الهوى، كما سنوضح في هذا البحث إن شاء الله تعالى.

ما كان للإنسان الذي وضع أو الذي رضي بتلك، تاركا ما وضع ربه له من أجمل حقوق بلغت الغاية وأوفت الكفاية إلا أن يظل قابضا على جلد القنفذ الذي ظنه المنقذ من همومه وأنكاده، فهل يحيف الله على الإنسان لما سخر له كل ما في سمائه وأرضه، بما نرى كل يوم ونسمع، ولكنه لم يقرَ ولم يقنع، وهل أنقص سبحانه شيئا فجاء الإنسان ليتم هذا النقص قد قرأ هذا الإنسان أو سمع أو علم {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} ، ولكن لما كان الإنسان (ظلوما جهولا) اكتفى بحمل الأمانة قولا وأباها عملا، إلا الذين هم قليل ما هم.

وفي مراجعتنا لمواد حقوق الإنسان وجدناها متكررة متداخلة، وكنا عازمين قبل أن يتبين لنا ذلك جعل حديث منفرد عن كل مادة من الثلاثين، ولكننا وجدنا الكلام سيتكرر مع تكرار ما يشير إليه كثير من هذه المواد، فأثرنا أن نقسمها إلى مجموعات، كل مجموعة منها تشمل المواد المتقاربة الموضوع، فأصبحت عشر مجموعات بعشرة أبواب مرتبة هكذا:

الباب الأول عن المادتين، 1، 2

الباب الثاني عن المواد، 7، 8، 9، 11،10

الباب الثالث عن المواد، 3، 5، 12

الباب الرابع، 4، 18، 20،21

الباب الخامس عن المادة، 16

ص: 346

الباب السادس عن المواد، 13، 14، 15

الباب السابع عن المادتين، 17، 23

الباب الثامن عن المواد، 22، 24، 25

الباب التاسع عن المادتين، 26، 27

الباب العاشر عن المواد، 28، 29، 30

هذا وما قصدنا المقارنة بين ما وضع الله وما وضع الإنسان معاذ الله، فنكون قد خسئنا وخسرنا. لأن المقارنة بين الكائن والمكون في حكم العقل المجرد أمر محال، وإنما قصدنا أن نظهر كيف تفعل الحجة الدامغة بالحجة الداحضة، والله يخرج من قلوبنا سخائمها حتى تكون مصفاة من كدر الرياء، آمين.

وإن يعجب القارئ فعجب أن التاريخ الذي أعلن فيه حقوق الإنسان كان نفس التاريخ الذي أعلن فيه قيام إسرائيل على جثث وعظام الأمة الفلسطينية، والفلول التي بقيت منها قطَعت في الأرض هائمة على وجهها، والتاريخ هو عام 1948م تاريخ حقوق على ورق أعلنت، وحقوق شعب بأكمله سرقت، أختطف وطن بأسره أرضا وزرعا وضرعا وديارا بعد أن أوغل فيه تذبيحا وتمزيقا، الأطفال قبل النساء والنساء قبل الرجال في قصة هي من أبشع ما حكت الدنيا من قصص التوحش اليهودي، فعل الصهيونيون ذلك عام إعلان حقوق الإنسان تماما ليفهموا كل الخليقة أنهم ليسوا من بني الإنسان حتى يتقيدوا بحقوق الإنسان، ولا زالوا ملتزمين بما طبعوا عليه من الفظاظة والقسوة {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ، هذا وصف خالقهم لهم، وتأكيدا لوصف خالقهم هذا ازدادوا على مر الأيام قسوة وضراوة حتى مزقوا القرآن، مع يقينهم من أنه كتاب الله بما قرؤوه في توراتهم، أما عن الأمم المتحدة فقد حضرت هذه المسماة بإسرائيل هذه الهيئة بأسوأ صور التحقير، لما وضعت تحت نعلها ما يزيد عن عشرين قرارا أصدرته ضدها هي ومجلس أمنها.

ص: 347

ذلك لأن السجية التكوينية لليهودي هي أنه لا يعيد ما سرقه إلا إذا جدعت أنفه، ولا يرد ما اختطفته يده إلا إذا كسرت ذراعه أو سلبته حياته، فليس داخلا في نظام دنياه لغة المحادثة أوالمفاهمة، وهل من عقل يتصور بأن هناك من يصدق القول عنهم أكثر من بارئهم، وصاحب الصنعة أدرى بسر صنعته {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} ، ثم نقل سبحانه سرهم التكويني هذا إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم حين قال له هذا القول العجب:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ} إذا ماذا لهم من علاج؟ {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} ، إذا وهذا إخبار الله عنهم فالتعاهد والتوادد مع اليهود ضرب من المحال، ومحاولة لا تأتي إلا بأسوأ الوبال.

ولهذا لم يكن منه صلى الله عليه وسلم بعد أن أمهلوه من الله بحلم طويل، وصابرهم عليه السلام الصبر الجميل، إلا أن ينفذ أمر الله النازل إليه فيهم، فاستأصل شأفه شرهم، ومحا وصحبه أثرهم، وأزال من أرض الجزيرة كل ما عانوه من نجس ودنس، ذلك لأن اليهودي مخلوق فاقد الحياء مع الله والرسل والناس، فما من أمة سبت ربها بأبشع وأقذع ما يقال إلا َهم، وما من أمة قتلت الأنبياء غيرهم، فماذا تنتظر منهم أن يفعلوا بمن دون ذلك؟

فلن تصفو الحياة إلا إذا اختفوا من الحياة، فهل من مدكر؟

والآن نبدأ في تفاصيل البحث، طالبين العون من المستعان وأن يجعله عملا نافعا لمن كتب ولمن قرأ، بعد أن يجري القلم بصادق القول والقصد له وحده.

الباب الأول:

المادتان الأوليتان من إعلان حقوق الإنسان.

ص: 348

1-

يولد جميع الناس أحرار متساوين في الكرامة، وقد وهبوا عقلا وضميرا وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء.

2-

لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون تفرقة بين الرجال والنساء، وفضلا عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد، سواء كان هذا البلد أو تلك مستقلا أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود. سنلاحظ أن هاتين المادتين وكثيراً من مواد الإعلان ذات كلمات جميلة أخّاذة، ظاهرها الرحمة لبني الإنسان، وتلك حقيقة إن تمت، ولكنها لم تتم لأن باطنها شغف هؤلاء الناس بإلفات النظر إليهم على أنهم الإنسانيون المتمدينون دون من عداهم، ولهذا فهم يصدرون المبادئ الصالحة والتعاليم النافعة وقد ظنوا أننا من البلاهة بحيث لا ندرك أن المفيد من إعلانهم قد أعلناه منذ أربع مائة وألف سنة، أفاء الله به علينا رحمة ظاهرة وباطنة بواسطة رسول بنا رؤوف رحيم {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فأسبغ الله علينا به نعمة ظاهرة وباطنة، لمن يسمع ويقرأ ادّعاء ورياء، وباطنها ضد ظاهرها عداء واعتداء، حتى ألفاظ الإعلان وضعوها بصورة يوهمون بها بأنهم أوجدوها ولسيوا من عندنا أخذوها.

وها نحن نبدأ حديثنا عن المادتين اللتين ذكرنا نصهما آنفا من إعلان حقوق الإنسان فنقول وبتطويل:

ص: 349

لو رجعنا إلى بداية الخليقة لنسلط عليها فكر الباحث لوجدنا أن صفتي التعنصر والتميز هما من وضع أعدى عدو لله وللخلق أجمعين، ذلك هو إبليس الرجيم اللعين، في قصته مع آدم لما ميَز نفسه بعنصره، حيث توهم الفرق بين العنصر الذي خلق منه وهو النار، والعنصر الذي خلق منه آدم وهو التراب، قال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} ، فأدت به هذه العنصرية إلى الطرد من رحمة الله، وعليه فالأصل في العنصرية أنها صفة إبليسية، ومن تلبس بها تأبلس، وإذا فقد يلحق به في الطرد من رحمة الله، تلك قضية واقعية لا نماري فيها.

ولكن انطواء هذه العنصرية أو انطلاقها على مدى الدهور، يكون حسب معرفة الإنسان لصانعه وأصل صنعته، فإذا ما أدرك قدرة الصانع الأعظم سبحانه، عرف ضلة نفسه باعتباره مصنوعا له، وإذا أدرك أصل صنعته وهو التراب، عرف تفاهة قدره، فلا موجب لديه يجعله يميز نفسه عن غيره فقد فهم أن الصانع واحد هو الله، وأن الأصل واحد هو التراب تدوسه النعال، كلكم لآدام وآدم من تراب، فإذا ما علم هذا وسيطر على الأفهام في أي عصر، سيطرت روح التآخي وهيمنت مشاعر التواصل، وانزوت نزوات التعالي والكبر، فقد اعتصموا بحبل الله جميعا ولم يتفرقوا.

ص: 350

أما إذا أخلد الإنسان إلى الأرض واتبع هواه، ونسي ربه الذي سواه، وأصبح فكره حبيس نفس غرور، ولم يخطر بباله ذلك الطين الذي خلق منه، حتى ولو ادعى بأن له دينا، فيمسي على الفور عنصر عصيا ومفرقا غويا، فيبدأ بتمييز ذاته عن ذوات الغير، فإذا انتقل داخل وطنه ميز مسقط رأسه، فإذا تنقل خارج وطنه ميز وطنه، فإذا انتقل خارج قارته ميز قارته، ثم لا ينسى أن يميز نفسه بلونه ولنا في هذا التفصيل يأتي عند الحديث عن المواد المتصلة بذلك.. بل بلغ الأمر إلى العيب على ما يرتديه الغير من زي لأنه ليس كما يلبس هو وقومه، بل وعلى نوع الطعام لأند مخالف لطريقة ما يطهى عندهم ويطعم، بل وعلى اللهجات يسخر منها حيث لم تكن كما ينطق هو ويتكلم، وهكذا أصبح يعيش في نفس غيابة نسيت عيبها، فقد نسيت خالقها وما منه صنعت، لأن عنصريته التي قام عليها كيانه لم تفهم صيحة القرآن في الناس {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} .

ص: 351

وأحب أن أتناول هذه الآية بتوضيح فيه بعض التفصيل، فقد حفظت هذه الآية حتى من غير المتعلمين؟ وأصبح يدلل بها في هذا المجال بصورة عامة لم تبين الكثير من جمال الآية، فالنداء العظيم في أولها بدأ أولا من الله إلى الناس، يذكرهم بأن الأب واحد والأم، آدم وحواء، أي كلكم أشقاء، ولما تكاثرتم نشرناكم في الأرض، فأصبحتم قبائل وشعوبا هنا وهناك، لكن ذلك لا ينسيكم أصل الأبوين، فتعارفوا لتشعروا أنكم على سواء، والأشقاء في النسب شيء واحد، لكن لن يكونوا شيئا واحدا إذا ما تحول التعارف بينهم إلى معرفة موجدهم الأعز، لأن معرفته تعالى تعطي صبغة الإيمان، وهي أعلى ما يعلو به الإنسان، ومن صبغة الإيمان هذه تأتي صورة التآخي، وهي أعلى من التعارف، لأن التعارف عام بين كل الناس والتآخي خاص بين المؤمنين ولو كانوا غير أشقاء، فقد يكون في الأشقاء من استقام ومن أعوج، بل قد يكون منهم من آمن ومنهم من كفر.

ص: 352

ولهذا سمت خصوصية التآخي على عمومية التعارف {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة} فإنَ تنافي في هذه الجملة القرآنية المعظمة أكدت معنيين، أولهما تأكيد مكانة الأخوة، وثانيهما أن تكون فقط بين المؤمنين، ومن هو تحت ذلك فيقف أمرهم عند التعارف، وأن نبرهم ونقسط إليهم ما لم يكونوا مقاتلين أو مخرجين لنا من الديار، وعندئذ فلا برَ ولا قسط، ولكن ذراع يرفع بالسلام لا ينثني {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} ، وكمله، {أَكْرَمَكُمْ} في الآية تعطي واضح الفهم بأن المكرمات عند الله للمؤمنين الأتقياء رتب تتفاوت، وفي النهاية جعلت الآية أعلى الرتب في المكرمات لمن توقى من تقي إلى أتقى، فلم يقل سبحانه (تقيكم) وإنما قال {أَتْقَاكُمْ} لأن تقيكم مرتبه أدنى من أتقاكم، ولهذا جاءت الكلمتان {أَكْرَمَكُمْ} و {أَتْقَاكُمْ} على صيغة تفضيل واحدة، أي الأعلى منزلة في الإكرام هو الأعلى درجة في التقوى جعلنا الله منهم- أما ختام الآية {عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فمتصل بما ذكر فيها عليم بخلقكم هذا الذي أخبرتكم بشيء منه، لكن خبرته بأتقاكم بها (هو أعلم بمن اتقى) فتصبح المعاني في الآية.. مرتبة بالخلق فالانتشار فالتعارف فعليكم تقوى من فعل وحده ذلك.؟

تلك هي الآية التي يقرؤها الكثير اليوم ولا يعيها، والله بها أعلم، فلما وعاها أهل القرآن يوما عملوا بها واتحدوا عليها، فتعاملوا مع غيرهم بنصفها الأول ومع بعضهم بنصفها الآخر، فلم يتفاضلوا فيما بينهم إلا بعمل ما يطمع أحدهم به أن يكون من الأتقى

فلما صمَت الآذان عن هذه الآية وأمثالها المنظمة للأسرة البشرية كل حسب مكانه ومكانته، أصبحت السيادة الآن في هذه الدنيا لذئاب التمييز والعنصرية، وكان الشعار هو أن يأكل الكبير الصغير، وجاء إعلان حقوق الإنسان فزادت شراسة هذا الشعار بما لم يعد معه ثقة ولا أمن ولا أمان.

ص: 353

(فأيهما أنفع للإنسان؟ ما وضعه الله له؟ أم الذي وضعه هو لنفسه؟)

ولما شاء الله تعالى أن ينزل من السماء نوره ليحمله إلى خلقه خير خلقه صلوات الله وسلامه عليه، حاولت هوام الظلام يومئذ أن تطفئ نور الله هذا، فتشعبت جوانب كيدهم منقضة جميعها على النور البازغ حديثا، في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم والقلة لا تملك من المنعة شيئا للدفاع عن نفسها وكان من أبرز جوانب هذه المعركة عنجهية الجاهلية، والتي انحدرت متعاقبة منذ القرون الأولى فكان أول اصطدامها بضدها في عصر نوح عليه السلام، وظل شرها المميز العنصري يتوارث ويظهر مع رسالة كل رسول، حتى الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، فأرادت أن تعمل معه عملها الذي تعودته مع غيره، فكانت أن لقيت حتفها تماما على يد نبي الإسلام بما نزل عليه من وحي قاصم لكل عتل غاشم، ومادمنا قد اكتفينا بضرب المثل بأول الرسل وبآخرهم عليهم جميعا سلام الله، فلنذكر شيئا مما وقع في ذلك، بادئين بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم، لا تحيزا منا ولا تمييزا، وإنما مرسلهم سبحانه هو الذي فضلهم على بعض {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض} ، فإنه وإن كان نبينا صلوات الله عليه هو الآخر في ترتيب الأزمنة، فهو الأول في ترتيب المنزلة، فقد وضعه القرآن قبلهم جميعا في قوله:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِه} فبدأ سبحانه الخطاب به قبل نوح {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} ، ثم ذكر بعد ذلك نوحا والنبيين من بعده، وأيضا في قوله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} ، فالآية بالنبيين بدأت عامة؟ وعند الترتيب وضعت نبينا في أولى الدرجات قبل نوح ومن بعده {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيم} إلى آخر الآية، وشمل ذلك رسل أولي العزم، وفي القرآن أمر رسولنا أن يقول: {وَأُمِرْتُ لأَنْ

ص: 354

أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} ، وأمر نوح أن يقول:{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .

ولقد عمدت إلى توضيح هذا حتى لا يتوهم أحد أننا نميز رسولنا لمجرد التمييز تعصبا منا كما يفعل أهل الأديان الأخرى لأنبيائهم، فنحن نؤمن بهم جميعا ولا نفضل إلا من فضل الله {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِه} ، والمقصود - والله أعلم بعدم التفريق هنا في مهمتهم الكبرى التي جاؤوا بها جميعا، وهي تعريف المخلوقين بالخالق ليوحدوه بلا ند ولا نظير، أما درجات أشخاصهم وشمول شرائعهم فهو تفضيل وليس بالتفريق، وقد عقد الله لنبينا في ذلك الأفضلية في شخصه وشريعته كما أوضحنا آنفا.

أعود فأقول إن أول ما بدأت تقاوم به دعوة الرسول الكريم كانت العنصرية، تلك الصفة التي لا يتشح بها إلا الجاهلون، وكل جاهلي في كل عصر، فقد صور الكفر للغلاظ من سادة قريش أن الفرق بينهم ومن أجابوا المنادي صلوات الله عليه من المساكن يمنع التساوي معهم بالدين الجديد، ومن هذا النوع قدم القرآن قصصا عنهم في أكثر من آية وأكثر من سورة، لكني اخترت البعض منها لأتحدث عنه اكتفاء بما نريد الوصول إليه في معرض هذا البحث.

فقصة الضعفاء التي أوردها علماء أسباب النزول في آيات سورة الأنعام البادئة بقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} وما تلاها من آيات سنذكرها بعد، أسندوا روايتها بلفظ يختلف ومعنى يتحد إلى ابن حبان وأحمد والطبراني وابن جرير الطبري وابن أبي حاتم، عن الصحابة سعد بن أبى وقاص وابن مسعود وعكرمة وخباب رضي الله عنهم أجمعين.

ص: 355

تقول القصة: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ومطعم بن عدي، والحارث ابن نوفل، في أشراف بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا:"لو أن ابن أخيك يطرد هؤلاء الأعبد، كان أعظم في صدورنا أطوع له عندنا، وأدنى لاتباعنا إياه"، فكلم أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عمر بن الخطاب:"لو فعلنا ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون؟ "فنزل قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ..} إلى قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ، وكان هؤلاء الضعفاء الذين قصدوهم، هم بلال، وعمار ابن ياسر، وسالم مولى أبي حذيفة، وصالح مولى أسيد، وعبد الله بن مسعود، والمقدام بن عبد الله، وواقد بن عبد الله الحنظلي، وغيرهم، رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم، فأقبل عمر فاعتذر، فنزلت فيه الآية {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا..} إلى آخر الآية، انتهى لفظ القصة. ولنقرأ أولا الآيات كاملة، ثم نتناول بعضها بالتفصيل.

{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ؟

ص: 356

فالآية الأولى قدمت قضية الحقيقة أساسا، وهي أن الذي يخاف من يوم المحشر هو الذي يقبل دائما أن ينذر، والذين لا يخافون هذا اليوم لا تغنيهم النذر ولا ينتفعون بها {وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} ، ثم يأتي بعد ذلك في الآية موضوع الطرد ليصحح الوضع، فالذين قبلوا الإنذار خوفا من يوم الحشر دخلوا في رحمة الله، فلا يملك أحد طردهم منها ولا الرسول نفسه، فأمره سبحانه أن يبقيهم في حضرته حتى لا يحرموا من تلقي الخير الهابط من السماء يقدمه إليهم من ربه، وأخبره بأنه سيكون ظالما لو طردهم، أما المستحق حقيقة للطرد فهو الذي عصى النذير، لأنه لا يخاف أن يحشر فتكبر، فكان أن طرد من حضرة الرسول ومن جنة ربه، وهكذا سدد الإسلام وفي أول ظهوره ضربة ماحقة إلى من تحمله العجرفة على تمييز نفسه وتحقير غيره.

ص: 357

ودور عمر رضي الله عنه في القصة هام، فقد استولت عليه الرهبة لما نزلت الآيات تخالف رأيه، عندما قال:"لو فعلنا ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون"فأسرع واجفا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعتذر إلى الله بين يديه، فتنزل الآية بقبول اعتذاره، لكن بعد أن ذكرت أن ما وقع من عمر كان سوءا، فلما علم الله أن هذا السوء غير منوي، وإنما وقع بغير عمد من صحابي ولي، شرفه في نهاية الآية بالمغفرة له وإحلال الرحمة عليه، فقد خاطب سبحانه نبيه في شأن عمر قائلا:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَإَِنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، فإذا كان ما أراده عمر رضي الله عنه هو استدراج المتعالين لعلهم يؤمنون، ومع ذلك أعتبر الله عمله سوءا يوجب التوبة، ولم يشفع لعمر منزلته عند الله وعند رسوله إلا التوبة مما قال، فكيف بمن يشمخون اليوم ويتميزون، ومن يمدونهم في طغيانهم بالملق والزلفى؟، أظن لهم ميعاد يوم لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون.

أما الذين قالوا لنبيهم نوح عليه السلام: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} وقالوا له: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} . رد نوح عن الأولى بشجاعة حملة الحق {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} ، ملاقوا ربهم لينتصر لهم ممن يهزأ بهم، وهو نفسه علم أنه لن يسلم من أمر يفعله الله به إذا رضخ لقومه وطرد الضعفاء {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ؟} .

ص: 358

فهو عليه السلام أدرك بأن النصر مؤكد لهؤلاء الذين ازدري بهم، وأن نبوته لن تغني عنه شيئا إذا عصى الله وطردهم، ثم لكي يغيظهم بدفاعه عن الضعفاء بدَل كلمة (الأرذلين) منهم بكلمة (المؤمنين) منه لما قال:{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} في آية {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} في أخرى، بل ورد الإهانة عنهم بأن وصم خصومهم المستهزئين بهم، بالجهل مرة، وبعدم الفهم والتذكر ثانية {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} ثم، {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} .

وبعد الذي قدمه القرآن عن نبينا وعن نوح صلوات الله عليهما، وهما الرسولان اللذان حصرا الدنيا بكاملها بين رسالتيهما نسأل: أيهما أرفع وأنفع، وأكرم وأدوم، ما وضعه الله للإنسان، أم ما وضعه الإنسان لنفسه.

ص: 359

لقد مشت على هذا الصراط أمتنا الإسلامية سنين عديدة، لم يقم وزنا لحسب ولا عصب، اختفت في مجتمعها القومية وارتقت الربانية، إلى أن بدأ المسلمون ينسلَون من دينهم رويدا عصرا بعد عصر، وبدأ ثعبان العصبيات والقوميات يخرج من حجره، والذي حبسته في حجره طويلا تعارف الإنسان وأخوة الإسلام، إلى أن جاء عصرنا فحرص أعداء الإسلام والمستعمرون الذين احتلوا معظم رقعه الأرض الإسلامية أحقابا طوالا، ألا ينجابوا عنها إلا بعد أن يوقظوا فيها حمية القومية، فنودي على الفور بعد جلاء الخبثاء المفرقين بالقومية العربية، قبل أن يسبق أحد بنداء الإسلامية، وساد نداء القومية الجاهلية. وكان قد قدم لها بعمل ثابت وهو إنشاء الجامعة العربية في عصر احتلال الإنجليز للأرض العربية كلها تقريبا. وصرخت أصوات مسلمة مخلصة إبان ذلك تطالب بجعلها جامعة إسلامية لتوصد الباب على تحريك القوميات مستقبلا، وليجتمع فيها العالم الإسلامي كله، عسى أن يكون ذلك تمهيدا لعودة الخلافة الإسلامية لتعود بها قوة المسلمين لما وحدوا تحت الحكم بالقانون القرآني، لكن هذه الأصوات المخلصة أهملت ولم يصغ إليها، وغلبت فكرة الجامعة العربية الإسلامية، وأتى بعدها تبعا شعار القومية العربية وليست الأخوة الدينية، والآن تم للأعداء ما أرادوه من إيقاظ التفرقة والتمييز، حيث نظر بقية العالم الإسلامي إلى العرب نظرة الحذر والخيفة، فلم يشتركوا معنا نحن العرب إلا بالقرارات في المؤتمرات، ولم يطلقوا [1] معنا رصاصة واحدة لما أخذ اليهود بتلابيبنا، والحق لهم لأننا أغفلناهم وجعلنا لأنفسنا جامعة تختص بنا، وقومية نتميز بها.

ص: 360

وفي ظل الجامعة العربية والقومية دخلت الشيوعية عدوة الإسلام الأولى أرض العرب وانتشرت، بل سادت وحكمت، وفي ظل ذلك أيضا اشتعلت الخصومات بين العرب، بل وتقاتلت دولهم بالجيوش، وفتك أبناء العم ببعضهم بالآلاف، في حروب شبه مستمرة مستعرة، وتتجدد هنا وهناك في عرض أرض العرب وطولها، وفي ظل الجامعة العربية والقومية العربية تجري مؤامرات العرب الصليبيين في لبنان لحصر المسلمين هناك بين فكي عبدة العجل اليهود، وعبدة الصليب النصارى، وذلك بمساعدة الدول المسيحية الصليبية.

وفي ظل القومية العربية وقعت بنا أشنع رزية، لما أصيبت أمتنا الإسلامية في أحشائها بضياع قدسها وما حوله من ملك إسلامي عريض قدمه إلينا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوة زنودهم لما جمعتهم جامعة إسلامية، وأضعناه في عصر القومية العربية.

وليمشي المكر السيئ من أعدائنا بلا توقف، جعلوا قضيتنا مع اليهود إقليمية وليست عقدية، حتى لا تتحرك لها مشاعر صاحب الإسراء صلوات الله عليه، فدرجوها من قضية القدس المقدس إلى قضية فلسطين، ثم إلى أزمة الشرق الأوسط، ولأننا أصبحنا إقليميين قوميين تقبلناها منهم بسرعة، واستقر الأمر على أنها مجرد أزمة وتزول، وأصبحنا جميعا على كل مستوى نرددها، فلم تعد قضية إسلامية ولا حتى عربية، وقل أن تذكر فلسطينية، وإنما هي أزمة الشرق الأوسط، ولا زلنا وحدنا نبتلع غم هذا الكرب العظيم، وراح من أوقعنا في فخ هذه القومية ينظر ضاحكا متشفيا، فهل بعد هذه النكبات المبكية نتحد في جامعة إسلامية، وفيما نزل بنا من عقاب الله كفاية {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} .

ص: 361

ولكن من المؤكد أنه سيعز دين الله، وسيطرد اليهود إن شاء الله من قدسنا مذؤومين مدحورين، ولو لينتقم سبحانه لنفسه منهم لتطاولهم عليه، وليس لأجل العرب والمسلمين الذين عاهدوهم وأعطوا الدنيئة في أنفسهم ودينهم، وما كانوا اليوم أوفى من ماضيهم الغادر، لما عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم خانوه، فما كان لليهود يوما دولة ولن يكون، فيكم قرناء الذلة والتيه، وثلاثون عاما أو زهاء ليست شيئا في أعمار الأمم حتى يحسب بها لليهود دولة، والانتظار لن يطول بما ليس في حسبان أهل التشاؤم والوهن والخنوع إن شاء الله، وما قصه التفرق بسبب اللون؟ وهي قصة تلطخت بها مدنية المتحضرين فوق تلخطات ومخازي أهلت الأكثر في بؤر المظهر. وخاصة من الذين وضعوا إعلان حقوق الإنسان.

لقد أعطاني المدرس وأنا صغير درسا في سبب تباين ألوان البشرة، وقال لي: إن البشرة يسود لونها إذا عاش الإنسان في المناطق التي تشتد فيها حرارة الشمس، وتكون بيضاء في المناطق الباردة، فلما كبرت وكبرت معي مداركي بعض الشيء، علمت أولا أن هذه النظرية مصدرة إلينا عبر الماضي من عند غيرنا، وعلى كل حال لا مانع من أن نقبل أي مفيد من أي جهة، فلسنا متزمتين وقد يكون ذلك صحيحا فالكون لله والحر والبر هو مقلبهما، لكن سألت نفسي، إن الأوروبيين عاشوا مئات السنين وهم مستعمرون للمناطق الحارة ولم يتغير لون بشرتهم، وزنوج أمريكا عاشوا فيها قرونا طويلة ولم يتغير لون بشرتهم، والطفل الأوروبي الذي ولد تحت خط الاستواء وتلقفته الشمس الحامية وكبر تحتها لم تغير لونه، والملونون من مستوطني البلاد الثلجة لم تغير الثلوج البيضاء ألوان أطفالهم التي لونهم الله بها وهم أجنة في بطون أمهاتهم، ثم إن هؤلاء السمر ابتداء من صعيد مصر إلى آخر القارة الإفريقية هل كانوا جميعا عراة حتى غيرت الشمس لون كل أجسامهم؟..

ص: 362

أم أنه لو كانت الشمس هي المغيرة للون لكان الوجه وحده هو الذي يتغير ويبقى الجسم المستور بالثياب بغير تغيير، فمعروف أن الأبيض كله أبيض، وأن الأسمر كله أسمر، وهكذا، وقد يقول قائل: إننا نلاحظ تغيير لون الوجه الأبيض إذا تعرض للشمس طويلا، ولكنه تغيير قليل لا يلبث أن يعود إلى أصل لونه عندما ينتهي التعرض لحرارة الشمس هناك، ثم هناك ألوان متعددة، فاللون الأصفر يغلب على معظم دول آسيا، فهل الشمس هناك صفراء؟ والبلاد العربية لونها بين بين، فهل لون الشمس في هذه المنطقة كذلك؟ وغير ذلك من ألوان في أنحاء الأرض متباينة وصور في تكوين الوجه مختلفة، كلنا نراها وخاصة في موسم الحج الجامع المهيب.

ص: 363

وإذا من الذي لون وصور {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} ، إننا نرى الأشقاء بل التوائم يختلفون صورا ولونا وطولا وقصرا، وما خلقوا جميعا إلا من نطفة لا يتغير لونها، وكونوا في رحم واحد ما تعرضوا فيه لحرارة الشمس ولا لصقيع البرد، فجل الخالق وعز، وعفا الله عن المدرس الذي علمني وأنا صغير عكس هذا يوما، ولكنه هو الآخر معذور فقد تعلمه قبلي من غيره، والذي قبله كذلك وهكذا نسي الخالق ونسبت صنعته إلى غيره {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأََمْرُ} ويا ليتنا وقفنا عند هذا، بل رحنا نتخذ من صنعة الله هذه تفرقة تمييزا، ووقع في هذه الفتنة الوافدة مسلمون كثيرون في جهات وأماكن مختلفة، أقولها وأنا متأكد منها، ألسنا هائمين إعجابا بتقليد الأجانب في كل شيء حتى ولو عصينا بذلك ربنا وصريح ما أنزله على رسولنا؟ لما قدم إلينا سبحانه تغير ألواننا على أنه آية من آياته، لا يفعلها سواه، لنجعلها ينابيع الإيمان للنفس الفاهمة المدركة، ففي سورة (الروم) وهو اسم لأمة غير عربية، سمى الله بها سورة من سور كتابه، يقول سبحانه فيها:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} ، فالآية دليل على ما قلته آنفا من تحليل قصة اللون، وأن اختلاف اللغات والألوان بقدر لا يحصيه غيره هو خلق له مباشر، وليس بسبب كوني تقلبي من حرارة أو برودة أو تضاريس أو مناخ بيئة، فالتقدير المجمل للآية هو:

ص: 364

ومن دلائل وجوده وقدرته، خلق السموات والأرض، وخلق اختلاف لهجاتكم واختلاف ألوان أجسادكم، ومع أن اللغة واللون داخلان في خلق السموات والأرض، لكن اختصتا وحدهما في الآية بعبارة منفردة ليلفت سبحانه أنظار عباده إلى عظم آياته، والعالمين منهم خاصة كما ذكرت الآية، والتي من أعجبها فقط مجرد اللغة واللون، وإنما اختلافهما، وذكر سبحانه كلمة {لآياتٍ} مرتين، في أول الآية وآخرها، ليؤكد أن ذلك من معجزات الصانع وحده، ولكن هذه الآيات لا يجني جناها ويستفيد منها إلا (العالمين) ، الذين علموا حقيقة الوجود والموجد عز وتنزه،.

فما الحال إذا قدم الله إلى خلقه ما ذكرته الآية ليميزوا بها الحقيقة الواقعة في هذا الملكوت فعكسوا الآية كما يقولون، وانطلقوا يميزون بين الناس بلون الجلد، فإن كان أهل الفكران والكفران مصرين على تسفلهم هذا، أو من تبعهم منا في هذا بما يعدّ عدم تصديق بما أنزل به القرآن، فنحن عندنا أيضا تمييز لهم يوم يقال ما سيعوه جيدا {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} ، وبلون الوجوه كذلك، فعندنا لوجوههم سواد لن يزول أبدا {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوه} ولو كانت في الدنيا بيضاء لامعة، فهي يومئذ بكفرهم سوداء حالكة. وإذا كانت اليوم سوداء فهي يومئذ بإيمانهم جميلة بيضاء.

ص: 365

ثم نسمع أيضا وصفا للتمييز عندنا بلون الوجوه فنقرأ {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} ، يا لرهبة الوصف، ولو وقف سبحانه عند كلمة (الليل) لأعطت المعنى، ولكن لأن الليل قد يضيئه قمر وتتلألؤ فيه نجوم، فحدد وجه صاحب السيئات بالليل المظلم الذي لا قمر فيه ولا نجوم عندما يغيب كلاهما في آخر الليل، ونزيد من هذه الألوان ما قال كتابنا أيضا:{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} ، فوجه سواد الوجه في الآية الأولى لأنهم كفروا بربهم، وفي الثانية لأنهم كسبوا السيئات، وفي الثالثة لأنهم كذبوا على الله. بل منهم من سيميز بلون لم يسبق في الدنيا أن لون وجه أحد، وهو اللون الأزرق {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} .

هذه قاعدة التفرقة والتمييز عندنا، وحتى التفرقة بياض الوجه لها عندنا أيضا قول جميل {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وإذا كان الخلود هنا في الرحمة بمعنى الجنة، فإن ما سنسمع في الآية الآتية أحسن من الجنة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ، فالنظر إلى وجه بارئ الجنة خير من كل الجنة، أما الوجود التعسة فهي {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ، تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} . باسرة: شديدة العبوس. وفاقرة: داهية تقصمهم..

ص: 366

ثم نسمع من القرآن ما لا يشبع منه مسمع، لنعرف القاعدة الصحيحة للتمييز بين الوجوه، {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} . مسفرة: مضيئة من الفرح {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ. تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} . قترة: ظلمة، من هم هؤلاء؟ تجيب الآية، {أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} .

هذه هي قاعدة التفريق والتمييز عندنا نحن المسلمين، قاعدة تطبع الوجوه بطابع العمل الرباني، وليس ببشرة تتلون في دنيا التلون.

وليس لغيره ننظر

ووجه الله غايتنا

لحقا وجهه مغبر

ومن عن ربه يعرض

بهذا وحده نفخر

فبالتوحيد وحدتنا

يفرق بينه المظهر [2]

ألا سحْقا لمجتمع

وفي أواخر هذا الباب نورد مجموعة وقائع تاريخنا العاطر ابتداء من عصر النبوة فما بعد لمن أراد المزيد، حيث ما مضى من حديثنا المطول كان كله قائما على أرفع الأدلة، وأيقن مقال، وهو القرآن الكريم، وأورد الآتي من غير تعليق.

1-

من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع:

"ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى"، (ابن هشام) .

2-

بلال الأسود جدا، رضي الله عنه، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم يوما:"يا بلال ما دخلت الجنة إلا وسمعت دف نعليك بين يدي، فما تصنع في الإسلام؟ فقال: لا شيء يا رسول الله غير أني كلما توضأت صليت ركعتين بعد الوضوء" رواه البخاري، وأصبحت ركعتا بلال سنة في الإسلام أقرها النبي صلوات الله عليه.

ص: 367

3-

تجادل أبو ذر رضي الله عنه مع رجل أسود، قيل هو بلال وقيل غيره، فلما برح به الغضب عند الاحتداء قال له: يا ابن السوداء، فشكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأبي ذر:"أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيكَ جاهلية، وقال: طف الصاع. طف الصاع، ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح"(البخاري) .

4-

جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأل جليسا له وقد مر بهما رجل: "ما رأيك في هذا؟ "فقال: "الجليس هذا رجل من أشراف الناس، هذا حري والله إن خطب أن يزوج، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يسمع لقوله". فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما رأيك في هذا؟ ". فقال: "يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا والله حري إن خطب ألا يزوج، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا خير- يقصد الفقير- من ملء الأرض من مثل هذا"(البخاري) .

5-

قال الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه: "هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ "(البخاري)"أبغوني في ضعفائكم، إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم"(أبو داود) .

6-

وأثر عن عمر رضي الله عنه قوله للمسلمين: "لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر، تذهب بنا شرقا وغربا، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلا، منهم فإن استقام اتبعوه. وإن جنف قتلوه، فقال طلحة رضي الله عنه: وما عليك لو قلت، وإن تعوج عزلوه، فقال عمر: لا، القتل أنكل لمن بعده".

7-

وكتب إلى أبي موسى الأشعري واليه على الكوفة يقول: "يا أبا موسى، إنما أنت واحد من الناس، غير أن الله جعلك أثقلهم حملا، إن من ولي أمر المسلمين يجب عليه ما يجب على العبد لسيده".

ص: 368

8 ـ وقال للناس يوما: "ما قولكم لو أن أمير المؤمنين شاهد امرأة على معصية؟ فقال له علي رضي الله عنه: يأتي بأربعة شهداء، أو يجلد حد القذف كسائر المسلمين".

9-

واشتكى يهودي عليا إلى عمر رضي الله عنهما، وكان جالسا بجانبه، فقال له عمر:"قم يا أبا الحسن، قف بجانب اليهودي موقف القضاء"، وبعد تبرئة علي باعتراف اليهودي، لا حظ عمر على وجه علي تغيرا، فقال له:"أو قد ساءك أني أوقفتك بجانب اليهودي موقف القضاء"، فقال علي:"لا وإنما خشيت ظن اليهودي محاباتي عليه لما ناديته باسمه وناديتني بيا أبا الحسن".

10-

وقولته (أي عمر) رضي الله عنه لعمرو بن العاص لما ضرب ابنه واحدا من أهل مصر- في قصة مشهورة -: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، وأعطى سوطه للشاكي وأمره أن يضرب ابن عمرو".

11-

قال عثمان رضي الله عنه للمسلمين أثناء خلافته: "إني أثوب، وأنزع ولا أعود لشيء عابه المسلمون، فإذا نزلت من منبري فليأتني أشرافكم فليروني رأيهم فوالله لئن ردني الحق عبد لأذلن ذل العبيد". (من تاريخ العصر الراشدي)

فاسمعوا يا واضعي حقوق الإنسان، هذه هي حقوقه في الإسلام فأيهما أفضل، ما وضعه خالق الإنسان للإنسان، أم ما وضعه الإنسان؟ الله أكبر، سبحانه من رحيم كريم، لا يضاهى ولا يمثل.

الباب الثاني

نتحدث في هذا الباب عن المواد 7، 8، 9، 10، 11 من حقوق الإنسان. ونورد نصوصها فيما يلي:

المادة السابعة: كل الناس سواسية أمام القانون، ولهم الحق في التمتع بحماية متكافئة منه دون أية تفرقة، كما أن لهم جميعا الحق في حماية متساوية ضد أي تمييز يخل بهذا الإعلان، وضد أي تحريض على تمييز كهذا.

المادة الثامنة: لكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه من أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها إياه القانون.

ص: 369

المادة التاسعة: لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفا.

المادة العاشرة: لكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن ينظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظر عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه.

المادة الحادية عشرة: كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا حتى تثبت إدانته قانونا بمحاكمة علنية تؤمَن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه.

ولا يدان أي شخص من جراء أداء عمل الامتناع عن أداء عمل إلا إذا كان ذلكَ يعتبر جرما وفقا للقانون الوطني أو الدولي وقت الارتكاب، كذلك لا توقع عليه عقوبة أشد من تلك التي كان يجوز توقيعها وقت ارتكاب الجريمة.

وسأبدأ الحديث عن هذا الباب بآيات من القرآن من قانون العدل كله، نفصلها ليدرك بها الكثير دقة مواد القضاء النازل من السماء، وأقصد بالكثرة المسلمين الذين لا يعلمون كتابهم، إلا أن يفتنوا بمن يؤلفون غيره.

الآية الأولى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} .

ص: 370

بدأ سبحانه الآية بتأكيد لفظي ليضفي على ما سيذكره التأكيد المعنوي، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} ، وكلمة {يَأْمُرُكُمْ} جاءت بعد اسم من أصدر الأمر، لتنشعر الهيبة والرهبة من عظمة صاحب الاسم الأمر بما سيقوله بعد، ولأن الآمر سبحانه وقد عرفتموه لا يمكن لأحد أن يأمر معه، أو ينقص من أمره قدر قطمير، ثم اختيار كلمة الأمر بعد اسمه المعظم يعطي الفهم القاطع بأن المقررات التي ستوضحها الكلمات التي في الآية لا تجيز الترك وعدمه، وإنما هي إلزام حتمي للتنفيذ، تلك هي {أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} ، ولشتى أنواع الأمانة جاءت بلفظ الجمع، أعلاها الأمانة التي حملها الإنسان تجاه ربه، وهي إقامة شرائعه خالصة لذاته، وأدناها كلمة سر يؤتمن عليها، وبين الاثنين حقوق لا تحصى تتصل بالله تعالى، والكل مأمور بأدائها كاملة إلى أهلها، لكن الآكد في الآية من حيث الأمر بالأداء هو المرتبط بحقوق العباد لأن المرتبط بحقوق الله تعالى تعرضت له آيات أخرى عديدة، والقرينة التي تدل على أن حقوق الإنسان هي المعنية في هذه الآية، قوله تعالى بعد ذلك:{وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} ، فالحكم بالعدل لا يمكن إلا في قضية عرضت ليرد حق سلب أو اغتصب، وهذا شأن من شؤون بني الإنسان ملازم لوجوده إلى أن ينتهي وجوده بانتهاء الدنيا، فلا بد من ظالم ومظلوم وباغ ومبغي عليه، ومن هنا يأتي العدل في صورة حكم،

يصدر من حكم صفته الحكمة التي لا تنثني ولا تميل، ثم من قرائن اهتمام الآية خاصة بحديثها عن الإنسان كلمة {بَيْنَ النَّاسِ} ، فإذا ما جاء بعدها ما يدل على أن الناس حكم بينهم بالعدل، كان ذلك عملا بموعظة جليلة الخطر عظيمة الأثر، مدحها الله بقوله:{إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} نعم ما يفيدكم به، ذلك أنه ما من شيء يذهب الغيظ ويجمع الشتات ويقيم المجتمعات على التآخي أكثر من العدل.

ص: 371

ولهذا كان الإمام العادل ضمن أنواع سبعة فقط من عباد ممتازين، لا يلفح وجوههم اللهب يوم الحر الأكبر، حيث استظلوا ببرد الظل الأعظم دون سواهم، ثم يختم سبحانه آيته الكريمة بقوله:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} ، فهذه الكينونة الملازمة له سبحانه أزلا ودواما، كينونة اتصاف بكل كمال، وتنزيه عن كل نقص، ومنها ما ذكره هنا بصيغة المبالغة {سَمِيعاً بَصِيراً} ، فهو سميع لما يقال سرا أو علنا، بصير بما يعمل جهرا أو خفاء، وعلى قاعدة أن نهايات الآيات لا بد من ارتباطها بما يذكر فيها، فإن رد العباد على الذي أمرهم به في الآية سيكون قولا يدل على الاستعداد للعدل أو عكسه، وهذا القول إما بصوت أو بهمس، وهو في الحالين سميع، ثم ينتقل الأمر من القول إلى العمل، فإن كان القول طاعة تبعه العمل بالعدل، وإن كان القول معصية فلا عدل وكان الظلم، ثم المثوبة أو العقوبة، فمستحيل أن يأمر الله بشيء ثم يترك أثره هملا، هذا هو العدل الذي يقتضي بحفظ الحقوق ونزاهة إصدار الأحكام، بصورة ما ترامى إلى الآذان شبيه لها، ذلك لأنها من الحكم العدل العظيم أحكم الحاكمين.

فأيهما أنفع للإنسان، حقوق وضعها لنفسه هو طامع أن يسلبها من غيره، أم حقوق من خالقه لا طمع له فيها لأنه المنزه عن الاحتياج لغيره؟.

تحليل لآية ثانية: يقول الحق المبين:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأََقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .

بدأت الآية بنداء، فمن المنادي؟، ومن المنادون؟، وما هو المطلوب من النداء؟

ص: 372

المنادي هو أحكام الحاكمين، والمنادون هم المؤمنون به المطيعون له، ولن يكون ردهم على راحمهم وقد آمنوا به إلا لبيك خير المنادين، فلن يكون نداؤك إلا الخير لنا أجمعين.

وما هو المطلوب من النداء؟ آمركم أن تكونوا ملازمين قائمين أبدا بالعدل، ولهذا بالغت في صورة اللفظ {قَوَّامِينَ} فالعدل أمر قائم لا ينقطع، وهكذا اجعلوه بينكم لا يخل ميزانه ولا يختل أركانه، والعدل من أهم ما يظهره ويقيمه إذا ما أريد حجبه من المتخاصمين، بالإنكار أو بليِّ اللسان بزخرف الكلام، هو الشهادة بالواقع الصحيح الذي رئي أو سمع، {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} ، وكلمة شهداء أتت بعدها كلمة {لِلَّهِ} لتؤدي معنيين، أولهما، وأنت تشهد سواء كنت مدعوا أو متطوعا، أن تؤديها وأنت مراقب لله، فاستحضارك مراقبة الله أثناء الشهادة سيجعلك تقول الصدق الذي يظهر الحق، وثاني المعنيين أن تقصد بهذه الشهادة مثوبة الله ورضاه، وليس أجرا من أحد المتخاصمين تعطاه، أو ثناء من الحاكم أو القاضي الذي أعنته بشهادتك على إعلان الحق وخذلان الباطل فهذان المعنيان إذا حضرا الشاهد أثناء شهادته، كان العدل أصفى وأنقى عندما يستعمل لتؤدى به الحقوق، ثم تستمر الآية قائلة {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأََقْرَبِينَ} ، مراتب ثلاث، بدأ بأعلاها سبحانه وانتهى بأدناها، فليس لدى النفس، ولو كان غير النفس أبا أو أما، فإذا ما هيمن الشاهد على نفسه وقتل فيها حب الإيثار الملازم للنفوس عادة، فيصبح انتصاره في المرتبة الثانية أيسر وأسهل، ولهذا ذكرت الآية الوالدين بعد النفس {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} ، فهو مستعد أن يشهد على والديه وقد شهد على ما هو أعز منهما، فما بعد روحه (الذي فيه) روح، وبهذا يكون عند المرتبة الثالثة {وَالأََقْرَبِينَ} أولى لأداء الشهادة بيسر أكثر وسهولة أوفر، فأي الأقربين أقرب إليه من أبويه،.

ص: 373

ثم تقول الآية: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ولأنه اختلف إن كان هذا تشريعا محضا أو تشريعا مسببا، فقد رأينا أن نترك هذا الأمر ونستمر في التحليل المتصل بهذا البحث، فالغنى مظهر قد يرغب أو يرهب، والفقر مظهر قد يدعوا إلى ازدراء الفقير أو العطف عليه، وكلا النوعين إما ظالم أو مظلوم، وعندئذ يكون الشاهد ناظرا من أعلى إلى هذا كله، لأنه سيؤدي الشهادة ومعه الحليتان اللتان ذكرناهما آنفا، مراقبة الله والرغبة في رضاه، إذا فيترك أمر الكل إلى من هو بالكل أرحم، فلا ينحني أمام رهبة، ولا يميل أمام رغبة، فالله أولى وأحق بعباده من أن يتفضل عليهم سواه {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ، {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} ، فالهوى هو الغالب وجوده عند الشهادة أو الإقرار بالحق على النفس، والغالب وجوده أيضا عند الشهادة أو الإقرار بالحق على الوالدين، ونفس الأمر عند الشهادة أو الإقرار بالحق على الأقربين، ونفس الأمر عندما نرهب غنيا أو نستضعف فقيرا ولم يزد هذا الهوى خوف من الله ولا رجاء ما عنده، يكون الهوى قد اتبع، وتبعا لذلك يكون العدل قد غاب، ويكون الظلم قد حضر، والحق قد أهدر، وهل يكون إتباع الخاطف من العواطف إلا هذا هوى- متبعا وعدلا ضائعا، لهذا كان النهي القوي في كلام الآية المقدر بهذا المعنى: احذروا أن تتبعوا الهوى فإن يؤدي بكم إلى أن لا تعدلوا.

{تَلْوُو أَوْ تُعْرِضُوا} ، فالألتواء وهو الميل مع الهوى عن الحق، من شاهد أو قاض، أو الإعراض وهو أبعد خطرا وأضر أثرا، يقع أيضا من شاهد أو قاض، إن وقع أحدهما أو هما معا من الشهود أو القضاة {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .

ص: 374

فهو عند أهل المعاني قبل أهل التأويل ليس ختام الآية هذا خبرا لمجرد العلم به، وإنما يحمل إنذارا مخيفا لمن لم يطع ما في الآية، فلوى وأعرض حتى أظهر باطلا وأمات حقا، لأن صفة الخبرة بالنسبة لله تعالى ليست في حاجة إلى أن تقدم للمؤمنين ليعرفوها فما اعتبروا مؤمنين وما استحقوا أن يناديهم الله بها في أول الآية إلا لأن مستلزمات الإيمان جعلتهم عرفوا فيما عرفوا خبرة الله بكل ملكوته وما يجري فيه {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} ، وإنما نهاية الآية تقول للمؤمنين: إذا اتبعتم هواكم بعد أن علمتم أني خبير لا يخفى علي شيء، فقد استوجبتم عقاب فاعلي ذلك، ومبلغ علمي إن شاء الله أن مفسرا واحدا لم يشذ عن معنى ما ذكرناه.

إذا فأسال: أيهما أنفع للإنسان، هذه الحقوق التي وضعها له خالقه، وأولاها حراسة قوية تولاها بنفسه سبحانه، أم تلك التي سماها الإنسان حقوقا وحتى لم يحقها لنفسه وإنما أتبعها هواه؟، الله أكبر، ومن أحسن من الله حكما؟.

وعن آية ثالثة نتحدث:

ص: 375

فمن عظمة القرآن الذي أنزله الله على خير إنسان صلى الله عليه وسلم نقدم قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} .

الآية الكريمة: بدأت بتقديم ما فيها من رواسخ الدعائم القضائية، لتثبت حقوق الإنسان على الأرض إلى أن تنتهي الأرض وإنسانها، دون السماح لكائن أن يغير مما أحق الله ورسم، ولو كان رسولا نبيا كداود أو غيره، فبدأت بالترغيب للإصغاء، وهل أتاك

يا رسولنا محمدا، خبر قصة أخيك داود لما امتحناه بقضية حقوقية ليفصل فيها. ثم يمشي القارئ معي ليجد أن حديثي عن الآية لن يتناول القصة من حيث السرد وحكاية الوقائع، وما قيل في ذلك من كلام طويل تعرض فيه الكثير للقول المؤلف والرأي المختلف، وسأفضل الظاهر من ألفاظ الآية لأربط ذلك بموضوع حقوق الإنسان الذي نحن بصدده، وحتى الحديث في قصة داود عليه السلام بالظاهر الكلامي هو أسلم وأبرأ إلى الله من الشطح والغلو الأسطوري المهلك، فقد أنذر علي رضي الله عنه من يخوص في أمر داود بما يحلى القصاص من التزويق الحديثي، بأن يجلده ستين ومائة جلدة.

ص: 376

إذا فما يعنيني من هذه الواقعة الحقوقية في الآية، أنها بدأت بقفز المتقاضين من فوق الحائط وهو منظر شاذ جدا لا يفعله إلا من يريد أمرا جللا من قتل أو سرقة، وهذا ما دعا داود عليه السلام إلى الفزع لما رآهم يهبطون عليه من سور مسجده وهو في خلوته مع الله، وأن الفزع هو من تصور شر قد يقع له منهم، فالمسالم لا يقتحم الأسوار وإنما يأتي من باب الدار، لكن الذي تأكد بعد ذلك أنهم من مسالمون، بل هم لداود وحكمته وعدله طالبون، ولهذا كانوا مسرعين إلى طمأنة داود وإزالة ما لاحظوا عليه من فزع {قَالُوا لا تَخَفْ} وقدموا أنفسهم إليه زيادة في تهدئة روعه {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} .

ص: 377

تحدثت الآية عن الخصمين بالجمع لأن كلا منهما معه مناصر له- إذا فالخصومة وطلب الحقوق شيء لا صبر معه، وأن الخصومات إذا طالت دون فصل، والحقوق إذا ضاعت دون رد، فسيتولد منها مخاطر تدمر المجتمعات وتأتي عليها من القواعد، فالمظلوم لا يصبر طويلا وعلقم الظلم يملأ فمه بالمرارة، فإما أن ينصف سريعا ممن تولوا أمر مجتمعه أو يتولى بنفسه رفع الظلم عن نفسه ورد حقه إليه ولو بصورة ليس فيها نازع ولا رادع، وهذا ما جعلنا نأخذ هذا المعنى من تسور المحراب، ولم ينتظر حتى يزول المانع من الدخول من الباب. حيث كان في هذا اليوم ممنوعا لأكثر من سبب ذكرها المفسرون، فهل قدر الظالمون ما يموج في ضلوع المظلومين؟ ، ثم بدأ عرض القضية على داود من المتسورين سواء كانوا ملائكة أو بشرا حسبما اختلف المؤولون، لأن القصد من الواقعة كلها إقرار حق وتثبيت عدل يبقى إلى يوم الساعة، وبدأ العرض من الطرفين بالطريقة المؤدبة التي تليق بتقديم القضايا للقضاة، حيث قالوا مقيمين الاحترام لداود دون أن يرجح أحدهم كفة الحق لنفسه، حتى يسمعوا الحكم ممن احتكموا إليه {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} ولم يقل أحد الخصمين احكم لي فالحق لي، وكل ما قالوه {وَلا تُشْطِطْ} ، ذكروه بعدم الميل بعاطفة، فقد يكون في أمر أحد المتخاصمين ما يرقق القلب دون الحق، فيقع الحكم بالتعجل وليس بالتدقق، وهذا ما يرجح بأن المتسورين للحائط ملائكة، موجهون بهذه الكلمات الشرعة من الذي أرسلهم سبحانه، ثم زادوا {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} ، أي احكم بيننا بالحل بالوسط المرضي لقواعد الحق ولو لم يرض المحكوم له أو المحكوم عليه، وهذا مبدأ رائع لعرض الأمور من غير تهور ولا رعونة، والقضية هي {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} .

ص: 378

فهنا ترك داود عليه السلام بداية الكلام للشاكي، لأنه الأحق بسبب ما يعانيه من ضياع حقه - وهذا مبدأ أخذ منا حتى اليوم- ثم على الشاكي ألا يبدأ شكواه بالغضب والسب لشاكيه، ولهذا قال رغم تألمه من خصمه {إِنَّ هَذَا أَخِي} ، ذلك بأن الحقوق بعد أن ترد يجب أن يبقى الود - وهذا مبدأ قرره القرآن أيضا وقد انعدم أو كاد - فالتقاضي الآن أصبح يولد أحقادا قد يتقاذفها الورثة ليبقى عداء بعيد الأمد سيء الأثر.

وعريضة الدعوى المقدمة إلى القاضي داود عليه السلام، وهي- فيما أعلم- قضية تدريب له كيف يتعلم الفصل في القضايا على أنها أول قضيه تعرض عليه، هي غاية في الغرابة وأشد ما تكون شدا للعاطفة وتأثيرا مجنحا إلى الميل، أحد الخصمين يملكَ مائة شاة إلا واحدة، وبلغ به طمعه أن يجعلها تكمل المائة، والشاة المكملة للمائة لأجير فقير يعمل عنده يقوم بأمر غنمه مقابل أن تتربى شاته تطعم من طعام غنمه، ويبدو أن الشاة بورك فيها وأصبحت بحال طيب لفت نظر الغني صاحب التسعة والتسعين، فأراد أن يضمها إلى غنمه، ويجعل صاحب الشاة مجرد أجير، يعوض عنها بشيء ولا يكون له في الغنم شيء، ومكنه وضعه أن يضغط على صاحب الشاة ترغيبا أو ترهيبا، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} ، أي خاطبني بما تأكدت به من إصراره على ما يريد، وأنا أريد أن تبقى شاتي لي.

وسواء كانت صورة الدعوى هكذا حدثت في الواقع، أو وضعت لضرب المثل للقضايا الصعبة السريعة التأثير في نفس القاضي- الله أعلم- فإنها قد أخذت الشكل المتوقع، خصوصا لدى القلوب الحانية التي تستقر بين جنوب الأنبياء صلوات الله عليهم {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .

ص: 379

ومن هنا كان النطق بالحكم من داود عاجلا وسريعا بسرعة نسبة واحدة إلى تسعة وتسعين {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} ، والعجب أن حنو داود قد فاض بالحكم لذي النعجة مع أنها لا زالت في حوزته ولم تنزع منه بعد، وألصق جناية الظلم بخصمه لمجرد أن سأله نعجته {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} ، فكيف لو اتبع السؤال بالاستيلاء؟، إنها من حيث الأساس رأفة تليق بنبي صفي، ولكن في هذا الموضع وهو مقام تمحيص الحقوق، لا بد أن تقترن الرأفة بالتروي والتأني، حتى تدرس القضية بكل المتخاصمين وبكل الشاهدين، وهذا لم يفعله داود عليه السلام، ومع أنه قدم حيثيات الحكم الصحيحة لما قال:{وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} ، فهذا تقرير لأمر يلابس الناس دواما، خاصة شركاء المادة، لغلبة سوء الظن على حسنه، بأن شريكه ليس كفئا له، أو يحتوي على حظ أكثر من حقه، ومن هنا يأتي بغي بعض على بعض، ويستمر القرآن في تقدير الأمر يجريه الأمر سبحانه على لسان هذا النبي الكريم، حيث لم يدخل في الكثرة التي تبغي على بعضها أولئك الذين آمنوا بربهم، فراقبوه متبعين ما أحل مجتنبين ما حرم، ولما كان الوصف الكمي للباغين هو الكثرة، فلابد أن يكون العكس هو القلة {إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} .

ص: 380

بيد أن هذا القول الحق لم يعف داود عليه السلام من نتائج حكمه غير المسدد وسبب عدم تسديده أمران، أولهما مطاوعته لرقة قلبه لوضع ذي النعجة الواحدة، خاصة أنه الشاكي، ولا يغلب على الشعور إلا أن الشاكي هو المعتدى عليه في أي الاحتكام يقع بين خصمين، فتعجل عليه السلام بإصدار الحكم لصالح الشاكي قبل أن يسمع دفاع لمشكو تجاه شاكيه وهذا أمر لا يمكن أن يبيحه الله الذي شدد فرضية العدل في ملكوته،.

والأمر الثاني الذي جعل الحكم غير مسدد هو- والله أعلم- أن داود عليه السلام وهو يؤدي أول اختبار في الفصل في القضايا، دفعه الحنان أيضا إلى عدم انتظار توجيه السماء، فما كان مرسله سبحانه يدعه ليحيد، فكان عليه وهو نبي من أهل الوحي أن ينتظر حتى تهبط عليه طريقة الفصل في المنازعات لتصبح الركائز المعروضة فقط وقتئذ.

فكانت نتيجة امتحان داود في نهاية الموضوع هو قوله سبحانه {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} ، والظن هنا بمعنى الإدراك والعلم، وبالصورة التي أعلمه بها، وليس بخرافات الإسرائيليات التي أترعت بها التفاسير الغثة، عندما وقع في مصيدتها عشاق الأقاصيص، {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} امتحناه وما جفيناه، حيث قبلنا سجدته وغفرنا هفوته وأحسنا أوبته {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} ذلك لأن الدرس أفاض عليه كامل المعرفة بأسرار القضايا وخبايا المشاكل البشرية التي سيظل الإنسان يتخبط فيها بسبب ماديته المتأصلة فيه، وبعده عن الروحية المتوادة المتسامحة.

ص: 381

لقد انتفع داود بالدرس التدريبي العظيم هذا، فاستحق لما علم منه ربه ذلك بأن يجعله الخليفة العادل في الأرض، والقاضي المتحق الذي لا سبيل معه لميل الهوى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأََرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} .

وانظر إلى نهاية الآية المنذرة بالعذاب الشديد، لمن يميل مع الهوى ويضل بتضيع الحقوق، عندما يحكم أمة أو يفصل في قضية، فويل له من ناس ليوم الحساب، عندما يكون يومها حسابا عسيرا كأعسر ما يكون الحساب، ذلك أنه أؤتمن على شيء هو من أعظم الحرمات عند الله، وما كانت كذلك - وهو أعلم - إلا لأنها خير ما يتم به الهدوء النفسي والأمان الإنساني، فإن لم يحاسب الحاكم أو القاضي نفسه ليوزع الحساب بين من لجأوا إليه أو ألوا إليه بدقة، اعتبرته الآية ضالا غاويا له العقاب الخاص بالضالين.

وبعد انتهائي من عرض العجائب الحقوقية لهذه الآية، وإنذارها من يحيد عن هذه الحقوق بلفتة بصر أن ينال جزاءه، بالشدة التي ذكرتها كلماتها الرهيبة، أكان يجوز للإنسان أن يجد لنفسه أقوى وأحكم مما جعله الله، حقا إن الإنسان لربه لكنود.

ص: 382

لكن الآسى الذي يملأ القلب نكدا، يأتي من الإنسان الذي ادعى الإيمان، وراح يثق بحقوق صنعت للغرض والغاية، وترك قرآنه وقانونه {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} ، ولكن بعد أن مات صلى الله عليه وسلم، ما فتنا فقط عن البعض وإنما عن الكل، فحاق بنا ما ذكرت نفس الآية {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} ، (وقد كان) وعسى ألا يقع بالبعض الباقي.

وننهي هذا الباب بنصوص من فخرنا العدلي واعتزازنا القضائي، بما نباهي به الدنيا قاطبة، نقدمها عددا ونصا بغير تعليق لمن يدخرها.

1-

آية من آيات زخر بها كتاب الله العظيم: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم؟} سورة النحل، آية 76.

2-

حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند أم سلمة رضي الله عنها، أن دعا وصيفة لها مرات فلم ترد عليه، فاستبان الغضب في وجهه، فخرجت أم سلمة تبحث عنها فوجدتها تلعب فقالت لها:"أراك هنا تلعبين ورسول الله يدعوك! "فأقبلت الصبية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: "والذي بعثك بالحق ما سمعتك"، وكان بيد الرسول سواك فقال لها:"لولا خشية القود لأوجعتك بهذا السواك" رواه الإمام أحمد.

ص: 383

3-

أتت امرأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه تذكر زوجها عنده فقالت: "زوجي من خير أهل الدنيا، يقوم الليل حتى يصبح، ويصوم النهار حتى يمسي"، فقال لها عمر:"جزاك الله خيرا، فقد أحسنت الثناء"، فلما ذهبت قال كعب بن مسور رضي الله عنه، وكان جالسا بجانب عمر:"يا أمير المؤمنين، لقد أبلغت إليك في الشكوى"، فقال عمر:"ومن اشتكت؟ "، فقال كعب:"اشتكت زوجها"، قال عمر:"علي بها"، فعادت ومعها زوجها، فقال عمر لكعب:"أقض بينهما"، فقال كعب:"أقضي وأنت حاضر"، قال له عمر:"إنك فطنت إلى ما لم أفطن إليه"، فقال:"كعب وهو يقضي بينها: إن الله تعالى يقول: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} ، فعلى زوجها أن يصوم ثلاثة أيام ويفطر عندها يوما، ويقوم ثلاث ليال ويبيت عندها ليلة"،.. وتفصيل حكم كعب رضي الله عنه، إشارة إلى قوله تعالى:{فَانْكِحُوا} ، أي من حق الزوجة أن تباشر لتعف، ثم الإنجاب تبعا لذلك إن كان، ولا يجوز تركها في ذلك ولو بنوافل العبادات، ثم أمر كعب زوجها أن يعطيها يوما بليلة بعد كل ثلاث لتصبح هي الرابعة.

وقد بنى هذا الحكم على افتراض أنه متزوج بأقصى المباح لما قرأ {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} على أنه سيغيب عنها مع زوجاته الثلاث، كل بحقها المؤقت لها، وهي الزوجة الرابعة يعطيها الوقت الرابع، فسر عمر رضي الله عنه من فطانة كعب ومن حسن ما قضى به، وبعثه قاضيا على البصرة) من (الطرق الحكيمة) لابن القيم.

4-

وكتب عمر بن الخطاب منشور للناس يقول فيه:

"إني لم أبعث عمالي- ولاتي - لا ليضربوا جلودكم، ولا ليأخذوا أموالكم، فمن فعل به ذلك فليرفعه إلي لأقتص له"، فقال عمرو بن العاص،:"لو أن رجلا أدب بعض رعيته، أتقصه منه؟ "، فقال عمر:"إي والذي نفسي بيده لأقصنه منه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلق من نفسه". المصدر السابق.

ص: 384

5-

وقصة (جبلة بن الأيهم) المشهورة:

وكان من ذوي الجاه والسلطان في الجاهلية وفي الإسلام، فقد كان يطوف يوما بالكعبة ورداؤه يجره خلفه فوطئ عليه أحد الطائفين من ضعفاء المسلمين، فاستدار إليه ابن الأيهم ولطمه لطمة شديدة، وكان ذلك أيضا في خلافة عمر رضي الله عنه، فذهب المضروب إلى عمر وشكا إليه، فاستدعاه عمر وحكم بأن يضربه الرجل إلا أن يصفح، لكن الرجل أبى الصفح وأصر على أن يقتص، فقال جبلة لعمر:"كيف تسويني به وأنا ملك وهو سوقة"- أي من عامة الناس- فقال رضي الله عنه: "إن الإسلام سوى بينكما"، فطلب من عمر أن يمهله، فأمهله، فذهب ولم يرجع وإنما فر هاربا إلى بلاد الرومان، وارتد عن الإسلام إلى نصرانيته وبعد مدة أحس بالندم، وعلم بأنه ترك الحق وعاد إلى الباطل، ثم كتب قصيدة في ذلك، منها هذه الأبيات.

وما كان فيها لو صبرت لها ضرر

تنصرت الأشراف من عار لطمة

وبعت لها العين الصحيحة بالعور

تكنفني منها لجاج ونخوة..

رجعت إلى الأمر الذي قاله عمر

فيا ليت أمي لم تلدني وليتني

6-

في (الطرق الحكمية) لابن القيم رحمه الله قوله:

من له ذوق في الشريعة وإطلاع على كمالها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من أحاط بمقاصدها وحسن فهمه فيها، لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تستخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.

وفي تاريخ إسلامنا من هذه الأمثلة الشيء الكثير ثم يأتي الإنسان ليضع لنفسه أف له ولما وضع، وهل ينبئك مثل خبير؟.

ص: 385

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

بل حاولوا ولم تسمح لهم الدول العربية بذلك تعميقا لمعنى القومية العنصرية.

[2]

من قصيدة لنا في محاضرة ألقيناها منذ عامين في موسم الجامعة الثقافي عن التفرقة والتمييز.

ص: 386

نظم القرآن فوق مفتريات النقد والتجريح

بقلم الدكتور علي البدري

الأستاذ المشارك بكلية اللغة العربية

إذا تدبرت قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [1] .

أو قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} [2] .

أو قوله عز شأنه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [3] .

لعرفت أن هذه الآيات الكريمة وما شاكلها فيما تهدف إليه بمثابة مصابيح ساطعة تضيء للمسلم مسالكه في دياجير الظلام.

وبهذا يعرف المسلم بجلاء أعماق ما يدور في نفوس اليهود والنصارى سواء بقوا على كفرهم أم ارتدوا عنه إلى كفر جديد كالشيوعية مثلاً.

فلا هؤلاء ولا أولئك يقبلون العيش مع المسلمين في سلام.

كلا. إنهم وطنوا أنفسهم على حرب المسلمين جيلاً بعد جيل وصمموا على ألا يقبلوا منا سوى ما لا يكون بإذن الله أبداً، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} وهذا بالدرجة الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم. الذي بعثه الله تعالى ليتمم به مكارم الأخلاق فقال له:{وإنك لعلى خلق عظيم} [4] .

فإذا كان هذا موقف اليهود والنصارى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته.

فلا ينتظر منهم مع اتباعه إلا كل سوء {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} .

ص: 387

ما أحلى عبارات القرآن. إن لها وقعاً في النفس أسمى من كل عبارات تشرحها وأعلى من كل بيان يجلبها. ولهذا فإني أطلب من كل مسلم أن يتدبر معاني هذه الآيات الكريمة فلعل الله تعالى أن يفتح عليه فتحاً مبينا. وهو على ما يشاء قدير.

ولقد ظهر خصوم الإسلام قديماً وفي العصر الحديث هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم ألقابا علمية في عصرنا هذا ويظهرون للناس خداعاً رهيباً متستراً خلف البحوث العلمية والرغبة في الوصول إلى الحقيقة عن طريق البحث والاستقراء وهي صورة.. تلبس الذئاب فيها ثياب الحملان!!

وهكذا أطل على الشرق المسلم هذا الثالوث البغيض الاستعمار، والتبشير، والاستشراق، فالاستعمار حاول أن يكسر عقيدة المسلمين عسكرياً ففشل والحمد لله تعالى فراح يدرب المبشرين والمستشرقين من عتاة الصليبية واليهودية والإلحاد لكي ينالوا من المسلمين منالا في قرآنهم الكريم أو في سنة نبيهم عليه الصلاة والسلام.

وقد عادوا والحمد لله تعالى بخفي حنين بعد جهود فتاكة مدمرة نجى الله تعالى منها المسلمين. ولكن القوم لا يتخلون عن حقدهم أبداً، وستبقى حربهم الظاهرة والخفية فيما أرجح ما بقي الفرقدان وإن تقنعت بأقنعة الطب أو التعليم أو السياسة أو الاقتصاد أو غيرها مما يظنونه أقنعة يخدعون بها الناس ولم تلبث أن كشفت عن وجهها الصفيق!

ص: 388

سيظل القوم يحاربون الله ورسوله إلى آخر الزمان - فعلى المسلمين أن يعرفوا ذلك جيداً!! وعليهم أن يتأكدوا من قوله عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [5] ومن قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [6] وقوله عز شأنه: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [7] .

لقد افترى اليهود والنصارى والمنافقون قديماً على القرآن الكريم افتراءات يرددها اليوم أحفادهم الجدد في غير حياء.

فقديماً حاولوا التشكيك في اختيار الله تعالى لمفردات قرآنه الكريم وجمال عباراته! وتناسق تراكيبه، وإعجاز نظمه الفريدة فقالوا مثلاً: إن جملة {فَأَكَلَهُ الذِّئْب} [8] أحسن منها "فافترسه الذئب"، وعللوا ذلك بأن الأكل يشارك فيه الحيوان الإنسان. ولا كذلك الافتراس.

وقالوا: إن النظم القرآني {وَانْطَلَقَ الْمَلاُّ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [9] أبلغ منه أن يكون النظم هكذا "امضوا وانطلقوا على آلهتكم"لأن المقام مقام انزعاج هكذا يهرفون بما لا يعرفون!!

وقالوا أيضاً: إن العبارة القرآنية {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} أفضل منها "ذهب عني سلطانيه"ويعللون ذلك بأن الهلاك في الأعيان والأشخاص.

ويقولون: أنت تقول: هلك زيد ولا تقول هلك جاهه أو سلطانه. وإنما تقول: ذهب سلطانه وانتهى جاهه.!! هكذا يزعم القوم اللئام.

ثم يمضون في سرد مفترياتهم على نظم القرآن فيقولون: إن الآية القرآنية {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [10] أبلغ!! منها "للزكاة مؤدون".

ص: 389

ولم تقف اعتراضات الخصوم الفجرة عند حد الجمل والتراكيب بل تعدوها إلى أدوات الربط فقالوا: إن مجيء الباء في الآية القرآنية {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [11] ليس في موطنه فلو قيل: "ومن يرد فيه إلحاداً"لكان أبلغ!! هكذايتصور الجاهلون الحاقدون! !

ثم انتقلوا من هذا إلى رمي القرآن الكريم بالتناقض! وضربوا لذلك مثلاً بقوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} وزعموا أن القرآن هنا يذم المؤمنين فكيف يتفق هذا مع مديحهم قبل هذه الآية مباشرة. بالآية القرآنية: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [12] .

وهذا في نظر ذوي البصائر العمياء ضرب من التناقض والسير على غير هدى.

ولم يلبث شياطين الإنس أن تناولوا بعض الصور البيانية في القرآن الكريم بالتجريح وهي بالغة حد الروعة والإعجاز. فقالوا: إن الآية القرآنية: {كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [13] .

وقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ} [14]

قالوا إن أدوات التشبيه هنا قد أتبعت بالمشبه به ولم تسبق بالمشبه وهذا على حد مزاعمهم ضرب من الغموض.!! مع أن هذا من بديهيات البيان العربي!

ثم اعترضوا على حذف جواب الشرط في قوله تعالى مثلا: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأََرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [15] ونحو هذه الآية.

فزعموا أن هذا تبتير للكلام! وقطع لأجزائه.

وكما اعترضوا على الحذف فلم يسلم الذكر من اعتراضات المجرمين!! فزعموا أن الحذف وتكرار الذكر كلاهما ليس محموداً ولا معدوداً في النوع الأفضل من فنون البيان.

ص: 390

وعلى هذا فقد اعترضوا على تكرار قوله تعالى في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، واعترضوا أيضاً على تكرار قوله تعالى:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في سورة المرسلات.

وفات هؤلاء الضعفاء والمهازيل أن يعترضوا أيضاً على تكرار قوله تعالى: في سورة التكاثر: {كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} .

كما فاتهم أن يعترضوا على تكرار قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [16] وجهل شياطين الإنس أن التكرار المحمود أحد فنون الإطناب وهو فن بلاغي من علم المعاني به يطابق الكلام مقتضى الحال.

هذا وقد اعترض هؤلاء المفترون على الله الكذب. اعترضوا على ترتيب آيات القران الكريم وسوره فقالوا: لو جاء ترتيب القران الكريم بحيث تكون أخبار القرون الأولى في سورة.. والحكم والمواعظ والأمثال في سورة أخرى، وأحكام الأفراد والمجتمعات في سورة ثالثة مثلاً وهكذا.. لكان ذلك أحسن ترتيباً، وأيسر حفظاً، وأبلغ من تكرار بعض هذه الأمور في سور كثيرة، ولكان القرآن بهذا موضوعياً!! هذه مختارات من مفتريات شياطين الإنس.. وتلك ألوان من افتراءات المفترين على حروف وكلمات وجمل ونظم القرآن الكريم.

إنهم لم يتركوا شيئاً بدون افتراءات أبدا!!

ولكن مفترياتهم والحمد لله تعالى لن تصمد أمام شمس الحقيقة أبداً.

إنها والحمد لله تعالى أوهى من بيت العنكبوت قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض} وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [17] .

ص: 391

وسنتناول هذه المفتريات بالدحض والإبطال في إيجاز بإذن الله تعالى على النحو التالي:

إن تفضيلهم لعبارة: "فافترسه الذئب"على العبارة القرآنية {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} فاسد حقود ذلك لأن الفرس معناه دق العنق (الفرْس بسكون الراء) .

وإخوة يوسف لم يدعوا على أبيهم أن الذئب قد دق عنقه فقتله!! وانتهى الأمر.

وإلا لطالبهم يعقوب عليه السلام بجسد أخيهم ميتاً.

ولكن القوم أرادوا أن يقطعوا على أبيهم المطالبة بجسد يوسف حياً أو ميتاً.

فادعوا أن يوسف الآن في بطون الذئاب وهذا ما لا يؤديه سوى الجملة القرآنية {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} أما الافتراس فقد تحقق مثلاً في عتبة بن أبي لهب.

ذلكم الذي دعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم سلط عليه كلباً من كلابك! "

ثم كان في تجارة قرشية إلى الشام فحذر أبوه القافلة من دعوة محمد صلى الله عليه وسلم. وطاف بهم أسد في الطريق فضرب عتبة بيده فأرداه قتيلاً. وقال الناس يومئذ قد افترسه الأسد ولم يقولوا أكله!!

وإخوة يوسف قد ادعوا على أبيهم أن الذئب قد أكل يوسف تماماً بشحمه ولحمه. فما أدق عبارة القرآن الكريم وما أحسن نظمه المعجز الأخاذ بالألباب.

فأما تفضيل المعترضين "امضوا وانطلقوا"على {امْشُوا وَاصْبِرُوا..} في سورة ص. فذلك خطأ بين. لأن المشركين قصدوا الاستمرار على دين آبائهم في غير انزعاج ولا انتقال. وهذا المعنى لا تؤديه إلا الجملة القرآنية وحدها.

لأن المعنى الذي يريدونه. استمروا على ما أنتم عليه ولا تبالوا بالقرآن الكريم. واطمئنوا ولا تنزعجوا على أنه قد قيل: إن المشي هنا يراد به كثرة العدد. فالعرب يقولون مشى الرجل إذا كثر ولده.

قال شاعرهم:

والشاة لا تمشي على الهلع

أي لا يكثر نتاجها إذا قربت منها الذئاب. وبهذا نرى أن خصوم القرآن يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.

ص: 392

فأما اعتراضهم على الاستعارة القرآنية في قوله تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ}

فاعتراض متهافت، لأن الاستعارة هنا أبلغ من الحقيقة، ذلك لأن الشيء إذا ذهب فقد يعود أما إذا هلك استحالت عودته، والمشركون يعلمون أن سلطانهم الفاني لن يعود إليهم أبداً يوم القيامة. وبالإضافة إلى هذا فقد قيل: إن السلطان هنا بمعنى الحجة والبرهان.

فأما افتراؤهم على الجملة القرآنية {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} فساقط عديم الجدوى. لأن لفظ (فاعلون) أبلغ من (مؤتون أو مؤدون) ونحوهما.

فالجملة القرآنية تفيد المبالغة في أداء الزكاة والمواظبة عليها حتى تكون سجية لهم. وهذا مالا يؤديه إلا لفظ (فاعلون) على أنه قيل: إن الزكاة هنا تقابل كل الأعمال الصالحة. وبذا تكون الكلمة القرآنية أدق من كل كلمة سواها.

أما اعتراضهم على الباء في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ

} فإن هذا غير خارج عن سنن العرب في كلامهم. وإلا لاعترض عليه مشركو مكة وهم أرباب الفصاحة وأئمة البيان. قال الراعي النميري:

سود المحاجر لا يقرأن بالسور

هن الحرائر لا ربات أحمرة

فأدخل الباء على المفعول وذلك غير ممنوع في اللغة.

فأما اعتراضهم على وجود المشبه به بعد كاف التشبيه دون المشبه فباطل أيضا.

ذلك لأن الله تعالى يشبه حال المسلمين في اختلافهم على الغنائم بحالهم في كراهة القتال في أول الأمر. قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} .

ولا تناقض بين الآية وما قبلها. لأن الثانية توضح معنى قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وطرفا التشبيه أيضاً في قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً} هما. يتم الله نعمته عليكم كما أتمهابأن أرسل فيكم رسولا من أنفسكم.

ص: 393

وأما افتراؤهم على حذف جواب الشرط. فإن هذا الحذف أبلغ من الذكر. وتقدير الجواب، لكان هذا القرآن والنفس تذهب في المحذوف كل مذهب. وأما المذكور فليس له سوى هذه الصفة المذكورة.

وصاحب الذوق السليم يدرك بلاغة الحذف في قولك مثلاً لو رأيت الفاروق عمر

بحذف الجواب فهو أبلغ من ذكره مهما قدرته. فالنفس تذهب في عظمة الفاروق رضي الله عنه كل مذهب. وهكذا الشأن دوما مع حذف جواب الشرط أو غيره.

فأما اعتراضهم على أسلوب التكرار في القرآن الكريم. فإن التكرار في اللغة قسمان محمود ومذموم، الثاني عديم القيمة والمعنى. وهو ليس موجوداً في القرآن

إطلاقاً.

وقد بين الله تعالى لماذا كرر القصص في القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [18] . {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً} [19] .

فأما ما عابه المفترون من تكرار قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . (في سورة الرحمن) .

فذلك لتكرار النعم. والخطاب للإنس والجن فالتكرار لتعدد المتعلق.

فأما تكرار قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في سورة المرسلات. فلأن السورة قد عرضت لأهوال يوم القيامة بتفصيل ملحوظ وعقب الحديث عن كل هول من أهوالها المتعددة جاء هذا الإنذار للمكذبين بيوم الدين. فهو تكرار لتعدد المتعلق أيضاً.

ولقد يتساءل خبيث حقود أو جهول عن سر مجيء قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} (في سورة الرحمن) بعد آيات التهديد والوعيد كمجيئها بعد قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} فهي تهديد بلهيب السعير والدخان المستطير..

ص: 394

والرد على هذا التساؤل الهين أن الترغيب والترهيب كلاهما من نعم الله تعالى. قال الشاعر:

فهو الذي أنباك كيف نعيمها

والحادثات وإن أصابك بؤسها

وأما دحض الافتراء الطاعن في القرآن من حيث عدم موضوعيته. فإن توزيع المسائل عن النحو الذي جاء في القرآن من الفروق بينه وبين تأليف البشر. ومن جهة أخرى فيه عظة واعتبار متكرر! وبهذا تكون استفادة الناس منه أكثر من انفراد السورة بموضوع واحد. وحتى لا تصير السور عرضة للإيمان ببعضها والكفر بالبعض الآخر.

فإن زعم ذئاب البشر أن بعض الناس قد عارضوا القرآن معارضة ناجحة ونقدوه نقداً جوهرياً أثناء نزوله. بيد أن المسلمين قد كتموا هذه المعارضات ومنعوا غيرهم من تسجيلها! فذلك إهدار للعقول.

وهذا في الحق تساؤل سخيف. فالناس في كل الأزمنة والأمكنة يهتمون بالأخبار المثيرة عامتهم وخاصتهم. فلئن كتم المسلمون هذه المعارضات المزعومة فلا يعقل أبداً ألا يسجلها المشركون وهم غالبية أهالي المشارق والمغارب.

إن ذلك التساؤل لو استسيغ، لجاز لممسوخي الضمائر أن يقولوا بوجود عدة أنبياء بعد خاتم المرسلين عليه السلام ثم يتهمون المسلمين بالقضاء عليهم سراً. ومثل هذه الأقاويل واضحة البطلان بينة الكفران- وسيبقى القرآن الكريم على مر العصور كالطود الشامخ. ولن ينال منه اليهود ولا النصارى ولا الشيوعيون منالاً أبدا بإذن الله تعالى. فهؤلاء يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون. والقرآن الكريم فوق النقد والتجريح أو المعارضة وما أصدق قوله تعالى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} .

--------------------------------------------------------------------------------

ص: 395

[1]

سورة البقرة 217.

[2]

سورة البقرة آية 120.

[3]

سورة آل عمران آية 118.

[4]

سورة ن آية 4.

[5]

سورة يوسف آية 21.

[6]

سورة الحجر آية 9.

[7]

سورة الأنفال آية 36.

[8]

سورة يوسف آية 17.

[9]

سورة ص آية 29.

[10]

سورة المؤمنون آية 4.

[11]

سورة الحج آية 25.

[12]

سورة الأنفال آية 5.

[13]

سورة الحجر الآيات من 89 - 91

[14]

سورة البقرة آية 151.

[15]

سورة الرعد آية 31.

[16]

سورة التوبة آية 73 والتحريم الآية 9.

[17]

سورة العنكبوت آية 41.

[18]

سورة القصص آية 51.

[19]

سورة طه آية 113.

ص: 396

من أبحاث فقه السنة

سنن الفطرة بين المحدثين والفقهاء

(الحلقة الثانية)

لفضيلة الدكتور أحمد علي طه ريان / الأستاذ المساعد بكلية الحديث الشريف

الخصلة الثامنة: غسل الجمعة:

هل المراد بغسل الجمعة المشار إليه في بعض أحاديث سنن الفطرة، والذي عده الحافظ ابن حجر من الخصال الخمسة عشر: هو الغسل المشروع لحضور صلاة الجمعة والذي وردت جملة من الأحاديث تحث عليه وترغب فيه، وتأمر به كحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر فقال: "من جاء الجمعة فليغتسل"[1] أم أنه اغتسال شرع على كل مسلم سواء وجبت عليه الجمعة أو لم تجب، أراد حضور الجمعة أو لم يرد، أي أنه تشريع عام للمسلمين يضع الحد الأدنى الذي لا ينبغي على المسلم تجاوزه، وهو الاغتسال مرة كل سبعة أيام على الأقل- وهو ما يشير إليه حديث أبي هريرة:"حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه وجسده" رواه مسلم والبخاري واللفظ له [2] وفي رواية أخرى له: "لله تعالى على كل مسلم حق أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً.."[3] .

وقد نقل البدر العيني عن الكرماني قوله: التحقيق: "أن الحديث الأول - أعني حديث ابن عمر- دل على أن الغسل لمن جاء إلى الجمعة خاصة.. وهذا الحديث - أعني حديث أبي هريرة - عام للمجامع وغيره

" [4] . وذهب بعض الشراح إلى أن الغسل المأمور به في حديث أبي هريرة: إنما هو الغسل المشروع لحضور الجمعة.. واستدلوا له بما جاء عند النسائي بلفظ: "على كل رجل مسلم في كل سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة" [5] وصححه ابن خزيمة كما روى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من حديث البراء بن عازب مرفوعا نحوه ولفظه "من الحق على المسلم أن يغتسل يوم الجمعة.." [6] .

ص: 397

وأنا أميل إلى قول الكرماني: لأن مشروعية غسل الجمعة قد ثبتت بالأحاديث الكثيرة التي خصت الغسل بمن يحضر الجمعة..

أما حديث أبي هريرة هذا فهو من باب التشريع العام للمسلمين بضرورة مراعاة النظافة لأجسادهم بالاغتسال مرة كل أسبوع، ويعتبر هذا هو الحد الأدنى لكل مسلم لا يشرع في حقه أي اغتسال آخر.

وما جاء في بعض الروايات بتقييده بيوم الجمعة: فهو باعتباره عيد المسلمين الأسبوعي، وللمشاركة في الاغتسال مع المجامَعين في هذا اليوم.. كما أن هذا القول هو الأنسب لاعتبار غسل الجمعة من بين خصال الفطرة: لأن الملاحظ هو عمومية هذه الخصال ومشروعيتها لكل الناس وعدم تقيدها ببعض العبادات.. والقاسم المشترك بينها جميعا: أمران: النظافة والزينة.

حكم الاغتسال يوم الجمعة:

ذهب أهل الظاهر ورواية عن أحمد بن حنبل إلى أن غسل الجمعة واجب.. وقد حكي هذا القول: عن عمر وأبي هريرة وابن عباس وأبى سعيد الخدري وسعد بن أبى وقاص، وعبد الله بن مسعود وعمر بن سليم وعطاء وكعب والمسيب بن رافع [7] وقد استدل الظاهرية ومن معهم على الوجوب بعدد من الأدلة: من بينها ما يلي:

أ- حديث ابن عمر رضي الله عنهما: "من جاء إلى الجمعة فليغتسل" وقد تقدم.

ب- حديث أبى سعيد الخدري رضي الله عنه: "الغسل واجب على كل مسلم محتلم.."[8] .

ج- ما جاء في قصة عمر مع عثمان رضي الله عنهما وقد جاء فيها قول عمر لعثمان: "وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل

" [9] .

وهناك أدلة أخرى لكنها لا تخرج في جملتها عن مضمون الأدلة السابقة..

وجه الدلالة: التصريح بالوجوب ثم طلبه بصيغة الأمر المقتضية للوجوب عند الإطلاق؛ يفيد أن غسل الجمعة واجب.

وذهب جمهور أهل العلم: إلى أن غسل الجمعة سنة، بأنه مستحب والمعنى متقارب.. وقد استدل لهذا الرأي بعدد من الأدلة من أهمها ما يلي:

ص: 398

أ- حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام.."الحديث.. قال الترمذي: "هذا حسن صحيح.."[10] .

ب- حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" قال الترمذي: "حديث سمرة حديث حسن"[11] .

ج- كما استدل له أيضاً بترك عثمان رضي الله عنه للغسل.. إذ لو كان واجبا لما تركه.. قال الشافعي في تقرير هذا الدليل: "ومما يدل على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل يوم الجمعة-كان- على الاختيار لا على الوجوب: حديث عمر حيث قال لعثمان: "والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل يوم الجمعة.." فلو علما أن أمره على الوجوب لا على الاختيار لم يترك عمر عثمان حتى يردد ويقول له: ارجع فاغتسل، ولما خفي على عثمان ذلك مع علمه.. فدل هذا الحديث: على أن الغسل يوم الجمعة فيه فضل من غير وجوب"[12] وقال الباجي في شرحه على الموطأ تعليقا على هذا الحديث: "إنما أنكر عليه ما مضى من تركه الغسل ليكون ذلك تنبيهاً له على ما ينبغي أن يفعل في مثل ذلك اليوم عند سعة الوقت، ويقتضي إجماع الصحابة على أن الغسل يوم الجمعة ليس بواجب وجوبا: يعصي تاركه وإنما يوصف بالوجوب على معنى التأكيد لحكمه، ولو كان فيهم من يعتقد وجوبه لسارع إلى الإنكار على عثمان- وأمره بالقيام إلى الاغتسال.."[13] .

ونكتفي بهذا القدر من أدلة الجمهور لغنائها عن غيرها.. بعد أن اتضاح منها قوة موقف القائلين بسنية غسل الجمعة..

وقت الإغتسال للجمعة:

ص: 399

يرى الإمام مالك: أن وقت الاغتسال ينبغي أن يتصل بالرواح إلى الصلاة لحديث ابن عمر المتقدم: "إذا جاء أحدكم إلى الجمعة فليغتسل"، أي أراد أن يجيء، ولأن الغسل شرع للنظافة وإزالة الروائح الكريهة التي تلحق بالناس من جراء العمل والمشي في يوم الجمعة: ففي حديث عائشة عند مسلم كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم من العوالي فيأتون في العباء ويصيبهم الغبار فتخرج منهم الريح، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان منهم وهو عندي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا.."[14] ..

وقولها في الحديث الآخر "كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كفاه: فكانوا يكون لهم تفل فقيل لهم لو اغتسلتم يوم الجمعة"[15] . لذلك قال مالك في الموطأ: "من أغتسل يوم الجمعة أول نهاره وهو يريد بذلك غسل الجمعة، فإن ذلك الغسل لا يجزئ عنه حتى يغتسل لرواحه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث ابن عمر: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" [16] .

وقال الشافعي وأبو حنيفة: إن وقت الاغتسال للجمعة يبدأ من بعد طلوع الفجر لأن الاغتسال لحضور الجمعة فينبغي أن يكون متقدماً عليها، لكن لا يشترط اتصاله بالرواح، وقالوا: إن حديث ابن عمر لا يفيد شرط الاتصال، لأن معنى إذا جاء أحدكم: أي أراد المجيء أو قصد الشروع في المجيء، ولأن معظم الأحاديث الواردة في الاغتسال للجمعة لم يرد فيها ما يفيد اتصال الذهاب إليها.

ص: 400

وذهب الظاهرية إلى أن وقت الاغتسال يمتد من طلوع الفجر يوم الجمعة إلى نهاية عصرها فيجزئ وقوعه في أي جزء من هذا الوقت ولو بعد صلاة الجمعة. واستدلوا بالأحاديث التي أطلق فيها الاغتسال في يوم الجمعة كحديث أبي هريرة؛ وقد تقدمت الإشارة إلى بعضها وهو صادق بأي جزء من يوم الجمعة حتى يبقى من قرص الشمس مقدار ما يتم غسله قبل غروب آخره.. وأفضله أن يكون متصلا بالرواح وهو لازم للحائض والنفساء لزومه لغيرهما.. [17] .

والواقع أن رأي المالكية هو الظاهر- لمن يريد حضور الجمعة- لأن الاغتسال لإزالة الروائح الكريهة، والمقصود عدم تأذي الحاضرين المجتمعين لصلاة الجمعة، وذلك لا يتأتى بعد إقامة الجمعة.. كما أن الاغتسال في أول اليوم مع وجود الفاصل الكبير بينه وبين الصلاة يفوت الغرض الذي شرع الاغتسال لأجله.. والله أعلم [18] .

كيفية الاغتسال للجمعة وفضيلته:

الاغتسال للجمعة لا يختلف في كيفيته عن الاغتسال للجنابة في أركانه وسننه وفضائله:

أما التصريح بكونه مماثلا لغسل الجنابة، فقد جاء واضحاً في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنه، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقره، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر.."[19] .

ص: 401

أما كيفية اغتسال الجنابة المشار إليه في طلب الاغتسال للجمعة في الحديث السابق: فقد ورد كاملاً في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة: يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ يمينه على شماله فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر حتى إذا رأي أن قد استبرأ حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض على سائر جسده ثم غسل رجليه"[20] .

الحكمة من غسل الجمعة:

يستفاد من الأحاديث الواردة في غسل الجمعة- وقد سبقت الإشارة إلى بعضها- إلى أن هذا الاغتسال ضرب هام من التشريع العملي في مجال النظافة البدنية لكل مسلم.. وهو يشير إلى ما ينبغي سلوكه على المسلمين من الاهتمام بنظافة ثيابهم ومساكنهم وأماكن عملهم وبالجملة ينبغي أن يصل أثره إلى كل مظهر من حياتهم الاجتماعية.

كما أن طلب الاغتسال في يوم الجمعة بذاته ما يشير إلى ما ينبغي أن يكون لهذا اليوم من الأهمية في حياة المسلمين باعتباره عيدهم الأسبوعي..

ومن جهة ثالثة: فإن الأمر بإزالة كل ما يتأذى به المسلمون المجتمعون في المساجد من قذر أو روائح كريهة دلالة واضحة على اهتمام الإسلام بمشاعر الناس والمحافظة على راحتهم ورفع كل ما يؤذيهم حتى تسود روح الألفة والمودة بينهم.. وبذلك يكون المسلمون قد تحققوا بقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ..} [21] ..

الخصلة التاسعة الاستحداد:

ص: 402

الاستحداد: بالحاء المهملة: استفعال من الحديد والمراد: استعمال الحديد في حلق شعر العانة.. والتعبير بالاستحداد بدل التعبير بحلق: يشير إلى أنه لا مانع من التعبير بالكناية عن الأمور التي يستحى من التصريح بها.. إذا كان الغرض يفهم من الكناية، دون حاجة إلى التصريح بالشيء.. قال الحافظ ابن حجر:"قد وقع التصريح بحلق العانة في بعض طرق الحديث كما جاء عند مسلم، وهذا مما يدفع إلى الظن بأن التعبير بالاستحداد قد وقع من بعض الرواة".

والمراد بالعانة: الشعر النابت فوق ذكر الرجل وحواليه وكذلك الشعر النابت حوالي فرج المرأة.

وقال العدوي- من علماء المالكية - العانة: "هي ما فوق العسيب والفرج وما بين الدبر والأنثيين"[22] .

وحكي عن أبي العباس بن سريج: أن العانة: "هي الشعر النابت حول حلقة الدبر.."وعلى هذا يستحب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما.. بل قيل: إزالة الشعر من على الدبر أولى خوفا من أن يعلق به شيء من الغائط فلا يمكن إزالته للمستنجي إلا بالماء، وقد يتعذر الحصول عليه ولا يجد لديه إلا الأحجار فيظل متلبسا بالنجاسة.

ص: 403

إلا أن بعض العلماء استبعد شمول لفظ العانة للشعر النابت على الدبر كما يفهم ذلك من قول العدوي السابق، وقد نقل الحافظ ابن حجر عن ابن العربي القول بعدم مشروعية حلق ما حول الدبر.. كما نقل أيضا رأى الفاكهي في شرح العمدة: بأنه لا يجوز.. ثم قال: ولم يذكر للمنع مستنداً وأقول: إن مستنده يتلخص في أن لفظ العانة: خاص بما حول القبل ولا يتناول لما حول الدبر. والشعر المأمور بإزالته: هو شعر العانة فيكون المأمور به: هو الشعر النابت على القبل وما حوله فقط، ولا يتناول الشعر النابت حول الدبر.. ومن هنا قال ابن دقيق العيد:"كأن الذي ذهب إلى استحباب حلق ما حول الدبر ذكره بطريق القياس.."وقال الشوكاني: "ليس هناك دليل على حلق شعر الدبر من فعله صلى الله عليه وسلم ولا من فعل أحد أصحابه"[23] . ومع ذلك أقول: قد صرح بعض العلماء: بأنه لا بأس من حلق شعر الدبر إذا كان القصد من ذلك التنظيف [24] .

قال النووي: "السنة في العانة الحلق لما صرح به الحديث، فلو نتفها أو قصها أو أزالها بالنورة جاز وكان تاركا للأفضل وهو الحلق". [25] .

ص: 404

أقول قول النووي: إن من أزال عانته بالنورة كان تاركاً للأفضل وهو الحلق فيه نظر؟.. فقد نقل الحافظ ابن حجر ما أخرجه ابن ماجه من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أطلى ولى عانته بيده" ثم قال: "رجاله ثقات لكن معل بالإرسال"وأنكر أحمد صحته.. أقول إنه يتقوى بما أخرجه ابن ماجه متصلا عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا أطلى بدأ بعورته فطلاها بالنورة وسائر جسده أهله"[26] قال الحافظ ابن كثير في كتابه الذي ألفه في الحمام- بعد أن ذكر هذا الحديث-: "هذا إسناد جيد"[27] وأخرج أحمد عن عائشة رضي الله عنها قولها: "أطلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنورة، فلما فرغ منها قال: "يا معشر المسلمين عليكم بالنورة فإنها طلية وطهور، وإن الله يذهب بها عنكم أوساخكم وأشعاركم" [28] .

وأيضاً روي الإطلاء بالنورة عن جماعة من الصحابة: فرواه الطبراني عن يعلى بن مرة الثقفي.. والطبراني أيضا بسند رجاله رجال الصحيح عن ابن عمر والبيهقي عن ثوبان والخرائطي عن أبي الدرداء وجماعة من الصحابة وعبد الرزاق عن عائشة.

كما وردت أحاديث قاضية بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتنور.. ولكنها ضعيفة.. قال السيوطي: والأحاديث السابقة- إشارة إلى الأحاديث المثبتة أقوى سندا وأكثر عددا، وهي أيضاً مثبتة فتقدم.

ويمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وسلم كان يتنور تارة ويحلق تارة أخرى.. وقد أوضح القول في هذا الموضوع صاحب نيل الأوطار فمن أراد المزيد فعليه الرجوع إليه [29] .

من يتولى إزالة شعر العانة:

يتولى الشخص إزالة عانته بنفسه لما ثبت من تولي الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك بنفسه.. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك قريباً.

ص: 405

فإن تعذر ذلك لمرض أو كان الشخص أقطعاً: فإن أحد الزوجين يتولى ذلك للآخر لجواز النظر واللمس من كل منهما للآخر وقد صرح بعض العلماء بكراهة تولي ذلك من أحد الزوجين لكن محله إذا كان لغير ضريرة كما أوضحت ذلك في المثال السابق.

ولا يجوز للأجنبي أن يتولى ذلك للرجل الأجنبي عنه كما لا يجوز ذلك للمرأة أن تتولى ذلك للأجنبية عنها [30] .

حكم الاستحداد:

الأصل في الاستحداد: أنه سنة باتفاق الفقهاء وقد عبر البعض عنه بأنه مستحب والخلاف في ذلك يسير وقد حكى النووي أنه قد اختلف فيه بالنسبة للمرأة إذا طلب ذلك منها زوجها على وجهين أصحهما الوجوب [31] .

أما العدوي فقال بوجوبه بالنسبة للمرأة ولو لم يطلب منها الزوج ذلك لأن في إزالته جمال للمرأة ويجب عليها إزالة كل ما في إزالته جمال لها ولو شعر اللحية إن نبتت لها لحية.. [32] .

الحكمة من الاستحداد:

يعتبر الاستحداد وسيلة من وسائل المحافظة على صحة الجسم وقوته وسلامته لأن ترك الشعر يتكاثر في هذا الجزء من الجسم يسبب كثيرا من الالتهابات الجلدية التي تضر بالجسم وتوهنه.

كما أنه من الوسائل التي تلطف العشرة بين الزوجين وتزرع الإلفة والمودة بينهما.. ومن وجهة ثالثة: فإن الاستحداد يعد وجها من أوجه النظافة البدنية التي طلبها الله من خلقه بقوله عز من قائل.. {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ..} الآية.. [33] .

المدة التي لا ينبغي تجاوزها في الاستحداد:

ص: 406

ثبت عن أنس رضي الله عنه أنه قال: "وقَت في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين يوما.."[34] .. وفي رواية أبي داود: "وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.." الحديث.. ولكن إسنادها ضعيف.. والاعتماد على رواية مسلم فإن قوله: "وقت لنا" بالبناء للمجهول هي كقول الصحابي أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، وهو مرفوع كقوله.. قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المذهب الصحيح الذي عليه الجمهور من أهل الحديث والفقه والأصول. [35] .

وهذا هو الحد الأقصى الذي لا ينبغي تجاوزه، أما الوقت الذي ينبغي أن يفعل فيه استحباباً فنقل عن الشافعي وعلماء الشافعية: أن ذلك يكون يوم الجمعة من كل أسبوع كما نقل ذلك عن الباجي والقرطبي من المالكية، وقد رجحه السيوطي استنادا إلى حديث أبي جعفر الباقر الذي سنذكره بعد قليل.

ويرى بعض العلماء أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والضابط في ذلك الطول المتعارف عليه عادة فمن طالت عانته أو أظافره أو طال شعر إبطه فإنه ينبغي عليه إزالته بدون تحديد وقت معين لذلك، وقد اختار هذا الرأي عدد كبير من أهل العلم [36] ..

أما حديث أبي جعفر الذي رواه البيهقي في سننه الكبرى "كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب أن يأخذ من شاربه وأظافره يوم الجمعة" فقد قال العراقي عنه: "إنه مرسل.."[37] كما أن حديث علي بن أبي طالب الذي جاء فيه "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلم أظافره يوم الخميس ثم قال: يا علي قص الظفر ونتف الأنف- ولعله: الإبط- وحلق العانة يوم الخميس والغسل والطيب واللباس يوم الجمعة" فقد قال العراقي عنه: في إسناده من يحتاج إلى الكشف عنه من المتأخرين.. أما الحسين بن هارون الضبي وما بعده فثقات.... والله أعلم.. [38] ..

الخصلة العاشرة: نتف الإبط:

ص: 407

الإبط: بكسر الهمزة والباء الموحدة وسكونها وهو المشهور.. ويذكر ويؤنث: يقال تأبط الشيء وضعه تحت إبطه.

قال النووي: "السنة: نتفه كما صرح به في الحديث فلو حلق جاز"[39] وعن يونس ابن عبد الأعلى قال: "دخلت على الشافعي ورجل عنده يحلق إبطه، فقال إني علمت أن السنة النتف، ولكن لا أقوى على الوجع"[40] .

قال الغزالي: "هو في الابتداء موجع ولكنه يسهل على من اعتاده"- قال: "والحلق كاف لأن المقصود النظافة".

وقد تعقب بأن الحكمة في نتفه: أنه محل للرائحة الكريهة، وإنما ينشأ ذلك من الوسخ الذي يجتمع بالعرق فيه فيتلبد ويهيج، فشرع فيه النتف الذي يضعفه فتخف الرائحة به، بخلاف الحلق فإنه يقود الشعر ويهيجه فتكثر الرائحة لذلك [41] .

قال: ابن دقيق العيد: "من نظر إلى اللفظ وقف مع النتف، ومن نظر إلى المعنى أجازه بكل مزيل.."لكنه بين أن النتف مقصود من جهة المعنى: فذكر نحو ما تقدم:- من حيث تأثير النتف في تخفيف الرائحة- ثم قال: "وهو معنى ظاهر لا يهمل فإن مورد النص إذا احتمل معنى مناسباً يحتمل أن يكون مقصودا في الحكم لا يترك، والذي يقوم مقام النتف في ذلك التنور.. لكنه يرق الجلد فقد يتأذى صاحبه به ولا سيما إن كان جلده رقيقا"[42] وفي المغني: "إن أزال الشعر بالحلق والنورة جاز ونتفه أفضل لموافقته الخبر".

قال حرب: "قلت لإسحاق: نتف الإبط أحب إليك أم بنورة؟ قال: نتفه إن قدر.."[43] .

وبالجملة نقول: إن النتف أولى للنص عليه وهذا لمن يقدر عليه أما من لم يقدر عليه فقد أجيز له الحلق أو التنور.. وقد ظهرت في هذه الأيام أنواع كثيرة من المواد المزيلة للشعر مما جعل هذه المسألة أكثر يسرا وسهولة.

ويستحب أن يبدأ بالإبط الأيمن لحديث التيامن.. وفيه "كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله..".

ص: 408

ولا يجوز ترك شعر الإبط لأكثر من أربعين يوما لحديث أنس السابق "وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة" وقد تقدم أنه في صحيح مسلم.

حكم نتف الإبط:

حكى النووي اتفاق الفقهاء على أن نتف الإبط سنة.. وهذا القول لا يختلف كثيرا عن قول العراقي: "إنه مستحب إجماعا"[44] لتقارب المعنى بين الحكمين؛ ولكنه يختلف كثيرا عما نقله الحافظ عن ابن العربي: من أن الخصال الخمس الواردة في حديث أبي هريرة: وهي حلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظافر وقص الشارب والختان؛ واجبة، معللا ذلك:"بأن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين فكيف من جملة المسلمين"[45] وقد تقدم بيان ذلكَ في صدر هذا البحث.. فلو قال النووي اتفق أكثر الفقهاء على سنية نتف الإبط لكان أقرب إلى التحقيق.

ويمكن حمل قول ابن العربي بالوجوب: في حق من طال شعره وكثر حتى تفاحش بحيث صار مصدر أذى للمسلمين بما ينبعث عنه من الروائح الكريهة وخصوصا في الأجواء الحارة والأماكن المغلقة.

وعلى ذلك فيكون الأخذ من الشعر والأظافر أولا بأول في حدود الأربعين يوما مستحبا أو سنة، فإذا تركه أكثر من أربعين يوما حتى طال كثيرا وتفاحش فيكون الأخذ حينئذ واجبا في حقه والله أعلم.

على أنه يندب غسل اليدين بعد الانتهاء من نتف الإبط لإزالة ما علق بها من شعر أو رائحة كريهة [46] .

الخصلة الحادية عشرة: تقليم الأظافر:

ص: 409

والتقليم: تفعيل من القلم وهو القطع. يقال قلمه: يعني قطعه واسم ما قطع منه: القلامة.. ويقال لها أيضا: المقلومة.. وقد يشدد للكثرة ووقع في بعض الروايات "وقص الأظافر" وقص الظفر: أخذ أعلاه من غير استئصال، قال الحافظ ابن حجر:"والتقليم أعم.."والأظفار جمع ظفر: بضم الظاء والفاء وسكونها.. والمراد إزالة ما يزيد على ما يلابس رأس الإصبع من الظفر لأن الوسخ يجتمع فيه فيتقذر وقد ينتهي إلى حد يمنع من وصول الماء إلى ما يجب غسله في الطهارة [47] .

وقد نقل الحافظ ابن حجر عن البيهقي في شعب الإيمان- من طريق قيس بن حازم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلاة فأوهم فيها فسئل فقال مالي لا أوهم ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته؟ " ثم قال: "رجاله ثقات مع إرساله، وقد وصله الطبراني من وجه آخر"[48] وقد رواه صاحب المغني بلفظ "مالي لا أسهو؟ وأنتم تدخلون علي قلحا ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته.."[49] .

والرفغ: بضم الراء وبفتحها وسكون الفاء بعدها غين معجمة: يجمع على ارفاغ وهي مغابن الجسد: كالإبط، وما بين الأنثيين، والفخذين، وكل موضع يجتمع فيه الوسخ. فهو من تسمية الشيء باسم ما جاوره، والتقدير: وسخ رفغ أحدكم.. والمعنى إنكم لا تقلمون أظافركم ثم تحكون بها أرفاغكم فيتعلق بها ما في الأرفاغ من الأوساخ المجتمعة.. قال أبو عبيد: "أنكر عليهم طول الأظفار وترك قصها".

قال الحافظ ابن حجر بعد ذكر ما تقدم: وفيه إشارة إلى الندب إلى تنظيف المغابن كلها ويستحب الاستقصاء في إزالتها إلى حد لا يدخل منه ضرر على الإصبع.. واستحب أحمد للمسافر أن يبقى منه شيئا لحاجته إلى الاستعانة بذلك غالبا.. [50] .

ص: 410

وإذا تجمع وسخ تحت الأظفار فإن لم يمتنع وصول الماء إلى ما تحته لقلته صح الوضوء بلا خلاف.. وإن منع وصول الماء إلى ما تحته: فقال بعض العلماء بعدم صحة الوضوء كما لو كان الوسخ في موضع آخر من أعضاء الوضوء.. وقال البعض الآخر بصحة الوضوء والغسل وأنه يعفى عنه للحاجة وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم بتقليم الأظفار وينكر ما تحتها من الوسخ ولم يثبت أنه أمرهم بإعادة الصلاة.. [51] .

ترتيب قص الأظافر:

لم يثبت في كيفية قص الأظافر حديث يمكن الاعتماد عليه في ذلك..

وقد قال الإمام الغزالي في الإحياء: "لم أر في الكتب خبرا مرويا في ترتيب قلم الأظافر ولكن سمعت أنه روي أنه صلى الله عليه وسلم بدأ بمسبحة اليمنى وختم بإبهام اليمنى، وابتدأ في اليسرى بالخنصر إلى الإبهام.."أي كان القص على الترتيب التالي:

يبدأ بمسبحة اليمنى ثم الوسطى ثم الخنصر، ثم خنصر اليسرى إلى إبهامها ثم إبهام اليمنى.. ثم قال الغزالي:"ولما تأملت هذا خطر لي من المعنى ما يدل على أن الرواية فيه صحيحة"ثم ذكر لذلكَ حكمة: قال الحافظ العراقي بعد نقله كلام الغزالي: "والذي ذكره حكمة ظاهرة فإنه لا شك أن الابتداء باليمنى أولى، ثم إن أشرف أصابع اليمنى المسبحة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشير بها عند الدعاء وفي التهشد.. الخ ما قال"[52] .

وبالرغم من استحسان العراقي لما قاله الغزالي: فقد استهجنه الإمام المازري المالكي - وهو إمام في علم الأصول والكلام والفقه - وانتقده بشدة.. وقد عقب النووي على كلام الغزالي والمازري، بقوله:"إن الذي ذكره الغزالي لا بأس به إلا في تأخير إبهام اليمنى فلا يقبل قوله فيه، بل يقدم اليمنى بكمالها ثم يشرع في اليسرى، وأما الحديث الذي ذكره فباطل لا أصل له.."[53] .

ص: 411

وأما الرجلان فيبدأ بخنصر اليمنى ثم يمرر على بقية الأصابع بالترتيب حتى يختم بخنصر اليسرى كما في تخليل الأصابع في الوضوء.. [54] .

لا بأس من تولي شخص آخر تقليم الأظافر وقص الشوارب:

يخير الشخص الذي يريد تقليم أظافره أو قص شواربه، بين أن يتولى ذلك بنفسه أو يتولاه غيره عنه إذ لا هتك حرمة في ذلك ولا ترك مروءة ولا سيما ممن لا يحسن قص أظافر يده اليمنى؛ فإن كثيرا من الناس لا يتمكن من قصها بنفسه لعسر استعمال اليسار لديه فإن الأولى في حق مثله أن يتولى ذلك غيره عنه، لئلا يؤذى يده، وقد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ من شارب المغيرة بن شعبة على سواكه.. [55] .

استحباب دفن ما أخذ من الأظفار والأشعار:

استحب عدد من الفقهاء دفن ما أخذ من الأظفار والأشعار سواء من العانة أو الإبط أو الشارب أو الرأس..

وقد جاء في المغني روى الخلال بإسناده عن ميل بنت مشرح الأشعرية قالت: "رأيت أبي يقلم أظفاره ويدفنها. ويقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.."[56] كما جاء فيه أيضا: قال مهنا: "سألت أحمد عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ "قال: "يدفنه.."قلت: "بلغك فيه شيء؟ " قال: "كان ابن عمر يدفنه وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه أمر بدفن الشعر والأظفار وقال: "لا يتلاعب به سحرة بني آدم"[57] وقال النووي: "نقل عن ابن عمر واتفق عليه أصحابنا"[58] ..

استحباب غسل رؤوس الأصابع بعد قص الأظافر:

استحب بعض الفقهاء غسل رؤوس الأصابع بعد قلم الأظفار لما قيل: إن حك الجسم بالأظفار المقلومة قبل غسلها يضر بالجسم.. [59] ..

حكم تقليم الأظفار:

حكى النووي اتفاق العلماء على أن تقليم الأظفار سنة سواء في ذلك الرجل والمرأة واليدان والرجلان.. وحكى العراقي والمقدسي: الاستحباب [60] والفرق بين الأمرين يسير.

ص: 412

لكن يعكر دعوى الاتفاق المقول بها من قبل هؤلاء الأعلام ما سبق من قول ابن العربي بالوجوب بالنسبة للخصال الواردة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.. ومن بينها تقليم الأظفار.. وقد ذكرنا فيما سبق مستنده وما قال به بعض العلماء في الرد عليه.

الحكمة من الأمر بقص الأظافر واعتبار ذلك من سنن الفطرة:

1-

الظفر القصير مفيد لحك الجسم لكن إذا طال عن حده صار مصدر إيذاء للشخص وإيذاء لغيره من المتعاملين معه فيكون الأمر بإزالة الظفر الطويل أمرا بإزالة أذى عن المسلمين وهو مطلوب في كل وقت وعلى أي حال..

2-

في إزالته أيضا وقاية عن كثير من الأمراض؛ لأن الأوساخ التي تتجمع بين الظفر الطويل ونهاية الإصبع تصير مأوى خصبا للجراثيم والميكروبات وهي من أسرع الوسائل فتكا بصحة الإنسان.

3-

في إزالة بقايا الغائط بالاستنجاء بواسطة اليد فإنه قد يعلق بها بعض الغائط حيث يدخل بين الظفر ونهاية الإصبع ويصعب استخراجه بالغسل العادي، فإذا توضأ الشخص ولم ينتبه لذلك فإنه يصلي وهو حامل للنجاسة..

كما أن رؤوس أصابعه تكون مصدر رائحة كريهة دائما وهو ما يشير إليه الحديث.. "ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته.." وقد سلفت الإشارة إليه.

الخصلة الثانية عشر: قص الشارب:

الأصل في القص: تتبع الأثر، وقيده بن سيدة في المحكم: بالليل كما يطلق أيضا على إيراد الخبر تاما على من لم يحضره، كما يطلق ثالثا على قطع شيء من شيء بآلة مخصوصة، والمراد به هنا: قطع الشعر النابت على الشفة العليا من غير استئصال [61] .

أما الشارب: فهو الشعر النابت على الشفة العليا.. وقد اختلف في جانبيه وهما السبالان؛ فقيل هما من الشارب ويشرع قصهما معه، وقيل هما من جملة شعر اللحية فيعفيا..

ص: 413

وقد ورد في بعض الأحاديث "قص الشوارب"؛ فقيل: هو من الواحد الذي فرق وسمي كل جزء منه باسمه من باب المبالغة والتعظيم؛ فقالوا لكل جانب منه شاربا ثم جمع على شوارب.

وحكى ابن سيده عن بعضهم: من قال: الشاربان أخطأ وإنما الشاربان ما طال من ناحية السبلة.. قال ويسمى السبلة كلها شاربا.. ويؤيده أثر عمر الذي أخرجه مالك: أنه كان إذا غضب فتل شاربه، والذي يمكن فتله من شعر الشارب؛ السبال وقد سماه شاربا.. [62] .

وقد روت أكثر الأحاديث بلفظ القص كحديث أبي هريرة عند البخاري ومسلم وحديث عائشة وحديث أنس عند مسلم وكذلك حديث ابن عمر عند البخاري.. [63] .

وقد وقع عند مسلم في رواية أبي هريرة بلفظ "جزوا الشوارب" كما وقع عنده وعند البخاري من حديث ابن عمر بلفظ "احفو الشوارب.." وقد ورد عند البخاري من رواية ابن عمر بلفظ "أنهكوا الشوارب.."[64] فانتهت مجموع هذه الروايات إلى أمرين: أحدهما: الأخذ من الشوارب بدون استئصال لها وهي الروايات التي جاءت بلفظ القص أو التقصير

وثانيها: استئصال الشوارب وهي الروايات التي جاءت بألفاظ الاحفاء والجز والإنهاك والتعدد في الروايات المختلفة المعنى الواردة في موضوع الشوارب جعلت العلماء يختلفون في كيفية الأخذ المشروع منها.

كيفية الأخذ من الشوارب وآراء الفقهاء فيها:

ذهب الحنفية ومعهم بعض الفقهاء إلى أن كيفية الأخذ المشروع في الشوارب هو استئصالها بالحلق.. وذلك لما جاء في كثير من الأحاديث من التعبير بالاحفاء والإنهاك والجز ونحوها.. وكل هذه الألفاظ تدل على أن المطلوب المبالغة في الإزالة: إذ الاحفاء- بالحاء المهملة والفاء - الاستقصاء في الأخذ.

كما أن النهك- بالنون والكاف- يدل على المبالغة في الإزالة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم للخافضة:"أشمي ولا تنهكي" أي لا تبالغي في خفاض المرأة..

ص: 414

وكذلك لفظ الجز- بالجيم والزاي الثقيلة- فإنه يدل على قص الشعر والصوف إلى أن يبلغ الجلد [65] .

كما استدل هذا الفريق أيضا: بفعل بعض الصحابة رضي الله عنهم وكذلك عدد من خيار التابعين.

فقد نقل البخاري في صحيحه عن ابن عمر أنه كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى بياض الجلد ويأخذ هذين يعني بين الشارب واللحية.. [66] .

وعن ميمون بن مهران عن عبد الله بن عمر قال ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: "إنهم يوفرون سبالهم- جمع سبلة ومعناه الشارب- ويحلقون لحاهم فخالفوهم"، قال:"وكان ابن عمر يستعرض سبلته فجزها كما تجز الشاة ويجز البعير"[67] ..

وعن عبيد الله بن أبي رافع قال: "رأيت أبا سعيد الخدري وجابر بن عبد الله وابن عمر ورافع بن خديج وأبا أسيد الأنصاري وابن الأكوع وأبا رافع ينهكون شواربهم حتى الحلق.."[68] ..

وحكى ابن حجر: عن الطبري من طرق: عن عروة وسالم والقاسم وأبي سلمة أنهم كانوا يحلقون شواربهم [69] .

وقد أخذ بهذا عدد من أهل العلم، وهو اتجاه المذهب الحنفي حيث يرى الحنفية أن الاحفاء أفضل من التقصير..

وفي مقابل هذا الفريق كان الإمام مالكَ يرى أن السنة في الشوارب هي التقصير لها وكان ينهى عن الاحفاء وينكره ويفسر الأحاديث التي جاءت بالاحفاء وما في معناه: بأخذ أسفل الشارب والمطل على الشفة العليا حتى يبدو بياض هذه الشفة قال ابن القاسم عن مالك: "احفاء الشارب عندي مثلة والمراد بالحديث المبالغة في أخذ الشارب حتى يبدو طرف الشفتين.. وقال أشهب سألت مالكا عمن يحفى شاربه، فقال: "أولى أن يوجع ضربا"، وقال لمن يحلق شاربه: "هذه بدعة ظهرت في الناس..".

وفي الموطأ: قال يحيى: "وسمعت مالكا يقول: يؤخذ من الشارب حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار ولا يجزه فيمثل بنفسه.."[70] .

ص: 415

وقال النووي في المجموع: "ثم ضابط قص الشارب: أن يقص حتى يبدو طرف الشفة ولا يحفه من أصله، هذا مذهبنا.."[71] .

وقال العراقي: "إن التقصير هو مذهب مالك والشافعي.."[72] .. وتعبير النووي والعراقي وهما من أساطين المذهب الشافعي أكثر تحقيقا عن اتجاه المذهب من غيرهم.. بمعنى أن السنة في الشوارب في المذهب الشافعي: هي التقصير.. وهذا مخالف لما حكاه ابن خويز منداد عن الشافعي أنه كالحنفي يرى الاحفاء [73] كما يتنافى مع ما حكاه الطحاوي من أن أصحاب الشافعي كالمزني والربيع كانوا يحفون، وما أظنهم إلا أنهم أخذوا ذلك إلا عنه [74] ..

وأهم ما استند إليه هذا الفريق في القول: بأن السنة في الشوارب هي التقصير: دلالة الأحاديث الكثيرة الواردة بلفظ القص أو التقصير، والتي أشرنا إلى بعضها فيما تقدم.

وأيضا بما روى عن ابن عباس أنه قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص أو يأخذ من شاربه، قال: وكان خليل الرحمن إبراهيم يفعله"أخرجه الترمذي، وقال:"هذا حديث حسن غريب.."[75] .

وكذلك حديث زيد بن أرقم عند الترمذي أيضا "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من لم يأخذ من شاربه فليس منا.." قال الترمذي عنه: "هذا حديث حسن صحيح" [76] .

وقد وضح حديث المغيرة كيفية الأخذ حيث جاء فيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا طويل الشارب فدعا بسواك وشفرة فوضع السواك تحت الشارب فقص عليه.."[77] .

كما يستدل هذا الفريق بفعل بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ذكر البيهقي بإسناده إلى شرحبيل بن مسلم الخولاني.. قال: "رأيت خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصون شواربهم ويعفون لحاهم ويصفرونها: أبو أمامة الباهلي، وعبد الله بن بسر، وعتبة بن عبد السلمي، والحجاج بن عامر الثمالي، والمقدام ابن معد يكرب الكندي، كانوا يقصون شواربهم مع طرف الشفة.."[78] ..

ص: 416

وأما الإمام أحمد بن حنبل فقد روى الأثرم عنه: أنه كان يحفي شاربه احفاء شديدا، وسمعته يسأل عن السنة في احفاء الشارب، فقال:"يحفي.."وقال حنبل:"قيل لأبي عبد الله: ترى للرجل يأخذ شاربه ويحفيه أم كيف يأخذه؟ " قال: "إن احفاه فلا بأس وإن أخذ قصا فلا بأس"، وقال أبو محمد في المغني:"هو مخير بين أن يحفيه وبين أن يقصه.."[79] ..

مناقشة وجهة الفريق الأول:

نوقشت وجهة الفريق الأول من قبل معارضيه: بأن الاحفاء المذكور في بعض الروايات ليس معناه الاستئصال، بل المراد به التقصير، غاية ما في الأمر؛ أنه يشتد في أخذ الشعر المتدلي من أسفل الشارب حتى يبدو طرف الشفة العليا حتى لا يؤذي الأكل ولا يجتمع فيه الوسخ..

وقال ابن عبد البر: "الاحفاء محتمل لأخذ الكل، والقص مفسر للمراد والمفسر مقدم على المجمل".

وقال الحافظ ابن حجر- بعد أن ذكر وجهة هذا الفريق من أحاديث الاحفاء وما ورد عن ابن عمر وغيره- قال: "إن كل ذلك محتمل لأن يراد استئصال جميع الشعر النابت على الشفة العليا ومحتمل لأن يراد استئصال ما يلاقي حمرة الشفة من أعلاها ولا يستوعب بقيتها، نظرا إلى المعنى في مشروعية ذلكَ؛ وهو مخالفة المجوس والأمن من التشويش على الأكل: وبقاء زهومة المأكول فيه، وكل ذلكَ يحصل بما ذكرنا".

ص: 417

ثم ذكر الحافظ بعد ذلكَ: أن طريقته هذه تجمع مفترق الأخبار الواردة في الموضوع.. ثم يقوي وجهة نظره هذه: بأن الداودي جزم بذلك حين شرح أثر ابن عمر المذكور في الإحفاء.. كما أنه مقتضى تصرف الإمام البخاري؛ لأنه أورد أثر ابن عمر وأورد بعده حديثه وحديث أبي هريرة في قص الشارب فكأنه أشار إلى أن ذلكَ هو المراد من الحديث.. ثم ذكر عن الشعبي: أنه كان يقص شاربه حتى يظهر حرف الشفة العليا، وما قاربه من أعلاه، ويأخذ ما يزيد مما فوق ذلك وينزع ما قارب الشفة من جانبي الفم ولا يزيد على ذلك ثم قال:"وهذا أعدل ما وقفت عليه من الآثار"[80] .

مناقشة وجهة الفريق الثاني:

كما تعرضت وجهة الفريق الثاني القائل بأن السنة في الشوارب: هي التقصير وأخذ ما طال على الشفتين؛ إلى بعض المناقشات من الفريق الأول؛ ومن بينها ما يلي:

أن الاحفاء الوارد في كثير من الأحاديث: معناه الاستئصال: وليس هو ما طال على الشفتين، وتشهد لذلك كتب اللغة كالصحاح والقاموس والكشاف.. كما أن رواية القص لا تنافي الاحفاء لأن القص قد يكون على جهة الاحفاء وقد لا يكون، ورواية الاحفاء معينة للمراد وأيضا حديث "من لم يأخذ من شاربه فليس منا.."لا يعارض رواية الاحفاء لأن فيها زيادة يتعين المصير إليها ولو فرض التعارض من كل وجه لكانت رواية الاحفاء أرجح. لأنها في الصحيحين.. كما أن حديث "أن رسول الله أخذ من شارب المغيرة بن شعبة على سواكه.." محتمل وهو وإن صح فإنه لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الواردة في الاحفاء [81] وقد حاول بعض العلماء أن يجمع بين الاحفاء والقص فقال:"يقص من أعلاه ويحلق من طرفه"[82] .

المختار: بعد أن استعرضنا آراء الفقهاء، ومستند كل منهم: تبين لنا أن الاحفاء وإن كان يحتمل التقصير لكنه إلى معنى الاستئصال أقرب، وأن القص وإن احتمل أن يكون من قرب جذور الشعر لكنه إلى التقصير الوسط أقرب.

ص: 418

إذا وضح هذا: علم أن كلا من التقصير والاحفاء سنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن المرء مخير بين الأمرين من غير تفضيل أحدهما على الآخر.

وقد سبقت الإشارة إلى أن هذا هو رأي الإمام أحمد الذي أجاب به السائل حينما قال له: "ترى للرجل يأخذ شاربه ويحفيه أم كيف يأخذه؟ "قال: "إن أحفاه فلا بأس، وإن أخذ قصا فلا بأس.."

كما أن الحافظ العراقي؛ قد نقل حكاية التخيير عن القاضي عياض.. [83] كما أنه رأي الإمام الطبري: حيث نقل عنه قوله: "دلت السنة على الأمرين ولا تعارض، فإن القص يدل على أخذ البعض والإحفاء على أخذ الكل وكلاهما ثابت فيتخير فيما يشاء.."[84] .

استحباب البداءة بالجانب الأيمن:

يستحب في الأخذ من الشارب أن يبدأ الأخذ بالجانب الأيمن للحديث السابق "كان وسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في كل شيء.."

وقت الأخذ من الشارب:

أما التوقيت في الأخذ من الشارب فيجري في ما قلناه سابقا عن بعض أهل العلم: من أنه يختلف باختلاف الأشخاص، وأن البعض قد استحب فعله في يوم الجمعة من كان أسبوع، المهم ألا يتركه لأكثر من أربعين يوما: لحديث أنس السابق "وقت لنا في قص الشارب الحديث.."

التخيير بين مباشرة الأخذ بنفسه أو يوليه غيره:

يجوز في قص الشارب أن يباشر ذلكَ بنفسه أو يتولاه غيره عنه لحديث المغيرة بن شعبة المتقدم.. إذ لا هتك حرمة في ذلكَ.. ولا نقص مروءة..

هل يترك السبالان أو يؤخذ منهما؟:

اختلف أهل العلم في الأخذ من طرفي الشارب وهما المسميان بالسبالين هل يقصا مع الشارب، أم يتركا كما يفعله كثير من الناس؟..

نقل عن الغزالي في الإحياء: أنه لا بأس بترك سبالين وهما طرفا الشارب.. فعل ذلك عمر رضي الله عنه وغيره، لأن ذلك لا يستر الفم ولا يبقى فيه غمرة الطعام إذ لا يصل إليه..

ص: 419

وروى أبو داود من رواية أبي الزبير عن جابر قال: "كنا نعفي السبال إلا في حج أو عمرة.."

وكره بعض العلماء بقاء السبال لما فيه من التشبه بالأعاجم بل بالمجوس وأهل الكتاب.

قال العراقي - بعد أن أحكى الرأيين السابقين -: وهذا إشارة إلى الرأي الأخير - أولى بالصواب.. لما رواه ابن حبان في صحيحه؛ من حديث ابن عمر قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس، فقال:"إنهم يوفرون سبالهم، ويحلقون لحاهم"، فكان ابن عمر يجز سباله كما تجز الشاة أو البعير.."

وروى أحمد في مسنده في أثناء حديث لأبي أمامة.. فقلنا يا رسول الله: فإن أهل الكتاب يقصون عثانينهم ويوفرون سبالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"قصوا سبالكم ووفروا عثانينكم، وخالفوا أهل الكتاب" - والعثانين - بالعين المهملة والثاء المثلثة وتكرار النون - جمع عثنون: اللحية [85] ..

حكم الأخذ من الشارب:

حكى الإمام النووي الاتفاق على أنه سنة.. وعبر الحافظ العراقي عنه بالاستحباب والأمر بينهما سهل لكن يعكر دعوى الاتفاق هذه ما سبقت الإشارة إليه من قول ابن العربي بالوجوب وما ذهب إليه ابن حزم الظاهري من أن يقص الشارب فرض: أخذاً بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر "خالفوا المشركين..""أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى.."[86] حيث جاء الطلب بصيغة الأمر المقتضية للوجوب عند الإطلاق..

ص: 420

فلو قيل: اتفق أكثر الفقهاء على السنية لكان أقرب للتحقيق وقد علل الشاطبي عدم الوجوب في الأمور التي تقتضيها الفطرة السليمة أو مكارم الأخلاق أو محاسن العادات: بأن الشارع قد اكتفى في طلبها بمقتضى الجبلة الطبيعية والوازع الباعث على الفعل..والدليل على ذلك: أنه لم يأت بنص جازم في طلب الأكل والشرب واللباس والواقي من الحر والبرد والنكاح الذي به بقاء النسل، وإنما جاء ذكر هذه الأشياء في معرض الإباحة أو الندب، ومن ثم أطلق كثير من الع يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ لماء على تلك الأمور: أنها سنن أو مندوب إليها [87] .

الحكمة من طلب الأخذ من الشارب:

1-

في الأخذ من الشارب مخالفة لأهل الكتاب والمجوس وغيرهم من ملل الكفر..

2-

ما أشار إليه ابن العربي: من أن الماء النازل من الأنف يتلبد به الشعر لما فيه من اللزوجة ويعسر تنقيته عند غسله في الطهارتين [88] ..

3-

يعتبر الأخذ من الشارب ضربا من ضروب المحافظة على الصحة، وذلك لما يعلق بأطراف الشعر من الغبار والجراثيم السابحة في الهواء فإذا أكل الإنسان أو شرب انتقلت هذه الجراثيم إلى داخل الفم مع المأكول أو المشروب.

4-

كما أن فيه أخذا بأسباب الزينة التي أمر الله بها إذ فيه تزيين لسمت المسلم وتحسين لهيئته وتجميل لمنظره.. (يتبع)

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

صحيح البخاري جـ 2 ص 11 طبعة صبيح.

[2]

عمدة القارئ جـ 6 ص 193.

[3]

المرجع السابق.

[4]

عمدة القارئ جـ 6 ص 193.

[5]

سنن النسائي جـ 3 ص 93.

[6]

عمدة القارئ جـ 6 ص 193 دار إحياء التراث.

[7]

المحلى جـ 2 ص12،ص13، دار الاتحاد العربي الطباعة..

[8]

صحيح مسلم جـ 3 ص 3. الموطأ ص 186 من المنتقى.

[9]

مسلم جـ 3 ص 3.

ص: 421

[10]

جـ 3 ص 9 تحفة الأحوذي ومسلم جـ 3 ص 8.

[11]

جـ 3 ص 6. ص 7.

[12]

سنن الترمذي جـ 3 ص 8 تحفة الأحوذي.

[13]

المنتقى جـ اص 185

[14]

صحيح ملسم جـ 3 ص 3

[15]

المرجع السابق.

[16]

المنتقى جـ 1 ص 186

[17]

المحلى جـ 2 ص 27. ص28.

[18]

سبل السلام جـ اص 86. ص 87. ونيل الأوطار جـ ا 280 والفقه على المذاهب الأربعة جـ 1 ص 102 الطبعة الأولى سنة 1928م.

[19]

صحيح مسلم جـ 3 ص 4.

[20]

صحيح مسلم جـ 1ص 174.

[21]

سورة الأعراف الآية رقم 31.

[22]

انظر تعليق العدوي على شرح أبي الحسن علي رسالة ابن أبي زيد القيرواني جـ 2 ص 344 مطبعة السعادة بالقاهرة.

[23]

نيل الأوطار جـ 1ص 155 فتح الباري جـ 12 ص 464، المجموع جـ 1ص 348 مطبعة العاصمة.

[24]

حاشية العدوي على أبي الحسن جـ 2 ص 344 مطبعة السعادة.

[25]

المجموع جـ 1ص 348 مطبعة العاصمة.

[26]

نيل الأوطار جـ 1ص 155.

[27]

نيل الأوطار جـ 1ص 155.

[28]

المرجع السابق.

[29]

جـ 1 ص 155.

[30]

المجموع للنووي 1ص 348 مطبعة العاصمة

[31]

فتح الباري جـ 12 ص 464 ونيل الأوطار جـ 1ص 155

[32]

حاشية العدوي على أبي الحسن جـ 2 ص 345 مطبعة السعادة.

[33]

سورة الأعراف الآية رقم 31..

[34]

صحيح مسلم جـ 1 ص 154.

[35]

المجموع جـ 1 ص346 مطبعة العاصمة.

[36]

المجموع جـ 1ص 346 مطبعة العاصمة وطرح التثريب جـ 2 ص 83 والمنتقى جـ 1ص 186 وشرح الموطأ للزرقاني جـ 4 ص 248 طبعة 1355هـ تصوير دار الفكر.

[37]

طرح التثريب جـ 1 ص 79.

[38]

طرح التثريب جـ 2 ص 80.

[39]

المجموع جـ اص 348 مطبعة العاصمة.

[40]

المجموع جـ اص 349 مطبعة العاصمة.

[41]

فتح الباري جـ 12 ص 465.

ص: 422

[42]

شرح الموطأ للزرقاني جـ 4 ص 285 طبعة 1355 تصوير دار الفكر.

[43]

المغنى جـ اص 65.

[44]

المجموع جـ اص 348 وطرح التثريب جـ 2 ص 76 والمغني جـ اص 65

[45]

فتح الباري جـ 12 ص 459

[46]

العدوي على أبي الحسن جـ 2 ص 344

[47]

لسان العرب جـ15 ص 392 الميم فصل القاق وانظر فتح الباري جـ 12 ص 465 وطرح التثريب جـ 2 ص 77

[48]

فتح الباري جـ 12 ص 465

[49]

المغني جـ اص65

[50]

فتح الباري جـ 12 ص 465.

[51]

المجموع جـ اص 346 مطبعة العاصمة.

[52]

طرح التثريب جـ 2 ص 78.

[53]

المجموع جـ ا 345 مطبعة العاصمة.

[54]

المرجع السابق.

[55]

السنن الكبرى للبيهقي جـ اص 151.

[56]

المغني جـ اص 66.

[57]

المغني ج1 ص66.

[5 8] المجموع جـ اص 349 مطبعة العاصمة.

[59]

المغني جـ اص 65

[60]

المجموع جـ اص 345 والمغني ج1 ص65 وطرح التثريب ج2 ص77

[61]

لسان العرب جـ 2 ص 341 مادة قصص النهاية لابن الأثير جـ 4 ص 70 فتح الباري جـ 12 ص 454.

[62]

لسان العرب جـ اص 472 مادة شرب: فتح الباري جـ 12 ص 471.

[63]

البخاري جـ 12 ص 456 على فتح الباري جـ اص 471.

[64]

البخاري جـ 12 ص 456 على فتح الباري ومسلم جـ اص 153.

[65]

فتح الباري جـ 12 ص 468.

[66]

فتح الباري جـ 12 ص 454.

[67]

السنن الكبرى للبيهقي جـ اص 151.

[68]

ـ المرجع السابق.

[69]

ـ فتح الباري جـ اص 469.

[70]

شرح الزرقاني على الموطأ جـ4 ص 286 وسنن البيهقي جـ اص 151 فتح الباري جـ 12 ص 468

[71]

ـ جـ اص 346

[72]

ـ طرح التثريب جـ 2 ص 76.

[73]

شرح الزرقاني على الموطأ جـ 4 ص 287

[74]

فتح الباري جـ 12 ص 468

[75]

تحفة الأحوذي جـ 8 ص 41.

ص: 423

[76]

المرجع السابق ج8 ص42 ص43.

[77]

السنن الكبرى للبيهقي ج1 ص151.

[78]

السنن الكبرى جـ اص 151.

[79]

فتح الباري جـ 12 ص 468 نيل الأوطار جـ اص 346 مطبعة العاصمة.

[80]

فتح الباري جـ 12 ص 469.

[81]

نيل الأوطار جـ اص 138.

[82]

العدوي على أبي الحسن جـ 2 ص 344.

[83]

طرح التثريب جـ 2 ص 77.

[84]

فتح الباري جـ اص 468.

[85]

طرح التثريب جـ 2 ص77.

المحلى جـ 2 ص298 ص299.

[86]

[87]

الموافقات جـ 3 ص 132.

[88]

فتح الباري جـ 12 ص 469.

ص: 424

أبو الأعلى المودودي

مؤسس الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية

لفضيلة الشيخ محمد شريف الزئبق

المدرس بكلية الدعوة.

في يوم السبت أول ذي القعدة سنة 1399 هـ توفي الشيخ أبو الأعلى المودودي فكانت وفاته فاجعة أليمة أصابت المسلمين جميعاً في عالم عامل مجاهد، وإمام فذ، أثر في الجيل الإسلامي المعاصر تأثيرا عظيما، فقد دعا من شبه القارة الهندية إلى نهضة إسلامية على أسس علمية متينة، وأسس في الهند ثم في باكستان الجماعة الإسلامية على مبادئ الإسلام القويمة في قالب عصري سديد.

نشأته:

ولد المودودي في بلدة (أورنك أباد) بإقليم حيدر أباد الركن في الهند، وكان والده من العلماء الصالحين الذين امتهنوا مهنة المحاماة والدفاع عن المظلومين، فعني بتربية ولده وتثقيفه، فبدأ بتعليمه القرآن الكريم، واللغتين العربية والفارسية، والفقه والحديث، ولم تمض سنوات حتى كان أبو الأعلى الفتى الصغير قد حصل من العلوم في خمس سنوات ما لم يحصله نظراؤه من الأطفال في ضعف هذه المدة، وبعد أن استوى عوده، ونال من الثقافة الإسلامية حظا طيبا. ألحقه أبوه في المدرسة الحكومية وكانت سنه لا تزيد عن إحدى عشرة سنة، فأجري له اختبار للقبول، ونجح إلى الصف الثامن، واستمر في المدرسة إلى نهاية المرحلة الثانوية.

وحدث أن أصيب والده بمرض أقعده عن العمل فانقطع إلى ملازمته وخدمته، والعناية به، ولم يلبث أن توفي أبوه ولم يتجاوز السادسة عشرة فكان عليه أن يعتمد بعد الله على نفسه، فعمل في الصحافة، وهو بعد فتى غض الإهاب، واستمر في طلب العلم والمطالعة بعيدا عن الأسلوب التقليدي الذي يسير عليه طلبة العلم في زمنه، حيث كانوا ينصرفون إلى كتب المتون والشروح والتقريرات والمنظومات الفقهية واللغوية:

ص: 425

وكانت هذه الفترة من تاريخ الهند تموج بأحداث خطيرة بعد الحرب العالمية الأولى وما تلاها من أحداث جسام في العالم الإسلامي، حيث كان الإنجليز يحكمون الهند حكما استعماريا غاشما، وكان المسلمون يتململون ويتألمون حين يجدون أبناءهم مجندين في الجيوش البريطانية التي كانت تتصدى لحرب إخوانهم المسلمين في الدولة العثمانية، مما كان له رد فعل شديد لدى المسلمين في الهند، فتنادى زعماؤهم إلى الدفاع عن الخلافة الإسلامية، وكان الإنجليز في الوقت نفسه يشجعون الهندوس ويؤيدون دعوتهم القومية، وبرز (غاندي) زعيما هندوسيا يقود الشعب الهندي للاستقلال، وكان قد نشأ في أحضان الإنجليز، فأظهروه زعيما خطيرا يعمل على إقامة دولة في الهند على أساس القومية العلمانية، ويحاول خداع مسلمي الهند ليسيروا في صفه باسم القومية والتحرير، ويطلب منهم تناسي تاريخ الهند الإسلامي الذي لم يكن فيه بزعمه غير الحروب والدمار، وأن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف، مستغلا قيام ملاحدة حزب الاتحاد والترقي في تركيا مصطفى كمال وأنصاره - بإلغاء الخلافة سنه 1342 هـ، فكان غاندي يصول ويجول ويدعو المسلمين في الهند إلى الانضواء تحت لواء القومية الهندوسية ونبذ دعوة الوحدة الإسلامية لإعادة الخلافة،..

وكان المودودي يسمع هذه الدعوة الفاجرة من غاندي فتثور نفسه ويغلي الإيمان في قلبه، ويكب على الكتب والمراجع ليرد افتراءات غاندي وغيره من أعداء الإسلام فألف كتابه الأول (الجهاد في سبيل الله) وطبع سنة 1347 هـ وسنه لم تتجاوز الخامسة والعشرون.

عمله في الصحافة:

ص: 426

وفي سنة 1351 هـ أصدر المودودي مجلة (ترجمان القرآن) وجعلها منبرا للدعوة الإسلامية، وكان يبدؤها بتفسير القرآن العظيم بأسلوب يحافظ فيه على جوهر المعنى بأسلوب عصري يبلغ به دعوة الإسلام إلى معاصريه. وكان المودودي يشترك في تحرير مجلات أسبوعية منها مجلة (تاج) التي كان يديرها وحده ثم تحولت إلى جريدة يومية. ولما انتقل إلى العاصمة (دلهي) التقى برئيس جمعية علماء الهند الشيخ أحمد سعيد، وأصدرت هذه الجمعية سنة 1358هـ جريدة (مسلم) وعين المودودي مديرا لها، ولما أغلقتها السلطة الاستعمارية أصدرت الجمعية جريدة أخرى بإدارته.

تأسيس الجماعة الإسلامية:

لقد فطن المودودي رحمه الله وهو يبحث موضوع (الجهاد في سبيل الله) إلى حقيقة الإسلام، وأنه لابد له من دولة تقيم شرائعه وأحكامه من العدل بين الناس، ورعايته فقرائهم، وهذا يستلزم قيام جميع المؤسسات التي تحتاجها الدولة كالقضاء والجيش والشرطة والبعثات الدبلوماسية وغيرها، فهو يقول:"الحكومة الإسلامية لا تكون في الحقيقة إلا حكومة مبلغة ومرشدة، مهمتها إعلاء كلمة الله في الأرض، وغايتها من الجهاد تغليب الإسلام على الكفر".

ونظر المودودي فرأى الأغلبية من المسلمين في الهند منقسمة إلى فريقين: أحدهما يسير في موكب حزب المؤتمر الهندي تحت زعامة غاندي الذي يدعو إلى قومية هندية موحدة، ويحارب فكرة تقسيم الهند على أساس الدين، والثاني يؤيد حزب الرابطة الإسلامية بزعامة محمد علي جناح، والذي يدعو إلى إنشاء دولة باكستان منفصلة عن الهند على أساس القومية الإسلامية.

ص: 427

وكان زعماء الرابطة الإسلامية جماعة مثقفة بثقافة عصرية، وليس في أذهانهم فكرة واضحة عن النظام الإسلامي الذي تقوم عليه دولة باكستان، وكان هدفهم هو إنشاء دولة مستقلة للمسلمين على أساس (القومية الإسلامية) لا (الفكرة الإسلامية) أو النظام الإسلامي؛ وقام المودودي بمجابهة هذا التيار الذي يلقى تأييد عامة المسلمين بسبب الظروف الصعبة التي كان يعيشها المسلمون في الهند والمذابح الطائفية التي يتعرضون لها في كل مكان.. وقد شرح المودودي فكرته في مجلة ترجمان القرآن، وفي المحاضرات التي كان يلقيها في مختلف البلدان عام 1358هـ كقوله:"إن المسلمين ليسوا أمة كالألمان أو الإنجليز أو الهندوك تنتمي إلى عنصر مخصوص أو تنتسب إلى أرض بعينها، وإنما المسلمون حزب ذو فكرة ومبدأ، لا ينحصرون في أرض أو سلالة، وعليهم أن يجذبوا الهنادك إلى حزبهم العالمي ذي الفكرة السامية والنظرة العالمية الشاملة كما جذبهم أسلافنا من قبل".

وليس عجيبا أن لا تستوعب الأكثرية من المسلمين هذه الفكرة، وكان من الطبيعي أن تستهويها نظرية (القومية الإسلامية) بإزاء (القومية الهندية) لأن العاملين في الدعوة الإسلامية كانوا لا يملكون الوسائل، وفي الوقت نفسه كان عددهم قليلا جدا، وفي سنة 1359هـ صادق مؤتمر الرابطة الإسلامية على تأسيس (دولة إسلامية مستقلة) وعندئذ رأى المودودي أن الوقت قد حان لينتظم الذين تأثروا بدعوته وأفكاره في سلك جماعه تستعد لمجابهة ما سيعانيه المسلمون في الهند، وما سيواجهه الإسلام في باكستان، فاجتمع على دعوته خمسة وسبعون رجلا في مدينة لاهور من مختلف أنحاء البلاد الهندية وأسسوا (الجماعة الإسلامية) وانتخبوه أميرا لها وكان ذلكَ في الثاني من شهر شعبان 1360 هـ.

ص: 428

شرعت الجماعة الإسلامية في مهمتها بتعميم الدعوة ونشر فكرة الإسلام، وكان الأستاذ المودودي رحمه الله لا يزال ينشر آراءه وأفكاره في مجلته ترجمان القران، ويلقي المحاضرات في الموضوعات الإسلامية أمام طلاب الجامعات وأساتذتها، وظهر في الجماعة نخبة من المؤلفين وقفوا حياتهم ومواهبهم لاستجلاء محاسن الإسلام بأسلوب عصري متين، وحرصت الجماعة الإسلامية على تربية أعضائها على الأخلاق الإسلامية وحثهم على أداء شهادة الحق قولا وعملا:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . ولم يزد أعضاء الجماعة في مدى ست سنوات (من.136- 1366 هـ) على ستمائة وخمسة وعشرين عضوا، إذ كان على من يلتحق بعضوية الجماعة الإسلامية أن يستقيل من وظائف الحكومة الإنجليزية المستعمرة، وإن كان محاميا أن يمتنع عن المرافعة أمام المحاكم التي كانت تحكم بغير ما أنزل الله، وأن يرفضوا التعامل بالربا والعقود المحرمة الأخرى، وقد أثبت هؤلاء النفر المؤمنون الذين بايعوا المودودي أنهم جادون في عملهم للإسلام ودعوته.

جهاده وبلاؤه:

وحين انقسمت الهند إلى دولتين الهند وباكستان، ازدادت أعباء (الجماعة الإسلامية) فكان عليها إلى جانب نشر التصور الصحيح للإسلام وإعداد الفرد المسلم وإصلاح المجتمع، أن تعمل على جعل باكستان دولة إسلامه تطبق الإسلام، وذلك:

1-

بمطالبة الحكومة بوضع الدستور الإسلامي وتطبيق االشريعة الإسلامية..

2-

إعداد جيل متمسك بتعاليم الإسلام، مستقيم السلوك يستطيع تحمل مسئوليات النظام الإسلامي.

ص: 429

وقد كان لجهاد الجماعة الإسلامية لوضع الدستور الإسلامي لدولة باكستان أن أصدرت الجمعية التأسيسية (قرار المبادئ) سنة 1368هـ الذي ينص على أن الحاكمية في باكستان ليست إلا لله عز وجل وأن كل ما تتمتع به الدولة من الصلاحيات والسلطات هي وديعة عندها لله سبحانه وتعالى، وأن الحكومة من واجبها أن تجعل المسلمين يعيشون حياة إسلامية يرتضيها الله ورسوله.

وقد كان من كيد أعداء الإسلام أن الحكومة البريطانية ورثت دولة باكستان الناشئة تحكم القاديانيين وسيطرتهم على جانب من السلطة فكان ظفر الله خان وزيرا للخارجية وبعض الضباط القاديانيين يتحكمون في سلاح الطيران.. وكانت للقاديانية دعاية واسعة خبيثة بين ظهراني المسلمين، فكتب الأستاذ المودودي (المسألة القاديانية) وبين في هذا الكتاب حقيقة القاديانية وخطرها على المسلمين، وبسبب هذا الكتاب ألقي القبض على الأستاذ المودودي سنة 1372 هـ مع عدة مئات من أعضاء الجماعة الإسلامية، وحوكم المودودي أمام محكمة عسكرية فأصدرت قرارا بإعدامه واستقبل المودودي هذا الحكم بطلاقة وجه ورحابة صدر، ولكن المحكمة عادت فخففت الحكم إلى السجن المؤبد، وبقي المودودي في السجن ثمانية عشر شهرا، ثم اضطرت الحكومة إلى إطلاق سراحه تحت ضغط جماهير الشعب المسلم في باكستان وفي العالم الإسلامي.

وفي سنه 1384 هـ قامت الحرب بين الهند وباكستان بسبب عدوان الهند على كشمير فاضطر أيوب خان رئيس الباكستان أن يذهب إلى مقر الجماعة الإسلامية في لاهور وأن يصحب المودودي في سيارته إلى دار الإذاعة ليوجه خطابا إلى الأمة وإلى الجيش كان يذاع على المقاتلين في الجبهة، وتحقق الانتصار للجيش الباكستاني رغم ضآلة عدده وعدته أمام الجيش الهندي.

ص: 430

ولما وصل بوتو وحزبه إلى حكم باكستان سنة 1392 هـ لم يستطع أن ينفذ ما كان ينادى به من جعل دستور الدولة اشتراكيا علمانيا رغم أكثريتة الساحقة، لأن الجماعة الإسلامية والهيئات الدينية الأخرى استنكرت مشروعة، وأبت إلا أن يكون الدستور متفقا مع قرار المبادئ، فرضخ هذا المتغطرس وحزبه لرغبة الشعب المسلم ووضع مادة تصرح بأن دين الدولة الإسلام، ومصدر التشريع فيها هو الإسلام.

بين المودودي والندوي:

كان الأستاذ السيد أبو الحسن الندوي قد ألف كتابا في نقد بعض آراء الأستاذ أبي الأعلى المودودي التي وردت في بعض كتبه وخاصة كتاب (المصطلحات الأربعة في القرآن) ، وقد طبع منذ سنوات باللغة الأردية في السند ثم طبعت ترجمته باللغة العربية باسم (التفسير السياسي للإسلام) في عام 1399 هـ ويقول السيد الندوى أن السيد المودودى قد كتب له في رسالته الأخيرة التي تلقاها منه حين وصله كتاب المذكور الذي جاءت فيه ملاحظاته عليه. كتب له مرحبا بهذه الملاحظات وشكره عليها، ودعاه إلى مراجعة سائر كتاباته ومؤلفاته، وإبداء الملاحظات عنها وقال:"إنني لا أستطيع أن أقول إني سأوافق عليها تماما، ولكني أدرسها وأتأمل فيها"وقال: "إنني لا أعتبر نفسي فوق مستوى النقد واختلاف وجهات النظر.."

ص: 431

ومما يذكر أن كلا الرجلين كانا من أعضاء رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة ومن أعضاء المجلس الاستشاري للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ويشيد السيد الندوي حفظه الله بالسيد المودودي "الذي قامت دعوته على أسس علمية أعمق وأمتن من أسس تقوم عليها دعوات سياسية.. وكانت كتاباته وبحوثه موجهة إلى معرفة طبيعة هذه الحضارة الغربية وفلسفتها للحياة، وتحليلها تحليلا علميا قلما يوجد له نظير في الزمن القريب، وقد عرض الإسلام ونظام حياته، وأوضاع حضارته وحكمه، وصياغته للمجتمع والحياة، وقيادته للركب البشري والسيرة الإنسانية في أسلوب علمي رصين، وفي لغة عصرية تتفق مع نفسية الجيل المثقف ومستوى العصر العلمي ويملا الفراغ في الأدب الإسلامي المعاصر من زمن طويل، ويقضي حاجة الشباب الطموح إلى مجد الإسلام والمسلمين.."ويقول الندوي أيضا: "وقد بعثت كتاباته - المودودي - القوية ثم جهوده المتواصلة الرغبة القوية العارمة لقيام حكم إسلامي ونظام إسلامي ومجتمع أفضل في كل بلد إسلامي".

مؤلفاته:

ص: 432

نقل إلى اللغة العربية من مؤلفاته بضعة وثلاثون كتابا منها: الجهاد في سبيل الله - الإسلام والجاهلية - شهادة الحق - الدين القيم - مبادئ الإسلام - المصطلحات الأربعة في القرآن - نظرية الإسلام الخلقية - الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية - تفسير سورة النور – الحجاب - موجز تجديد الدين وإحيائه - واقع المسلمين وسبيل النهوض بهم - منهج جديد للتعليم والتربية - أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة - معضلات الاقتصاد وحلها في الإسلام - مسألة ملكية الأرض في الإسلام - نظرية الإسلام وهديه في السياسة والدستور والقانون - القانون الإسلامي - نظام الحياة في الإسلام - واجب الشباب المسلم اليوم - حاجة الإنسانية إلى جماعة رشيدة - البعث بعد الموت - الثبوت العقلي للرسالة المحمدية - نحن والحضارة الغربية - المسألة القاديانية - الحضارة الإسلامية: أصولها ومبادئها- حركة تحديد النسل في ميزان النقد - تذكرة دعاة الإسلام - أضواء على حركة التضامن الإسلامي - بين الدعوة القومية والرابطة الإسلامية - حدود التشريع الإسلامي ومكانة الاجتهاد فيه.- العدالة الاجتماعية: حقيقتها وسبل تحقيقها.

وقد حرصت المملكة العربية السعودية على تكريم هذا الإمام المجاهد فمنحته لجنة جائزة الملك فيصل جائزتها للعالم الماضي، فتقبلها شكرا ووضعها في خدمة الدعوة الإسلامية، رحمه الله وعوض الأمة الإسلام عنه خير العوض، وأجزل مثوبته في دار المقامة عنده.

ص: 433

عبد الله بن ياسين

واضع الأسس الأولى لدولة المرابطين في المغرب الأندلس

(الحلقة الثانية)

لفضيلة الشيخ/ إبراهيم الجمل. المدرس بالعهد الثانوي التابع للجامعة الإسلامية

كان بين عبد الله وجدالة ثأر لا تزال آثاره موجودة: فهي القبيلة التي منعته من تأدية رسالته، وهددته بالقتل، بل لقد حاولت هدم بيته عليه، مما جعله يفر أمام قوة القوم، أما اليوم فيستطيع عبد الله أن يخضع قبيلة جدالة للدين الصحيح، وأن يجعلها تأتمر بأمره، معلنة الجهاد ضد كل من يخالف ما يجب أن يكون عليه الناس؛ ثم يتبعها باقي القبائل.

رجع عبد الله إلى مركز قيادته في رباط السنغال، وجمع أشياخ المرابطين، ليأخذ مشورتهم في أمر القبائل وفي مقدمتهم جدالة، وذهب إليها ليعرض عليها تعاليمه ومعه جيش المرابطين، وراحوا يرجونهم أن يعودوا إلى الصواب ويرضوا بحكم الإمام عبد الله، وأن يكونوا عوناً له على رد كيد الطغاة والمشركين وانتهز الجداليون فرصة مسالمة المرابطين، فأحدقوا بجيش المرابطين يريدون القضاء عليهم، فقد التفوا حولهم من كل جهة، وتنبه المرابطون لما سوف يقعون فيه، ورأوا أنهم أمام عدو من أعداء الدعوة يريد أن يطفئ نور الله، فسرى فيهم الحماس، ودوى صوتهم بالتكبير، وانقضوا على أعدائهم ينكلون بهم، حتى هزموا شر هزيمة، فأذعنوا للدعوة ودخلت القبيلة كلها في زمرة المجاهدين.

سار عبد الله إلى قبيلة لمتونة، وضيق على كل من تأخر منها الخناق، حتى أذعنوا، ورضوا بحكم عبد الله، وبعدها سار إلى سوقة فنهاها وحذرها ووعظها، فآمنت بما يدعو إليه، وعاهدته على الجهاد، وإعلاء كلمة الله. وحذت حذوها لمطة وجزولة وبهذا أصبحت وجهة القبائل واحدة، قائمة على مبادئ سامية، وعقيدة راسخة، وفي واع لما يدعو إليه الإمام ابن ياسين من نشر للواء العدل، ورفع لراية الإسلام الصحيح.

ص: 434

إن في استطاعة عبد الله الآن أن يزحف لنصرة المظلوم والوقوف بجانب الضعيف وتهيئة القوم لإصلاح المجتمع. واتخذ لنفسه حكومة منظمة، تضم كل من استجاب للدعوة.. فرح الفقهاء فرحا كبيرا وأخذهم الزهو والفخر بنجاح أخ منهم، واعتبروا أنفسهم مشاركوه في هذا النجاح.. كذلك فقد وصلت كتبهم بالتهنئة طالبين منه الزحف إليهم لإنقاذ البلاد من الحكام الطغاة المارقين.

زحف الإمام عبد الله على المغرب..

كان في مقدمة من كتب إلى ابن ياسين إخوانه من فقهاء (سجلماسة) الغيورين على الدين، يرغبونه في الوصول إليهم لتخليص البلاد مما تعانيه من الحكام الطغاة الظلمة زناته المغراويين وأميرهم مسعود بن وانودين. ولمساعدتهم على القضاء على البدع وإقامة العدل وإظهار السنة، وكان الفقهاء قد طلبوا من الأمير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلم يأبه بهم ولم يلتفت إلى مطالبهم..

جمع عبد الله الأشياخ، وقرأ عليهم رسالة فقهاء سجلماسة، فقالوا له:(أيها الشيخ الفقيه هذا يلزمنا ويلزمك فسر بنا على بركة الله) زحفت جيوش المرابطين في حشود ضخمة، ونزلوا بوادي درعة، وكانت أخبارهم قد وصلت إلى أميرهم مسعود، فأعد جيشا قوامه أكثر من عشرة آلاف للقاء المرابطين، ففروا من أمامهم وتشتت شملهم وقتل أميرهم مسعود، وتقدم القوم وراء فلول الزناتيين متجهين نحو سجلماسة، ولم يتركهم المرابطون ليحصنوا أنفسهم بالمدينة، بل انقضوا عليهم بالسيوف حتى فرقوا شملهم وتمت الغلبة عليهم..

تركت جيوش المرابطين حامية في (سجلماسة) واتجهوا إلى الصحراء للقضاء على ثورة الزنوج، وما كانت زناته تعلم بتحركات القوم حتى انقضوا على الحامية وقتلوها عن آخرها.. وغضب عبد الله غضبا شديدا ورجع إلى رناته مرة أخرى، فألحق بهم خسائر فادحة، وقضى عليها جميعا، وثبَت أقدام المرابطين في هذه البلاد وانتشرت أخبار ما حدث في جميع أنحاء بلاد المغرب..

ص: 435

أمر عبد الله بإزالة المنكرات، ورفع المكوس الجائرة، وتفريق الأخماس على المرابطين وفقهاء البلاد وتطبيق أحكام الدين، واختار عاملا من قبيلة لمتونة لحكم سجلماسة ذكر المؤرخون:(أنهم أصلحوا أحوال سجلماسة وغيروا ما فيها من المنكرات وقطعوا المزامير وأحرقوا الديار التي بها بيع الخمور) أخذ عبد الله رحمه الله الإمام والمعلم يستعد لغزو بلاد السوس وكان ذلك عام 484هـ فغزى بلاد جزولة وماسة فضمها للمرابطين ثم قصد عاصمة السوس مدينة (تارودانت) وكان بها طائفة من الشيعة يقال لها البجلية نسبة إلى مؤسسها عبد الله البجلي الرافضي وكانوا قد قدموا إلى سوس زمن أبى عبد الله الشيعي أواخر القرن الثالث الهجري، وزمن حكم الفاطميين بالمغرب، ونشروا مذهبهم، وتوارثوه جيلا بعد جيل وكان مذهبهم يتضمن كثيرا من التعاليم المثيرة التي منها أنهم لا يرون الحق إلا ما في أيديهم.

هاجم المرابطون المدينة هجوما عنيفا ثم اقتحموها وقتلوا من الشيعة كل من خالفهم، حتى إذا استسلم الباقي طلبوا منهم - كما كانت عادة الإمام - أن يسلموا إسلاما جديدا، ويبايعوا بيعة جديدة، وقضوا أيضا على تجمعات اليهود بتلك المنطقة واستولوا على سائر نواحيها، وعين عبد الله لها عاملا المرابطين، وأوصاهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأتباع ما جاء به القرآن والسنة، وإسقاط المغارم والمكوس والاكتفاء بتحصيل الزكاة والأعشار.. [1] .

ص: 436

كان هذا أمرا عجيبا في وسط المغرب الأقصى، فأين تعلم هذا الرجل العجيب، إن هذه المبادئ الحقة السليمة لم يرها المغرب من قبل، وما عرف عن الإسلام الصحيح عقيدة ودستورا مطبقا إلا القليل، وما كان في الأندلس البلاد التي تعلم فيها إلا رسما للإسلام أن هذا الرجل تعلم أول ما تعلم على مائَدة الإسلام الأولى فدرس القرآن ووعاه، وحفظ السنة إلى درجة الإفتاء، وحرص على أن يعي جيدا ما كان عليه الرسول من تنفيذ للشريعة. وطريقة العمل بها، وما كان عليه الخلفاء الراشدون وبخاصة الفترة المجيدة من حياة أبي بكر وعمر رضى عنهما- لقد كان عنده من الإلهام الذي حياة الله به، والتمسك بتنفيذ أحكام الشريعة، ما وصل إلى علمه بكل طريقة حتى يطمئن إلى أن الله راض عن عمله.

لقد أراد أن ينفذ ذلك في أكبر بقعة من الأرض "لذلك فإننا نراه يسابق الريح محتسبا عمله لله وفي سبيل الله، وطاوعه المغاربة، وما أحب العمل عند المغاربة إذا تيقنوا أن هذا العمل لله ومن أجل الله.

إن البلاد العريضة التي فتحها كانت تفتح قلبها وعقلها ولسانها لعبد الله تنتظر إشارة منه لتتجه إلى الوجهة التي يريدها الإمام والمعلم.

ص: 437

لم تقف الجبال سدا منيعا ضد نشر الدعوة، فلقد عبر هو ومن معه من المرابطين جبال الأطلس عازمين على فتح مدينة (أغمات) فمروا على وزده وشفشاوة فأخضعوا من فيها لحكم الإسلام، وكذلك سائر منطقة جدميوه، ثم اتجه إلى مدينة (أغمات) وأميرها لقوط بن يوسف المغزاوي فحاصرها المرابطون، ودافع عنها أميرها دفاعا شديدا، ولكنه وجد أن لا فائدة من المقاومة وخاف من بأس المرابطين، ففر مختفيا والليل، والتجأ إلى (تادلا) تحت حماية بني يفرن، ودخل المدينة المرابطون سنة 449 هـ وأزالوا ما بها من مناكير استراحوا بها نحو شهرين، قصدوا بعدها تادلا ودعوا أهلها إلى الدخول في الدعوة فأبى عليهم أمراؤهم من بني يفرن، فهاجموهم وقتلوا من خالفهم، وظفروا بأمير (أغمات) فقتل ومن معه..

الإمام ابن ياسين والبراغواطيون..

لم يكن في المغرب أخطر على الدعوة الإسلامية من البرغواطيين وكانوا أقوياء بحيث لم يستطع الحكام والأمراء المغاربة قبل عبد الله أن ينالوا مني وكلفا مرت الأيام ازدادوا قوة وبأسا واستماتة في سبيل نشر مبادئهم الهدامة ضد أصول وقواعد الإسلام، لهذا فقد كان كل هم الإمام هو القضاء على هؤلاء الخلق..

هذه القبائل التي تسمى (البرغواطية) كانت تدين بمذهب تتنافى تعاليمه مع أحكام الإسلام فقد أسه رجل يهودي يسمى طريف بن برناط من أعمال شدونة بالأندلس، كان من جماعة يهودية تقصد الإساءة إلى الإسلام بتغيير أصوله منتهزين الفرصة مهما طال الزمن لينفثوا سمومهم، يوصى بعضهم بعضا حتى إذا الوقت المناسب أعلنوا ذلك.

ص: 438

ارتحل طريف هذا إلى تأمنا، وتحايل بالمكر والخداع على البربر حتى قدموه على أنفسهم فولوه أمرهم، وكان متظاهرا بالدين الإسلامي، فبقي أميرا عليهم إلى أن هلك فتولى بعده ابنه صالحا، وسمى نفسه بصالح المؤمنين، فتنبأ وشرع لهم ديانة وعهد إلى ابنه من بعده بنشر ذلك، فتناقلت الأجيال أمره إلى أن ظهر فيهم يونس وادعى النبوة انتقلت إليه من جده، واجبر البربر بالقوة حتى ضلوا واتبعوه قال الشاعر يلومهم على إطاعتهم لهذا المدعى الأفاك.

وقولي وأخبري خبرا يقينا

قفي قبل التفرق فاخبرينا

وخابوا لا سقوا ماء معينا

وهذى أمة هلكوا وضلوا

فأخزى الله أم الكاذبين

يقولون النبي أبو غفير

على آثار خيلهم رنينا

ألم تسمع ولم تر لؤم بيت

وغاوية ومسقطة جنينا

رنين الباكيات بهم ثكالى

أتوا يوم القيامة مهطعينا

سيعلم أهل تامسنا إذا ما

يوالينا البوار معظمينا

هنالك يونس وبنو أبيه

ليالي كنتم مستيسرينا [2]

فليس اليوم يومكم ولكن

أما الضلال الذي شرع لهم، فإنهم يقرون بنبوءة صالح بن طريف وأن الكلام الذي ألفه لهم هو من عند الله لا يشكون في ذلك ففرض عليهم صوم رجب وأكل شهر رمضان، وخمس صلوات بالنهار ومثلها بالليل والوضوء غسل السرة والخاصرتين وغسل الرجلين من الركبتين، ويتزوج الرجل ما استطاع من النساء، ويقتل السارق بالإقرار والبينة، والديك والبيض حرام عندهم، وأكل الدجاج مكروه، وليس عندهم آذان ولا إقامة للصلاة، وقد وضع لهم صالح قرآنهم المكون من ثمانية سور أولها سورة أيوب وآخرها يونس ومنها سورة الديك وفرعون والجراد وغير ذلك من الهراء والكذب الذي قصد به الإساءة إلى الدين الإسلامي الحنيف.

ص: 439

كان في قلب عبد الله قرح، فقد مر ببلادهم، ورأى ما عليه القوم من تبديل وتغيير لمعالم الدين، واطلع على أحوالهم وألمه ما سمع، ولم يستطع في ذلك الوقت أن يفعل شيئا سوى مناقشة لم تفد ولم تنفع فهؤلاء لا يجدي القول معهم.

أما وقد اصطبح عبد الله في قوة فأكبر خدمة يؤديها للإسلام هو استئصال هذه الفئة الخارجة. ذهب إليهم وهو أكثر حماسا وأشد قوة.

كان الأمير على برغواطة في هذا الوقت أبو حفص بن أبي غفير محمد بن معاذ بن اليسع بن صالح فسار إليهم عبد الله وقاعده أبو بكر في جموع المرابطين ودارت معارك ضارية بعين الفريقين اشترك فيها عبد الله وكثيرا ما كان داعية الإسلام يشترك في المعارك ولا يرضى بأن يكون المعلم والمفقه للدين وحده، فكان ينضوي تحت لواء القيادة لينال شرف الجهاد في سبيل الله، ولا ندري لماذا كان ينسى نفسه وهو الذي ضرب الأمير والقائد يحيى بن عمر عشرين سوطا لأنه اشترك في القتال على حين كان يجب عليه أن يقف عن كثب يحرض الناس ويرسم لهم الخطة الكفيلة بتحقيق النصر.

ولكنها الغيرة الشديدة على المسلمين، فلم يرض عبد الله أن يقف مكتوف اليدين والعدو يعمل السيف في صفوف المرابطين متأسيا بما عرف عن الرعيل الأول من المسلمين، لقد نزل إلى ساحة القتال يحرض الناس ويبشرهم بالجنة والاستشهاد لتكون كلمة الله هي العليا.

كان يعمل سيفه في رقاب تلك الطائفة الضالة الباغية حتى أصيب داعية الإسلام ومحيى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بجروح بالغة قاتلة ولم تمنعه الآلام ولا قرب خروج الروح الطاهرة أن يعجل باجتماع معِ أشياخ المرابطين، ويحثهم على الثبات في القتال، ويحذرهم من عواقب التفرقة والتحاسد في طلب الرياسة قائلا رحمه الله:

ص: 440

"يامعشر المرابطين أنا ميت في يومي هذا وأنتم في بلاد عدوكم، فإياكم أن تحنثوا- تجبنوا- وتفشلوا وتذهب ريحكم- كونوا ألفة على الحق، وإخوانا في الله، وإياكم والمخالفة والتحاسد على الدنيا- وإني ذاهب عنكم، فانظروا من ترضونه لأمركم يقود جيشكم ويغزو أعداءكم ويقسم ركابكم وأعشاركم"..

ولقي ربه في يومه ودفن بموضع مرتفع في مكان يعرف بكريفلة قريبا من تامسنا وهو بين الرماني وابن سليمان في طريق الرباط الدار البيضاء في الرابع والعشرين من جمادى الأولى يوم الأحد سنة 431 هجرية وبنى مسجدا لا يزال حتى الآن.

لقد أفاض المؤرخون والفقهاء والعلماء في الثناء على أبى محمد عبد الله بن ياسين في ذكر أعماله وجهاده وإخلاصه يقول الخطيب:

"وكان عبد الله رجلا ورعا سنيا ذكروا أنه غزا السودان في جيش لمتونة ففقدوا الماء وأشرفوا على الهلاك فتوجه عبد الله إلى الله ودعا وأمنوا على دعائه ثم قال:

احتفروا تحت رجلي فحفروا فألفوا الماء على مقدار شبر من الأرض، واستقوا ولم يزل صائما في بلادهم من يوم دخولها إلى أن توفي، ولم يقتت إلا من لحوم الصيد"..

ويقول المؤرخ الإسلامي د. حسن محمود:

ص: 441

"على أن الجانب السياسي من شخصية عبد الله بن ياسين لم يحجب الجانب العلمي، وهو جانب الفقيه المعلم إذ لم يكف عبد الله عن أداء رسالته فظل يروي ويحدث ويعلم حتى خلق في الصحراء جوا من العلم والمعرفة لم يألفه الناس من قبل، إذ لا تثبت أركان الدين إلا بالعلم ولا إسلام صحيح إلا بدراسة حقة لكتاب الله وسنة رسوله، وقد أدى إلى خلق جيل من الفقهاء الصنهاجيين عرفوا بالورع والتقى وإنكار الذات، خلصت نياتهم وزكت نفوسهم ومن أمثلة هؤلاء الفقهاء تلاميذ ابن ياسين لمتاد بن نصير اللمتوني الذي يضرب المثل بفتياه في بلاد الصحراء ومنهم أيضا ميمون بن ياسين الصنهاجي اللمتوني الذي رحل إلى الأندلس محدثا وراويا بل إن أمراء الملثمين أنفسهم أخذوا من العلم الذي بثه عبد الله بن ياسين بنصيب وافر"..

رحمه الله ورضي عنه.

عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". متفق عليه

عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

"ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب " متفق عليه.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

راجع إن شئت كتابنا أمير المسلمين يوسف بن تاشفين.

[2]

مستيسر: من المياسرة أصحاب مير البيان المغرب لابن عذارى جـ اص 27.

ص: 442

افتتاحية العدد

فضيلة الدكتور/ عبد الله بن عبد الله الزايد

نائب رئيس الجامعة

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا اله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ونستفتح بالذي هو خير.

وبعد:

فقد شاء الله عز وجل أن أتولى إدارة الجامعة، وأسأله جل وعلا أن يمن بالتسديد والعون على ما حملت من هذه المسئولية الضخمة؛ وأن أكون عند حسن ظن المسئولين وظن الغيورين على العلم وطلابه؛ لأسير بركب هذه الجامعة إلى حيث تطوف أرجاء العالمين، تاركة في كل بقعة أثرا من هدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، خلفاً لسلف كريم..

ولئن كان إنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة- مهبط الوحي ومشرق النور إلى جنبات المعمورة - مما وفق الله تعالى إليه أولي الأمر في هذه البلاد الطيبة، فما ذلك إلا لأنهم- بحمد الله - ورثة الدعوة خلفا عن سلف، يقيمون الحكم في مملكتهم على هدي الشريعة السمحة ويقيمونها بين الناس كذلك أراد الله من الحاكمين بين الناس أن يفعلوا كما قال تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} (الحج آية 41) .

وقد كانت الركيزة الأولى التي قامت عليها الدولة السعودية وانبنى عليها حكمهم: عقيدة التوحيد، فأعزهم الله، وأفاض عليهم من الخير والنعم والاستقرار والأمن، ومكن لهم ما لم يمكن لغيرهم من طيب العيش، وهناءة الحياة.

ص: 443

ولقد أحسست منذ اللحظة بثقل العبء، وجسامة المسئولية، ذلك بأن الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة إنما تغاير الجامعات المنبثة في أنحاء العالم، فهي فريدة في نهجها، فريدة في وسائلها، فريدة في أهدافها:

أما نهجها: فهو أنها خصصت خمسة وثمانين في المائة على الأقل من مقاعد طلبة العلم الدارسين بها لأبناء العالم الإسلامي في مختلف أنحاء المعمورة، ولم تبق للطلاب السعوديين سوى 15% على الأكثر من مقاعدها، الأمر الذي وصل به عدد جنسيات من يدرسون بها من خارج المملكة مائة جنسية، ومن ثم حُق لها - وهي بهذه المثابة - أن توصف بأنها جامعة العالم الإسلامي بأسره.

وأما وسائلها: فهي أنها قد أمَّنت لكل دارس بها وسيلة قدومه من بلده إلى مقرها، كما أمَّنت - بعد قدومه - لمأواه مسكناً مؤثثا تطيب به نفسه، وأمَّنت له كتب العلم المتنوعة التي يحصلها، والعلاج القريب بمستشفى كائن بمقر الجامعة تقوم عليه نخبة من خيار الأطباء، وإضافة إلى هذا فقد خصصت الجامعة لطلابها سيارات خاصة تنقلهم يومياً من مهاجعهم بالجامعة إلى الحرم النبوي الشريف ثم تعيدهم إليها وفوق ذلك كله فإن الجامعة تمنح كل طالب فيها مكافأة شهرية مجزية.

ص: 444

وأما أهدافها: فهي أنها تسعى إلى تخريج علماء يترسمون خطى السلف الصالح، فينهلون من العلوم الشرعية الصحيحة القائمة على عقيدة التوحيد والتي تدور في فلكها، بعيدة عن الزيف الذي لبس على المسلمين الحق بالباطل، ثم تعيد هؤلاء الخريجين- بعد أن وفقهم الله للفقه في دينه - إلى بلادهم ليتداركوا المسلمين الذين ذهبت بكثير منهم البدع كل مذهب، وطوَّحت بهم الخرافات في كل مشرب، وأصبح كثير منهم إمَّعات كريش تلعب به هبَّات الرياح؛ تعيدهم إلى بلادهم ليكونوا لها رسل خير، ودعاة صدق، وألسنة حق، فيصححوا ما انحرف من عقائد المسلمين، وليصدوا تلك الموجات العارمة من الزيغ، وليوقفوا - بالحجة والبيان - تلك التيارات الجارفة من الإلحاد التي ترسل معها الشياطين على الغافلين تؤزهم أزا، في محاولات عنيدة لإذابة كيان المسلمين - وبخاصة الشباب منهم - ومحو واقعه -

إن من أهداف الجامعة تكوين خريجين قادرين على التصدي لأعداء الله الظاهرين لنا والمغيبين عنا بالعلم والإيمان، تحقيقا لقول الله تعالى:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون} .. (التوبة آية 122) .

ولقوله جل شأنه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} .. (الأنفال آية 60) .

ص: 445

لكم سعدت حقاً بأبناء العالم الإسلامي في هذه الجامعة، فرؤيتهم - بل وقضاء معظم الوقت بينهم - بديل عن وقت طويل طويلٍ يبلغ سنين عددا كنت أحتاجها كيما أقابل والتحم بهؤلاء الذين يمثلون دولاً إسلامية شتى؛ إذ كم من الوقت كنت سأقضيه لو أنني أردت أن أطوف بمائة دولة تضم مسلمين يتفاوتون كثرةً وقلةً، فضلاً عن أن أتحدث - على الأقل- إلى ممثل كل دولة منها، وأتعرف على مشاكلهم، وأقوم على حلها.

وأرجو أن يكون ذلك نعمة من الله يعينني على شكرها وشكر سائر نعمه.. كما أسأله تعالى أن يوفقني إلى تحقيق ما حُمِّلت لأبلغ بهذه الجامعة - بعون الله تعالى وقوته - أعظم ما ينفع المسلمين في أمور دينهم ودعوتهم، وإن أنسى فلن أنسى- بحول الله- قولة سيد المرسلين، وإمام الهدى إلى العالمين، صلوات الله وسلامه عليه إلى علي بن أبى طالب رضى الله عنه حين وجهه إلى خيبر لدكِّ معاقل الكفر فيها وفتحها:"فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم"(أخرجه البخاري ومسلم) .. فأسأل ربي أن يوفقني إلى أن يهدي بي من يشاء، إن ربي على ما يشاء قدير

ص: 446

ولا يفوتني أن أذكر في مقامي هذا أنني خلال غمرة هذه السعادة وقعت مفاجأة مروعة عكرت صفو النفوس، وحولت الفرحة حزناً وألماً، ذلك أنه في مطلع شهر المحرم قامت فئة من الشباب الغر، الذين جهلوا أمر دينهم، وما رجوا لله وقاراً، وملأ الغرور عليهم أنفسهم فسوَّل لهم الشيطان وأملى لهم، إذ حشدوا مجموعة ضخمة من الأسلحة واقتحموا بها بيت الله الحرام- الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً- وارتكبوا من جرائم قتل النفوس البريئة المعصومة الدم، ما أفزع الآمنين، وروَّع الطائفين والراكعين الساجدين، ونشر الذعر في بلد الله الحرام في الشهر الحرام، وصدَّ الآمين المسجد الحرام الذي جعله الله للناس سواء العاكف فيه والباد، زاعمين أن (المهدي) قد ظهر فيهم، وأرادوا حمل من بالمسجد الحرام قسراً تحت إرهاب السلاح- على مبايعة (مهديهم المزعوم) وما جر هذه الفئة الباغية إلى مثل فظائعهم إلا أنهم لم يحصلوا من العلم الصحيح المحقق ما يردهم عن مثل ما ارتكبوا من مسلك إجرامي فريد.

لكن الله تعالى- جلت قدرته- دائماً بالمرصاد لكل من يريد انتهاك حماه، وتخطي حدوده بعامة، واستباحة حمى البيت الحرام بخاصة، فقال سبحانه:{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (الحج آية 25) - وتحقق ذلك فعلاً؛ إذ كان من فضل الله تبارك وتعالى أن وفق أولي الأمر في البلاد فمكنهم من قمع فتنة أولئك المارقين الذين أعماهم الجهل، وأهلكهم الغرور، وضربت الغشاوة على قلوبهم وأبصارهم جواً من الظلمة الرهيبة التي عاشوا فيها مع الشطان الرجيم.

ص: 447

لقد كان فضل الله جل وعلا على هذه الأمة عظيماً حين أقدر قادتنا وفي مقدمتهم جلالة الملك وولي عهده على سحق أولئك الباغين، وأقاموا شرع الله تعالى فيهم، الذي جعله الشارع الحكيم ردعاً وزجراً، فمن ينفذ إلى قلبه الشيطان أو تميل نفسه إلى أن ينهج نهج أولئك العابثين يجد حدَّ الله تعالى الذي طبق عليهم أمام عينيه ماثلاً في قوله سبحانه:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأََرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} (المائدة آية 22) .

ولقد وفق الله جنود الحق من هذا البلد الأمين، فاستبسلوا في جهاد تلك الفئة العادية حتى أحيط بها، وسقطت بين قتيل يشيِّعه مقت الناس خاصهم وعامهم، وبين ذليل مقر بما قدمت يداه، ونال كل من الجزاء ما ناسبه، ذلك بأن الله أعظم غيرة على دينه وبيته، وحرماته، وأن الله ليس بظلام للعبيد.

فشكر الله لأولي الأمر جهودهم، ومن ضرب معهم بسهم جل أو عظُم، وجعلهم خير خلف لخير سلف، ومكن لهم في الأرض لينشروا بين العالمين دعوته وأيدهم بالحق، وأيد الحق بهم؛ وجعلهم قوَّامين بالقسط شهداء لله.. إن ربنا جواد كريم، وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ومولانا ونعم الوكيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.

دكتور عبد الله بن عبد الله الزايد

نائب رئيس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

ص: 448

رسائل لم يحملها البريد

بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

أختي العزيزة (هل) :

منذ أزمان بعيدة سحيقة وأنا جد متوقة إلى أن أكتب إليك هذه الرسالة، غير أن السعي الحثيث وراء الدنيا، والحب الجم لجمع المال، قد شغلا أختك (همزة الاستفهام) عن أن تكتب إليك هذه الرسالة.

ولولا خشيتي المبالغة والتفيش لقلت إن الناس جميعا قد شغلوا بما شغلت به أختك هذه الأيام، فحب المال قد ألهى الرجال عن أزواجهم وذراريهم، وصرف العلماء عن كتبهم وقراطيسهم، وصد المدرسين عن الخلوص والإخلاص للدرس والتدريس.

وقد أكون قد ثبت إلى صوابي بعد هذا الضياع، ورجعت إلى رشدي بعد هذه الضلالة، أليس في هذه الرسالة التي أخطها إليك تباشير الصباح؟؟

أختي العزيزة:

أنت تعلمين ما بيننا من صلات رحم ووشائج قربى، فأنا وأنت أختان في الاستفهام، ولنا في هذا القبيل أخوات أخر لا ينبغي أن يهملن وينسين، لقد تبعثرنا في كتب العلم وتوزعتنا أبحاث العلماء، وأنا أخشى على صلات الرحم أن تتقطع، وعلى وشائج القربى أن تبلى، فكان لزاماً أن أتعرف أخبارك وأن أتحسس من الأخوات جميعاً، وليس هناك طريقة أجدى من هذه الرسائل نتجاذب فيها أطراف الأحاديث، ونتبادل فيها حقائق العلم والعرفان.

لقد كان كتاب الله العزيز أعظم صالة تجمعنا وأشرف نسب يضمنا وأعز مكان نقيم فيه، فحري بنا أن تتحدث كل واحدة منا عن أحوالها في هذا الكتاب العظيم، وعن مواضعها في آيات الله المعجزة.

لقد ذكرنا نحن- أدوات الاستفهام- في كتاب الله العزيز أكثر من ألف مرة، وإن شئت الدقة والتحديد فقولي ألفا وأربعاً وثلاثين، وأسأل الله تعالى أن أكون قد أصبت في هذا الحساب والإحصاء، فهو شيء قمت به بدءاً لم أجده في كتاب ولا أعلم أحداً قام به من قبل.

ص: 449

وإذا نظرت إلى عدد ما ذكرنا في كتاب الله العزيز بالقياس إلى عدد آياته التي بلغت ستة آلاف ومائتين وستاً وثلاثين (1) رأيت أن لنا نصيباً موفوراً من الذكر، ومنزلة عالية بين أساليب البيان.

وهنالك ميادين أخرى كثيرة لنا فيها فضل وإحسان، ومجالات واسعة لنا فيها هيمنة وسلطان، فنحن- معاشر أدوات الاستفهام- يقوم علينا الأدب التمثيلي الذي هو من أصعب أنواع الأدب وأرقاها، وعلينا تقوم طريقة من أنجح طرق التدريس وهى طريقة الحوار، والعلماء والقضاة والمحامون والمدرسون وكبار مراسلي الصحف، هؤلاء - وغيرهم كثير- لا ينالون النجاح والفوز إلا إذا كانوا ذوى مقدرة فائقة على إنشاء الأسئلة الدقيقة العميقة وحسن الحوار، ولا أكون متجانفة عن الحق إذا قلت إن معظم ما في هذا العالم من مسائل العلم والمعرفة كان جواباً عن سؤال.

غير أن القرآن الكريم هو الذي أكسبنا هذا الشرف العظيم، ووهب لنا هذا الفضل الواسع، فكان حقاً علينا أن نذكر أحوالنا فيه، وأن نقصر الرسائل على ما أولانا إياه.

أختي العزيزة (هل) :

لقد ذكرت أنا- همزة الاستفهام- في القرآن الكريم أكثر من خمس مائة مرة، وإن شئت الدقة والتحديد قلت خمس مائة وتسع عشرة مرة، وأسأل الله تعالى ألا أكون قد أخطأت في العد والحساب.

هذا القدر الذي نلته أنا كان كثيراً جداً- والحمد لله- لم تصلي إليه أنت ولا قاربته أخت أخرى، ومعاذ الله أن أقول هذا مخيلة واستكباراً، وإنما هو تحدث بنعمة الله وفضله، وبيان لما أولانيه من رفعة وعظيم شأن.

وما ينبغي لمثلي أن تكون من هؤلاء الذين يظهرون الفقر وهم أغنياء، ويعيبون الدنيا وهم ينشقون أزهارها المخضلة، ويخضمون أوراقها الخضر.

قد تعجبين وتسألين: كيف نلت هذا المقدار من الذكر، وأنى لي هذا الغنى والوفر؟!

ص: 450

أنا لا أستطيع جواباً حاسما، ولكن قد يكون وضعي على حرف واحد جعلني سهلة على اللسان، سريعة الحركة والدوران، ليس في استعمالي كلفة ولا مشقة. فكان من هذا أن جئت على أساليب كثيرة شتى، ولبست حللاً من البيان حالية مبينة.

ومن الأساليب الرائعة المحكمة التي جئت عليها أسلوب الجملة المنفية، فقد صحبت فيها أحياناً (لم) وأحياناً أخرى (لا) ، وفي قليل من الأحيان وجدتني مصاحبة (ليس) .

ولي مع (لم) هذه النافية الجازمة صور كثيرة منها {أَلَمْ تَرَ إِلَى

} جئت على ذلك في القرآن الكريم خمس عشرة مرة، غير أني أريد أن أقول شيئا قبل أن أمضي بعيداً في تفصيل هذه المرات، ذلك الشيء هو ما قاله ابن هشام الأنصاري في كتابه (مغنى اللبيب) ، وما علقه الدسوقي على ذلك القول في حاشيته.

قال ابن هشام (2) : "لا يكون الاستفهام منه تعالى على حقيقته". وعلق الدسوقي (3) :

"لأن طلب الفهم يقتضي سبق الجهل وهو محال، فحينئذ يحمل ما ورد فيه على أنه للتقرير أو للتوبيخ أو للإنكار".

وقال الزركشي في كتابه البرهان (4) : "فإن الرب تعالى لا يستفهم خلقه عن شيء، وإنما يستفهمهم ليقررهم ويذكرهم أنهم قد علموا حق ذلك الشيء".

وأقول أنا بعد هذا: إن الاستفهام منه تعالى يجيء لما تقدم ويجيء أيضا للتنبيه والتعجيب والتعجب كما في {أَلَمْ تَرَ إِلَى

} التي جاءت في خمس عشرة آية أذكرها لك مرتبة حسب ورودها في سور القرآن الكريم:

ففي الآية الأولى من هذه الآيات يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} . (الآية 243- البقرة) .

ص: 451

ولا أخفي عليك أن للعلماء آراء متعددة في المعنى الذي جئت عليه أنا- همزة الاستفهام-في هذه الآية الكريمة:

ففي تفسير القرطبي (5) "قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ

} والمعنى عند سيبويه تنبّه إلى أمر الذين.."

ويقول أبو حيان الأندلسي في تفسير البحر المحيط (6) : "وهذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي فصار الكلام تقريراً، فيمكن أن يكون المخاطب علم بهذه القصة قبل نزول هذه الآية الكريمة، ويجوز أن يكون لم يعرفها إلا من هذه الآية ومعناه التنبيه والتعجب من هؤلاء".

وقد ذكر الزركشي في كتابه البرهان (7) أن من ضروب الاستفهام التنبيه ومثل له بآيات منها هذه الآية وقال: "والمعنى في كل ذلك أنظر بفكرك في هذه الأمور وتنبه".

وقال الزمخشري في تفسيره الكشاف (8) : " {أَلَمْ تَرَ} تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأولين، وتعجيب من شأنهم، ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجب".

وفي تفسير الجلالين (9) : " {أَلَمْ تَرَ} استفهام تعجيب وتشويق إلى استماع ما بعده".

ويقول صاحب الفتوحات الإلهية (10) معلقاً على قول الجلالين المتقدم: "قوله "تعجيب"أي إيقاع المخاطب في أمر عجيب غريب أي في التعجب منه، فعلى هذا يستفاد من الآية أن المخاطب لم يسبق له علم بتلك القصة قبل نزول الآية وقبل استفهام تقرير فعليه يكون المخاطب عالماً بالقصة والمقصود تقريره بها. اهـ شيخنا".

ويقول أبو السعود في تفسيره (11) : " {أَلَمْ تَرَ} تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب الأخبار وتعجيب من شأنهم البديع".

ولعلك أيتها الأخت العزيزة تسألين بعد هذا كله وتقولين: وما رأيك أنت في هذه الآراء، وما الذي تختارين وترجحين؟

ص: 452

الرأي الذي أختاره وأرجحه هو ما تقدم أن قلته وهو أن الاستفهام هنا للتعجب والتعجيب والتنبيه، وأما الذين قالوا إنه للتقرير فلست معهم، فالتقرير يأتي لأحد أمرين (12) .

الأول: حمل المخاطب على الاعتراف بالأمر الذي استقر عنده من ثبوت شيء أو نفيه كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ

} (الآية 116- المائدة) .

والثاني: تثبيت النسبة التي اشتمل عليها الاستفهام في الذهن، فإن كان المخاطب جاهلا بها فالأمر ظاهر، وإن كان عالما بها فلزيادة التثبيت، كما في قوله تعالى:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} (الآية 6- الضحى) وكما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} . (الآية 36- الزمر) .

ولا يبدو لي أن الاستفهام في هذه الآية الكريمة {أَلَمْ تَرَ إِلَى} جاء لأحد هذين الأمرين.

أما عدم ظهور الأمر الأول فلأن الاستفهام في هذه الآية الكريمة {أَلَمْ تَرَ إِلَى} ليس فيه حمل للمخاطب على الاعتراف بشيء، وهذا واضح يدل عليه أن ليس فيها جواب يبين المعترف به.

أما الأمر الثاني: وهو أن يكون للتقرير بمعنى تثبيت النسبة في الذهن فمبني عند من يرون الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على أن الله تعالى قد أعلمه بهذا من قبل، أو مبني على أن الخطاب لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب الأخبار، وهذا البناء على كل حال افتراض لا دليل عليه وليس من ورائه كبير فائدة.

أما من يرى أن الاستفهام هنا في {أَلَمْ تَرَ إِلَى} للتشويق فلست أرى رأيه، وقد تسألين وتقولين: ولم كان ذلك؟

ص: 453

فأقول: إن هذه المعاني البلاغية التي تخرج إليها أدوات الاستفهام من تشويق وتعجيب وتقرير وإنكار وغير ذلك إنها تخضع للذوق الأدبي الشخصي وليس لها قواعد موضوعة يمكن أن يحتكم إليها، وبسبب من هذا جاءت الآراء مختلفة في معنى هذا الاستفهام وفي غيره، غير أن التشويق بخاصة مع خضوعه للذوق الشخصي يعتمد على شيء من المنطق يقتضي أن يكون استفهام التشويق في جملة تامة مستقلة يجيء بعدها المشوق إليه في جملة أو جمل مستقلة أخرى، كي تتاح للنفس فرصة الانفعال والتشويق إلى ما سيأتي بعد، وذلك كما في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الآيتان 10، 11 من سورة الصف) . وكما في قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} (الآيات من 1- 15 من سورة الغاشية) وكما في قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ. إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} (الآيات من 27 إلى 37 من سورة الذاريات) .

ففي هذه الآيات جاء الاستفهام التشويقي في جملة تامة مستقلة، ثم جاء المشوق إليه بعد ذلك في جملة أو في جمل أخرى.

والذي اخترته من آراء العلماء في معنى الاستفهام في هذه الآية الكريمة أن يكون للتعجب وللتعجيب، وليس بين التعجب والتعجيب منافاة ولا تعارض، فالتعجب منظور فيه إلى القائل جل جلاله، والتعجيب منظور فيه إلى المخاطب.

ص: 454

ومن الناس من ينكر أن يكون الاستفهام هنا للتعجب ويقول إن الله سبحانه وتعالى لا يعجب من شيء، وهو يظن أن تعجبه سبحانه وتعالى سيكون كتعجب خلقه، ولا أدري من أين جاءه هذا الظن والله سبحانه وتعالى يقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وتعجب الله تعجب يليق بكماله وجلاله، ولا يمكن أن يكون بينه وبين تعجب غيره مشابهة ما أو مماثلة.

على أن تعجب الله سبحانه وتعالى ثابت في القرآن الكريم وثابت في السنة المطهرة:

ففي القرآن الكريم يقول الله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} قرأ حمزة والكسائي {عجبتُ} بضم التاء، ورويت هذه القراءة أيضاً عن عبد الله بن مسعود وغيره. وظاهر أن المتعجب هو الله سبحانه وتعالى.

وفي السنة المطهرة روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عجب ربنا من قنوط عباده وقرب خيره ينظر إليكم أزلين قنطين فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب" حديث حسن (14) .

أما الرأي القائل إن الاستفهام في {أَلَمْ تَرَ

} للتنبيه بالمعنى الذي تقدم عن الزركشي وهو "انظر بفكرك في هذا الأمر وتنبه"فحق فيما أراه وصواب. والتنبيه بهذا المعنى يستدعيه التعجيب ويقتضيه، لأن التعجيب يقوم على أحد أمرين:

إما على الاستحسان والاستعظام والإجلال كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} الآية (45) الفرقان.

ص: 455

وإما على الإنكار والاستهجان والاستغراب كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} الآية (60- النساء) والحال في كلا الأمرين ببعث على التنبيه بمعنى التأمل والتبصر والاعتبار وهو ما دعا إليه القران الكريم في كثير من آياته.

أختي العزيزة (هل) :

والآن - قد انتهيت من الكتابة إليك بالمعاني التي جئت عليها في هذه الآية الكريمة - أريد أن أحدثك بالكلمات التي تليني في هذه الآية.

لقد دخلت على (لم) النافية الجازمة للفعل المضارع (تر) وعلامة جزم هذا الفعل حذف الألف من آخره ولعلك لم تسمعي من قبل أن هذا الفعل قد قرئ بسكون الراء على توهم أن الراء آخر الكلمة أو على إجراء الوصل مجرى الوقف (15) . و (تر) فعل مضارع مسند إلى ضمير المخاطب، ولكن من يكون هذا المخاطب؟

من المفسرين من يقول إنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يجوز أن يكون الخطاب له عليه الصلاة والسلام ولكل أحد، ويقول التفتازاني: الأوجه عموم الخطاب للدلالة على أن هذه القصة قد بلغت من العجب حيث ينبغي لكل أحد أن يتعجب منها (16) .

و (تر) في هذا الاستفهام علمية تتعدى إلى مفعولين ولكنها هنا لم تأخذ مفعوليها، وعديت بحرف الجر (إلى) لأنها ضمنت معنى ما يتعدى بهذا الحرف، والمعنى ألم ينته علمك إلى الذين

(17) .

ومن العلماء من يقول إن (تر) هنا- وإن كانت علمية- قد استعملت استعمال (تنظر) فتعدت تعديتها للإشارة إلى أن هذا الأمر قد بلغ من الوضوح والظهور والتحقق مبلغ الشيء

المحسوس المشاهد الذي تبصره العينان ولا يمكن إنكاره (18) .

ص: 456

و {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} هم الذين كان حالهم عجبا وعبرة، ولعلك تلاحظين- يا أخت- أن الآية الكريمة عبرت باسم الموصول ولم تسم جماعه بعينها، وقالت:{مِنْ دِيَارِهِمْ} ولم تسم مكاناً معيناً كانت فيه هذه الديار. لقد ترك ذلك كله لأنه لا عبرة فيه، وإنما العبرة فيما جاء بعد في صلة الموصول وما عطف على هذه الصلة.

لاحظي كلمة {مِنْ دِيَارِهِمْ} والدار من أعز ما يملكه إنسان الحاضرة، وخروجهم منها يدل على عظم ما كانوا فيه من فزع، وهول ما كانوا فيه من خوف.

والتعبير ب {أُلُوف} وهي من جموع الكثرة، وترك التعبير بآلاف وهي من جموع القلة، يدل على أنهم كانوا كثيرين جدا لا يعلم عدتهم إلا الله.

ثم جاءت {حَذَرَ الْمَوْتِ} - وهي مفعول لأجله- تبين سبب الخروج على ما هم عليه من كثرة كاثرة.

لقد أخرجهم {حَذَرَ الْمَوْتِ} من ديارهم: من مسارح الطفولة وملاعب الصبا، من مجالس السهر والسمر، ومن مهاجع الأمن والسكينة. أخرجهم منها كالجراد المنتشر يهيمون على وجوههم، يسوقهم الخوف ويحدوهم الفزع، وقد غفلوا أو جهلوا أن الموت والحياة بيد الله، وأن الحذر لا يدفع القدر، فقال تعالى ليبين ذلك كله:{مُوتُوا} ولعلك- يا أخت- تحسين ما في هذا الأمر {مُوتُوا} من قوة وجبروت وكبرياء، فالله هو القوي الجبار المتكبر، ولعلك تلاحظين أن الآية الكريمة لم تذكر عاقبة هذا الأمر وهي أنهم قد ماتوا، لأن هذا شيء مفهوم من قوله تعالى:{مُوتُوا} فأمر الله تعالى محقق النفاذ لا يتخلف {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .

وقوله تعالى: {ثُمَّ أَحْيَاهُم} يدل بـ {ثُمَّ} على أن الإحياء لم يجيء سريعاً بعد الإماتة وإنما جاء على فترة من الموت.

ص: 457

وفي صيغة {أَحْيَاهُم} وفي جرس حروفها تجد النفس معاني الرحمة والفضل والإحسان. وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى حال هؤلاء الناس الباعثة على التعجب الداعية إلى التدبر والتبصر والاعتبار قال في ختام هذه الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} .

وأنت تلاحظين أن الجملة الأولى قد أكدت بثلاثة مؤكدات: إن، واللام، واسمية الجملة.

وجاء هذا التأكيد تعظيماً لشأن هذا الخبر وما اشتمل عليه، وقد يكون لتنزيل الناس منزلة المنكرين من أجل أن أكثرهم لم يكن من الشاكرين.

ولا تنسي أن تتذوقي ما في {ذُو فَضْلٍ} من قوة، فهذه الذال مع الواو ثم هذه الضاد مع اللام المرنان قد أعطت هذه الصفة جرساً فخماً ضخماً في اللفظ وفي السمع يناسب معناها العظيم. ويراد ب {النَّاسِ} الناس جميعاً فهي تشمل الذين أماتهم ثم أحياهم وتشمل غيرهم.

وقد يبادر إلى الذهن من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أن الناس جميعاً يشكرون لله ذلك الفضل العظيم، فقال تعالى:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} دفعاً لهذا الذي قد يبادر إلى الذهن ويسبق في الظن، وبياناً لواقع الناس القبيح المعيب الذي قل فيه الشكر والشاكرون.

وفي إعادة لفظ {النَّاسِ} مرة ثانية مع أن المقام مقام إضمار زيادة إيضاح وبيان لهؤلاء الذين لا يشكرون، فزيادة إزراء عليهم وتشنيع.

أختي العزيزة (هل) :

كنت أود أن أحدثك بما جاء في الآيات الأربع عشرة الباقية التي ورد فيها هذا الاستفهام {أَلَمْ تَرَ إِلَى

} ولكني خشيت أن تملي من طول الحديث على الرغم من أن طول مثل هذا الحديث لا يمل. سأترك ذلك إلى رسالة قادمة أكتبها إليك إن شاء الله تعالى.

والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

مراجع ما ورد في هذه الرسالة مرتبة حسب ترتيب الأرقام التي جاءت فيها:

ص: 458

1-

الإتقان للسيوطي جـ 1 ص 67 طبعة الحلبي بمصر.

ب- قرآن كريم (بهامشه تفسير الجلالين) الناشر مكتبة الجمهورية العربية لصاحبها عبد الفتاح عبد الحميد- بجوار الأزهر/ ص 524 تحت عنوان خاتمة.

2، 3- حاشية الدسوقي على مغنى اللبيب لابن هشام الأنصاري ج 1 ص 9 الناشر مطبعة ومكتبة المشهد الحسيني- القاهرة.

4-

البرهان للزركشي جـ 2 ص 327 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- الطبعة الثانية- الناشر عيسى البابا الحلبي وشركاؤه.

5-

تفسير القرطبي جـ 3 ص 230- طبعة مصورة عن طبعة دار الكتب المصرية- بالقاهرة.

6-

تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي- جـ 2 ص 249- طبعة مصورة عن طبعة مولاي السلطان عبد الحفيظ سلطان المغرب- الناشر دار الفكر.

7-

البرهان للزركشي جـ 2 ص 340 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم- الطبعة المتقدم ذكرها

8-

تفسير الكشاف للزمخشري جـ 1 ص 77 طبعة الحلبي بمصر.

9-

تفسير الجلالين/ هامش الفتوحات الإلهية ب 1 ص 197- طبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه بمصر.

10-

الفتوحات الإلهية جـ1 ص 197 الطبعة المتقدم ذكرها.

11-

تفسير أبى السعود جـ 1 ص 237 الناشر مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد بالقاهرة.

12-

شروح التلخيص/ حاشية الدسوقي- ب 2 ص 294 وص د 29 طبعة الحلبي بمصر.

13-

تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي جـ 7 ص 354 الطبعة المتقدم ذكرها.

14-

العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية/ الطبعة الثالثة- الناشر محمد عبد المحسن الكتبي بالمدينة المنورة.

15-

تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ج 2 ص 249 الطبعة المتقدم ذكرها.

16 و 17- الفتوحات الإلهية ج 1 ص 197 الطبعة المتقدم ذكرها.

18-

تفسير المنار لمحمد رشيد رضا ج 2 ص 475 نسخه مصورة/ الناشر دار المعرفة.

النظام السياسي في الإسلام

ص: 459

التوحيد والرسالة والخلافة هي دعائم ثلاث يقوم عليها بناء نظام الإسلام السياسي، وليس من الميسور أن نحيط بنظم السياسة الإسلامية بجميع فروعها وشعبها إلا إذا فهمنا هذه المبادئ: التوحيد والرسالة والخلافة حق الفهم.

(أبو الأعلى المودودي رحمه الله)

ص: 460

الأفعال الملازمة للمجهول

(الحلقة الثالثة)

فضيلة الدكتور/ مصطفى أحمد النماس

المدرس بكلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية

الفاعل النحوي والمعنى اللغوي:

نعرف أن الفاعل هو الذي قام به الفعل أو وقع منه، والمفعول به هو الذي وقع عليه الفعل.

ومعروف كذلك الفرق بين الفاعل والمفعول به من الناحية اللفظية لدى النحاة فالفاعل مرفوع والمفعول به منصوب، وهذا الفرق اللفظي يستتبع عندهم فرقا اصطلاحيا في معنى كل جملة فمثلا إذا قلت:

"تحرك الشجر"لفظة الشجر تعرب فاعلا نحويا لكن هذا الإعراب لا يتفق مع المعنى اللغوي الواقعي لكلمة (فاعل) وهو من أوجد الفعل حقيقة وباشر بنفسه إبرازه في الوجود، لأن (الشجر) لم يفعل شيئا إذ لا دخل له في إيجاد هذا التحرك وجعله حقيقة واقعة بعد أن لم تكن، وبالاختصار ليس لكلمة (الشجر) عمل إيجابي مطلقا في إحداث التحرك وكل علاقته بالفعل أنه استجاب له فقامت الحركة به ولابسته من غير أن يكون له دخل في إيجاد الحركة، فأين الفاعل الحقيقي الذي أوجد التحرك وكان السبب الحقيقي في إبرازه للوجود، بالطبع ليس في الجملة ما يدل عليه، أو على شيء ينوب منابه.

لكنك إذا قلت حرك الهواء الشجرة تغير الأمر وظهر الفاعل الحقيقي المنشئ للتحرك الذي وقع أثره على المفعول به. وما قيل في (تحرك الشجر) يقال في (تمزقت الورقة) فإعراب الورقة فاعلاً نحوياً لا يوافق المعنى اللغوي لكلمة (فاعل) ولا يوافق الأمر الواقع، لأن الورقة في الحقيقة لم تفعل شيئاً فلم تمزق نفسها ولا دخل لها في تمزقها ولم تحدث التمزق ولكنها تأثرت بالتمزق حين أصابها، فأين الفاعل الحقيقي الذي أوجد التمزق لا النحوي؟ لا وجود له في الجملة ولا دليل يدل عليه، لكن إذا قلت مزق الطفل الورقة ظهر الفاعل الحقيقي واتضح من أوجد الفعل بمعناه اللغوي الدقيق.

ص: 461

ومن خلال ما سبق يتضح أن الفاعل النحوي أحيانا لا يكون هو الفاعل الحقيقي وإنما هو المتأثر بالفعل وليس في الجملة ما يدل على الفاعل الحقيقي أو ما ينوب منابه، وليس فيها تغيير لصورة الفعل يرشد إلى أن ذلك على سبيل النيابة عن الفاعل.

فالأفعال التي وردت على صورة المبني للمجهول ما بعدها فاعل نحوي في الرأي الشائع الذي ورد صريحا في كثير من المراجع كالقاموس المحيط في مقدمة (مسألة) وإن لم يتفق على المعنى اللغوي الواقعي لكننا [1] نقول بفاعليته لأنه تأثر بالفعل وما فيه من حدث وإن كان في الواقع ونفس الأمر واقعا عليه خاصة أن بعض الأفعال الثلاثية الحدث فيها ليس من أفعال الآدميين ولا يتضح إسنادها إلا إذا أدخلت عليها همزة التعدية ولو أردت نسبتها إلى الله تعالى لكانت على (أفعل) . والثلاثي الذي ورد على صورة المبني للمجهول يدل على الأداء.

رأي ابن الحاجب المتوفى سنة 646هـ[2] :

وقد قال في شرح الكافية ما يؤيد هذا: جاء في كلامهم بعض الأفعال على ما لم يسم فاعله ولم يستعمل منه المبني للفاعل والأغلب في ذلك الأدواء، ولم يستعمل فاعلها لأنه من المعلوم في غالب العادة أنه هو الله تعالى فحذف للعلم به وتلك الأفعال نحو: جن، وسلّ، وزكم، وورد، وحم، ووعك، قال سيبويه [3] :"لو أردت نسبتها إليه تعالى لكان على أفعل نحو أجنة الله، [4] وأسله الله، وأورده أي فعل به ذلك، وذلك لأن فعل المذكور لم يأت منه (فعلته) ولعل ذلك لأنه لما لم يأت من فعل المذكور كجنّ وسلّ (فعلته) صار كألم، ووجع وعمى ونحو ذلك من الآلام التي بابها فعل (المكسور العين) فصار يعدى إلى المنصوب كما يعدى باب (فعل) وذلك بالنقل إلى (أفعل) المتعدي.."

انتهى كلام الكافية.

رأي ابن سيده المتوفى سنة 458هـ[5] :

ص: 462

وقبل ابن الحاجب بمائتي سنة تقريبا نجد ابن سيده يقرر بأن هذه الأفعال منها ما لا يستعمل إلا على تلك الصيغة كعنيت بحاجتك، ومنها ما تكون عليه هذه الصيغة أغلب كزهيت علينا، فإن ابن السكيت حكى (زهوت) وابن سيده يقرر في المخصص نفسه [6](باب ما جاء (فعل) منه على غير أفعلت) وذلك نحو جنّ وسلّّّ، وورد، (ومعنى ورد حم) وكذلك رعد ومرعود ومورد (ومحموم بمعنى واحد، وقالوا على هذا مجنون ومسلول ومحموم ومورود، وإنما جاءت هذه الحروف على (جننت) و (سللت) وإن لم يستعمل في الكلام ثم قال: وقال بعضهم رجل محبوب وكان حقه أن يقال في فعله (حببته) فهو محبوب كما يقال: وددته فهو مودود، والمستعمل (أحببته) وقد قال بعضهم (حببته) قال الشاعر وهو غيلان ابن شجاع النهشلي [7] :

ولا كان أدنى من عبيد ومشرق

فوالله لولا تمره ما حببته

وقد ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في الكامل [8] أن أبا جار العطاردي قرأ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه..} وذكر أن فيه شيئين من المخالفة:

أحدهما: أنه فتح الياء من (يحبكم) ، والآخر أنه أدغم وذكر غير سيبويه أن هذه الأشياء [9] التي ليست من أفعال الآدميين وقد جاءت على مفعول وفعله مما لم يسم فاعله إذا نسبت الفعل إلى الله عز وجل كان على (أفعل) نحو أجنه الله وأسله وأزكم وأورده، أي فعل الله به ذلك، ومما أورده غير سيبويه من هذا النحو: محزون، ومزكوم، ومكزوز، ومقرور.

قال أبو عبيد: وإنما ذلك لأنهم يقولون في هذا كله:

قد (فعل) ثم بني مفعول على هذا، قال ولا يقولون حزنه الأمر ويقولون (يحزن) وهذا خلف من نقله وإنما أوردته للتحذير من اعتقاده، وقد قدمت من كلام سيبويه ما دل على ذلك، (وحزنه) مقولة كثيرة (أبو عبيد) وكل هذا يقال فيه: مفعول ولا يقال (مفعل) إلا حرف واحد وهو قول عنترة:

مني بمنزله المحب المكرم

ص: 463

ولقد نزلت فلا تظني غيره

وقال: أزعقه فهو مزعوق على هذا القياس حكاها عن الأموي.. وقال غيره: زعقته بغير ألف فانزعق أي فزع فإذا كان هذا فمزعوق على القياس وأنشد:

لا مبطئا ولا عنيفا زاعقا

تعلّمن أن عليك سائقا

لبّا [10] بإعجاز المطي لاحقا

ثم قال وقال الفراء: "برّ حجّك" فهو مبرور فإذا قالوا: "أبر الله حجك"قالوا بالألف فهو مبرور وقالوا: المبروز من أبرزت وأنشد:

الناطق المبروز والمختوم

أو مذهب جدد على الواحنَ

وقالوا: المضعوف من أضعف قال لبيد:

جمان ومرجان يشد المفاصلا

وعالين مضعوفا ودرا سموطه

ومن هذا الباب [11] أمرضه الله فهو من المرض، أرضه من الأرض وهو الزكام، وأملاه من الملاءة، وأضأده من الضؤده وكله الزكام وكل هذا يقال فيه مفعول ولا يقال (مفعل) وكذلك مهموم من أهمه الله تعالى.

رأي ابن جني المتوفى سنة392هـ:

قال في الخصائص [12] : وعلة ما جاء من أفعلته فهو مفعول نحو: أجنه فهو مجنون، وأسله فهو مسلول وبابه أنهم إنما جاءوا به على (فعل) نحو: جن فهو مجنون، وزكم فهو مزكوم، وسل فهو مسلول وكذلك بقيته، فإن قيل لك من بعد: وما بال هذا خالف فيه الفعل مسنداً إلى الفاعل صورته مسند إلى المفعول، وعادة الاستعمال غير هذا وهو أن يجيء الضربان معاً في عدة واحدة نحو: ضربته وضرب، وأكرمته وأكرم، وكذلك مفاد هذا الباب.

قيل إن العرب لما قوي في نفسها أمر المفعول حتى كاد يلحق عندها برتبة الفاعل وحتى قال سيبويه [13] فيهما: "وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم"خصوا المفعول إذا أسند الفعل إليه بضربين من الصنعة، أحدهما تغيير صورة المثال المسند إلى المفعول عن صورته مسند إلى الفاعل والعدة واحدة وذلك نحو: ضرب زيد وضرب، وقتل وقتل، وأكرم وأكرم، وحرج ودحرج.

ص: 464

والآخر أنهم لم يرضوا ولم يقتنعوا بهذا القدر من التغيير حتى تجاوزوه إلى أن غيروا عدة الحروف مع ضم أوله كما غيروا في الأول الصورة والصيغة وحدها وذلك نحو قولهم: (أحببته وحب) أزكمه وزكم وأضأده وضئد، وأملأه الله ومليء.

قال أبو علي [14] : فهذا يدلك على تمكن المفعول عندهم وتقدم حاله في أنفسهم إذ أفردوه بأن صاغوا الفعل له صيغة مخالفة لصيغته وهو للفاعل، وهذا ضرب من تدريج اللغة عندهم [15]، ألا ترى أنهم لما غيروا الصيغة والعدة واحدة في نحو: ضرب، وضرب، وشتم وشتم تدرجوا من ذلك إلى أن غيروا الصيغة مع نقصان العدة نحو: أزكم وزكم وأرضه، وأرض.

هذا الموضع هو الذي دعا أبا العباس أحمد بن يحي في كتاب فصيحه أن أفرد له بابا فقال هذا باب (فعل) بضم الفاء نحو قولك عنيت بحاجتك وبقية الباب. إنما غرضه فيه إيراد الأفعال المسندة إلى المفعول ولا تسند إلى الفاعل في اللغة الفصيحة، ألا تراهم يقولون:"نخى زيد" من النخوة ولا يقال: نخاه كذا، ويقولون امتقع لونه، ولا يقولون امتقعه ويقولون: انقطع الرجل ولا انقطع به هكذا فلهذا جاء بهذا الباب أي ليريك أفعالا خصت بالإسناد إلى المفعول دون الفاعل كما خصمت أفعال بالإسناد إلى الفاعل دون المفعول، نحو قام زيد وقعد جعفر وذهب محمد، وأنطلق بشر، ولو كان غرضه أن يريك صورة ما لم يسم فاعله مجملا غير مفصل على ما ذكرنا لأورد فيه نحو: ضرب وركب، وطلب، وقتل، وأكل، وسمل، وأكرم، وأحسن إليه، واستقصى عليه، وهذا يكاد يكون إلى ما لا نهاية له، فاعرف هذا الغرض فإنه أشرف من حفظ مائة ورقة لغة

انتهى.

رأي ابن درستويه المتوفى سنة 347هـ[16] :

ص: 465

وسبق أن تعرضت لرأي ابن درستويه في هذا المقام حيث يقول:"عامة أهل اللغة يزعمون أن هذا الباب لا يكون إلا مضموم الأول، ولم يقولوا: إنه إذا سمي فاعله جاز بغير ضم، وهذا غلط منهم، لأن هذه الأفعال كلها مفتوحة الأوائل في الماضي، فإذا لم يسم فاعلها فهي كلها مضمومة الأوائل ولم نخص بذلك بعضها دون بعض وقد بينا ذلك بعلته وقياسه فيجوز: عنيت بأمرك وعناني أمرك، وشغلت بأمرك وشغلني أمرك، وشدهت بأمرك وشدهني أمرك".

ولا شك أن ما بعد هذه الأفعال مسند إليها على الفاعلية، سواء أكان الفعل فاعلا في الواقع وِنفس الأمر، أم كان المتأثر بالفعل وليس في الجملة ما يدل على الفاعل كالحال مع بعض الأساليب التي يكون الفعل فيها مسندا حقيقة إلى الله، ويجئ بعدها الاسم المتأثر بالفعل نظرا لعدم وجود الفاعل الحقيقي خاصة بعض الأفعال جاءت على سمت مخصوص وهو ضم الفاء في غالب استعمالها فيظن بعضهم أنها مبنية للمجهول وملازمة لهذا الشكل نظرا لغلبة استعمال العرب لهذا الشكل ولا يجوز القياس على ما قل وهو ورود الكلمة على ضبط آخركفتح الفاء مثلاً في الفعل الذي ألزم بعضهم ضم أوله يقول ابن جني:[17] .

"وإن كانت إحدى اللفظتين أكثر في كلامه من صاحبتها، فأخلق الحالين به في ذلك أن تكون القليلة في الاستعمال هي المفادة، والكثيرة هي الأولى الأصلية، نعم، وقد يمكن في هذا أن تكون القليلة منهما إنما قلت في استعماله لضعفها في نفسه، وشذوذها عند قياسه، وإن كانتا جميعا لغتين له ولقبيلته وذلك أن من مذهبهم أن يستعملوا من اللغة ما غيره أقوى في القياس منه".

ص: 466

أو أن ذلك ليس لغة ولكنه صنعة في التدريج وذلك أن يشبه شيء شيئا من موضع فيمضى حكمه على حكم الأول، ثم يرقى منه إلى غيره فلما وجدوا أن الفعل بضم الفاء أجروه مجرى المبني للمجهول، ثم تدرجوا فجعلوه ملازماً للبناء للمجهول حقيقة

ولكن هذا كما يقول ابن درستويه وابن برى وكثير من المحققين لا يخرجه عن جواز استعمال حالته الأولى..

يقول ابن جني: [18]"وهذا باب مطرد متقاود وقد كنت ذكرت طرفا منه في كتابي (شرح تصريف أبي عثمان) غير أن الطريق ما ذكرت لك فكل ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم ولهذا قال من قال في العجاج ورؤبة: أنهما قاسا اللغة وتصرفا فيها وأقدما على ما لم يؤت به قبلهما، وقد كان الفرزدق يلغز بالأبيات، ويأمر بإلقائها على ابن اسحق"[19] .

رأي ابن برّى المتوفى سنة 582هـ:

من المحققين الذين أدلوا برأيهم في هذا الموضوع العلامة ابن برّى وقد أنكر ما وضعه ثعلب في فصيحه من الأفعال الملازمة للبناء للمجهول وقد وضح هذا من خلال انتصاره للعلامة الحريري مما نسبه إليه ابن الخشاب ولقد خطأ الزجاج المتوفى سنة 310 هـ ثعلبا في فصيحه وتعقبه باعتراضات عشرة بينما كتاب الفصيح كله عشرون ورقة وقد ذكرت هذه الاعتراضات في معجم الأدباء ترجمة الزجاج، كما ذكرت أيضاً في الأشباه والنظائر للسيوطي الفن السابع، وكذلك المزهر النوع التاسع معرفة الفصيح حتى إن ثعلبا كاد ينكر نسبة الفصيح إليه، ولقد تعصب ابن خالويه لأنه كوفي النزعة فرد على اعتراضات الزجاج وردوده مبسوطة في الأشباه والنظائر الفن السابع جـ 4.

ثمرة الخلاف والبحث:

ص: 467

الملحوظ أن بعض الأساليب في اللغة العربية له علاقة عند صوغه بالفعل المبني للمعلوم، فمثلاً أسلوب التعجب لا يصاغ على ما أفعله وأفعل به إلا من الفعل المبني للمعلوم، وأسلوب التفضيل يشترط لتأديته معنى المفاضلة بدون واسطة أن يكون فعله مبنيا للمعلوم.. فإذا كان الفعل مبنياً للمجهول لا يصاغ أسلوب التعجب وأسلوب التفضيل إلا بواسطة ويذكر بعدها مصدر الفعل الذي كان مبنياً للمجهول.

أما الأفعال التي عرفناها قبل وبوب لها اللغويون أنها ملازمة للمجهول سماعاً فهذه الملازمة فيها الخلاف المذكور عن العلماء سابقاً، فعلى رأي أبي العباس ثعلب ومن معه أن هذه الأفعال ملازمة للبناء للمجهول ولا يتعجب منها مباشرة بل يتعجب منها بالواسطة، وكذلك يصاغ أسلوب التفضيل منها بالواسطة

وترتب على هذا طرح كثير من أساليب التعجب وأساليب التفضيل من هذا النوع لأنه بدون واسطة فيكون شاذاً لا يقاس عليه فلا يصح أن تقول على مذهب بعضهم ما أزهى كذا ولا يصح أن تقول: هو أزهى من ديك

وفي هذا تضييق على اللغة العربية.

والتحقيق أن هذه الأفعال المعروفة ببنائها للمجهول دائماً ليست كغيرها من بقية الأفعال الأخرى فهي تبنى حيناً للمعلوم وتارة أخرى تبنى للمجهول على حسب مقتضيات المعنى ودواعي الاستعمال الصحيح..

وبناء على ذلك أنه يجوز أن يصاغ من مصادر الأفعال مباشرة من غير وسيط (صيغتا التعجب) القياسي وهذه الصياغة قياسية وليست بشاذة ولا مخالفة فيها وكذلك يصاغ من مصادر تلك الأفعال مباشرة من غير واسطة (أفعل التفضيل) وفوق هذا يؤيد فريق من النحاة ومنهم ابن مالك صياغة التعجب من مصدر تلك الأفعال على فرض أنها ملازمة البناء للمجهول أما الأفعال الأخرى التي ليست ملازمة البناء للمجهول فلا يصح التعجب المباشر منها اتفاقا إذا كانت مبنية للمجهول عند الصياغة للتعجب أو التفضيل.

ص: 468

ويكون قولهم: هو أزهى من ديك، وقولهم: ما أزهى كذا، وقولهم: ما أعني فلانا بحاجتك، وهو أعنى بحاجتك من الأساليب القياسية التي يصح أن تحذو حذو فعلها وتنسج على منوالها دون شذوذ كما استعمله سيبويه.

إليك آراء العلماء:

رأي ابن الحاجب [20] :

قال في مبحث أفعل التفضيل: "وقياسه للفاعل يعني يقاس لتفضيل الفاعل على غيره في الفعل كأضرب أي ضارب أكثر ضرباً من سائر الضاربين ولا يقال أضرب بمعنى مضروب أكثر مضروبية من سائر المضروبين وإنما كان القياس في الفاعل دون المفعول لأنهم لو جعلوه مشتركا بين الفاعل والمفعول لكثر الاشتباه لا طراده وأما سائر الألفاظ المشتركة فاغتفر فيها الاشتباه لقلتها لكونها سماعية وأرادوا جعله في أحدهما أظهر دون الآخر فجعلوه في الفاعل قياساً لكونه أكثر من المفعول إذ لا مفعول إلا وله فاعل في الأغلب ولا ينعكس وإنما قلنا في الأغلب احترازاً من نحو مجنون ومبهوت فلو جعلوه حقيقة في المفعول لبقي اسم الفاعل مع أنه أكثر عريا عما يطلب فيه من معنى التفضيل إلا بالقرينة لعدم اللفظ الدال عليه حقيقة وقد استعملوه في المفعول أيضاً على غير قياس نحو أغدر، وأشهر، وألوم، وأشغل أي أكثر معذورية، ومشهورية، وملومية، ومشغولية ومنه أعنى في قول سيبويه وهم بشأنه أعنى".

وقال في مبحث التعجب:

ص: 469

"ولا يبنى فعل التعجب من المبني للمفعول لما مر في أفعل التفضيل ويجوز تعليل اقتناع مجيئهما للمفعول بكونهما مأخوذين من فعل المضموم العين كما ذكرنا وهو لازم وربما بني من المبني للمفعول إذا أمن التباسه بالفاعل نحو ما أجنه وما أشهره، وما أمقته إلى وما أعجبه إلى، وما أشهاه إلى فيتعدى كما ذكرنا في أفعل التفضيل إلى ما هو فاعل في المعنى بإلى أو بعند نحو أحظى عندي وذلك إذا تضمن معنى الحب والبغض. قال سيبويه: جميع ذلك مبني على فعل وإن لم يستعمل فكأن أبغضه وأعجبه وأمقته من بغض وعجب ومقت وإن لم يستعمل وأشهاه من شهو كما يقال نعمت اليد يده وقياس التعجب من المبني للمفعول أن يكون الفعل المبني له صلة لما المصدرية القائم مقام المتعجب منه بعد".

وقد يتعين أن يرفع أفعل التفضيل نائب الفاعل وذلك بقرينة تحتاج إلى توضيح فالمعروف أن أفعل التفضيل إذا كان مصدر فعل متعد بنفسه دال على الحب أو البغض أو بمعناها فإٍن تعدى باللام كانت اللام ومجرورها مفعولاً به في المعنى لا في الاصطلاح النحوي نحو المؤمن أحب للدين من الغربي وأبغض للخروج على أحكامه، فالتقدير يحب المؤمن الدين ويبغض الخروج على أحكامه، وإذا تعدى بإلى كانت إلى ومجرورها فاعلاً معنوياً لا نحوياً وما قبل أفعل هو المفعول المعنوي لا النحوي نحو العلم أحب إلى النابغ من متع الحياة فالتقدير يحب النابغ العلم أكثر من متع الحياة، وقد يرفع أفعل التفضيل الفاعل الظاهر كما في قولك: ما رأيت رجلا أكمل في وجهه الإشراق منه في وجه العابد المخلص.

فالإشراق فاعل لأفعل التفضيل والتقدير ما رأيت رجلاً يكمل في وجهه الإشراق فحيث صح إقامة الفعل مقامه صح أن يرفع الفاعل.

ص: 470

فإن كان أفعل التفضيل الرافع للظاهر من مادة الحب أو البغض تعين أن يكون مرفوعه نائب فاعل كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام أحب إلى الله منها الصوم منه في عشر ذي الحجة"، وفي رواية أخرى من "أيام العشر"، فالصوم مرفوع نائب فاعل أحب لأنه بمعنى محبوب من حب الثلاثي ففيه شذوذ لبنائه من المجهول إلا عند من جوزه مع أمن اللبس وانظر حاشية الخضري جـ 2 ص 52 هـ ومثله ما ورد في الأشموني: لا يكن غيرك أحب إليه الخير منك إليه فالخير نائب فاعل، فالقرينة هنا أن أفعل من مادة الحب أو البغض قد تعدي بإلى وهي ومجرورها فاعل في المعنى فالمرفوع بعده يكون نائب فاعل قال في شرح الكافية ج 2 ص 220.

"وإن كان الفعل يفهم منه الحب أو البغض تعدى إلى ما هو فاعل في المعنى أي المحب أو المبغض بإلى نحو هو أحب إلى وأشهر إلى، وأعجب إلى وهو أبغض إليك، وأمقت إليك، وأكره إليك لأن أفعالها تتعدد إلى المحب والمبغض بإلى أيضاً كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ} وهذه كلها بمعنى المفعول كأحمد وأشهر وأجن وقد مر أنه غير قياس".

رأي يس العيمي والشيخ خالد الأزهري:

قال وفي التصريح [21] "وبعضهم يستثني من الفعل المبني للمفعول ما كان ملازماً لصيغة (فعل) بضم أوله وكسر ثانيه نحو:

عنيت بحاجتك، وزهى علينا بمعنى تكبر، فيجيز التعجب منه لعدم اللبس فتقول: ما أعناه بحاجتك، وما أزهاه علينا وجرى على ذلك ابن مالك وولده بناء على أن علة المنع خوف الالتباس، وأما من جعل عدة المنع التشبيه بأفعال الخلق بجامع أن كلا منها لا كسب للمفعول فيه فينبغي أن لا سيتثنى شيئاً ويؤول ما ورد من ذلك على أن التعجب فيه من فعل مفعول في معنى فعل فاعل لم ينطق به".

ص: 471

قال السيوطي في الأشباه والنظائر [22] قال في البسيط: "قياس التفضيل في أفعل أن يكون على الفاعل نحو: زيد فاضل وعمرو أفضل منه، لا على نحو خالد وبكر أفضل منه لأنهم لو فضلوا على الفاعل والمفعول لالتبس التفضيل على الفاعل بالتفضيل على المفعول فلما كان يفضي إلى اللبس كان التفضيل على الفاعل أولى لأنه كالجزء من الفعل والمفضول فضله فكان التفضيل على ما هو فالجزء أولى من التفضيل على الفضلة".

وقال في التصريح مبحث التفضيل [23] :

وسمع بناؤه من فعل المفعول كهو أزهى من ديك بنوه من زهى بمعنى تكبر قال في الصحاح: لا تتكلم العرب به لا مبنياً للمفعول وإن كان بمعنى الفاعل، وحكى ابن دريد زها يزهو أي تكبر، فعلى ما حكاه ابن دريد لا شذوذ فيه لأنه من المبني للفاعل، وقال الصبان [24] مثل ذلك: وسمع هو أشغل من ذات النحيين بنوه من شغل بالبناء للمفعول وسمع هو أعنى بحاجتك بنوه من عنى بالبناء للمفعول وسمع فيه عنى كرضى بالبناء للفاعل فعلى هذا لا شذوذ فيه.

وقد علق الصبان على هذا بقوله: "إنما كان مصوغا من المبني للمفعول لأن المراد أنها أكثر مشغولية لا أنها أكثر شغلا لغيرها وإنما كان يصاغ من المبني للفاعل إذا ناسب المقام، ومن مجيء فعله مبنيا للفاعل: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} فما ذكره الناظم من أن شغل مما لزم البناء غير مسلم، انتهى تعليق الصبان على المثل.."

وقال الأشموني [25] : "وبعضهم يستثني ما كان ملازما لصيغة فعل نحو عنيت بحاجتك، وزهى علينا فيجيز ما أعناه بحاجتك، وما أزهاه علينا"وقال في مبحث التفضيل: "وسمع صوغه من فعل المفعول كهو أزهى من ديك، وأشغل من ذات النحيين".

ص: 472

وبالبحث في كتب اللغة وجدت أساليب كثيرة تصحح لنا أن نتوسع فيما ضيقوا حتى تنتهي إلى قياسية كثيرة مما اعتبروه شاذا ففي الأمثال الميداني وأمثال القالي وشرح الألفية والتسهيل، فقد سمع عنهم أنهم قالوا: أجن من دقة [26](من أجن) ، أزهى من ديك [27]

وأشغل من ذات النحيين [28] ، وأشهر من الحمر [29] .

وقال أبو قطيعة:

أشهى إلى القلب من أبواب جبزون

القصر فالنخل فالجماء بينهما

وأعمر من نسر (عمر)[30] .

أعني في كلام سيبويه مثل به الزمخشري في المفصل وأقصف من بردقة [31] أكسى من بصلة (من كسى) وأولع من كذا [32] ، وأشهر من كذا وردت أمثلة كثيرة منه في أمثال القالي والميداني.

ص: 473

وقد حصر بعض أعضاء مجمع اللغة العربية أكثر من هذا [33] . فكثرة الأمثلة تجوز القياس عليه، وقد قال ابن مالك في التسهيل أن فعل التعجب يبنى من فعل المفعول إذا أمن اللبس، قال المرادي: وذلك مذهبه في أفعل التفضيل، ولا غرو فهو أوغل علماء العربية في هذا المسلك من قياس أحد البابين على الآخر، وقد سبق ابن مالك في هذا الزمخشري في المفصل وتبعه ابن الحاجب في الكافية وجاء بعدهما ابن مالك في كتبه كلها.. فقد حملوا كلا من بابي التعجب وأفعل التفضيل، على الآخر بحيث أنه لا يصاغ أفعل التفضيل إلا مما يصاغ منه فعلا التعجب وكل ما امتنع أن يصاغ منه فعلا التعجب امتنع أن يصاغ منه أفعل التفضيل وما لا فلا. وقد جعل الزمخشري وابن الحاجب التفضيل أصلا لهذا القياس وجعل ابن مالك التعجب أصلا لهذا القياس والتفضيل فرعا، والذي درج عليه الزمخشري وتابعوه من القياس الجاري بين أفعل التفضيل وأفعل في التعجب يكاد يكون أمرا لم يرجع إليه ليتخذ ضابطا في التعليم والتأليف لتقريب المسائل وطر القواعد وتيسير حفظ لا غير.. وليس في ذلك من أنواع القياس التي أطنب فيها أبو الفتح ابن جني في الخصائص فإنها كلها ترجع إلى إعطاء حكم إعرابي أو صيغة اشتقاقية للفظ لم يرد في كلام العرب على ذلك الحكم أو تلك الصيغة فيقرر حكم النظير المسموع للنظير غير المسموع إلحاقا به وقياسا عليه.. لأن هناك فوارق بين التعجب والتفضيل تفضي بنا إلى أن قياس أحدهما ليس له مسلك ممهد وإنما هو مجرد قياس شبه كما يقول الأصوليون وهو غير معتبر على أن التحامل بين البابين لم يتبين فيه أصل من فرع.

كثرة الاستعمال اعتمدت في كثير من أبواب العربية:

ص: 474

وحيث أن الأساليب التي جاءت من الفعل المبني للمفعول للدلالة على التعجب أو أفعل التفضيل قد كشفت عن عدد كثير من الأمثلة ولست أدري كيف خفيت هذه النصوص على كثير من اللغويين والنحاة القدامى حتى رتبوا على وجود نوع وهمي من الأفعال يلازم البناء للمجهول أحكاما خاصة كمنعهم مجيء صيغتي التعجب من الثلاثي مباشرة وعدم صحته إلا بواسطة ومنعهم صوغ أفعل للتفضيل من مصادرها إلا بالواسطة كذلك، وقد عثرنا على الأساليب التي توحي بكثرة الاستعمال من هذه الأفعال، وكثرة الاستعمال قد اعتمدت في كثير من أبواب العربية وهاأنذا أسوق طرفا منها مما جاء في كتاب الأشباه والنظائر للسيوطي [34] فقد عقد بابا تحت هذا العنوان (كثرة الاستعمال اعتمدت في كثير من أبواب العربية:

1-

منها حذف الخبر بعد لولا قال ابن يعيش في (شرح المفصل) حذف خبر المبتدأ من قولك: لولا زيد خرج عمرو لكثرة الاستعمال حتى رفض ظهوره ولم يجز استعماله.

2-

وقال صاحب البسيط: "إنما اختصت غدوة بالنصب بعد أن دون بكرة وغيرها لكثرة استعمال غدوة معها وكثرة الاستعمال يجوز منه مالا يجوز مع غيره".

3-

وقال ابن جني: "أصل (هلم) عند الخليل (ها) للتنبيه (ولم) أي لم بنا ثم كثر استعمالها فحذفت الألف تخفيفا".

ص: 475

4-

وفي تذكرة الفارسي: حكى أبو الحسن والفراء أنهم يقولون (أيش لك) قال والقول فيه عندنا أنه أي شيء فخفف الهمزة وألقي الحركة على الياء فتحركت الياء بالكسرة فكرهت الكسرة فيها فأسكنت فلحقها التنوين فحذفت لالتقاء الساكنين، كما أنه لما خففت (هو يرم إخوانه) فحذفت الهمزة وطرح حركتها على الياء كره تحركها بالكسرة فأسكنتها وحذفها لالتقائها مع الخاء من الإخوان فالتنوين في (أيش) مثل الخاء في إخوانه، قال: فإن قلت الاسم يبق على حرف واحد قبل إذا كان ذلك شيء في (أيش) وحسن ذلك أن الإضافة لازمة فصار لزوم الإضافة مشبها له بما في نفس الكلمة حتى حذف منها فقالوا فيم وبم ولم فكذلك (أيش) .

5-

وقال ابن فلاح في المغني: "المصدر الذي يجب إضمار فعله إنما وجب إضماره لكثرة الاستعمال ومعنى كثرة الاستعمال أنه تقرر في أذهانهم أنهم لو استعملوها لكثرة استعمالها فخففوها بالحذف وجعلوا المصدر عوضا منها".

6-

وقال ابن الدهان في الغرة ذهب الأخفش إلى أن ما غير لكثرة استعماله إنما تصورته العرب قبل وضعه وعلمت أنه لا بد من استعماله فابتدءوا بتغييره علما بأن لا بد من كثرة استعماله الداعية إلى تغييره كما قال:

فصير أخره أولا

رأي الأمر يفضي إلى آخر

ومن هذه النصوص يتبين أن العرب قد اعتمدت كثرة الاستعمال فلم لا نعتمد كثرة استعمال أفعل التفضيل وصيغتي التعجب من هذه الأفعال التي توهموها ملازمة للبناء للمجهول قياسا يقاس عليه؟

ففي هذا توسيع لما ضيقه بعضهم وجعله شاذا لأنهم بنوا حكمهم على وجود نوع وهمي من الأفعال يلازم البناء للمجهول.

ص: 476

فهذه الأفعال التي حصرها قدماء اللغويين وحصروها في باب الأفعال الملازمة للبناء للمجهول معظمها يرجع إلى ثلاثي مبني للمعلوم وإن كان لا يلحظه البعض بسهولة أو لا يطرد فيه ذلك نتيجة للخلط بين الفاعل النحوي والمعنى اللغوي وبعضها لا يسهل تحقيق ذلك فيه لأنه من المعلوم في غالب العادة أنه هو الله تعالى فحذف للعلم به حتى قال سيبويه: "لو أردت نسبتها إليه تعالى لكان الفعل على (أفعل) نحو أجنه الله أي فعل به ذلك" وقال غير سيبويه [35] إن هذه الأفعال التي ليست من أفعال الآدميين وقد جاءت على مفعول وفعله مما لم يسم فاعله إذا نسب الفعل إلى الله عز وجل كان على (أفعل)

فمجيء الصفة على مفعول دليل قاطع على الجذر الثلاثي للفعل وأنه مبني للمعلوم جاء على صورة المبني للمجهول ففي هذا جانب من صواب وفائدة على أن ابن جني في الخصائص [36] يعقد بابا في نقض العادة يقول: غير أن ضربا من اللغة جاءت فيه هذه القضية معكوسة مخالفة فنجد فعل فيها متعدية وأفعل غير متعد وذلك قولهم: أجفل الظليم وجفلته الريح، وأشفق البعير إذا رفع رأسه وشنقته، وأنزف البئر إذا ذهب ماؤها ونزفتها واقشع الغيم وقشعته الريح وأنسل ريش الطائر ونسلته، وأمرت الناقة ومريتها إذا در لبنها ونحو من ذلك نحو ألوت الناقة بذنبها ولوت ذنبها، وصر الفرس [37] أذنه، وأصر بأذنه وكبه الله عن وجهه، وكب هو، وعلوت الوسادة وأعليت عنها..

ص: 477

فهذا نقص عادة الاستعمال لأن فعلت فيه متعد وأفعلت غير متعد، وعلة ذلك عندي أنه جعل تعدي فعلت وجمود أفعلت كالعوض لفعلت من علية أفعلت لها على التعدي نحو جلس وأجلسته ثم يقول: ونحو من ذلك ما جاء عنهم من أفعلته فهو مفعول وذلك نحو أحببته فهو محبوب وأجنه الله فهو مجنون وأزكم فهو مزكوم، وأكزه فهو مكزوز [38] ، وأقره فهو مقرور، وأرضه فهو مأروض، وأملاه فهو مملوء وأضأده فهو مضئود [39] وأحمه الله فهو محموم (من الحمى) وأهمه - من الهم - فهو مهموم وأزعقته فهو مزعوق أي مذعور

قالوا وعلة ما جاء من أفعلته فهو مفعول نحو أجنه الله فهو مجنون وبابه أنهم إنما جاءوا به على (فعل)(بضم أو كسر ثانيه) نحو جن فهو مجنون وزكم فهو مزكوم.. الخ [40] .

فهذا النوع من الأفعال جاء على صورة المبني للمجهول لأن العرب خصوا المفعول بنوع من العناية حتى قوي في أنفسها وكأنهم أولا غيروا صورة الفعل وهو مسند إلى المفعول عن صورته وهو مسند إلى الفاعل والصورة والصيغة واحدة ثم ترقوا من ذلك وتدرجوا إلى أن غيروا الصيغة فضموا الأول مع نقصان العدد فقالوا أزكم (وزكم) بضم أوله وكسر ثانيه فهذا من باب التدريج في اللغة الذي عناه ابن جني بقوله [41] :

ص: 478

"وذلك أن يشبه شيء شيئا من موضع فيمضي حكمه على حكم الأول ثم يرقى منه إلى غيره". فأنت تشاهد أن هذه الأفعال بعد هذا التدريج أصبح لها صورتان الصورة الأصلية والصورة المسموعة عن أكثر العرب نتيجة هذا التدرج في الاستعمال والذي يدل على هذا أن المعاجم العربية تشير إلى هذا الأصل الذي أصبح في عالم النسيان عند بعض اللغويين كثعلب ففي القاموس مادة (عناه) الأمر يعنيه ويعنوه عناية بالكسر وعناية بالفتح وعينا بالضم أهمه وعنى بالضم عناية كرضى قليل، وعنى الأمر

باب (علم يعلم) نزل وحدث، وقال ابن المنظور:"وشغف بالشيء شغفا على صيغة ما لم يسم فاعله أولع به، وشغف بالشيء شغفا على صيغة الفاعل قلق"وقال: وشغفه يشغفه شغفا وشغفا بسكون الغين وفتحها ولذلك (وعك الرجل) ورجل وعك ووعك وموعوك ووعكة كوعده دكه فجاء بالمبني للمعلوم وإن كان مستعملا في معنى آخر، وهزل الرجل والدابة قال في القاموس، هزل كنصر ويضم وهزل كمنع الخ فلم ترد المادة تحت ضبط واحد وهو ضم الفاء وانظر مادة (زهى علينا) ، وبهت الرجل (وقد شهر في الناس) .

ص: 479

والكثير من الأفعال التي حصرها بعض العلماء تحت عنوان الأفعال الملازمة للبناء للمجهول ترجع إلى الأمور التي ترجع إلى اللغات مثل تعدد صورة المضارع والماضي مع اختلاف الصيغ من فعل، وفعل مع اتفاق المعنى أو اختلافه، وقد تابعت أكثر هذه الأفعال التي حصرها ابن سيدة في المخصص وثعلب في الفصيح والسيوطي في المزهر في معاجم اللغة فوجدت أنها جاءت على صيغ مختلفة بعضها استعمل كثير وأصبح هو المسموع عن أكثرهم ولكن هذا لا يجعلنا نغفل بعض الأساليب الواردة عن العرب تبعا لأحكام تتعلق ببعض الصيغ كصيغتي التعجب وصيغة أفعل التفضيل، وقد بينت آراء العلماء في هذه الأساليب، والتحقيق في هذا البحث يجعلنا نضم أصواتنا إلى أصوات العلماء الذين يحاولون إيجاد صورة مبنية للمعلوم لهذه الأفعال الملازمة للبناء للمجهول كابن درستويه ومن نحا نحوه واقتدى به الذي يعتد بأصل لهذا الفعل فهي أفعال لها أصول ليست مرفوضة وحيث أنها ليست مرفوضة فيصح مراجعتها إذا احتيج إليها وقد قال السيوطي في الأشباه والنظائر قال ابن جني: "اعلم أن الأصول المنصرف عنها إلى الفرع على ضربين [42] .

أحدهما: إذا احتيج إليه أن يراجع والآخر ما لا يمكن مراجعته لأن العرب انصرفت عنه فلم تستعمله.

ص: 480

وهذه الأفعال قد استعمل أصلها الذي رفضه بعض العلماء فمراجعة الأصل لهذه الأفعال قد أثبته ابن القطاع وابن دريد وبعض اللغويين مما رجعت إلى بعضه في القاموس وغيره.. ولو كان أصلها المبني للمعلوم ممنوعا لنص عليه ابن جني في مبحث مراعاة الأصول وإهمالها ثم يقول ابن جني [43] : وإذا جاز أن تراعى الفروع فمراعاة الأصول أولى وأجدر. ولا شك أن المبني للمجهول فرع عن المبني للمعلوم فهذه الأفعال ليست ملازمة للمفعول بل هي مفتوحة الأوائل في الماضي فإذا لم يسم فاعلها فهي مضمومة الأوائل بدليل أن الاسم بعدها فاعل في المعنى لأنه هو الذي وقع منه الفعل أو قام - وفي نهاية التحقيق في هذا البحث أختم قولي بما قاله ابن درستويه:

"عامة أهل اللغة يزعمون أن هذا الباب لا يكون إلا مضموم الأول، ولم يقولوا أنه إذا سمي فاعله جاز بغير ضم وهذا غلط منهم لأن هذه الأفعال كلها مفتوحة الأوائل في الماضي فإذا لم يسم فاعلها فهي كلها مضمومة الأوائل ولم يختص بذلك بعضها دون بعض"، وقال ابن خالويه المتوفى سنة 370 هـ في شرح الفصيح بعد أن ذكر هذه الأفعال "ومعناه أن الفعل من هذا الباب لا ينطق به على لفظ ما لم يسم فاعله وعليه فبعض المذكورات فيه نظر والصحيح ما قاله بعضهم أن بعضا لم يبن قط للفاعل وبعضها بني له أيضا لكن الفصيح بناؤه للمفعول"[44] وسبق أن عرفنا نزعته الكوفية ولا شك أن الأخذ بهذه الآراء يؤدي إلى إلغاء الأحكام الخاصة بهذه الأفعال ويبيح في الثلاثي التعجب المباشر وكذلك التفضيل المباشر ويرد لتلك الأفعال اعتبارها وحقها ويجعل شأنها شأن غيرها من باقي الأفعال التي يصح أن تبنى للمعلوم حينا وللمجهول حينا آخر على حسب مقتضيات المعنى.

ومن ثمرة البحث:

حكم المضارع والأمر من هذه الأفعال:

ص: 481

لكن ما حكم مضارع هذه الأفعال الملازمة للبناء للمجهول وكذا الأمر منه أيكون ملازما للبناء للمجهول كالماضي؟ أم يقتصر منه على ما ورد مسموعاَ عن العرب؟

الفيروز أبادي صاحب القاموس يعطينا رأياً قاطعاً حيث يقول في مقدمة القاموس: "هل المضارع فيها يأتي كذلك وفعل الأمر كما في قوله تعالى: {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} أو أن مرجعه إلى السماع، والظاهر الثاني كما يدل له قول مترجم القاموس: "حم الأمر مبني للمفعول من باب نصر فنقول في المضارع: (يحم) ومثله (جن)، ونتجت الناقة من باب ضرب فتقول: في المضارع: (تنتج)، وعقرت المرأة من باب (حسن) فنقول في المضارع:(تعقر) فلينظر في حاشيته الشهاب الخفاجي في الصافات أو شرح أدب الكاتب في باب (المبني لما لم يسم فاعله صورة) وقد قال الشهاب الخفاجي في حاشيته على البيضاوي في سورة الصافات عند قوله تعالى: {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} .

الإهراع الإسراع الشديد كأنهم يزعجون على الإسراع على آثارهم وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك عن غير توقف على نظر وبحث قال الشهابي معقباً على هذا: كأنهم يزعجون أخذه من فعل الإهراع المجهول وقال أيضاً في سورة هود {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْه} .

يسرعون إليه كأنهم يدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه.

ثم يعقب الشهابي على هذا بقوله: ويهرعون جملة حالية والعامة على قراءته مبينا للمجهول، والإهراع الإسراع وقال الهروي هرع، وأهرع استحث، وقرأ جماعة {يَهرعُون} (بفتح الياء مبنياً للفاعل من هرع وأصله من الهرع وهو الدم الشديد السيلان كأن بعضه يدفع بعضا) َ فالمعنى على القراءتين يسوقون أو يسوق بعضهم أو يساقون بمعنى يسوقهم كبيرهم فتفسيره بيسرعون بياناً للمراد منه عليهما، وقوله كأنهم يدفعون على المجهول إشارة إلى أنه استعارة.

ص: 482

ومن خلال رأي الشهابي أن المضارع من هذه الأفعال لا يخضع لصورة الماضي على البناء للمجهول فيجوز أن يبنى للفاعل.

وانظر لقوله: والعامة على قراءته مبنياً للمجهول وقراءة بعضهم بفتح الياء..

كل هذه النصوص ترشدنا إلى أن المضارع والأمر لا يكون على الصورة الملازمة للمجهول تبعا للماضي

والحمد لله من قبل ومن بعد فإذا وقعت علي هفوة فسبحان من انفرد بالكمال وتنزه عن الشريك والمثال، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

انظر القاموس المحيط في مقدمة تحت عنوان: (المقصد في بيان الأمور التي اختص بها القاموس)(مصدر فعل)

[2]

انظر شرح الكافية جـ 2 ص 272

[3]

انظر سيبويه جـ اص 15.

[4]

يقال أجنة وأجنه.. وجن عليه الليل إذا أظلم عليه وستره جنونا وجنانا وجننت الرجل وأجننته إذا وقفت (انظر كتاب فعلت وأفعلت للزجاج باب الجيم ص 135) .

[5]

انظر المخصص جـ 15 ص 72 باب ما جاء من الأفعال على صيغة ما لم يسم فاعله.

[6]

انظر المخصص السفر 14 ص 176.

[7]

انظر اللسان (حبب) .

[8]

انظر الكامل جـ اص 339 باب الرجل من بني أسد يمدح ابن حيان.

[9]

الملحوظان الفعل (حب) ط معناه الحقيقي مسند لله تعالى: على قول الرسول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك"(لأنه في معرض الحديث عن الحب) .

[10]

اللب: اللازم لها لا يفارقها يقال رجل لبٌّ وامرأة لبة أي نظيفة قريبة من الناس.

[11]

انظر المزهر جـ 2 ص 235.

[12]

انظر الخصائص جـ اص.

[13]

انظر سيبويه جـ اص 15.

[14]

أبو علي الفارسي إسنادا ً ابن جني توفي سنة 377هـ.

[15]

لابن جني بحث في تدريج اللغة جـ اص 347 من كتاب الخصائص فانظره.

ص: 483

[16]

انظر شرح ابن درستويه على الفصيح 78.

[17]

انظر الخصائص جـ اص 372.

[18]

انظر الخصائص باب في تدريج اللغة جـ اص 347.

[19]

انظر الخصائص باب في تدريج اللغة جـ اص 369.

[20]

انظر الكافية جـ 2 ص 214 مبحث أفعل التفضيل.

[21]

انظر: التصريح جـ 2 ص 93 مبحث التعجب.

[22]

أنظر: الأشباه والنظائر ص 270 مبحث اللبس محذور.

[23]

أنظر: التصريح جـ 2 ص 101.

[24]

أنظر الصبان على الأشموني جـ 3 ص 33.

[25]

أنظر الأشموني جـ 3 ص 17- 33.

[26]

أمثال الميداني.

[27]

أمثال الميداني والقالي.

[28]

أمثال الميداني والقالي.

[29]

أمثال الميداني.

[30]

أمثال الميداني.

[31]

المرجع السابق.

[32]

شرح التسهيل.

[33]

انظر البحوث والمحاضرات لمجمع اللغة العربية سنة 1963-1964م.

[34]

انظر الأشباه والنظائر جـ اص 266ـ270 فقد اختصرت ما قاله هنا.

[35]

انظر سيبويه جـ اص 15.

[36]

انظر الخصائص جـ2 ص 214ـ217.

[37]

سوى أذنه ونصبها للاستماع.

[38]

أصلبه الكزاز وهو تشنج يصيب الإنسان من شدة البرد وتعتريه منه رعدة.

[39]

أصابه بالزكام.

[40]

وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند الحديث عن رأي ابن جني.

[41]

انظر الخصائص جـ اص 347- 356. جـ 2 ص 118.

[42]

أنظر: الخصائص لابن حني جـ 2 ص 347 باب فيما يراجع من الأصول مما لا يراجع.

[43]

أنظر: الخصائص جـ 2 ص 304.

[44]

أنظر: مقدمة القاموس.

ص: 484

غوثاه

لفضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري.

عميد كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية

فكم من الكيد - يا الله - يلقاه

غوثاه - يا رب - للإسلام غوثاه

من العدو الذي ما كلّ مسعاه

وما أقل الألى يحمون حوزته

وهم أذل عباد أوجد الله

هذى يهود طغت في الأرض عاتية

في قبلة المصطفى الأولى ومسراه

عاثوا فسادا بأرض الرسل بل فسقوا

وكلهم بالغ في الكيد أقصاه

وللنصارى على الإسلام غارتهم

يهاجمون من الإسلام أعلاه

والملحدون وأهل الزيغ ما فتئوا

فصار معبوده ما كان يهواه

قد اغرقوا الجيل في طوفان باطلهم

رضا الإله الذي ما كان أغلاه

وغاية الخلق أضحت عنده عبثا

إلى رذائل من بالكفر والاه

هانت عليه غلا أجداده فهوى

يحدوهم الخوف ثم المال والجاه

وحاملو العلم للطاغوت قد خضعوا

تهدي الحمام لمن يطغى وتهواه

لكن أسد لهذا الدين قد وقفت

مضمار سبق على الأقران وافاه

وللفقيد أبي الأعلى الإمام هنا

من كل صوب وخلق الله قد تاهوا

رأى المصائب بالإسلام نازلة

عات ومستعبد في الشعب والاه

فشام سيف الهدى في وجه مغتصب

على أذى القوم معتزا بتقواه

وقام يدعو إلى الإسلام مصطبرا

إلى العقيدة (ركن الحق) مبداه

كان انطلاق الفتى في الفكر مستندا

ما دام يوجد في الوحيين مبغاه

وليس يعدل بالوحيين غيرهما

يفيد منهم إذا أفتى فتاواه يرى الأئمة أعلاما ورمز هدى

هدى الإله الذي التقليد ناواه

لكنه يكره التقليد مقتفيا

معاصريه الأولى تاقوا لعلياه

وكان في فهمه عمق يفوق به

من الحياة فكان كالنور أنى سرت تلقاه

غاصت مداركه في كل معترك

ملامة الناس والرحمن مولاه

ولم يكن في سبيل الله تأخذه

فما انثنى بل تولى أمره الله

ص: 485

كم حاولوا صده عن نشر دعوته

قالوا: اقتلوه، فقال: الله ألقاه

قالوا: اسجنوه، فزاد السجن قوته

فيها الدليل على ما الله أولاه

ربى رجالا على الإسلام تربية

كما أحاطت بيعسوب خلاياه

به أحاطوا على حب وتضحية

على الإخاء الذي الرحمن يرضاه

كل الفئات انضوت في ظل دعوته

من عاملين، ومن أغناهم الله

هذا طبيب، وذا قاض، وغيرهما

ما في الصواريخ للأتباع أشباه

وألهب الروح في الأتباع فانطلقوا

من الخمول، ومن ذل ألفناه

راحوا يرومون تغييرا لواقعنا

هم الفقيد إلى أن زار مثواه

إلى النهوض بهذا الجيل حيث غدا

يراه شيخ الزوايا في زواياه

وكان يعلن أن الدين ليس كما

لا يسعدون إذا ما عنه قد تاهوا

بل منهج لحياة الناس أجمعها

من جد فيها وللكسلان أواه

وسنة الله أن تعطى خزائنه

نظام حكم على الإسلام مبناه

وغاية السعي في الدنيا إقامته

إحدى وسائلها، والغرس عقباه

وغسل أفكار هذا الجيل من درن

فسلكهم في نظام طاب مغزاه

ثم اصطفاء لأفراد وتربية

يرضى الشريعة، لا قمع وإكراه

يليه سعي إلى إصلاح مجتمع

من الفساد الذي الحكام تهواه

والحكم إن فاته الإصلاح كان له

فبان من زيفها ما كان عراه

والجاهلية عراها بواقعها

في الشرق والغرب هذا ليس يخفاه

والعالم اليوم من عرب ومن عجم

وللرجوع لإرث ما فقدناه

وصاحب الحقد مدعو لتوبته

جيل قوي بوحي الله رواه

هذى مآثره تحكي محامده

درب الجهاد الذي كنا أضعناه

وكتبه كلها نور يضئ لنا

أن السعادة فيما يشرع الله

وقد أبانت لباكستان دعوته

للحكم بالشرع أزكى الله مسعاه وقد رأينا ضياء الحق متجهاً

بفقدك الأرض عملاقا خسرناه

لهفي عليك أبا الأعلى وقد فقدت

بالمسلم الحق تجري الدمع عيناه

لولا التأسي وأمر الصبر ما فتئت

ص: 486

وأن يكون بدار الخلد مثواه

والله نسأل أن تغشاه رحمته

حتى يحقق للإسلام مرماه

وأن يواصل جيش الحق رحلته

بالصحب فوق ذرا نصر تمناه

تابع طفيل خطى العملاق مرتقيا

فتابعونا على عهد عقدناه

وقل لهم: عهدنا ما زال منعقدا

لمن تأسى، كما الصديق أبداه

وفي ممات رسول الله معتبر

بركب أمثال شيخ قد فقدناه

غوثاه يا رب للإسلام غوثاه

ص: 487

قياسية المصادر

لفضية الدكتور/ محمد بن زين العابدين حسن سلامة

المدرس بكلية الدعوة بالجامعة الإسلامية

من أقسام الكلمة العربية الاسم

وهو قسمان: جامد ومشتق.

فالجامد: ما لم يؤخذ من غيره، فهو قد وضع على صورته الحالية ابتداء، فليس له أصل يرجع إليه، وهو إما ذات وإما معنى.

فالذات: ما تقوم بنفسها، أي تدل على مجسم محسوس، وذلك كأسماء الأجناس مثل: رجل- جمل - شجر- بيت- والدال على الذات هو اسم العين.

والمعنى: ما يقوم بغيره، لأنه يدل على شيء معنوي محض لا وجود له في غير الذهن ويدركه العقل، وذلك مثل: النصر- الضرب – الفتح – الفرح - والدال على المعنى هو المصدر، ومنه يكون الاشتقاق، وقد يجيء من أسماء الأجناس المحسوسة.

والمشتق: ما أخذ من غيره ودل على ذات وحدث، فهو يدل على شيئين، وله أصل ينتسب إليه يقاربه في المعنى ويشاركه في الحروف الأصلية، كالضارب والمضروب

الخ

فالمصدر قسم من قسمي الجامد، إذ هو اسم المعنى الذي هو أحد قسمي الجامد، إذن فالمصدر جامد.

وضابطه: هو اسم دال على الحدث - إلى المعنى المجرد- جار على فعله، فلا دلالة على ذات أو زمان أو مكان أو تذكير أو تأنيث أو مثنى أو جمع أو علمية، فلا شيء أكثر من هذا المعنى المجرد، وهذا هو الغالب الأعم، لأنه قد يدل على المرة مثل جال جولة، قال تعالى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [1] أو الهيئة مثل: جلسة المعتدل مريحة، قال صلى الله عليه وسلم:"إذا قتلتم فأحسنوا القتلَةَ وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحةَ"[2] .

ص: 488

والمراد بالحدث: الذي لا يستقل، بل يكون معنى قائما بغيره. ومعنى جريانه على الفعل: اشتماله على حروف فعله لفظا مثل: إكرام، أو تقدير بدون تعويض مثل: قتال- فإن ألف فعل هذا المصدر وهو (قاتل) وإن نقصت منه إلا أنها موجودة تقديرا، بدليل ظهورها أحيانا مقلوبة ياء لوقوعها بعد الكسرة فيقال: قيتال في نطق لبعض قبائل العرب- وهذا لغة أهل اليمن- أو تقديرا مع التعويض مثل: زنة، فالتاء عوض عن فاء الفعل وهو وزن، ومثل: تقديس، فالتاء عوض عن الدال المكررة في الفعل وهو قدّس.

والمصادر لها أبنية معروفة في علم الصرف، وهذه الأبنية هل لها قياس مطرد لا تخرج عنه ولا تحيد، أو هي سماعية المعول فيها على السماع وممنوع الخروج عليه؟.

اتفق على أن مصادر الفعل غير الثلاثي- الرباعي والخماسي والسداسي- تسير على نظام معين مستقر، لا يتغير ولا يتبدل، فلها قاعدة ثابتة قياسية لا تحيد عنها، فمثلا إذا قيل: كل فعل رباعي على (أفْعل) مصدره (الإفعال) فإنا نرى جميعها مثل: أكرم- أوعد- أفاد- أعطى- لا يخرج مصدرها عن الإفعال، مع قلب أو حذف وتعويض أو إبدال في بعضها، وكذا إذا قيل:(تفعّل) مصدره (تفعُّل) .

أما مصادر الفعل الثلاثي فقد اختلف العلماء في قياستها، وفي معنى هذا القياس على ثلاثة مذاهب.

1-

يرى بعض العلماء أن مصادر الثلاثي لم تجْر على أوزان معينة، بل وردت على أوزان شتى متباينة لا ضابط لها ولا قياس يجمعها، فهي إذن سماعية نتيجة لهذا، ويجب أن نقف عند المسموع فلو وجد فعل وأردنا معرفة مصدره نقف عند نطق العرب فيه، ولو ورد فعل ولم يعلم كيف نطق العرب بمصدره فلا مصدر له، ولا يجوز النطق بمصدر له على قياس أمثاله.

ص: 489

ولا يخفى ما يستلزمه هذا من التعويق والتعنت، والوقوف أما بلوغ اللغة درجة الكمال، والوفاء بحاجات الإنسان المتجددة، وتعطيل الكثير من الكلمات التي يجوز لنا أن نحصل عليها بالقياس على أمثالها، وذلك لكثرة أفعال هذا النوع كثرة يتبعها الكثير من المصادر.

2-

ويرى سيبويه وتبعه الأخفش أن مصدر الثلاثي قياسي، فله ضوابط يخضع لها، ولكن هذه الضوابط لا يصح استخدامها قياسيا مطردا قبل الرجوع إلى السماع في مظانة، ويجب الاقتصار على المسموع وحده بعد البحث عنه والعثور عليه ويوقف عنده، فإن لم يوجد سمات تستخدم الضوابط والأقيسة للحصول على المصدر، بمعنى أنه إذا وَرَد فعل وسمع له مصدر أخِذ به، لأننا مقيدون بالمصدر الذي نطقت به العرب وعرفناه عنهم، ولا داعي معه لإيجاد مصدر جديد لم تنطق به نصا، أما إذا لم يعلم لهذا الفعل مصدر، فإننا نأتي بمصدره على الوزن الغالب المقرر في أمثاله، لأن كثرة استعمال بناء أي مصدر لأي فعل مصححة للقياس عليه، قال سيبويه:"ولكن الأكثر يقاس عليه"[3] .

وقال بذلك ابن مالك، وردده الشيخ خالد [4] والأشموني [5] في كتبهم، وهذا الرأي هو الذي جرى عليه علماء الصرف واعتمدوه في كتبهم.

وتطبيقا لهذا الرأي فالفعل مثلا (علم) لا يأتي مصدره على (فعْل) - بفتح الفاء وسكون العين- فيقال: (علْم) كما هو مقتضى قياس أمثاله- وهي الفعل الثلاثي المتعدي- لأنه قد سمع فيه (علْم) ، فيؤخذ بهذا المصدر في هذا الفعل، بدون قياس على الوزن الغالب وهو (فعْل) .

3-

ويرى الفراء أن مصادر الأفعال الثلاثية قياسية، ومعنى القياس عنده: أنه يجوز القياس على الكثير الشائع، سواء ورد السماع به أو بخلافه، أي يسوغ لنا في كل فعل ثلاثي أن نأتي بمصدره على الوزن الغالب في أمثاله، وإن سمع له مصدره على خلاف هذا الوزن، لأن ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم، ويجوز استعمال أي المصدرين شئت، القياسي أو السماعي إن عرفته.

ص: 490

فمثلا (علم) فعل ثلاثي متعد، وقياس مصدر مثله أن يكون على (فعْل) فلك أن تقول في مصدره (علْم) - بفتح العين وسكون اللام- وإن كان قد سمع له آخر هو (علم) - بكسر العين وسكون اللام- ولا يهمل المسموع بل أنت بالخيار في استعمال أحدهما.

وهنا وقفة مؤيدة لما ذهب إليه الفراء لما يأتي:

1-

الفراء إمام كبير له مكانته اللغوية والنحوية، يقول ثعلب - إمام الكوفة في عصره -:"لولا الفراء ما كانت عربية، لأنه خلّصها وضبطها"[6] . وقيل فيه: "الفراء أمير المؤمنين في النحو"[7] وقيل أيضا: "لو لم يكن لأهل بغداد من علماء العربية إلا الكسائي والفراء لكان بهما الافتخار على جميع الناس"[8] وكذلك افتخر به أهل الكوفة [9]، وكذلك قيل فيه:"كان ثقة إماما"[10] وقال فيه الفقيه محمد بن الحسن - صاحب أبي حنيفة - بعد مناقشة علمية: "ما ظننت آدميا يلد مثلك"[11]، وأخيرا قال فيه أستاذه الكسائي - رأس المدرسة ومؤسسها:"الفراء أحسن عقلا، وأنفذ فكرا، وأعلم بما يخرج من رأسه"[12] ، وغير ذلك كثير [13] .

وأمام هذه العقلية التي أخذ صاحبها هذه النعوت، والتي ورثت علم الكسائي وأصبح إمام الكوفيين بعده لا ضير ولا تثريب إذا أخذ بمذهبه في قياسية مصدر الثلاثي، وبخاصة إذا كان في هذا الرأي إفادة اللغة.

2-

ما قال به الفراء مستنبط من أكثر الكلام العربي فصاحة وصحة وشيوعا، فالعمل بما استنبطه إنما هو تطبيق صحيح على ذلك الكثير المسموع، ومجاراة سليمة للشائع الوارد عن العرب، ومحاكاة سائغة لصحيح نطقهم.

ص: 491

وهذا هو معنى القاعدة، فهو حكم عام مستنبط من الكثير الوارد عن العرب، منتزع من الغالب الذي استعملوه، وعلى ذلك كيف نمتنع عن القياس على ذلك الكثير حين يوجد ما يخالفه في نطق القليل، وأن نقتصر على ذلك المخالف وحده دون استخدام القياس الذي يجري على نهج المخالف له؟ أليس من الأولى أن نعتبره شاذا خارجا عن الكثرة كما نصف الفاعل؟

3-

قصر القياس على الأفعال التي لم يرد لها مصادر مسموعة، يقتضينا أن نرجع لكل المظان المختلفة ونطيل البحث، وذلك حتى نطمئن إلى عدم وجود مصدر سماعي للفعل كي نستبيح استعمال المصدر القياسي، وفي هذا من الجهد المضني والوقت الطويل ما لا يقدر عليه خاصة الناس، فكيف الحال مع الذي يطلب تعلم اللغة؟ ولو أخذنا به قبل استعمال كل مصدر لحملنا أنفسنا مالا نطيق، ودفعناها دفعا عن الانصراف إلى لغتنا، حتى مع وجود المعاجم فيه جهد ووقت وبخاصة مع المتعلم، وليس كل مبتدئ أو شاذ في اللغة يملك معاجم أو أحدها، يضاف إلى ذلك أن هذا العمل جهد ضائع وعمل مكرر، فلقد استنفد ثقات الأئمة والعلماء جهدهم في استنباط قواعدهم، وانتزاع أحكامهم من غالب كلام العرب الفصيح في دقة وأمانة، فلا مكان لإيجاب الرجوع إلى المسموع قبل استعمال الضوابط والقواعد، لأن في الرجوع إضاعة للجهد والوقت، وتعجيز لغير المتفرغين المشتغلين باللغويات، وإهمال لرأي الثقات من العلماء المتخصصين المتفرغين، إهمالا يستحيل معه أن تستقيم أمور، أو يستقر لها وضع صالح واضح.

فدفعا لهذا يؤخذ بما استنبطه ثقات العلماء ويستند إليه من غير بحث في كلام عربي، أو في مرجع لغوي أو غيره، ولو كان البحث لا يكلفنا جهدا ولا وقتا

وهذا ما درجنا عليه في التعليم والتعلّم، يذكر الفعل وتطبق عليه القاعدة للحصول على مصدره بدون رجوع إلى مظان السماع، تطبيقا لرأي الفراء، ولم يكن لرأي سيبويه من نصيب سوى السطور التي تكتب تبيانا لرأيه.

ص: 492

4-

لم يقتصر الأمر على الفرَاء بل جاء بعده غيره ممن له مكانته وقال بمثل ذلك.

كابن جني فهو القائل: "ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب"[14] والقائل: "ليس كل ما يجوز في القياس يخرج به سماع. فإذا أخذ إنسان على مثالهم وأمّ مذهبهم لم يجب عليه أن يورد في ذلك سماعا، ولا أن يرويه رواية"[15] .

وقال بقياسية مصدر الثلاثي أيضا الزمخشري. ومكانته معروفة [16] .

ونقل عن أبي حيان أنه قال: "إنما نبني المقايس العربية على وجود الكثرة"[17] .

وعلى ذلك تصاغ مصادر الفعل الثلاثي على النهج الغالب في كلام العرب، وقد يكون هذا المصدر الذي تنطق العرب بلفظه نصا غريبا على الأسماع، ولكن هذه الغرابة وتلك الوحشة تزولان بالاستعمال.

ولا يتحتم استعمال هذا القليل. بل يعتبر من النادر في كلامهم الذي لا يقاس عليه. ويسمى: مصادر سماعية- مصادر شاذة- مصادر قليلة الاستعمال- أو غير ذلك من الأسماء الدالة على قلتها وندرتها.

ولذلك نظير في مصادر الأفعال الرباعية التي قال الصرفيون بقياسيتها، فقد قالوا: فاعل مصدره-. (المفاعلة) و (الفعال) والثاني قليل بالنسبة للأول، ويتعين تركه فيما فاؤه ياء مثل (ياسر- يامن) - أخذ بيساره أو بيمينه- وتجب فيه (المفاعلة) فنقول: ميامنة ومياسرة ويمتنع أن نقول على الوزن: يمان ويسار بكسر الياء فيهما، لثقل الكسرة على الياء في أول الكلمة وشذ ياومة يواما ـ المعاملة بالأيام ـ حكاه ابن سيده وحكى مياومة على القياس [18] فنقول في مصدر الثلاثي أيضا: علم مصدر (علم) وشذ (علم) على أنه يجوز استعمال هذا المصدر المسموع مع المصدر القياسي، فمن شاء استعمال المسموع أو القياس فله ما شاء، فإن استعمال أحدهما مباح، فورود السماع لا يلغي القياس، ولا يمنع استخدام القاعدة المخالفة له.

ص: 493

ولعل ما سبق كان في ذهن أعضاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فلقد أصدر قرارات قياسية مصادر الثلاثي فقال: للأفعال الثلاثية مصادر تأتي على أوزان شتى، منها الكثير المشهور، ومنها القليل المهجور، فجعل بعض النحويين كثير الورود قياسيا، وجعل بعضهم جميع المصادر الثلاثية سماعية، فاختار المجمع المذهب الأول، وهو مذهب سيبويه والأخفش وابن مالك وكثير ممن تابعهم، ومنهم الفراء - وهو يجيز القياس على جميع المصادر الثلاثية القياسية ولو سمع غيرها من وزن آخر [19] .

ويقول في موطن آخر، في تكملة مادة لغوية لم تذكر بقيتها، كإذا لم تذكر من مادة لغوية في المعجمات ونحوها إلا ألفاظها، كالمصدر أو الفعل أو أحد المشتقات الأخرى.

وكل ما تقدم جائز ما لم ينص على أن الفعل مُمات أو محظور، وما لم يسمع عن العرب ما يخالفه، فإن سمع عملنا بالمسموع فقط، أو عملنا بالمسموع والقياس [20] .

ويقول الأستاذ عبد الحميد حسن في كتابه (الألفاظ اللغوية خصائصها وأنواعها) : "فماذا يمنعنا من زيادة أوزان وصيغ نرتضيها في عصرنا وفي عصور قادمة، مادامت جارية على سمت ما نطق به العرب، ومقيسة على كلامهم"[21] .

ويقول:"وإن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، قد قطع شوطا محمودا وبذل همة مشكورة في البحث والدرس، للوصول إلى التوسع في صيغ الأفعال المزيدة، وصيغ بعض الأسماء والمشتقات، ووصل في هذا المجال إلى قرارات لها عظيم الأثر في تنمية اللغة وتوسيع آفاقها، وقد سار في ذلك على السنن اللغوي القويم، المستمد من الأشباه والنظائر، ومن الأصول اللغوية التي تساير نمو اللغة واكتمالها"[22] .

ومن هذه القرارت قرار قياسية المصادر الثلاثية على مذهب على الفراء السابق ذكره.

*. *

مراجع البحث

1-

الكتاب لسيبويه.

2 -

الخصائص لابن جني.

3 -

التصريح للشيخ خالد الأزهري.

4 -

همع الهوامع للسيوطي.

ص: 494

5-

شرح ألفية ابن مالك للأشموني.

6-

إنباه الرواه للقفطي.

7-

تصريف الأسماء للشيخ محمد طنطاوي.

8 -

النحو الوافي للأستاذ عباس حسن.

9 -

الألفاظ اللغوي خصائصها وأنواعها للأستاذ عبد الحميد حسن.

10 -

تصريف الأسماء للدكتور محمد زين العابدين حسن سلامة.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

سورة الحاقة 13.

[2]

الترمذي - الديات 14.

[3]

الكتاب 2/215.

[4]

انظر التصريح 2/73.

[5]

انظر حاشية الصبان 2/304.

[6]

إنباه الرواة 4/ ا-17

[7]

إنباه الرواة 4/ ا-17

[8]

إنباه الرواة 4/ ا-17

[9]

إنباه الرواة 4/ ا-17

[10]

إنباه الرواة 4/ ا-17

[ٍ11] إنباه الرواة 4/ ا-17

[12]

إنباه الرواة 4/ ا-17

[13]

إنباه الرواة 4/ ا-17

[14]

الخصائص 1/362-367.

[15]

لخصائص 1/362-367.

[16]

النحو الوافي 3/190.

[17]

الهمع 1/217.

[18]

انظر التريح 2/76.

[19]

الألفاظ اللغوية خصائصها وأنواعها للأستاذ عبد الحميد حسن ص26 وما بعدها.

[20]

المرجع السابق 24- 25.

[21]

المرجع السابق 23.

[22]

المصدر السابق 23.

ص: 495

نظرات في التمثيل البلاغي

لفضيلة الدكتور/ محمود السيد شيخون

الأستاذ المشارك بالجامعة الإسلامية

تقديم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

وبعد

فهذه نظرات في التمثيل البلاغي قصدت من ورائها أن أكشف النقاب عن حقيقة هذا اللون البياني الجميل، وأن أميط اللثام عما ينطوي عليه من اللطائف والأسرار، وأن أتعرف على الشخصيات التي كان لها أثر في نموه وازدهاره، وتجلية محاسنه وأسراره.

والله الكريم أسأل أن يجعل هذا الجهد المتواضع خالصا لوجهه الكريم، وأن يوفقنا دائما لخدمة لغة القرآن العظيم إنه سميع مجيب. وهو حسبي ونعم الوكيل.

التمثيل في اللغة:

المثل بالكسر والتحريك وكأمير الشبه وجمعه أمثال، وتمثل بالشيء ضربه مثلا، والأمثل الأفضل، والطريقة المثلى الأشبه بالحق وأمثلهم طريقة أعدلهم وأشبههم بأهل الحق وأعلمهم عند نفسه بما يقول، ومثله له تمثلا صوره له حتى كأنه ينظر إليه، وامتثله هو تصوره، وامتثل طريقته تبعها فلم يعدها [1] .

التمثيل في التقديم:

لقد كان مفهوم التمثيل عاماً عند القدماء من علماء البلاغة فقد أطلقوه على كثير من الصور البيانية كالاستعارة والمجاز والكناية والتشبيه الاصطلاحي فقدامة بن جعفر المتوفى سنة

337 هـ جعله فرعاً من ائتلاف اللفظ مع المعنى ومثل له بأمثلة تشمل كثيراً من الألوان البلاغية [2] وأبو هلال العسكري المتوفى سنة 395 هـ تحدث عنه تحت اسم المماثلة وأورد له كثيراً من الشواهد الأدبية التي تشمل كثيرا من الصور البيانية كالتشبيه الاصطلاحي والكناية والمجاز والاستعارة [3] وابن رشيق القيرواني المتوفى سنة 463 هـ جعله ضربا من الاستعارة ومثل له بأمثلة أكثرها من قبيل الكناية والتشبيه الاصطلاحي [4] .

ص: 496

الفرق بين التمثيل والتشبيه الاصطلاحي:

وظل مفهوم التمثيل عاما حتى جاء الإمام عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة 471 هـ فحدد مفهومه.. وفرق بينه وبين التشبيه الاصطلاحي وكشف النقاب عن بلاغته ثم تلاه السكاكي المتوفى سنة 626 هـ والخطيب القزويني المتوفى سنة 739 هـ، وهؤلاء الفرسان الثلاثة كانت لهم أياد بيضاء على هذا الفن البياني الجميل فقد عنوا بدراسته وإظهار محاسنه والكشف عن لطائفه وأسراره ووضع الحواجز الحصينة بينه وبين التشبيه الاصطلاحي، وإليك أيها القارئ الكريم آراء هؤلاء الفرسان في الفرق بين التمثيل والتشبيه الاصطلاحي.

رأي الشيخ عبد القاهر الجرجاني..

قسم الشيخ عبد القاهر التشبيه من حيث وجه الشبه إلى قسمين:-

أحدهما: تشبيه غير تمثيل..

وثانيهما: تشبيه تمثيل..

ثم أقام بينهما الحواجز الحصينة حتى لا يلتبس أحدهما بالآخر وهاك موجزاً معبراً عن رأيه [5] .

التشبيه غير التمثيلي:-

هو ما كان وجه الشبه فيه أمرا بيناً بنفسه لا يحتاج فيه إلى تأول وصرف عن الظاهر لأن المشبه مشرك للمشبه به في نفس وجه الشبه وحقيقة جنسه لا في مقتضاه ولازمه.

وذلك يتحقق في أمرين اثنين:

الأول: أن يكون وجه الشبه حسيا أي مدركا بإحدى الحواس الخمس الظاهرة فيكون من المبصرات أو المسموعات أو المشمومات أو المذوقات أو الملموسات سواء أكان الوجه مفرداً أم مركبا.

ص: 497

الثاني: أن يكون وجه الشبه غرزيا طبعيا (عقليا حقيقيا) فالغرائز والطباع وإن كانت عقلية لأنها لا تدرك بإحدى الحواس الخمس الظاهرة فقد ألحقها عبد القاهر بالحسيات لأنها حقائق متقررة ثابتة تعلمها في المشبه به كما تعلمها في المشبه فالشجاعة والجبن والكرم والبخل والذكاء والغباء والقوة والضعف والصبر والجزع وما إلى ذلك من الكيفيات النفسية حينما يكون واحد منها وجه شبه فالتشبيه المعقود عليه يكون كالتشبيه الذي يكون وجه الشبه فيه حسياً سواء بسواء.

التشبيه التمثيلي:

أما التشبيه التمثيلي عند عبد القاهر فهو ما لا يكون وجه الشبه فيه أمراً بيناً بنفسه بل يحتاج في تحصيله إلى تأول وصرف عن الظاهر لأن المشبه غير مشارك للمشبه به في حقيقة وجه الشبه الظاهري وجنسه بل في مقتضاه ولازمه.

فإذا قلت (ألفاظ فلان كالعسل في الحلاوة) فإن (الحلاوة وجه شبه ظاهري فقط لأن المشبه به وهو العسل) يوصف بالحلاوة على سبيل الحقيقة بخلاف المشبه وهو (الألفاظ) فإنه لا يوصف بالحلاوة على سبيل الحقيقة ولذا يحتاج إلى التأول بإرادة ما تستلزمه الحلاوة من قبول النفس للشيء وحسن وقعه فيها، ولا كذلك الحسي، فالذي يشبه الأدهم [6] بالغراب في السواد يرى السواد في المشبه كما يراه في المشبه به دون أن يحتاج إلى تأول بصرف اللفظ عن ظاهره.

والخلاصة أن التشبيه التمثيلي عند عبد القاهر محصور في كل تشبيه كان وجه الشبه فيه عقلياً غير غرزي سواء أكان مفرد أم مركباً، وأن التشبيه غير التمثيلي محصور في كل تشبيه كان وجه الشبه فيه حسياً أو غرزياً سواء أكان مفرداً أم مركباً.

رأي السكاكي:

قسم السكاكي التشبيه من حيث وجه الشبه إلى:

تشبيه تمثيلي، وتشبيه غير تمثيلي..

فالتشبيه التمثيلي عنده:

ما كان وجه الشبه فيه مركباً عقلياً غير حقيقي [7] .

والتشبيه غير التمثيلي:

ص: 498

ما كان وجه الشبه فيه على خلاف ذلك، وهذا صادق بالعقلي الحقيقي (الغرزي) والشأن فيه أن يكون مفرداً، وكذلك العقلي غير الحقيقي إذا كان مفرداً، وكذا جميع الحسيات مفردة كانت أم مركبة [8] .

رأى الخطيب القزويني [9] :

قسم الخطيب القزويني التشبيه من حيث وجه الشبه إلى: تشبيه تمثيلي، وتشبيه غير تمثيلي.

فالتشبيه التمثيلي عنده:

هو ما كان وجه الشبه فيه وصفا منتزعاً من متعدد أمرين أو أمور..

وهذا يتحقق في كل تشبيه يكون وجه المشبه فيه هيئة منتزعة من متعدد سواء أكان ذلك الوجه حسياً أم عقلياً.

والتشبيه غير التمثيلي عنده:

ما كان وجه الشبه فيه على خلاف ذلك.

وهذا يتحقق في كل تشبيه يكون وجه الشبه فيه مفرداً سواء أكان الوجه حسياً أم عقلياً.

أمثلة توضح آراء الفرسان الثلاثة السابقة

قال الله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأََرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأََنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [10] . شبه الله حال الدنيا في سرعة زوالها، وانقراض نعيمها بعد إقبالها، واغترار الناس بها، وركونهم إليها بحال نبات الأرض ذهبت نضرته فجأة فجف وصار حطاماً بعدما زها، والتف وتكاثف وزين الأرض بخضرته، وعم نفعه الإنسان والحيوان، واطمأن الناس إلى دنو ثمره، وظنوا أنه قد سلم من الجوائح. ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من سرعة الزوال وانقراض النعيم بعد الإقبال وعموم النفع واغترار الناس به واعتمادهم عليه.

ص: 499

وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [11] .

شبه الله حال أحبار اليهود وقد حملوا التوراة وقرأوها، وحفظوا ما فيها، ولم يعملوا بها ولا انتفعوا بآياتها بحال حمار يحمل أسفارا هي أوعية العلوم ومستودع ثمر العقول وهو جاهل بما فيها ولا حظ له منها إلا ما يكده ويتعبه.

ووجه الشبه هو شقاء كل باستصحاب ما يتضمن المنافع العظيمة والفوائد الشريفة من غير أن يحصل على شيء من تلك المنافع أو يعود عليه بعض تلك الفوائد [12] .

قال أبو تمام يمدح أحمد بن أبي داود وكان قد وشي به إليه فظهر كذب الواشي:

طويت [13] أتاح لها لسان حسود

وإذا أراد الله نشر فضيلة

ما كان يعرف طيب عرف العود

لولا اشتعال النار فيما جاورت

شبه أبو تمام فضائله التي نشرتها الوشاية من المساوئ والأضرار برائحة العود تظهر النار طيبها مع ما في النار من الإحراق والإيذاء.

ووجه الشبه الهيئة الحاصلة من ترتب النفع على محاولة الضرر.

قال المتنبي من قصيدة له يعاتب فيها الدولة ويفتخر بنفسه: [14]

ويكره الله ما تأتون والكرم

كم تطلبون لنا عيبا فيعجزكم

أنا الثريا وذان الشيب الهرم [15]

ما أبعد العيب والنقصان عن شرفي

مثل المتنبي حاله مع العيب والنقصان بحال الثريا مع الشيب والهرم فإذا كان يستحيل قيام هذين بالثريا، كذلك يستحيل قيام العيب والنقصان به.

ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من محاولة إلصاق شيء بشيء لا يناسبه.

وقال الشاعر:

من دونها للحادثات مصائد

نهاية أهواء القلوب بعيدة

ودون الذي يبغيه فخ وصائد

فنحن كطير يبتغي الحب مسرعا

ص: 500