المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 47-48 فهرس المحتويات 1- كلمة التحرير - مؤتمر القمة الإسلامي وآمال المسلمين: - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ٢٠

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌العدد 47-48 فهرس المحتويات 1- كلمة التحرير - مؤتمر القمة الإسلامي وآمال المسلمين:

‌العدد 47-48

فهرس المحتويات

1-

كلمة التحرير - مؤتمر القمة الإسلامي وآمال المسلمين: د. عباس محجوب

2-

من وحي رمضان - أكبر مسابقة وأعظم جائزة: لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري

3-

دراسة حول قول أبي زرعة في سنن ابن ماجه: للدكتور سعدي الهاشمي

4-

مفهوم الأسماء والصفات (الحلقة الثالثة) : د. سعد ندا

5-

وحدة المسلمين في مواجهة الأخطار سبيلها وغايتها: فضيلة الشيخ محمد عبد الرحمن الراوي

6-

التربية في عصور ما قبل الإسلام وبعده: فضيلة الدكتور عباس محجوب

7-

الرشوة: لفضيلة الشيخ عطية محمد سالم

8-

أكذوبة شعب الله المختار: بقلم الأستاذ معالي عبد الحميد حمودة

9 -

المعجزات والغيبيات بين بصائر التنزيل ودياجير الإنكار والتأويل: لفضيلة الدكتور عبد الفتاح إبراهيم سلامه

10-

مدرسة الدعوة: فضيلة الدكتور محمد السيد الوكيل

11-

حبيب الروم: لفضيلة الشيخ محمد شريف الزيبق

12-

من أعلام الدعوة الإسلامية في الهند - صديق حسن خان (1248- 1307هـ) القرن التاسع عشر الميلادي: بقلم الدكتور محي الدين الألوائي

13-

في المشارق والمغارب: فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري

14-

البديع عند الحريري: فضيلة الدكتور بيلو أحمد أبو بكر

15-

رسائل لم يحملها البريد: فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي

16-

المرأة المسلمة: فضيلة الشيخ يوسف الهَمَذاني

17-

ما أضاع الحق إلا من بكاه: للدكتور إبراهيم حسن إبراهيم

18-

حوار مع الدكتور مصطفى محمود: بقلم الشيخ محمد المجذوب

19-

من عقائد السلف - الرد على الجهمية للإمام الحافظ ابن منده (310- 395هـ)(الحلقة الأولى) : تحقيق وتعليق الدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي

20-

التعريف بكتاب محنة الإمام أحمد بن حنبل: للدكتور محمد نغش

21-

الاعتماد على الحساب الفلكي في إثبات دخول شهر رمضان وخروجه وتحديد الأعياد: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

22-

طب الأسنان في الإسلام: للدكتور أحمد كرات / طبيب الأسنان بمستوصف الجامعة

23-

مع الخلية العصبية وبديع صنع الله: للدكتور فكري السيد عوض

24-

من أعماق الكتب: سعد ندا

25-

مختارات من الصحف

26-

أحداث العالم الإسلامي

27-

أخبار الجامعة

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 466

كلمة التحرير

مؤتمر القمة الإسلامي وآمال المسلمين

د. عباس محجوب: أستاذ مساعد بكلية الدعوة

نأمل أن يكون مؤتمر القمة الإسلامي المقام في مكة من أهم أحداث هذا القرن الجديد وبداية الخطوات الجادة في سبيل عودة المسلمين إلا ربهم وإلى منهج الله وكتابه وشريعته، بعد أن جربوا طوال السنوات الماضية شرائع البشر ومناهجهم، وأهمية هذا المؤتمر الذي يرفع شعار التضامن الإسلامي أنه يعقد في مكة المكرمة مهبط الوحي ومنبع النور وقبلة المسلمين في الأرض، مكة التي اختارها الله مكانا لبيته الذي يتجه إليه المسلمون كل يوم خمس مرات؛ سائلين الله وحده عابدين له دون سواه.

ولقاءات القمة هي أحدث أساليب الاتصال والتفاهم والترابط بين أمم الأرض، فضلا عن أمة الإسلام التي يربط بعضها ببعض أقوى الروابط وأمتن الصلات، وهي رابطة العقيدة ثم اللغة والنسب، والهموم المشتركة، والأهداف الإلهية الواحدة، والرسالة الخالدة، والتاريخ المشرق النابض في الماضي الخالد، والحاضر الحي والمستقبل المليء والموعود بجد العمل وإخلاص العبادة، وجمال العودة إلى منهج السماء وشريعة الله الخالدة وكتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

إن عقيدة التوحيد هي التي حققت أول وحدة في تاريخ البشرية؛ قامت على أسس سليمة، وهي الوحدة القائمة على إفراد الله بالربوبية والألوهية والحاكمية والولاء والقبلة.

ص: 467

ويأتي هذا المؤتمر والعالم يعيش في ظلام دامس، وتخبّط وضلال وكفر وابتعاد عن الله، وافتقاد للقيادة الرشيدة التي تخلى المسلمون عن القيام بأعباءها وتحمل مسؤولياتها، وقد وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ، ولأن الأمم الإسلامية لم تستخدم مقدراتها ولم تستفد من مقومات القيادة في دينها وعلمها وتاريخها، تخلت عن مكانها في قيادة البشرية وأصبحوا أتباعا يسيرون في ذيل التاريخ ويأكلون من فتات المعرفة، وانتقلت القيادة إلى الغرب تقود البشرية كما تريد، وأصبح العالم يعاني فقرا في القيادة وإفلاسا في التوجيه، وانقسمت نفسها إلى شرقية في الدول الشيوعية وغربية في دول الغرب.

أما المجتمع الاشتراكي فهو يعاني من عدم سلامة المنهج وثبات المبدأ؛ إذ تهدمت مبادئ الشيوعية كلها تحت معاول الهدم والتطبيق والتغيير، وواجه الفكر الشيوعي زعزعة في المبادئ فلم يعد العالم الاشتراكي يؤمن بدكتاتورية الطبقة العاملة؛ أساس النظام الماركسي، وتعددت المدارس الاشتراكية في العالم متمردة على تعاليم ماركس وانجلز ولينين، وأصبحت المقولات الشيوعية المحفوظة مثار سخرية وتندر، وأصبح الاستعمار الشيوعي أكثر شراسة مما عرف البشر من أنواع الاستعمار، وانتشرت جيوش الشيوعية المفلسة تحتل البلدان عنوة في المجر وبلغاريا والحبشة وأفغانستان.

أما الاستعمار الأمريكي فهو ناعم الملمس خبيث المقصد؛ يحتل البلدان حسب أنظمة الحكم فيها، ويستعمل أنواعا من التهديدات والعقوبات الاقتصادية، والضغوط السياسية، مع أنه يعاني من ضعف قيادته للمجتمع الأمريكي الذي يعاني من مشكلات الجنس والمخدرات وهوس الشباب وتمرده.

ص: 468

إن العالم الغربي يستغل معطيات الحضارة في نشر البغي والاعتداء واستنزاف مقدرات الشعوب، ولا مخرج للعالم من غياب القيادة المؤمنة الرشيدة إلا بالرجوع إلى الله، واتخاذ الشريعة منهجا للحياة وعبادة الله وحده، ولا يتم ذلك إلا بالدعوة الصادقة لزعماء المسلمين وقادتهم؛ وأغلبهم لا يطبقون شريعة الله ولا يتبعون منهجه، ولا يأخذون بالإسلام كنظام صالح لقيادة البشرية وتوحيدها وتحكيم شريعتها؛ حتى يمكن أن تقدم نماذج للحكم الإسلامي والاستقرار النفسي والمادي والأمن والطمأنينة ونحوها من ألوان السعادة التي تتم باتخاذ القرآن والسنة دستورا للحياة.

إن المسلمين يواجهون مشكلات عصيبة وتحديات خطيرة نتيجة عدم تحكيمهم لكتاب الله، وعلى رأس هذه المشكلات التي أخذت السنوات من عمر المسلمين معركتنا الدائمة مع اليهود، والتي أخبرنا الله سبحانه وتعالى أنها معركة دائمة ومستمرة، واليهود لم يحققوا أهدافهم إلا في ظروف غياب الخلافة الإسلامية ووحدة المسلمين وتجريد أهم قضاياهم من الصبغة الإسلامية، وأقرب مثال لذلك قضية فلسطين التي استطاع أعداء الله في الشرق والغرب جعلها قضية عربية؛ حتى وصل الأمر إلى اقتناع (منظمة التحرير الفلسطينية) بذلك؛ فاعتنقت الدعوة إلى قيام دولة علمانية في أرض فلسطين، وشردت القضية في ذلك في متاهات القومية والمذهبية والعنصرية، وأبعد عنها دول إسلامية لها ثقلها المادي والمعنوي، والمعركة في الحقيقة معركة بين العقيدة الإسلامية والدعاوى اليهودية، وما لم يجدد قادة المسلمين هوية هذه القضية الدينية ويعودوا إلى الله يطلبون العون ويأخذون بأسباب النصر؛ فسوف تتحقق مطامع اليهود في إسرائيل الكبرى، وسيرنو اليهود إلى مقدسات الإسلام الأخرى بعد أن التهموا المسجد الأقصى وعاثوا فيه فسادا وأحرقوه بالنيران عام 1969م.

ص: 469

إن على قادة المسلمين أن يوجهوا الشعوب الإسلامية إلى تنفيذ أمر الله الدائم {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، وإلا فسوف يتحقق فيهم قول الله تعالى:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} ، أو {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} .

إن الاتجاه إلى الاعتراف بإسرائيل ضمن حدود 1967م وتدويل مدينة القدس اتجاه خطير، على قادة الشعوب الإسلامية ألا يقبلوه، والبديل لذلك رفع راية الجهاد وفتح باب التطوع للشباب المسلم، وإطلاق الحريات العامة للشعوب المسلمة، وإيقاف المجازر والتقتيل للمسلمين، وإغلاق السجون المفتوحة للدعاة إلى الله.

أما قضية أفغانستان فيجب ألا تكون المواقف المتصلبة للغرب هي الدافعة لمواقفنا، بل علينا اتخاذ المواقف التي يمليها علينا ديننا وحق إخواننا المسلمين في مؤازرتهم وإعدادهم وتزويدهم بالمال والسلاح والرجال؛ إعلاء لكلمة الله وتلبية لداعي الجهاد للكفر والإلحاد.

إن الحرب الإيرانية العراقية حرب بين المسلمين تستنزف دماءهم، وتدمر قوتهم، وتثير الضغائن وتلهب العصبية؛ وكل ذلك ليس في سبيل الله ولا نصرة لدينه، والخاسرة هي الشعوب الإسلامية التي تقاد إلى طرق لا تريد أن تسلكها، وعلى قادة المسلمين أن يؤازروا المساعي التي بدأتها المملكة في سبيل اجتماع قطبي البلدين لوضع حد للحرب الدائرة بينهما ضمن إطار إسلامي.

ص: 470

إن علينا أن نضع الحلول للمشكلة اللبنانية، ومشكلات المسلمين الذين يبادون في الفلبين وتشاد والحبشة وسوريا ونيجيريا وغيرها من البلاد؛ حتى تشعر الأمم الإسلامية أن قادتها يجتمعون على مصالحها ويرعون الله في أماناتها.

إن قوة المسلمين في قيام منظمة وحدة إسلامية على أسس إسلامية ونوايا صادقة وإخلاص لله، وعلى تحقيق صور التعاون الاقتصادية والتكامل واستثمار أموال المسلمين في الدول الإسلامية، وعلى الاعتصام بحبل الله المتين ونوره المبين والتمسك بكتاب الله تنفيذا له وعملا بما جاء به والعمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتقيد بها؛ {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} .

د. عباس محجوب

ص: 471

مدرسة الدعوة

فضيلة الدكتور محمد السيد الوكيل

وكيل كلية الحديث الشريف

نشأت الدعوة في مكة المكرمة، وكانت أول مدرسة لها هي دار الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلتقي بالرعيل الأول هناك، فيعلمهم العقيدة الصحيحة، وينتزع ما بقي في قلوبهم من آثار الوثنية، ويقتلع من نفوسهم قدسية الأصنام ومنزلتها، ويغرس فيها الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من البعث والحساب والجنة والنار إلى غير ذلك من أصول العقيدة.

وقد تميزت مدرسة الدعوة بخصائص لم تتوفر لغيرها، كان لها أكبر الأثر على الدعاة، فخرّجت جيلا ضحى في سبيل الدعوة بما يملك من النفس والمال والولد، ولم يضن عليها بشيء تحتاج إليه، كما كان للجهد العظيم الذي بذله الدعاة نتائج هائلة وثمرات جيدة، وبذلك أصبحت مدرسة الدعوة في تلك الآونة مدرسة فريدة في موضوعها، فريدة في منهاجها، فريدة في نتائجها.

خصائص مدرسة الدعوة:

أول هذه الخصائص ربانية المنهج:

لقد كان منهج هذه المدرسة من صنع الله تبارك وتعالى جاء به جبريل من عنده سبحانه وحيا يوحى؛ لهذا كان منهجا متكاملا، لم يترك مما يصلح به البشرية في دينها ودنياها إلا حث عليه وأمر به.

وكان أول ما اهتم به المنهج هو تصحيح العقيدة من الانحراف الذي طرأ عليها، لأن الغاية من خلق آدم وذريته هو تحقيق معنى العبودية لله عز وجل في الأرض، باتباع المنهج القويم الذي جاء به الأنبياء والمرسلون، وذلك بعبادة الله - تعالى - وإخلاص الطاعة له - سبحانه -.

وكان الناس في تلك الآونة من الزمان قد نسوا البعث، بل أنكروه، كما هو حالهم في فترات الزمان المتباعدة، فكانت الدعوة الإسلامية عاملا مهما من عوامل إيقاظ هذا المعنى في النفوس، وركزت عليه تركيزا بحيث لم يعد هناك مجال للشك فيه.

ص: 472

وقد ثبَّت المنهج هذه العقيدة بأساليب مختلفة، فضرب الأمثلة، وانتقل من المعقول إلى المحسوس، ولفت أنظار الناس إلى قدرة الله فيما حولهم وفيما يجري بينهم؛ حتى تكون الوقائع الماثلة شاهدة على ما يخبرهم به الله في كتابه على لسان نبيه.

وحيث كان المنهج ربانيا فإنه جاء مناسبا لكل زمان ومكان، لا يعتريه نقص، ولا يطرأ عليه تغيير، لأن صفة الربانية لهذا المنهج تكسبه معنى الصلاحية والثبات، وكونه منهجا لآخر رسالة في هذه الحياة يكسبه معنى الخلود إلى آخر هذه الحياة، فلسنا إذا في حاجة إلى تغيير من فترة إلى فترة، ولا في حاجة إلى التعديل فيه من حين إلى حين.

وأما ثانية الخصائص فهي جمعها بين مصالح الدنيا والآخرة:

قد يخطر بالبال أن ربانية المنهج في تلك المدرسة يدل على أنها تتناول أمور الدين فقط، ولا تلتفت إلى الدنيا في قليل أو كثير، والواقع خلاف ذلك؛ فإن تلك المدرسة قد جمعت بين مصالح الدنيا والآخرة، في تناسق تام وتوازن عجيب، فلم تترك أحد الجانبين يطغى عل الآخر، ولم تهمل شيئا منهما على حساب الآخر، ذلك لأن الإسلام ينظر إلى الدنيا على أنها هي المزرعة التي يحصد منها الإنسان زاده للآخرة، بل هي الجسر الذي يعبر عليه ليصل إلى مقره الذي يسعى جاهدا لبلوغه.

ومن جانب آخر فإن الأعمال الدنيوية كلها تتحول إلى أعمال دينية إذا حسنت فيها النية، فأنت تأكل لتعيش فقط هذا عمل دنيوي صرف، وأنت تأكل لتستعين على طاعة الله، وتقوم بواجبك، بهذه النية ينقلب العمل الدنيوي إلى عمل ديني لك أجره ومثوبته، وأنت تتزوج لتكون رب أسرة وتنجب البنين والبنات، وأنت نفسك تتزوج لتعف نفسك وتغض بصرك وتحفظ فرجك، أما الزواج الأول فدنيوي صرف، وأما الثاني فديني صرف، وكلاهما زواج ستكون فيه رب أسرة، وأبا للبنين والبنات.

ص: 473

وهكذا كل الأعمال تستطيع أن تحولها إلى أعمال دينية مهما كانت درجتها الدنيوية، ويكون لك عليها من الأجر والثواب مثل بقية الأعمال العبادية أو الدينية الصرفة.

وبذلك تكون مدرسة الدعوة الإسلامية قد مزجت مزجا تاما بين أعمال الدنيا والدين، ونهجت في سبيل توحيد الأعمال نهجا قويما عبر عنه القرآن فقال:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [1] .

ألم تر أن الآية الكريمة جمعت بين ابتغاء الآخرة، وتذكير الإنسان بنصيبه من الدنيا حتى لا يكون في شغله بطلب الآخرة ما ينسيه نصيبه من الدنيا؟

ونحن نلاحظ في الآية أيضا أنها أمرت بالإحسان، وهو من أعمال الآخرة، وحذرت من الفساد في الأرض وهو من أعمال الدنيا.

إن الآية الكريمة قد مزجت بين العمل الدائب للآخرة بكل أنواعه، وبين العمل الدنيوي الذي يعود على الناس بالنفع والخير، وإنك مهما حاولت التأمل في الآية لن تشعر بفاصل بين العمل للدنيا والعمل للآخرة، ومهما أرهفت حسك الأدبي فلن تدرك - مهما بالغت - ثقلا أو صعوبة في الانتقال من أعمال الآخرة إلى أعمال الدنيا، لأن الآية الكريمة قد ساقتهما في نسق واحد، وتأليف فريد.

ص: 474

إنك بحسك الأدبي وذوقك الفني تدرك أن موسيقى الألفاظ واحدة في الآية من أولها إلى آخرها، وتقسيم الفواصل لا يختلف فيها، ونلاحظ أن أعمال الآخرة وردت في الآية بصيغة الأمر وأعمال الدنيا جاءت بصيغة النهي، ولعل ذلك لكثرة ما يقع الناس في المحظورات؛ فجاءت صيغة النهي للتحذير من الوقوع في مخالب الدنيا ومفاتنها التي تشغل الناس عن أعمال الآخرة؛ فناسب أن تأتي بصيغة الأمر لأعمال الآخرة {وَابْتَغِ} .. {وَأَحْسِنْ} ، وناسب أن تأتي أعمال الدنيا بصيغة النهي {وَلا تَنْسَ} .. {وَلا تَبْغِ} .

وإنك لتلاحظ هذا المزج في كثير من آيات القرآن الكريم، وتلمسه واضحا في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ} [2] .

فإن الآية الكريمة جمعت بين العبادة ورمزت لها بالصلاة، وبين الأعمال العادية وأشارت إليها بالنسك وهو الذبيحة، ثم أجلات فجعلت حياة المؤمن ومماته لله، وذكرت التوحيد بنفي الشرك.

وهكذا تتناول الآية أعمال الدين الخالصة، والأعمال التي هي في الأصل عمل دنيوي حولها الإسلام إلى عبادة، ثم ذكر التوحيد صراحة وهو العقيدة التي لا يقبل من الإنسان سواها.

وآية أخرى يقول تبارك وتعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [3] ، والآية كما ترى تجمع بين الصلاة التي هي أهم أركان الإيمان بعد الشهادتين، وبين الذبح الذي هو أمر لا حرج على من لم يفعله ولا إثم، والصلاة في الآية وإن كان المقصود بها صلاة العيد إلا أنها من جنس الفريضة التي فرضها الله على المؤمنين، وهي في الأصل عمل ديني لا يشوبه شائبة من شوائب الدنيا.

والخصية الثالثة هي تساوي الناس جميعا أمام نظمها: فليس هناك عبيد وأحرار، ولا سادة وعوام، ولا نبلاء ودهماء، بل الكل في ذات الله سواء، يجمعهم الإيمان بالله، ويفاضل بينهم العمل الصالح، ويتنافسون في ميدان التقوى الرحب الفسيح.

ص: 475

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهم: "كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب؛ لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان"[4] .

والله عز وجل يقول في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [5] .

وما دام الناس كلهم أولاد آدم عليه السلام فكيف يفرق بينهم في النسب؟ وكيف يفخر بعضهم على بعض؟

وما دام الناس جميعا من أب واحد وأم واحدة فكيف يسوغ التخاصم والنزاع؟

إن الأولى للناس جميعا أن يتعارفوا وأن يأتلفوا، وأن يكونوا جميعا في منزلة واحدة أمام قوانين النظام الذي ردهم على أصلهم، ونهاهم أن يفتخروا بآبائهم.

قال الشاعر:

الناس من جهة التمثيل أكفاء

أبوهم آدم والأم حواء

فإن يكن لهم في أصلهم شرف

يفاخرون به فالطين والماء

ومن أجل تحقيق تلك المساواة كانت التكليف عامة لم يكلف بها جنس دون جنس، وكانت الواجبات عل الجميع سواء بسواء لم يعف منها أحد مهما كان.

كذلك كانت المحظورات محظورات على كل المسلمين لم يستثن منها أحد مهما كان شريفا، والمنهيات محرمة على الجميع لم يعف مها مسلم قط.

وهكذا كانت المساواة في الحقوق والواجبات من خصائص تلك المدرسة ومميزاتها.

وباجتماع تلك الخصائص في مدرسة الدعوة تفوقت الدعوة على كل ما عداها، وأصبحت مدرستها فريدة في نهجها، فذة في تربيتها، وحيدة في تفوق نتائجها.

ولقد أصبحت هذه الخصائص شعارات لتلك المدرسة عرفت بها، وغرستها في قلوب طلابها، فآمنوا بها إيمانا أصبح واقعا عمليا في حياتهم، وكانوا النماذج الحية التي يراها الناس لتلك الدعوة بسلوكهم قبل كلامهم، وبواقعهم قبل دعايتهم.

ص: 476

وانتظم الصحابة - رضوان الله عليهم – في تلك المدرسة، وحرصوا على أن يتلقوا فيها علومهم، حتى كان الرجلان المشتركان في تجارة أو نحوها يتناوبان مجالس العلم، ويخبر الحاضر منهم الغائب بما سمعه من العلوم في نوبته فيتعلمه منه [6] .

واستطاع هؤلاء الأصحاب أن يتحملوا الأمانة، وأن يبلغوها كما حملوها، وكان صلى الله عليه وسلم يحثهم عل التبليغ ويرغبهم فيه ويعلمهم أن المبلغ قد يكون أوعى من السامع، وأن حامل الفقه قد يكون غير فقيه، ويخلص من هذا إلى وجوب التبليغ على المسلمين فيقول صلى الله عليه وسلم:"بلغوا عني ولو آية"[7] .

كما كان صلى الله عليه وسلم يبين للمسلمين الأسباب الداعية إلى التبليغ الموجبة للقيام به فيقول: "نضر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه"[8] .

وهكذا يوضح الرسول صلى الله عليه وسلم منزلة تبليغ الدعوة ونقلها إلى من لم يسمعها، لأن الدعوة قد تصل عن طريق البلاغ إلى من يقدرها قدرها ويدرك منها ما لم يدركه غيره ولو كان سمعها من فم الداعي إليها، وقد يكون حماس المبلغ للدعوة ودأبه على نشرها وحرصه على القيام بحقها أعظم ممن سمعها، وذلك لأن فقهه لأهدافها، وإدراكه لمراميها يشعره بعظم حقها عليه، فيبذل من وقته ليبلغها ومن ماله لنشرها، ومن فقهه ليرغب فيه.

وليس أدعى للتضحية في سبيل المبدأ من فقهه والإيمان به، وليس أقوى للنفس وأجرأ للقلب في سبيل نشر الفكرة من عقيدة تسيطر على صاحبها فتحوله إلى حركة لا تهدأ، وعمل لا يفتر حتى يصل إلى غايته.

ولن يتأتى ذلك إلا لرجل فهم دعوته وأدرك عظمتها؛ فدفعه ذلك إلى العمل الدائب من أجل تبليغها وإيجاد القلوب التي تحملها وتضحي في سبيلها.

ص: 477

ولهذا كان حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم – على تبليغ الدعوة إلى من لم تبلغه، وحملها إلى كل مكان لعلها تصادف من يعيها، ويفهم حقيقتها، ويدرك عظمتها، فيهب لحملها ويتولى الدفاع عنها حتى ينصرها الله عز وجل.

الصحابة في ميدان الدعوة:

شحن الصحابة رضي الله عنهم تلك الشحنة الإيمانية العميقة، وخالطت بشاشة الإيمان سويداء قلوبهم، وعلموا أن من حقها عليهم تبليغها لكل من يلقونه، وحملها إلى كل مكان يذهبون إليه.

لم يغب عن الصحابة أن الطريق لن يخلو من عقبات، وأن تبليغ الدعوة سيحملهم الكثير من المشقات، وأنهم سيواجهون أصحاب عقائد فاسدة يذعنون لها ويدافعون عنها، ولم يثنهم ذلك عن حمل العبء الثقيل مضحين بأنفسهم وأموالهم، وجهدهم وأوقاتهم.

خرج أبو بكر رضي الله عنه بعد أن التقى برسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى عنه أصول الدعوة، فبشر بها ودعا إليها كل من يثق فيه، وعرضها على أصدقائه في أسلوب أخاذ، فاستجاب له جماعة من وجهاء مكة، وآمن على يديه كبار الصحابة: عثمان بن عفان، الزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله.

ولم يكد هؤلاء الأفاضل يعلنون إسلامهم، ويذعنون للحق الذي دعاهم إليه أبو بكر حتى ذهب بهم إلى رسول الله فأسلموا [9] .

ويجلس أصحاب رسول الله يوما فيتذاكرون قريشا وموقفها من الإسلام، ويتمنون لو أن أحدا يسمعهم القرآن ما قد يكون سببا في هدايتهم أو يغيظهم ويقلقهم، فيقولون: من رجل يسمعهم القرآن؟ ويتطوع عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه – ويخاف عليه أن يؤذيه القوم، وليس له عشيرة تمنعه إن أرادوه بسوء.

قال ابن مسعود: دعوني! فإن الله سيمنعني.

وغدا الداعية إلى حيث يجتمع القوم في أنديتهم حول الكعبة وقام عند المقام، وأخذ يتلو سورة الرحمن.

ص: 478

وأنصت أعداء الله إلى ما يردد ابن مسعود، وتساءلوا في دهشة ماذا قال ابن أم عبد؟

وأجاب بعضهم: إنه يتلو بعض ما جاء به محمد، فانهالوا عليها ضربا في وجهه، وهو يتلو غير مبال بما يفعلون به، حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ.

وانصرف الداعية الجريء إلى أصحابه، وقد أثر الضرب في وجهه، فرق له المسلمون، وقالوا: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا، قالوا: حسبك قد أسمعتم ما يكرهون [10] .

ويتوالى الدعاة، وتختلف أساليب التبليغ، فتارة تكون بنشر الدعوة بالكلمة والتفصيل، وتارة تكون بالتمسك بها والإصرار عليها، وتارة تكون بالصبر على الأذى في سبيلها، وتحمل المشقات من أجلها.

والأسلوب الأخير وإن كلف الدعاة كثيرا من الدماء، وكثيرا من الجهد، وكثيرا من العناء إلا أنه أثبت أن للدعوة رجالا قد آمنوا بها إيمانا ملك عليهم حواسهم ومشاعرهم، وتغلغل في قلوبهم تغلغلا أنساهم آلامهم، وما يلقون في سبيلها من المتاعب والصعاب.

وكثيرا ما يكون الصبر والثبات أبلغ في التأثير من الكلمة مهما كانت بليغة مقنعة، وكثيرا ما يذل الصبر والثبات كبرياء الجبارين؛ فيستسلمون أمام هذا الصمود صاغرين.

لقد أذل بلال العبد الضعيف كبرياء أمية بن خلف، وأرغمه بصبره وثباته على الحق على أن يطلب من أبي بكر شراءه ليخلصه منه.

يقول ابن هشام: إن أبا بكر مرّ بأمية بن خلف وهو يعذب بلالا؛ فقال له: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ حتى متى؟ [11] .

ص: 479

وكأن ابن خلف كان ينتظر أن يقول أبو بكر ذلك، وكأنه قد نفد صبره، ووهنت عزيمته، ولم يعد له قدرة على التعذيب، لقد صبر بلال صبرا أتعب ابن خلف وافقده لأمل في أن يستجيب بلال لما يعرضه عليه من العودة إلى الكفر، فاستسلم، وقد صادفت كلمة الصديق هوى في نفسه لم يكن ليفصح عنه مخافة أن يرمى بالضعف - وهو السيد المطاع - أمام صبر هذا العبد الضعيف، ولهذا لم يكد الصديق يلقي عليه كلمته حتى قال: أنت الذي أفسدته، فأنقذه مما ترى [12] .

وإننا لنفهم من كلمة أمية بن خلف أمرين هامين جديرين بالتأمل:

أما الأول: فهو أن الصديق- رضي الله عنه كان لا يكف عن تبليغ الدعوة ونشرها في كل الأوساط، السادة والعبيد، والأغنياء والفقراء؛ ولهذا يرميه ابن خلف بأنه هو الذي أفسد بلالا.

وأما الثاني: فهو إفلاس ابن خلف أمام صبر بلال، وعجزه عن الاستمرار في التعذيب، ورغبته في التخلص من هذا المأزق الذي انحدر إليه، ولم يعد قادرا على التخلص منه، نلمس ذلك في قوله لأبي بكر: فأنقذه مما ترى.

إن ابن خلف لو بقي لديه شيء من الأمل في عودة بلال إلى الكفر لما ضحى به، ولظل يعذبه حتى يحقق ذلك الأمل، لأنه يعلم تمام العلم أن انتقال بلال إلى بيت أبي بكر يضمن له الحياة الهادئة في ظل العقيدة التي يحاربها، ويعذبه من أجل تركها والعدول عنها.

وهكذا يكون بلال رضي الله عنه قد أذل كبرياء ابن خلف بصبره، وأرغمه على الاستسلام لما يريد بثباته.

ولندع هذا المشهد المثير لنقف أمام مشهد أكثر إثارة وأعجب منه دهشة، إنه مشهد امرأة ضعيفة تقهر كبرياء رجل قاس عنيد، أما المرأة فهي جارية بني مؤمل، وأما الرجل فهو عمر بن الخطاب.

لقد ظل عمر يعذب تلك الجارية المسكينة ليصرفها عن دينها ويردها إلى الشرك والوثنية، ولكن الجارية أبت العودة إلى الكفر وأصرت على الإيمان بالله وحده، ويستمر عمر في تعذيب المرأة وتزداد ثباتا وتمسكا.

ص: 480

وها نحن نرى عمر يكل ويتعب، ولكن صبر امرأة وثباتها لم يضعفا ولم يهنا.

والمشهد يصور لنا ابن الخطاب وهو لا يزال على الشرك جالسا ليستريح مما أصابه من التعب والإرهاق، يلتقط أنفاسه التقاطا كأنه عائد من معركة مع خصم ذي بأس شديد.

وفي الجانب الآخر نشاهد الجارية وقد لاذت بإيمانها، واعتصمت بعقيدتها واقفة كالطود لم ينل منها الأذى إلا كما ينال من الصخرة حين يقرعها الوعل بقرنه.

ويعتذر عمر بن الخطاب لجارية آسفا لعدم قدرته على التعذيب أكثر من ذلك؛ فيقول: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك إلا ملالة [13] .

وترد عليه الجارية في استعلاء المؤمن بإيمانه: واعتزازه بعقيدته فتقول: كذلك فعل الله بك [14] .

لا شك أنه مشهد يثير العجب، ويبعث على الدهشة؛ عمر بن الخطاب يضعف أمام امرأة!، المعذب يصيبه الملل والتعب، والمعذبة لا تسترحمه ولا تستعطفه!، المعذب يعتذر لعدم قدرته على التعذيب أكثر من ذلك، والمعذبة مستعدة لتحمل أكثر من ذلك في سبيل عقيدتها ومن أجل إيمانها!.

ويستسلم عمر ابن لخطاب القوي الجبار أمام صمود الجارية الضعيفة.

والحق أن المسألة ليست مسألة عمر والجارية، ولا هي مسألة قوة وضعف، ولكنها في حقيقتها مسألة الإيمان والكفر، وقصة الإيمان والكفر بعيدة الأغوار في أعماق التاريخ، لا يخلو منها جيل من الأجيال منذ خلق الله الإنسان.

ص: 481

نرى صور تلك القصة، تتكرر متماثلة مع اختلاف الزمان والأجيال يبدؤها ولدا آدم عليه السلام وتتكرر مع نوح وقومه، ثم مع إبراهيم والنمرود، وتتضح معالمها في قصة موسى مع فرعون؛ حيث يتحدّى السحرة العزل فرعون، ويصرون على إيمانهم بعد أن هداهم الله إليه، وذاقوا لذته، يهددهم فرعون بعذاب تقشعر منه الأبدان؛ {فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى} [15] .

ويظن فرعون أنهم سينزعجون من هذا التهديد، وأنهم سيخرون بين يديه ساجدين خوفا من العذاب، ونسي أن الإيمان قد استقر في قلوبهم فأصبحوا بفضله قادرين على الصمود في وجه الكفر، وأصبحت عقيدتهم أعز عليهم من حياتهم، فأجابوا على التهديد بالصمود، وعلى الوعيد بالتحدي {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [16] .

ويفاجأ فرعون المتغطرس بهذا التحدي ممن كانوا بالأمس عبيدا له؛ فينخلع قلبه، ويطيش صوابه، ولكنه لم يستطع أن يمضي وعيده، ولا أن ينفذ تهديده، وكان كعادته يتوعد ويقف عند هذا الحد ولا يتعداه.

وسياق الآيات الكريمات لا يعطي مدلولا واضحا لنتيجة هذا التهديد، هل نفذ فرعون وعيده، أم تراجع أمام هذا التحدي، وبلع ريقه أمام هذا الصمود، وزعم أن أتباعه هم حالوا بينه وبين التنفيذ، كما حكى عنه القرآن حين قال:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [17] .

ص: 482

إن فرعون يزعم أن أتباعه هم الذين يحولون بينه وبين قتل موسى، ولولاهم لقتله، فهو يقول لهم:{ذَرُونِي} أي اتركوني؛ والحق أن أحدا لم يمنعه، ولم يكن في رعيته من يستطيع أن يمنعه أو أن يحول بينه وبين تنفيذ ما يريد، ولكن بهت أمام تحدي الإيمان وصمود المؤمنين.

والذي يبدو من سياق الآيات أن فرعون هدد ولم ينفذ، وتوعد وتوقف، حيث لم تشر الآيات إلى مصير السحرة الذين آمنوا برب هارون موسى.

والذي يظهر كذلك أن فرعون انهزم نفسيا أمام تحدي السحرة واستهانتهم بما توعدهم به، فلم يقدر على أكثر من القول.

وهكذا تتكرر الصورة، ولا تزال تتكرر حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وهكذا يقف الدعاة في وجه الظلم والطغيان، ويعلنون في ميدان الدعوة إيمانهم الحق، وتحديهم للباطل، وصبرهم على الأذى في سبيل الله حتى يتحقق لهم النصر.

الدعوة تواجه التيارات المضادة:

دأبت مدرسة الدعوة على تخريج دعاة مسلحين بسلاحين مهمين في حياة الدعاة وهما: الإيمان والعلم.

والإيمان سلاح لا يغني عنه سلاح مهما كان، إذ هو الدرع الواقي من هجمات الأعداء، وكنز لا ينفد في إمداد الدعاة بالصبر على الأذى، والثقة في الله، والصمود في وجه الطغاة.

أما العلم فهو الفقه الدقيق في أهداف الدعوة ووسائلها، وكيفية تبليغها والحرص على نشرها، والفقه في الدعوة بهذا المفهوم أمر واجب على الدعاة.

فالدعاة مهما كانت جرأتهم في الحق، وقدرتهم على المواجهة، وصبرهم على الأذى، وصمودهم في ميدان الدعوة؛ فإن ذلك لا يسد مسد الفقه في الدعوة والعلم بدقائقها وطرق تبليغها، ولئن كانت هذه الأمور ضرورية للدعاة فإن الفقه في الدعوة من أهم الضروريات.

ص: 483

إن فهم الداعية لحقيقة دعوته هو الذي يمكنه من تبليغها، ويجعله قادرا على رد الشبهات عنها، وتفنيد افتراءات المبطلين الذين لا يكفون عن إثارة الشبهات، وإشعال الفتن، وإلصاق التهم، وتجريح الأبرياء.

وليكن معلوما لدى الدعاة إلى الله أن الحماس للحق لا يغني غناء الفقه، وأن الجرأة في التبليغ لا تسد مسد الفهم، وأن الصبر على الأذى لا يقوم مقام العلم، ولهذا وجدنا الدعاة في ميدان الدعوة يواجهون أعداءهم بالحجج التي تدحض باطلهم، والأدلة التي تدعم دعوتهم، في مواجهة خصومهم، والبراهين التي تمكنهم من كشف زيف الباطل الذي يقف في طريق دعوتهم.

ولقد كان هذا الفقه للدعاة أمضى من الأسلحة في أيدي المحاربين؛ اقتحموا به العقول فأذعنت للحق، وطرقوا به القلوب فلانت لذكر الله.

إن أي دعوة لا تمد دعاتها بالفقه في مبادئها، والفهم لغايتها ووسائلها لهي دعوة محكوم عليها بالفشل، لأن مشكلات الدعاة لا تحل عن طريق السيف بقدر ما تحل عن طريق الإقناع والفهم، ولأن الدعوة إذا استقرت في القلب يعجز السيف عن إخراجها منه، وهذا هو المفهوم الحقيقي لقوله تبارك وتعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [18] .

إن الفقه الدقيق لأسرار الدعوة وأهدافها، والذي يستطيع الداعية عن طريق إقناع خصمه، وإزالة الأباطيل من رأسه؛ لهو السلاح الحقيقي الذي يجب أن يتسلح به الدعاة؛ لأن الدعوة لابد أن تواجهها تيارات مضادة وأفكار معادية، ومن المعلوم أن الفكرة لا تحارب بالسيف مهما كانت باطلة، وأن العقيدة لا تقاوم بالقهر ولو كانت فاسدة؛ ومن أجل هذا كان الفقه ومعرفة كيفية إقناع الخصم أجدى على الدعوة من السيف والمدفع.

ص: 484

ومع أن الدعوة لا تستغني مطلقا عن السيف والمدفع - إذ هما الوسيلة الفعالة لإقناع المعاندين والجاحدين، وإخضاع الطغاة والمتجبرين - إلا أن الفقه والإقناع نتائجهما أعظم وفوائدهما أكثر.

ولكي ندرك تلك الحقيقة سنسوق هنا نماذج من حياة الدعاة في العصور المختلفة؛ لنرى كيف كانت الحجة والبرهان والفقه والإقناع هي الوسائل التي كان يستعملها الدعاة، حتى إذا ما استعصى الأمر ونفد الصبر لم يكن بعد ذلك إلا السيف

والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا

فالحرب أجدى على الدنيا من السلم

1-

في عصر موسى: أرسل الله عز وجل موسى إلى فرعون، وأمره أن يطلب من فرعون أن يترك بني إسرائيل ليذهبوا معه، ويحررهم من عبوديتهم له، ولكن فرعون لج في العناد، وهدد موسى بالسجن والعقاب {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [19] .

وإن المتدبر لتلك الآية الكريمة ليلمح فيها تهديدا رهيبا، كما يلمس من التعبير {لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} أن سجون فرعون كانت مملوءة بالمظلومين من أمثال موسى عليه السلام حيث يفيد التعبير أن موسى سيكون واحدا من المسجونين الكثيرين، ولن يضير فرعون أن يضاف سجين جديد إلى الأعداد الهائلة التي تغص بها سجونه.

ص: 485

وموسى عليه السلام – لا يعبأ كثيرا بهذا التهديد المخيف، مع أنه لا يخفى عليه ما يكون عادة في سجون الظالمين من النكال والتعذيب، وبخاصة وقد سبقه يوسف عليه السلام – فسجن في أحد سجون الفراعنة ظلما بعد ما تبينت براءته، ولبث في السجن بضع سنين، ولكنه خرج منه موفور الكرامة، محمود السيرة، مرفوع الرأس، حيث نصبه فرعون الذي سجنه وزيرا على خزائن الأرض، فماذا يضير موسى عليه السلام لو أدخل سجن فرعون؟ وهل نال السجن من عزيمة يوسف شيئا حتى ينال من عزيمة موسى؟ وماذا لو سجن واتخذ من السجن ميدانا لنشر الدعوة؟ ألم يفعل ذلك يوسف من قبل حين قال {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [20] .

لم يلتفت موسى عليه السلام إلى هذا التهديد الأجوف، وتذرع بالحلم، وقال لفرعون في هدوء: أتسجنني ولو جئتك بآية بينة تثبت لك صدق دعواي؟ {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [21] ؟

ويتظاهر فرعون بأنه لا يرفض البرهان، وأنه مستعد للإذعان للحق متى ما أثبته ببينة مقبولة؛ {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [22] .

وهنا يظهر موسى عليه السلام من المعجزات ما لا يماري فيه إلا جاحد عنيد؛ فيحول العصا حية تسعى، ويخرج يده بيضاء مشعة يراها كل من نظر إليها بعكس ما كانت عليه في الأصل من الأدمة - أي السمرة -.

ويتنكر فرعون لما وعد به، ويوحي إلى الملأ حوله أن الذي رأوه إنما هو سحر، وأن موسى ساحر بارع.

ونحن نلاحظ في الآيات التي قصها القرآن الكريم علينا أن موسى لم يواجه فرعون بالسلاح، ولم يذهب إليه بجيش ليجبره على الدخول في دينه، مع علمه تمام العلم أن فرعون ظالم جبار، وأنه لن يسلم للحجة والبرهان، ومع هذا لم يكن معه سلاح إلا الحجة والبرهان.

ص: 486

ويخلف موسى رجلا من آل فرعون، يقوم فيهم داعيا إلى الله حين همّ فرعون أو هدد بقتل موسى، ونرى في دعوته حججا عقلية يذعن لها العقلاء، ويستجيب لها أولو الأبصار، والقرآن الكريم يحكي لنا ما حاج به قومه، فلا نرى في تهديدا بالقوة، أو إرهابا بالسلاح قال تعالى:{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ، يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [23] .

لقد كانت تلك الحجج كافية لإقناع فرعون، وإظهار الحق له بعد أن تجاهله، ولكن العناد والجحود حالا بينه وبين الحق، فلج في طغيانه، ولم يستطع أن يرد على الحجة بالحجة، فقال قولة العاجز المفحوم:{مَا أُرِيكُمْ إِلَاّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [24] .

ويترك الداعية فرعون سادرا مع غيه، لاجا في عناده، ويلتفت إلى قومه مشفقا عليهم، حريصا على هدايتهم، فيذكرهم بما حدث للأمم السالفة، وما ينتظرهم يوم القيامة إذا هم لم يطيعوا رسول الله موسى- عليه السلام.

لقد تفنن الداعية في عرض حججه؛ فساقها مرة في صورة استفهام، ومرة في صورة الدليل العقلي؛ فأمر موسى لا يخلو من أن يكون صاحبه كاذبا أو صادقا: فإن كان كاذبا فسيعود عليه ضرر كذبه، وإن كان صادقا ينزل بكم بعض ما تهددكم به.

ومرة ثالثة يخوفهم من بأس الله، ومما حل بالأمم قبلهم، ثم يلتفت إلى قومه وكأنه يقول لهم: لا تسمعوا لفرعون فإنما يريد لكم الدمار والهلاك، {اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [25] .

ص: 487

ثم يتعجب من إصرارهم على الباطل، وإلحاحهم عليه في قبوله، فيقول:{وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [26] ، ويثبت لهم بالأدلة المنطقية أن الذي يدعونه لعبادته ليس له دعوة ولا يستطيع الإجابة لمن دعاه، ثم يعذر إليهم بقوله:{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [27] .

2-

في عصر عيسى: ويمضي الزمن سريعا، ورسل الله تترى لا يخلو منها جيل، والدعاة يتابعون عرض دعوتهم، ويعملون على نشر فكرتهم، فيرسل عيسى- عليه السلام الدعاة إلى القرى النائية يدعون أهلها إلى الدين الصحيح، {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَاّ تَكْذِبُون، قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ، وَمَا عَلَيْنَا إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [28] .

وفي هذه القرية يتعرض الدعاة للتكذيب، فيحاولون دفع هذا الاتهام، والمدعوون يصرون على تكذيبهم، وكأنهم كانوا ينتظرون أن يكون الدعاة من الملائكة أو من جنس آخر غير الجنس الآدمي فقالوا:{مَا أَنْتُمْ إِلَاّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} ، وجهلوا أن الدعاة لابد أن يكونوا من جنس المدعوين، وإلا لما استجابوا لهم، ولا فهموا عنهم، ولا استطاعوا التلقي عنهم، ولهذا قال تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً} [29] .

ص: 488

ولما كان ذلك غير ممكن - لأن الناس لا يستطيعون مواجهة الملائكة، ولا يطيقون الاستماع إليهم - أخبر سبحانه بأنه ولو أرسل ملكا لابد أن يكون على هيئة الآدميين؛ ليتمكن من التبليغ دون أن ينفر منه الناس، وليتلقى منه الناس دون صعوبة أو عناء.

ومن أجل هذا أخبر الله عز وجل بأنه لو أرسل ملكا لجعله على صورة البشر حتى يتمكنوا من رؤيته؛ إذ لا قبل للبشر برؤية الملائكة، قال تعالى:{وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [30] .

ونلاحظ أن الدعاة لم يكن لديهم إلا محاولة إقناعهم، فلما أعرضوا ولجوا في طغيانهم قال لهم رسل عيسى عليه السلام {وَمَا عَلَيْنَا إِلَاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} ، نحن لا نملك قهركم على الحق، ولا نستطيع إرغامكم على الإيمان به، وإنما نحاول إقناعكم، ونعمل مخلصين على إرشادكم، ولكم بعد ذلك الخيار فيما تختارون.

ويطول الحوار، والدعاة يواجهون المضادة بالصبر والحلم محاولين إظهار الحق في صور من المناقشة المتبادلة بين الفريقين.

يقول أصحاب التيارات المضادة: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [31] .

ويجيبهم الدعاة قائلين: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [32] .

وترى واضحا في كلام المدعوين أنهم يتعللون بأوهام وأباطيل، ويحاولون لصق التهم بالدعاة، زاعمين أن ما يحل بهم من البلاء إنما هو بسبب وجود الدعاة بينهم، وينسون أنهم بابتعادهم عن الحق، وعداوتهم لأهله، وإسرافهم في الغي يستحقون ما هم فيه من البلاء، بل وأكثر منه.

ص: 489

ثم نرى منهم لجوءا إلى حيل المفلسين من البراهين، والمصرين على الضلال من غير أن يكون لديهم عليه حجة، فيهددون الدعاة باتخاذ أبشع أنواع التعذيب.

ولكن الدعاة لا يلتفتون إلى مثل ذلك التهديد، فهم يسمعونه في كل يوم، وهم مؤمنون بأنهم لن يصيبهم إلا ما قدر لهم، ويعتقدون أن أقصى ما ينزل بهم هو العذاب حتى الموت، وتلك هي الشهادة التي يتمناها الدعاة المخلصون، لأنها تقربهم من غايتهم، حيث لا يروي شجرة النصر إلا الدماء، ولا يكتب للدعوة النجاح إلا إذا قدمت الشهداء، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

ولهذا يحاول الدعاة رد الأمور إلى أصولها، ويبينون أن ما ينزل بالناس إنما هو بسبب انصرافهم عن الحق، ولجاجهم في الباطل؛ فيقولون في هدوء الواثق من الحق، وطمأنينة المؤمن بالقضاء والقدر:{طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} ، لسنا نحن سبب ما نزل بكم من القحط وقلة المطر ولكنكم أسرفتم في الضلال، وتماديتم في الباطل؛ فاستوجبتم ما حل بكم {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} .

وتقف الآيات عند هذا الحد، فلا تتكلم عن مصير الدعاة، ولا تبين ماذا تم على أيديهم، والذي يظهر من السياق أنهم انصرفوا راجعين من حيث أتوا وقد بلّغوا، وليس عليهم إلا ذلك {إِنْ عَلَيْكَ إِلَاّ الْبَلاغُ} [33] .

ويخلف رسل عيسى رجل من أهل القرية فهِم الدعوة وآمن بها، وأيقن أن من حقها عليه أن يحملها إلى الناس، وأن يدعو بها من لا يؤمن بها، فلما بلغه أن أهل القرية عصوا الدعاة، ولم يدخلوا في دعوتهم أقبل مسرعا، ودعا قومه إلى الطاعة والإيمان، وواجه عنادهم بالحجة والبرهان، {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [34] .

ص: 490

ونلمح من خلال الآيات أن قوم الرجل أنكروا عليه كلامه واتهموه بالمروق، وكأنهم سألوه: هل أنت على دينهم؟ فقال: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ، إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [35] .

إن الداعية - حسب سياق الآيات - قد فهم دعوته فهما دقيقا مكنه من شرحها لهؤلاء المنكرين، أما تراه يقرر الوحدانية بأسلوب منطقي فريد؟، ويثبت بطلان الشرك ببراهين محسوسة لا ينكرها إلا معاند متغطرس؟، ثم يبين أن من يفعل ذلك فهو في ضلال مبين ولو كان هو الداعية نفسه.

وهكذا يقيم عليهم الحجة، ويلزمهم بالبرهان، فلا يكادون ينطقون.

3-

وفي عصر خاتم النبيين: تمضي المسيرة المباركة إلى غايتها، غير عابئة بما يواجهها من مؤامرات الحاقدين، ولا مكترثة بافتراءات المفترين، يقودها خاتم النبيين، وترعاها عناية رب العالمين.

وتظل الدعوة في طورها السري ثلاث سنين، وهو طور التربية والتعليم، يخرج بعده الدعاة وقد فقهوا دعوتهم، واستنارت بصيرتهم، وعقدوا العزم على نصرة الحق مهما طالت محنتهم.

وتواجه الدعوة الفتية التيارات المضادة {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} [36] ، ويتذرع الدعاة بالحلم والصبر، ويقابلون الفكرة بالفكرة، ويقرعون الحجة بالحجة.

ونحن قد رأينا نماذج رائعة من ثبات الدعاة وتحملهم، وسنعرض هنا نماذج حية لأساليب نشر الدعوة في مواجهة الأفكار المعادية، وفقه الدعاة وطرق إقناع الخصم.

أ- الطفيل بن عمرو: أسلم الطفيل لما القرآن الكريم من رسول الله صلى الله عليه وسلم رغم تحذير قريش إياه من سماعه، حتى وضع في أذنيه القطن.

ص: 491

ولم يكد يستقر الإيمان في قلبه حتى استأذن من رسول الله في الذهاب إلى قومه ليدعوهم إلى الإسلام، فأذن له، وبدأ الطفيل بأبيه فأسلم، وثنى بزوجه فلم تخالفه، ثم توجه إلى قومه فأبطأوا عليه، ولكنه لم ييأس.

يقول ابن هشام: (قال - الطفيل -: فلم أزل في أرض دوس أدعوهم إلى الإسلام.. حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس، ثم لحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر؛ فأسهم لنا مع المسلمين)[37] .

والذي يلفت النظر في قصة الطفيل موقفان لابد من تجليتهما؛ حتى يتعلم الدعاة كيف يدعون إلى الله:

الأول: لما أبطأ قوم الطفيل في الدخول في الإسلام ذهب إلى رسول الله، وطلب منه أن يدعو عليهم، فدعا لهم الرسول قائلا: اللهم اهد دوسا، وأمر الطفيل أن يرجع إلى قومه، وأن يدعوهم ويرفق بهم، فرجع حتى كان إسلامهم على يديه [38] .

ومن هنا يجب أن يتعلم الدعاة أن الناس لا يستجيبون لأول وهلة، لأن لهم عقيدة يتعلقون بها؛ فلابد من الصبر عليهم والرفق بهم، حتى يتبين لهم الحق، وحينئذ يسارعون إليه.

الثاني: أن الإيمان لما استقر في قلب الطفيل خرج منه الخوف من تلك الآلهة التي كان يعبدها، فلم يعد يحفل بها ولم يعد لها مكانتها في نفسه، ونحن نلمس ذلك عندما أمر زوجه أن تذهب إلى حمى الصنم الذي كانوا يعبدونه فتغتسل هناك حتى يعرض عليها الإسلام.

قالت زوجه: بأبي أنت وأمي، أتخشى على الصبية من ذي الشرى - الصنم - شيئا؟ قال: لا، أنا ضامن لذلك [39] .

لقد أصبح ذو الشرى - ذلك الصنم الذي كان يعظمه الطفيل ويرهبه - حجرا لا يضر ولا ينفع، وأصبح الطفيل يزدريه ويحتقره، بل ويحتقر أولئك الذين لا يزالون يعظمونه، ويدعون له مكانة تعدل مكانة الإله، وهو لا يعدو أن يكون حجرا قطعوه من الجبل، وصنعوه بأيديهم، ثم دانوا له من دون الله بالإجلال والتضرع والابتهال.

ص: 492

ولم يكتف الطفيل رضي الله عنه بهذا الموقف من الآلهة، ولكنه أبى إلا أن يكون له معها شأن آخر، فألح على الرسول- صلى الله عليه وسلم أن يبعثه إلى ذي الكفين - صنم عمرو بن حممه - ليحرقه فأذن له الرسول، وخرج إليه، وجعل يوقد عليه النار ويقول:

ميلادنا أقدم من ميلادكا

يا ذا الكفين لست من عبادكا

إني حشوت النار في فؤادكا [40]

إن إحراق الطفيل للصنم الذي كان قومه يخضعون له، ويعطونه ولاءهم، لدعوة عملية للكفر بتلك الآلهة، ونداء صريح بالوحدانية التي جاء بها الإسلام، إذ كيف يحرق الإله دون أن يدفع عن نفسه؟ أتراه ذلّ وهان إلى ذلك الحد، أم قدم نفسه هو الآخر فداء للإنسانية، وتحملا لخطايا بني آدم المغفلين؟؟

إن العقل الإنساني يرفض هذه وتلك، ويأبى إلا أن يكون للإله قدرة يدفع بها عن نفسه من أراده بسوء، بل إن العقل ليذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إنه يرفض أن يتمكن الإنسان مهما كانت قدرته أن يدخل مع الله في صراع وهو العاجز المفتقر إليه في كل أحواله.

أفلا يكون ذلك وحده كافيا لرد هذه العقول إلى صوابها، وتحويلها إلى ما يجب أن تكون عليه بعد ضلالها.

وهكذا يكون الطفيل داعية بعمله أكثر مما دعا قومه بكلامه، وكيف لا؟ وقد رآه قومه يسخر من ذي الشرى ويضمن عجزه عن أن يصيب صبيا بسوء، ثم هاهو ذا يحرق ذا الكفين دون أن يصيبه أدنى مكروه، إنه بعمله هذا أثبت لقومه عجز ما يعبدون، فعليهم أن يتوجهوا بعبادتهم وطاعتهم لمن يدعوهم إليه.

2-

ضمام بن ثعلبة: وهذا الرجل صنف آخر من أصناف الدعاة وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم نائبا عن بني سعد بن بكر، وأناخ بعيره على باب المسجد وعقله، وأقبل على الجالسين في المسجد فسألهم: أين ابن عبد المطلب؟ فأجابه الرسول: "أنا ابن عبد المطلب"، وكأن الرجل قد خاف أن يكون المجيب شخصا آخر غير الذي يريد؛ فقال: محمد؟ قال: "نعم".

ص: 493

فقال ضمام: يا ابن عبد المطلب، إني سائلك ومغلظ لك في المسألة؛ فلا تجدن في نفسك، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا أجد في نفسي؛ فسل عما بدا لك". فسأل ضمام الرسول:

هل هو رسول الله حقا؟ وهل الذي أرسله أمره بأن يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا؟ وأخذ يسأله عن فرائض الإسلام كلها، والرسول صلى الله عليه وسلم يجيبه في كل مرة:"اللهم نعم"، فلما فرغ قال ضمام: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وسأؤدي هذه الفرائض، وأجتنب ما نهيتني عنه لا أزيد ولا أنقصن ثم انصرف.

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن يصدق ذو العقيصتين يدخل الجنة"[41] .

وأتى ضمام بعيره، فأطلق عقاله، وانطلق به حتى دخل على قومه؛ فاجتمعوا عليه ينظرون ما وراءه، وبماذا جاءهم من عند رسول الله.

وكان ضمام كما رأينا رجلا صريحا واضحا لا يعرف اللف، ولا يؤمن بالمناورات، وبالسرعة التي صدق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به، هاجم اللات والعزى، لم يجامل في الله أحدا بعد أن آمن به، ولم يهادن في دينه أحدا ولو كان الإله الذي كان يعبده من قبل، ويخضع له، لقد استبان له الحق، واتضح له الطريق فما له لا يبينه للناس؟ وما له لا يفضح هذا التزييف الخطير في عقيدة قومه، وهو رسولهم الذي ائتمنوه ليوضح لهم ما خفي عنهم.

لقد كان ضمام أمينا على ما ائتمن عليه، ناصحا لقومه بقدر ثقتهم فيه، فلم يرد أن يظل قومه على الشرك لحظة واحدة بعد ما عرف الحق، واتخذه دينا له، لهذا كان أول ما تكلم به ضمام بعد أن اجتمع عليه قومه قوله: بئست اللات والعزى، واندهش القوم لما سمعوا من ضمام، وخافوا عليه أن يصيبه الجنون أو البرص أو الجذام، ولكن ضمام سخر من قولهم، فأجابهم: ويلكم! إنهما ما يضران ولا ينفعان [42] .

ص: 494

وانتهز ضمام فرصة إصغاء القوم، وقد رأى على وجوههم وجوما لم يعهده فيهم، ولاحظ عليهم اضطرابا شديدا، ولعل القوم قد تربصوا بضمام أن يحل عليه سخط آلهتهم، أو تنزل به لعنة الأصنام.

لقد تأكد الناس - حسبما كان في رؤوسهم من الأوهام - أن ضماما هالك لا محالة، وأن الآلهة لن تدعه سالما وقد اعتدى على قدسيتها، وانتهك كرامتها، فنظروا إليه آسفين عليه، متوقعين له الدمار.

وكان وجوم القوم واضطرابهم، وإشفاقهم على ضمام فرصة اهتبلها ضمام وقال لهم: إن الله قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتابا، استنقذكم به مما كنتم فيه [43] .

وأعلن ضمام إسلامه أمام قومه، وشهد شهادة الحق فقال: وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به، ونهاكم عنه [44] .

وأقبل المساء وضمام يتمتع بكامل صحته، لم يصبه جنون ولا جذام، ولا برص ولا هلاك، ونظر الناس إليه سليما معافى، لم تستطع الآلهة أن تصب عليه لعنتها؛ فهي إذن عاجزة، ولم تنزل به غضبها ونقمتها فهي لا محالة غير قادرة، ولو كانت آلهة تستحق التقدير والاحترام لما سكتت على هذا الهوان.

وعرف الناس الحق في كلام ضمام ودعوته، فآمنوا بما آمن به ودخلوا جميعا في دين الله، قال الراوي: فوالله ما أمسى في اليوم في حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما [45] .

قال ابن عباس: فما سمعنا بوافد قوم أفضل من ضمام بن ثعلبة [46] .

ص: 495

3-

جعفر بن أبي طالب: وكان جعفر رضي الله عنه نسيج وحده، تفرد بخصائص لم يشاركه فيها أحد، فقد كان مقدم أصحاب رسول الله بين يدي النجاشي، والمتصدي لأعداء الله حين حاولوا إغراء النجاشي بطردهم من بلاده، واستطاع جعفر بعقله الراجح، وأسلوبه الفريد، وحجته البالغة أن يستحوذ على قلب النجاشي، ويستميله إلى صفوف المسلمين كما تمكن من أن يأخذ منه أمانا له ولأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقاموا في الحبشة على خير ما يحبون.

علمت قريش بطيب مقام المهاجرين، وغاظها ما صاروا إليه من الأمن والاطمئنان، فدبروا أمرهم ليكيدوا المهاجرين الفارين بدينهم إلى حيث يطمئنون على عقيدتهم، ويتمكنون من عبادة ربهم.

أرسل أهل مكة رجلين من أشرافهم هما: عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي ربيعة، والرجلان مخزوميان، وجهزوهما بالهدايا الثمينة للنجاشي وبطارقته، وأمروهما أن يقدما هدايا البطارقة قبل أن يدخلا على النجاشي حتى يساعدوهما عند النجاشي فيما قدما من أجله.

ولا يخفى على الإنسان سبب اختيار عمرو بن العاص لتلك المهمة؛ فهو مع كونه شريفا من أشراف قريش، داهية من دهاة العرب المعدودين؛ يستطيع بذكائه إقناع من أمامه بما يريد، ويتمكن بحيلته إن لم تسعفه الحجة من بلوغ مأربه.

ولكن جعفر الداعية المؤمن، قد أفسد عليه رأيه، وعطل فيه دهاءه، فلم تعد لديه القدرة على الإقناع، ولم تسعفه الحيلة ليدبر المكيدة التي جاء من أجلها.

ص: 496

دخل عمرو وعبد الله على النجاشي، وحاولا إيغار صدره على من عنده من المسلمين، وقف إلى جانبهما جماعة البطارقة؛ فقد جعلتهم الرشوة يميلون إلى الباطل، ويقفون إلى جوار الظالمين، ولكن النجاشي رفض أن يسمع في المهاجرين رأيا أو يتخذ منهم موقفا حتى يرى رأيهم، ويسمع قولهم، وقال: فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم ما جاوروني [47] .

وجيء بجعفر وأصحابه، فلما وقفوا على باب النجاشي صاح جعفر: يستأذن عليك حزب الله، فأذن لهم النجاشي أن يدخلوا بأمان الله وذمته [48] .

كانت تلك الصيحة براعة استهلال من جعفر، فقد أعلن قبل دخوله أنه وجماعته من طراز آخر غير ما عرف النجاشي، فلو حصل ما يخالف نظام الدخول على الملوك كان العذر متقدما، ثم إن النجاشي رجل على دين المسيح؛ فهو يعرف الله ويوحده؛ ولذلك لم يكد يسمع قول جعفر: يستأذن عليك حزب الله، حتى قال: نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته.

كان جعفر رضي الله عنه لبقا أريبا مسددا، فلما أذن له النجاشي بالدخول لم يسجد له كما كان يفعل الداخلون عليه، فقال لهم: ما منعكم أن تسجدوا لي؟ قالوا: نسجد لله الذي خلقك وملكك، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان، فبعث الله فينا نبيا صادقا، وأمرنا بالتحية التي رضيها، وهي السلام؛ تحية أهل الجنة [49] .

وأكد جعفر رضي الله عنه هو وأصحابه بهذا الكلام الصيحة التي صاحها بباب النجاشي، فهم ليسوا عبيدا إلا لله وحده، له يسجدون، وبه يعتزون، وعليه يتوكلون.

ص: 497

إن اعتزاز الإنسان بعقيدته في مثل تلك المواقف التي ترتجف فيها قلوب المنافقين أكبر دليل على صدقه في دعواه، إذ لو كان كاذبا لنافق حتى لا يؤذى، وداهن حتى يصل إلى مأربه، والمسلم قد يجامل غيره ليستميله، وقد يلاطفه ليدله على الحق، كل ذلك لا بأس به ما دام لا يمس العقيدة ولا يكون على حسابها، أما أن يصل الأمر إلى حد التهاون في العقيدة، وصرفها إلى غير الله عز وجل فذلك ما يرفضه المؤمن ولو علقت له المشانق، وذلك ما فعله جعفر وأصحابه.

إن السجود لغير الله انحراف في العقيدة يؤدي إلى الكفر، ومظهر من مظاهر الضعف النفسي لا يفعله إلا جبان خوار، ولهذا رفض المهاجرون أن يسجدوا للنجاشي، ولو أدى ذلك إلى طردهم من مأمنهم وإخراجهم يسيحون في الأرض على غير هدى.

ولقد كان ذلك الموقف الجريء من جماعة المهاجرين الذين يعيشون في غير بلادهم مهددين في كل لحظة بالطرد والإبعاد عن أرض وجدوا فيها طمأنينة قلوبهم والأمان على دينهم؛ من أهم الأسباب التي جعلت النجاشي يقف على حقيقة صدقهم، ويعتز بوجودهم في بلاده، ويمنحهم الأمان ما داموا في جواره.

وأدرك جعفر الداعية الأريب أنه في موقف حرج، وأن الأمر يتطلب إعطاء الملك حقه من الاحترام والتقدير، وإن الحاجة إلى إقناع الملك بسلامة موقفهم أهم من الدخول في مناقشة مع الخصم اللدود؛ فقال: إنك ملك لا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي [50] .

وطلب النجاشي أن يسمع من كلا الطرفين حتى يقف على حقيقة الأمر، وهنا قال عمرو بن العاص لجعفر: تكلم.

فالتفت جعفر إلى النجاشي وقال: سله أعبيد نحن أم أحرار؟ فإن كنا عبيدا فقد أبقنا من موالينا فارددنا عليهم.

فقال عمرو: بل أحرار كرام.

قال جعفر: هل أرقنا دما بغير حق فيقتص منا؟

قال عمرو: ولا قطرة.

قال جعفر: فهل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟

قال عمرو: ولا قيراط.

ص: 498

وهنا تبين الأمر للنجاشي، وآمن بسلامة موقف المهاجرين، إن هذه الأمور التي ثبتت براءتهم منها هي التي من أجلها يطلب المرء؛ فإذا لم يكن هناك شيء من ذلك فعلام يلح هؤلاء في طلبهم؟

وهنا قال النجاشي لابن العاص: فما تطلبون منهم؟

وسقط في يد عمرو، فلم يستطع إدانتهم بشيء من ذلك حتى يسلمهم الملك إليه، ولكنه قال: كنا وهم على دين واحد، فتركوا ذلك واتبعوا غيره.

وتطلعت نفس النجاشي لمعرفة الدين الجديد، فقال لجعفر: ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من الملل؟

وحانت الفرصة للداعية اللبق فانتهزها، ونحن قد لاحظنا أن جعفر رضي الله عنه حتى هذه اللحظات لم يتكلم كلمة واحدة عن الإسلام، ولعله ترك الكلام عن الدعوة حتى تحين الفرصة وتتهيأ النفوس للتلقي، فيكون شوقها إلى الاستماع أعظم، وتقبلها لما يلقى عليها أكثر.

ولعل النجاشي نفسه - وقد طال بين يديه الأخذ والرد والقيل والقال دون أن يسمع شيئا عن الدين الجديد - قد شغف بأمر هذا الدين، وتاقت نفسه ليعرف شيئا عنه، فسال جعفر هذا السؤال، ولم يتردد جعفر في الإجابة، وكأنه أدرك لهفة النجاشي وتعلقه بمعرفة الدين، فأسهب في الإجابة والنجاشي منصت يستمع إليه، وذكر جعفر كل ما كانوا يفعلون في الجاهلية من أعمال سيئة، وقفّى عليها بتعاليم الدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن الله أنقذهم مما كانوا فيه ببعثة المصطفى الذي دلهم على الخير وحذرهم من الشر، وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وحثهم على مكارم الأخلاق ومحامد العادات.

ص: 499

وركز جعفر على إبراز التوحيد؛ لأنه أساس العقيدة التي جاء الإسلام لينشرها في العالمين، ولأن أي دين لا يقوم على أساسها فهو باطل لا يغني عن صاحبه شيئا، ثم التفت جعفر إلى النجاشي وكأنه يريد أن يستعديه على هؤلاء الذين يلاحقونهم؛ فقال: فلما صدقنا النبي وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده، ولم نشرك به شيئا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، عدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان؛ فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك! [51] .

واشتاق النجاشي بعد هذا الحديث الطلي عن الدين الجديد لأن يسمع شيئا من الوحي الذي أنزل على نبي هذا الدين، فقال لجعفر:

هل معك مما جاء به عن الله شيء؟.

فقال جعفر: نعم.

فقال النجاشي: فاقرأه علي!

فقرأ جعفر {كهيعص} صدرا من سورة مريم.

فلما سمعه النجاشي بكى وبكت أساقفته، ثم قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة.

ونظر النجاشي إلى عمرو وصاحبه، وطردهما من مجلسه، وأمر برد ما حملا إليه من الهدايا، وقال: انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون.

وحز في نفس عمرو أن يطرد من مجلس الملك هذه الطردة، وكبر عليه أن يعود بهذه النتيجة المؤسفة، وكيف يرجع إلى قومه دون أن يحقق لهم ما أرادوا وهم لم يختاروه إلا لإيمانهم بأنه الشخصية العبقرية القادرة على تحقيق تلك المكيدة، إن عودة عمرو دون أن يكون معه المهاجرون من المسلمين خيبة أمل في دهائه، وحكم بالفشل على عبقريته، وقضاء على منزلته بين قومه.

وفكر عمرو كثيرا في الأمر، وهداه تفكيره إلى مكيدة لم يجربها بعد، فعزم على تنفيذها، وقال: والله لآتينهم غدا بما استأصل به خضراءهم [52] .

ص: 500