الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 46
فهرس المحتويات
1-
افتتاحية العدد: بقلم الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد
2-
كلمة التحرير - الفكر الشيوعي وكيف نقاومه؟ : د. عباس محجوب
3-
آية العدد: لفضيلة الشيخ: أبو بكر الجزائري
4-
وجوب العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر من أنكرها: لفضيلة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
5-
إنما الأعمال بالنيات: بقلم: أحمد محمد جمال
6-
الحركة السلفية ودورها في إحياء السنة: بقلم عبد الرحمن عبد الجبار الفريوائي
7-
مفهوم الأسماء والصفات (الحلقة الثانية) : فضيلة الشيخ سعد ندا
8-
تصديق القرآن الكريم للكتب السماوية وهيمنته عليها: د. إبراهيم عبد الحميد سلامة
9-
أَضواء على القرآن الكريم - بلاغته وإعجازه: دكتور عبد الفتاح محمد سلامة
10-
بيئات التربية الإسلامية: للدكتور عباس محجوب
11-
تجارب حية في عملية التربية والتعليم: بقلم الشيخ محمد المجذوب
12-
موجز البيان في زكاة الأطيان والبنيان: لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم
13-
ابن سبأ حقيقة لا خيال: للدكتور سعدي الهاشمي
14-
في المشارق والمغارب: فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
15-
سنن الفطرة بين المحدثين والفقهاء (الحلقة الثالثة) : لفضيلة الدكتور أحمد ريّان
16 -
تعدد الزوجات وحكمته في الإسلام: الدكتور جمعة الخولي
17-
التشبه بالنساء والرجال: لفضيلة الدكتور محمد محمد الشريف
18-
فيمن تكون
…
أسوة المسلم؟ : بقلم الشيخ محمد المهدي محمود
19-
حقوق الإنسان في الإسلام: بقلم الشيخ: عبد الفتاح عشماوي
20-
دراسة في أصول الفقه: د. علي أحمد محمد با بكر
21-
نظام الضرائب في الإسلام: د. أحمد حاج علي الأزرق
22-
الدولة الإسلامية الأولى تأسيسها وعوامل نجاحها: د. محمد السيد الوكيل
23-
كيف نجا المسلمون من عاصفة المغول والتتار المدمِّرة؟ : د. جاد محمد رمضان
24-
نماذج أخرى من الدعاة الصالحين (الحلقة الثالثة) : لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري
25-
الأدب والحياة: د. شوقي عبد الحليم حمادة
26-
رسائل لم يحملها البريد: بقلم الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
27-
الطريقة المثلى لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها: الدكتور محي الدين الألوائي
28-
مختارات من التراث - نكبة دمشق: لأمير الشعراء أحمد شوقي
29-
كيف يتفرق أهل الحق! : يوسف الهمذاني الشافعي
30-
الرد على من كذب بالأحاديث الصحيحة الواردة في المهدي: لفضيلة الشيخ عبد المحسن العباد
31-
قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة بشأن منع الحمل وتحديد النسل أو تنظيمه: عبد العزيز بن عبد الله بن باز
32-
خطورة سوء استعمال الأدوية: للدكتور حسين كامل طه
33-
وقفة مع كرات الدم الحمراء: للدكتور فكري السيد عوض
34-
من أعماق الكتب: محمد أمان بن علي الجامي
35-
مختارات من الصحف
36-
كيف دخلت الشيوعية في أفغانستان؟ : للأستاذ جلال الدين أحمد النوري
37-
ماذا تعرف عن شعب أورومو؟ (الحلقة الثانية) : لفضيلة الشيخ محمد أمان بن علي الجامي
38-
إخوة فيليبنيون يهتدون إلى الإسلام: صحيفة المدينة المنورة
39-
هل تعلم أن الكهرباء ثمرة؟ : أحمد حسن بركات / فني كهرباء بالجامعة
40-
أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
افتتاحية العدد
بقلم الدكتور عبد الله بن عبد الله الزايد
نائب رئيس الجامعة الإسلامية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: فإن لي معك أيها القارئ الكريم كلمتين أما الأولى: فإن العالمَ مر به أحداث لا ينبغي أنْ تمر دون أن يستفيد منها الناس عبرة لحاضرهم ومستقبلهم. وذلك أن ما يحدث من كروب وبلاء إنما هو بإرادة وحكمة من ربنا عز وجل سببه الإنسان فحدث تأديبا له وتنبيها للآخرين، قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ، وقال عز من قائل:{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
ولنذكر هنا بعضا النماذج فمن ذلك ما حدث من الزلازل الماحقة في كل من الجزائر - مدينة الأصنام- تم في جنوب إيطاليا ذهبت به ضحايا كثيرة من البشر وشرد به كثير من ديارهم وأموالهم. ويتمت أطفال وترملت نساء.
كذلك الحروب المدمرة التي تحدث بين الناس هنا وهناك وتأخذ الكثير من المحاربين ومن الأبرياء. كذلك تزايد صلف اليهود وعدوانهم في فلسطين وفي القدس وتجرؤهم على الآمنين والعزل وانتهاب أموالهم وأراضيهم بين حين وحين كذلك ما يحدث من مجازر بين المسلمين بأيدي الشيوعيين في أفغانستان،.... وإراقة الدماء في لبنان وما حول لبنان.
كل ذلك وغيره مما لم نذكره كثير هو من قبيل ما أشرنا إليه إلا أنني أحسب أن أكثر الناس لم يتعظوا ويأخذوا منه درسا يستفاد منه.
ولعل مرد ذلك إلى الغفلة الجاثمة على النفوس الآبقة غفلة عن الله والدار الآخرة التي جرت إلى الغفلة عن مصالح الناس حتى في أمور معاشهم وصدق الله القائل: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم} .
هذا الأمر أردت الإلماح إليه في مطلع حديثي مع القراء الكرام لما له من أهمية بالغة في واقع الناسك ومستقبلهم ولعل الله يهدي قلوبنا ويصلح أعمالنا جميعا.
والكلمة الثانية فيما يخص هذه الجامعة فلعل من المفيد أن أنقل القارئ الكريم إلى رحابها ليعيش لحظات بين جنباتها لأنها مؤسسة تهمه باعتبارها جامعة لكل المسلمين كما قال صاحب السمو الملكي الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء والرئيس الأعلى لهذه الجامعة وكما هو واقعها بالفعل.
إن للجامعة حاضرا هو ما تضمه من كلياتها الخمس ومعهد ثانوي ومعهد متوسط وشعبة لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها ودارين للحديث إحداهما بمكة المكرمة والثانية بالمدينة المنورة هذا إلى جانب قسم الدراسات العليا لكل التخصصات الموجودة في الكليات.
ويوجد فيها زيادة على ذلك المرافق المساندة كالمكتبة العامة والمكتبات الفرعية لكل وحدة والمطبعة المجهزة بأحدث ما وصل إليه علم الإنسان مما علمه الله إياه في هذا الفن، لطباعة الكتب والمراجع والدوريات إلى غير ذلك. وكذلك يوجد مجلس لشئون الدعوة، يهتم بكل ما يتصل بالدعوة إلى الله في حدود إمكاناته واختصاصاته المحددة في لائحته المقرة من المجلس الأعلى للجامعة؛ مما يهتم به توزيع الكتب لشتى أنحاء العالم وهناك مجلس علمي ملحق به مركز للبحث.
ويوجد أيضا عمادة لشئون الطلاب تهتم بخدمة الطالب والقيام على راحته، وعمادة لشئون القبول والتسجيل تبدأ مع الطالب أكاديميا من أول ورقة تقدم منه إلى آخر ورقة يأخذها من الجامعة.
وقد بلغت ميزانية الجامعة لهذا العام 1400-1401هـ قرابة ثلثمائة مليون ريال وقد بدأت ميزانيتها بثلاثة ملايين عام 1381 هـ.
أما طلاب الجامعة في هذا العام فهم أكثر من ستة آلاف طالب كلهم يتلقى من الرعاية ما يمكنه من التحصيل العلمي والتربوي بيسر وسهولة؛ إذ يتقاضى الطالب مكافأة شهرية تبدأ بثلاثمائة ونيف وتنتهي بحوالي ألف ريال في الدراسات العليا إلى جانب البدلات للملابس والمراجع والترحيل من تأمين الوجبات الغذائية، والمواصلات من الجامعة إلى وسط المدينة والعكس يوميا والسكن المجهز بوسائل الراحة والرعاية الصحية المتواصلة؛ مع منح كل طالب تذكرة سفر جوية ذهابا وإيابا إلى بلده كل سنة خلال الإجازة الصيفية.. إلى غير ذلك من التسهيلات التي تقدمها الجامعة لطلابها.
هذا ما يخص حاضر الجامعة باختصار.
أما ما يتعلق بمستقبلها من الخير إن شاء الله فيشتمل على:
1-
إقامة مشروعها العام وهو ما يسمى بالمدينة الجامعية المتكاملة بكلياتها ومعاهدها ومدارسها ومساكنها للأساتذة والطلاب والموظفين مع المرافق اللازمة لهذه المدينة.
والجامعة تتخذ الخطوات اللازمة للبدء في هذا المشروع، وأول هذه الخطوات العملية التصاميم والاتفاق مع المشرفين على التنفيذ. وهذه الخطوة تمضي بالجامعة الآن إلى الأمام للالنزام بها قريبا إن شاء الله تعالى.
2-
إنشاء كليات جديدة تتطلبها حاجة المسلمين وسيعلن عنها في حينها وقد أنشئ في كلية الدعوة وأصول الدين هذا العام قسم للإعلام ستبدأ الدراسة فيه فور ما تستكمل متطلباته إن شاء الله تعالى.
3-
ستسهم الجامعة بحول الله في تعليم الفتاة المسلمة في الدراسات الجامعية والأبحاث ماضية الآن في دراسة هذا المشروع ومتى أخذ حظّه من الدراسة رفع إلى المجلس ا! لأعلى للنظر في إقراره.
4-
إنشاء الحاسب الآلي ليخدم أجهزة الجامعة فنيا وإداريا.
5-
وهناك تفكير جاد في دراسة إنشاء بعض التخصصات العملية كالطب والهندسة استجابة لحاجة الأقليات المسلمة ليجد الطالب المتخرج من الجامعة الإسلامية وسيلة عيش كريم وهو يسهم في أداء الدعوة إلى الله تعالى. ونسأل الله أن يقدر الذي هو خير.
وإذا ذكرنا الجامعة الإسلامية، فإنا نذكر الذي وراء تأسيس هذه الجامعة في ظروف كان المسلمون أشد ما يكونون حاجة إلى مثلها ففي نفس الوقت الذي صدر فيه الأمر بتأسيس الجامعة يصدر قرار من خارج المملكة بإضعاف مؤسسة ضخمة مماثلة فكأن الله تبارك وتعالى أراد أن يكون البديل الصالح هذه الجامعة في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر جلالة الملك سعود رحمه الله بتأسيس الجامعة وتولى رعايتها جلالة الملك فيصل عليهما رحمة الله ومغفرته. وخلف بخير خلف والحمد لله جلالة الملك خالد وتوالى تعاهدهم لها بالرعاية والدعم وأكد هذه الرعاية الكريمة بأن أسند الرئاسة العليا فيها لصاحب السمو الملكي الأمير فهد ولي عهده حفظهما الله وبارك في جهودهما. وما زالت هذه الرعاية تتنامى وتزداد. ثم تكرم جلالته بتشريف أسرة الجامعة بالزيارة الكريمة الموعود بها يوم الأحد 29/1/1401 هـ على إثر تفضله بافتتاح مشروع التحلية الذي سيمد المدينة بالماء العذب بالرغم من كثرة مشاغله العديدة لفتة من جلالته إلى بالغ العناية بأهم مرفق تعليمي أسسته المملكة لأبناء العالم الإسلامي. أسأله تعالى أن يبارك في جهوده وجهود إخوانه وأعوانه. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه بدأ ونهايةَْ.
بيئات التربية الإسلامية
للدكتور عباس محجوب
يقصد بالبيئات الأمكنة التي تتم فيها العملية التربوية لما لتلك البيئات من وظائف تربوية تقوم بها مع التركيز على الصفة التربوية لهذه البيئات وتشمل هذه البيئات الأسرة والمسجد والمدرسة والمجتمع.
أولا: الأسرة
تعتبر الأسرة المكونة من الأبوين أقدم مؤسسة اجتماعية للتربية عرفها الإنسان إذ إنها كانت ولا تزال المؤسسة الوحيدة التي تعلم وتهذب الطفل وتنقل إليه عن طريق الأب خبرات الحياة ومهارتها المحدودة ومعارفها البسيطة وكانت القبيلة هي التي تساعد الآباء في عملية التربية وكثيرا ما كان الإبن وارثا لمهنة والده التي تعلمها ومارسها معه ولا زالت الأسرة في المجتمعات المختلفة هي مصادر التربية والمعرفة بالنسبة لأبنائها، وقد أدى تطور الحياة البشرية واستقرار الإنسان وبناء المجتمعات المدنية والقروية وزيادة الخبرات البشرية وتعدد أنواع المعرفة البشرية إلى إن تشارك مؤسسات أخرى الأسرة في واجب الرعاية والاهتمام والتربية والتوجيه وتخلت الأسرة عن بعض ما كانت تقوم به بالرغم من أنها ظلت المؤسسة الأولى في حياة المجتمع الحديث أيضا في التربية.
كانت الأسرة تقوم بواجب التربية من الناحية الصحية والجسمية فيوفر الأبوان لطفلهما الطعام والشراب والكساء والمأوى ثم تعليمه المهنة التي يعيش بها في المستقبل وغالبا ما تكون مهنة الوالد على حين تتعلم البنت أمور البيت وقد تساعد في أعمال الزراعة مع أمها، ولكن تطور الحياة جعل الأسرة تسعى إلى تعليم أبنائها وأصبحت المدرسة المؤسسة الثانية بعد الأسرة.
وقد سبق أن تحدثنا عن بعض المهام التربوية التي تقع على عاتق الأسرة المسلمة وأهمها إيجاد الأم الصالحة للأبناء ورعاية الأمهات ثم اختيار الاسم الصالح للأبناء وتعهدهم بالرعاية والتربية الدينة والتوجيه إلى المثل العليا والتمسك بالفضائل وغيرها مما لا نود تكراره.
وأول الحاجات الضرورية التي يجب أن توفرها الأسرة هو حاجة الطفل إلى الحب والعطف والحنان ولا يمكن توفر ذلك في أسرة لا تقوم أساسا على المودة كما يقول الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [1] لأن هذه المودة بين الوالدين تنتقل إلى الأولاد فتسود المحبة جو العائلة وقد أثبتت الدراسات النفسية أن الطفل إذا أحس بفقد العطف والحنان والرعاية ترجم ذلك في تصرفات يريد بها إثارة الانتباه واستدرار عطف والديه ثم تنعكس هذه الآثار في مستقبل الطفل فيصبح قاسيا في سلوكه ساخطا على المجتمع.
ولذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام أرحم الناس بالأطفال وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجا لما يجب أن تكون عليه العلاقة الأسرية بين الأبناء والآباء فقد كان يحنو على الحسن والحسين
…
يمتطيان ظهره الشريف فيحبو بهما ويخاطبهما وقد أطال الرسول صلى الله عليه وسلم السجود مرة فسئل عن ذلك فقال: "إن ابني ارتحلني فكرهت أن اعجل حتى يقضي حاجته"[2] وقد حدث أن كان عليه الصلاة والسلام يقبل الحسن وعنده أعرابي يتعجب من ذلك ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم: "إن لي عشرة الأولاد ما قبلت أحدا منهم قط"فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم لا يرحم"[3] وفي رواية: "أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟ "، وفي هذا المعنى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر"[4] ، وكان صلى الله عليه وسلم رحيما بالصبيان عامة يسلم عليهم إن رآهم ويتسابق معهم إن رآهم يتسابقون ويلتقي بصبيان أسرته إذا عاد من سفر ويركب على ناقته من يلقاه منهم.
وهذا النوع من التربية للأطفال يؤدي إلى نتيجتين أولاهما إشباع حاجة الطفل الغريزية للحب والعطف والحنان والرعاية وثانيهما انتقال هذه الصفات منه إلى الآخرين كبارا كانوا أم أطفالا.
إن الإسلام عندما وضع على عاتق الأم أعظم مهام الحياة وهي التربية للأجيال وبناء الإنسان كان ذلك من معرفة الإسلام بأن التربية الصحيحة لا تتوفر إلا في الأسرة التي تستطيع المرأة فيها أن تعطي وقتها لبيتها وزوجها وأطفالها وأن توفر لهم جميعا المأوى الدافئ والجو المليء بمعاني العطف والمودة والرحمة.
إن المجتمعات الحديثة وقد خرجت فيها المرأة مع الرجل إلى العمل جعلت الأبوين منصرفين عن العناية والرعاية لأطفالهما لأنهما يعودان من العمل منهكين متعبين محتاجين إلى الراحة الجسدية مما يفقد أبناءهما عواطف المحبة والرحمة والنظر في مشاكلهم التربوية والتعليمية وحاجتهم إلى الحنان والرعاية ومثل هذه الأسرة لا تفقد أبناءها ما تقدم بل تجعلهم يتعلمون كثيرا من أنواع السلوك السيء والعادات الضارة من الشارع أو صحبة الأشرار أو الخدم في البيوت.
إن واجب الأسرة في الإسلام توجيه الأطفال إلى الصلاة وعبادة الله {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} ومراقبة تنفيذ هذا الأمر وأخذهم بشدة في سن العاشرة والتفريق بينهم في المضاجع والاستئذان في الأوقات التي حددها القرآن لأن الطفل لا بد أن ينشأ على السلوك الإسلامي الذي يخضع النظام الأسري فيها لتعاليم الإسلام ونظمه في المأكل والملبس والسلوك وكل شأن من شؤون الحياة، وعن دور الأسرة في تربية الأولاد يقول الغزالي: "اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها، والصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة
…
وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك
…
ورياضته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق، ويحفظه من قرناء السوء.. ومهما رأى فيه مخايل التمييز فإنه ينبغي أن يحسن مراقبته، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء، فإنه إذا كان يحتشم ويستحي ويترك بعض الأفعال فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه، حتى يرى بعض الأشياء قبيحا ومخالفا للبعض فصار يستحي من شيء دون شيء، وهذه هدية من الله تعالى إليه، وبشارة تدل على الأخلاق، وصفاء القلب، وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ فالصبي المستحي لا ينبغي أن يهمل، بل يستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه، وإن الصبي إذا أهمل في بدء نشأته خرج في الأغلب رديء الأخلاق، كذابا حسودا، سروقا، نماما لحوحا، ذا فضول وضحك، وكيد ومجانة، وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب ثم يشغل في المكتب فيتعلم القرآن وأحاديث الأخبار، وحكايات الأبرار وأحوالهم ليغرس في نفسه حب الصالحين ويحفظ (بضم الياء وسكون الحاء وفتح الفاء) من الأخبار التى فيها ذكر العشق وأهله
…
ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود فإنه ينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح ويمدح بين أظهر الناس فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة ينبغي
أن يتغافل عنه وألا يهتك ستره ولا يكاشفه، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه وإن عاد ثانية ينبغي أن يعاتب سرا ويقال له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا فتفضح بين الناس، ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين، فإنه يهون عليه سماع الملامة، وركوب النتائج ويسقط وقع الكلام من قلبه، وليكن حافظا هيبة الكلام معه، فلا يوبخه إلا أحيانا، والأم تخوفه بالأب وتزجره عن القبائح"ويقول أيضا: "وينبغي أن يعود ألا يبصق في مجلسه ولا يتمخط، ولا يتثاءب بحضرة غيره، ولا يستدبر غيره، ولا يضع رجلا على رجل، ولا يضع كفه تحت ذقنه، ولا يعمد رأسه بساعده فإن ذلك دليل الكسل، ويعلم كيفية الجلوس، ويمنع كثرة الكلام، ويبين له أن ذلك يدل على الوقاحة، ويمنع الحلف رأسا، صادقا كان أو كاذبا حتى لا يعتاد على ذلك من الصغر.
ويمنع أن يبتدئ بالكلام، ويعود ألا يتكلم إلا جوابا وبقدر السؤال، وأن يحسن الاستماع مهما تكلم غيره ممن هو أكبر منه سنا وأن يقوم لمن فوقه، ويوسع له المكان، ويجلس بين يديه، ويمنع من لغو الكلام وفحشه، ومن اللعن والسب ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك، فإن ذلك يسري لا محالة من قرناء السوء وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء
…
وينبغي أن يعلم طاعة والديه ومعلمه ومؤدبه وكل من هو أَكبر منه سنا من قريب وأجنبي ومهما بلغ من التمييز ألا يسامح في ترك الطهارة والصلاة، ويؤمر بالصوم في بعض أيام رمضان.
إن الأسرة التي تقوم بالواجبات التي سبق ذكرها والتي هي جماع لما يسمى الآن بالتربية الخلقية والجسمية والعقلية والاجتماعية، لهي أسرة مثالية قادرة على تخريج رجال نافعين لأنفسهم ولأمتهم، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم واجبات الأسرة نحو أبنائها فيما ذكرنا من الرحمة والشفقة والعطف عليهم لأن تلك الأمور تعطي الأطفال الاطمئنان النفسي والثقة بالذات
…
والنشأة السوية والاهتمام بالواجب كما دعا الإسلام إلى التعويد على الصلاة باعتبارها عماد الدين كما أن على الأسرة أن تملأ فراغ الأطفال باللعب وتعلم فنون القتال وما يقوي الأجسام والقراءة النافعة الموجهة وقفل أبواب الفساد والانحراف وذلك بالتوجيه لهم إلى الصحبة الطيبة وإبعادهم عن رفاق السوء ومراقبتهم الدائمة من غير مضايقة لهم أو إشعارهم بذلك، كما أن حسن معاملة الوالدين لبعضهما ولأولادهما هو خير طريقة لتربيتهما لأن المعاملة القاسية والإحباط الدائم بالتوبيخ والضرب والإهانة والسخرية تؤدي إلى نتائج سيئة أهمها فقدان الثقة بالنفس وحب العزلة عن الناس والخوف وعدم تحمل أي مسئولية في الحياة والاعتماد على الغير، وربما الاتجاه نحو الجريمة والانحراف والشذوذ، ولذلك دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرحمة والرفق ولين الجانب وعذوبة الألفاظ والتوجيه الحسن والعقوبة المعقولة فالرسول صلى الله عليه وسلم يخبر بأن الراحمين يرحمهم الرحمن وأن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على سواه ويقول:"إن أراد الله تعالى بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق، وإن الرفق لو كان خلقا لما رأى الناس خلقا (بفتح الخاء) أحسن منه وإن العنف لو كان خلقا لما رأى الناس خلقا أقبح منه".
وأهم واجبات التربية الأسرية أيضا التربية الإيمانية للطفل وذلك بتوجيه عواطف الطفل نحو حب الله وحب رسوله وإخباره بأن الله يجب أن يكون أحب إليه من أمه وأبيه ونفسه التي بين جنبيه وإلى جانب عاطفة الحب تكون عاطفة الخوف من الله لأن العاطفة الأولى تؤدي إلى طاعة الله والعمل بما أمر والثانية تؤدي إلى البعد عن المعاصي قولية أو فعلية ظاهرة أو باطنة والأطفال يستهويهم الحديث عن الله وحبه والجنة والنار ووسائل الوصول إليهما، وعلى الآباء إشعار أبنائهم بأن حبهم له ينشأ من حاجتهم الدائمة إليه هم وآباؤهم لأن كل شيء بيد الله، الإحياء والإماتة والشقاء والسعادة، والرزق والنعمة والهداية والضلال وهذه الحاجة هي التي جعلتنا نحبه أولا ونقوم بواجب الشكر ثانيا من اتباع ما أمر واجتناب ما نهى، ويمكن غرس هذه المعاني في الطفل ساعة وصوله إلى مرحلة الاستغناء عن أمه ونمو قواه الجسمية والعقلية بحيث يستطيع فهم التوجيهات القرآنية والنبوية في ذلك وبحيث يستقر في قلبه أن مصدر كل شيء في الوجود هو الله، وتوجيهه إلى بعض الأحاديث مثل الحديث القدسي:"يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجال واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه"وكما روي الحديث.
إن غرس الإيمان الحقيقي في نفوس الناشئة والإيمان المطلق بالله بصفاته الثابتة له وحبه والخضوع له والخوف منه والالتجاء إليه في كل أمر هو سر السعادة للأبناء والأسرة خاصة إذا أثبتت العقيدة بالطرق التربوية السليمة التي تقوم على العاطفة والعقل والعلم والحكمة حتى يكون الإيمان هو مصدر السلوك وموجه الإنسان في الحياة، والرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا التدرج في تربية الأولاد فيقول فيما رواه ابن عباس:"افتحوا على صبيانكم أول كلمة بلا إله إلا الله" ثم أمرهم بالصلاة في السابعة ثم تأديبهم على حب النبي وآل بيته وتلاوة القرآن وتعريفهم بالحلال والحرام ممارسة أمامهم وتلقينا وتوجيها لهم بامتثال الأوامر واجتناب النواهي ووعظا بتوصيلهم إلى بعض الأمور كما كان يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم مع ابن عباس.
إن الأسرة هي البيئة الأولى التي يتعلم فيها الطفل فإذا وجد الأبوين الصالحين اللذين يرعيان ويوجهان ويحسنان التربية نشأ الأطفال نافعين لأنفسهم ولأمتهم ومطيعين لربهم منجين لأنفسهم وأهليهم من عقاب الله وسخطه.
ثانيا: المسجد:
أخذت الكلمة من أصلها الاشتقاقي وهو السجود لله سبحانه وتعالى فكان المكان الذي يخضع فيه الإنسان ويخشع لله هو المسجد، ومسجد قباء هو أول مسجد في الإسلام أسس على التقوى من أول يوم مما جعل المسجد على مر العصور رمزا لحضارة الإسلام وأماكن التربية والعبادة للمسلمين، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى المهام التربوية التعبدية للمسجد فقال:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [5] .. وقد وردت لفظة "مسجد"بالمفرد والجمع ثمان وعشرين مرة في القرآن كما وردت اللفظة كثيرا في السنة المطهرة مرتبطة بالبناء والتربية ورسالة المسجد، فالمسجد في الإسلام من أهم الأسس التي يقوم عليها تربية الفرد وبناء المجتمع ويمكننا أن نحدد المهام التربوية الوظيفية للمسجد من خلال القرآن والسنة فيما يلي:
1-
المسجد مكان الصلاة والذكر والعبادة {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [6]{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ويقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [7] والمسجد هو مكان العبادة الجماعية وصلاة الجماعة التي يحسن بالمسلم أن يحرص عليها ففي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: "ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط، فذلكم الرباط"[8] .
والمساجد مكان الاعتكاف {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} .
2-
المسجد مكان العلم والتعلم وأول ذلك دراسة القرآن الكريم يقول عليه الصلاة والسلام: فيما رواه أبو هريرة "
…
وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده" [9] .
ويقول عليه الصلاة والسلام: "أفلا يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد يتعلم أويقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير من أربع ومن أعدادهن من الإبل"، وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله تعالى وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [10] .
3-
المسجد مكان القضاء والحكم والشورى ومجمع للوزارات الإسلامية فقد كان المسجد هو مكان الحاكم والمدرسة التي تربى فيها الرعيل الأول من الصحابة إيمانيا وروحيا وخلقيا واجتماعيا وتفاعلت أرواحهم ونفوسهم بتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم وعطائه وقدوته، تعلموا فيه أمور الدين وعرفوا فيه الحلال والحرام كما تعلموا فيه علوم القرآن والسنة والشريعة واللغة وعلوم الحياة كلها، وتحققت فيه معاني الأخوة ممارسة وواقعا وتعاونوا على البر والتقوى واطمأنت فيه قلوبهم بذكر الله، وضربوا المثل النادر في التفاني والحب والإيثار والرحمة واختاروا فيه الخلفاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم وكل خليفة يلقي بيان سياسته وأسس حكمه فيه ابتداء بأبي بكر الصديق، وفيه تقاضى المتنازعون ففيه أصدرت الأحكام بإقامة حدود الله، وفيه قاضى كعب بن مالك رجلا دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا:"يا كعب ضع عن دينك هذا"فقال: قد فعلت يا رسول الله. فقال: "قم فاقضه"[11] وفي المسجد أقيمت بعض ألعاب الفروسية فقد روت عائشة عن الرسول صلى الله عليه وسلم قولها: "دعاني رسول الله والحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد فقال: يا حميراء أتحبين أن تنظري إليهم فقلت: نعم فأقامني من ورائه فنظرت من وراء منكبيه"قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتعلم يهود أن في ديننا فسحة" [12] ، وكان المسجد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانا لإيواء الفقراء والغرباء الذين عرفوا بأهل الصفة بالمكان الذي خصص لهم، وكان فيه سبعون من الفقراء منهم أبو هريرة رضي الله عنه وفيه حبس بعض الأسرى وفيه كان الجرحى يداوون فقد روت عائشة فقالت: "أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق في الأكحل فضرب رسول الله خيمة في المسجد ليعودوه من قريب" [13] ومن المسجد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه يدبرون شؤون الأمة والدولة والدعوة
ويرسلون السفراء ويجهزون الجيوش ويضعون الاستراتيجيات ويخططون ويمارسون نظام الشورى وإذا جدّ أمر واستدعى قرارا سريعا ورأيا قاطعا نودي (الصلاة جامعة) فيجتمع الناس ويتشاورون، وفيها ينتخب العمال ويرسلون ويحاسبون وتوزع فيها أموال الزكاة والصدقات ويعقد فيها النكاح فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه الدفوف"[14] ومنه تعطى الشهادة بالنجاح مع الله للمسلم إذ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة"[15] وبالتردد عليها يشهد للرجل بالإيمان فقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "إذا رأيتم الرجل يرتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان"[16]، وهذا تأكيد لقول الله تعالى:{إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} .
إن المسجد يمكن أن يؤدي دوره الأول في حياة المسلمين وتربية أبنائهم وتوجيههم في النواحي الروحية والأخلاقية والاجتماعية حيث يتعلم فيها ويستمع إلى الموعظة النافعة ويخطط فيها لرعاية الشباب وممارسة نشاطاته ويتعلم فيها النواحي الدينية وما يتعلق بمناهج الحياة وأمور التشريع، إن المسجد يمكنه ممارسة مهامه الأولى في التربية إذا كان للحاكم مكان فيه وإذا كان التخطيط للأمة المسلمة في ربوعه وإذا جعل المسجد مكانا لمناقشة الدراسات التي تقدمها اللجان المتخصصة في السياسة والتعليم والتربية والمال والشئون البلدية وما إليها.
إننا نلحظ الآن لدى المسلمين اتجاهات إلى تحقيق رسالة المسجد الأولى ببناء المساجد والمدارس وقاعات المحاضرات والندوات والمستشفيات في مبنى واحد حتى يمكن للمسلمين أن يقضوا أمورهم كلها في ذلك المبنى، كما أننا نجد في كثير من البلاد اتجاه الشباب إلى جعل المسجد منارة للعلم ومكانا للمحاضرات ومجلسا شوريا للحي الواحد، وهذا يقضى أن يكون من يتولون الأمر على درجة من العلم والمعرفة بشؤون الدين والدنيا وأن يكون الخطباء في مستوى الإسلام وتعاليمه ومعارفه وفي مستوى الحياة ومشكلاتها وهمومها حتى يكون الخطيب إمام الناس حقا في أمور د ينهم ودنياهم.
إن المسجد عامل مهم من عوامل التربية وبناء الأفراد والأمم فيه يعلَّم النشء الحلال والحرام وأمور الدين والدنيا وأحوال المسلمين وتاريخهم وهمومهم ومشاكلهم وفيه تتحقق معاني التعاطف والمودة والرحمة والتعارف والتعاون وفيه يتدارس الناس القرآن وعلوم الدين وتصقل فيه المواهب وتقوى النواحي الروحية والجسمية والعقلية والوجدانية ففي كل خطوة إلى المسجد تحط خطيئة وتكتب حسنة فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: طمن تطهر في بيته ثم مضى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة".
ولا يمكن للناشئة أن يكونوا على صلة بالمساجد ما لم يكن الآباء قدوة لهم في ذلك
…
يشجعونهم ويأخذونهم معهم ويربطونهم بدروسه ونشاطاته المختلفة حتى ينشأ الشباب في رحاب الله وفي بيت من بيوته.
المسجد ودوره في محو الأمية وتعليم الكبار:
يقول العبدري في كتابه المدخل: "أفضل مواضع التدريس هو المسجد؛ لأن الجلوس للتدريس إنما فائدته أن تظهر به سنة أو تخمد به بدعة أو يتعلم به حكم من أحكام الله تعالى والمسجد يحصل فيه هذا الغرض متوافرا، ولأنه موضع لاجتماع الناس رفيعهم ووضعيهم وعالمهم وجاهلهم"[17] وهو يقصد بهذا تعليم الكبار العلوم الدينية، ويرى الدكتور عبد الفتاح جلال:"أن المسجد كان على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أول مدرسة لتعليم الكبار كان عليه الصلاة والسلام المعلم والصحابة الكرام تلاميذها العباقرة الأفذاذ إذ تعلموا فيها كل أنواع العلم والمعرفة التي تفيد الإنسان في الدنيا والآخرة وتبني جميع جوانب شخصيته فيخرج منها متكامل الشخصية حقا"[18] ويرى هذا الباحث المتخصص في التعليم الوظيفي أن من احتياجات المجتمع المعاصر لبعض وظائف المسجد ما يلي:
1-
إمكانية قيام المسجد بدوره في تعليم الأميين تعليما يربطهم بدينهم إذ بلغوا خمسين مليونا في البلاد العربية وحدها.
2-
تعاون المسجد مع المؤسسات الاجتماعية في تقديم التعليم المفيد لنسبة كبيرة وقف تعليمها في المرحلة الابتدائية وتعاني نقصا في مهارات الكتابة والقراءة والثقافة العامة أو الدينية.
3-
سد المسجد للثغرات الموجودة في مناهج التعليم فيما يخص التربية الدينية التي يغلب عليها في مدارسنا طابع التلقين والهامشية.
4-
الاستعانة في المسجد بذوي الخبرات والمعرفة لتقديم المحاضرات لكبار المتعلمين الذين يحتاجون إلى مزيد من العلم في جوانب متعددة ومتنوعة وتساعدهم على أداء أعمالهم.
5-
إقامة مكتبة مزودة بالكتب الدينية والعلمية والثقافية الهامة والمفيدة في المسجد لتحقيق الربط العضوي الفعلي بين العلم والدين.
6-
مشاركة المسجد في تنمية المجتمع وتطويره وتقدمه وانتشاله من مظاهر التخلف الاجتماعي والاقتصادي.
7-
أن يشمل تعليم الكبار الرجال والنساء بدءا بالكتابة والقراءة إلى أعقد أمور التخصص وأرفع درجات المعرفة.
إن المسجد لا يمكن أن يقوم بدوره في المجتمع الحديث المعقد ما لم يستفد من الإمكانات المتاحة وما لم يتفاعل مع الناس ومشكلاتهم وحياتهم يقدم لهم الحلول والعلوم ويستفيد من العلماء الصالحين والمتخصصين في صفوف المعرفة ويزود بالمكتبات العلمية الضخمة والوسائل العلمية الحديثة في مجال التعليم والتربية.
ثالثا: المدرسة:
إن المدرسة مؤسسة اجتماعية حديثة العهد في العالم فكما ذكرنا فإن الأسرة ثم القبيلة هي الوسائل التي عرفتها البشرية لتربية الأولاد وإكسابهم المهارات التي يراد لهم تعلمها وبتطور الحياة أصبحت الحاجة ماسة إلى اتخاذ مكان يتعلم فيه الصغار وإلى أشخاص ينوبون عن المجتمع في أداء هذه المهمة، ولم يعرف المسلمون المدرسة بالصورة التي نعرفها إلا في القرن الخامس الهجري نسبة إلى ارتباط التربية والتعليم في الإسلام بالمسجد وكان للمسجد دوره الذي ذكرناه في تحمل مسؤولية نشر الثقافة الإسلامية والمعارف الإسلامية وكان كثير من العلماء يرون عدم تدريس الأولاد في المساجد لتزايد أعدادهم وما يحدثه وجودهم في المسجد من حركة وضجيج زيادة على كثرة المواد التي تدرس وما يترتب عليها من نقاش وحوار وجدل ومناظرة مما جعلهم ينشؤون المدارس مرتبطة بالمساجد ويخصصون فيها ما عرف بـ (الإيوان) قاعة المحاضرات وأمكنة لإيواء الطلاب والمدرسين وما يتبع ذلك من مرافق كالمطبخ وحجرة الطعام وغيرها [19] . ومع ذلك ظل المسجد الجامع في حياة المسلمين منارة العلم وإشعاع النور.
وقد اختلفت نشأة المدرسة في تاريخ الإسلام عن نشأتها عند الأمم الأخرى لارتباط التعليم بتعاليم الإسلام ونظرته في اعتبار التعليم حقا وفريضة على كل مسلم وهو ما يسمونه الآن بديمقراطية التعليم فلم يكن التعليم في الإسلام مقتصرا على ما يسمى برجال الدين أو أبناء الحكام والطبقات الراقية.
إن المسلمين كان لهم الفضل باتصال الغرب بهم عن طريق الأندلس والمغرب والقسطنطينية وعن طريق إيطاليا والحروب الصليببية في توجيه الغرب إلى نقل التراث الإسلامي العربي وإنشاء الجامعات والمدارس التي اتخذت صفات كثيرة، ولكن المسلمين بعد نكستهم وتخليهم عن مناهج تربيتهم وتعليمهم اقتبسوا نظام المدارس في صورتها الراهنة من الغرب عن طريق الإرساليات وغيرها بعد أن جرد الغرب التعليم من الصفة الدينية وصبغه بصبغة علمانية بعيدة عن الدين.
إن المدرسة الإسلامية كما ذكرنا تجعل التعليم والتربية حقا لكل مسلم وليست امتيازا لطبقة أو فئة من الناس وإنَّ اتجاه الناس إلى التعليم يجعل المسؤوليات التربوية للمدرسة أكبر من المسجد إذ إن المدرسة قد انفصلت الآن كبيئة تربوية لا تكتفي بإعطاء المعلومات والمعارف بل هي أداة للتربية المتكاملة عقلية وجسدية وعاطفية ووجدانية ويمكننا أن نشير إلى بعض الوظائف التي يمكن للمدرسة بها أن تكون وسطا صالحا للتربية الإسلامية.
1-
اختيار المنهج الدراسي الإسلامي:
إذ إن المناهج الدراسية لدى المسلمين كانت تراعي عدة أمور من أهمها مراعاة ميول الأطفال ورغباتهم ومراعاة الفروق الفردية إذ إن الطفل يفهم ما بإمكانه أن يفهمه والاختلافات الفردية قد ترجع إلى طبيعة التربية أو البيئة أو السن أو مستوى الذكاء ولذلك طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من سيدنا عبد الله بن عباس أن لا يحدث الناس بما لا تحتمله عقولهم والشريعة الإسلامية تراعي الاستعداد الشخصي حتى في العبادات فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم فانتهوا" ويقول الغزالي في ذلك: "وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم، كذلك المربي لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم وإنما ينبغي أن ينظر في مرض المريض وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله نفسه من الرياضة ويبني على ذلك رياضته"[20] .
والقرآن الكريم يقول مبينا هذه الفوارق في الاستعدادات: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [21]، ويقول عليه أفضل الصلاة والتسليم:"مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"[22] ، وفي أحاديث كثيرة يطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من المسلم ألا يذل نفسه بتعريضها لما لا تطيق من البلايا كما يطالب بالقصد في كل شيء.
2-
مراعاة الطبيعة النفسية للبشر:
وهذا يتطلب من المدرسة أن تكون بعيدة عن العنف والقسوة ومكانا للرحمة والرفق والتوجيه بالوسائل الحسنة فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة: "عليك بالرفق فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه"[23]، والإسلام يهدف إلى إيجاد المسلم اللطيف الرقيق الرفيق الذي يكره العنف والقسوة والفظاظة والغلظة إذ أن العنف لا يلد إلا العنف ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"[24] .
3-
الاستفادة من الخبرات الإنسانية:
من المهام الأساسية للمدرسة نقل خبرات الأجيال السابقة لما بعدها وهذه الخبرات تراث إنساني يستفيد به المسلمون بالنافع منه والمتفق مع عقيدتهم ويتركون ما لا يتفق معهم بعد التعرف على جوانب السوء فيه، والإسلام دين متطور يدعو إلى التحرر من ربقة التقاليد والأفكار البالية لأن الحرص على المعتقدات الفاسدة بحجة المحافظة على التراث قد يقود إلى الضلال والكفر:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [25] ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.
4-
الحب للفضيلة والكراهية للرذيلة لذاتهما:
إن التربية تهدف إلى جعل الأخلاق عادة في سلوك الإنسان وأن يكون اتجاه المسلم إلى الخير نابعا من الحب للخير واجتناب الشر نابعا من كراهية للشر لأنه شر في السر والعلانية وتحت كل الظروف والأحوال فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} [26]
…
فمحك الفضيلة والكمال الخلقي أن يصدر العمل عن طبيعة ثابتة في حب الخير سرا وعلنا ولذلك وسع الإسلام في دائرة الخير فجعل كل فعل خير صادر من المسلم نحو المسلم صدقة حتى الإمساك عن الشر صدقة لمن لم يجد ما يفعله إيجابا بل إن فعل الخير نحو الحيوان صدقة لا تصدر إلا من طبع فطر على حب الخير وجبل عليه، وقد وصف القرآن الطبائع التي مارست حب الفضيلة في واقع الحياة فقال:{وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [27]، كما وصفهم بقوله:{وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [28]، فالذي صبغ نفسه على حب الفضيلة يكره بداهة الرذيلة والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"أعينوا أولادكم على البر".
إن المدرسة تستطيع تحقيق التربية الأخلاقية الكاملة كما ذكرنا عن طريقين: الأولى: الطريقة غير المباشرة بأن تكون المؤسسات الاجتماعية والمواد المدرسية وسلوك المعلمين ومن لهم صلة بالتعليم متمشية مع الأخلاق والسلوك الإسلامي والثانية تدريس علم الأخلاق كعلم مستقل بذاته.
إن المدرسة هي البيئة التي يتعلم فيها الطفل ويعبر فيها عن رغباته وميوله ويظهر فيها إمكاناته وقدراته وعلى المدرسة أن ترى ذلك كله وتوجه وتكمل رسالة البيت والمسجد لأن عمل كل واحد مكمل لعمل الآخر في تنمية شخصية الطفل وإعداده لحياته المقبلة ليكون على صلة بالله طيبة وبالمجتمع مفيدة وبالوطن مصدرا للخير والعطاء.
المعلم هو حجر الزاوية في العملية التربوية كما يقولون فالمدرسة تقوم بدورها بواسطة المعلم لذلك كان لا بد من إعداده لمهمته واختياره من النخبة الطيبة لذلك ركز علماء التربية قديما وحديثا على صفات لابد أن تتوفر في المعلم وقد حصر القدماء هذه الصفات في كلمات، فابن سينا يقول:"ينبغي أن يكون مؤدب الصبي عاقلا ذا دين، بصيرا برياضة الأخلاق، حاذقا بتخريج الصبيان، وقورا رزينا، غير كز ولا جامد، حلوا لبيبا ذا مروءة ونظافة ونزاهة"[29]، ومن خلال تلك الآراء نستطيع أن نحدد الصفات الواجب توفرها في المعلم المسلم فيما يلي:
1-
الورع وتقوى الله: وذلك بمراقبة الله سبحانه وتعالى في السلوك والأقوال فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم" والمعلم أب لأولاده يوجههم إلى الخير ويلتزم به في سلوكه والرسول صلى الله عليه وسلم يخبرنا أن أكرم الناس أتقاهم وأن أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحسن الخلق، ولا بد أن يكون المعلم ورعا يشعر بأن الله معه أينما كان، وأن مراقبة الله الدائمة هي الموجهة للسلوك والإرادة فإذا لم يكن المعلم تقيا ورعا نشأ أولاده على الفساد والتحلل وانعدام الضمير والرادع.
2-
الإخلاص في العمل: لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه وكل عمل يبتغي به المرء وجه الله فهو عبادة، ولذلك يقول الله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [30] ، ويقتضي الإخلاص أن يكون المعلم واسع العلم عالما بأمور الدين وتعاليم الإسلام وآرائه في الحياة والموت والكون ونظامه الاقتصادي والسياسي والتربوي والتشريعي زيادة على ما في الحياة من مبادئ ونظم وأفكار ثم التمكن من مادته التي تخصص فيها والتعرف على الجديد في العلم عن طريق البحث والاطلاع والصلة بالعلماء وما إلى ذلك، وقد أوصى هشام بن عبد الملك معلم ابنه بقوله:"إن ابني هذا هو جلدة ما بين عيني وقد وليتك تأديبه فعليك بتقوى الله وأداء الأمانة وأول ما أوصيك به أن تأخذه بكتاب الله إلخ"[31] .
3-
الالتزام بالإسلام والعمل له: إن المسلم المعلم في حقيقة الأمر داعية إلى الله على بصيرة وإدراك وعليه أن ينقل هذا المفهوم لطلابه قولا وعملا وسلوكا وممارسة {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} فالربط بين الأقوال والأعمال دليل على الالتزام الأخلاقي بالإسلام وليس الالتزام الفكري فقط، وهذا يقتضي أن تتمثل الفضائل الأخلاقية كلها في سلوك المعلم لأنها مراقبة ومحسوبة عليه مثل الالتزام بالصدق والأمانة والتواضع والعفة في اللسان والجوارح والشجاعة والكرم والمروءة والحب والبغض في الله والرفعة والرقة واللين ودماثة الخلق وما إلى ذلك.
إن المدرسة تمثل نافذة الحياة بالنسبة للأطفال يعيش فيها الطفل وقتا كبيرا من يومه ليتزود بالمعارف والتعاليم والخبرات التي تجعله قادرا على اقتحام الحياة والتكيف معها وأداء رسالته فيها وتحقيق سر وجوده في الأرض وهو معرفة الله وعبادته.
رابعا: المجتمع:
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَاّ نَكِداً} [32] ، وهذه الآية توضح لنا أن التربية لا تتم إلا في إطار اجتماعي وداخل مجتمع مسلم نظيف لأن الطفل لا يمكن تربيته بعيدا عن المؤسسات الاجتماعية مثل البيت والمسجد والمدرسة ووسائل الإعلام وغيرها لما لهذه المؤسسات من أثر تربوي فعال ولما للعادات والتقاليد والأخلاقيات الاجتماعية من تأثير على الطفل والسلوك الإنساني عبارة عن التفاعل بين الظروف الاجتماعية البيئية والطبيعة الإنسانية.
إن المجتمع المسلم يتميز عن المجتمعات الأخرى كما يتميز الفرد عن الأفراد غير المسلمين في عقيدته التي ينشأ منها سلوكه والمصدر الذي يلتقى منه سلوكه والأخلاق التي يتميز بها عن غيره والطرق التي يسلكها في حياته وفي تحقيق أهدافه والعبادة التي يمارسها والمؤسسات التي ينشأ فيها والقيم التي يوزن بها البشر.
وإن المجتمع المسلم قائم على نبذ العنصرية والوطنية الإقليمية وعلى الحرية المبنية على العبودية الكاملة لله وحده والتي تحقق له المحافظة على ماله وعرضه ونفسه وتطلب منه الالتزام بالحق والعدل، كما أنه مجتمع الأخوة والمساواة والكفاية والعدل بين المسلمين الذين يتساوون في الواجبات والحقوق: "المسلمون عدول يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم
…
" فالمجتمع عامل تربوي فعال يحتاج إلى تضافر المؤسسات في تحقيقه لمسؤلياته التربوية التي يمكن الإشارة إلى بعضها فيما يلي:
1-
التعاون على البر والتقوى:
والله سبحانه وتعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [33] ، لأن التعاون على البر والتقوى هما وسيلتا المجتمع لنشر الفضية والخير ومحاربة الرذيلة والشر فوسائل التربية الحديثة من صحافة وإذاعة وتلفزيون وغيرها من وسائل الإعلام كل منها معلم يملك أذواق البشر وأسماعهم وأبصارهم فإذا وجهت وجهتها الصحيحة كانت وسائل خير ورحمة وتعليم وتثقيف وإذا تركت على ما هي عليه من نشر السموم والأغاني المائعة والتمثيليات الهابطة والكذب الدائم والسخافات والأباطيل كانت وسائل دمار وهدم لجهود مؤسسات التربية الأخرى كالبيت والمدرسة والمسجد، فواجب الدول أن تطهر مؤسساتها من كل ما يعوق تربية أجيالها على الحق والفضيلة والبر والتقوى وأن تحارب هذه الأجهزة وتجعلها تتكيف مع طبيعة المجتمع وعقائده ونظمه، ولا يتم التعاون على محاربة الإثم والعدوان إلا بإغلاق مظاهر الفساد الاجتماعي وتوجيه الثقافة التي يتأثر بها الأطفال والكبار إلى الثقافة التي يبني المجتمع عليها وحماية الشباب من المؤثرات الثقافية الدافعة للفساد، والإسلام يوجه توجيهات كثيرة في هذه الناحية فالله سبحانه يقول:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ} [34] .
والرسول صلى الله عليه وسلم يحذر الرجل يرتكب عملا بالليل وينشره بالنهار وقد ستره الله لأن عمل الشر إثم ونشره عن طريق إذاعته إثم آخر لا يفعل ذلك إلا الماجن الذي لا يستحي وإذاعة الفاحشة مضر للمجتمع من الناحية التربوية فكيف به إذا تولته أجهزة في الدولة وبأموال المسلمين والله لا يحب الجهر بالسوء من القول أو الفعل فواجب المجتمع التعاون على إزالة الإثم الفواحش إلى درجة قتال المفسدين في الأرض وقتلهم {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [35] ، كما يحث الإسلام الفرد في النيابة عن المجتمع في القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "من رأى منكم منكرا فليغره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان"[36] .
والمجتمع المسلم هو الذي يقوم على التقوى ويطالب أفراده بذلك والحض على التقوى كثير في القرآن باعتبار التقوى مصدرا لسلوك المسلم فردا وجماعة فالمتقون هم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله ويؤمنون بالآخرة وبالكتب المنزلة والموفون بعدهم إذا عاهدوا والصابرون في البأساء والضراء والمنفقون فيهما والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس المحسنون الذين يذكرون الله ليلا وسحرا والمستغفرون، فالتقوى هي وصية الله الدائمة لكل أمة على لسان الأنبياء وهي خير زاد للمسلم وخير لباس له والمتقون هم أولياء الله وهم سبب سعادة المجتمع وأساس بنائه وسبب الرزق والانفتاح الاقتصادي وسبب النجاة من كل ضعف والوصول إلى الجنة التي أعدت للمتقين.
والمجتمع هو الذي تتعمق فيه بالممارسة معاني الود والرحمة والإيثار والتضحية فالمسلمون في توادهم وتراحمهم جسد واحد ألف الله بين أعضائه بنعمته بعد أن كانوا أعداء وقد ضرب المسلمون الأوائل أروع الأمثلة في ممارسة التكافل الاجتماعي والإيثار مع الحاجة والتضحية في سبيل الغير فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ترسل إليهم الأموال الكثيرة فيوزعونها على المحتاجين وينسون أنفسهم وهم أحوج ما يكونون إليها وكانوا رحماء فيما بينهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا.
إن المجتمع المسلم هو الذي يقوم بدوره في مساعدة الآباء على تربية أبنائهم على أخلاق الإسلام وتقاليده بحيث أنهم إن خرجوا إليه وجدوا فيه ما تعلموه من الوالدين فلا يسمع كلمة نابية أو لفظا جارحا ولا يرى مظهرا للغش أو الخداع وهو يبتاع ويتعامل في الخارج ويجد مدرسيه في حرص أبويه على المثل الإسلامية فلا يسمح له بالغش في الامتحان أو يعطى ما لا يستحقه إرضاء للمدير أو جنسيته.
المجتمع الذي لا يعج بمظاهر الفساد والتحلل والعري ويطلب من المراهق أن يكون عفيفا طاهرا
…
إن النشء المسلم يجب ألا يجد نوعا من التناقض بين تربية والديه والأخلاقيات الممارسة في المجتمع، فالمجتمع المسلم مجتمع متحرر من الانقياد لغير الله ونظيف طاهر تبنى فيه العلاقات على القاعدة القرآنية {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} .
إننا لا نستطيع تربية أطفال صالحين في بيئة اجتماعية فاسدة كما لا نستطيع أن نزرع أرضا دون تهيئة هذه الأرض لأن أدواء المجتمع كلها معدية تنتقل إليهم شاءوا أم أبوا.
إن الدولة تستطيع توجيه الوسائل الاجتماعية كلها بدءا بالأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام في خدمة التربية وقد وجه الإسلام إلى تكوين جماعة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مزودة بالخبرات والأساليب التربوية الصحيحة توجه المجتمع من داخله وتراقب ما يجد من انحراف في السلوك للأفراد أو المؤسسات أو الدولة نفسها ثم تعالج الأمور بحكمة وموعظة حسنة متعاونين مع أفراد المجتمع في ذلك {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} .
إن الدول تشرع كثيرا من القوانين لحماية ما يسمى بالنظم الاشتراكية والمكتسبات الثورية وما إلى ذلك فما الذي يمنع المجتمع المسلم من سن القوانين والنظم التي تكفل حماية المجتمع ونظمه وتقاليده ويوقف مظاهر الفساد والانحلال ويحمي النشء والأمة من كل ما يدنس أخلاقها أو ينحرف بها عن التوجيهات التربوية للإسلام وبالتالي تشجع الناس على الفضائل، ويزيل هذا الصراع المستمر بين التعاليم التربوية والإغراءات الخارجية، إن الإسلام يطالب الأسر بالتعاون فيما بينها بتعليم الأسر المتعلمة للأخرى حتى يتحقق التعاون على البر في واقع الحياة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه علقمة عن أبيه قال:"خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا ثم قال: "ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم، ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم، وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون، والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون أو لأعاجلنهم العقوبة".
فالرسول صلى الله عليه وسلم يبين لنا أن المجتمع يمكن أن يتخذ سلطته عن طريق القوانين التي تكفل سلامة المجتمع وتربيته وتعليمه حتى تتحقق الأهداف التربوية للمجتمع المسلم.
خامسا: الوراثة والبيئة:
أثبت العلم حديثا أن الأطفال يرثون الصفات الثابتة فيهم من أبويهم كما يرثون الصفات الشكلية فيهم، وأن الأطفال يحملون خصائص أصولهم وإن بعدت المسافة الزمنية بينهم وبين أصولهم وأثبتت قوانين الله في الكون أن الفرع يشبه أصله في الكائنات كلها، إن انتقال خصائص الآباء والأجداد للأبناء الذين يمثلون الفروع هو الذي يعرف بعلم الوراثة وهو علم لا يوجد من ينكره، ولكن الخلاف بين العلماء في الشيء الذي يورثه الآباء ومقداره ونوعه.
فالبشرية كلها تشترك في الصفات التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات وتورث هذه الصفات جيلا بعد آخر، ولكن هناك صفات خاصة إلى جانب الصفات العامة تتميز بها أمة ما في مكان ما عن الأمم الأخرى وهي التي تميز بها الإفريقي عن الآسيوي والشرقي عن الغربي ثم يتدرج هذا التمايز في الصفات إلى مستوى الأبوين اللذين يورثان ألوانهما وأشكال قامتهما وطبائعهما لأبنائهما وتختلف نسبة الصفات المورثة من الأب والأم والمقدار الذي يرثه من كل منهما، وقد لا يرث الأبناء صفات آبائهم الأقرباء ولكن تظهر هذه الصفات في الأجيال التالية ولذلك نجد الطب الحديث يبحث في الأمراض عما إذا كان المرض موجودا في العائلة أو قد وجد في جيل سابق كما أن العلم يقول إن الأبناء يرثون الاستعداد للشيء كالاستعداد للنبوغ أو الغباء أو الإصابة بأمراض معينة أو الانحرافات الخلقية وما إلى ذلك وهنا يظهر دور البيئة في نمو تلك الاستعدادات.
والبيئة تطلق على ما يحيط بالإنسان من أناس وبحار وبلاد وأرض وأجواء، وكما أن النبات لا يعيش وينمو ويثمر إلا إذا وجد التربة الصالحة والماء والهواء والضوء فكذلك الإنسان في جانبه المادي يتأثر بالناحية الجغرافية في البيئة من بحار وأنهار وأجواء وطبيعة وجبال وهضاب وغيره ذلك كما يتأثر بذلك في جانبه العقلي أما بيئة الإنسان الخاصة فهي المنزل والمسجد والمدرسة ودينه ومعتقداته ولغته وتراثه وما إلى ذلك.
ما أثر ذلك كله في التربية بعامة والتربية الإسلامية بخاصة؟.
إن الإنسان إذا نشأ في بيئة صالحة، وأسرة متدينة ومدرسة راقية ورفقة صالحة وأمة خيرة ونظام سياسي عادل وتربية ممتازة كان الشخص المثالي الذي تهدف التربية إلى إيجاده، أما إذا وجد في بيئة سيئة، أسرة منحلة ورفقة سيئة وأمة شريرة ونظام سياسي جائر وحاكم طاغ متجبر وأنظمة بشرية فاشلة وتربية لا تقوم على أساس فإن النتائج أفراد فاشلون وذلك مصداق لقول الله تعالى:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَاّ نَكِداً} [37] .
وقد أثبت علماء الوراثة أن الصفات الجسمية والخلقية والعقلية والنفسية لدى الآباء تكون استعدادا لدى الأبناء بما في آبائهم والقرآن يحدثنا أن أبناء الزناة يحملون استعدادا وراثيا للزنا من آبائهم ولذلك عبر عنه القرآن بقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [38] ، كما أن الأمراض الناشئة عن الزنا مثل السيلان والزهري قد تنتقل كاستعدادات وراثية لدى الأطفال، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول محذرا المهاجرين من خمس خصال ذكر منها "ولم تظهر الفاحشة في قوم قط يعمل بها علانية إلا فشا فيهم الطاعون الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم"[39] ، وقد أثبتت الدراسات لحالات المجرمين في جرائم مختلفة علاقة بين المجرم ومن مارس في قرابته نفس الجريمة التي ارتكبها فلذلك يرى بعض العلماء أن الزواج بين أبناء السكيرين أو المصابين بالأمراض جريمة لأن الأبناء يرثون الاستعداد لذلك، وقد سبق أن ذكرنا استنكار بني إسرائيل للسيدة مريم ذات السلالة الطاهرة النقية كيف أنجبت سيدنا عيسى من الزنا بدعواهم {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [40] ، وبعض العلماء يرى أن الإجرام ليس وراثيا إنما هو أثر من آثار البيئة على الإنسان فإذا أخذ الأولاد من الآباء السيئين ونشأوا في بيئة طيبة نشأوا عكس آبائهم.
إن أهمية البيئة والوراثة كوسائل تربوية وإن دراستهما ومعرفة حدودهما ومدى تأثيرهما في الإنسان يجعل التربية مبنية على أسس علمية باعتبار كل منهما عاملا مكونا للعقل والجسم والخلق مع الآخر بدرجة تجعل من الصعب إعطاء دور كل منهما كما يفعل البعض نسبة معينة ثابتة فإذا لم توجد البيئة الصالحة للعبقري فإن عبقريته تموت وتندثر، كما أن البيئة الراقية لا تلد العباقرة والفلاسفة وإنما يوجد العبقري في البيئة الصالحة يكون انتفاع الأمة بأبنائها والأبناء بإمكاناتهم ومواهبهم.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
الروم 21.
[2]
رواه أبو داود.
[3]
رواه البخاري.
[4]
رواه الترمذي.
[5]
النور 37.
[6]
النور 37.
[7]
التوبة 109.
[8]
رواه مسلم.
[9]
رياض الصالحين ص424 عن رواية مسلم.
[10]
رواه مسلم / رياض الصالحين 644.
[11]
فتح الباري ج5 ص73.
[12]
مسند الإمام أحمد.
[13]
رواه البخاري ومسلم.
[14]
رواه الترمذي.
[15]
رواه أبو داود والترمذي.
[16]
رواه الترمذي.
[17]
نقلا عن الأبراشي عن التربية الإسلامية وفلاسفتها ص78-79.
[18]
مجلة الفيصل العدد الثامن السنة الثانية ص80.
[19]
راجع أحمد شلبي ـ تاريخ التربية الإسلامية ص114.
[20]
الغزالي ـ إحياء علوم الدين ج أول.
[21]
البقرة.
[22]
رواه البخاري في كتاب العلم.
[23]
رواه مسلم.
[24]
رواه البخاري في كتاب العلم.
[25]
الأعراف.
[26]
الرعد 22.
[27]
الحشر 9.
[28]
الحجرات 7.
[29]
الأبراشي ـ التربية الإسلامية وفلاسفتها ص225.
[30]
البينة 5.
[31]
راجع الأبراشي ـ التربية الإسلامية ص146.
[32]
البقرة آية 286.
[33]
المائدة 3.
[34]
الأعراف 33.
[35]
المائدة 32.
[36]
رواه مسلم في كتاب الإيمان.
[37]
الأعراف 58.
[38]
الإسراء 32.
[39]
رواه ابن ماجه والبزار والبيهقي.
[40]
مريم 28.
تجارب حية في عملية التربية والتعليم
بقلم الشيخ محمد المجذوب
المدرس في كلية الدعوة وأصول الدين
1-
الطرق التي يقررها علماء التربية للتدريس كلها مستنبطة من التجارب العملية التي مارسها بعض المدرسين، ولا سيما أولئك الذين يمتازون بدقة الملاحظة والرغبة في الإفادة، والشعور بأهمية الرسالة، التي يحملونها
…
هؤلاء لخصوا لنا خبراتهم وتجاربهم فصيغت منها القواعد التي يدرسها المؤهلون للتعليم، ليعملوا بها وليسيروا على ضوئها.
ولكن على المدرس اللبيب أن يتذكر أن هذه التجارب لم تبلغ بعد المرحلة النهائية بحيث يُظن إنها جامعة مانعة لا تقبل إضافة ولا تعديلا، بل الأمر على الضد من ذلك فليست هذه التجارب العملية سوى عينة محدودة لما يمكن للمدرس الحاذق أن يستخلصه من خلال تجاربه الشخصية اليومية.
فالمدرس الذي يستعمل عقله في أداء عمله يستطيع أن يستنبط كل يوم جديدا من الأساليب والطرق الأكثر فائدة
…
وعليه أن يتذكر أن لكل بيئة خصائصها المميزة، فرب طريقة ناجحة في وسط تعجز عن النجاح في وسط آخر.. ولهذا كان للتجارب اليومية الحيّة في عمل المدرس النابه قيمتها المعتبرة.
2-
ولنذكر على ذلك بعض الأمثلة:
في إحدى المدارس وزعت الإدارة بالاتفاق مع مدرسي المواد المختلفة حصص النشاط فكان لكل مدرس مادةٍ حصصٌ معينة للقيام بالنشاط المتصل بها، كالجغرافية والتاريخ والحساب والعلوم وما إليها
…
إلا مادة التربية الإسلامية فلم تخصص بأية حصة، إذ كان مدرسها غائبا عن ذلك الاجتماع ولم يخطر في بال المدرسين الآخرين أن في مادة الدين أي مجال لنشاط ما، فلما حضر مدرسها وعلم بإغفال مادته من حصص النشاط أبدى استغرابه، وبدلا من أن يستريح إلى إعفائه من تلك الحصص التي ستشغل بعض أوقات راحته خارج مواعيد الدوام، أعلن احتجاجه على ذلك الإغفال، وأكد للإدارة أن مادة الدين أخصب مجال للنشاط المدرسي..وبالفعل لم يلبث أن برهن على صواب ما ذهب إليه، إذ استحدث لحلقته الدينية ألوانا من النشاط أدهشت زملاءه، واجتذبت الموجهين والمدرسين الآخرين لمشاهدتها
…
وهكذا أثبت هذا المدرس الكفء أن المدرس الصالح جدير بأن يبتدع من أساليب التربية ما يستحق أن يحتذى في سائر المدارس.
لقد أدرك هذا المدرس أن دروس الدين الإسلامي ليست قواعد جافة تقف عند تعريف المصطلحات وبيان الشروط والأركان، واستنباط الأحكام، ودراسة الألفاظ والمعاني
…
ولكنها إلى جانب هذا كله تربية خلقية تتحول إلى أعمال تتجلى في سلوك أصحابها.
ورأى أن أفضل الوسائل لإبراز هذه الحقائق أن يستعين بالتمثيل والخطابة والمحاورات..فراح يتخير من تاريخ الإسلام بعض المشاهد المؤثرة فيصوغها في تمثيليات قصيرة، يوزع أدوارها على عدد من التلاميذ، ويدربهم على أدائها أمام الجمهور
…
حتى إذا تمت الاستعدادات لذلك قام التلاميذ المدربون بعرض تمثيليتهم على مسرح المدرسة
…
فشاهد النظارة تلك الأخبار التاريخية، التي كانوا يقرؤونها في الكتب، أو يسمعون بها من الرواة، أحداثا متحركة أما أعينهم، فيتأثرون بها أكثر من قراءتها.
فتمثيلية عن الزكاة، وأخرى عن الحج، وثالثة عن الوفاء، ورابعة عن الأمانة..وما إلى ذلك من الفضائل الإسلامية، التي من شأنها، إذا أدرك المسلمون معانيها وحققوها في سلوكهم، أن تجعل منهم كما جعلت من أسلافهم خير أمة أخرجت للناس
…
وهكذا استفاد من الخطابة والحوار
…
يعرض بهما المعاني الإسلامية عرضا مؤثرا جعل الناظرين واثقين من أن مادة الدين أخصب مجالات النشاط المدرسي بالفعل.
وهذا المدرس الناجح إنما عمد إلى تلوين أساليبه من تمثيل إلى خطابة إلى حوار وغيره ابتعادا عن الجمود الممل، لأنه لو اكتفى بالتمثيل وحده لانتهى بتلاميذه ومشاهديهم إلى السأم، وكذلك الوقوف على لون واحد من الأساليب يفقده الحيوية والتشويق.
إذن فعلى المدرس أن يطور أساليبه في إعطاء الدرس، وفي النشاط المدرسي حتى لا تبعث على الملل
…
وبذلك يضمن انتباه تلاميذه وحبهم للدرس وتفاعلهم معه.
ولنستفد في هذا الصدد من حكمة أبي تمام القائلة:
لا يصلح النفس إن كانت مدبرة
إلا التنقل من حال إلى حال
3-
والمدرس المسلم أحق المدرسين بالانتفاع من مثل هذا التجديد لأساليب التدريس والنشاط
…
ومراعاة الوسيلة الأنجع في إفادة التلاميذ وتربيتهم على روح الإسلام، ولينظر هذا المدرس إلى أساليب القرآن العظيم، والألوان المختلفة التي حملت معانيه يعلم أن التزام الصورة الواحدة، في التعبير والتعليم والسلوك، مخالف للأصلح والأنفع.
فالتعبير القرآني قد سلك كل ألوان الأساليب العربية في إبلاغ مقاصده، فهناك الأسلوب القائم على السجع، والفواصل، هناك الأسلوب المرسل، وفيه الآية القصيرة التي لا تزيد على الكلمة، وفيه الطويلة التي تستوعب الصفحة
…
وفيه التمثيل والتشبيه والإيجاز والإطناب، والاستفهام والتقرير
…
إلى غير ذلك من الأساليب التي يستولي بها القرآن العظيم على الألباب، ويثير العواطف ويحرك الضمائر ويطلق الخيال، ويشغل كل ما تنطوي عليه النفس من الطاقات
…
وكذلك القول في العبادات
…
ولنمثل كذلك بالصلوات المكتوبة فهي ما بين ركعتين وثلاث وأربع وبين جهري وسري
…
وقد اختلفت المسافة بين أوقاتها
…
ولعل بعض الحكم العجيبة في ذلك هو إبعاد هيئة العبادة عن تكرار الصورة الواحدة، الذي قد يؤدي بها إلى أن تصير عادة آلية فتفقد بذلك روح الجدة
…
والله أعلم.
4-
ونظرة مماثلة إلى أساليب الرسول في التعليم
…
وهو المعلم الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، الذي أوتي الحكمة وجوامع الكلم والخلق العظيم.
لم يلتزم صلى الله عليه وسلم في تعليمه أسلوبا واحدا ولا هيئة واحدة
…
بل كان يعطي لكل مقام ما يناسبه من المقال والهيئة.
لقد أمر ونهى
…
وخطب
…
وقصّ
…
ومثّل
…
واستعمل وسائل الإيضاح، سأل مرة أصحابه ـ تلاميذه ـ: أتدرون من المفلس؟
…
وكان السؤال محركا لتفكيرهم، فأجابوا بما يعلمون من صفة الإفلاس، وهناك فاجأهم بما يقصد إليه من الإفلاس المعنوي، الذي يحشر صاحبه يوم القيامة وليس معه ما يفي بما عليه
…
ومن هذا وأمثاله من الأسئلة النبوية نتعلم كيف نستثير انتباه تلاميذنا وننشط أفكارهم للبحث
…
وفي حديث جبريل عليه السلام أسلوب تعليمي عجيب، ما أجدر المدرس المسلم أن يستنبط منه الحكم البالغة
…
وأذكر أن مدرسا فطنا استفاد من هذا الحديث في أحد الدروس إذ درّب فرَّاش المدرسة على أداء دور معيّن، وفي أثناء الدرس جاء هذا الفراش واستأذن المدرس ليسمح له بالاستماع إلى درسه، ثم أخذ يطرح عليه بعض الأسئلة المتصلة بصميم الدرس
…
فلم ينته الحوار حتى كان التلاميذ قد أحاطوا علما بكل تفاصيله
…
وفي حديث "ما فعل النغير يا أبا عمير" إرشادات حكيمة توجه المدرس إلى أنجح الطرق في تعليم تلاميذه، إذ تحببهم، بمدرسهم لما يرونه من رعايته إياهم واهتمامه بمشكلاتهم.
أراد صلى الله عليه وسلم ذات مرة أن يعمق ارتباط تلاميذه رضي الله عنهم بالآخرة فصور لهم حياة الإنسان وما يحيط به من أحداث الدنيا أعجب تصوير، إذ رسم مربعا صغيرا رمز به إلى الأجل وجعل في وسطه خطا رمز به إلى الإنسان، ثم مدّ من هذا خطا خارجا من المربع وجعل خطوطا صغارا إلى الذي في الوسط، ثم فسر ذلك بأنه الإنسان يحيط به الأجل وينطلق منه الأمل، وفسر الخطوط الصغار بالأعراض ـ المصائب ـ تنهشه من هنا وهناك.
ومثل هذا التمثيل يعتبر من أرقى أساليب التعليم لاعتماده الرسم الإيضاحي المثبت للفكرة.
وكثيرا ما كان صلى الله عليه وسلم يعمد إلى القصة لإبلاغ ما يريد من الأفكار والإرشادات فتأتي غاية في البلاغة والتأثير
…
إذ تعرض الفكرة ممثلة في أشخاص بأعيانهم، فتستهوي القلوب والعقول، وتثير المخيلة لاستخلاص العبرة.
من ذلك قصة الملك والساحر والراهب ـ في صحيح مسلم ـ ثم قصة الثلاثة الذين تكلموا في المهد ـ للشيخين ـ ثم قصة أصحاب الغار الذين نجاهم الله بحسناتهم ـ لرزين والترمذي ـ وكذلك قصة الأبرص والأقرع والأعمى من بني إسرائيل ـ للشيخين ـ.
ومن شأن أمثال هذه القصص أن تعلم المدرس كيف يستفيد من أسلوب القصة في إمتاع تلاميذه وإفادتهم.
5-
وجدير بالمدرس أن يتفطن إلى أسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلام، وكيف كان يؤدي معانيه في أناة تمكن السامع من الاستيعاب، حتى لو شاء لعد ألفاظه، وكذلك تكراره لعباراته حتى لا تغمض على السامعين.
والفائدة التي نقتبسها من هذه الطريقة ألا نعجل في خطاب تلاميذنا عند الشرح
…
وأن نتخذ كل الوسائل التي من شأنها تمكينهم من الفهم والاستيعاب والحفظ.
وطبيعي أن نهوض المدرس بمثل هذه الأعمال تقتضيه أن يكون ذا ثقافة حية واسعة، وهذا يعني أن عليه أن يكثر من الاطلاع على العلوم قديمها وحديثها، ولا يتوافر له ذلك إلا بالإكثار من المطالعة لتجديد عقله بالكتب النافعة، فإن معلومات الإنسان كالماء، إن لم يكن على اتصال دائم بالمنابع الصالحة انتهى إلى الفساد، وسعة معلومات المدرس تساعده على إفادة تلاميذه في كل ما يشكل عليهم، فلا يشعرون بعجزه، لأن عجز المدرس وقصور إدراكه يعرضانه لسخرية طلابه، وعليه أن يتعهد تغذية عقول تلاميذه بإرشادهم إلى الكتب الملائمة لمداركهم والنافعة لهم في دينهم ودنياهم، ولا يتأتى له هذا ما لم يكن على صلة بما ينشر ويكتب.
درس نموذجي في الحديث الشريف
على السبورة
(وما ينطق على الهوى)
مقرر اليوم من
الحديث النبوي
6/7/1400هـ
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، إذا ستقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" رواه البخاري.
عمل المدرس في هذا النص:
1-
تعريف موجز بالصحابي راوي الحديث، وبالبخاري مخرجه ومنزلة كتابه الجامع.
2-
قراءته للحديث في أناة وتفصيل.
3-
تكليف بعض التلاميذ قراءته على طريقته.
4-
تدريب التلاميذ على تحديد معاني المفردات بدعوة بعضهم إلى شرحها ثم الوصول إلى مرادها.
5-
تكليف التلاميذ كتابة معاني هذه المفردات في كراسة خاصة ضمن الجدول ـ لزيادة معلوماتهم اللغوية ـ وذلك بعد كتابتها على جوانب السبورة أو على السبورة الإضافية.
مثلا على ذلك:
القائم:
الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر
حدود الله:
أوامره ونواهيه
الواقع فيها:
المتجرئ عليها
استهموا:
اقترعوا أي تقاسموا أمكنتهم بطريقة الاقتراع
الخرق:
النقب والكسر، ومنه قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا}
هلكوا:
تعرضوا للهلاك
نجّوا:
بالتشديد: سببوا النجاة لغيرهم
6-
تطبيقات إعرابية: أين تعلق الجار والمجرور (كمثل) وما علاقته بأول الحديث (مثل القائم) ؟ كيف تعرب (أعلاها، وأسفلها) ؟ وأين تعلقهما) ؟.
كيف تعرب (وما أرادوا) ؟ ومن أي نوه هذه الواو السابقة (ما) .
7-
شرح بعض العبارات: استهموا على سفينة ـ لو خرقنا في نصينا خرقا ـ وما معنى (لو) هنا؟ فإن تركوهم وما أرادوا ـ أخذوا على أيديهم
…
8-
أسئلة حول النص:
1-
ما الموضوع الذي يدور الحديث حوله؟ وما مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؟.
2-
هل للحديث علاقة بمبدأ (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ؟ وكيف؟.
3-
ما العنوان الذي يناسب هذا الحديث؟.
4-
كيف توزّع القوم أمكنتهم في السفينة؟.
5-
من الذي اقترح خرق السفينة؟، القوم كلهم أم بعضهم؟ وما دليلك؟.
6-
بأي دافع حاول هؤلاء خرق السفينة؟ هل كان في نيتهم الإضرار؟ وما دليلك؟.
7-
هل تم الخرق أو منعوا منه؟، وكيف علمت؟ مع العلم أن الحديث لم يشر إلى النتيجة؟.
8-
لماذا ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الكلام على النتيجة التي انتهوا إليها؟.
9-
كم صنفا كان هؤلاء الركب؟..أغبياء..طيبون..سيئون؟..أجب بالتفصيل.
10-
على أي شيء يحضنا هذا الحديث؟.
خلاصة الحديث من خلال الأجوبة:
تكتب على السبورة ويطلب إليهم إثباتها في كراساتهم مقرونة بعنوانها ومختومة بتاريخها.
أسئلة حول الأسلوب:
1-
لقد عرض الرسول صلى الله عليه وسلم الفكرة التي أرادها بأسلوب التمثيل والقصة، وكان بالإمكان عرضها بأسلوب آخر، فلماذا اختار هذا الأسلوب دون سواه؟.
2-
تحدث عن جمال التشبيه بين الفريق بين الأول ـ القائم في الحدود والواقع فيها ـ والفريق الثاني القوم الذين استهموا على السفينة
…
3-
التشبيه في الحديث من النوع المركب، فمن يقابل القائمين في الحدود، ومن يقابل الواقعين فيها؟.
4-
هل تجد في ألفاظ الحديث ما يمكن الاستغناء عنه؟، وهل ترى لفظة يحسن استبدالها؟.
5-
كان رسول الله خير معلم للناس
…
وخير دال على الخير
…
فهل في الحديث دليل على هاتين الصفتين؟.
6-
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"ـ رواه مسلم ـ فهل ترى من تشابه يسن موضوع هذا الحديث والحديث الآخر؟
…
وكيف؟..
وكذلك يصف الله المؤمنين بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فهل هذا للحديث علاقة بهذا الوصف؟..أوضح ذلك.
ملاحظة: روعي في هذا التحضير مستوى السنة النهائية من القسم المتوسط، وإذا أردنا تخصيصه بما دون ذلك سهلنا من الأسئلة وخففناها، كذلك إذا شئنا توجيهه إلى القسم الثانوي زدنا عليه العناية بالكلام عن المجتمع وما ينبغي أن يقوم فيه من التعاون، وأشرنا إلى بعض الصور البيانية والتحاسين البديعية الواردة في الحديث بصورة موسعة.
أيها المعلمون
ربوا على الإنصاف فتيان الحمى
تجدوهم كهف الحقوق كهولا
وإذا المعلم ساء لحظ بصيرة
جاءت على يده البصائر حولا
وإذا المعلم لم يكن عدلا مشى
روح العدالة في الشباب ضئيلا
وإذا أاتى الإرشاد من سبب الهوى
ومن الغرور فسمِّه التضليلا
أحمد شوقي
موجز البيان في زكاة الأطيان والبنيان
لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم
القاضي بالمحكمة الكبرى بالمدينة المنورة
هذه أسطر سطرتها إجابة على سؤال حول ما يتعلق بموضوع زكاة الأراضي الزراعية والعمارات السكنية سميتها "موجز البيان في زكاة الأطيان والبنيان"فأقول وبالله التوفيق.
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، والشكر له على ما هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين الهادي إلى صراط مستقيم وعلى آله وصحبه الذين حفظوا لنا الكتاب والسنة نقلوا لنا معالم الطريق القويم ورضي الله عن التابعين الذي بينوا لنا ما كان خافيا وجمعوا لنا أطراف ما كان نائيا من تقييد مطلق وتخصيص عام وقعدوا قواعد وفرعوا فروعا كانت المنهج لمن جاء بعدهم، ونهج منهجهم، فسعد بسعادتهم.
أما بعد:
لقد شاءت حكمة العليم أن تكون قسمة المال بحسب مقتضيات الحال، وتسيير نظام الكون بمقتضيات اختلاف الأحوال، قال تعالى:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} .
ولكي يربطهم في المال جعل تعالى الزكاة طهرة لمال الغني، وطعمة لجوعة المسكين، فقال تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} .
فهذه طهرة لمال الغني مما عساه خالطه من شبه خفية ولنفسه من الشح البغيض، وطهرة أيضا لنفس الفقير من حقد على الغني لغناه.
جاء في مستهل رسالة السائل أن المال مال الله يستخلف فيه من يشاء من عباده بالقدر الذي يتناسب وقابلياتهم وما وهبهم من أهليات وكفاءات.
ولم ينس -وهو الرحيم العادل- أولئك الذين خلقهم معدومي القابليات أو ضعاف الأهلية، بل اقتضى عدله ورحمته أن يجعل لهم حصة معلومة في الأموال تغطي ضروراتهم وتسد نفقاتهم، وشرع ذلك بقوله:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} الآية.
إن هذه المقدمة وإن كانت ليست من صلب الموضوع إلا أنه يدعوني أن أبدي رأيا عارضا وهو أن الاستخلاف في المال منه سبحانه ليس على قانون الأهليات وإنما على شرعة الابتلاء، فلم يعط الأذكياء لذكائهم، ولم يترك البلهاء لبلههم وعلى صدقات غيرهم كما قال تعالى لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم:{وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ} .
كما أنه أيضا ليس على مقياس الإيمان والكفر كما قال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
وقد قيل في المعنى الأول:
ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا
هلكن إذا من جهلهن البهائم
ولا بالقوة والضعف أيضا قال الأديب الشنقيطي:
قد تجوع الأسد في آجامها
والذئاب الفبس تعتام القتب
أي بعد قوله:
لا يزهدك أخي في العلم أن
غمر الجهال أرباب الأدب
إن تر العالم نضوا مرملا
صفر كف لم يساعده سبب
وتر الجاهل قد حاز الغنى
محرز المأمول من كل أرب
قد تجوع الأسد
…
... ....
…
...
…
... ....
…
....
وقد جعل الله تعالى الغنى والفقر فتنة ليرى الغني أيشكر أم يبطر ويرى الفقير أيصبر أم يضجر.
وعلى كل فقد أنزل لعباده من الأرزاق ما يكفيهم كما قال علي رضي الله عنه:
"لقد جعل الله في مال الأغنياء ما يكفي حاجة الفقراء وما اشتكى فقير قط إلا بقدر ما أمسك غني من زكاة"وهذا كله مسلم به والحمد لله.
وقد عقب السائل بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم شرحا وبيانا وتأكيدا للزكاة في الأموال: "أدوا زكاة أموالكم"، وذكر أن القرآن رغب وكذلك السنة في التصدق بكل ما زاد عن الحاجة الأصلية والشخصية:"من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له" وذكر من أصناف المال ما ذكر حتى إن الصحابة رأوا أن لا حق لأحدهم في فضل
…
وحبب إليهم الإيثار على النفس، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية.
أما ما كان من الترغيب والحث على الإيثار ونحو ذلك فهو باب واسع لتهذيب النفوس وترابط وتعاطف الأمة وقد خرج الصديق من كل ماله، وهذا مجال المنافسة الحميدة والنفوس الكريمة.
أما العود بفضل الظهر والزاد
…
الخ فهذا كان في السفر وفي أمس ما يكون للمواساة
…
بل قد تفرض بعض الظروف عند نقص التموين وإعلان الطوارئ في المجموعات التي تتعرض لمثل ذلك كالمعسكرات والجيوش
…
الخ.
ولكن ما نحن بصدده وهو فرضية الزكاة فإن نصوصها قطعية الدلالة والثبوت ولكن جاءت النصوص لها بمقادير وحدود معلومة كما في قوله تعالى: {حَقٌّ مَعْلُومٌ} ، والمعلوم لا يكون مجهولا ولا مبهما ولا متروكا لعواطف الأغنياء وسجاياهم.
وكل فرض في الزكاة فهو معلوم المقدار من جانب المالك ومن جانب المسكين.
وقد جاء هذا ضمن رسالة السائل بما نصه: وقد وضحت السنة النبوية الشريفة كيفية تأدية الزكاة وحددت نسبا معينة تؤخذ من الأموال المختلفة، وعلى اختلاف هذه النسب فقد فرضت جميعها على الأموال عينا أو مقومة بنقدها وهذا مبدأ قويم سديد واضح.
أما أنهم لم يستجيبوا لأبي ذر رضي الله عنه فلأنه رأي شخصي انفرد به عن جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف بأموال عثمان التي مول منها جيشا كاملا وغيره كثيرون ويكفي أننا وقفنا على أن الزكاة حق معلوم وليس كل المال وقد نوه جميع المفسرين على ذلك عند قوله تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ومما وصفهم به {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أن "من" للتبعيض أي من بعض ما رزقناهم، ولا يخفى أن البعض يتذرع بأبي ذر رضي الله عنه إلى الاشتراكية.
ثم قال السائل: فإذا كنا نفهم من لغتنا أن كلمة - أموالهم - وأموالكم - تعني جميع أموالهم وأموالكم فإننا نستطيع القول مستندين إلى الكتاب والسنة أن الإسلام لم يكتف بفرض الزكاة على جميع الأموال فحسب، بل إنه رغب المسلم في بذلها كلها في سبيل الله.
وهنا نقول كما أسلفنا إن كان المجال للترغيب فالمجال فسيح من شق التمرة إلى كل ما يملك كما قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} وكما فعل الصديق.
أما الفرض والإلزام فكما قدمنا أيضا لا بد فيه من معلوم، والمعلوم لا بد أن يكون مقدرا، وهو ما عرف بالنصاب وبالنسبة المعينة.
ثم قال السائل: والأموال منقولة وغير منقولة كلها أموال قابلة للنماء ويتحقق فيها الربح، سواء عن طريق مبادلة عروضها أو منافعها ويجب والحالة هذه فرض الزكاة عليها جميعا إلا ما استثني منها بنص.
أما القول بأن الأموال منقولة وغير منقولة كلها أموال قابلة للنماء
…
إلا ما استثني منها بنص فإنه يرد عليه بيت السكنى ودكان المبيع وعبد الخدمة وفرس الحاجة ولعله ما أراده بالاستثناء.
أما الحكم بوجوب فرض الزكاة عليها جميعها إلا ما استثني بنص فإن لقائل أن يقلب المدعى ويقول لا زكاة عليها جميعها إلا ما استثني بنص والذي جاءت فيه النصوص معلوم.
والنص جاء عاما في الكتاب، والسنة جاءت وخصصت وبينت الأموال المزكاة وكم مقدار الزكاة فلزم الالتزام بالنص، كما أنها بينت الفرض من التطوع.
وأما قول السائل: فليس من العدل - والإسلام كله عدل - أن تفرض الزكاة على مال ويعفى منها قسم آخر معرضين عن النص إلى الاجتهاد والقياس.
إذا كنا قد نفذنا نص الشريعة فيما بينت لنا في خصوص الأموال المزكاة فهذا غاية العدل ولا يصح لنا أن نتخطاها باجتهاد ولا بقياس.
والذي يريد أن يجعل نوعا من المال زكويا لم تجعله نصوص السنة التي فصلت الأموال وبينتها لم تجعلها زكوية لا يمكن أن يصل إلى ذلك إلا بالاجتهاد أو بالقياس، وهذا الذي ينهى السائل عنه علما بأن القياس نوع من الاجتهاد في تحقيق العلة كما لا يخفى وهي مجال واسع.
ولكن قسمة الأموال في مجالات متعددة لم تترك لاجتهاد يقع فيه اختلاف وجهات نظر لا لقياس تختلف فيه العلة كما قسم الزكاة نفسها {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ
…
} الآية، والميراث، وكذلك الأموال المزكاة لما كانت الأموال متنوعة، جاءت السنة محددة.
ومعلوم أن القاعدة العامة في الزكاة في الإرفاق فمن جهة المزكي حين يمتلك النصاب ويحول عليه الحول إلا الزرع، ومن جهة آخذها فلسد حاجته.
وقول السائل - الافتراضي - عندما نقول بفرض الزكاة على الريع أو الربح فإننا نكون قد أخرجنا أصل المال من وعائها، وفتحنا بابا للتهرب منها وألزمنا بعض أصحاب الأموال من المسلمين بدفع الزكاة عن أموالهم حتى عند تعرضهم للخسارة، وأعفينا أموال البعض الآخر لا نأخذ الزكاة إلا من أرباحها.
وهنا السؤال: هل من العلماء المعلومين من قال لا زكاة إلا على الريع أو الربح؟.
إني لا أعلم أحدا قال بذلك، وإن قاله أحد فهو محجوج بالنصوص ولا يكون قوله حجة على النصوص.
ومعلوم للجميع أن الأموال المزكاة عند فقهاء الأمة وفي المذاهب الأربعة هي كالآتي:
النقدان - أعمالها أو خزنها:
بهيمة الأنعام - نمت أو لم تنم ما دام النصاب موجودا.
الحبوب والثمار ـ ما دام قد حصل على نصاب.
عروض التجارة - في نهاية الحول ربحت أم لم تربح ما دام تقويمها بلغ النصاب ولو أنها ربحت فإن ربحها يضم إلى رأس المال ويعتبر الجميع مالا زكويا دون ما فرق بين أصل وربح.
حتى ذهب الفقهاء إلى أبعد من هذا وهو لو كان الربح في السلعة الواحدة بسبب غلاء السعر، وقد نص النووي في المجموع على أنه لو اشترى سلعة بمائتين للتجارة ومكثت إلى تمام الحول ولم تبع وأصبحت تساوي ثلاثمائة فإنه يزكي الثلاثمائة كاملة وهكذا في كل ربح متصل أو منفصل ناض أو غير ناض إذ العبرة على التقويم في نهاية الحول وتقوم بما هو أصلح للمساكين.
وعند الحنابلة نص في المغني على أن من اشترى أرضا للتجارة وفيها نخيل فأطلع وأبّره وبقيت الأرض حولا ولم يبعها واجتمع له من النخيل نصاب فإنه يزكي الأرض زكاة عروض ويزكي الثمار زكاة معشر كالثمار.
ورأي آخر يقول يقوم الجميع الأرض والثمار ويزكي زكاة عروض.
وبهذا يظهر أن الفقهاء لا يقصرون الزكاة على الريع أو الربح فقط إذا كان الأصل فيها التجارة.
أما إذا كان الأصل للقنية وحصل منه ريع أو ربح فهو كالآتي:
1-
أرض زراعية.
2-
عمارات سكنية.
3-
مصانع إنتاجية.
وكلها إما لشخص وإما لشركاء كشركة مساهمة فعلا.
أما الأرض الزراعية ولشخص فإن النصوص جاءت في زكاة الزروع والثمار وفي مسميات الأجناس مخصوصة هي من الثمار التمر والزبيب والخلاف فيما عداهما من الثمار المجففة وكذلك في الزيتون أي فيما يعصر من زيته
…
الخ.
وفي الحبوب كالبر والشعير والخلاف فيما لا يقتات من بقية الحبوب أما ما لا يجفف من الفواكه كالتفاح والسفرجل ونحوهما كذلك من الخضروات كالخيار والقثاء والبطيخ والقضب ونحوها فلا زكاة عليها عند الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، ولكن على أثمانها إذا حال عليها الحول وكانت نصابا كما روى مالك في الموطأ قوله:
"والسنة التي لا خلاف فيها عندنا، والتي سمعت من أهل العلم: أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة: الرمان والفرسك والتين وما أشبه ذلك وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه"، قال:"ولا في القضب ولا في البقول كلها صدقة ولا في أثمانها إذا بيعت حتى يحول على أثمانها الحول من يوم بيعها ويقبض صاحبها ثمنها وهو نصاب".
ولم يقل أحد قط إن الأرض الزراعية تزكى عينها كما تزكى ثمرتها.
ومن المعلوم أن الأرض بذاتها ليست قابلة للنماء في نفسها وإنما نماؤها في ثمرتها اللهم إلا أن تكون للتجارة فإن نماءها قد يكون في ارتفاع سعرها، وهذا الارتفاع في السعر لا يعود على المقتني بشيء فسواء غلت الأرض أو رخصت فإن العائد عليه منها هو بيعها ما دام لن يبيعها، فليس من الإرفاق بالمالك أن يزكي عن الأرض بتقويمها كل سنة ويزكي غلتها من ثمار وزروع.
وقد نص أبو عبيد المتوفى سنة 224 على الإجماع على أن لا زكاة في الخضر عند علماء الحجاز والعراق والشام.
أما العمارات السكنية: فإن كانت لسكنى صاحبها فلا زكاة فيها إجماعا، ولو كانت فسيحة أو تزيد على حاجته لأن له حق التوسع والتوسعة على نفسه وعياله، وقد كان للصحابة الدور الكبار مثل قصر سعد بالعقيق وغيره ولم ينقل أنه كان يؤمر بتقويم مسكنه ويزكيه.
فإن كان للكراء: فقد نص مالك أيضا في الموطأ بقوله: "الأمر المجتمع عليه عندنا في إجارة العبيد وخراجهم وكراء المساكن وكتابة المكاتب أنه لا تجب في شيء من ذلك الزكاة قل أو كثرت حتى يحول عليه الحول من يوم قبض صاحبه".
فهو ينص على أن السكن إذا كان للكراء أي للالستغلال والنماء فإن الزكاة في كرائه فقط وحتى يحول عليه الحول.
وكذلك نص غيره قال في المغني ما نصه: "ولو أجر داره سنتين بأربعين دينارا ملك الأجرة من حين العقد وعليه زكاة جميعها إذا حال عليه الحول"إلى أن قال: "ثم إن كان قد قبض الأجرة أخرج الزكاة منها وإن كانت دينا فهي كالدين معجلا كان أو مؤجلا، وقال مالك وأبو حنيفة لا يزكيها حتى يقبضها ويحول عليها الحول بناء على أن الأجرة لا تستحق بالعقد وإنما تستحق بانقضاء مدة الإجارة".
ثم قال: "وعن أحمد رحمه الله رواية أخرى: فيمن قبض من أجر عقاره نصابا يزكيه في الحال فقد ذكرناه في غير هذا الموضع وحملناه على أنه حال الحول قبل قبضه".
فهذه نصوص الفقهاء على كراء المساكن ومعلوم أن عين المسكن صغيرا كان أو كبيرا إنما هو مال مكتسب ومختص بمالكه ولا يحل لنا أن نأخذ منه شيئا بدون وجه مشروع، فمن ادعى المشروعية فيه فليبين دليل المشروعية وإلا بقي المال معصوما كعصمة دم صاحبه، كما في الحديث.
أما المصانع: فمعلوم أن كل مصنع أيا كان نوعه أنه لم ينشأ إلا لعمل تجاري وبقصد الاستفادة من إنتاجه وعليه فهو من أول وهلة مؤسس بمال للتجارة ويلزم اعتبار كل شيء فيه من عروض التجارة، إلا أنه ومواد صناعته وإنتاجه الصناعي يقوّم جميعه وتزكى القيمة، كل هذا في العمارات السكنية وفي المصانع الإنتاجية إذا كانت لشخص.
فإن كانت لشركاء كشركة مساهمة نظرنا: إن كانت الأراضي الزراعية أو العمارات السكنية أو المصانع اشتريت أو أنشئت لتباع فهي عروض تجارة لحساب المساهمين فإما أن تتولى إدارة تلك الشركة الزكاة عن الجميع: رأس المال والربح سواء في نهاية كل حول وإما أن يتولى المساهمون بأنفسهم زكاة أجزاء مشاركتهم أي أسهم مشاركتهم لمن بلغت أسهمه نصابا على ما هو معلوم.
وإن كانت ابتنيت المساكن للقنية ولكل مساهم حصة مشاعة ولكن للتأجير لا للتجارة كانت أعيانها على أملاك المشتركين وكان ما حصل من أجرة يزكى إذا حال عليه الحول على الوجه المتقدم. لبقاء أعيان ذلك في ملكهم وإنما العائد عليهم منها هو الأجرة المتحصلة ومن كان عنده مال آخر يزكيه فإنه يضم حصته من الربح أو من الأجرة إلى رأس ماله الآخر ويزكيه مع سائر أمواله ولا يكون له حول مستقل.
وهذا أعتقد أنه وضح لا لبس فيه، وما كان عليه السلف فهو الذي ينبغي أن يسير عليه الخلف.
وما تجدد من شركات نقل أو أعمال سياحية فكلها على قاعدة التملك للقنية أو للتجارة فمن يوجد عنده سيارة كمن يوجد عنده بعير في السابق في أصل الاستخدام ومن عنده عشر سيارات كمن عنده عشر من الإبل.
ولم يقل أحد إن أصحاب الإبل التي كانت تنقل عروض التجارة على إبلهم في ذاتها زكاة، فكذلك اليوم وسائل النقل على اختلاف أنواعها لا زكاة في أعيانها وإنما الزكاة في أجورها.
وهذا أيضا أعتقد أنه واضح لا لبس فيه.
أما السببان اللذان ذكرهما السائل للالتباس على الرأي وهما في قوله:
أولا: أننا نواجه أموالا لم تكن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كالعمارات والمصانع والشركات.
فأعتقد أن هذا لا لبس فيه لأنها وإن كانت جديدة في أشكالها وصورها فليست جديدة في حقيقتها وأصلها لأن جنسها كان موجودا فالمساكن المؤجرة كانت موجودة وتقدم قول العلماء فيها وسواء أكانت صغيرة أو كبيرة فالكلام على الكيف لا على الكم، وكذلك المصانع فإن قضية حماس مع عمر رضي الله عنه لما رآه يحمل جلودا مصنعة بالدبغ ونحوها، فقال عمر رضي الله عنه:"أدِّ زكاة مالك"، فإذا كان الأصل في جلود الحيوانات كمادة خام وهي الأهب، فإذا دبغت صارت أدما وقد قال حماس:"ما لي مال إلا أدم أبيعها" فهذا معناه تصنيع لما فيه من تطوير المادة الخام، وكذلك ما جاء في حديث سمرة في البزّ والبزّ نسيج تطورت فيه مادته من قطن أو كتان أو مخلوط الحرير مع أحدهما.
فيكون مبدأ التصنيع وزكاة إنتاج الصناعة موجودا ولو بصورة بسيطة أو مبسطة، فيلحق بها كل ما وجد من جنسها من المصانع أيا كان حجمها أو نوع إنتاجها.
وأقوى من هذا من حيث الإسناد، ما رواه الإمام أحمد وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يحث عمر على الصدقة فجاء فقال منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلا إنه كان فقيرا فأغناه الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدرعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي عليّ ومثلها معها
…
الخ"، فهنا آلات الحرب مصنعة ظنوها عند خالد للتجارة فطالبوا بزكاتها.
ورد عنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنها هي بنفسها مسبلة في سبيل الله فلا زكاة فيها أي لأنها هي زكاة أي صدقة فتصدق بها، ومفهومه لولا ذلك لزكاها وهي مال مصنع وجبت فيه الزكاة لولا أنها مسبلة عند خالد.
أما السبب الثاني لوجود الالتباس على الرأي وهو قول السائل أننا نشأنا في بيئة رأسمالية أثرت في نفوسنا واستقرت في أعماقنا إلى جانب عقيدتنا الإسلامية فأصبحنا نحاول التوفيق من حيث لا نشعر بين إسلامنا وبين حرصنا على أن يبقى المال بيد مالكه لا تؤثر عليه التشريعات الإسلامية.
فهنا يقال وبكل هدوء ما المراد بالبيئة الرأسمالية أهي على المفهوم الاقتصادي التمسك برأس المال أم المفهوم السياسي ما هو مقابلة الشيوعية؟.
وعلى كل إذا كنا نتفق بأننا نشأنا في بيئة مسلمة فإن أقرب الاعتبارات لمدلول هذا القول هو المفهوم الاقتصادي فينبغي أولا وقبل كل شيء أن لا نتأثر بهذه التيارات الحديثة ولو في مسمياتها حتى أننا نسمي النظام الإسلامي باسم مستورد له مدلول خاطئ في نظر الإسلام.
لأن الإسلام ليس رأسماليا ولا حتى اشتراكيا، بل هو الإسلام بنظامه ومنهجه راعي حرمة الملكية وطالب بمساعدة من لا ملك له.
ويحث على الكسب المشروع ويحرم أي كسب غير مشروع والكسب غير المشروع هو المعروف عند الاقتصاديين ما كان في غير مقابل كالربا والميسر والاعتداءات كالسرقة والغصب والغش
…
الخ.
وعليه فلا يتأتى بحال من الأحوال أن يلتبس النظام المالي في الإسلام بأي نظام مالي آخر.
وبالتالي فلا نحتاج إلى التوفيق من حيث نشعر أو لا نشعر بين عقيدتنا وبين إبقاء المال بيد مالكه لا تؤثر عليه التشريعات الإسلامية.
ثم لماذا نحاول إبقاء المال بيد مالكه وهو بالفعل في يده؟ هذا هو الأصل وهذا ما يسمى في الأصول استصحاب الأصل.
ولكن القضية بالعكس نريد أن نحاول إخراجه من يده بتشريعات جديدة وإسلامية، وهذا محل البحث فهل بالبحث وجدت تشريعات إسلامية سوى ما كانت من قبل تخول إخراج المال من يد صاحبه؟.
وكلنا يعلم أن المال في يد صاحبه معصوم إلا بحقه والمسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه إلا بحقه.
ولا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس، إذًا فأين التشريعات الإسلامية التي نحاول أن نجنب مال صاحب المال عنها؟.
أما قول السائل بأنه يخشى أن يكون قاسيا إذا قال إننا عندما نصدر حكما إسلاميا نقف على أرضية رأسمالية تؤثر في أحكامنا وآرائنا فأقول بدون خشية ولا تخوف إن من يكون مثل ما وصف السائل من حيث موقفه وتأثره لا يكون في قوله عليه قسوة، ومن كان بعيدا عن ذلك فهو بعيد عن أن تناله قسوته، والحق أحق أن يتبع.
ولكن يبدو أن في هذا الأسلوب وفي الإحساس بتلك القسوة ما يمكن أن يكون فيه تناقض إذا قلنا أحكاما إسلامية ونحن على أرض رأسمالية أي إنها أرض متأرجحة أو زلقة لا تثبت القدم عليها أو رأسمالية تتنافى مع الإسلام، فكيف نصدر أحكاما إسلامية من قاعدة غير إسلامية.
أعتقد أن الإحساس بالقسوة هو الذي ساق هذا التعبير.
وأما قول السائل إن بعض الكتاب المسلمين عند معالجتهم لهذا الموضوع بقولهم من أين يأتي صاحب العمارة بالزكاة إذا لم تؤجر أو ماذا يفعل صاحب المصنع إذا كانت زكاة مصنعه أو عمارته مقومة أكثر من ربحه أو بدل إيجار عمارته.
فيقال أولا: وأي عمارة الآن في أي قطر معطلة عن السكن لانعدام الساكن؟ وهل بنيت إلا استجابة لحاجة المجتمع إلى سكن؟.
أما كون ربح المصنع لا يفي بزكاة ما يقوم به فهذا بعينه يرد على مال التجارة فقد يخسر ولا يكسب شيئا ومع ذلك فإنه يقوم ما يوجد عنده لأنه مال زكوي والربح والخسارة أمور عارضة كمن عنده ذهب وفضة ولم يعملها في شيء يربح منه فإنه يزكيه من عينه ولو أدى إلى نقصانه كل سنة كما قالت عائشة رضي الله عنها: "اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة".
أما قول السائل مبديا رأيه بما نصه:
أما عن الأموال التي لم تكن موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي اليوم معظم مجموع مال الأمة من عمارات ومصانع وشركات وغيرها فإنني أرى أن الصحيح أن نطبق عليها حكم القرآن والسنة قبل أن نلجأ إلى الاجتهاد ـ {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} وجميعها أموال سواء أكانت منقولة أو غير منقولة وسواء أكان الاتجار بأعيانها أو منافعها، وقد جعل الله الحق العام فيها لا في أرباحها ولا في ريعها.
إن قول السائل عن الأموال التي لم تكن موجودة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد بينا أنها كانت بأجناسها فليس في الأمر جديد من حيث الأصل.
وأما رأي السائل في تطبيق القرآن والسنة، فإن للآخرين أن يقولوا بالموجب المعروف عند الأصوليين وهو القول بموجب ما يقول السائل به فعلا.
ولكن وما هو حكم القرآن والسنة، وقد قدمنا أن قوله تعالى:{حَقٌّ مَعْلُومٌ} قيد الحق المطلوب بأنه معلوم ولا معلوم في التشريع إلا من جهة المشرع والسنة فسرت وأعلمت وليس لأحد حق في تشريع جديد، فنقول نعم إن العمارة والمصنع والأرض مال، ولكن عموم المال قد جاء تخصيصه وجاء بيان المخصوص منه وبيان المزكى منه وبيان الحق المطلوب فيه.
وقد درست هذه المسألة حديثا على مستوى المؤتمرات ومجامع البحوث واتفقت الكلمة على أن لا زكاة في أعيان العقارات ولا أعيان الأراضي الزراعية كما جاء في كتاب "التطبيق المعاصر للزكاة" للدكتور شوقي إسماعيل شحاته طبع سنة 1397هـ،1977م جاء في الباب السادس منه زكاة إيرادات الأموال العقارية. جاء في الفصل الثاني منه عنوان زكاة العقارات المبنية ذات الإيراد، قال في مستهل كلامه منه ما نصه:"لا شك أن الدور والمباني إذا كانت للسكنى الخاصة فلا زكاة فيها لأنها مال يراد لحاجة أصلية".
ثم يقول: "أما الآن وقد أصبحت الدور والمباني تشيد بقصد الاستثمار طلبا للفضل والنماء"إلى أن يقول: "لذلك يتعين إخضاعها لزكاة المال".
ثم يقول: "إنها لا تخضع لزكاة التجارة وإن مكانها بين الأموال العقارية ذات الإيراد شأنها شأن الأطيان الزراعية التي تؤخذ زكاة الزروع والثمار من غلتها".
ثم نقل رأي حلقة الدراسات الاجتماعية بدمشق سنة 1372هـ - 1952م وهو قياس زكاة العقارات المبنية ذات الإيراد على زكاة الزروع والثمار حيث إن كلا منها يعتبر أصلا ثابتا يدر إيرادا.
ونقل أيضا رأي مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني سنة 1385هـ وهو أن المؤتمرين قرروا أن لا تجب الزكاة في أعيان العمائر الاستغلالية والمصانع والسفن والطائرات وما شابهها بل تجب الزكاة في صافي غلتها عند توافر النصاب وحولان الحول.
ثم ناقش ما يكون من زكاة أو 5 \ 2% أو 10%، كالزرع الخ، فهم يتفقون بخصوص العقارات أن لا زكاة في أعيانها.
وهذا الذي يهمنا في قراراتهم حيث إنها الموافقة للنصوص، وإن كنا نختلف معهم في كل ما ذكر من طائرات وسفن
…
الخ، وفي نسبة ما يكون فيها من الزكاة.
وأعتقد أن للشيخ محمد أبي زهرة رأيا كذلك في هذا بأن الأعيان لا زكاة فيها ولا حول في زكاة أجرتها، على رأي قدمناه عند الحنابلة وإن كان مرجوحا.
أما قول السائل بأن القول بأخذ الزكاة من أرباح المصانع وإيجار العمارات قد فتح أبوابا كثيرة كلها تريد التنصل من الزكاة، فهذا يقول بلزوم نفقات الزروع أولا وذلك يقول لا زكاة في المعلوفة من الأغنام، وآخر يقول لا زكاة في عروض التجارة وهناك من يقول لا زكاة في المجوهرات التي تتعدى أقيامها مئات الآلاف والتي تزين صالات الأغنياء وقصور المترفين، ومن قائل لا زكاة إلا في الذهب والفضة والحنطة والشعير والزبيب والغنم والإبل والبقر إلا آخر ما هنالك من آراء تخرج معظم الأموال من الزكاة.
فأقول وبالله التوفيق إن من هذه الأقوال الصحيح والباطل، ومعلوم ما قاله مالك رحمه الله:"كل كلام فيه مقبول ومردود إلا كلام صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم".
وإني لمورد إلمامة موجزة على هذه الأصناف بإذن الله.
1-
أما المصانع والعمارات فقد قدمنا القول فيها.
2-
وأما إخراج نفقات الزرع أولا فهذا تفريع لا تأصيل لأن زكاة الزروع متفق عليه وتقدير النفقات محل خلاف والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يوصي العامل بشيء عن النفقات.
3-
أما زكاة المعلوفة: فإن الأصل في ذلك الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم في سائمة الغنم الزكاة، فكان مفهوم الوصف الذي هو السوم أن لا زكاة في المعلوفة لانتفاء وصف السوم المذكور، ولكنا نقول إذا كانت المعلوفة معدة للتجارة ففيها زكاة التجارة وعلى نظام التجارة بالتقويم لا زكاة الغنم بالعدد.
4-
أما عروض التجارة فالنصوص متضافرة في زكاتها ولم يخالف الجمهور فيها إلا داود ولم يؤثر ذلك في الوجوب ولا عبرة بمن خالف فيها..
5-
أما المجوهرات: فما دمنا مقيدين بالنص كتابا وسنة، والأصل في الإسلام عصمة المال كعصمة الدم سواء بسواء لا يجوز شيء منهما إلا بحقه، وجاءت نصوص الزكاة عامة وخاصة أي عموم {وَفِي أَمْوَالِهِمْ} و {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} واتفقنا أن هذا العموم قد خصص بأصناف معينة
…
وقيد بقيود مميزة، وبينتها السنة بيانا شافيا.
فهل وجدت من النصوص ما يدخل الجواهر في الزكويات ولو عن الخلفاء الراشدين وبعد الفتوحات وأخذ الغنائم من كسرى وقيصر وبعد أن فتحت مصر والشام والبلدان المعروفة وغنم المسلمون من الجواهر الشيء الكثير كما هو معلوم، وكان للخلفاء الراشدين حق وضع السنن للناس فيما استجد لهم فهل يوجد عن أحد منهم نص في ذلك، وهذا نص أبي عبيد نحو هذا يقول:
"وإنما اختلف الناس في العنبر واللؤلؤ فالأكثر من العلماء على أن لا شيء فيهما كما يروى عن ابن عباس وجابر وهو رأي سفيان ومالك جميعا.
ومع هذا إنه قد كان ما يخرج من البحر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلم تأتنا عنه فيه سنة علمناها ولا عن أحد من الخلفاء بعده من وجه يصح فنراه مما عفا عنه كما عفا عن صدقة الخيل والرقيق".
فتراه هنا وهو إمام في هذا الباب وعاش في القرن الثاني وأدرك القرن الثالث أي أدرك القرون المشهود لها بالخير وآثار الفتوحات ينص على اللؤلؤ وهو من الجواهر الكريمة وإن كان بحريا فيكون مثله الجواهر البرية من الأحجار الكريمة.
وهذا هو عمل الأئمة رحمهم الله.
وقد يقال إن الوعيد في منع الزكاة جاء النص فيه على الذهب والفضة فقط {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ولم تأت في غيرهما من الحلي والجواهر، وقد يرشح لهذا قوله تعالى:{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ} ، والذي هو صالح ليحمى عليه هو المعدن، وجاء في الحديث "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا إذا كان يوم القيامة صفح له صفائح من نار فيكوى بها جبينه وجنببه
…
الخ"، وهو الذي يتناسب مع الذهب والفضة ولا يتأتى صفائح من الأحجار الكريمة وجاء النص على بقية الأموال الزكوية من إبل وبقر وغنم
…
الخ.
وجهة نظر: ولي وجهة نظر أعرضها للمناقشة وهي:
إنه من المعلوم أن الذهب والفضة هما قيم الأشياء وأثمانها ويقولون إن فرض الزكاة فيها يمنع كنزها وتجميدها ويدفع بصاحبها إلى دفعها في الأسواق وتعميلها فيسهم في إنعاش اقتصاد الأمة، أقول وبالتالي فإن الجواهر عنصر جامد وظيفته النقدية أي بعبارة أخرى الذهب والفضة مال سيال والجواهر مال جامد، بل إنه لا نماء فيه فالأرض والعقار وعروض التجارة مال جامد صامت لكنها كلها مال نام متحرك، وبذلك فقد غايرت الجواهر جميع أصناف المال من هذه الناحية.
بقي ما أشار إليه السائل من أنها تساوي الملايين ويزين بها القصور ونحو ذلك، فيقال إن فُعِل ذلك للزينة فقط فلا بأس وله دليل من قوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} .
وإن كان فُعِل ذلك تهربا من الزكاة وإذا مضى الحول حولها إلى مال نام يستغله فإنها حيلة لا تصح ولا تعفيه من المسئولية.
وأعتقد أن في هذا الكفاية من هذا الوجه والله أعلم.
ومما يستأنس به ما نص عليه ابن حزم أنه لا زكاة في المجوهرات مطلقا وقال: "لأنه مال مسلم محترم لا يؤخذ إلا بنص صحيح صريح".
أما مناقشة السائل للحاصل الزراعي وأنه ليس ربحا محضا فتقدم الكلام عليه بما لا يحتاج إلى إعادة.
ولكن في قوله: الذي أعتقده بخصوص الأرض أن المزارع كان يملك أرضه التي يزرعها بنفسه وهي في هذه الحال مال غير نام مشغول بالحاجة الأصلية كحانوت البائع أو محل التاجر، وآلة الزراعة يومها لا تعدو أن تكون محراثا
…
الخ وعلى هذا الأساس فإن كل ما يملك المزارع وقت الحصاد من مال هو حاصله الزراعي، وأخذ الزكاة من الحاصل يعني أخذها من المال وليس من الربح أو النماء.
أقول إن المتأمل في هذا القول يجد شبه تخالف لأن تلك الأرض التي كان يزرعها المزارع والتي هي مشغولة بالحاجة هي التي جاء فيها {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وهي التي أخذ النبي صلى الله عليه وسلم فيها العشر أو نصفه، فهي إذا زائدة عن شغل الحاجة وليس في عينها زكاة.
أما أنها كانت لا قيمة لها فهذا باب آخر أطال الكلام فيه الأستاذ أبو الأعلى المودودي بما لم يقله إمام من الأئمة وليس عليه عمل من سلف الأمة فلا حاجة إلى نقاشه.
أما قول السائل بأن الأرض كانت تملك بطريق التصرف أي الإحياء وليست مالا، فإنكم لو أعيد النظر لوجد أن الأرض في ذلك الوقت هي عين المال، ألم يشتر النبي صلى الله عليه وسلم أرض المسجد أول قدومه المدينة.
ألم تكن الأرض موضع الغرس، وغرس النخل أطول الأشجار عمرا؟.
إن الأرض التي تملك بالتصرف هي الأرض الميتة التي لم تكن محياة لا بزرع ولا بنيان ولا غير ذلك، وقد كان الإمام يقطع ما شاء منها لمن شاء وإلا لما كان للإقطاع من الإمام محل إذا كانت الأرض ليست مالا وتملك بالتصرف، وعليه يقال: كانت الأرض موجودة والزكاة مفروضة ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم زكاتها فعدم الفعل مع وجود المقتضي وعدم المانع يدل على عدم الوجوب.
أما اعتقاد السائل مرة أخرى أن حولان الحول يتحقق على الحاصل الزراعي وقت الحصاد لاستغراق الموسم الزراعي حولا ابتداء بالحراثة والبذر ونحوه، فهذا يغاير طبيعة الزراعة لأن أطول الزراعة عمرا في الأرض هو القمح ومدته لا تتجاوز ستة أشهر، أما الذرة فلا يصل ثلاثة أشهر وفيه مع ذلك مغايرة لما عليه جمهور المسلمين.
أما مشروعية زكاة البقر: فجاء في رسالة السائل أن أبا بكر رضي الله عنه أخذ الزكاة عن الإبل والغنم ولم يعلم وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على البقر زكاة لأن بلاد نجد والحجاز بلاد غنم وإبل إلا أن معاذا رضي الله عنه عندما ذهب إلى اليمن وجد فيها البقر تجارة نامية فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بوجوب الزكاة فيها وروى ذلك عنه.
الواقع أن زكاة البقر مشروعة قبل أن يذهب معاذ إلى اليمن وقد جاء في خطاب عمرو بن حزم الأنصاري الذي فيه أنصباء الزكاة وفي نص حديث بعث معاذ نفسه عن ابن عباس قال: "لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تبيعا أو تبيعة جذعا أو جذعة، ومن كل أربعين بقرة بقرة مسنة، قالوا: فالأوقاص قال ما أمرني فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله فقال: ليس فيها شيء.
وبهذا لم يكن تشريع زكاة البقر نتيجة تجدد العلم بوجود هذا النوع من المال ولم يكن يعلم عنه من قبل حتى نجعله قاعدة لاجتهاد جديد.
بل إن النصوص تربط زكاة البقر بزكاة الإبل لمشاكلتها بها وفي الحديث الطويل: "ما من صاحب كنز
…
الخ، ولا صاحب بقر لا يؤدي زكاتها
…
الخ"، راجع نيل الأوطار.
زكاة الخيل: وقال السائل وكذلك فعل سيدنا عمر عندما أخذ الزكاة عن الخيول وقد أصبحت في عهده أموالا وتجارة رغم أن رسول الله لم يأخذ الزكاة فيها.
وأود أن أذكر أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لم يأخذ الزكاة في الخيل ولم يأخذ ما أخذه ابتداء من نفسه.
ولم يطالب أهل الخيل بشيء فيها وإنما حقيقة الأمر كالآتي:
أولا: عدم وجوب الزكاة فيها لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم صدقة في عبده ولا فرسه"، ولما ذكر صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد في مانع الزكاة في الذهب والفضة والإبل والغنم قالوا والخيل يا رسول الله قال:"الخيل معقود في نواصيها الخير"، وذكر أقسامها الثلاثة: أجر وستر ووزر، وبين أن الأول المحتبسة في سبيل الله والثانية المستغني بها صاحبها والثالثة التي ربطها صاحبها بطرا
…
الخ، وذكر ولم ينس حق الله في ظهورها وفسر بمعان عديدة، ولم يأخذ صلى الله عليه وسلم فيها زكاة قط.
هذا هو الأصل وكذلك كان الحال في خلافة الصديق رضي الله عنه أما عمر فلم يخرج عن هذا الأصل، والأصل في أخذه فيها هو ما رواه أحمد رحمه الله أن عمر رضي الله عنه جاءه ناس من أهل الشام فقالوا:"إنا قد أصبنا أموالا خيلا ورقيقا نحب أن يكون لنا فيها زكاة وطهور"، قال:"ما فعله صاحباي قبلي فأفعله"، واستشار أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وفيهم علي رضي الله عنه فقال علي:"حسن إن لم تكن جزية راتبة يأخذون بها من بعدك"فتراه هنا يعرض عن أخذ الزكاة محتجا بعدم أخذ صاحبيه من قبله.
ونرى عليا رضي الله عنه يحسن أخذها ما لم تكن جزية يأخذون بها من بعد عمر رضي الله عنه.
فأين فرضية الزكاة في الخيل في فعل عمر، أم تكون جزية يأخذون بها اليوم.
ثم إن القائلين بزكاة الخيل وهم الأحناف فقط مختلفون في كيفية زكاتها.
هل على كل رأس دينار أو تقوم أم ماذا لعدم النص في ذلك؟.
هذا كله إذا كانت الخيل للنماء وأما التي كعروض تجارية فهي مزكاة زكاة التجارة بإجماع.
أما ما نواجهه اليوم من شركات الدواجن للحم والبيض ورؤوس أموالها بالملايين فهل يتركها الإسلام بلا زكاة.
ويقول السائل إنكم تعتقدون أن الكتاب والسنة من جهة والعدل في فرض التكاليف من جهة أخرى كلها تقضي بفرض الزكاة على الأموال.
أقول وبالله التوفيق إن اعتقاد السائل هذا صحيح ما دامت تلك الشركات تشغل وتستثمر الملايين وهي أعمال نامية سواء في دواجن أو أسماك ما دامت للتجارة وإن كان أصل السمك لا زكاة فيه فإذا أدخل في التجارة بالصيد والبيع أو التصنيع فإنه حينئذ يزكى كل المال الذي يعمل لذلك.
وأما قول السائل إن مجال الاجتهاد واسع في ميادين أخرى.
فهذا حق ومحل الاجتهاد في باب الزكاة اليوم هو إلحاق المسكوت عنه الذي استجد بنظيره المنصوص عليه كجميع أنواع الأعمال التجارية بل مثل شركات الإنشاء وعمل المقاولات فإن على ذلك كله زكاة فيما يعمل ويسهم في الاستثمار نزكي الآليات والمواد المستخدمة كلها مع ما تحصل عليه الشركة من أرباح تقدر الآليات وتضاف قيمتها إلى ربح العملية ويزكى الجميع، وهذا هو الاجتهاد بأوسع معانيه.
أما الضرائب التصاعدية أو غير التصاعدية: فإنها تؤخذ باسم الدولة لمصلحة خزينة الدولة وتغطية نفقات رسمية لا صلة لها بالمساكين ولا مصارف الزكاة.
فهي وإن كانت لمصالح الدولة وقد تضطر الدولة التي لا موارد لها إلى أن تفرض مثل ذلك على الأموال لسد حاجاتها بل ولتجهيز جيوشها على ما هو معلوم إلا أن فيها من الظلم ما لا يخفى في جعلها تصاعدية حتى تصل إلى 90% أحيانا.
ولهذا مضاره على الفرد وعلى الجماعة معا من تساهل في الإنتاج وتحايل على الدولة نفسها ومحاولة توسيع النفقات وقد حدثني شخص حاج عن رحلات بعض المواطنين إلى أوروبا وتبذير الأموال بأن من دوافع ذلك تصعيد حساب النفقات باسم التجارة حتى لا تذهب الأرباح في الضريبة التصاعدية.
وسبق أن نشرت بعض المجلات عن ذلك في السابق عن البرلمان البريطاني تكلم وزير الخزينة وقال: "رفعنا من نسبة الضريبة ولم ترتفع نسبة الدخل إلى الخزينة". فأجابه عضو البرلمان قائلا: "بقدر ما ترفعون من الضريبة بقدر ما يحتالون على مفتش الضرائب".
ولعل بهذه المناسبة يظهر لنا فضل ونبل ورفعة مكانة الزكاة في الإسلام إذ يشعر المزكي أنه يخرجها في سبيل الله وينتظر العوض من الله أضعافا مضاعفة وقد جاء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أن عامله أتى على صاحب إبل بضواحي المدينة (الحناكية) فوجد عليه بنت مخاض فقال صاحب الإبل: "هذه صغيرة لا ظهر لها فيركب ولا ضرع فيحلب ولكن هذه ناقة كوماء فخذها في سبيل الله"فتشاح هو والعامل، العامل لا يريد التعدي بأكثر مما يجب والمالك لا يرضى بالصغيرة في سبيل الله، صورة نزاع لم يشهد لها التاريخ مثيلا، وأخيرا قال العامل له:"إن كان ولا بد فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم منك قريب فخذها وادفعها له أنت بنفسك". فذهب بها وسأله صلى الله عليه وسلم: "طيبة بها نفسك؟ "فقال: "نعم".
فقال للعامل: "خذها ودعا لصاحبها بالبركة في ماله". فكان في زمن معاوية يخرج عددا من الإبل زكاة ماله.
فأنت ترى خلفيات نظام الضرائب من نتائج عكسية في الاقتصاد والنماء وغضاضة في النفس.
بينما إيجابيات نظام الزكاة زيادة في النماء وانتعاش في الاقتصاد وطيبة في العطاء وطهرة للجانبين معا.
وبالله التوفيق وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ابن سبأ حقيقة لا خيال
للدكتور سعدي الهاشمي
أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف
إن الحمد لله نحمده ونستيعنه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
فلقد اتفق المحدثون وأهل الجرح والتعديل والمؤرخون وأصحاب كتب الفرق، والملل والنحل والطبقات والأدب، والكتب الخاصة في بعض فنون العلم على وجود شخصية خبيثة يهودية، تلك هي شخصية عبد الله بن سبأ الملقب بابن السوداء الذي قام بدور خطير، وبذر الشر المستطير بين المنافقين والشعوبيين ومن في نفسه أهواء وأغراض، أظهر الإسلام في عهد عثمان رضي الله عنه، وأظهر الصلاح والتقرب من علي رضي الله عنه ومحبته، وطاف بلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الأئمة فبدأ بالحجاز ثم بالبصرة ثم بالكوفة، ثم دخل دمشق فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه فذهب إلى مصر واستقر بها، وأخذ يراسل ويكاتب بعض المنافقين والحاقدين الناقمين على خليفة المسلمين، وجمع حوله الأعوان، ونظمهم وأخذ يبث بينهم معتقده الخبيث، ودربهم على روح التمرد والإنكار حتى تجرؤوا على قتل ثالث الخلفاء وصهر المصطفى صلى الله عليه وسلم جامع القرآن عثمان بن عفان شهيد الدار رضي الله عنه وأرضاه.. ولم يرعوا حرمة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبالوا بتلاوته للقرآن ولا الشهر الحرام.
ولم ينكر هذا من له حظ من علم، ومسكة من عقل إلى في العصر الحاضر من هذا القرن، وهم نفر قليل ما بين مستشرق حاقد ومتابع لهم ومتقرب الزلفى لمدارسهم وفكرهم من أبناء جلدتنا الذين يتكلمون بألسنتنا، ومسلم جاهل أو منكر مكابر من بعض شيعة اليوم، وهؤلاء جميعا جانبوا الحق الصريح وتمسكوا بأقوال متنافضة هي أوهى من بيت العنكبوت.
موقف المستشرقين
أما المستشرقون فأنكروه وقالوا إنه شخصية وهمية تخيلها محدثوا القرن الثاني ومن هؤلاء المستشرقين الذين أنكروه اليهودي الإنكليزي الدكتور برنارد لويس LEWIS،B. [1] ، ويوليوس فلهوزن WELLHAUSEN،J [2] اليهودي الألماني الذي بدأ دراسته باللاهوت، وفرييد لاندر FERIEDLAENDER [3] الأمريكي، والأمير كايتاني CAETANI LEONE [4] الإيطالي.
ومن المعلوم عند العقلاء المنصفين أن ديننا وعقيدتنا وتاريخنا وما يتعلق بتراثنا لا يمكن أن نعتمد فيه على تقولات ودراسات هؤلاء الحاقدين الذين ينضوون تحت راية الحروب الصليبية بمنهج وأسلوب فكري، لا أسلوب السيف والبارود ولو كانوا أصحاب نوايا صادقة لشرح الله صدورهم بالإيمان لما أطلعوا على صفاء الإسلام ونقاء ثوبه، ولكنهم كرسوا جهودهم وأفنوا حياتهم في إلقاء الشبهات والشكوك والضلال والريب بكل ما يتعلق بالقرآن والسنة والعقائد والنظم الإسلامية والتاريخ الإسلامي، ومعظم هؤلاء المستشرقين من القسس واليهود، وأعمالهم ومناهجهم تنظم ما بين الكنيسة ودوائر المخابرات ووزارات الخارجية إلا أفرادا هوايتهم العلم والبحث وهم قلة قليلة.
أتباع المستشرقين
أما أتباع المستشرقين الذين خدعوا بهم وغرهم منهجهم العلمي المزعوم فيرددون ما يطرحون من أفكار ودراسات ويدندنون حول معتقداتهم لينالوا الزلفى منهم وعلى رأسهم الدكتور طه حسين [5]، الذي غذى حجيرات مخه بفكر المستشرقين حتى كان يقول:"إنني أفكر بالفرنسية وأكتب بالعربية"[6] .
ويكفيه خزيا أنه كان مطية لليهود، فدعاة الشيوعية في مصر في مطلع هذا العصر كانوا يهودا وهم "هنري كوريل، وراؤول كوريل، وريمون أجيون"وكانوا هؤلاء وغيرهم يمولون الحركات الشيوعية بالمال وقيل بالجنس أيضا، وقد تعاقدوا مع الدكتور طه حسين على إصدار مجلة الكاتب المصري، وكان الدكتور طه حسين قد أعلن تأييده لمفهوم اليهودية التلمودية باكرا حين أنكر وجود إبراهيم وإسماعيل وكذب القرآن والتوراة ولم يكن يُعرف في هذا الوقت الباكر أن ذلك تمهيد لتحقيق أهداف الصهيونية [7] وغير ذلك من الأفكار والضلالات التي لم يجرؤ حتى المستشرقون بالإفصاح والإعلان عنها [8] .
أضواء على طه حسين
ومن المعلوم عن طه حسين أن أباه جاء إلى صعيد مصر - مدير المنيا - من بلد غير معلوم من المغرب وكان يعمل وزّانا في شركة يهودية للسكر، وطه حسين هو الذي تبنى إصدار قرار بتعيين الحاخام اليهودي (حاييم ناحوم أفندي) حينذاك عضوا في مجمع اللغة العربية في القاهرة ليكون عينا على المفكرين ورجال اللغة، كما أنه عين عددا من الأساتذة الأجانب في كلية الآداب استوردهم وبعضهم يهود وكلهم كانوا يحاربون الإسلام أو يشككون فيه، وأول دكتوراه منحتها (كلية الآداب) في جامعة القاهرة تحت إشراف الدكتور طه حسين كانت بعنوان (القبائل اليهودية في البلاد العربية) تقدم بها (إسرائيل ولفنسون) عميد جامعة هاداسا في تل أبيب الآن [9] .
بعد هذه الأضواء التي تظهر لنا بوضوح ولاء الدكتور طه حسين لليهود لا نستغرب من إفكاره لابن سبأ، يقول طه حسين: إن أمر السبإية وصاحبهم ابن السوداء إنما كان متكلفا منحولا قد اختُرع بأضَرَة فحين كان الجدال بين الشيعة وغيرهم من الفرق الإسلامية، أراد خصوم الشيعة أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصرا يهوديا إمعانا في الكيد لهم والنيل منهم
…
الخ كلامه [10] .
أدلة الدكتور طه حسين
ويستدل على ما ذهب إليه أن البلاذري لم يذكر شيئا عن ابن السوداء ولا أصحابه في أمر عثمان.
ثم يستغرب الدكتور طه حسين كيف أن حادثة تحريق عليّ للذين ألهوه والتي ذكرها الطبري كيف لم يذكرها بعض المؤرخين ولم يؤقتها، وإنما أهملوها إهمالا تاما [11] .
الرد عليه
أما عدم ذكر البلاذري لابن سبأ فلا يعني أسطورة وجوده، لأنه قد يذكر بعض المؤرخين ما لا يذكره البعض الآخر منهم، ثم هل التزم البلاذري بذكر كل الوقائع والأحداث؟ وربما لو ذكر البلاذري أخبار ابن سبأ وأصحابه لقال البلاذري لا يعتمد على أخباره لأنه غير متفق على توثيقه [12] .
أما حادثة تحريق علي رضي الله عنه للذي ألهوه فسنذكرها في موقف الإمام علي من عبد الله بن سبأ وأصحابه، حيث ذُكرت في أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل وهذه الروايات تغني عن الروايات التاريخية، إضافة إلى ذلك فقد ذكرت في الكتب الموثقة عند الشيعة.
الدكتور محمد كامل حسين
واعتبر الدكتور محمد كامل حسين قصة ابن سبأ أقرب إلى الخرافات منها إلى أي شيء آخر [13] ، متابعا في ذلك الدكتور طه حسين، ولم يذكر أي دليل لما يراه.
الدكتور حامد حفني داود
وكذلك يرى الدكتور حامد حفني داود رئيس قسم اللغة العربية بجامعة عين شمس أن ابن سبأ من أعظم الأخطاء التاريخية التي أفلتت من زمام الباحثين وغمّ عليهم أمرها فلم يفقهوها ويفطنوا إليها، هذه المفرتيات التي افتروها على الشيعة حتى لفقوا عليهم قصة عبد الله بن سبأ فيما لفقوه واعتبروها مغمزا يغمزون به عليهم [14] .
الرد عليهم
والدكتور حامد هذا أحد المخدوعين بفكرة التقريب، بل أحد الدعاة إليها، فلا يستغرب منه هذا الكلام ما دام يتقرب من المشككين بكتاب الله والطاعنين في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين ينالون من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أمثال مرتضى العسكري صاحب كتاب (خمسون ومائة صحابي مختلق) وكتاب (أحاديث أم المؤمنين عائشة) .
الشيعة الذين ينكرون ابن سبأ
أما الشيعة في العصر الحاضر فينكرون وجود ابن سبأ، والسبب الحقيقي لإنكارهم إياه عقيدته، التي بثها وتسربت إلى فرق الشيعة حتى المتأخرة منها، وسنذكر أقوال وآراء المنكرين ثم نثبت وجوده وعقيدته من المصادر المعتمدة عند الشيعة.
محمد جواد مغنية وابن سبأ
عبد الله بن سبأ في نظر الشيخ محمد جواد مغنية هو البطل الأسطوري الذي اعتمد عليه كل من نسب إلى الشيعة ما ليس له به علم وتكلم عنهم جهلا وخطأ أو نفاقا وافتراء [15] .
مرتضى العسكري وابن سبأ
وزعم مرتضى العسكري أنه ناقش جميع من ذهبوا إلى وجود عبد الله بن سبأ وخرج بنتيجة هي أن ابن سبأ (شخصية وهمية خرافية ابتدعها واختلقها سيف بن عمر)[16] وصنف كتابا خاصا بابن سبأ بعنوان (عبد الله بن سبأ وأساطير أخرى) .
الدكتور علي الوردي وابن سبأ
وأما الدكتور علي الوردي صاحب (وعاظ السلاطين) فيرى أن ابن سبأ هو نفسه عمار بن ياسر ويستدل على ذلك بما يلي:
1-
أن ابن سبأ كان يكنى بابن السوداء ومثله في ذلك عمار بن ياسر.
2-
كان عمار من أب يماني، ومعنى هذا أنه كان من أبناء سبأ فكل يماني يصح أن يقال عنه أنه ابن سبأ.
3-
وعمار فوق ذلك كان شديد الحب لعلي بن أبي طالب يدعو له ويحرض الناس على بيعته في كل سبيل.
4-
وقد ذهب عمار في أيام عثمان إلى مصر وأخذ يحرِّض الناس هناك على عثمان فضج الوالي منه وهم بالبطش به.
5-
وينسب إلى ابن سبأ قوله: إن عثمان أخذ الخلافة بغير حق وإن صاحبها الشرعي هو علي بن أبي طالب.
6، 7- قضايا تتعلق بدور عمار في حرب الجمل، وفي علاقته مع أبي ذر الغفاري، ويستخلص الوردي أن ابن سبأ لم يكن سوى عمار بن ياسر، فقد كانت قريش تعتبر عمارا رأس الثورة على عثمان، ولكنها لم تشأ في أول الأمر أن تصرح باسمه، فرمزت عنه بابن سبأ أو ابن السوداء، وتناقل الرواة هذا الرمز غافلين وهم لا يعرفون ماذا كان يجري وراء الستار [17] .
ويقول الدكتور: ويبدو أن هذه الشخصية العجيبة اختُرعت اختراعا وقد اخترعها أولئك الأغنياء الذين كانت الثورة موجهة ضدهم [18] .
الدكتور كامل الشيبي وابن سبأ
ثم يأتي بعد الوردي كاتب آخر هو الدكتور كامل مصطفى الشيبي الذي تابع الوردي في أوهامه وخبطه العشوائي وحاول أن يعزّز ما ذهب إليه بإيراد نصوص تثبت القضايا التي وردت في محتوياته، وتابع كذلك الدكتور طه حسين في حرق الإمام علي رضي الله عنه للسبئية فيقول: أما قضية إحراق علي المزعوم للسبئية فإنه خبر مختلق من أساسه ولم يرد على صورة فيها ثقة في كتاب معتبر من كتب التاريخ.
ولعل أصل هذا الحادث يتصل بإحراق خالد بن عبد الله القسري بيانا وخمسة عشر من أتباعه الغلاة، ثم لما تقدم بها الزمن زحزحت الحادثة إلى الأمام قليلا حتى اتصلت بعلي [19] .
الرد على الوردي والشيبي
أما ما ذهب إليه الوردي وتابعه الشيبي وغيره بأن عبد الله بن سبأ هو نفسه عمار بن ياسر فكُتُب الجرح والتعديل والرجال الموثقة عند الشيعة ترد على هذا القول وذلك أن كتبهم ذكرت ترجمة عمار بن ياسر في أصحاب الإمام علي رضي الله عنه والرواة عنه، وتعده من الأركان الأربعة [20] ، وذكرت ترجمة عبد الله بن سبأ وتذكر اللعنة عليه، وتمدح عمارا فكيف نجمع بين هاتين الترجمتين [21] .
وأما تحريق السبئية فسوف نذكر الأدلة الصحيحة في موقف الإمام منهم.
الدكتور عبد الله فياض وابن سبأ
وكذلك أنكره الدكتور عبد الله فياض في كتابه تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة، وهو كتاب مطعم بآراء المستشرقين، وكان المشرف عليه الدكتور قسطنطين زريق أحد أساتذة دائرة التاريخ بالجامعة الإمريكية ببيروت.
يقول الدكتور فياض: يبدو أن ابن سبأ كان شخصية إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة، وأن دوره - إن كان له دور - قد بولغ فيه إلى درجة كبيرة لأسباب دينية وسياسية، والأدلة على ضعف قصة ابن السوداء كثيرة [22] . ويستدل بما ذهب إليه مرتضى العسكري من اتهام سيف بن عمر البرجمي (ت170هـ) باختلاق هذه الشخصية، ويزعم التناقض والمبالغة في الروايات، ويعزز موقفع برأي الوردي، ومتابعة الشيبي.
طالب الرفاعي وابن سبأ
ويظهر بعد هؤلاء المدعو طالب الحسيني الرفاعي فيقول في حاشيته على مقدمة محمد باقر لكتاب تاريخ الإمامية والتي طبعها تاجر الكتب الخانجي بالقاهرة سنة 1397هـ/1977م باسم (التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية) على أنه لو كان ابن سبأ هذا حقيقة تاريخية ثابتة فعلا، فإنه - كما سنذكره مفصلا في مبحث خاص به - لا صلة إطلاقا بين أفكاره وبين ما اشتملت عليه عقيدة الشيعة من الوصية لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لأنها قائمة على روايات في صحاح الفريقين من السنة والشيعة، كما هي موجودة أيضا في كتب الفريقين في التفسير والتاريخ وأصول الاعتقاد. ومن ثم فالقول بأن التشيع نتيجة من نتائج الفكرة السبئية - كما يدعى - رأي باطل" [23] .
ولا يستغرب هذا الكلام من هذا الرجل الذي زعم أن أول من قال بالرجعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنه قال:"إن الرسول صلى الله عليه وسلم: لم يمت ولن يموت"، إضافة إلى افتراءاته وضلالاته وتزييفه للحقائق الثابتة الصحيحة.
الرد على الأقوال وعرض لمصادر ترجمة ابن سبأ
هذه أقوال بعض شيعة العصر الحاضر، وكأنهم لم ينظروا في كتب عقائدهم وفرقهم، ومروياتهم ورجالهم وكتب الجرح والتعديل عندهم.
وهذه طائفة من الكتب الموثقة عند الشيعة التي ذكرت عبد الله بن سبأ ومزاعمه وعقيدته والتي حملت الإمام عليا رضي الله عنه وأهل بيته الطاهرين على تكذيب ابن سبأ والتبرؤ منه ومن أصحابه السبئية وما نسبه إلى أهل البيت.
أول هذه المصادر المهمة النادرة التي ذكر فيها ابن سبأ (رسالة الإرجاء) للحسن بن محمد بن الحنفية الفقيه الموثق الذي كان يقول: "من خلع أبا بكر وعمر فقد خلع السنة"، المتوفى سنة خمس وتسعين للهجرة [24] والتي رواها عنه الثقات من الرجال عند الشيعة.
ثانيا: كتاب المقالات والفرق لسعد بن عبد الله الأشعري القمي المتوفى سنة 301 هـ وهو مطبوع في طهران سنة 1963م.
ثالثا: فرق الشيعة لأبي محمد الحسن بن موسى النوبختي من أعلام القرن الثالث الهجري طبعة كاظم الكتبي في النجف عدة طبعات وكذا طبعة المستشرق ريتر في استانبول /1931م.
رابعا: رجال الكشي لأبي عمرو محمد بن عبد العزيز الكشي وهو معاصر لابن قولويه المتوفى سنة 369هـ ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات كربلاء.
خامسا: رجال الطوسي لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460هـ ط الأولى النجف 1381هـ/1967م نشر محمد كاظم الكتبي.
سادسا: شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة لعز الدين أبي حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني الشهير بابن أبي الحديد المعتزلي الشيعي المتوفى سنة 656هـ ط الأولى الميمنية 1326هـ وغيرها.
سابعا: الرجال للحسن بن يوسف الحلي المتوفى سنة 726هـ طبعة طهران 1311هـ/ وطبعة النجف 1961م.
ثامنا: روضات الجنات لمحمد باقر الخوانساري المتوفى سنة 1315هـ طبعة إيران 1307هـ.
تاسعا: تنقيح المقال في أحوال الرجال للشيخ عبد الله المامقاني المتوفى سنة 1350هـ، طبعة النجف 1350هـ في المطبعة المرتضوية.
عاشرا: قاموس الرجال لمحمد تقي التستري منشورات مركز نشر الكتاب طهران 1382هـ.
حادي عشر: روضة الصفا تاريخ عند الشيعة معتمد بالفارسية ج2/ص292 طبعة إيران.
ثاني عشر: دائرة المعارف المسماة بمقتبس الأثر ومجدد ما دثر لمحمد حسين الأعلمي الحائري ط 1388هـ/1868م في المطبعة العلمية بقم.
هذا ما تيسر لنا من كتب القوم التي اطلعنا عليها وهناك عدد كبير من كتبهم المخطوطة والمطبوعة فيها ذكر ابن سبأ والسبئية منها: (حل المشكل) لأحمد بن طاووس المتوفى سنة 673هـ، و (الرجال) لابن داود المؤلف سنة 707هـ، و (التحرير الطاووسي) للحسن بن زيد الدين العاملي المتوفى سنة 1011هـ، و (مجمع الرجال) للقهبائي المؤلف سنة 1016هـ، و (نقد الرجال) للتفرشي الذي ألفه سنة 1015هـ، و (جامع الرواة) للأردبيلي المؤلف سنة 1100هـ، و (موسوعة البحار) للمجلسي المتوفى سنة 1110هـ، وابن شهر آشوب المتوفى سنة 588هـ.
عقيدة ابن سبأ وضلالاته
بعد أن ذكرنا طائفة من كتب الشيعة الموثقة والمعتمدة عندهم نذكر أهم الأمور التي اعتقدها ابن سبأ وحمل أتباعه على الاعتقاد بها والدعوة إليها، وهكذا تسربت هذه الأفكار الضالة إلى فرق الشيعة، والسبب في استدلالنا في بيان معتقد هذا اليهودي من كتبهم ومن رواياتهم عن المعصومين عندهم.
لأنهم يقولون: "إن الاعتقاد بعصمة الأئمة جعل الأحاديث التي تصدر عنهم صحيحة دون أن يشترطوا إيصال سندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما هو الحال عند أهل السنة"[25] .
ويقولون أيضا: "ولما كان الإمام معصوما عند الإمامية فلا مجال للشك فيما يقول"[26]، ويقول المامقاني:"إن أحاديثنا كلها قطعية الصدور عن المعصوم"[27] .
وكتاب المامقاني من أهم كتب الجرح والتعديل عندهم.
بعد هذه الأقوال التي تُلزم القوم في قبول الأخبار المروية في مصنفاتهم نذكر أهم الضلالات التي نادى بها ابن سبأ وهي:
1-
القول بالوصية: وهو أول من قال بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي، وأنه خليفته على أمته من بعده بالنص.
2-
أول من أظهر البراءة من أعداء علي رضي الله عنه بزعمه - وكاشف مخالفيه وحكم بكفرهم.
والدليل على مقالته هذه ليس من تاريخ الطبري، ولا من طريق سيف بن عمر بل ما رواه النوبختي والكشي والمامقاني والتستري وغيرهم من مؤرخي الشيعة.
يقول النوبختي: "وحكى جماعة من أهل العلم من أصحاب علي عليه السلام أن عبد الله بن سبأ كان يهوديا فأسلم ووالى عليا عليه السلام وكان يقول وهو على يهوديته في يوشع بن نون وصيّ بعد موسى على نبينا وآله وعليهما السلام بالغلو، فقال في إسلامه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في علي عليه السلام بمثل ذلك وهو أول من شهر القول بفرض إمامة علي عليه السلام وأظهر البراءة من أعدائه، وكاشف مخالفيه - يقول النوبختي - فمن هنا قال من خالف الشيعة إن أصل الرفض مأخوذ من اليهود"[28] ، وفي هذا المقام نشير إلى أن فكرة الوصية التي اعتمد عليها ابن سبأ ذكرت في التوراة في إصحاح (18) من سفر (تثنية الاشتراع) وفيه أنه لم يخلُ الزمان أبدا من نبي يخلف موسى ومن نوعه ولكل نبي خليفته إلى جانبه يعيش أثناء حياته.
ويقول النوبختي عند ذكره السبئية: أصحاب عبد الله بن سبأ وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم، وقال: إن عليا عليه السلام أمره بذلك [29] .
3-
كان أول من قال بألوهية وربوبية علي رضي الله عنه.
4-
كان أول من ادعى النبوة من فرق الشيعة الغلاة.
والدليل على ذلك ما رواه الكشي بسنده عن محمد بن قولويه القمي قال حدثني سعد بن عبد الله ابن أبي خلف القسي قال حدثني محمد بن عثمان العبدي عن يونس بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سنان قال حدثني أبي عن أبي جعفر (ع) أن عبد الله بن سبأ كان يدعي النبوة وزعم أن أمير المؤمنين (ع) هو الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فبلغ ذلك أمير المؤمنين (ع) فدعاه وسأله فأقر بذلك وقال نعم أنت هو، وقد كان ألقي في روعي أنك أنت الله وأني نبي فقال له أمير المؤمنين (ع) ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك وتب فأبى فحبسه واستتابه ثلاثة أيام فلم يتب فأحرقه بالنار - والصواب أنه نفاه إلى المدائن بعد أن شُفع له على ما سنبينه في موقف الإمام منه - وقال - أي الإمام - إن الشيطان استهواه فكان يأتيه ويلقي في روعه ذلك [30] .
وروى الكشي بسنده أيضا عن محمد بن قولويه قال حدثني سعد بن عبد الله قال حدثني يعقوب بن يزيد ومحمد بن عيسى عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال سمعت أبا عبد الله (ع) يقول وهو يحدث أصحابه بحديث عبد الله بن سبأ وما ادعى من الربوبية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فقال: "إنه لما ادعى ذلك استتابه أمير المؤمنين (ع) فأبى أن يتوب وأحرقه بالنار"[31] .
5-
كان ابن سبأ أول من أحدث القول برجعة علي رضي الله عنه إلى الدنيا بعد موته وبرجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول مكان أظهر فيه ابن سبأ مقالته هذه في مصر فكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب برجوع محمد وقال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} فمحمد أحق بالرجوع من عيسى فقبل ذلك منه ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها [32] .
فإن لم يرض القوم برواية ابن عساكر الثقة التي رواها في تاريخه وكذا غيره فاسمع إلى ما قالته السبئية لمن أخبرهم بمقتل سيدنا علي رضي الله عنه ونعاه، قالوا: "كذبت يا عدو الله لو جئتنا - والله - بدماغه ضربةً فأقمت على قتله سبعين عدلا ما صدقناك ولعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل وأنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملك الأرض
…
الخ" [33] ، وهذا الخبر ذكره سعد بن عبد الله الأشعري القمي صاحب كتاب المقالات والفرق الذي هو موضع ثقة عند الشيعة، ونقل النوبختي في فرق الشيعة مقالة السبئية وهي: "أن عليا لم يقتل ولم يمت ولا يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلماوجورا" [34] .
بقي علينا في هذا المقام أن نعرف مفهوم عقيدة الرجعة عند الشيعة يقول محمد رضا المظفر: "إن الذي تذهب إليه الإمامية أخذا بما جاء عن آل البيت عليهم السلام أن الله تعالى يعيد قوما من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها فيعز فريقا ويذل فريقا آخر، ويديل المحقين من المبطلين والمظلومين منهم من الظالمين، وذلك عند قيام مهدي آل محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، ولا يرجع إلا من علت درجته في الإيمان أو من بلغ الغاية من الفساد ثم يصيّرون بعد ذلك إلى الموت، ومن بعده إلى النشور وما يسنحقونه من الثواب أو العقاب كما حكى الله تعالى في قرآنه الكريم تمني هؤلاء المرتجعين الذين لم يصلَحوا بالارتجاع فنالوا مقت الله أن يخرجوا ثالثا لعلهم يصلحون:{قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [35] .
والتفسير الصحيح لهذه الآية ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قوله: "هي مثل التي في البقرة: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} كانوا أمواتا في أصلاب آبائهم ثم أخرجهم فأحياهم ثم يميتهم ثم يحييهم بعد الموت"، أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه [36] .
وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "كنتم أمواتا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ثم أحياكم فهذه حياة ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة فهما ميتتان وحياتان فهو كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} "[37] .
6-
ادعى ابن سبأ اليهودي أن عليا رضي الله عنه هو دابة الأرض وأنه هو الذي خلق الخلق وبسط الرزق.
قال ابن عساكر: روى الصادق عن آبائه الطاهرين عن جابر قال: "لما بويع علي رضي الله عنه خطب الناس فقام إليه عبد الله بن سبأ فقال له: "أنت دابة الأرض"، فقال له: "اتق الله"، فقال له: "أنت الملك"، فقال له: "اتق الله"، فقال له: "أنت خلقت الخلق وبسطت الرزق"فأمر بقتله فاجتمعت الرافضة فقالت: "دعه وانفه إلى ساباط المدائن.." [38] .
وروى الكليني في أصول الكافي بسنده إلى علي رضي الله عنه أنه قال: "ولقد أعطيت الست علم المنايا والبلايا والوصايا وفصل الخطاب، وإني لصاحب الكّرات - أي الرجعات إلى الدنيا - ودولة الدول، وإني لصاحب العصا والميسم، والدابة التي تكلم الناس"[39] .
وروى عن إبراهيم بن هاشم في تفسيره عن أبي عبد الله (ع) قال: قال رجل لعمار بن ياسر: يا أبا اليقظان آية في كتاب الله أفسدت قلبي، قال عمار: وأية آية هي؟، فقال: هذه الآية - أي {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ} (81) من سورة النمل - فأية دابة الأرض هذه"؟ قال عمار: "والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها"فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين (ع) وهو يأكل تمرا وزبدا فقال: "يا أبا اليقظان هلم"، فجلس عمار يأكل معه فتعجب الرجل منه فلما قام عمار قال الرجل: "سبحان الله حلفت أنك لا تأكل ولا تشرب حتى ترينيها"قال عمار: "أريتكها إن كنت تعقل" [40] .
7-
وقالت السبئية: إنهم لا يموتون وإنما يطيرون بعد مماتهم وسموا بـ (الطيارة) يقول طاهر المقدسي: "وأما السبئية فإنهم يقال لهم الطيارة يزعمون أنهم لا يموتون وإنما موتهم طيران نفوسهم في الغلس"[41] .
ولقد استخدم أئمة الجرح والتعديل من الشيعة هذه التسمية وهي من ألفاظهم في تجريح الرواة.
يقول الطوسي: وهو أحد الأئمة الأثبات عند الشيعة في ترجمة نصر بن صباح يكنى أبا القاسم من أهل بلخ - وبلخ في أفغانستان - لقي جلة من كان في عصره من المشايخ والعلماء، وروى عنهم إلا أنه قيل كان من (الطيارة) غالٍ [42] .
8-
وقال قوم من السبئية بانتقال روح القدس في الأئمة وقالوا (بتناسخ الأرواح)، يقول ابن طاهر المقدسي:"ومن الطيارة (أي السبئية) قوم يزعمون أن روح القدس كانت في النبي كما كانت في عيسى ثم انتقلت إلى عليّ ثم إلى الحسن ثم إلى الحسين ثم كذلك في الأئمة، وعامة هؤلاء يقولون بالتناسخ والرجعة"[43] ، ولعل كتاب الحسن بن موسى النبوختي المسمى بـ (الرد على أصحاب التناسخ) صنفه النوبختي في الرد عليهم [44] .
9-
وقالت السبئية: "هدينا لوحي ضل عنه الناس وعلم خفي عنهم".
10-
وقالوا: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم تسعة أعشار الوحي"، ولقد رد على مقالتهم هذه أحد أئمة أهل البيت وهو الحسن بن محمد بن الحنفية في رسالته التي سماها بـ (الإرجاء) والتي رواها عنه الرجال الثقات عند الشيعة فيقول: و"من قول هذه السبئية: "هُدينا لوحي ضل عنه الناس، وعلم خفي عنهم"، وزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله كتم تسعة أعشار الوحي، ولو كتم صلى الله عليه وسلم وآله شيئا مما أنزل الله عليه لكتم شأن امرأة زيد، وقوله تعالى: {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِك
…
} " [45] ، وقال الحافظ الجوزجاني (ت259هـ) عن ابن سبأ: "زعم أن القرآن جزء من تسعة أجزاء وعلمه عند علي فنهاه عليّ بعدما همّ به". [46]
11-
وقالوا: إن عليا في السحاب، وأن الرعد صوته، والبرق سوطه، ومن سمع من هؤلاء صوت الرعد قال: عليك السلام يا أمير المؤمنين [47] ، ولقد أشار إلى معتقدهم هذا اسحاق بن سويد العدوي في قصيدة له برئ فيها من الخوارج والروافض والقدرية، منها:
برئت من الخوارج لست منهم
من الغَزَّالِ منهم وابن باب
ومن قوم إذا ذكروا عليا
يردُّون السلام على السَّحاب [48]
وعقب الشيخ محي الدين عبد الحميد رحمه الله على هذا المعتقد بقوله: "ولا زلت أرى أطفال القاهرة يجرون وقت هطول الأمطار، ويصيحون في جريهم (يا بركة عليّ زود) "[49] .
موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأهل بيته من ابن سبأ وأتباعه
قال علي رضي الله عنه: "سيهلك فيّ صنفان محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس فيّ حالا النمط الأوسط فالزموه والزموا السواد الأعظم فإن يد الله على الجماعة"[50] .
وهكذا شاء الله أن ينقسم الناس في علي رضي الله عنه إلى ثلاثة أقسام القسم الأول مبغض مفرط وهؤلاء الذين تكلموا فيه بل غالى بعضهم فقالوا بكفره كالخوارج.
والقسم الثاني أفرط في حبه وذهب به الإفراط إلى الغلو حتى جعلوه بمنزلة النبي بل ازدادوا في غيهم فقالوا بألوهيته.
وأما السواد الأعظم فهم أهل السنة والجماعة من السلف الصالح حتى الوقت الحاضر فهم الذين أحبوا عليا وآل بيته المحبة الشرعية، أحبوهم لمكانتهم من النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد جابه علي رضي الله عنه القسم الأول فقاتلهم بعد أن ناظرهم وأخباره معهم معروفة مسرودة في كتب التاريخ، ونريد أن نرى موقفه هو وأهل بيته من ابن سبأ وأتباعه.
لما أعلن ابن سبأ إسلامه وأخذ يظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكسب قلوب فريق من الناس إليه أخذ يتقرب من علي بن أبي طالب ويظهر محبته له فلما اطمأن لذلك أخذ يكذب ويفتري على علي بن أبي طالب نفسه الكذب، قال عامر الشعبي - وهو أحد كبار التابعين توفي 103هـ -:"أول من كذب عبد الله بن سبأ وكان ابن السوداء يكذب على الله ورسوله وكان علي يقول: ما لي ولهذا الحميت الأسود"(والحميت هو المتين من كل شيء)[51] ، يعني ابن سبأ وكان يقع في أبي بكر وعمر [52]
وروى ابن عساكر أيضا أنه لما بلغ علي بن أبي طالب أن ابن السوداء ينتقض أبا بكر وعمر دعا به، ودعا بالسيف وهمّ بقتله، فشفع فيه أناس فقال:"والله لا يساكنني في بلد أنا فيه"، فسيره إلى المدائن [53] .
وقال ابن عساكر أيضا: روى الصادق - وهو أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق ولد سنة 83هـ، في المدينة المنورة وتوفي فيها سنة 148هـ، وهو الإمام السادس المعصوم عند الشيعة - روى عن آبائه الطاهرين عن جابر قال: لما بويع علي رضي الله عنه خطب الناس فقام إليه عبد الله بن سبأ فقال له: "أنت دابة الأرض"[54] فقال له: "اتق الله"، فقال له:"أنت الملك"، فقال:"اتق الله"، فقال له:"أنت خلقت الخلق وبسطت الرزق"فأمر بقتله فاجتمعت الرافضة فقالت: "دعه وانفه إلى ساباط المدائن فإنك إن قتلته بالمدينة - يعني الكوفة - خرج أصحابه علينا وشيعته"فنفاه إلى ساباط المدائن فثمّ القرامطة والرافضة - أي كانت بعد ذلك وبجهود ابن سبأ مركزا يجتمعون فيه قال - أي جابر - ثم قامت إليه طائفة وهم السبئية وكانوا أحد عشر رجلا فقال: "ارجعوا فإني علي بن أبي طالب مشهور وأمي مشهورة وأنا ابن عم محمد صلى الله عليه وسلم"، فقالوا:"لا نرجع دع داعيك"، فأحرقهم في النار وقبورهم في صحراء أحد عشر مشهورة، فقال:"من بقي ممن لم يكشف رأسه منهم علينا أنه إله"، واحتجوا بقول ابن عباس لا يعذب بالنار إلا خالقها [55] .
هذا موقف الإمام علي رضي الله عنه في ابن سبأ وأتباعه، نفاه إلى المدائن وأحرق طائفة من أتباعه، ومن لم يقتنع بهذه الروايات والتي بعضها رواها أحد المعصومين عند القوم وأبى إلا المكابرة والعناد، نذكر له ما ورد في حرق هؤلاء في الروايات الصحيحة عند أهل السنة والجماعة وبعدها روايات القوم.
روى البخاري في صحيحه في كتاب الجهاد/باب لا يعذب بعذاب الله بسنده إلى عكرمة أن عليا رضي الله عنه حرق قوما فبلغ ابن عباس فقال: "لو كنت أنا لم أحرقهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعذبوا بعذاب الله"ولقتلتهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه".
وروى البخاري في صحيحه في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم بسنده إلى عكرمة نحوه وفيه قال: "أُتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم"[56] .
ورواه كذلك أبو داود في سننه في كتاب الحدود / باب الحكم فيمن ارتد الحديث الأول بسنده إلى عكرمة بفلظ آخر وفي آخره فبلغ ذلك عليا فقال: "ويح ابن عباس"ورواه كذلك النسائي في سننه [57] نحوه، ورواه الترمذي في الجامع في كتاب الله الحدود / باب ما جاء في المرتد وفي آخره، فبلغ ذلك عليا فقال:"صدق ابن عباس"، قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح حسن، والعمل على هذا عند أهل العلم في المرتد [58] .
وروى البخاري أيضا في صحيحه في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم بسنده إلى عكرمة نحوه، وفيه قال:"أُتي علي رضي الله عنه [59] بزنادقة فأحرقهم".
وروى الطبراني في المعجم الأوسط من طريق سويد بن غفلة "أن عليا بلغه أن قوما ارتدوا عن الإسلام فبعث إليهم فأطعمهم ثم دعاهم إلى الإسلام فأبوا، فحفر حفيرة ثم أتى بهم فضرب أعناقهم ورماهم فيها ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم ثم قال: "صدق الله ورسوله.." [60] .
وفي الجزء الثالث من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي: "إن هنا قوما على باب المسجد يدعون أنك ربهم"فدعاهم فقال لهم: "ويلكم ما تقولون؟ "قالوا: "أنت ربنا وخالقنا ورازقنا"، فقال:"ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء وإن عصيته خشيت أن يعذبني فاتقوا الله وارجعوا"فأبوا، فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال:"قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام"، فقال:"أدخلهم" فقالوا كذلك فلما كان الثالث قال: "لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قتلة" فأبوا إلا ذلك، فقال:"يا قنبر ائتني بفعلة معهم مرورهم فخدّ لهم أخدودا بين باب المسجد والقصر"، وقال: احفروا فأبعدوا في الأرض"وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال: "إني طارحكم فيها أو ترجعوا"، فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيت أمرا منكرا أوقدت ناري ودعوت قنبرا
وقال ابن حجر: هذا سند حسن [61] .
إضافة إلى هذه الروايات، فقد روى الكليني في كتابه الكافي - الذي هو بمنزلة صحيح البخاري عند القوم - روى في كتاب الحدود في باب المرتد بسنده من طريقين عن أبي عبد الله أنه قال: أتى قوم أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا: "السلام عليك يا ربنا"فاستتابهم فلم يتوبوا فحفر لهم حفيرة وأوقد فيها نارا وحفر حفيرة أخرى إلى جانبها وأفضى ما بينهما فلما لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة وأوقد في الحفيرة الأخرى نارا حتى ماتوا" [62] .ويبدو أن عليا رضي الله عنه قد كرر عقابه لغير هؤلاء أيضا وهم الزط، فقد روى النسائي في سننه (المجتبى) عن أنس أن عليا أتي بناس من الزط يعبدون وثنا فأحرقهم، قال ابن عباس: "إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه"[63] .
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق قتادة (أن عليا أتي بناس من الزط يعبدون وثنا فأحرقهم) وحكم ابن حجر على هذا الحديث بالانقطاع ثم قال: فإن ثبت حمل على قصة أخرى فقد أخرج ابن أبي شيبة أيضا من طريق أيوب بن النعمان أنه قال: "شهدت عليا في الرحبة فجاءه رجل فقال: "إن هنا أهل بيت لهم وثن في دار يعبدونه"فقام يمشي إلى الدار فأخرجوا بمثال رجل قال فألهب عليهم الدار"[64] .
وروى الكشي في كتابه معرفة أخبار الرجال بعد ترجمة عبد الله بن سبأ تحت عنوان (في سبعين رجلا من الزط الذين ادعوا الربوبية في أمير المؤمنين عليه السلام ، بسنده إلى أبي جعفر أنه قال:"إن عليا عليه السلام لما فرغ من قتال أهل البصرة أتاه سبعون رجلا من الزط فسلموا عليه وكلموه بلسانهم فرد عليهم بلسانهم، وقال لهم: "إني لست كما قلتم أنا عبد الله مخلوق"، قال: فأبوا عليه وقالوا له: "أنت أنت هو"، فقال لهم: "لئن لم ترجعوا عما قلتم في وتتوبوا إلى الله تعالى لأقتلنكم"، قال: فأبوا أن يرجعوا أو يتوبوا، فأمر أن يحفر لهم آبار فحفرت ثم خرق بعضها إلى بعض ثم قذفهم فيها ثم طم رؤوسها ثم ألهب النار في بئر منها ليس فيها أحد فدخل الدخان عليهم فماتوا [65] .
ومن المناسب ما دمنا نتكلم عن تحريق علي بن أبي طالب لأصحاب ابن سبأ والزنادقة أن نذكر حادثة أخرى ذكرها ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، يقول ابن أبي الحديد:"وروى أبو العباس أحمد بن عبيد بن عمار الثقفي عن محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي المعروف بنوين، وروى أيضا عن علي بن محمد النوفلي عن مشيخته (أن عليا عليه السلام مر بقوم وهم يأكلون في شهر رمضان نهارا فقال: "أسفر أم مرضى"، قالوا: "لا ولا واحدة منها"، قال: "فمن أهل الكتاب أنتم فتعصمكم الذمة والجزية"، قالوا: "لا"، قال: فما بال الأكل في نهار رمضان، فقاموا إليه فقالوا: "أنت أنت"يومئون إلى ربوبيته، فنزل عليه السلام عن فرسه فألصق خده بالأرض، وقال: "ويلكم إنما أنا عبد من عبيد الله فاتقوا الله وارجعوا إلى الإسلام"فأبوا فدعاهم مرارا فأقاموا على كفرهم، فنهض إليهم وقال: "شدوهم وثاقا وعلي بالفعلة والنار والحطب"ثم أمر بحفر بئرين فحفرتا فجعل إحداهما سربا والأخرى مكشوفة وألقى الحطب في المكشوفة وفتح بينهما فتحا وألقى النار في الحطب فدخن عليهم وجعل يهتف بهم ويناشدهم ليرجعوا إلى الإسلام، فأبوا، فأمر بالحطب والنار فألقي عليهم فأحرقوا فقال الشاعر:
لترم بي المنية حيث شاءت
إذا لم ترمني في الحفرتين
إذا ما حشنا حطبا بنار
…
فذاك الموت نقدا غير دين
فلم يبرح عليه السلام حتى صاروا حمما [66] .
هذه الروايات التي وقفنا عليها في الأحاديث الصحيحة والحسنة والروايات التاريخية وكذلك من كتب القوم المتعلقة بالأصول والفقه والرجال والتاريخ التي تدل بكل وضوح على أن عليا رضي الله عنه قد حرق الزنادقة ومن اعتقد فيه الربوبية ومنهم أصحاب ابن سبأ الملعون، أما هو فكما تذكر الروايات - سواء روايات أهل السنة والجماعة وروايات الشيعة - أن عليا رضي الله عنه اكتفى بنفيه إلى المدائن بعد أن شفع له الرافضة.
قال النوبختي في كتابه الشيعة في ترجمة ابن سبأ: "وكان ممن أظهر الطعن على أبي بكر وعمر وعثمان والصحابة وتبرأ منهم، وقال إن عليا عليه السلام أمره بذلك، فأخذه علي فسأله عن قوله هذا فأقر به، فأمر بقتله، فصاح الناس عليه "يا أمير المؤمنين أتقتل رجلا يدعو إلى حبكم أهل البيت وإلى ولايتك، والبراءة من أعدائك"فصيره إلى المدائن"[67] .
ابن سبأ يدعو الناس في المدائن لدعوته
إن عبد الله بن سبأ وجد بعد نفيه مكانا مناسبا لبث أفكاره وضلالاته بعد أن ابتعد من سيف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فأخذ ينظم أتباعه وينشر أفكاره بين جيش الإمام المرابط في المدائن، ولما جاءهم خبر استشهاد علي رضي الله عنه كذبه هو وأصحابه، ولنستمع للخبر كما يرويه الخطيب البغدادي بسنده إلى زحر بن قيس الجعفي الذي قال عنه علي رضي الله عنه:"من سره أن ينظر إلى الشهيد الحي فلينظر إلى هذا"- يقول زحر: "بعثني علي على أربعمائة من أهل العراق وأمرنا أن ننزل المدائن رابطة، قال: "فوالله إنا لجلوس عند غروب الشمس على الطريق إذا جاءنا رجل قد أعرق دابته قال فقلنا: "من أين أقبلت؟ "قال: "من الكوفة"، فقلنا:"متى خرجت؟ "قال: "اليوم"، قلنا:"فما الخبر؟ "، قال:"خرج أمير المؤمنين إلى الصلاة صلاة الفجر فابتدره ابن بجرة وابن ملجم فضربه أحدهما ضربة إن الرجل ليعيش مما هو أشد منها، ويموت مما هو أهون منها"، قال:"ثم ذهب"فقال عبد الله بن وهب السبائي ـ ورفع يده إلى السماء ـ: "الله أكبر، الله أكبر"قال: قلت له: "ما شأنك؟ "قال: "لو أخبرنا هذا أنه نظر إلى دماغه قد خرج عرفت أن أمير المؤمنين لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه"ـ وفي رواية الجاحظ في البيان والتبيين: "لو جئتمونا بدماغه في مائة صرة لعلمنا أنه لا يموت حتى يذودكم بعصاه"[68]ـ نعود لرواية الخطيب قال ـ أي زحر ـ: "فوالله ما مكثنا إلا تلك اليلة حتى جاءنا كتاب الحسن بن علي: من عبد الله حسن أمير
المؤمنين إلى زحر بن قيس أما بعد: فخذ البيعة على من قبلك"، قال: فقلنا: "أين ما قلت؟ "قال: "ما كنت أراه يموت" [69] .
وقال الحسن بن موسى النوبختي: "ولما بلغ عبد الله بن سبأ نعي علي بالمدائن قال للذي نعاه: كذبت لو جئتنا بدماغه في سبعين صرة وأقمت على قتله سبعين عدلا لعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل ولا يموت حتى يملك الأرض"[70] .
رواية عبد الجبار الهمداني في موقف ابن سبأ
قال عبد الجبار الهمداني المعتزلي المتوفى سنة 415هـ عند كلامه عن موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه من ابن سبأ والسبئية: "واستتابهم أمير المؤمنين فما تابوا فأحرقهم، وكانوا نفرا يسيرا، ونفى عبد الله بن سبأ عن الكوفة إلى المدائن، فلما قتل أمير المؤمنين عليه السلام قيل لابن سبأ: "قد قتل ومات ودفن، فأين ما كنت تقول من مصيره إلى الشام؟ "فقال:"سمعته يقول: لا أموت حتى أركل برجلي من رحاب الكوفة فأستخرج منها السلاح وأصير إلى دمشق فأهدم مسجدها حجرا حجرا، وأفعل وأفعل فلو جئتمونا بدماغه مسرودا لما صدقنا أنه قد مات"، ولما افتضح بهت، وادعى على أمير المؤمنين ما لم يقله، والشيعة الذين يقولون بقوله الآن بالكوفة كثير، وفي سوادها والعراق كله يقولون:"أمير المؤمنين كان راضيا بقوله وبقول الذين حرقهم، وإنما أحرقهم لأنهم أظهروا السر، ثم أحياهم بعد ذلك"، قالوا:"وإلا فقولوا لنا لِمَ لَمْ يحرق عبد الله بن سبأ؟ "قلنا: عبد الله ما أقر عنده بما أقر أولئك، وإنما اتهمه فنفاه، ولو حرقه لما نفع ذلك معكم شيئا، ولقلتم إنما حرقه لأنه أظهر السر" [71] .
موقف أتباع عبد الله بن سبأ لما سمعوا بمقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
أما أتباع ابن سبأ فلم يكتفوا بالتكذيب بل ذهبوا إلى الكوفة معلنين ضلالات معلمهم وقائدهم ابن سبأ.
فقد روى سعد بن عبد الله القمي صاحب المقالات والفرق وهو ثقة عند القوم: "أن السبئية قالوا للذي نعاه: "كذبت يا عدو الله لو جئتنا - والله - بدماغه ضربة فأقمت على قتله سبعين عدلا ما صدقناك ولعلمنا أنه لم يمت ولم يقتل وإنه لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه ويملك الأرض". ثم مضوا من يومهم حتى أناخوا بباب علي فاستأذنوا عليه استئذان الواثق بحايته الطامع في الوصول إليه، فقال لهم من حضره من أهله وأصحابه وولده: "سبحان الله، ما علمتم أن أمير المؤمنين قد استشهد؟ " قالوا:"إنا لنعلم أنه لم يقتل ولا يموت حتى يسوق العرب بسيفه كما قادهم بحجته وبرهانه وإنه ليسمع النجوى ويعرف تحت الدثار القيل ويلمع في الظلام كما يلمع السيف الصقيل الحسام"[72] .
وكان من هؤلاء رجل يقال له رشيد الهجري الذي صرح بمعتقده أمام عامر الشعبي قال الشعبي: "دخلت عليه يوما فقال: خرجت حاجا فقلت: لأعهدن بأمير المؤمنين عهدا فأتيت بيت علي عليه السلام فقلت لإنسان: "استأذن لي على أمير المؤمنين"قال: "أوليس قد مات؟ "قلت: "قد مات فيكم والله إنه ليتنفس الآن تنفس الحي"، فقال: "أما إذ عرفت سر آل محمد فادخل"قال: "فدخلت على أمير المؤمنين وأنبأني بأشياء تكون"فقال له الشعبي: "إن كنت كاذبا فلعنك الله"، وبلغ الخبر زيادا ـ فبعث إلى رشيد الهجري فقطع لسانه وصلبه على باب دار عمرو بن حريث"[73] .
وذكر الحافظ الذهبي هذا الخبر في تذكرة الحفاظ وفيه: "فقلت لإنسان: "استأذن لي على سيد المرسلين"، فقال: "هو نائم وهو يظن أني أعني الحسن"، فقلت: "لست أعني الحسن إنما أعني أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين"، قال: "أوليس قد مات؟ "فقلت: "أما والله إنه ليتنفس الآن بنفس حي ويعرف من الدثار الثقيل" [74] . ولذلك كان عامر الشعبي يقول: "ما كذب على أحد في هذه الأمة ما كذب على علي" [75]، ورشيد هذا قال عنه ابن حبان: كان يؤمن بالرجعة [76] .
وذكره الطوسي في ضمن أصحاب علي رضي الله عنه وسماه رشيد الهجري الرياش بن عدي الطائي [77] ، ويعتبر رشيد من أبواب الأئمة، كان بابا للحسين بن علي رضي الله عنهما [78] .
موقف أهل بيت النبي الكريم من ابن سبأ
وتصدى أهل بيت النبي الكريم لعبد الله بن سبأ كما تصدى له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فكذبوه وتبرؤوا من مقالاته وضلاله.
فقد روى الكشي بسنده عن محمد بن قولويه قال حدثني سعد بن عبد الله قال: حدثنا يعقوب بن يزيد ومحمد بن عيسى عن علي بن مهزيار عن فضالة بن أيوب الأزدي عن أبان بن عثمان قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "لعن الله عبد الله بن سبأ إنه ادعى الربوبية في أمير المؤمنين وكان والله أمير المؤمنين عبد الله طائعا، الويل لمن كذب علينا وإن قوما يقولون فينا ما لا نقول في أنفسنا نبرأ إلى الله منهم"[79] .
وروى الكشي بسنده أيضا عن محمد بن قولويه قال حدثني سعد بن عبد الله قال: حدثنا يعقوب بن يزيد عن ابن أبي عمير وأحمد بن محمد بن عيسى عن أبيه والحسين بن سعد عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي حمزة الثمالي قال قال علي بن الحسين (ع) : "لعن الله من كذب علينا إني ذكرت عبد الله بن سبأ فقامت كل شعرة في جسدي لقد ادعى أمرا عظيما ماله لعنه الله كان علي عبدا لله صالحا، أخا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نال الكرامة من الله إلا بطاعته لله ولرسوله، وما نال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرامة إلا بطاعة الله"[80] .
وروى أيضا الكشي بسنده عن محمد بن خالد الطيالسي عن ابن أبي نجران عن عبد الله بن سنان قال قال أبو عبد الله (ع) : "إنا أهل بيت صديقون لا نخلوا من كذاب يكذب علينا ويسقط صدقنا بذكبه علينا عند الناس، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق الناس لهجة وأصدق البرية كلها، وكان مسيلمة يكذب عليه وكان أمير المؤمنين أصدق من برأ الله بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه ويفتري على الله الكذب عبد الله بن سبأ لعنه الله"[81] .
هذه روايات الكشي عن أئمة أهل البيت، ومن المعلوم أن كتاب الكشي المسمى بـ (معرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين) عمد إليه إمام الشيعة الثقة الثبت عدهم (الطوسي) الذي يلقبونه بشيخ الطائفة المتوفى سنة 460هـ عمد إلى كتاب الكشي فهذبه وجرده من الزيادات والأغلاط وسماه بـ (اختيار الرجال) وأملاه على تلاميذه في المشهد الغروي، وكان بدء إملائه يوم الثلاثاء 26 صفر سنة 456هـ، نص على ذلك السيد رضي الدين علي بن طاووس في (فرج المهموم) نقلا عن نسخة بخط الشيخ الطوسي المصرح فيها بأنها اختصار رجال كتاب الرجال لأبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي واختياره، فالموجود في هذه الأزمنة من المخطوط منه والمطبوع سنة 1317هـ في بمبئ بل وفي زمان العلامة الحلي إنما هو اختيار الشيخ الطوسي لا رجال الكشي الأصل فإنه لم يوجد له أي أثر حتى اليوم [82] .
وبهذه النقول والنصوص الواضحة المنقولة من كتب القوم تتضح لنا حقيقة شخصية ابن سبأ اليهودي ومن طعن من الشيعة في ذلك فقد طعن في كتبهم التي نقلت لعنات الأئمة المعصومين عندهم في هذا اليهودي (ابن سبأ) ولا يجوز ولا يتصور أن تخرج اللعنات من المعصوم على مجهول، وكذلك لا يجوز في معتقد القوم تكذيب المعصوم.
هذا ما تيسر لنا في إثبات هذه الشخصية، أما الكلام عن دوره في مقتل عثمان رضي الله عنه، ودوره في عهد علي رضي الله عنه، وأثره في فرق الشيعة، ورواة الأخبار فيحتاج إلى كتابة أخرى.
{رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} .
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
انظر: أصول الإسماعيليين والإسماعيلية، تعريب خليل جلو وجاسم الرجب ص86-87.
[2]
انظر الخوارج والشيعة ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي.
[3]
انظر: عبد الله بن سبأ والشيعة نشرة المجلة الأشورية 1909-1910.
[4]
انظر: أصول الإسماعيلية لبرنارد لويس.
[5]
انظر: علي وبنوه ص98-100 والفتنة الكبرى.
[6]
انظر: طه حسين للأستاذ أنور الجندي ص43-44.
[7]
انظر: المخططات التلمودية الصهيونية اليهودية في غزو الفكر الإسلامي للأستاذ أنور الجندي ص80 ط2/1977م.
[8]
انظر: طه حسين للأستاذ أنور الجندي.
[9]
انظر: مع رجال الفكر في القاهرة لمرتضى العسكري ص166 ط الأولى / 1394 هـ / 1974 م القاهرة.
[10]
انظر: علي وبنوه لطه حسين ص98- 100.
[11]
انظر: المصدر السابق.
[12]
انظر ترجمة أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري المتوفى سنة 279هـ في معجم الأدباء لياقوت الحموي ج5/92.
لسان الميزان ج1/322- 323، تهذيب تاريخ دمشق ج2/109، البداية والنهاية لابن كثير ج11/65- 66، النجوم الزاخرة ج3/83.
[13]
أدب مصر الفاطمية ص7.
[14]
انظر: التشيع ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية ص18، وكتاب مع رجال الفكر في القاهرة لمرتضى العسكري ص93.
[15]
انظر التشيع ص18.
[16]
انظر التشيع: ص18-19.
[17]
انظر: وعاظ السلاطين للدكتور علي الوردي ص274- 278.
[18]
انظر المصدر السابق ص151.
[19]
انظر: الصلة بين التصوف والتشيع ص41- 45.
[20]
الأركان الأربعة هم: عمار بن ياسر، وحذيفة بن اليمان، وسلمان الفارسي، وجندب بن جنادة (أبو ذر الغفاري) ، فرق الشيعة ص36- 37 و40 ط1969م الرابعة.
[21]
انظر بعض كتبهم مثلا: رجال الطوسي ص46، وص51، رجال الحلي ص255 وص469، أحوال الرجال للكشي، وقاموس الرجال للتستري، وتنقيح المقال للمامقاني وغير ذلك.
[22]
انظر: تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة ص92- 100 ط 1975مؤسسة الأعلمي.
[23]
انظر: التشيع ظاهرة طبيعية ص20.
[24]
انظر خلاصة تهذيب الكمال ج1/220 ط 1392هـ/1972م القاهرة.
[25]
انظر: تاريخ الإمامية ص158.
[26]
انظر: تاريخ الإمامية ص140.
[27]
انظر: تنقيح المقال ج1/177.
[28]
انظر: فرق الشيعة للنوبختي ص44، ورجال الكشي 101 ط مؤسسة الأعلمي بكربلاء، وتنقيح المقال في أحوال الرجال للمامقاني ط المرتضوية في النجف 1350هـ، وقاموس الرجال ج5/462.
[29]
انظر: فرق الشيعة ص44.
[30]
انظر: رجال الكشي ص98 ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات كربلاء، وقاموس الرجال ج5/461، وتنقيح المقال في أحوال الرجال للمامقاني ط المرتضوية في النجف 1350هـ ج2/183-184.
[31]
انظر المصدر السابق ص99-100 وج2/183-184.
[32]
انظر: تاريخ دمشق مخطوط نسخة مصورة منه في معهد المخطوطات في جامعة الدول العربية رقم (602تاريخ) في ترجمة عبد الله بن سبأ، وكذا في تهذيب تاريخ دمشق لابن بدران ج7/428 وهذا النص في تاريخ الطبري أيضا.
[33]
انظر: المقالات والفرق لسعد بن عبد الله الأشعري القمي ت301هـ، ص21 ط طهران 1963 تحقيق الدكتور محمد جواد مشكور.
[34]
انظر: فرق الشيعة للنوبختي ص44 ط النجف، وانظر: قاموس الرجال ج5/463.
[35]
انظر: عقائد الإمامية لمحمد رضا المظفر ط2 1381هـ ص67-68، والآية رقم (11) من سورة المؤمن.
[36]
انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ج5/347.
وانظر كذلك: تفسير ابن كثير ج4/73 ط عيسى الحلبي، وروح المعاني للآلوسي ج24/51 ط المنيرية.
[37]
انظر: الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي ج5/347.
وانظر كذلك: تفسير ابن كثير ج4/73 ط عيسى الحلبي، وروح المعاني للآلوسي ج24/51 ط المنيرية.
[38]
انظر: تاريخ دمشق لابن عساكر مخطوط نسخة من مصورة في معهد المخطوطات في جامعة الدول العربية رقم (602تاريخ) وتهذيب تاريخ دمشق ج7/430.
[39]
انظر الكافي في الأصول ج1/198 ط إيران.
[40]
انظر مجمع البيان في تفسير القرآن لأبي الفضل بن الحسن الطبرسي من علماء الإمامية في القرن السادس ج4/234 ط العرفان صيدا 1355هـ/1916م.
[41]
انظر: البدء والتاريخ ج5/129 ط 1969م.
[42]
انظر: رجال الطوسي ص515.
[43]
انظر: البدء والتاريخ ج5/129 ط 1969م.
[44]
انظر مقدمة فرق الشيعة للنوبختي ص17 من الطبعة 1969م.
[45]
انظر: شرح ابن أبي الحديد ج2/309 الطبعة الميمنية 1326هـ والآية 5 من سورة التحريم.
[46]
ميزان الاعتدال ج2/624.
[47]
انظر: الفرق بين الفرق ص234، وذكر هذا المعتقد ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج2/309.
[48]
انظر: الفرق بين الفرق ص234، والكامل في الأدب للمبرد ج2/124.
[49]
انظر مقالات الإسلاميين ص85.
[50]
انظر: شرح نهج البلاغة ج2/306.
[51]
انظر القاموس المحيط ج1/152 ط 1952 القاهرة.
[52]
انظر: تاريخ دمشق النسخة المخطوطة المصورة في معهد المخطوطات رقم (602 تاريخ) في ترجمة عبد الله بن سبأ وانظر تهذيب تاريخ ابن عساكر 7/430.
[53]
انظر المصدر السابق.
[54]
يشر إلى الآية الكريمة.
[55]
تاريخ دمشق لابن عساكر المخطوط وانظر: تهذيب تاريخ ابن عساكر ج7/430-431.
[56]
انظر صحيح البخاري مع فتح الباري ط السلفية ج6/151.
[57]
انظر: سنن النسائي (المجتبى) ج7/96.
[58]
انظر جامع الترمذي ج4/59 ط مصطفى الحلبي 1395هـ/1975م.
[59]
انظر صحيح البخاري مع فتح الباري ط السلفية ج12/267.
[60]
انظر: فتح الباري ج12/270.
[61]
انظر: المصدر السابق.
[62]
انظر: الكافي للكليني ج7/257-259.
[63]
انظر سنن النسائي (المجتبى) ج7/97.
[64]
انظر: فتح الباري ج12/270.
[65]
انظر: معرفة أخبار الرجال لأبي عمرو الكشي ص71-72 ط سنة 1317 هـ بمبى الهند.
وكذلك رواها الكيليني في الكافي ج7/259- 260.
[66]
انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج2/308- 309.
[67]
انظر: فرق الشيعة للنوبختي ص44 وقاموس الرجال ج5/463.
[68]
انظر البيان والتبيين للجاحظ ج3/81 ط 3/1968 القاهرة.
[69]
انظر: تاريخ بغداد ج8/488.
[70]
انظر: فرق الشيعة للنوبختي ط النجف ص43، وقاموس الرجال ج5/463.
[71]
انظر: تثبيب دلائل النبوة ج2/539-550.
[72]
انظر: المقالات والفرق لسعد بن عبد الله القمي ت 301هـ، ط طهران 1963م تحقيق الدكتور محمد جواد مشكور.
[73]
انظر المجروحين لابن السبتي ج1/298، وانظر: ميزان الاعتدال ج2/52.
[74]
انظر: تذكرة الحفاظ ج1/84 ط إحياء التراث.
[75]
انظر: تذكرة الحفاظ ج1/82.
[76]
انظر: المجروحين ج1/298، وميزان الاعتدال ج2/53.
[77]
انظر: رجال الطوسي ص41.
[78]
انظر: العلويون فدائيو الشيعة المجهولون لعلي عزيز العلوي ص31 الطبعة الأولى 1972م، والباب هو حلقة الوصل بين الشيعة والإمام.
[79]
انظر: رجال كشي ص100 مؤسسة الأعلمي كربلاء، وتنقيح الرجال في أحوال الرجال للمامقاني ج2/183-184 ط المرتضوية 1350هـ، وقاموس الرجال ج5/461.
[80]
انظر: المصادر السابقة.
[81]
انظر: المصادر السابقة وقاموس الرجال ج5/462.
[82]
انظر: رجال الطوسي ص62 /الأولى النجف 1381هـ/1961م.
في المشارق والمغارب
فضيلة الشيخ/عبد الله بن أحمد قادري
عميد كلية اللغة العربية
إلى ديترويت:
وفي يوم الخميس 1/8/1398هـ سافرنا من إنديانا بلس إلى ديترويت إذ أقلعت بنا الطائرة في الساعة التاسعة والدقيقة الخامسة عشرة صباحا، وهبطت بنا في مطار ديترويت بعد ساعة تقريبا.
إلى فندق بلازا:
التقينا أنا والأخ الشيخ عبد الغفور البركاني في قاعة تسليم الأثاث، ويستطيع الصديق أو القريب في الغرب أن يستقبلك عندما تخرج من النفق الصناعي المتصل بالطائرة وقاعة المطار أو يودعك هناك.
ليس مثل مطارات البلدان الشرقية التي يحرم على الصديق أو القريب أن يودع أو يستقبل صديقه إلا في القاعات الخارجية في المطار، لذلك يراك صديقك وأنت تعاني من حمل أمتعتك الثقيلة أو الكثيرة فلا يقدر على مساعدتك حتى تخرج إليه والحكمة في نفس صاحبها.
نقلنا الأخ عبد الغفور بسيارته إلى فندق بلازا الذي يقع على النهر الصغير المتفرع عن بحيرة ديترويت الكبيرة، العذبة، وهذا النهر يفصل بين الولايات المتحدة الأمريكية وبين كندا وهذا الفندق يقع على شاطئ النهر الشمالي، والعمارات الكندية في المدينة المجاورة تقع على الشاطئ الجنوبي منه، وفي الجهة الغربية يربط أحد الجسور الحديدية بين البلدين، إذ تعبر عليه السيارات وبعد أن تم استقرارنا في الفندق المذكور في الدور (29) ودعنا الأخ عبد الغفور على أن يعود إلينا بعد الساعة السابعة مساء قبل المغرب بساعتين ونصف تقريبا، وكان النهار في ديترويت في ذلك الوقت يبلغ طولع سبع عشرة ساعة من طلوع الشمس تقريبا.
مناظرة ممتعة وأخرى مؤذية:
جاءنا الأخ عبد الغفور في الموعد، وكان بجانب الفندق برج عال وفي أعلاه مظلة تدور بالزائرين ليتمكنوا من رؤية كل ما حول البرج من المدينة والنهر والمدينة الكندية وغير ذلك فصعدنا إلى ذلك المكان الذي لا بد أن يتناول فيه الزائر شيئا ما: طعاما أو شرابا حلالا أو حراما فتناولنا بعض المرطبات اللائقة بنا وقعدنا ننتظر دورة الأرض المصغرة التي لا خلاف في دورانها ونحن نتمتع بجمال تلك المناظر العجيبة: قصور عالية وشوارع مستقيمة، وأخرى ملتوية، ونهر جار، ومراكب بحرية كبيرة وصغيرة، وطائرات هليكوبتر تحلق فوق النهر حتى تكاد تلمس ماءه ولم يسؤنا إلا مناظر الحيوانات البشرية التي مهما حاولت أن تغض بصرك لا تقدر إلا إذا وضعت على عينيك ستارة مثل الستارة التي توضع على أعين أسرى الحرب في بعض الحالات ولكن الذي كان يهون الأمر علينا أننا كنا نحس أن أمامنا حيوانات منتنة، ونساء مترجلات لا توجد بهن إلا خشونة الرجال الوقحين، ثم لا بد من أن نختبر أنفسنا في هذا الجو السيء والله وحده الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأن حلاوة الإيمان الحق لا يذوقها الإنسان إلا حيث يكره نفسه على ما لا تحب "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات".
والذي جعل المنظر أمامنا جميلا هو ما ذكرت أولا يضاف إليه أننا ننظر إلى أراضي دولتين في وقت واحد.
وبعد ساعة تقريبا اصطحبنا الأخ عبد الغفور في جولة حول المدينة على ضفاف البحيرة، وكنا نريد أن ننزل في مكان لنتمتع بجمال البحيرة وجمال البساتين القريبة منها ولكن الأماكن التي مررنا بها كلها لا تليق بنا أن ننزل فيها لما فيها من العري الشديد والاختلاط الفاحش، فعدنا أدراجنا إلى الفندق.
وبعد تناول طعام العشاء ودعنا الأخ عبد الغفور على أن يأتينا غدا الجمعة حيث أصرّ على أن أقوم بخطبة الجمعة لأن الناس يجتمعون في المسجد أكثر من بقية أيام الأسبوع.
صلاة الجمعة:
وفي 2/8/1398هـ جاء الأخ عبد الغفور فنقلنا إلى المسجد الجامع الذي يقيم فيه الجمعة والجماعة ويدرس الناس فيه كما يدرس بعض الأولاد، فانتظرنا في مكتبه الذي بجانب المسجد واستقبلنا فيه بعض أعضاء الجمعية المشرفة على المسجد بتحيات حارة لمسنا فيها العاطفة المتطلعة إلى زيارات العلماء لتلك البلاد.
وعندما حان الوقت أذن المؤذن في مكبر الصوت، وهذا أمر غير مألوف في بقية المساجد في الغرب، وذكر عبد الغفور أن بعض الناس قد أبدوا استياءهم من ذلك ولكن التصميم الحاصل من أعضاء الجمعية جعلهم يرفعون اسم الله عاليا في بلاد الكفر وقد لا يسمح لهم بالاستمرار في ذلك إذا طلب الجيران تدخل السلطات الحكومية.
وهنا تذكرت أن بعض الناس في بعض البلدان الإسلامية يحاولون أن يحدوا من رفع كلمة لا إله إلا الله في مكبرات الصوت وقت الآذان استجابة لرغبات من يغيظهم صوت الحق فقلت للهم يسر سبل إعلاء كلمتك على أرضك كلها على رغم أعداء دينك من الكفرة وأذنابهم.
وكنت أفكر في موضوع الخطبة، ولم أهتد إلى ذلك إلا قبيل صعودي المنبر، إذا ارتسم في ذهني الكلام على سورة العصر، وكنت علمت أن المسجد يحضره العمال والمثقفون من أطباء وغيرهم، وعندما يكون الحاضرون خليطا من المثقفين والعوام فإن مهمة الخطيب تكون صعبة، لأنه لا بد أن براعي هؤلاء وهؤلاء في أسلوب واحد لا يحس أحد الصنفين بمطبات وقد حاولت ذلك ما استطعت.
كأننا في أحد مساجد بلادنا المعمورة:
ولقد ازدحم المسجد بالمصلين حتى صلى كثير منهم في قاعته السفلى، وما كنت أظن أن أجد إلا صفا واحدا، ومع ذلك فإني كنت أحس أن الكلمة التي تخرج تجد لها قلوبا مفتوحة، لاحظت ذلك في وجوه المصلين وكأن على رأسهم الطير.
لا بد أن أسير مع ركاب القطار:
وبعد أن صلينا قدمت لنا جنازة أحد المسلمين للصلاة عليها، وقد وضع في صندوق كما يعمل أهل تلك البلاد، وعندما سألت لماذا يعمل المسلمون هذا ذكروا أنه لا يسمح بدفن أحد بدون ذلك فذكرني هذا بما يردده المجاهدون من أن المسلم لا يقدر أن يعيش حتى في حياته الشخصية ولا يطبق في أموره الخاصة أحكام دينه إلا إذا كان نظام دينه هو الحاكم وإلا فسيكون ترسا في عجلة دولاب النظام الذي يعيش تحت ظله.
وبعد ذلك أعلن الأخ عبد الغفور أننا سنلقي دروسا بعد المعرب من كل يوم ابتداء من مغرب هذا اليوم.
وطلبنا من الأخ عبد الغفور أن نتبع جنازة هذا الميت حتى يتم دفنه، وعندما خرجنا من المسجد وجدنا أن قافلة السيارات التي تتبعه إلى المقبرة تحمل كلها بيارق صغيرة عليها علامة الصليب، فاستكبرت ذلك فقالوا أيضا لا يسمح لسيارة بالدخول إلا بهذا الشعار فقلت وهذه أطم من التي قبلها، فركبنا في سيارة الأخ عبد الغفور وليس عيها ذلك البيرق فذهبنا قبل الموكب ودخلنا المقبرة دون أن يتعرض لنا أحد وهناك انتظرنا حتى جاء الموكب وقد غطى القبر بالقماش الجوخ وفرشت جوانبه بالسجاد، وقائد الحراسة الذي يهيل التراب في القبر ينتظر، وهناك وجدنا نصبا على القبور كتب عليها اسم الميت وتاريخ دفنه، وبعض القبور عليها قطعة من البلاط كتب عليها ذلك، وليست القبور مرتفعة عن الأرض، والمسلم هناك يدفن بجانب النصراني.
وذكر الأخ عبد الغفور أن الميت يلبس بدلة جديدة شبيهة ببدلة الزفاف وأن الناس يغالون في ذلك، والمسلمون يعملون نفس ما يعمله الكفار، طردا للميزان الغربي المادي عند الغربيين، ولو كان عندهم علم عن عذاب القبر ونعيمه وسؤال منكر ونكير، وأن الإنسان لا يبقى معه في قبره إلا عمله لما احتاجوا إلى هذا التكلف.
وجاء الموكب وحمل التابوت الثقيل حتى وضع على فم القبر وقد ربطت على القبر حبال ربطا خاصا يوضع عليها التابوت ثم جاء المختصون وأخذوا يرخون الحبال شيئا فشيئا حتى نزل التابوت في مكانه وأهال الحاضرون شيئا من التراب عملا بالطريقة الإسلامية في الدفن ثم ابتعدوا وأخذ قائد الحراثة يجرف التراب في القبر حتى انتهى
…
وقال الأخ عبد الغفور: الآن لا بد أن نتقدم للدعاء للميت حسب السنة، وإلا فسيتقدم بعض المخرفين لقراءة التلقين المعتاد وهو مخالف للسنة، فقلت له: تقدم وافعل ففعل وعزينا أقرباء الميت، وحاولوا معنا أن نذهب معهم لتناول طعام الغذاء إذ جرت عادتهم أن يفعلوا ذلك فاعتذرنا ورجعنا إلى الفندق.
جولة في الجزيرة:
وبعد العصر جاءنا الأخ عبد الغفور فذهب بنا إلى الجزيرة الواقعة شرق الفندق والتي ذكر أن الولايات المتحدة اشترتها من كندا (الظاهر أنها اشترت قسط كندا منها) وعندما وصلنا إلى الجزيرة وتجولنا فيها رجعنا إلى طرف النهر الشمالي فوجدنا مكانا خاليا من الناس فمكثنا هناك حتى جاء الوقت وذهبنا إلى المسجد حيث أدركنا الناس وهم يصلون فصلينا معهم.
الدرس الأول:
وبعد صلاة المغرب أعلن للناس الأخ عبد الغفور عن افتتاح الدروس فبدأنا الدرس الذي كان يدور حول الإيمان بالملائكة وأدلته والحكمة من خلق الجن والإنس، ثم فتح المجال للأسئلة الكثيرة إلى أن أذن لصلاة العشاء فصلينا وذهبنا إلى مطعم عربي لبناني تناولنا فيه طعام العشاء ولكن بعد فحص شديد كفحصنا لمطاعم الغربيين لعدم الفرق بينهما، لأن العرب المسؤولين عن المطعم نصارى أيضا، إلا أن صنع طعامهم شرقي.
وعدنا إلى الفندق، وفي هذا اليوم قص لنا الأخ عبد الغفور مشاكله مع بعض الجاليات الإسلامية التي قد سمعنا عنها من قبل وكنا نود أن نصلح بينه وبينهم، بل كنت أقول لزميلي الدكتور محمد بيلو: لو لم يكن في رحلتنا هذه إلا الإصلاح بين هؤلاء القوم لكفانا.
حالقة الدين:
لذلك عرضنا على الأخ عبد الغفور استعدادنا للصلح بينه وبين خصومه وكان يائسا هو من ذلك. وحاول أن يدخل اليأس في نفوسنا، ولكننا ألححنا عليه، وذكرناه بالنصوص الواردة في الخلاف وذمه وفي مدح الاعتصام والاتفاق ووجوب تحقيق الأخوة الإسلامية، وبعد مناقشة طويلة وافق على تدخلنا في الموضوع قائلا سوف لا تجدون قبولا لذلك عند الآخرين وكنا اتصلنا بالأخ عمر الصوباني الأردني الذي يسكن في مدينة من مدن ولاية ديترويت وطلبنا منه الحضور ليشاركنا في الإصلاح، لأنه قد بلغنا أن القاضي يحيى بن لطف الغسيل اليمني رئيس مكتب التوجيه والإرشاد في صنعاء قد زار المنطقة وحاول الإصلاح كذلك، ومن ضمن ما عمله عندما لم ينجح في مهمته أن شكل لجنة للإصلاح من ضمنهم الأخ عمر المذكور، والأخ الليبي علي رمضان أبو زعكوك وهو طالب في إحدى الجامعات في الولاية أيضا، ولكن هذا الأخير لم نجده.
أما الأخ عمر فقد جاء جزاه الله خيرا وبقي معنا يومين في محاولة جادة مع الطرفين، وقد تلمسنا الأخبار أولا من بعيد فتأكد لنا عن عبد الغفور ما يلي: -
- عندما ابتعثته دار الإفتاء، جاء إلى ديترويت، وكان أول من أعانه ووقف بجانبه الحاج فوزي مرعي الفلسطيني ضد رئيس الجمعية السابق وهو فلسطيني أيضا ولكنه هو وجماعته كانوا يبيحون قاعة المسجد السفلى لاحتفالات الجاليات في الأعياد ومناسبة الزواج وغير ذلك، ويحصل في ذلك ما يحصل من المنكر، تكشف النساء واختلاط الرجال بهن، مع الرقص واستعمال آلات الملاهي، وأن المسجد لم يكن يفتح للصلاة إلا نادرا لعدم وجود إمام متفرغ فيه.
أمر بالمعروف فحورب:
وكان الأخ عبد الغفور ينكر عليهم ذلك بشدة ويقول لهم إن المساجد لله، وبنيت لذكره، فلا يجوز استعمالها فيما هو محرم في غيرها، ولكن القوم ألفوا ذلك ودأبوا عليه فلم يسمعوا له قولا، فوقف فوزي بجانب عبد الغفور، وانتهى الأمر بانتخاب جديد لأعضاء الجمعية فكان فوزي هو الرئيس في هذه الدورة، ومضى الأخوان في تعاون ووفاق.
واعتزل الجمعية من لم يرض بما حصل، وكان المسجد يفتح في جميع الأوقات وذكر بعض أعضاء اتحاد الطلبة المسلمين أنه حضر المسجد في بعض الأوقات العادية التي هي في أيام عطل وليست في أيام إجازة فوجد وراء الإمام ثلاثة صفوف وذلك نادر في مساجد الولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن هذا المسجد الذي كان يعتبر مهجورا.
أما في أيام الجمع فإن المسجد لا يتسع للمصلين، لذلك وسعوه من جهة القبلة وهذا خير كثير إذا ما قورن بالمساجد التي تعتبر معمورة ولها من يقوم عليها وينفق الأموال الكثيرة.
ثم دب الخلاف بعد ذلك بين الأخ عبد الغفور والأخ فوزي واتسع الخرق على الراقع، فبلغ الأمر إلى أن دعا عبد الغفور إلى انتخابات جديدة حضرها بعض الأعضاء وغاب عنها بعضهم، ولما كان اليمنيون هم الأغلب وقد رأوا في عبد الغفور ما يجمعهم ويبصرهم فقد تم انتخابه رئيسا للجمعية المذكورة عند ذلك طلب من فوزي تسليم الأموال التي بيده، بل التي أودعها في البنك باسم رئيس الجمعية وأن يحاسب المسؤولون الجدد بما تم في الأموال المصروفة، فرفض ذلك، واشتد النزاع وتفاقم أمره.
ودخل الشيطان بين الإخوة فتفخ في كل واحد منهم ليسد الباب أمام الصلح، بل زاد أمره حتى كذب بعض الخصوم على خصمه واتهمه بتهم كاذبة، إذ كتب خصوم عبد الغفور للمسؤولين في المملكة العربية السعودية - بسبب أنه مبعوث من قبل بعض مؤسساتها - بأن عبد الغفور يتعاون مع الشيوعيين ولعلهم اتهموه بأنه شيوعي هو نفسه، ويقال إن راتبه قد أوقف وشكلت لجنة لتقصي الحقيقة فوجدوا أن الدعوى كانت كاذبة باعتراف خصومه، وذكر الأخ عبد الغفور أن راتبه أعيد بعد ذلك.
الدرس الثاني:
وقد دخلنا مع كل من الطرفين في نقاش طويل نحن والأخ عمر الصوباني أما عبد الغفور فكنا معه باستمرار في سيارته، وفي الفندق وفي المسجد، لأنه هو الذي تولى مرافقتنا من أول وصولنا.
وأما فوزي مرعي فقد سهرنا معه ليلة كاملة، كما سيأتي الكلام عنها وبعد مغرب يوم السبت الموافق 3/8/1398هـ تم إلقاء الدرس الثاني وكان كله يدورحول جواب على سؤال بعض الحاضرين الذي وجهه على الوجه التالي: ما سبب عدم التزام المسلمين بواجبات دينهم، وترك ما حرم الله عليهم مع علمهم بذلك، ثم فتح المجال كالمعتاد لأسئلة أخرى للإجابة عليها شارك في بعضها زميلي الدكتور بيلو.
صلح المسلم رفض وحكم الكافر طلب:
وبعد صلاة العشاء من هذا اليوم جاءنا الأخ فوزي مرعي إلى الفندق واستمرت محاولتنا معه من أول ما دخل إلى أن صلينا الفجر ليرضى بالصلح بينه وبين عبد الغفور ولكن دون جدوى إذ صمم أنه لا صلح مع عبد الغفور إلا تسفيره من أمريكا، والرجل حاد الطبع سريع الغضب بطيء الفيء أيضا يطلق لسانه دون أن يفكر فيما يقول، فقد نال من خصمه مما لا يجوز له كما حرض عليه آخرين وأغراهم بالاتصال بنا شخصيا أو عن طريق الهاتف ليؤكدوا ذم عبد الغفور والشكوى منه، ظنا منهم أننا جئنا للتحقيق في القضية ونحن قد نفينا ذلك في المسجد.
ولو كانوا شكوا شكوى عادية لهان الأمر ولبقينا من أجل المصلحة ولكن كلامهم كله كان كلام سب وشتم ودعاوى واضحة البطلان فقد اتصل بعضهم بي شخصيا في الهاتف وأخذ يحدثني عن عبد الغفور الشيوعي وأخذ يسبه لمدة لا تقل عن ساعة، وأنا لا أزيد على السماع إلا إذا خشيت ظنه أني قفلت الهاتف فأقول له: نعم. وكان ذلك ثقيلا على نفسي، وجاء آخر بنفسه وأخذ يفتح ملفات الإجرام الصادرة من عبد الغفور التي لم أر فيها إلا وقوفه ضد المنكر الذي ألفه الناس واستنكروا وجود المعروف كما قال من قبلهم:{يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} ، وبقي هذا الرجل عندنا أكثر من ثلاث ساعات ونحن لا نزيد على السماع منه، ثم نصحناه في الأخير بتقوى الله وودعنا غير راضي بذلك الزمن فيما يبدو.
وقد حضر الخصمان وبعض أعوانهما ومحامي كل منهما إلى أحد قضاة البلدة وعندما عرف القاضي - وهو نصراني - أنهما مسلمان قال لهما: ألا تشعران بالخجل إذ تخرجان من بيت من بيوت الله دون أن تحكماه بينكما وتصطلحا بالحق لصاحبه، وتأتيا إليّ أنا العبد الضعيف لأحكم بينكما، وقد أخبرنا كل الخصمين بهذا عبد الغفور أخبرنا مباشرة وفوزي أخبرنا عن طريق الهاتف فكانت موعظة من عدو للإسلام ولكنها لم تقبل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وخشينا أن تحدث فتنة، فتشاورنا أنا وزميلي وقررنا السفر يوم الثلاثاء فحجزنا واتصلنا بأخينا في الله الشيخ محمد نور السوداني الذي يعمل مع البلاليين على نفقة وزارة الأوقاف الكويتية ليرتب لنا منهج زيارة نافع في شيكاغو كما سيأتي.
دفاع المنتصر:
وفي يوم الإثنين 5/8/1398هـ تجولنا في بعض أسواق المدينة وفي طريقنا إلى بعض العمائر الضخمة التي يوجد فيها كل الأغراض المطلوبة، كل صنف من البضاعة يوجد في طابق منها تناولنا طعام الغذاء في أحد الفنادق الفخمة وهنا حصلت قصة طريفة، لا زلت كلما تذكرتها أضحك من أجلها: كنت لابسا لباسي العربي، وكان الناس يكثرون الالتفات نحوي لغرابة اللباس هناك ولكن التفاتهم - في الغالب - يكون خلسة ومسارقة، وسمعت من الأخ عبد الغفور أن الالتفات إلى شخص ما يعتبر غير لائق عند الأمريكيين، فإذا صوب أحد نظره إليك والتفت أنت نحوه فإنه يشعر بالخجل ويعتبر التفاتك إليه نوعا من الاحتجاج والعقاب، ولقد أخذت هذا السلاح فكنت إذا رأيت من يلتفت إلي التفت نحوه فيصرف نظره بسرعة، وكأنه لم يكن ينظر إلي وفي هذه المرة كنا على طاولة الطعام فمر شيخ عجوز فنظر إلي فنظرت أنا إليه ومن شدة محاولته إخفاء التفاته صرف نظره بسرعة وهو يمشي فتعرقلت رجله بأحد المقاعد فوقع على الأرض ثم تجلد فوثب قائما وأخذ يسعى بعيدا عنا، فأخبرت الأخوين: زميلي الدكتور بيلو والأخ عبد الغفور فأخذا يشاركانني الضحك.
الآلة والبطالة:
ثم صعدنا إلى الطابق الأول في الفندق فوقفنا في قاعة صغيرة نسبيا لنرى القطار - أو المترو - واقفا، فخرج الركاب منه، ودخلنا نحن، وعندما أخذنا مقاعدنا نظرنا إلى مقدمة هذا المركب المعلق جسره في الهواء بين الفندق وبين العمارة التجارية التي نريد الذهاب إليها، نظرنا لنرى القائد فلم نر أحدا، وعندما سألنا عن ذلك - وكنا نظنه يختفي في مكان ما منه - قال الأخ عبد الغفور أنه يسير ذهابا وإيابا بنفسه عن طريق الكهرباء، ويتقابل هو وزميله في منتصف لبطريق دائما، هذا ذاهب وهذا عائد.
قلنا في نفوسنا: نركب مع الناس، وهذا المركب قد جرب، وقد آمنه الناس على أنفسهم لمدة طويلة، فما يظن به أنه يخرج عن طريقه، أو يتجاوز موقفه وذكرنا اسم الله الذي سخره لنا وسخر عقول بعض خلقه كذلك.
وهنا استحضرت ثلاث ملحوظات:
الملحوظة الأولى: أن أهل الغرب اتعبوا أنفسهم وكدوا عقولهم لاستخدام ما سخره الله تعالى لهم في هذا الكون، وسلكوا السبيل المطلوب لهذه الاستفادة فكانت النتيجة أن تحقق لهم كثير مما أرادوا.
لذلك ترى صاحب الآلة نائما وهي تخدمه طول الوقت، هذا في الأمور المادية البحتة.
الملحوظة الثانية: أن الآلة حلت محل الإنسان في كثير من الأعمال فتعطل كثير من الناس عن العمل، ولذلك ارتفعت الشكاوي من البطالة لأن هناك مجالات أخرى غير هذا المركب كالمصانع التي يكفي شخص واحد ليدير ألفا عن طريق جهاز الكمبيوتر والمراقبة ويكفي أن يضغط شاب على زر لتشغيل المصنع بكامله، بل إنك تستطيع أن تتعامل مع الآلات في صرف نقودك، فتدخل النقود الورقية في الآلة فتضغط على أحد الأزرة فتخرج لك عدد القروش المماثلة دون زيادة أو نقص، تصور لو كان ذلك عن طريق الناس كم كان يحتاج من الوقت ليعد لك ولغيرك تلك النقود المعدنية، وكم يحتاج من البشر ليكفي عشرات الناس في الدقيقة الواحدة؟.
وتتعامل مع الآلة في شراء بطاقات دخول القطار فتذهب إلى الآلة وترمي لها النقد المعدني ثم تضغط على الزر فإن كان النقد هو المطلوب رمت لك البطاقة في محفظة سفلى، وإن كان أكثر من المطلوب ردت لك الباقي وأعطتك البطاقة، وإن كان أقل منه انتظرت حتى تكمل.
وتتعامل مع الآلة في شراء أنواع الأشربة، إذ توجد بها العلب وعلى كل نوع كتبت قيمته، فما عليك إلا أن ترمي النقد المطلوب ثم تضغط على الزر المختص فيرمي لك العلبة التي أردت.
وهكذا إن شئت قهوة بسكر أو بغير سكر قليل ساخنة أو بادرة فإن الآلة تتعامل معك في أسرع وقت وبدون خصام.
بل ذكرنا، وهذا لم نره، أن بعض الآلات تتعامل عك في الطعام الساخن والبارد وهكذا.
بل إن البنوك تتعامل معك في أيام العمل وأيام الإجازات في الليل والنهار إذ تأتي إلى فتحة صغيرة فترمي فيها بطاقتك وتذهب الآلة تسأل أخواتها إن كان بقي لك شيء يكفي للمبلغ المطلوب فإن كان موجودا فإنه يأتيك في أسرع وقت وإلا رجعت لك بطاقتك بعد الاعتذار لها.
إنني عندما رأيت بعض هذه الأمور وعلمت عن بعضها وسمعت غير ذلك مما يدهش العقل ورأيت الناس كيف يعملون في الحسابات وغيرها خرجت بنتيجة أن هؤلاء الذين يستخدمون هذه الآلات قد أصبحت عقولهم آلات عدا أولئك الذين يفكرون بعقولهم ويبتكرون ويخترعون فإن أمرهم مختلف، قل لي بربك ألا تكون النتيجة هي الشكوى من البطاقة.
الملحوظة الثالثة: إن مجال هؤلاء العاطلين هو الدول المتأخرة، والتي يسمونها بالنامية. لذلك ترى الآلاف من الغربيين يؤمون هذه البلدان بطلب منها في مجالات مختلفة منها الخطير ومنها الحقير.
وهكذا كان صاحبنا القطار الصغير، إلا أنه لم يعلم أخذ النقود، بل يتقدم دون مقابل، ولكن لا يخدمك إلا لإيصالك إلى المتجر وإعادتك وهناك في هذا المتجر الضخم لا يرجع هذا الراكب إلا بعد أن يشتري شيئا ما، ليس عن طريق الإجبار والترهيب ولكن عن طريق الإغراء فلكل واحد ما يعجبه في هذا المتجر إن لم يكن في هذا الطابق ففي الذي يليه، لهذا فلا حاجة لهم إلى دفع قرش أو قرشين فستدفع ما يكفي وزيادة.
ومن فوائده لهم أن المتجر لا يدخله الناس إلا عن هذا الطريق الذي يسهل عليهم المراقبة، وهناك أجهزة مراقبة في المتاجر الكبيرة يكون الإنسان فيها مكشوفا في شاشة التلفزيون الخاص تصوره الكمرة على ما هو عليه.
ومما لوحظ في هذا المتجر وغيره أن الأجهزة السلكية واللاسلكية الموجودة في أمريكا أغلبها من صنع اليابان، وذكر الأخ عبد الغفور وغيره كذلك أن أجهزة الراديو المصنوعة بأمريكا لا يسمع فيها إلا الإذاعات المحلية ما عدا أجهزة قليلة جدا ليس في استطاعة كل واحد اقتناؤها لغلائها تسمع بها الإذاعات الخارجية، أما الأجهزة المصنوعة في اليابان فإن أكثرها تسمع منها الإذاعات الخارجية، وهكذا وجد أن المسجلات الجيدة يابانية
…
وسيأتي، الحديث عن اليابان في حينه إن شاء الله.
وبعد تجول طويل في المتجر وأخذ بعض الأشياء الخفيفة تسلية للقطار الذي لا نريد أن يرانا خالي الوفاض من داره، رجعنا إليه فنقلنا إلى مكاننا الأول، وتركناه يتعامل مع غيرنا، وذهبنا إلى سيارة الأخ عبد الغفور وطلبنا منه أن يقودها، ولا يتركها تسير بنفسها، لأنها لم تدخل المدرسة التي تخرج فيها ذلك القطار.
رجعنا إلى الفندق لنرتاح لأنا غدا مسافرون إلى شيكاغو ولقد كنا في غاية من الرغبة في البقاء في ديترويت من أجل الجمع الغفير الذي يجتمع في المسجد ومن أجل الرغبة التي كنا نلمسها في الحاضرين، حتى لقد بكى بعضهم وناشدونا البقاء لمدة أطول وأن نبلغ المسئولين في المملكة العربية السعودية بأن يتعهدوهم بالمرشدين وأن يبعثوا لهم عددا من المدرسين لتدريس أولادهم مبادئ اللغة العربية والمبادئ الإسلامية حتى لا يضيعوا في المجتمع الأمريكي، غير أن الوضع الذي شرحته سالفا رجح لنا السفر
…
إلى شيكاغو
من ديترويت إلى شيكاغو:
وفي يوم الثلاثاء 6/8/1398 هـ أقلعت بنا الطائرة من مطار ديترويت في تمام الساعة العاشرة صباحا ووصلنا إلى مطار شيكاغو.
حنين وتسلية:
قابلنا الأخ محمد نور السوداني الذي تخرج في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة وكنت أيامها مسئولا عن شئون الطلاب وكان محمد نورمن الطاقات العاملة في النشاط الطلابي إذ شارك في الرحلات والندوات والجماعات المختلفة، لذلك كان لقاؤنا معيدا لتلك الذكريات الطيبة وكان قد سجل في جامعة الملك عبد العزيز بجدة في الدراسات العليا - الماجستير- ولكن لظروف طارئة غادر مكة المكرمة إلى الكويت، وابتعثته وزارة الأوقاف الكويتية إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليعمل مع البلاليين هناك، ولا يزال يحن إلى الكعبة الشريفة التي جاورها لمدة سنتين حنين الأم إلى ولدها، وكذلك المسجد النبوي الذي لم يغادره طيلة أربع سنوات عندما كان في الجامعة الإسلامية إلا نادرا ولكن ينبغي أن يتسلى هو وغيره بالعمل والدعوة إلى الله في أي مكان بقول عبد الله بن المبارك:
يا عباد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك في العبادة تعلب
من كان يخضب خده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا
قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الله في
أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا
ليس الشهيد بميت لا يكذب
سائق مخيف:
استأجرنا سيارة صغيرة لتوصلنا إلى الفندق الذي تم الحجز فيه عن طريق الأخ محمد نور في وسط المدينة، وكان السائق زنجيا عنيفا في قيادته، إنه يكاد ثيب بسيارته على سيارات الناس التي أمامه، على خلاف عادات السائقين في الغرب ويخاتل السائقين فيسبق هذا ثم يستعد لسبق الآخر، لقد كدت أطلب من الأخ محمد نور أن يوقفه ولكن خشينا إن علم أننا متضايقون من قيادته أن ترتفع درجة الحرارة عنده، لقد كان شبه مجنون ولا أستبعد أيكون ثملا من آثار الشرب أو الحشيش ولكن الله سلم فوصلنا بسلامة الله وحفظه إلى الفندق الثاني في رحلتنا، تذكر أن الفندق الأول هو فندق "لندن".
فندق روزفليت
فرق بعيد أما أول فندق نزلنا به في مدينة شيكاغو فهو فندق روزفيلت ولهذا الفندق قصة أخرى مغايرة تماما لقصة فندق لندن من – وجهين -:
الوجه الأول: أن اختيار فندق لندن كان من قبل قوم غشاشين.
الوجه الثاني: أن هدفهم أن يحتالوا على أكبر عدد ممكن لسرقة أموالهم بأسلوب ظاهره شرعي أما فندق روزفليت فقد اختاره لنا أخ حبيب وصديق حميم لا نشك في أنه يحب لنا ما يحب لنفسه وما أراد إلا راحتنا، ولكن ما قصة الفندق وكيف كان؟.
الأخ محمد نور قريب العهد بسكنى مدينة شيكاغو، ورجل حيي قنوع ليس عنده وسيلة للمواصلات، وفي نفس الوقت مشغول بأداء عمله الذي نرجو أن يكون يؤديه بإخلاص وتفان في سبيل الله وحده، لهذا لم يتمكن من معرفة البلدة، لأنه لم يتجول فيها ونحن عندما اتصلنا به كان تصورنا غير ذلك، كنا نظن أنه على علم بالبلدة وعنده وسيلة مواصلات، وأخطأ ظننا، كما أنه لحيائه وعفته لم يستعن بأحد من الذين لهم خبرة في البلد، فقابلنا وحده في المطار.
خداع العناوين:
وعندما أراد الحجز لنا في فندق أخذ يقلب دليل الفنادق ويستعرض الأسماء فعثر على هذا الكنز الثمين: فندق روزفليت وهل يمكن أن يكون فندق سمي باسم هذا الزعيم الكبير غير مريح؟.
لذلك اتصل بمدير الفندق وطلب منه حجز غرفة بسريرين كما طلبنا وعندما وصلنا إلى الفندق ودخلنا مكان الاستقبال همست لزميلي خلسة من الأخ محمد نور: ألا تظن أن هذا الفندق هو الثاني؟ فرد هامسا أيضا: سننظر.
ودخل علينا زنجي كبير السن يتخبط في مشيه، فاغرا فاه، ولسانه شبه معول، وهو يمد يده على أكتاف الناس فاتضح أنه سكران ورأينا أشباهه في الشارع أمام الفندق، وكنت أقول في نفسي اللهم سلمنا من هذا الفندق كما سلمتنا من فندق لندن.
المصعد والعصا:
وبعد الإجراءات اللازمة دخل معنا الفرَّاش في المصعد الذي يفتح ويقفل بيد شبيهة بيد الباب. وبيد الفراش عصا لا ندري لماذا يحملها ولكن قلت في نفسي: إما أن يكون بعض نزلاء الفندق يفقدون وعيهم من السكر ويعتدون عليه أو على النزلاء الآخرين فيحاول أن يدافع بعصاه، أو يكون في الفندق ثعابين وعقارب لكثرة أوساخه ومداخله القديمة المتداعية، وكلا الأمرين بلاء، وإذا أراد أن يوقف المصعد فإنه يبدأ بمعالجته في الدور السابق للدور الذي يريد إيقافه فيه.
أسف وتسلية:
أوقفنا عند باب حجرتنا المطلة على الشارع وأخذ يدفع الباب الخشبي القوي فانفتح ودخلنا الحجرة وأخذنا ننظر في أرجائها نظرة نفور واشمئزاز وأحس ذلك أخونا محمد نور الذي أبدى أسفه لنا وذكر قصة الاختيار وسببه فطمأناه بأن الأمر سهل وأن فندق لندن قد سبق فندق روزفليت، ويمكننا أن ننتقل منه غدا بإذن الله وهذا فندق تاريخي يحمل اسم زعيم كبير.
ثم قلت له بعد ذلك: أن إبليس هو قدوة هؤلاء القوم فقد وصف العصيان وثماره السيئة بأوصاف مغرية فقال لآدم: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} وإضافة إلى ذلك فإن زعماء الكفر لا يمكن أن يأتينا منهم خير، فأراد الله أن يثبت ذلك حتى في أسمائهم لئلا نركن إليهم أي ركون، كانت نكات لطيفة.
ودخلنا بيت الماء فإذا بابه لا يغلق، وإنما يرد فقط فظننت أنه يحتاج إلى دفع كما دفع الفراش باب الغرفة فدفعته قليلا خشية إزعاج الآخرين الزميل والصديق، وإذا هو مثل مرحاض فندق لندن ولكن زميلي اكتشف شيئا آخر فيه ظهر أنه فاق مرحاض فندق لندن في السوء.
ولماذا السلالم؟ !
ونظرنا إلى الشارع فوجدنا النافذة فرأينا أن سلالم من الخشب مبنية في جدار الفندق متصلة من أسفله إلى حجرتنا، فقلنا: وهذه مصيبة أخرى، ماذا يجري لو صعد إلينا سرب من السكارى؟ فأغلقنا النافذة وتوكلنا على الله.
إلى زعيم البلاليين:
كان الأخ محمد نور قد أخبر زعيم البلاليين، وهو ابن اليجا محمد ذي الأفكار الهدامة التي أخذها من المسيحية واليهودية والقاديانية، ونسبها إلى الإسلام، بل إنه ادعى الرسالة، ولكن ابنه المدعو عند قومه ولس دين، ويدعوه العرب، وارث الدين أظهر بعد وفاة أبيه بمدة محاولة إصلاحية في مفاهيم أبيه، فبدأ يقيم بأتباعه الصلاة ويصحح بعض الأفكار كما قرأنا ذلك قبل أن نلتقي به في بعض المجلات الإسلامية، فطلب من الأخ محمد نور أن يحضرنا إليه ليلتقي بنا فذهبا إلى المسجد الذي فيه جميع مكاتبه الإدارية، وعندما أردنا الدخول طلب منا أن نمر في الممر الذي وضع به جهاز كشف السلاح مثل الأجهزة التي توضع في المطار، والأماكن التي يخشى فيها من المسلحين فدخلنا، وكان غائبا عن المسجد فانتظرنا قليلا، وعندما أذن المؤذن وأقيمت الصلاة صلى بنا الأخ السوري: محمد مازن علوان الذي يدرس في نفس المسجد مع محمد نور وهو على نفقة رابطة العالم الإسلامي، واختصاصه في الطب، ولكن له اطلاع جيد ودرس على بعض العلماء في سوريا في صغره، وفي وقت طلبه للعلم في المدارس النظامية وهو شاب صالح أيضا.
وبعد الصلاة قابلنا الأخ محمد مازن وتعرف علينا وحدثنا عن عمله مع البلاليين وبصرنا ببعض الأمور التي تهمنا.
ترحيب وشكر:
وبعد نصف ساعة تقريبا جاء ولس دين الذي يدعوه أتباعه بالإمام، فرحب بنا وقدم لنا بعض المرطبات وتعارفنا، وأبدينا له سرورنا بما سمعناه عنه من أنه بدأ يصحح المفاهيم التي كان والده يعتقدها ويلقيها لأتباعه، وطلبنا منه أن يستمر في هذا التصحيح، لأن الإسلام يجب فهمه من كتاب الله وسنة رسوله لا من بنيات أفكار الناس.
طلب لا يرد:
وطلب مني أن ألقي حديثا في اتباعه بعد عصر هذا اليوم الثلاثاء الذي اعتاد أن يجتمع فيه أتباعه في قاعة المحاضرات العامة بجوار المسجد فلبينا رغبته، وكانت الكلمة تدور حول المعاني التالية:
- الهدف الذي خلق الله الخلق للسعي إليه، وهو رضا الله بعبادته.
- والوسيلة إلى ذلك، وهي العلم والعمل الصالح المبني على الإخلاص لله ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
- وبيان أن الناس انقسموا تجاه هذا الهدف وتلك الوسيلة إلى قسمين: كفار أو منافقون، وهم الذين خرجوا عن القانون الإلهي ويعيشون معيشة ضنك في الدنيا والآخرة، ومسلمون وهم الذين استقاموا على دين الله ودعوة الناس إليه وصبروا على أذاهم وأن يجازى كل قسم يوم القيامة بما قدم.
- أن الناس لا يتفاضلون إلا بالتقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فلا فرق بين عربي وعجمي ولا بين صاحب لون وصاحب لون آخر.
- إيضاح أنه لا يوجد اليوم في الأرض دين حق سوى دين الإسلام وأن على جميع الناس أن يدخلوا في هذا الدين وكان الزميل الدكتور محمد بيلو قد عرف الحاضرين بمهمتنا والبلدان التي زرناها وسنزورها بعد.
ثم ألقى إمام البلاليين كلمة رحب بنا فيها وأشاد بالدعوة الإسلامية التي انطلقت في مكة المكرمة وقويت شوكتها في المدينة المنورة التي أصبحت عاصمة الإسلام الأولى والتي كان لأهلها السبق في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وإيواء أصحابه أي المهاجرين، وكانت عواطف الحاضرين ملتهبة عبروا عنها بالتكبير الذي ارتجت به جنبات القاعة وقد اعتادوا الاجتماع لسماع الدرس الذي يطلقون عليه درس الثلاثاء، حقق الله لهم من يقودهم بدرس الثلاثاء إلى الإسلام الذي ارتضاه الله لعباده، واستأذنا لنذهب مع الأخ محمد نور الذي دعانا لتناول طعام الغذاء في بيته، ونحن لبينا الدعوة لنرتاح من معارك الطعام التي استمرت معنا من وقت نزولنا في أول دولة غربية وهي بريطانيا إلى هذا اليوم فقد كان زميلي في نقاش دائم مع المضيفين في الطائرات، ومع الخدم في المطاعم في كل وجبة من وجبات طعامنا، وقد تمر ثلاثون دقيقة أو أكثر وهو يتفاهم معهم عن نوع الزيوت، واللحوم والسوائل [1] ، وقد يبدون أنهم فهموا المراد ثم يأتون بما يدل على عدم فهمهم، على الرغم من أنهم يصغون إلى لكنته الإنجليزية بعناية، بل ويستعذبونها حتى يكادوا يتركون خدمتهم ويجلسون بجانبه ليمتعوا بلهجته، وهو يستفسر عن كثير من كلماتهم السريعة الدارجة، وفي إجابة دعوة الأخ محمد إرضاء له وراحة لنفوسنا من الشكوك في أطعمة المطاعم، وأجازة لزميلي محمد بيلو من عناء الأخذ والرد مع المضيفين.
ولقد كان الطعام لذيذا غاية اللذة، لأنه قدم لنا في بلد ما كنا نظن أن نراه فيها فجزى الله الأخ محمد نور خيرا هو وأهله.
وبعد الغذاء شربنا الشاهي السوداني الذي انتشى بشربه زميلي أكثر منا وأخذ فيه النسبة التي يريد من السكر دون أن يقال له: أغلق المطعم؟ كما قال له المضيف في رحلتنا من لندن إلى نيويورك.
وفرش لنا الأخ محمد نور في غرفة الاستقبال فاستلقينا ونمنا نومة مريحة إلى أن حان وقت صلاة العصر فصلينا وعدنا إلى مسجد البلاليين حيث ألقيت الكلمة في قاعة المحاضرات التي غصت بالحاضرين ثم عدنا إلى فندق روزفليت لنكمل المشوار الطويل معه.
صحبنا الأخ محمد نور إلى الفندق ورجع بعد ذلك إلى أهله فأخذنا نقارن بين الفندق لندن وفندق روزفليت في الأسباب والأهداف والمرافق.
انقلاب ومصالحة:
ولقد نزعت الغطاء الذي كان على سريري والمخدة ـ ورميتها بعيدا لعدم قدرتي على النوم عليهما، وأخذت بعض ثيابي ففرشتها وبعضها جعلتها بدل المخدة، ونمت متقززا، كأن تحت جنبي شوك السعدان، وقلت لزميلي ما رأيك لو صعد إلينا بهذه السلالم الموجودة بجانب الفندق أحد السكرى أو طائفة منهم؟. فقال: سنعمل جهدنا إن شاء الله فلا تخف وأغلقنا الشباك الذي يخشى من دخول أحد منه.
وبسط زميلي عمامته السودانية الطويلة على فراشه ومخدته ونام عليها دون أن ينزع فراشا أو مخدة تحديا لفندق روزفليت وكنت أن حظه أحسن حالا من حظي، فربما كان فراشه نظيفا وكذلك أكياس وسائده ولكنه فضل المصالحة وفضلت الثورة.
ليل طويل:
وعندما استيقظنا لصلاة الفجر، وكان هو الذي أيقظني بدا على وجهه علامة الاشمئزاز والتضجر، وهو يحك في جسمه وسألته ما بك يا دكتور؟ فقال: لقد كانت هذه الليلة طويلة عليّ، وكنت أظن أنه سيتمثل ببيت امرئ القيس:
أيها الليل الطويل ألا انجلي بصبح وما الإصباح عنك بأمثل
ولكنه كاد ولم يفعل.
قلت ماذا جرى؟ قال: لقد باتت الروائح الكريهة الموجودة في هذه البسط والوسائد تقلقني، كما باتت بعض الحشرات الصغيرة تأكل جسمي ولم أذق طعم النوم طول الليل، ثم أخذ يقلب الوسائد والفرش ففوجئ بأسباب الروائح في الوسائد، فرجوته أن يغطي ذلك وسليته بأن وقت خروجنا من هذا الفندق قد اقترب، كما اكتشف الدكتور في جدران بيت الماء ما هو أسوأ من ذلك.
ولقد ظهر لنا بعد ذلك أنه لا ينزل في هذا الفندق إلا المعدومون الذين لا يفيقون من السكر إلا نادرا، كما ظهر لنا سبب وجود العصا بيد الفراش وهو خوفه من النزلاء المشار إليهم.
استعجال لا بد منه:
وبعد أن صلينا مباشرة حزمنا حقائبنا لنغادر مكان القلق الذي كان المفروض أن يكون مكان راحة، كان ذلك في يوم الأربعاء 8/8/1398هـ.
ضغطنا على زر المصعد وانتظرنا حتى جاء حاملا صاحب العصا وأدخلنا حقائبنا فيه ونزلنا إلى قاعة إدارة الفندق ننتظر أخانا محمد نور الذي كان قد حجز لنا في فندق على جانب الشارع الآخر من جهة الشرق ولكن موعد تسلم الحجرة كان متأخرا ونحن لا زلنا مبكرين وانتظرنا طويلا في القاعة ونحن نرى النزلاء يدخلون ويخرجون أشباه مجانين ومنهم القاعدون على الكراسي يتحدثون ويضحكون وأغلبهم من كبار السن، وعندما طال الانتظار قال لي زميلي: أليس من الأفضل أن نشرب شيئا؟ فقلت له: اشرب ما تشاء أما أنا فلا أريد شيئا وحقا ما كنت أقدر على تناول طعام أو شراب في هذا المكان القذر وهذه عادتي: أصبر على الجوع والعطش إذا رأيت مناظر قذرة مؤذية أو شممت روائح سيئة إلا عند الاضطرار الذي لا أقدر على تجاوزه وفي جوانب الشارع المقابل كنا نرى أسرابا من الزنوج المتسكعين الذين يميل بعضهم على بعض أو يبادل بعضهم بعضا الصياح والضحك والبؤس باد على وجوههم ويظهر من تسكعهم أنهم بدون عمل مثل إخوانهم في هارلم.
ولشدة تضايقنا من الجلوس في هذا المكان وسوء المناظر البشرية المؤذية اتصلنا بالأخ محمد نور نطلب منه سرعة التوجه إلينا، وفعلا جاء الأخ محمد نور ومعه السيارة التي كنا طلبنا اسئجارها لتبقى معنا مدة بقائنا في شيكاغو يقودها أحد الشاب البلاليين، لا أذكر اسمه الآن ولكنه طبيب.
يطبق النظام بدون خصام:
نقلنا أثاثنا إلى الفندق الجديد وتركناه لنذهب إلى إدارة المرور لنأخذ تصريحا بالقيادة في مدينة شيكاغو، وفي الطريق إلى مسجد البلاليين الذي كنا نريد أن نلتقي فيه بالأخ صلاح الدين الذي يتولى قيادة السيارة بدلا من أخينا الطبيب، وقبل أن نصل إلى المسجد حصل مخالفة مرورية غير مقصودة من قائدنا فقد كانت الإشارة خضراء وهو بعيد فأسرع ليسبق الإشارة الحمراء، ولكنها سبقته هي فناداه ضابط المرور عن طريق مكبر الصوت فوقف.
ونزل القائد والضابط ولم يدر بينهما حوار كما يدور بين ضابط المرور والسائقين في بلدان الشرق، بل يسأل الضابط تعترف بأنك أخطأت؟ فإن اعترف فعليه أن يدفع الغرامة الجزائية وإن قال له لا لم يكلمه وإنما يعطيه قسيمة فيها نوع المخالفة وموعد المحاكمة ويذهب كل منهما في سبيله، وإذا جاء يوم المحاكمة حضر محامي السائق، وفي الغالب يكون محامي جمعية أو شركة ينتمي إليها السائق، وحضر محامي إدارة المرور مع السائق والضابط وهناك يبت في الأمر في صالح أحدهما وينتهي الأمر.
وأنا عندما أذكر مثل هذه الحادثة أريد من ورائها التنبيه على احترام الإنسان لأخيه الإنسان، ولا سيما إذا كانا مسلمين.
فإن جندي المرور في بعض البلدان في الشرق يشتم السائق ويهدده وسرعان ما يرافقه إذا خالف ليسلمه إلى المسئولين في المرور للتحقيق والتوقيف أو السجن، وما الداعي لهذا، وفي الإمكان أن يسجل المخالفة مع رقم السيارة ورقم الرخصة، والاستمارة وعندما تجدد الرخصة أو في أي وقت يحدد الجزاء المناسب ماليا كان أو سحب رخصة القيادة إذا كان الأمر يستدعي ذلك.
وليس في هذا الأمر صعوبة وقد وجدت أجهزة الخازن الكاشف (الكمبيوتر) الذي يمكن من جمع المعلومات عن كل شخص وإظهارها في وقتها المناسب دون تحيز.
أخذ قائدنا البطاقة ومضينا إلى المسجد وهناك تسلم الأخ صلاح الدين الشاب المرح السيارة وذهب إلى إدارة المرور للاستفسار عن إمكان حملنا ترخيصا بالقيادة على ضوء رخصنا المحلية.
في إدارة المرور:
وصلنا إلى إدارة المرور، وبدأ الأخ صلاح يسأل الموظفين الذين لا يجيبون بنعم أولا إلا إذا كانوا على علم بذلك، فترددوا في الأمر بين من يظن الإمكان ومن يظن عدمه، فاستدعوا امرأة تعتبر مستشارة قانونية فسألوها فأجابتهم: إن في إمكانهم ذلك لو كانت الرخصة مترجمة باللغة الإنجليزية مختوما عليها بختم جهة معتمدة.
نتائج:
وخرجنا من مقر الدورة بثلاث نتائج:
- النتيجة الأولى: أن أبواب الدعوة إلى الله مفتوحة على مصراعيها في بلاد الغرب بحرية كاملة قد لا توجد في كثير من بلدان المسلمين، فالكلية المستأجرة للدورة مسيحية، والمسئولون عنها مثقفون لا يخفى عليهم مفارقة الدين الإسلامي للدين المسيحي المحرف الذي يدينون به، ومع ذلك فقد أجروا مباني كليتهم بعقد رسمي من مسئولين رسميين لإقامة دورة لأئمة مساجد المسلمين وخطبائها في الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه النتيجة بديهية جدا في كل المواقف المشابهة ولا تحتاج إلى تدليل.
- النتيجة الثانية: أن هؤلاء الأئمة والخطباء الذين يعتبرون أحسن شيء في الباب، كما يقال لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه لأن المسئولين في الدورة عندما عرفوا ذلك بدؤا يعلمونهم مبادئ الإسلام الأولية وسورة الفاتحة وقصار السور التي ما كانوا يستطيعون نطق كلماتها، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الجهل المطبق بدين الإسلام.
والمؤسف أن رخصنا ملئ جانبها العربي وأهمل جانبها الإنجليزي والذي خرجنا به من هذه الإدارة أمران: الأول: اهتمام الموظفين بأداء الخدمة على وجه يرضي صاحب المعاملة، وإظهار الأسف له إذا لم يمكن ذلك نظاما، والثاني: حسن سير العمل والنظام الذي مهما كثر فيه المراجعون لا تجد فيه الصياح والمدافعة اللذين يوجدان في أغلب إداراتنا ومؤسساتنا، ولذلك تتسهل المعاملات وتنتهي مع كثرة المراجعين.
وبعد أن اعتذروا لنا وخرجنا قال الأخ صلاح الدين: (نوبروبلم) أي ليس في الأمر إشكال فأنا سأقود لكم السيارة حتى تغادروا شيكاغو فشكرناه على ذلك وعدنا مرة أخرى لتناول طعام الغذاء في بيت الأخ محمد نور وبعد ذلك عدنا إلى الفندق لنرتاح وعاد كل من الأخوين إلى منزله، ولقد ارتحنا فعلا في فندقنا الجديد إذ كان بمنزلة الصحة بعد المرض فالحمد لله رب العالمين.
دورة تدريب الأئمة:
وفي يوم الخميس 9/8/1398هـ صباحا كنا مع موعد مع الأخوين محمد نور وصلاح الدين لزيارة دورة تدريب الأئمة والخطباء التي قامت بها بعض المؤسسات في المملكة العربية السعودية، وعلى رأسها الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ومقرها يبعد سبعين ميلا تقريبا من مدينة شيكاغو حيث تم استئجار مباني كلية هناك بمرافقها.
وهناك التقينا بالإخوة د. محمد العروسي عميد شئون الطلبة بشطر جامعة الملك عبد العزيز في مكة، وهو رئيس الدورة والأخ الشيخ إسماعيل بن عتيق والدكتور علي جريشة أحد أعضاء هيئة التدريس بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، والمنتدب من قبل الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، والأخ الشيخ صهيب بن حسن زميلي في الدراسة ومبعوث الرئاسة العامة للدعوة في لندن والمشترك في الدورة وغيرهم من الأساتذة وبعد جلسة قصيرة مع المذكورين صلينا الظهر والعصر جمع تقديم واستأذنا للعودة إلى شيكاغو.
- النتيجة الثالثة: أن إقامة مثل هذه الدورة أنفع من بعث وعاظ ومرشدين يمرون بالمساجد والتجمعات لإلقاء محاضرات ثم العودة بتقارير مفصلة عما قاموا به وعن حالة الناس وتقديم الاقتراحات، إلا إذا كان الهدف منها جمع المعلومات للاستفادة منها في التخطيط للدعوة مستقبلا فذاك أمر مهم جدا.
أحب العمل إلى الله أدومه:
وأنفع من ذلك كله فتح مدارس في المدن التي يوجد بها تجمعات إسلامية لتعليم المسلمين أمور دينهم ضمن مناهج معدة لأهداف محددة، وعلى المؤسسات الإسلامية التي نصبت نفسها للدعوة إلى الله أن تفكر في هذا الأمر، ولست أغض من بعض الدعاة والمرشدين وإقامة دورات مماثلة لإقامة الحجة وأداء المستطاع ولكني أذكر ما هو أنفع وأدوم، وأحب لعمل الله أدومه وإن قل، عدنا إلى الفندق وعاد الأخوان إلى منزليهما.
صلاة الجمعة في مسجد السلام:
وفي صباح يوم الجمعة الموافق 10/8/1398هـ ذهبنا إلى مسجد السلام في شيكاغو الذي يجتمع فيه السوريون والفلسطنيون لأداء الصلوات جماعة، لا سيما يوم الجمعة ويومي الإجازة الرسمية: السبت والأحد، وهو عبارة عن قاعة واسعة نسبيا في الدور الثاني من العمارة يوجد في مؤخرتها ستارة يصلي وراءها النساء وعندما دخلنا المسجد وجدنا شيخا مصريا أزهريا يتحدث إلى الحاضرين أحاديث دينية قبل صلاة الجمعة فجلسنا نسمع حديثه وكان باللغة العربية.
وعندما حان وقت الصلاة أذن المؤذن وخطب أخونا الأزهر باللغة الإنجليزية وصلى بنا، وبعد الصلاة طلب منا أن نقدم أنفسنا للمصلين وأن نقدم لهم نصيحة فقام زميلي الدكتور بيلو وعرف الناس بنا وبمهمتنا ثم طلب الأخ الأزهري مني أن ألقي كلمة في الحاضرين، فقلت إذا أمكن أن يحصل اجتماع بعد المغرب هنا لإلقاء درس فقد يكون أفضل حتى لا يمل الناس إذ قد سمعوا درسا قبل الصلاة ثم خطبتي الجمعة والوقت وقت غداء وراحة فألح أخونا الأزهري على إلقاء نصيحة الآن فاستعنت بالله وألقيت كلمة مختصرة تضمنت تهنئة المصلين بحرصهم على أداء الواجبات والفرائض والحث على الاستمرار في ذلك والابتعاد عن المفاسد والمحرمات وأن الجنة حفت بالمكاره والنار حفت بالشهوات، وأن هذه المكاره وهذه الشهوات ماثلة في هذا البلد أكثر من بلادنا ولذلك فعلينا أن نضاعف جهودنا للتمسك بديننا في هذه الأجواء الخانقة بالنسبة للمسلم.
وبعد الفراغ من ذلك تعارفنا مع الإخوة الحاضرين وعرفنا الأخ الأزهري بنفسه واسمه أحمد زكي حماد وهو مبعوث من وزارة الأوقاف المصرية للعمل مع مسلمي شيكاغو.
وكان يعمل مع الشيخ محمد الغزالي في وزارة الأوقاف المصرية قبل ذلك، ولقد وجدنا في الأخ أحمد زكي الرجل المؤمن الصادق ذا العلم والخلق الفاضل والتحمس للدعوة إلى الله.
مضت له سنتان ودخل في السنة الثالثة في هذه المدينة وهو الذي ترجم حدثي إلى اللغة الإنجليزية للحاضرين ولم يكن قبل يتكلم اللغة الإنجليزية وإنما تعلمها في هذه المدة وهو يمارس الدعوة إلى الله واتضح لنا أن له نشاطا في الدعوة.
وعدنا الأخ أحمد زكي أن يزورنا في الفندق هو وبعض المسلمين الذين يعمل معهم فودعناه وودعنا الإخوة الآخرين وعدنا إلى الفندق.
مسجد:
وفي يوم السبت 10/8/98 زرنا مسجدا آخر يشرف عليه بعض المسلمين الباكستانيين المقيمين في شيكاغو، ويعتبر مأوى لجماعة التبليغ الذين يفدون إلى شيكاغو والتقينا ببعضهم وهم على وشك السفر إلى جهة أخرى، وتوجد في المسجد مكتبة صغيرة للمطالعة وفيها كتب للبيع باللغة العربية والإنجليزية والأردية ولم نجد المسئولين عن المسجد فصلينا مع الحاضرين الظهر وحصلت مناقشات خفيفة مع بعضهم ثم عدنا إلى الفندق.
جماعة دار الأرقم:
وفي المساء زارنا الأخ أحمد زكي مع بعض المسلمين السود الذين فارقوا جماعة ولس الدين وتجمعوا في مقر خاص بهم سموه دار الأرقم، وهم ينشدون الحق ويريدون تطبيق الكتاب والسنة وينتقدون أفكار اليجا محمد وأفكار ولده ولس الدين التي يرون أنها تخالف تعاليم الإسلام، وكانت أسئلتهم تدور حول موضوع الجماعات الإسلامية والموقف الذي يجب على المؤمن تجاهها.
وأجيبوا بأن الميزان هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فأي جماعة تهتدي بهما وجبت موالاتها وأي جماعة خالفتهما فليس لها علينا إلا أن ندعو لها بالتوفيق والهداية وأن ندعوها إلى تصحيح أفكارها على ضوء ذلك.
كما حثوا على طلب العلم والجد فيه لا سيما تعلم اللغة العربية التي تعتبر المفتاح الأساسي لفهم الإسلام من مصدريه العظيمين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وبين لهم بعض مبادئ الإسلام الأساسية، كالشهادتين وما تضمنتاه من استسلام لله واتباع لنبيه صلى الله عليه وسلم.
عمل مثمر:
وظهر لنا من الحديث معهم أثر تعليم الأخ محمد زكي لهم فقد كان بعضهم يحفظ بعض أجزاء القرآن الكريم مع إجادة تلاوته وطلبوا منا أن نبلغ المسئولين في الجامعة الإسلامية رجاءهم تخصيص ثلاث منح أو أربع فوعدناهم بذلك وقد بلغنا فعلا.
كما أبدى الأخ أحمد زكي حاجته إلى إمداده ببعض المراجع الإسلامية في علوم التفسير والحديث والفقه واللغة للرجوع إليها عند الحاجة لعدم وجود مكتبة عامة في شيكاغو بل لا توجد مكتبات خاصة مزودة بمثل هذه المراجع الضرورية، وهكذا أبدى غيره من العلماء الذين وجدناهم رغبتهم في وجود مراجع يستفيدون منها.
وعلى الجامعات السعودية والرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ورابطة العالم الإسلامي ووزارات الأوقاف والشئون الإسلامية في العالم الإسلامي أن تمد هؤلاء الدعاة بالمراجع المفيدة لا سيما وزارة الأوقاف الكويتية والأزهر وغيرها، فالذي لا يغزو بنفسه عليه أن يجهز الغازين في سبيل الله.
أعلى عمارة في العالم:
وفي هذا اليوم كنا صعدنا إلى آخر دور يصل إليه الزوار في أعلى عمارة في العالم في هذه المدينة والعمارة الثانية كانت في نيويورك كما مضى أشرفنا على المدينة كلها ورأينا بجانب العمارة المذكورة مبنى كبيرا تمتلكه أسرة روزفليت (ولم أدخل هذا المبنى لأقارن بينه وبين فندق روزفليت إلا أن مظهره يوحي بالبون الشاسع بينهما) وذكروا أن الأسرة المذكورة شيدت هذا المبنى من أرباح الخمر الذي كان في ذلك الوقت ممنوعا قانونيا وكانت الأسرة تتاجر به بطريق غير مشروع فاكتسبت أموالا كثيرة بسبب ذلك وشيدت هذا المبنى ـ ولعلها اشترت بها المجد الرئاسي في الولايات المتحدة الأمريكية.
الحبر اليهودي في مسجد البلاليين:
وفي يوم الأحد 11/8/1398هـ لم يتمكن الأخ صلاح الدين من المجيء إلينا لمشاركته في اجتماع البلاليين في مسجدهم الذي حضره أحد أحبار اليهود وألقى فيهم محاضرة ضمنها وحدة الأديان الثلاثة ودعا أهلها إلى الإخاء والتعاون، ونبذ العداوة والشحناء (ولعله بذلك يرد على كلمتي التي ألقيتها في البلاليين وكان مما تضمنته نفي صحة أي دين سوى دين الإسلام) .
رحلة نهرية:
وجاءنا الأخ محمد نور مساء لنقوم بجولة في بحيرة شيكاغو على أحد المراكب النهرية السياحية فذهبنا إلى مكتب إحدى الشركات التي تتولى القيام بذلك.
قارب صغير ترتفع له جميع الجسور:
وبينما كنا ننتظر دورنا سمعنا صفارات إنذار ورأينا الجسر القريب منا الذي تعبر عليه السيارات والمشاة يرتفع فأخذنا ننظر يمينا وشمالا في النهر حيث كنا نتوقع أن تمر سفينة كبيرة لا تتمكن من العبور إلا برفع الجسر كما رأينا بقية الجسور ترتفع واحدا بعد الآخر ولم نر ما كنا نتوقع أن نراه فسألنا: لماذا رفعت هذه الجسور إلى قارب صغير جدا كان يمر بجانبنا قالوا لأجل هذا القارب فدهشنا لذلك: يتوقف سير الناس وسير السيارات وترتفع هذه الجسور كلها من أجل هذا القارب؟ وكان السبب أن عمود شراعه (وهو كالعصا الكبيرة) طويل بالنسبة للجسور وليس في القارب إلا سائقه؟.
قالوا: نعم إن هذا الرجال أحد أبناء الشعب يدفع ضريبة كغيره، وقاربه يحمل رخصة قانونية فمن حقه أن يعبر وأن يقف الناس والسيارات وترفع الجسور من أجل عموده.
قلت في نفسي: لو كان في بعض بلدان الشرق لألزموه بقطع المسافة الزائدة في عمود شراعه التي تسببت في كل هذه المشاكل، أو لأهمل وضويق حتى يفعل ذلك بنفسه، وجاء دورنا فصعدنا على المركب الذي أخذ قائده يدور به في الأنهر المتفرعة عن بحيرة شيكاغو، وفي أطراف البحيرة نفسها، ورأينا ناسا كثيرين يقفون على الميناء وسفنا كبيرة نسبيا واقفة كذلك، ذكر أنها ستبحر بهؤلاء الناس إلى المحيط الأطلسي ومن ثم إلى الهند، وبعض تلك البواخر هندية.
نظام وفوضى:
وفي مركبنا رأينا مالا نرضاه من بعض الحيوانات البشرية التي كنا رأيناها عند صعودنا المركب ملنزمة بنظام الطابور وكأنها مؤدبة، لقد رأيناها وهي في أحط درجات الفوضى وهكذا طبيعة أهل الغرب ترى مظاهر منظمة مرتبة وترى معاملاتهم القانونية سريعة ومهذبة ولكنك في نفس الوقت تراهم يتصرفون في العلاقات بين الجنسين تصرف المجانين والحيوانات بدون أيما خجل واحترام لأنفسهم أو لغيرهم.
وبعد ساعة من إقلاع المركب بنا عدنا إلى المكان الذي انطلقنا منه وكان ذلك في تمام الساعة السادسة مساء.
عدنا إلى الفندق مشيا على الأقدام، والمسافة كانت طويلة لنرى الأسواق، لأننا لم نكن نتمكن من التجول فيها لضيق الوقت، وكان يوم عطلة، وفي واجهة بعض الدكاكين رأى الأخ محمد نور إعلانا دينيا فقرأه وإذا الرف المجاور مملوء بأعداد من مجلة نصرانية ذات ورق صقيل ناعم وطباعة أنيقة بحروف واضحة توزع مجانا وفيها الدعوة إلى النصرانية وبيان محاسنها، وأخبار عالمية عن الدين المسيحي وغير ذلك، وكان الأخ محمد نور قد أخذ أعدادا سابقة فأخذ أيضا من الأعداد المذكورة، وذكر أنها تتحدث عن الإسلام ومزاحمة المسيحية وتدعو إلى الجد والحذر، ولكن عامة الناس غير القسس والرهبان والمهتمين بالأديان مشغولون بالدولار ومستلزماته، ولا يعد الدين المسيحي يستحوذ على قلوبهم وإنما المتحمس له يكتفي بالانتساب إليه وبحضور الكنيسة دقائق يوم الأحد.
وسيأتي حديث عن إخفاق بعض الكنائس إن شاء الله.
إلى لوس أنجلس
من شيكاغو إلى لوس أنجلس:
وفي يوم الاثنين الموافق 12/8/1398 هـ غادرنا مدينة شيكاغو إلى المطار، وكان الأخ أحمد زكي هو الذي جاء إلينا في الفندق وأوصلنا إلى المطار.
وكالعادة وجدنا في باب مبنى المطار الموظف المختص الذي أخذ حقائبنا دون أن نتعب في إيصالها إلى داخل القاعة، وبعد الإنهاء الخاص بالتذاكر ودعنا الأخ أحمد زكي ودخلنا إلى الطائرة فأخذنا مقاعدنا، وكان الإقلاع في الساعة الواحدة والدقيقة العاشرة بعد الظهر وسط سحاب كثيف ورذاذ من الماء.
عمل دؤب لاستصلاح الأراضي البور:
وبعد أن قطعنا مسافة صحا الجو وأخذت أنظر كعادتي إلى الأرض فرأيتها خضراء كما رأيتها كذلك من أنديانا إلى ديترويت، ثم من ديترويت إلى شيكاغو وبها أنهار جارية، إلا أنها في الجهة الغربية بدأت تظهر أرض جرداء يتخللها قطع بدأ استصلاحها، ورأيت آلات زراعية في كثير من الأماكن وبقربها قطع من الأراضي خضراء تحيط بها أراضي شاسعة غبراء، والظاهر أن الأمركيين عازمون على جعل بلادهم كلها مزرعة حتى تلك الأماكن القاحلة.
وكنت انظر إلى هذا الجد في العمل وأتمنى أن أرى في بلاد المسلمين التي بدأ العمل في قطع أشجار بساتيننا القديمة فضلا عن أراضيها الواسعة الصالحة للزراعة التي أهملت وكانت لو استطاعت ستدر أرزاقا على أهل البلاد وستصدر الزائد للبلاد المجاورة، مع وفرة المياه وخصوبة التربة في كثير منها، كالسودان ومصر وغيرها.
وقلت في نفسي: الإمكانيات المادية متوفرة في بعض بلداننا كالمملكة العربية السعودية ودول الخليج والإمكانيات البشرية متوفرة في بعضها كمصر، والأراضي الخصبة كالمياه ذات المياه المتدفقة متوفرة كذلك، كما في مصر والسودان والعراق وغيره، فلماذا لا يحصل تنسيق بين هذه البلدان لجعل أراضيها زراعية تكفي أهلها - على الأقل - وتغنيهم عن الاستيراد؟
وهل ترغبون في لحم الكلاب:
وعندما مرت المضيفة المختصة على الركاب لمعرفة ما يرغبون من الطعام أخذ زميلي يتفاهم معها وبين لها الأطعمة التي لا نرغبها ومنها: لحم الخنزير فقالت له: وهل ترغبون لحم الكلاب فرد عليها مستنكرا مبينا أنه لا فرق بين كلب وخنزير عندنا لأننا مسلمون فقلت للزميل: لعلها تمزح فقال بل هي جادة وهذه بطاقة الطعام مسجل عليها فيها من ضمن اللحوم لحم الكلاب.
وبعد أخذ ورد حصلنا على مطلوبنا، وكان السبب في ذلك أنه لم يتم التنبيه على الشركة في وقت مبكر بالنسبة للطعام.
وهبطت بنا الطائرة في مطار مدينة لوس أنجلس في تمام الساعة الخامسة والدقيقة العاشرة بتوقيت شيكاغو، أي أن مدة الطيران كانت أربع ساعات.
ذكر المدينة هز قلوب المسلمين رجالا ونساء:
وعند خروجنا من ممر العبور الذي يصل بين الطائرة وقاعة المطار مباشرة قابلنا الأخ الشيخ تاج الدين شعيب الغاني الذي تخرج في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من كلية الدعوة وأصول الدين قبل ثلاث سنوات، وهو مبعوث من قبل الرئاسة العامة لإدارات البحوث الإسلامية والإفتاء والدعوة والإرشاد وكان من الطلبة الذين تلقوا تعليمهم على يدي في المعهد المتوسط والثانوي في الجامعة في العقيدة والتفسير والفقه، كما كان من طلبة القسم الداخلي الذين أشرفت عليهم عندما كنت مسئولا عن شئون الطلاب في الجامعة، وهو من الطلبة النشطين في دراستهم في الجامعة.
وكان في الأصل يعمل مع البلاليين في مركزهم الرئيسي في شيكاغو ولكن زعيمهم طلب منه أن ينتقل إلى مركزهم في لوس أنجلس ففعل وكان معه في استقبالنا بعض أعضاء البلاليين ومعهم نساء وأطفال اشتاقوا للقائنا عندما علموا أننا من المدينة المنورة وللمدينة في نفوس المسلمين شأن كبير وعواطفهم نحوها ملتهبة فعلى أهل المدينة أن يؤدوا واجبهم في استغلال عواطفهم للسير بها إلى الله قدوة وتعليما ودعوة.
الفندق في هوليود ومفاتيحه أرقام سرية:
وكان الأخ تاج الدين قد حجز لنا في فندق في أنظف منطقة وأقذرها كذلك: أنظف منطقة من حيث الشوارع والهدوء وغيرها وأقذر منطقة، لأنها في هوليود الشهيرة التي تضم الممثلين والممثلات الذين يصدرون من هنا أسوأ التمثيليات وأقذرها ولقد رأينا ذلك في التلفزيون وفي الصور المعلنة في الشوارع عن الأفلام السينمائية التي تعرض.
وصلنا إلى الفندق وبعد الإجراءات اللازمة وهي سهلة وسريعة طلب منا مدير الفندق أن نختار رقما سريا نفتح به باب حجرتنا عوضا عن مفاتيح اليد العادية فاخترت رقما وسجله الخازن الآلي (كمبيوتر) وعندما صعدنا إلى الحجرة وجدنا بها أرقاما سرية شبيهة بأرقام الحقائب اليدوية ففتحنا الباب بالرقم السري المتفق عليه فانفتح.
وذهب الأخ تاج الدين إلى منزله ليعود علينا صباح غد الثلاثاء ومعه السيارة التي تم استئجارها لنا من بعض الشركات.
فن وضجة:
وفي يوم الثلاثاء 13/8/1398هـ جاء إلينا الأخ تاج الدين مبكرا للقيام بجولة في المدينة، وكنا سمعنا ضجة حول طالب من بعض البلدان الإسلامية ذوي الثراء اشترى مقصورة كبيرة في أغنى أحياء المدينة بثلاثة ملايين دولار، وأن على جدار حائط المقصورة تماثيل ذكور وإناث، وأن الطالب المذكور أبرم عقدا مع بعض الفنيين بالقيام بتجميل التماثيل المذكورة بالدهون وأسوأ ما عمله هو تجسيم أعضاء الذكورة والأنوثة وأنه عمل معه مقابلة في التلفزيون وسئل عن ذلك فقال إن ذلك فن إسلامي، وفي الإسلام فن كغيره وأن المسيحيين استنكروا ذلك، وأخذ اليهود ينشرون ذلك في جميع أنحاء أجهزة الإعلام التي يسيطرون عليها.
سألنا الأخ تاج الدين شعيب عن ذلك فقال: نعم ذلك حصل وإذا شئتم أن تروا بأنفسكم العمارة فلنذهب الآن فذهبنا ونزلنا عند المقصورة فرأينا لوحة على بابها الرئيسي كتب عليها اسم المشتري باللغة العربية وكتبت الآية الكريمة: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} وأخذنا نتجول حول الحائط الخارجي فوجدت بعض الناس وهم يصورون العمارة والتماثيل، والتماثيل نصبت على جدار داخلي غير الجدار الخارجي وهي كما ذكر، ولقد أفزعنا ذلك المنظر الذي جعل الناس يفدون ليروه ويصوروه وينشروه وأخذت أجهزة الإعلام كذلك تكرره على أسماع الناس وأبصارهم وتعلق عليه، مما جعل المسلمين ولا سيما العرب منهم يطأطئون رؤوسهم خجلا مما حصل، وعندنا رقم المقصورة واسم صاحبها ولو كان الأمر مستورا لما أشرت إليه أصلا ولكنه معروف مشهور ويعتبر حديث الناس، ومعروف أن التماثيل محرمة في الدين الإسلامي الحنيف، فكيف إذا كانت هذه التماثيل تحمل مناظر خلقية سيئة.
أليس كان الأجدر بطلبة الشعوب الإسلامية أن يكونوا قدوة للناس يدعونهم إلى الإسلام بسلوكهم بدلا من تنفيرهم بالسلوك السيء، أليس الأجدر بهؤلاء أن ينفقوا أموالهم الفائضة على بعض المراكز والمدارس الإسلامية التي تضطر إلى الإعانات المالية لنشر الإسلام فلا تجدها؟.
ألا فيلتق الله كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر وليربأ بنفسه عن سلوك ينفر الناس من الإسلام، وليراقب المسئولون عن الشعوب الإسلامية أبناء شعوبهم في الداخل والخارج فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
وعمل الفرد في بلاد الغرب لا ينسب إليه وحده، ولا إلى شعبه وحده ولا إلى جنسه وحده، وإنما ينسب أول ما ينسب إلى دينه، وكم كان فرح اليهود وسرورهم بهذا الأمر وكم عملوا له من تمثيليات ولم يبق فرد يقرأ ويسمع الإذاعة أو يشاهد التلفزيون إلا عرف ذلك.
ولقد شكا الأخ تاج الدين من تأخر الرواتب من جهة ومن قلة الراتب بالنسبة للحالة الاقتصادية في البلاد من جهة أخرى.
فالراتب ثمانمائة دولار منه أجرة المنزل وتكاليف الكهرباء والهاتف والنقل والملابس، وهناك لا بد من التأمين الصحي وإلا فإن الفرد لا يقدر على تحمل مصاريف الاستشفاء إذا أصيب بمرض، وإني لأهيب بالمؤسسات الإسلامية المعنية بالدعوة أن تنظر في هذا الأمر وأن تراعي الحالة المعيشية في بلاد الغرب وفي اليابان أيضا وتحدد للداعية إلى الله ماهية تكفيه ولا تجعله يظهر أمام من يدعوهم محتاجا إليهم فإن ذلك يقلل من شأنه عندهم.
على الجانب الشرقي للمحيط الهادي:
وبعد جولة في المدينة عدنا إلى الفندق وعاد الأخ تاج الدين إلى منزله وفي صباح يوم الأربعاء 14/8/1398 هـ جاء الأخ تاج الدين مبكرا حسب طلبنا إذ رغبنا أن نذهب لنقف على ضفة المحيط الهادي الشرقية في غرب مدينة لوس أنجلس ولهذا المحيط في نفسي اشتياق لأراه من الضفتين الشرقية في غرب أمريكا والغربية في شرق اليابان ولأحلق فوقه بالطائرة أو أخوضه بالباخرة.
ذهبنا إلى المحيط الهادي ووقفنا على جانبه الشرقي ورأينا أمواجه الهادرة التي تثب كل واحدة على أختها بتتابع عجيب وكان اشتياقي لهذا المحيط وإعجابي به قديما منذ الصغر عندما كنت طالبا في معهد سامطة العلمي قبل ما يزيد عن ثلاث وعشرين سنة في دروس الجغرافيا التي لم تكفني الخريطة العالمية المسطحة، بل ذهبت إلى أستاذ الجغرافيا في منزله ليطلعني على صورة الكرة الأرضية التي لم يكن حينها يجرؤ على إحضارها في الفصل خشية من بعض المتشددين من الطلبة الذين لم يكونوا يرضون أن توصف الأرض بأنها كروية.
وعندما رأيت الكرة وتأملت في موقع المحيط الهادي منها قلت للأستاذ إن المحيط يقع في أسفل الأرض وكيف يبقى هكذا دون أن ينكفئ؟ فضحك الأستاذ وقال: لو ذهبت إلى المحيط الهادي لرأيته فوق سطح الأرض وظننت أن موقعنا نحن في أسفل الأرض، فالعلو والسفل أمر نسبي، وفهمت هذا المعنى بعد ذلك من الرسالة العرشية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
إذن المحيط الهادي ذكريات خيالية قديمة في نفسي، وأراد الله أن يحقق ذلك فعلا فله الحمد والمنة، وسيأتي الحوار الذي جرى بيني وبينه شعرا.
حقوق الإنسان والمناظر الثلاثة
وبعد تأمل طويل في أمواج المحيط وفي سعته التي نراها وتخيل لسعته الحقيقية رأينا ثلاثة مناظر كل منظر منها جعلني أتساءل عن حقوق الإنسان التي ينادي بها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ومجلس الأمن وكثير من دول العالم، وأتذكر كيف طبقها الولاة المسلمون فعلا في جميع المجالات.
المنظر الأول:
نظرت عن يساري فوجدت شخصين نائمين تحت مظلة مراقبة على جانب البحر يفترشان الرمل وثيابهما ممزقة متسخة وحالتهما سيئة فقلت للأخوين الزميل وتاج الدين شعيب: لنبعد عن هذين النائمين خشية إزعاجهما من جهة وخشية أن يكونا سكرانين أو حراميين فيعتديان علينا من جهة أخرى فابتعدنا عنهما.
المنظر الثاني:
نظرنا إلى اليمين فرأينا شيخا كبيرا وامرأة كبيرة أيضا لا يقل عمرهما عن سبعين سنة وهما يتحسسان بجانب البحر في الأرض كل منهما في يده عصا وفي أسفلها آلة وفي أذن كل منهما سماعة مرتبطة بالآلة وهما جادان في البحث يتحسس أحدهما ثم يأخذ يبحث في الأرض فيأخذ شيئا ويضعه في جيبه، وكان الرجل أنشط من المرأة فقلت: ماذا يفعل هذان؟ فقال زميلي الدكتور: لا ندري ولكن يمكن أن نقترب من الرجل ونسأله فاقترب الدكتور والأخ تاج الدين منه وسألاه عماذا يفعل فوقف وأجابهما بهدوء إننا نبحث عن النقود المعدنية التي يرميها البحر ونذهب بها إلى البنك لنأخذ قيمتها ونقتات بها ولنا مدة طويلة ونحن نفعل ذلك واتضح أن في أسفل العصا آلة تشير إلى وجود الحديد.
المنظر الثالث:
رأينا شابا أسودا لا يزيد عمره عن عشرين سنة وهو يحمل فراشه تحت إبطه ويمر بأوعية القمامة التي يرمي الناس فيها فضلات أكلهم أو علب شرابهم وكان يضع فراشه عند كل وعاء ويدخل يده ويحرك ما في داخل الوعاء ويأخذ منه أشياء ويضعها في كيس معه. ورأيناه يرفع يده أيضا إلى فيه والظاهر أنه كان يضع بعض الفضلات في كيسه وبعضها في فمه يفطر بها.
والظاهر أنه يفعل ذلك يوميا، ينام على جانب المحيط ليلا وإذا أصبح ذهب يلتمس رزقه من القمامة، لأن سيره كان عاديا جدا ووقوفه عند كل وعاء عادي كذلك وكيفية تفتيشه في القمامة.
وقصة الزوجين العجوزين بالذات ذكرتني بقصة اليهودي العجوز الذي رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتكفف لينفق على نفسه فأمر بإجراء رزقه وقال: أخذنا منه الجزية في حال قوته وتركناه في حال ضعفه فلو كانت حقوق الإنسان المنادى بها في تلك البلاد مطبقة لأمن رزقهما إما بيت مال الدولة دون مقابل عمل لضعفهما وإما بإيجاد عمل خفيف يناسب شيخوختهما.
وذلك الشاب الزنجي القادر على العمل دون شك كان يجب أن يعنى به في بعض مراكز التدريب المهني حتى يؤهل لعمل ويوظف في العمل المناسب، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله وهو قوي، إذ أمره أن يحتطب ويبيع ففعل واكتفى عن المسألة.
ولكن الذي يرى الزنوج في حي هارلم وفي بعض المدن الأمريكية لا يستغرب ذلك، بل يعده أمرا طبيعيا عند قوم ربيت نفوسهم على الأنانية الرأسمالية الجشعة والأثرة الفردية المسماة بالحرية التي حطمت الصلات الإنسانية العادلة ثم أخذنا جولة طويلة في المدينة.
في معهد الدراسات الإسلامية:
عدنا بعدها إلى زيارة معهد الدراسات الإسلامية الذي تم إنشاؤه عام 1976م وهو يتكون الآن من مدرستين: مدرسة قرطبة وهي تعنى بتعليم أولاد المسلمين هناك المواد الإسلامية، وبجانبها المواد التي تعتبر رسمية في المدارس الأخرى، ليكون الطالب مؤهلا لدخول الجامعات الأمريكية.
وهي تشمل الروضة والابتدائي والإعدادي.
ثم مركز تعليم اللغة الإنجليزية الذي يعنى بتعليم الطالبات المسلمات الوافدات اللغة الإنجليزية مع الحفاظ على سلوكهن الإسلامي، وتدير المركز امرأة مسلمة، كما أن المعلمات مسلمات أيضا.
ولمدرسة قرطبة مبنى مستقل، وللمركز مبنى مستقل كذلك وهما ضيقان لا يتسعان ولكنهم مضطرون للبقاء فيهما لعدم الإمكانات المادية، ويظهر من التعريف الرسمي بالمعهد أن المركز ذو شعبتين شعبة للإناث وشعبة للذكور.
ويشارك بالتدريس بمدرسة قرطبة بعض الطلبة المسلمين حيث يلقون بعض الدروس في أوقات فراغهم.
وقد اجتمعنا بأعضاء المعهد وعلى رأسهم رئيس مجلس الإدارة الأستاذ سعد الدين الغزاوي وهو عراقي الجنسية وهو شاب صالح يتوقد حماسا للدعوة حريص على هداية الناس.
وقد صلينا في المدرسة الظهر مع المدرسين والطلبة وبعد ذلك شرح لنا حال المعهد والصعوبات التي تواجهه فهو قائم على تبرعات المحسنين من خارج أمريكا ومن داخلها ويسهم في المساعدة اتحاد الطلبة المسلمين.
وأهم ما يعترضهم عدم اتساع المباني للطلبة والمكاتب الإدارية لذلك حاولوا شراء مبنى كبير يتسع للمشروعات التي ينوون إقامتها وهي حسب المخطط: إعدادي، ابتدائي، مدارس صيفية رياض أطفال معهد اللغة الإنجليزية، الكلية الإسلامية وهي ذات شعبتين: الدراسات الإسلامية، الدراسات العربية.
وقد وجد مبنى كبير جدا وأصله كنيسة كسدت بضاعتها فاضطر المسئولون عنها إلى بيعها وإنها لفرصة في وسط المدينة يرفع فيها ذكر الله الحق العليم والأذان، وقيمة المبنى زهيدة جدا إنها ثلاثة ملايين دولار فقط وهم الآن في مساومة مع أصحاب المبنى وقد وعدوا ببعض المساعدات ولكن إلى الآن لم يتلقوا شيئا يذكر.
ولقد سَرَّنا ما يقومون به من تعليم أبناء المسلمين علما وعملا في جو كفر مظلم ومثل هذه المشاريع هي الجديرة بالمساعدة لأنها ثابتة ونفعها واضح وقد وعدوا بمساعدة من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وغيرها وسمحت لهم وزارة الداخلية في المملكة بجمع تبرعات. ونرى أن المعهد من المؤسسات التي تتحقق بها بعض أهداف الجامعة الإسلامية ومثيلاتها فمساعدة الجامعة له أمر مطلوب وتركهم بدون مساعدة قد يقضي على نشاطهم وهم على ضآلة إمكاناتهم جادون في التعليم بكل الوسائل عن طريق التدريس في الفصل والكتاب المبسط والشريط المسجل وغير ذلك.
وقد أرفق بالتقرير المقدم إلى الجامعة الإسلامية بعض الوثائق المتعلقة بهذا المعهد ومشاريعه [2] .
وعلى من يريد أن يضع ماله في سبيل الله أن يسهم في مساعدة هذا المعهد وأمثاله، وعلى من يريد أن يسهم في رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله بدلا من ألوهية المسيح والتثليث الإشراكي أن يسهم في شراء ذلك المبنى ليتحول إلى بيت من بيوت الله في تلك البلاد الكافرة.
وقد زرنا المركز الإسلامي في لوس أنجلس، ووجدنا بعض المسئولين في المركز من الجزائر ومصر وغيرها، وهو يتكون من مسجد ومكتبة، ومكاتب إدارية، فاستقبلنا أحد موظفي المكتب وهو جزائري، وبمجرد وصولنا وضع يديه على جانبي رأسه يشكو بشدة من شدة التعب الذي يعانيه من خدمة الإسلام والمسلمين وفصل تلك الخدمة ببعض الأمور، وأهمها دفن الموتى المسلمين ومتابعة إجراءاتهم، وكثرة اتصال المسلمين به للسؤال عن مواعيد الصلاة، وتعيين أول شهر رمضان وكل من عيد الفطر وعيد الأضحى، وليلة النصف من شعبان والسابع والعشرين من شهر رجب واتضح لنا أن ذلك لتهويل العمل الذي يقوم به وإشعار الزائرين من الشرق أن المركز جاد في عمله للإسلام لينقل ذلك إلى الجهات المسؤولة من المؤسسات الإسلامية، أو حكام الشعوب الإسلامية للحصول على المساعدات المالية.
وبعد الخروج من المركز المذكور بين لنا بعض الإخوة الذين نثق فيهم أن أعضاء هذا المركز يعملون مع المنظمة الماسونية علناً دون خجل وأنه في الاحتفالات التي تقام في مسجد المركز يختلط الشبان بالشابات وهن شبه عرايا، وأن المسجد المذكور يعتبر من أماكن اللقاءات السيئة، كما ذكروا أن رئيس المركز السابق كان يفتي علنا بأنه ما دام الشاب بعيدا عن أهله ووطنه ولا يقدر على الزواج فلا ضير عليه في الإسلام أن يصادق شابة في بلاد الغربة.
لذلك حملنا الإخوة المسئولية في التحذير من هذا المركز وعدم مد يد العون له لأن إعانته تعتبر إعانة لقوم يهدمون الإسلام باسم الإسلام.
في القبة السماوية:
وفي يوم الخميس 15/8/1398هـ زرنا القبة السماوية التي تحتوي على أفلام عن الكواكب السماوية والأرض، وعلى مكبرات النظر المباشر إلى ما يمكن رؤيته بوضوح من الكواكب.
وكان الفيلم الذي عرض في تلك الليلة عن نظريات بعض كتاب الغرب عن الحياة، مثل نظرية دارون وغيره، كما احتوى على عرض لبعض الصور للنجوم والكواكب، وكان الشارح يعلق على كل نظرية وأنها مجرد تكهنات قابلة للبحث، هكذا ترجم لي الأخ تاج الدين شعيب.
وكان تعليقي على الموضع بما يلي:
نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى من يشرح لنا معنى الحياة ولا كيفية نشأتها فقد وصلنا إليها بسهولة ومن مصدر لا يوجد غيره مطلقا في هذا الباب.
فقد علمنا أن الله هو الخالق سبحانه فهو خالق كل شيء ولا خالق سواه وعلمنا أنه إذا أراد شيئا يقول له كن فيكون وأنه خلق أبانا آدم من تراب، وخلق منه زوجه حواء وبث منهما رجالا كثيرا ونساء والكون كله خلقه وملكه خلقه بإحكام لا خلل فيه.
ومصدرنا في ذلك هو الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بلغناه رسل الله عليهم الصلاة والسلام من نوح إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ولا زال غيرنا ممن لا يؤمن بالوحي يتخبطون في ظلام دامس كلما أظهروا للناس نظرية أبطلوها بنظرية تالية هذا من جهة ومن جهة أخرى وقد أعجبني موقف المذيع الذي كان يشرح للناس تلك النظريات ويذكر أنها ليست نهائية وإنما قابلة للبحث وهو لا يحكي وجهة نظره، وإنما يحكي وجهة نظر علماء الغرب في هذه الأيام فهم يذكرون نظرياتهم ولكنهم يتواضعون – نسبيا - فلا يجزمون بأنها علمية نهائية غير قابلة للبحث.
ومع ذلك فإن أذيال أولئك الغربيين من أنصاف متعلمينا وأرباعهم يعلمون أبناء المسلمين في مدارسنا أن تلك النظريات علمية غير قابلة للبحث، ولا زالت نظرية دارون تسود بها صفحات بعض الكتب المقررة في بعض البلدان الإسلامية إلى الآن.
وهذا يذكرني بقول الشاعر الصوفي:
وكنت امرأ من جند إبليس فارتمى
بي الدهر حتى صار إبليس من جندي
فقد تحمس أرباع متعلمينا لنظريات أسيادهم أكثر من أولئك السادة.
في مسجد البلاليين:
وبعد الانتهاء من مشاهدة الفيلم المذكور ذهبنا إلى مسجد البلاليين الذي يعمل به الأخ تاج الدين شعيب، وكنا على موعد معهم لإلقاء حديث فيهم ثم الإجابة على أسئلتهم.
وكان اجتماعهم قبل صلاة المغرب بساعة تقريبا تم فيه تعريف تاج الدين بنا للحاضرين. أعقب ذلك تعريف الدكتور محمد بيلو الحاضرين بمهمتنا ومشاعرنا نحو المسلمين في البلدان التي زرت ثم إلقاء الحديث الرئيسي الذي تضمن شرح معنى الإسلام العام وأنه دين الأنبياء والرسل من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبيان معنى الخلافة التي خلق الله البشر من أجلها، وكيف تم تحقيقها في الأرض في تاريخ البشرية الطويل.
تم إيضاح معنى الإسلام بمعناه الخاص وهو دين الله الأخير بتفاصيله التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم في آخر كتاب نزل مهيمنا على كل ما عداه، وانقسام الناس حول هذا الدين وواجب الأمة الإسلامية التي أخرجها الله للناس لتهديهم إلى صراط الله مستقيم، وأن فهم هذا الدين لا يكون إلا عن طريق العلم به من كتاب الله وسنة رسوله وعلى أيدي علماء متخصصين فيه بذلوا جهدهم في تحصيله، وليس كل وليس كل من ادعى فهم هذا الدين بصادق في دعواه ما لم يأخذه عن طريق السلف الصالح.
وأن أقرب الناس إلى فهمه هم الذين أخذوه كذلك باللغة العربية التي هي المفتاح الأساسي لفهم الوحيين العربيين.
وأن الاكتفاء بنتف الترجمة ليس هو السبيل للفهم الصحيح للإسلام، وحان موعد صلاة المغرب فقطع الحديث وأقيمت الصلاة، كما شرح لهم بعد ذلك أن الناس سواسية كلهم لآدم لا فضل لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى: إن أكرمكم عند الله اتقاكم، وضربت لهم أمثلة موضحة لذلك بأن الإنسان لم يختر أباه ولا أمه ولم يختر الأرض التي ولد عليها، ولا اللون الذي خلق عليه ولذلك فلا فضل له في شيء من ذلك حتى يفتخر به على سواه من بني البشر، وإنما اختار العقيدة التي آمن بها والسلوك الذي صار عليه فهو الذي يجدر به أن يعتز به لا بسواه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
وغير ذلك من المعاني التي اقتضاها المقام ويسرها الله سبحانه: ومنها الحث على موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين والحذر من كيد أهل الكتاب وطوائف الكفر كالقاديانية وغيرها ثم فتح باب الأسئلة الذي استغرق وقتا أخرت من أجل صلاة العشاء عن الوقت المعتاد وكان الأخ تاج الدين شعيب هو الذي يترجم هذه الأحاديث جزاه الله خيرا.
أذن بعد ذلك للصلاة وأقيمت صلاة العشاء وبعد الصلاة ودعنا الحاضرون بعاطفة أخوية وأظهروا تلهفهم لسماع مثل هذه الأحاديث ومحبة زيارة علماء المسلمين لهم.
نحن من المسجد وهم من المسرح:
ذهبنا بعد ذلك نلتمس بعض المطاعم لتناول طعام العشاء وكان الوقت متأخرا فوجدنا أكثر المطاعم التي يعرفها الأخ تاج الدين مقفلة، ولكن هناك مطاعم تفتح أبوابها للناس ليلا ونهارا فذهبنا إلى أحدها وطلب منا الأخ تاج الدين أن نبقى في السيارة ريثما يحجز لنا مقاعد تناسبنا لأن دخول هذا المطعم وأمثاله بالترتيب لعدم اتساعه لكل الناس لكثرتهم.
وبعد أن حجز لنا مقاعدنا في مكان يحظر فيه التدخين دخلنا هذا المطعم ورأينا كثرة الناس في هذا الوقت المتأخر من الليل فسألت الأخ تاج الدين: أهؤلاء كلهم زوار مثلنا؟ فقال: بل هؤلاء من أهل المدينة بالذات، وهكذا هم دائما أسرا وأفرادا، إنهم يخرجون في هذا الوقت من المسارح والمراقص ودور السينما والبارات.
غرباء في بلادهم:
ويذهبون مثلنا يلتمسون طعام العشاء، وكثير من الأسر الأمريكية لا يأكلون في بيوتهم، بل بعض الأسر وبعض الأفراد لا منازل لهم فمنهم من يأوي إلى الفنادق، ومنهم من ينام في سيارته التي تعتبر منزله ووسيلة نقله، وأكثرهم مرهقون بالدين للبنوك التي تسيطر على مصادر رزقهم وتعطيهم بطاقات يعيشون بها وهم مهددون بسحبها في كل وقت إذا لم يدفعوا للبنك الأقساط المشروطة عليهم.
وأضاف الأخ تاج الدين أن الزوج وزوجته ليقعدان على طاولة الطعام في المطعم ويطلب كل منهما ما يناسبه، ويدفع الحساب من جيبه عن نفسه ولا يدفع الزوج عن زوجته ولا الزوجة عن زوجها وكذلك الآباء والأبناء والأمهات والإخوان والأخوات.
بل كثير ممن تراهم وتظن أنهم أسرة واحدة تجدهم من ذوي العلاقات غير الشرعية.
قلت عندئذ: الله أكبر إن أكبر دولة مادية في العالم لفي طريقها إلى الانهيار وفقد المعاني الإنسانية بين الأقرباء فضلا عمن سواهم وذكرت للأخوين تاج الدين وزميلي الدكتور ما هو معروف من تماسك الأسرة في الشرق على الرغم من الفساد الذي بدأ يدب فيها، وذكرت لهم ما علمته من أحد الطلبة الأفارقة السنغاليين الذين تخرجوا في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة حيث ذكر لي أن عدد أفراد أسرته ما بين جد وجدة وأب وأم وخال وخالة وعم وعمة وأخ وبنت يبلغ مائة وعشرين صغارا وكبارا وأنهم كلهم يجتمعون على مائدة طعام واحدة في كل الوجبات الغذائية اليومية وأن لذلك أمثلة أخرى متشابهة
…
وعلقت على ذلك أيضا فقلت: إن ما تراه من الأمور الطيبة من تيسير المعاملات وبعض مظاهر العدالة والتقدم الإداري والتقدم الصناعي تعتبر مثل بالون الأطفال الذي ينفخ فيكبر ويعجبهم منظره ثم ينفجر في أيديهم فإذا هو مزق ترمى في القمامة وهكذا حضارة هؤلاء القوم، ولولا أن من سنن الله الكونية أن يجعل أزمَّة أمور الدنيا في أيدي من يبذلون الأسباب لأخذها ولما أبقى هؤلاء الناس لحظة واحدة، ولكن لا بد من أمة أخرى تستلم قيادة البشرية أكثر تعميرا للأرض وأقل فسادا فإذا وجدت هذه الأمة فستنتهي الحضارة المادة الغربية العفنة، وإني لأرجو أن تكون هي الأمة الإسلامية التي لا يخاف أهل الغرب غيرها من الأمم كما يخافونها وهذا المعنى هو مضمون رسالة الأستاذ المودودي المسماة: الصلاح والفساد.
صلاة الجمعة في مسجد البلاليين:
وفي يوم الجمعة 16/8/1398هـ أخذنا الأخ تاج الدين إلى مسجد البلاليين لأداء صلاة الجمعة فيه.
وبعد الأذان تقدم شاب في الثلاثين من عمره تقريبا، وهو طبيب وبيده أوراق فيها ترجمة بعض المعاني لسور قصيرة من القرآن الكريم وأخذ يقرأ وينفعل والناس ينفعلون معه، ويتكلمون بعض الكلمات التي كنت أفسرها بأنها للتعجب حيث يكبرون في بعض الأوقات.
وتارة يضحكون وبعد الصلاة ذكرت للأخ تاج الدين أن ذلك مما يجب التنبيه عليه، لأنه يجب السكوت في خطبة الجمعة فوعد أنه ينبه على ذلك في أقرب فرصة.
ولقد كان الإمام لا يقدر على إخراج الحروف م مخارجها، بل إنه اختصر سورة الفلق في قراءته لعدم تمكنه من حفظها، وساءنا ذلك وكلمت الأخ تاج الدين وقلت له: الأفضل أن تتولى أنت خطبة الجمعة والإمامة حتى تعلم من يجيد ذلك ويصلح للخطابة والإمامة.
فأجاب بما مضمونه أن القوم يرغبون أن يتولوا ذلك بأنفسهم وإن كانوا مقصرين.
ولقد ظهر لي هذا الأمر في كثير من المسلمين هناك، وهو أنهم لا يحبون أن يعترفوا بالنقص في العلم، وإذا أخذوا العلم عن غيرهم فإنما يأخذونه اضطرارا مع عدم إظهار الحاجة، على عكس ما هو موجود في بلاد الشرق لا سيما الهند وباكستان وأندونيسيا وغيرها، وهذا داء يجب أن يعالج.
وعلى من يريد ان يعلم القوم هناك أن يعرف هذا المعنى ويدخل عليهم من الباب الحكيم الذي يراه مناسبا.
مع طلابنا المبتعثين:
وبعد صلاة الجمعة التقينا بالأخ أحمد داود المزجاجي أحد الطلبة السعوديين المبتعثين من جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وهو يحضر الدكتوراة في الإدارة، وهو من الشباب الصالح الذين يعتبرون نادرين في تلك البلاد (ولا أزكي على الله أحدا) .
ولقد قابلنا بحرارة، كانت كلمته التي افتتح بها كلامه بعد السلام أتلبس هذا اللباس ونحن هنا نلبس لباس الإفرنج؟ ثم طلب منا زيارته في منزله، وعندما حاولنا أن نجلس معه في المسجد أو يذهب معنا إلى الفندق أصر على زيارته فذهبنا معه إلى شقته الصغيرة التي وجدنا فيها أثاثه قد ربط استعدادا للسفر إلى بلاده في إجازته التي توافق آخر شهر شعبان وشهر رمضان المبارك.
وكانت علامة سروره للسفر إلى بلاده بادية على وجهه، وكان معه بعض الطلبة من زملائه من بعض البلدان العربية وهم مثله صالحون، وأخذنا نتبادل الحديث عن الشرق والغرب، وكان الحديث يدور حول البلاء الذي انتشر في البلدان الإسلامية بسبب الأفكار الهدامة الغربية على الأمة الإسلامية في العقيدة والسلوك والتشريع والسياسة والاجتماع وغير ذلك، وإن قسطا كبيرا من هذا البلاء يحمله المبتعثون إلى الدول الغربية الذين يعودون إلى بلدانهم بأدمغة تحمل عفن التفكير الغربي في المجالات المذكورة، مع الجهل بكثير من العلوم النافعة المفيدة التي توجد في الغرب والتي ابتعثوا - أصلا - من أجلها.
والسبب في ذلك أن أساتذة الغرب يسعون جادين في غسل مخ هؤلاء المبتعثين من كل فكر يمت إلى الإسلام بصلة ثم ملء هذه الأدمغة بالأفكار المضادة، كما أنهم يزينون لهم سبل الفساد والشر فينطلقون في إشباع شهواتهم انطلاقا لا حدود له، ومع عدم خشية الله في نفوسهم لا يوجد رقيب من البشر، ولذلك يعود الطالب ممسوخا في تخصصه حاملا أقذار الفكر الغربي وسوء سلوك الغربيين وذكر الإخوة أن أعدادا هائلة من هذا الشباب يوجدون الآن في أمريكا يرتبطون بأحزاب سياسية يسارية ويمينية هدفها الأساسي تحطيم ما بقي في البلدان الإسلامية بالإضافة إلى الفوضى الخلقية التي يكتسبونها من المجتمع الأمريكي الوبيء.
وذكر الأخ داود أن أعدادا كبيرة توجد في الجامعات لا يصلي منهم إلا النزر اليسير، وبعض الذين يصلون في الأوقات العادية يتركون الصلاة لحضور بعض الحفلات التي تقام في وقت الصلاة.
كما أرانا لافتات عملها للدعوة إلى الإسلام في الجامعة، وعندما رآه المسئولون في الجامعة سألوه عن ذلك فأخبرهم أنه يدعو إلى الإسلام.
والنشاط في الجامعات يسمح به للجمعيات فطلبوا منه أن يسجل جمعية ليأخذوا إذنا بذلك فحاول مع الطلبة المسلمين الموجودين في الجامعة ليكوِّنوا جمعية فلم يستجب له أحد فاضطر إلى أخذ لافتاته ووضعها في منزله، مع أن كثيرا من هؤلاء الطلبة الذين لم يرضوا بالانضمام إليه في تسجيل أسمائهم مرتبطون برابطة الطلبة العرب ويدعونه هو نفسه للانضمام إليهم بإلحاح.
ورأينا صورة خطاب بعث به معالي وزير التعليم العالي في الممكلة العربية السعودية يصف له حالة المبتعثين ويطلب فيه العمل على تلافي الأمر والحد من الابتعاث والحلول التي يراها للإشراف على المبتعثين وأن صور الخطاب أرسلت إلى مدير الجامعات بالمملكة العربية السعودية [3] .
وقد أعطاني صورة من الخطاب، كما أعطاني صورة من رده على الطلبة الذين ألحوا عليه في أن ينضم لرابطتهم [4] .
الواقع أيد أصوات الإنذار:
بعد ذلك قلت للأخوين الحاضرين: لقد ارتفعت أصوات المنذرين من العلماء والكتاب من زمن طويل، وعند المسئولين علم ذلك وهناك محاولات للحد من الابتعاث إلا لضرورة ولكن الأمر يحتاج إلى سرعة البت فيه واتخاذ الوسائل اللازمة.
ولقد شاركت في الإنذار قبل عشر سنوات عندما كتبت بحثا تحت عنوان المسئولية في الإسلام [5] كان محوره الحديث الشريف: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، في مسئولية الأب عن أبنائه ومسئولية وزارة التربية والتعليم، وقد نشر البحث تباعا في مجلة الجامعة الإسلامية، والذي يتعلق بموضوع الابتعاث نشر في العدد الرابع من أعداد السنة الثالثة 1391هـ، والعدد الرابع من أعداد السنة الرابعة لعام 1391هـ أيضا وذكرت المضار التي تحصل من جراء الابتعاث، كما ذكرت وجهة نظري في الحل.
ولقد كانت تلك الأضرار واضحة في الشعوب الإسلامية، ولكنها تجسمت الآن أكثر وظهرت أضرارا أخرى غيرها.
وإذا استمرت الحال على ما هي عليه الآن فإن الخطر المتوقع لا يعلم مداه إلا الله سبحانه.
وما حوادث الانقلابات الدموية المتوالية في بعض الشعوب الإسلامية وما التقلبات السياسية السريعة، وما الفوضى وعدم الاستقرار واختلال الأمن، وما المناهج التعليمية المشوهة وما البرامج الإعلامية السيئة، إذاعية وتلفازية وصحفية وسينمائية وما كل بلاء وشر وغير ذلك مما لا يدخل تحت الحصر إلا ثمار طبيعية لهذه الجيوش الزاحفة إلى كراسي الحكم والإدارة والتوجيه الذين أغلبهم من المبتعثين إلى البلدان الأجنبية [6] .
فهل يذكر قومي ويفيقون قبل أن يندموا ولات ساعة مندم أم سيبقى الأمر كما هو عليه ويأتي الله بما يشاء؟.
أرجو أن تكون الأولى والله المستعان.
إخفاق الكنيسة في الغرب رغم كل المحاولات:
وانتقل الحديث مع الإخوة إلى وضع الميسيحة في الغرب وحالة الكنائس فذكر الإخوة أن الكنيسة أفلست وأن كثيرا من الكنائس أغلقت وخسرت وأنها معروضة للبيع، ومن ضمن ذلك كنيسة كبيرة في مدينة لوس أنجلس، وهي غير الكنيسة التي أراد شراؤها المسئولون عن معهد الدراسات الإسلامية وقد مضى الحديث عنها، قال الأح أحمد داود: إنه كتب للرابطة وغيرها يقترح شراء هذه الكنيسة لتكون مركزا ومسجدا للشباب الصالحين يصلون فيها جماعة ويقومون بنشاط الدعوة إلى الله فيها، ويمكن أن تنشأ فيها مدرسة لتعليم أبناء المسلمين ولكن لم يحصل شيء من ذلك.
كما ذكر الإخوة أن أسلوبا جديدا ظهر سيئا جدا للحفاظ على الكنيسة فقد أنشئت كنيسة باسم الكنيسة اللوطية، وأن أعضاءها - فعلا - هم من أهل الخلق السيء وأن ذلك لم يجد شيئا فكسدت هذه الكنيسة أيضا وهي معروضة للبيع.
الكلب أكرم من الإنسان في بلاد حقوق الإنسان:
ومن الشكاوي المرة التي ذكرها الإخوة أنه لا يوجد للمسلمين مقابر مميزة، بل يدفنون في مقابر مسيحية وأن كثيرا من شعائر المسيحيين تطبق على الموتى المسلمين، مع أن الكلاب في أمريكا لها مقابر خاصة، والكلام على الكلاب طويل، فلها مستشفيات خاصة، وبعض الناس يموت فلا يجد العلاج، وتوقف عليها الملايين وبعض الناس لا يجد قيمة ملبسه ولا مأكله، ولها أَسرَّة خاصة مفروشة وبعض الناس بلا مأوى ولها أطعمة خاصة - رأينا الإعلان عنها في التلفاز - وبعض الناس يتمنى لقمة مما تأكل فلا يجد.
والكلب عند المرأة الغربية أحب إليها من الزوج والولد وكم من مرة رأينا بين الرجل في السيارة كلبا مثل أحدهما في الضخامة أو أكبر بدلا عن الولد.
نكتة يهودية!
انتقل الحديث بعد ذلك إلى الأمور الإيجابية في الغرب والتي تمنينا جميعا أن تطبق في بلادنا الشرقية، كأنظمة المرور الخاصة بتنظيم الشوارع التي تسهل السير على الرغم من كثرة السيارات والقطارات، والاستفادة من تخطيطها وكذلك سرعة إنجاز المعاملة في الإداراتن ووجود الأجهزة المفيدة في ذلك مثل الكمبيوتر، ونظافة الشوارع والممرات وتعاون المواطنين مع الأجهزة الإدارية في ذلك كله إلى غير ذلك.
وبمناسبة الكلام على النظافة وعدم إلقاء القاذورات في الشوارع والممرات ذكر أحد الحاضرين، وهو عراقي الأصل أمريكي الجنسية يجيد مع اللغة العربية: الكردية والإنجليزية واليونانية والعبرية والسنسكرتية يكنى بأبي الفداء، ذكر نكتة يهودية زعم أنها واقعية: قال: إن أحد اليهود خرج مع بعض أصدقائه في سيارة للنزهة، وكانا يقعدان في إحدى الحدائق يتحدثان، ثم إن اليهودي شعر بالحاجة إلى قضاء الحاجة، ولكنه لا يوجد بجانبه بيت ماء، ورأى أن الجندي قريب منهما في الشارع وهو مضطر لقضاء حاجته فقال لصاحبه سائق السيارة اذهب إلى مكان أشار إليه وقف لي هناك، فإذا جئتك فأسرع بقيادة السيارة.
ثم حفر حفرة صغيرة وقعد فقضى حاجته فاستراب منه الجندي وتحرك يمشي إليه، فأسرع هو وأخذ طاقيته الصغيرة السوداء ووضعها على فضيحته وانحنى عليها ماسكا بأطراف الطاقية ضاغطا عليها، ولما جاء الجندي سأله: ماذا تفعل؟ فقال: إن طائرا لي تحت الطاقية هذه أخشى إن رفعتها أن يطير وأنا في حاجة إلى الوصول إلى زميلي وراء تلك الأشجار وأعود لأخذ الطير فقال له الجندي كم مدة يستغرق ذهابك؟ فقال: أقل من عشر دقائق، فقال: دعه أنا أمسك لك الطاقية حتى تعود، فانحنى الجندي ضاغطا على الطاقية وذهب اليهودي مع صاحبه ووقفا في مكان يرونه وهو لا يراهم (مثل الشيطان وقبيله) وكان الرجل يلتفت هنا وهناك يظن أن الرائحة من جهة أخرى وبعد أن يئس من رجوع اليهودي وشك في الأمر وقبض بالطاقية وما تحتها فوجد الفضيحة اليهودية وذهب ليغسل أثار العدوان اليهودي، وعلق أبو الفداء على القصة بقوله: إنهم يهود، قلت: إي والله إنهم يهود، وهذه النكتة، صحت أو لم تصح، يطبقها اليهود على كل المستويات، تطبقها قمتهم على القمم وتطبقها قاعدتهم على القواعد، ويعلم هذا كل مهتم بمكر القوم وخداعهم.
فتوى مضحكة مبكية:
وفي يوم السبت الموافق 17/8/1398هـ كنا نتناول طعام الغذاء في أحد المطاعم، وكان أحد الخدم في المطعم شابا فارسيا يدرس في إحدى الجامعات والطلبة هناك يقومون ببعض الأعمال من أجل الحصول على بعض المال للإنفاق على أنفسهم إذا لم تكن لهم منح، أو منح لا تكفيهم، وغالب الطلبة هناك محتاجون للعمل فعلا، ويمتاز الطلبة السعوديون عن غيرهم في أن مكافآتهم تكفيهم وزيادة، وربما طلاب بعض دول الخليج العربي كذلك، وهذه نعمة يجب أن يشكروها وأن يضعوها في مكانها.
جاء إلينا الطالب المذكور ونحن نتناول الطعام، وكنت طلبت سمكا، فقال لي: أنت مسلم؟ قلت: نعمن فقال هذا الذي تأكله حرام ففزعت وتوقفت عن الأكل وقلت للأخ تاج الدين سله ماذا يعني، فقال: هذا حيوان البحر وهو حرام، قلت له: لعله يريد أن السمك مقلي بزيت خنزير أو اختلط به شيء من ذلك فكرر عليه السؤال فأصر أن السمك نفسه حرام في الإسلام.
فقلت له: أنت مسلم؟ فقال: نعم، قلت: من أين لك هذا التحريم؟ فقال: هذا معروف والعلماء يقولون به.
عند ذلك قلت: إذن يمد أبو حنيفة رجله ولا يبالي ونصحت الشاب ألا يستمر في هذا الاعتقاد، ولا يقوله للناس وأخبرته بحكم حيوان البحر حيا وميتا، ولكنه وإن لم يصرح يظهر أنه لم يقتنع بذلك، وهكذا وجدنا من يفتي بتحريم السمك على المسلمين من الطلبة المسلمين الوافدين من بلدان إسلامية.
مع جماعة مسجد المؤمن:
وفي مساء هذا اليوم كنا على موعد مع جماعة مسجد المؤمن وهم من المسلمين السود الذين تركوا جماعة اليجا محمد بسبب أفكاره الخارجة عن الإسلام، وهم كذلك يعتقدون أن ابنه "ولس الدين"لا زال يعتقد ما كان يعتقده أبوه إلا أنه يدلس على الناس، هكذا يعتقدون فيه.
وكان إمام المسجد غائبا ونائبه موجود، ومسجدهم غرفة واسعة نسبيا وهم متحمسون للإسلام حريصون على تطبيق ما يعلمون في واقع حياتهم.
يلبس غالبهم الثوب العربي وعمامة سوداء، وبعضهم يلبس الطاقية بدل العمامة.
ورأيتهم في صلاتهم يحاولون تطبيق صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بلغني أنهم ساخطون على المجتمعات الإسلامية، وعندهم فكرة التكفير المعروفة - أصلا - عند الخوارج وأنهم مصممون على تطبيق أحكام الحدود والقصاص على أعضائهم وأنهم طبقوا - فعلا - حد الشرب على أحدهم وأنه ارتد عن الإسلام بسبب ذلك.
صلينا معهم المغرب، وصلى بنا نائب الإمام، وكانت قراءته غير مستقيمة مع شدة حرصه وتكلفه لتكون مستقيمة، وهذه ظاهرة وجدناها في بعض المسلمين هناك يحرص الإنسان أن يؤم الناس ولو كان في المصلين من هو أفضل منه بل ولو كانت قراءته هو غير مستقيمة، وكان من بين المصلين بعض الطلبة العرب وهم يجيدون التلاوة ولكن الإمام الذي نصب إماما حرصا على الإمامة والإمرة لا يقدم غيره.
وبعد أداء الصلاة طلبنا من الإمام إجراء التعارف وخيرناهم بين أن يسمعوا حديثا أو فتح المجال للأسئلة والمناقشة، فاختار الثاني، ولم يجر التعارف المطلوب، وشعرنا بشيء من الجفوة في الجماعة، إذ لم يصافحنا إلا الإمام لقربه منا، ولا أذكر إن كان هو الذي مد يده أولا أم نحن؟.
وبدأ الرجل الحديث فحمد الله وأثنى عليه ثم أن الواجب هو اتباع محمد صلى الله عليه وسلم دون غيره، وأن العلماء يجب أن يبينوا الحق للناس دون لبس، وفتح الكتاب الذي فيه ترجمة بعض معاني القرآن الكريم واستدل على قوله ببعض المعاني المترجمة، ثم قال للحاضرين من عنده سؤال فليتقدم به.
إعداد مسبق:
فبدأ الجميع يتحفزون وظهر لنا أن بعضهم كانوا قد أعدوا أسئلة في أوراق، وكانوا ينظرون في الورق ويسألون، ولذلك كان سؤال الواحد منهم، عبارة عن رأي مسبق يصوغه في حديث ثم يسأل عن الرأي فيه، وكانوا إذا شعروا بأن سؤال أحدهم غير كامل أو كانت الإجابة مقنعة للسائل انبرى آخر لشرح وجهة نظر السائل ليشكك السائل والحاضرين بأن الإجابة غير كافية.
وكانوا يظهرون الاعتداد بأنفسهم وقناعتهم بما عندهم ويحاولون تيئيسنا من إقناعهم بغير ما عندهم، وأن ما توصلوا إليه من أفكار يعتبر نهائيا فليسوا في حاجة إلى غير ما علموه، وهكذا شعرنا من مناقشاتهم وضايقنا ذلك كثيرا، وكانوا يقاطعوننا في الحديث.
أمران لا بد منهما:
وعندما شعرت بأن الفوضى تخيم على الاجتماع والرأي عندهم جاهز وهم إنما يستعدون لمساعدة بعضهم بعضا لتثبيت هذا الرأي الجاهز طلبت من الإمام، أمرين: الأمر الأول: ضبط الاجتماع إداريا بحيث لا يتكلم أحد إلا بعد أن يستأذن منه، الأمر الثاني: وهو ألا يقطع أحد حديث أخيه امتثالا للأدب النبوي وأمرا ثالثا: وهو ألا نخرج من نقطة النقاش إلى غيرها حتى تنتهي مناقشتها.
وبدأت المناقشة بعد ذلك تدور بنظام أحسن من ذي قبل وكأني بالقارئ يتطلع إلى موضوعات النقاش التي حصل فيها هذا الصراع وأقول: عد إلى مطلع الحديث عن جماعة المؤمن فالموضوعات هي التي ذكرت أنها بلغتني عنهم قبل أن ألتقي بهم.
موضوعات الحوار:
وخلاصة ما دار النقاش حوله ما يلي:
سألونا عن رأينا في البلاليين أهم مسلمون أم كفار وأخذوا يذكرون هم الأدلة على كفرهم، فكان الجواب أننا لم نختلط بهم كثيرا وعلمنا عن اليجا محمد أنه تبنى أفكارا يكفر معتقدها أما ابنه فبلغنا أنه بدأ بتصحيح أفكار أبيه لأتباعه ونرجو أن يستمر في هذا التصحيح وقد صارحناه بذلك عندما اجتمعنا به.
أما أتباعه فلا يحكم عليهم دون معرفة ما عندهم ومناقشتهم وتفهيمهم الحق، فلم يرقهم الجواب وأخذوا يتعاونون في ذكر مساوئ إمام البلاليين وبعض أفكاره التي لا تزال موجودة إلى الآن.
فقلت لهم: نحن يجب أن نجمع المعلومات عنهم من مصادرها ولا نحكم عليهم إلا بعد علم ما عندهم وذكرنا لهم الآية الكريمة {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} .
كما ذكرنا لهم أن اقتناعهم هم بأمر لوجود أدلة كافية عندهم لا يقتضي اقتناعنا نحن إلا بعد تمحيص وأخذنا في هذا الموضوع مدة طويلة وهم يحاولون إقناعي بأنه لا يلزم البحث والتفصيل لهذا الحكم بل يكفي ما سمعناه منهم عن البلاليين، فناقشناهم حتى ظننا أنهم فهموا رأينا وطلبنا أن ننتقل إلى موضوع آخر ولكنهم لم يرضوا بترك هذا الموضوع وقصدهم أن يفهمونا أنه لا يجوز الاغترار بما نقل من أن ولس الدين صحح أفكار والده فعلا وأن نقنع مَنْ ورائنا في المملكة وغيرها بألا يغتروا بهذا الرجل فأخبرتهم أننا لسنا مغترين ولكن نريد التثبت في الحكم على الناس ووعدتهم بنقل رغبتهم في عدم الاغترار بالرجل.
نصيحة وسخط:
ثم قدمت لهم نصيحة تتضمن أمرين:
الأمر الأول: أن يجتهدوا في تلقي العلم ممن يوثق به من العلماء، وأن يتعلموا اللغة العربية بجد حتى يفهموا كتاب الله وسنة رسوله عن طريقها لا عن طريق الترجمة التي تكثر أخطاؤها ولا تفي بترجمة معاني كتاب الله وألا يظنوا أن ما قد حصلوا عليه من علم كاف في عبادة الله أو الدعوة إلى الله.
الأمر الثاني: أن يطبقوا ما علموه في أعمالهم وفي أعضائهم وأن يصححوا الأفكار المخالفة بالعلم مع الهدوء ولا يجعلوا همهم الوحيد هو محاربة فئة معينة، لأن ذلك سيأخذ وقتهم في الخصام والنزاع ويصرفهم عن التعلم الذي هم في حاجة إليه.
وهنا ثارت ثائرتهم فأخذ كل واحد منهم يتحفز فتكلموا وكان كلامهم يدور حول إشعارنا بأنهم ليسوا جهالا وأن الذي يقدرون عليه قد علموه ولا زالوا يتعلمون ولكنهم لا يقولون شيئا إلا وهم على علم به وأن لهم الحق أن يحاربوا جماعة ضالة تدعي الإسلام.
وهنا بدأ بعض النساء يشاركن في النقاش فقد استأذنت امرأة من وراء ستارة أن تتكلم فأذنوا لها وكان خلاصة كلامها أن الذي يدعي الإسلام ويضل الناس أولى بالجهاد من غيره، وتسأل: ألا يجب علينا أن نترك العمل ونتفرغ للعبادة والجهاد؟.
وأجبتها بأن الجهاد واجب ولكن قبل جهاد الناس نجاهد أنفسنا في التعليم والعمل ثم لا بد من أسلوب نافع في الدعوة إلى الله.
أما ترك العمل فهذا غير مطلوب شرعا من المسلم إلا إذا كان تفريغ أشخاص بأعيانهم للقيام بالدعوة إلى الله للحاجة إليهم، ولكن لا يتركون ما لأنفسهم أو غيرهم من حقوق، وذكرت لها قصة الصحابة الذين أرادوا الانقطاع للعبادة وترك العمل فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم:"أمَّا أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
وقلت للجماعة لكم الحق أن تبينوا للناس الضلال بل يجب عليكم ولكن بشرط أن تكونوا عالمين بأن هذا حق وهذا باطل وهذا أمر ليس سهلا في كل أمر من الأمور.
وبعد نقاش طويل في هذا الموضوع وغيره وبعد أن ترجح لي أني وضَّحت ما يجب توضيحه قلت لهم: لقد أخذتم وقتا طويلا في إبداء ما تريدون من أسئلة وتوضيحات لآرائكم، أما الآن فأرجو أن تعطوننا فرصة لأسألكم أنا، قالوا: لا بأس.
هجوم:
فقلت: أحقا أنكم تقيمون أحكام الحدود والقصاص على جماعتكم؟. فقال إمامهم: نعم لنا الحق في ذلك، قلت: هل فعلتم هذا عن علم سبقتم به غيركم؟ قالوا: إن كتاب الله وسنة رسوله فيهما الكفاية، ولسنا في حاجة إلى أقوال الناس، قلت: ولكن التطبيق العملي للكتاب والسنة يجب الرجوع فيه إلى الكتاب والسنة فهل وجدتم فيهما أن لكل فئة من المسلمين الحق في إقامة الأحكام المذكورة؟ والمعروف أن ذلك يرجع للحاكم المسيطر بقوة على شئون المسلمين، وأنتم عددكم قليل فإما أن تعتبروا أنفسكم جماعة دعوة تأمرون الناس بالمعروف وتنهون عن المنكر وتبينون الحلال والحرام للناس وقدرتكم قاصرة على الأخذ بالقوة، وإما أن تعتبروا أنفسكم دولة إسلامية لها أن تتصرف تصرف حكومة، وهذا ليس في مقدوركم.
وبلغني أنكم أقمتم حد الخمر على أحد الأعضاء بالقوة وأنه ارتد عن الإسلام وهذا ما يتوقع أن يحصل: انفضاض أعضائكم عنكم وارتداد بعضهم ونفور الناس من الدخول في الإسلام.
والأجدر بكم أن تعودوا إلى تفاسير العلماء وشروح السنة وكتب السلف لتعلموا أأنتم سائرون على سنن السلف أم محدثون مالم يحدثه غيركم.
وهنا برز طالب مصري هو أساس أفكارهم يحاول إنقاذهم وكانت فرصة لمناقشته أمامهم حتى استسلم وطلبت منه أن يتقي الله ويصحح للقوم أفكارهم فذكر أنهم يقرأون في سبل السلام قلت له ستجد بحث هذا الموضوع فيه فارجع إليه.
آخر الدواء الكي:
ولعلمي أن القوم مغرورون بما عندهم من علم مشوش رأيت أن أصارحهم أكثر فقلت لهم: أنتم هنا أعاجم، والمراجع الإسلامية ليست متوفرة لديكم والموجود بعض الكتب المترجمة التي لا تؤدى المعنى بتمامه بصرف النظر عن أخطائها، وأنا من الجزيرة العربية عربي الأصل والمنشأ واللغة، ولي ما يزيد عن ثلاثين سنة في طلب العلم والذين تلقيت العلم عنهم عرب وعندي مكتبة مملؤة بالمراجع الإسلامية في مختلف العلوم، ومع ذلك إذا قرأت القرآن أو كتب السنة لا أزال إلى الآن يشكل علي الكثير الذي احتاج أن أسأل عنه بعض العلماء أو أراجع وأتعب في الحصول إلى فهمه.
أفيليق بكم أنتم أن تظنوا أنكم بلغتم مبلغا لا تحتاجون فيه إلى تصحيح أفكاركم.
وكان هذا الكلام هو الذي أسكتهم وجعلهم يفكرون في الأمر حتى قال زميلي الدكتور محمد بيلو لقد ترك بعضهم النقاش وحفظ أوراقه التي كان يستعد لإلقاء ما كتب بها.
ولقد كاد زميلي الدكتور يخرج ويتركهم لشدة غضبه من تعنتهم ولكني كنت أقول في نفسي هذه فرصة قد لا تتكرر مرة أخرى فيجب أن نعمل ما نقدر عليه ونصبر، وإنا كنا في حاجة إلى الرجوع إلى الفندق لترتيب أثاثنا لأننا سنسافر صباح غد مبكرين ولم نصل إلى هذه النتيجة إلا في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ولكنا حمدنا الله على ما حصل فإن هؤلاء الإخوة يظهر عليهم إرادة الحق ولكن الجهل هو الذي حال بينهم وبين الاستجابة السريعة، وكان الجهل مركبا ولو كان بسيطا لما طال النقاش إلى الوقت والحمد لله رب العالمين.
تآلف:
وبعد الانتهاء من هذا النقاش ودعناهم وكانت عاطفتهم معنا أفضل من اللقاء الأول ورجونا أن نزورهم مرة أخرى كما طلبوا منا إبلاغ المسلمين العلماء الذين يزورون أمريكا ألا يكتفوا بزيارة الجامعات الإسلامية المشهورة ويتركوا بقية الجماعات التي قد تكون أولى من غيرها بالزيارة فوعدناهم بتحقيق هذه الرغبة حيث أمكن.
ذهبنا بعد ذلك إلى أحد المطاعم لتناول طعام العشاء ثم عدنا إلى الفندق وذهب الأخ تاج الدين إلى منزله على أن يعود إلينا صباح غد لإيصالنا إلى المطار للسفر إلى اليابان..
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
انظر الملحق الرابع.
[2]
انظر الملحق الأول.
[3]
انظر الملحق الأول.
[4]
تبين لي فيما بعد أن هناك جمعتين: جمعية تضم الطلبة العرب المنحلين الذين يقفون موقف العداء السافر من الإسلام، وأغلب هؤلاء شيوعيون، والجمعية الثانية تسمى رابطة الطلبة العرب المسلمين، وهؤلاء شباب فيهم خير وصلاح وعلى وعي جديد بالإسلام، والظاهر أن الخلاف بينهم وبين الأخ أحمد في التسمية فقط، كما ظهر لي من رد الأخ أحمد عليهم في خطابه ومثل هؤلاء أرى ألا تحول التسمية بينهم وبين الصالحين من الشباب في تلك البلاد.
ولهذا لا أرى داعيا لإقامة جمعية جديدة ما دامت هذه الجمعية موجودة، كما أن اتحاد الطلبة المسلمين له نشاط في أغلب المدن الأمريكية والتعاون معه خير من إيجاد جمعيات متفرقة، جمع الله الكلمة وحقق الإخاء فيه.
[5]
رتب هذا البحث وأعد لطبع في أواخر هذا العام 1399هـ.
[6]
والعجيب في الأمر أن الفوضى التي يصدرها لنا الغرب، وبخاصة الفوضى السياسية والعسكرية ـ بذت كل المحاولات في الغرب للوقاية منها وعدم تمكنها في شعوبهم
…
؟
سنن الفطرة بين المحدثين والفقهاء
(الحلقة الثالثة)
لفضيلة الدكتور أحمد ريّان
أستاذ مساعد بكلية الحديث
الخصلة الثالثة عشرة: إعفاء اللحية:
واللحى: بكسر اللام وحكي ضمها بالقصر والمد - جمع لحية - بكسر اللام فقط.
وهي اسم لما ينبت من الشعر على الذقن والعارضتين [1] .
واللَّحيان: حائطا الفم، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان من داخل الفم من كل ذي لحي. ويقال التحى الرجل: صار ذا لحية وكرهه بعضهم، قال ابن سيده النسب إلى ذي اللحية: لحوي، ويقال رجل لحيان: إذا كان طويل اللحية [2] .
وقد جاء الأمر بإعفاء اللحية في أحاديث كثيرة صحيحة، منها ما جاء بلفظ الإعفاء كحديث ابن عمر عند البخاري:"انهكوا الشوارب واعفوا اللحى"[3] ، وعند مسلم "احفوا الشوارب واعفوا اللحى"[4]، وحديثه أيضا عند مسلم بلفظ:"أنه أمر بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية"[5] ،وكذلك حديث عائشة عند مسلم "عشر من الفطرة"،منها: إعفاء اللحية [6] .
ةةة ة
كذلك قد جاء الأمر بالإعفاء في بعض الأحاديث بلفظ "أوفوا اللحى" كما هو عند مسلم من حديث ابن عمر [7] ، وبلفظ "وفروا اللحى" كما هو من حديثه عند البخاري [8] .
وقال النووي: "وكل هذه الروايات بمعنى واحد". وبيان ذلك:
أن الإعفاء معناه الترك، وترك التعرض للحية بقص أو حلق يترتب عليه تكثيرها فهو من إقامة السبب مقام المسبب.
وذهب البعض: إلى أنها بمعنى: وفروا وكثروا، وصوبه صاحب الفتح ومعنى أرخوا اللحى: يعني أطيلوها.
ومعنى أرجوا وأرجئوا: أي لا تحلقوا بل أخروا حلقها.
وأما معنى وفروا اللحى: فهو من التوفير، وهو الإبقاء، أي اتركوها وافرة.
أما رواية أوفوا: فمعناها: اتركوها وافية.
ما تحقق به سنة اللحية:
وقد اختلف أهل العلم فيما تتحقق به سنة اللحية؛ فذهب فريق منهم إلى أنها لا تتحقق إلا إذا تركت وشأنها بحيث لا يؤخذ منها شيء أصلا إلا في حج أو عمرة.
وقد استند هذا الفريق إلى ما يلي:
أ – الأحاديث الصحيحة التي جاءت في طلبها بلفظ الإعفاء وما في معناه، وبصيغة الأمر.
ب - ما أخرجه البخاري عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خالفوا المشركين وفروا اللحى واحفوا الشوارب"، وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه" [9] .
وبما أن ابن عمر هو راوي الحديث؛ فتصرفه يعتبر بيانا للمعنى المراد من الحديث، وعلى هذا فلا يجوز الأخذ من اللحية أبدا بل تترك على حالها إلا في حج أو عمرة.
ج ـ ما أخرجه أبو داود من حديث جابر بسند حسن قال: "كنا نعفي السّبال إلا في حج أو عمرة"[10]، والسبال: جمع سَبَلة - بفتحتين - وهي ما طال من شعر اللحية، وقد سكت عنه أبو داود والمنذري.
وقد ذهب إلى هذا الرأي من التابعين: الحسن وقتادة؛ حيث قالا: يتركها عافية لقوله صلى الله عليه وسلم: "واعفوا اللحى"[11] .
وقد نسب العراقي هذا الرأي للجمهور، وقال إنه مذهب الشافعي وأصحابه [12] .
وذهب فريق آخر إلى جواز الأخذ منها بشرط ألا ينقص طولها عن قبضة اليد بمعنى أنه يجوز له أخذ ما زاد على قبضة اليد أما إذا كانت أقل من قبضة فلا يجوز الأخذ منها، وقد استدل هذا الفريق بما يلي:
أ - ثر ابن عمر السابق وفيه: "كان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه"، قال الحافظ في كيفية الاستدلال لهذا الفريق بهذا الأثر:"لذي يظهر أن ابن عمر كان لا يخص هذا التقصير بالنسك بل كان يحمل الأمر بالإعفاء على غير الحالة التي تشوه فيها الصورة بإفراط طول شعر اللحية أو عرضه"[13] .
وقد نقل بدر الدين العيني عن الإمام الطبري قوله: "فإن قُلْتَ: ما وجه قوله: "اعفوا اللحى"؛ وقد علمت أن الإعفاء الإكثار، وأن من الناس من إذا ترك شعر لحيته اتباعا منه لظاهر قوله: "اعفوا اللحى"؛ فيتفاحش طولا وعرضا ويسمج حتى يصير للناس حديثا ومثلا.
ثم قال:
"قد ثبتت الحجة عن ر سول الله صلى الله عليه وسلم على خصوص هذا الخبر، وأن اللحية محظور إعفاءها وواجب قصها على اختلاف من السلف في مقدار ذلك وحدِّه. فقال بعضهم: حدُّ ذلك أن يزاد على قدر القبضة طولا وأن ينتشر عرضا فيقبح.
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلا ترك لحيته حتى كبرت فأخذ يجذبها ثم قال: "ائتوني بحلمتين ثم أمر رجلا فجز ما تحت يده"، ثم قال له:"اذهب فأصلح شعرك أو أفسده، يترك أحدكم نفسه حتى كأنه سبع من السباع".
وكان أبو هريرة يقبض على لحيته فيأخذ ما فضل وعن ابن عمر مثله" [14] .
وممن استحسن هذا الرأي: الشعبي وابن سيرين [15] .
أما الفريق الثالث: عطاء فإنه يرى جواز الأخذ منها طولا وعرضا بغير حد مقدر ما لم يفحش الأخذ وينتهي إلى تقصيصها كما كانت تفعله الأعاجم.
ومن هذا الفريق: عطاء فقد نقل عنه قوله: "لا بأس بأن يأخذ من لحيته من طولها وعرضها إذا كبرت"وعلته: كراهة الشهرة وفيه تعريض نفسه لمن يسخر به واستدل بحديث عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها" قال الترمذي بعد أن أخرج هذا الحديث: "هذا حديث غريب". ثم قال بعد ذلك: "وسمعت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - يقول: عمر بن هارون مقارب الحديث لا أعرف له حديثا ليس له أصل أو قال: ينفرد به إلا هذا الحديث
…
ولا نعرفه إلا من حديث ابن هارون ورأيته حسن الرأي في عمر بن هارون" [16] ..
ونقل عن القاضي عياض قوله: "يكره حلقها وقصها وتحذيفها.."، قال:"وأما الأخذ من طولها فحسن"وقال: "تكره الشهرة في تعظيمها كما يكره قصها..وجزها.."وقال: "وكره مالك طولها جدا"[17] .
وسئل مالك عن اللحية إذا طالت جدا قال: "أرى أن يؤخذ منها ويقص"[18] .
وفي المذهب المالكي قولان في مقدار الأخذ: المعروف منهما: أنه لا حد للأخذ فيقتصر على ما تحسن به الهيئة، ومقابله: يأخذ ما يزيد على القبضة [19] .
تعليق عام على الآراء السابقة وأدلتها:
الناظر في الأدلة السابقة التي استندت إليه الطائفة الأولى: يرى أنها أقوى سندا وأصرح دلالة من أدلة الفريقين الأخيرين اللذين يريان جواز الأخذ من اللحية مع اختلافهما في المقدار الذي يجوز الأخذ عنده.
كما أن إرسال اللحية - إلى حد معلوم - يكسب المرء وقارا في مسته وثباتا في عواطفه، كما أن في اللحية عصمة للشباب والكهول إذ يصبح المرء ذا اللحية أكبر من سنه، وأجل مقاما من درجته، وأكثر احتراما بين أترابه.
ولكن ما يحتاج إلى تأمل هو: هل المعاني التي تدل على عليها ألفاظ الإعفاء والتوفير والإبقاء ونحوها من الألفاظ التي جاءت في أحاديث طلب اللحية: مرادة على إطلاقها، وبتعبير آخر: هل المطلوب من كل مسلم ترك الأخذ من لحيته مدى حياته إلا إذا ذهب مرة أو مرات إلى الحج؟ ومن يذهب إلى الحج قليل إلى مجموع المسلمين، فمعنى ذلك أن غالبية المسلمين يجب عليهم ترك لحاهم تطول إلى ما شاء الله.
ما يتبادر إلى فهمي - والله أعلم - أن التوفير أو الإعفاء المأمور به، مقيد بما إذا لم تطل اللحية طولا فاحشا بحيث يشوه سمت صاحبه ويجعله هدفا لأعين الناس وأضحوكة في أفواه السفهاء، أو بحيث تصير اللحية علامة مميزة له دون الناس لا يعرف إلا بها.
لذلك نرى أن فعل عمر رضي الله عنه مع الرجل الذي ترك لحيته تطول دون حد، ثم عدم إنكار الصحابة على عمر في هذا التصرف؛ دلالة على أن المعنى الذي تدل عليه هذه الألفاظ ليس على إطلاقه بل هو مقيد بما إذا لم يفحش، كما أن توفيرها إلى هذا الحد تتحقق فيه العلة التي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بإعفاء اللحية لأجلها، وهي مخالفة أهل الكتاب والمشركين الذين يحلقون لحاهم أو يقصرونها، ونستبعد عدم وصول شيء من هذه الأحاديث إلى عمر كما نستبعد نسيانه لها.
من جهة أخرى فقد روي عن ابن عمر وأبي هريرة، أنهما كانا يأخذان من لحيتهما ما يزيد على القبضة مع أنهما قد رويا أحاديث الأمر بالإعفاء مما يدل على أن الأمر ليس على إطلاقه.
قد يقال: إن الثابت عن ابن عمر: أنه كان يأخذ ما يزيد على قبضته في الحج أوالعمرة. نقول: فمن أين أخذ ابن عمر جواز الأخذ في النسك مع أن الأحاديث التي جاءت في الإعفاء مطلقة لم تستثن حالة النسك، والنسك قد نص فيه على الأخذ من شعر الرأس حلقا أو تقصيرا.
وعلى ذلك نقول: إن التحديد بالقبضة أو ما يقاربها زيادة أو نقصا، هو المعيار الذي ينبغي أن يصار إليه، مع عدم الإنكار على من يزيد على ذلك بشرط ألا يفحش وإلا أمر بالأخذ منها لأن هذا يتنافى مع الأمر بالزينة التي أمر الله الناس بالأخذ في أسبابها في قوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} الآية [20] .
وقوله صلى الله عليه وسلم من حديث طويل لقيس بن بشر التغلبي عن أبيه: "نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جُمّته وإسبال إزاره"، فبلغ ذلك خريما فعجل فأخذ شفرته فقطع بها جمته إلى أذنيه ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه"، وفيه أيضا: "إنكم قادمون على إخوانكم فأصلحوا رحالكم وأصلحوا لباسكم حتى تكونوا كأنكم شامة في الناس فإن الله تعالى لا يحب الفحش ولا التفحش" أخرجه أبو داود وسكت عنه [21] ، والفحش كل ما يشتد قبحه من ذنوب ومعاصي، ويكثر وروده في الزنا، وكل خصلة قبيحة فاحشة من الأقوال والأفعال.
والتفحش هو تكلف الفحش وتعمده في الهيئة الرديئة والحالة الكثيفة داخلة أيضا تحت التفحش والتفحش وإن الله جميل يحب الجمال [22] .
الخصال المكروهة في اللحية:
ذكر الإمام النووي في المجموع عددا من الخصال المكروهة في اللحية نقلا عن الإحياء للغزالي الذي كان قد نقلها بدوره عن قوت القلوب لأبي طالب المكي، وفيما يلي بيان لهذه الخصال مع بيان سبب كراهتها وموقف العلماء منها إن وجد.
الخصلة الأولى: خضاب اللحية بالسواد، والأصل في كراهة الخضاب بالسواد ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند أبي داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة"[23] .
وعند أحمد من حديث قصة إسلام أبي قحافة: "
…
فأسلم ولحيته ورأسه كالثغامة بياضا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"غيروهما وجنبوه السواد"[24] .
لذلك قال أكثر العلماء بكراهة الخضاب بالسواد
…
وقال النووي: "والصحيح بل الصواب: أنه حرام". ثم حكى عن مذهب الشافعية عدم التفرقة في المنع بين الرجال والنساء، وحكى عن إسحاق بن راهوية أنه رخص فيه للمرأة: أن تتزين به لزوجها [25] .
وقد رخص في الخضاب بالسواد طائفة من السلف، منهم سعد بن أبى وقاص وعقبة بن عامر والحسن والحسين وجرير وغير واحد، واختاره ابن أبي عاصم من كتاب الخضاب له، وأجاب عن حديث ابن عباس السابق؛ بأنه لا دلالة فيه على كراهة الخضاب بالسواد بل فيه الإخبار عن قوم هذه صفتهم، وعن حديث جابر السابق في قصة إسلام أبى قحافة؛ بأن ذلك في حق من صار شيب رأسه مستبشعا ولا يطرد ذلك في حق كل أحد [26] .
وقد رخص فيه بعض العلماء إذا كان المرء مجاهدا، لما فيه من إدخال الرهبة في نفوس الأعداء بإظهار الشباب وما ينطوي عليه ذلك من مظهر القوة [27] .
الخصلة الثانية: تبييض اللحية بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة، وإظهارا للعلو في السن لطلب الرياسة والتعظيم والمهابة والتكريم، أو لقبول حديثه وإيهام اللقاء بالمشايخ.
الخصلة الثالثة: خضابها بحمرة أو صفرة تشبها بالصالحين ومتبعي السنة وعلة الكراهة هنا هي النية السيئة أما الأصل في الخضاب بالتحمير أو التصفير فهو محمود وقد حث عليه صلى الله عليه وسلم فقد نقل أحمد في المسند بإسناد حسن عن أبي أمامة قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: "يا معشر الأنصار: حمروا وصفروا وخالفوا أهل الكتاب" [28] .
الخصلة الرابعة: نتفها من أول طلوعها وتحفيفها بالموسى إيثارا للمرودة واستصحابا للصبا وحسن الوجه، وتعتبر هذه الخصلة أقبح الخصال المكروهة في اللحية.
الخامسة: نتف الشيب؛ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبى صلى الله عليه وسلم عند أبي داود: "لا تنتفوا الشيب، ما من مسلم يصيب شيبة في الإسلام - قال عن سفيان: إلا كانت له نورا يوم القيامة وقال في حديث يحيى: إلا كتب الله له بها حسنة وحط بها عنه خطيئة"[29] .
وعن الترمذي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نتف الشيب وقال إنه نور المسلم" وقال: هذا حديث حسن [30] .