الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 50-51
فهرس المحتويات
1-
كلمة التحرير - أمتنا المسلمة: بقلم الشيخ سعد ندا
2-
أداء الأمانات والحكم بالعدل: لفضيلة الشيخ أبو بكر الجزائري
3-
من مظاهر البلاغة القرآنية قوة الحجة ووضوحها: الدكتور علي محمد حسن العمّاري
4-
إزالة الشبهة عن حديث التربة: فضيلة الشيخ عبد القادر السّندي
5-
مسلك القرآن الكريم في إثبَات البعث: د. علي بن محمد بن جبر الفقيهي
6-
مفهوم الأسماء والصفات (الحلقة الخامسة) : بقلم الشيخ سعد ندا
7-
البدع وأثرها في انحراف التصور الإسلامي: الشيخ صالح سعد السحيمي
8-
رخصة الفطر في سفر رمضان وَمَما يَتَرَتب عَلَيهَا مِن الآثارِ (الحلقة الثانية) : للدكتور أحمد طه الريان
9-
الحدود في الإسلام: للدكتور جمعة علي الخولي
10-
الرَّق في الجَاهليّة والإسلام: للشيخ إبراهيم محمد الحسن الجمل
11-
دراسات في أصول الفقه: للدكتور علي أحمد بابكر
12-
القرآن الكريم بين الدراسة والتطبيق: للشيخ محمد الراوي
13-
التربية الإسلامية للشباب: للدكتور عبد الرحمن بله علي
14-
خصائص ومقومات الاقتصاد الإسلامي: للشيخ محمد إبراهيم برناوي
15-
أساليب الدعوة إلى الله تعالى في القرآن الكريم (الحلقة الثانية) : لفضيلة الدكتور أبو المجد سيد نوفل
16-
حقوق الإنسان في الإسلام (الحلقة الثالثة) : بقلم الشيخ: عبد الفتاح عشماوي
17-
أثر الحضارة الإسلامية في الحضارة الأوروبية: د/ جاد أحمد رمضان
18-
كتاب في رؤية الله تبارك وتعالى: تأليف أبي عبد الرحمن بن عمر بن محمد، تحقيق وتخريج الشيخ محفوظ الرحمن بن زيد الله السلفي
19-
رسائل لم يحملها البريد: فضيلة الشيخ عبد الرؤوف اللبدي
20-
بحث في صيغة (أفعل) وبين نحويين واللغويين واستعمالاتها في العربية (الحلقة الثالثة) : لفضيلة الشيخ مصطفى أحمد النماس
21-
حداثة الشعر العربي (الحلقة الثانية) : الدكتور عبد الباسط بدر
22-
برهان الحق في الخلق (1) : د/ عز الدين علي السيد
23-
شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن: للشيخ يوسف الهمزاني الشافعي
24-
عبر وعبرات: للشيخ محمد مجذوب
25-
المشارق والمغارب: فضيلة الشيخ عبد الله بن أحمد قادري
26-
ردود ومناقشات يوم عاشوراء: بقلم: الدكتور نايف الدعيس
27-
من فتاوى الجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
28-
القلب: لفضيلة الشيخ سعد ندا
29-
حاسة السمع: للدكتور فكري السيد عوض
30-
مختارات من الصحف
31-
من أعماق الكتب
32-
أخبار الجامعة
عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م
كلمة التحرير
أمتنا المسلمة
بقلم: سعد ندا (مدير التحرير)
أمتنا المسلمة هي خير أمة أخرجت للناس، كما يقول تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} (آل عمران) . ذلك لأنها تميزت بصفات لم تبلغها أمة لم تنعم بنعمة الإسلام.
وأمتنا المسلمة ينضوي تحت لوائها أفراد يسيرون مساراً واحداً لا عوج فيه، كما أمرهم ربهم سبحانه {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِه} (الأنعام)، وذلك ابتغاء بلغ مرامهم الأسمى المشار إليه في قوله تعالى:{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف) . وهؤلاء الأفراد المتجانسون يكونون مجتمعا له شخصيته الفريدة، الفذة، القوية، العابدة المؤمنة، التقية، التي تجعله دائما في صدارة المجتمعات.
يقول تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء) .
وأمتنا المسلمة تنتظم أفراداً كل منهم لبنة فى صرحها الشامخ إذا صلحوا صلحت الأمة، وإذا فسدوا فسدت الأمة.
الإسلام يجعل الإصلاح النفسي للفرد هو الدعامة الأولى لصلاحه واستقامة أمره في الحياة الدنيا والآخرة. وهو في سبيل تحقيق ذلك ينظر إلى الفرد من ناحيتين:
الناحية الأولى: أن فيه فطرة طيبة تميل إلى الخير، وشرح بإدراكه، وتأسى للشر وتحزن بارتكابه.
والناحية الثانية: أن فيه نزغات طائشة، وطبائع شريرة، تنحرف به عن سواء السبيل.
ومصير الإنسان في دنياه وآخرته مرتبط بالناحية التي تكون لها الغلبة عليه.
إلى هذا يشير قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (الشمس) .
والإسلام يهتم بفطرة الإنسان اهتماما بالغا من جهة، فيدعمها، ويدعو إلى المحافظة على طهرها، ونقائها وتخليصها مما عسى أن يكون قد لا بسها من أخلاط وشوائب، كما أمر تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم) .
ومن جهة أخرى يحذر الإسلام من الاستسلام لنزغات الشياطين التي أشار إلى بعضها قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} (آل عمران) . وكما أشار قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (يشيبُ أبن آدم ويشيبُ معه خصلتان: الحرصُ، وطول الأمل)(مسلم) .
والإسلام- فوق ذلك كله- يرى أن نزغات الشر تلح على النفوس إلحاحا مستمرا لتوهن من عزماتها وتجذبها لتلقى بها في ساحات الهوى. وبؤر الضلال، لاستمتاع الفاني. والزاد الهباء، وتزيين التشبث بهذه الحياة العاجلة.
والإسلام - من أجل ذلك كله- ربط النفوس بعبادات من شأنها أن تتكرر بين أوقات قريبة متلاحقة لتكون صقلا لها، وغرسا لمبادئ البر فيها غرساَ سليماَ تثمر به وتؤتي أكلها طيبةً بإذن ربها. وبهذا يكون الفرد المسلم شخصية مسلمةً حقاً لها قدر ووزنها عند اللِّه، ثم عند الناس. ومن ثم تصلح نواةَ للأمة المسلمة التي فضلها الله تعالى على أمم العالمين.
من هذا المنطلق. أدعو كل مسلم أن ينظر في نفسه. ويراجع أحوالها، ليرى: هل يصلح بها أن يكون نواةَ للأمَّة المسلمة؟ فإن وجدها كذلك، فليحمد الله تبارك وتعالى، وليسأله الثبات، والمزيد من الخير، وإن وجدها غير ذلك، فَلْيَرْعَوِ، ولْيَحْزمْ أحوالها، ولْيَسْتَقمْ بها على أمر الله، إذ أن المسلمين أشد ما يكونون اليوم حاجة إلى لَبنات قوية صالحة، تشيد بناء أمتهم، وترسخ دعائمه، وتعلى صرحه، لتدك معاقل أعداء الله: من صهاينة غادرين، وصليبيين حاقدين، وشيوعيين ملحدين، واشتراكيين ماركسيين، وأَعوان هؤلاء وأولئك في أي صورة، وفي أي مكان، حتى تقرّ أعيننا بأمتنا المسلمة الواحدة التي تكون لها الهيمنة والصدارة على مدى الزمان.
أسأل الله تعالى أن يعجل بتحقيق ذلك، إن عليه وحده قصد السبيل، وإن عليه وحده التكلان. وصلى الله وسلم وبارك على عبده رسوله الكريم محمد وعلى أله وصحبه
…
سعد ندا
الرَّق في الجَاهليّة والإسلام
للشيخ إبراهيم محمد الحسن الجمل
مدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة
معنى الرقي ونشأته:
الرق في اللغة: العبودية، وسمى العبيد رقيقا، لأنهم يرقون لمالكهم، ويذلون ويخضعون، والرقيق هو المملوك.
وقيل: الرق في اللغة: الضعف ومنه رقة القلب [1] وهو نظام اجتماعي معروف بين الشعوب القديمة، واستمر قائما حتى أخريات القرن التاسع عشر، وكان يعتبر بين تلك الشعوب نظاما مشروعا تحميه قوانين الدولة [2] . وعرف أيضا بأنه حرمان الشخص من حريته الطبيعية، وصيرورته ملكا لغيره [3] ، وهذا ما كان مصطلحا عليه عند الأمم القديمة.
ولقد عرف الرق من قديم، وكانت الحرب بادئ الأمر عاملا على نشأة الرق. وذلك أن القوي حينما كان يظهر بالضعيف يقتله، ولا يقبل بغير القتل بديلا، وكان الناس في ذلك الوقت يعملون لأنفسهم فكان الرجال يقومون بالصيد والحروب وكان النساء والأبناء يقومون بغير ذلك من الأعمال.
وحينما اتجه الإنسان إلى الزراعة، كان في حاجة إلى العناية بالأرض عناية تتكرر كل يوم، وإلى تنظيم العمل، كما أنه كان مع حاجة إلى من يساعده، وهذه المساعدة كانت تعتمد في النهاية على القوة والإرغام، وحدوث التعاون بين الناس، انتهى إلى استخدام الضعفاء بواسطة الأقوياء ثم فكر القوى الظافر في القتال أن الأسير الذي يقتله يمكن أن يبقيه حيا. فيستخدمه في زراعة الأرض. وبهذا قلت المجاور وقل أكل الناس لحوم بعضهم بعضا. وحين أمتنع الإنسان المنتصر عن قتل المغلوب اعتبر هذا تقدما عظيما للإنسان من حيث الأخلاق، حين أقلع عن قتل زميله أو أكله واكتفى من أعدائه باسترقاقهم، وإعمالهم في الأرض وفي الزراعة [4] ثم انتقل استرقاق الغير من الزراعة إلى الصناعة، حتى إذا زادت الثروة، ومال الأغنياء إلى الدعة والراحة، واستغلال الآخرين في ذلك جعل الناس ينظرون إليه كأنه نظام فطري لا غنى عنه.
وكانت الجماعات البدائية لا ترى فارقا بين الحر والعبد، ولا تجد رقا ولا طبقات، ولا تدرك من الفوارق بين الرئيس وتابعيه إلا قدرا ضئيلا وبالتدريج، أخذ تقسيم العمل. وما يقتضيه الاختلاف بين الناس، يستبدل شيئا فشيئا المساواة بقليل من التحكم الذي زاد على مرور الأيام، ثم لما ازدادت الآلات والصناعات تعقدا، عمل ذلك على إخضاع الضعيف لمشيئة القوى، وكلما ظهر سلاح جديد في أيدي الأقوياء زاد من سلطانهم على الضعفاء واستغلالهم إياهم.
ثم عمل نظام التوريث على اتساع الهوة بأن أضاف إلى الامتياز في الفرص السانحة امتيازا في الأملاك.
وقسمت المجتمعات التي كانت يوما متجانسة إلى عدد لا يحصى من طبقات وأوساط، وأحس الأغنياء والفقراء بغناهم أو فقرهم إحساسا يؤدى إلى التشاحن، وأخذت حرب الطبقات تسرب خلال التاريخ حتى انتهت إلى وجود طبقة من الناس تُستخدم وكأنها آلة تتحرك بغير إرادتها يحركها الغير، وكأنها دمية توجه حسب ما يريد لها سيدها [5] .
ولم يستطع الفلاسفة القدامى أن يغيروا شيئا من الواقع، وإنما زادوه تثبيتا، وكأنما هذا الصنف من الناس إنما خلق بغير إرادة ولا حول ولا قوة، فأفلاطون يقضي في جمهوريته الفاضلة بحرمان الرقيق حق المواطنة وإجبارهم على الطاعة والخضوع للأحرار من ساداتهم أو من السادة الغرباء، ومن تطاول منهم على سيد غريب أسلمته الدولة إليه ليقتصَّ منه كما يريد.
ومذهب أرسطو في الرق أن فريقا من الناس مخلوقين للعبودية؛ لأنهم يعملون عمل الآلات التي يتصرف فيها الأحرار ذوو الفكر والمشيئة، فهم آلات حية تُلحق في عملها بالآلات الجامدة. ويحمد من السادة الذين يستخدمون تلك الآلات الحية أن يتوسموا فيها القدرة على الاستقلال والتمييز فيشجعوها ويرتقوا بها من منزلة الأداة المسخرة إلى منزلة الكائن العاقل الرشيد [6] .
الرق قبل الإسلام
كان الرق من دعائم المجتمع عند قدماء المصريين، وكانوا يتخذون الإماء للخدمة، وللزينة. ولمظاهر الأبهة، فكانوا بقصور الملوك، وبيوت الكهان والأعيان، وهم إن كانوا يسيئون معاملة رقيق الخدمة، بحيث يعتبرونهم كآلة صماء، فإنّ رقيق الزينة على العكس. فقد كانوا يلقون معاملة حسنة كما يدل على ذلك قول العزيز لامرأته في حق يوسف عليه السلام. {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} (يوسف آية1 3)
ولقد أباح العبرانيون الرق، وذكر في التوراة في مواضع [7]، وكان الرق عندهم نوعين: استرقاق الأفراد لارتكاب خطيئة محظورة، واسترقاق غير اليهود في الحروب [8] . وكذلك أباحته المسيحية، وأمر بولس مدعي الرسالة العبيد بطاعة سادتهم كما يطيعون السيد المسيح. فقال في رسالته إلى أهل أفسس:
"أيها العبيد! أطيعوا سادتكم حسب الجسد، بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما للمسيح، ولا بخدمة العين كمن يرضى الناس، بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله من القلب خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس عالمين، أنه مهما عمل واحد من الخير فذلك يناله من الرب عبدا كان أم حرا".
وأوصى مدعى الرسالة بطرس بمثل هذه الوصية، وأوصاها آباء الكنيسة، لأن الرق كفارة من ذنوب البشر يؤديها العبيد لما استحقوا من غضب السيد الأعظم [9] .
ونص في الإنجيل على أن الناس كلهم إخوان، ولكنه لم ينص على منع الاسترقاق، لذلك أقرته جميع الكنائس على اختلاف أنواعها ولم ترفيه أقل حرج.
ولم ير من جاء من باباوات النصارى ولا قديسيهم حرجا من إقرار الرق حتى قال باسيليوس، في كتابه القواعد الأدبية، بعد أن أورد ما جاء في رسالة بولس إلى أهل افسس:"هذا يدل على أن العبد تجب عليه طاعة مواليه تعظيما لله عز وجل"إن الطبيعة (هكذا قول بولس) قضت على بعض الناس بأن يكونوا أرقاء، واستشهد على نظريته (كما يرى هو أي بولس) بالشريعة الطبيعية والشريعتين الوضعية والإلهية.
وقال القسيس المشهور بوسويت الفرنسي: "إن من حق المحارب المنتصر قتل المقهور فإن استعبده واسترقه فذلك مِنهُ مِنّةٌ وفضل ورحمة".
وقد بقى الاسترقاق معتبرا من الأمور المشروعة لدى المسيحيين؛ فقد جاء في دائرة معارف لاروس أن رجال الدين الرسميين يقرون صحة الاسترقاق ويسلمون بشرعيته [10] .
وإذا كانت الأديان التي سبقت الإسلام، قد أباحت الرق، فإن جميع الأمم المعروفة لنا في القديم قد أباحته كذلك.
ففي الهند قسمت الشرائع البرهمية القديمة الأشخاص الملزمين بالخدمة إلى قسمين وهما الخادمون والأرقاء، فالأعمال الطاهرة من خصائص الخادمين، والأعمال النجسة على عواتق الأرقاء [11] .
وكانت الشريعة الهندية تقضى على أن الرقيق لم يُخلَق إلا لخدمة البرهمي- وهم الطبقة المقدسة عندهم- فكانوا يتخذون الرقيق من إحدى طبقات المجتمع التي تعتبر صفة العبودية لازمة لها حتى لو تخل السيد عن عبده فإنه يبقى رقيقا لا يصلح أن يتمتع بحريته كغيره من الناس، وكانت القوانين عندهم تقضى بقتل العبد لأقل هفوة يرتكبها، أما التنكيل به والانتقام منه بسائر الوسائل الوحشية فحدث ولا حرج [12]
وكان الرق عند الفرس بدولتهم العظيمة التي امتدت في حدود آسيا المعروفة كثيرة، فكان الأرقاء الرعاة، والأرقاء المختصون بحاجات الزينة والثروة واليسار، ومنهم من خُصص لعمل القبائح المنكرة التي قضت بها خرافات القوم.
قال هيرودت: "ولا يجوز لأي قاس أن يعاقب عبده على ذنب واحد اقترفه بعقاب بالغ في الشدة والصرامة لكن إذا عاد العبد لارتكاب هذا الذنب بعدما أصابه من العقاب. فَلِمَولَاه حينئذ أن يعدمه الحياة أو أن يعاقبه بجميع ما يتصور من أنواع العذاب"[13] .
ولعل الصين كانت في القديم من أكثر الدول اعتدَالا في معاملة رقيقها، فكان يستخدم للمنفعة العامة، وكانوا يجلبون الرقيق من الخارج بواسطة الحروب والأسلاب، أو يأخذونهم من البلاد بسبب الفقر والحاجة، لأن الفقير كان يضطر لبيع نفسه أو لبيع أولاده، وكان الاسترقاق في تلك البلاد قليل الشدة والصعوبة؛ لأن الشرائع والعرف والأخلاق كانت تساعد على تلطيف حاله. وقد ورد في أثارهم:
"إن الإنسان هو أفضل وأشرف المخلوقات التي في السماء والتي على الأرض، فمن قتل رقيقه فليس له من سبيل في إخفاء جرمه، ومن أخذت به الجرأة فكوى رقيقه بالنار، حُوكِم على ذلك بمقتضى الشريعة، ومن كواه سيده بالنار دخل في عدد الوطنيين الأحرار"[14] .
وإذا تركنا آسيا وانتقلنا إلى أوربا لم يكن حال الرقيق بأحسن مما كان عليه الحال في بلاد فارس أو الهند.
فلقد كان المجتمع اليوناني المقسم إلى سادة وعبيد يبالغ في احتقار العبيد على الرغم من استخدامهم في سائر المرافق، وكانوا يعتقدون أن الأرقاء إنما خلقوا لخدمة السادة والأمراء، وكانوا يعتبرونهم جزءاً من الأرض يباعون ويشترون، وكان المورد الأساسي للعبيد عندهم الأسر في الحروب، وأهل البلاد المغلوبة التي يعملون فيها، وكانت القرصنة هي المورد الثاني للعبيد.
وعندما نشطت تجارة الرقيق في أثينا لم تقف مطامع النخاسين عند حد، وصار القرصان اليونانيون يخطفون المسافرين، والسكان الآمنين في الشواطئ الأفريقية والأوربية ويبيعونهم للناس في الأسواق من غير خجل ولا تكبر [15] .
وكان حق المولى على عبده أنه جزء من أملاكه وأمتعته، فله رهنه أو بيعه، والتصرف فيه كما يشتهى لا يمنعه مانع [16] .
ولم يكن الحال عند الرومان بأقل مما كان عليه غيرهم من حيث استخدامهم في الأعمال الجسمانية، ومساواتهم بالأمتعة والفرش، فكانوا يباعون بالمزاد. وكانوا يوقفون على مكان عال بحيث يتيسر لكل واحد أن يراهم ويمسهم بيده، ولو لم يكن له نية في شرائه. أحيانا كانوا يشاهدون كيوم ولدتهم أمهاتهم، وكان الرق في نظرهم نتيجة الأسر والسبي، أو الميلاد، أو الدين أو الفرار من الجيش [17] . ومن العجيب أن الدولة كانت تسترق بعض الأفراد بسلطة القانون مثل أن يمتنع الشخص من أداء الضريبة، أو بعيب عندما يطلب منه الحضور، فيمتنع فيصبح حينئذ في عداد الأرقاء. وكذلك كان المجرمون والثوار يسترقون للدولة، أما الملحدون في الدين فكانوا يسترقون للمعاد.
وكان الإسبرطيون يكَروُن العبيد لمن يرغب في ذلك، ويشغلونهم في الحروب والقتال زيادة في الخدمة، وفلاحة الأراضي وحراستها وغير ذلك من أنواع العمل الشاق.
وكانت القرون الوسطى مسرحا للاسترقاق. وتكاد كلها تتشابه مع الرومان.
ويعتبر الرقيق كجزء من متاع البيت فهو بمنزلة الفرس والثور، وغيرهما من الحيوانات المستخدمة الأهلية، فكان المولى في شرعهم يتصرف بعبده كما يتصرف بما عنده من الأشياء ذات القيمة، وكان لا يجوز له قتله لأنه شيء من الأشياء التي تملكها يمينه، ولم يختلف الاسترقاق عن سابقه عند الغاليين وهم السكان المعروفون في فرنسا وأمام جبال الألب في إيطاليا الشمالية. وأقاليم الغاليا في الجزر البريطانية وإسبانيا وكذلك سكان جرمانيا- ألمانيا- فكانوا يحتكمونهم بطريقة الشراء أو الميراث، وكانوا يكلفون بخدمة المنازل، وكان الولي يفرض عليه مقدارا من القمح أو الماشية أو الملابس كأنه من مؤاجريه، وكان سكان نَهر الرين الأسفل إذا تزوج أحد الأهالي برقيقة أجنبية وقع في الرق والاستعباد. وكذلك المرأة الحرة التي تتزوج برقيق تفقد حريتها، وينالها العقاب.
وكان عند القوط أن المرأة الحرة إذا تزوجت برقيقها، كانت عقوبتها أن تحرق هي وإياه وهما على قيد الحياة، وإذا كانت لا تمتلك العبد يفسخ النكاح، ويجلد كل منهما بالسياط، ولكن التصرف في العبد بالموت، كان يلجأ السيد إلى القاضي، ليحكم حكمه، ثم يسلمه لسيده ليفعل به ما يريد، وكانت قبائل الويز يغوط تشدد النكير في مسألة تزواج الأحرار بالأرقاء، حتى نص القانون على أن المرأة الحرة إذا تزوجت بعبدها فعقابها أن تحرق هي وهو حيين، وكذلك كانت قبائل الاستورغوط، فقد كانوا يقتلون المرأة التي تتزوج بعبد [18] .
وكان الأنجلو ساكسون يقسمون الرقيق إلى نوعين هما الرقيق المشبهون بالمنقولات والمشبهون بالعقارات، فالصنف الأول يجوز بيعهم أما الآخرون فكانوا لا ينفكون عن الأرض يقومون بحراثتها وزراعتها [19] .
من هذا يتبين أن الأرقاء لم يكن لهم أي تصرف في أنفسهم، ولا أمل لهم في حياة إنسانية أو شبه إنسانية.
وكانت تجارة الرقيق نشطة في أسواق أوربا، ومواني جنوة والبندقية وليفورن في إيطاليا، تعج بالمراكب التي تحمل أبناء السود من الجنسين المخطوفين من إفريقيا، وبعض دول آسيا، وكان أكثر القائمين على هذه التجارة من اليهود.
ولم يكن الحال في أمريكا بأقل منه في الدنيا القديمة، فلقد كانت بواخرها تنتقل بين شاطئ أفريقية وبين أمريكا حاملة الألوف من أهل إفريقية للاتجار، وللزراعة، وكانت حالتهم شبيهة بحال إخوانهم في الدنيا القديمة، فهم بين العمل، والاحتقار، والمهانة فكان على غاية الشدة والقسوة، وكان مقتضى القانون الأسود أن الحرّ إذا تزوج بأمة صار غير جدير بأن يشغل وظيفة في المستعمرات.
وكانت القوانين تصرح بأن للسيد كل حق على عبده حتى حق الاستحياء والإماته. وكَان يجوز للمالك رهن عبده، وإجارته، والمغامرة عليه وبيعه، كأنه بهيمة وكان لا حق للأسود أن يخرج من الغيط، ويطوف بشوارع المدن إلا بتصريح قانوني، ولكن إذا اتفق واجتمع في شارع واحدٍ أكثر من سبعة من الأرقاء ولو بتصريح قانوني، كان لكل أبيض إلقاء القبض عليهم وجلدهم، وقد صرح قانونهم على أن ليس للعبد روح ولا عقل وأن حياتهم محصورة في أذرعهم [20] .
ولقد بدأ إلغاء الرق في أمريكا في منتصف القرن الثامن عشر، وفي سنة 1788م نشبت الحروب بين الولايات الشمالية والجنوبية من أجل إعلان حرية العبيد، ولم يتحقق إلا سنة 1865م بعد انتصار الشماليين على الجنوبيين وقد ظلت التفرقة العنصرية شائعة سنوات عديدة، ولم يكن من الممكن أن يدخل العبيد في الأماكن التي فيها الأسياد ولا أن يركبوا مراكبهم، وكثيرا ما كان البيض يثورون ضدهم، ويشبعونهم ضربا وتقتيلا، وكان القانون دائما في صف البيض.
ومع مرور الأيام بدأ يخف هذا النمط من المعاملة حتى أخذ العبيد أو السود كما يسمونهم شيئا من المشاركة في الحياة العامة.
ولقد بقي الرق على شرعيته عند غير المسلمين إلى أن قررت الثورة الفرنسية إلغاءه سنة 1779 م ومع ذلك فإن عامة البلاد الأوربية والأمريكية ظلت تمارسه إلى نهاية القرن التاسع عشر؛ أي بعد الثورة الفرنسية التي أعلنت مبادئ الحرية والمساواة بين الناس بما يزيد على قرن كامل من الزمن.
وكان الرق في الجزيرة العربية لا يختلف كثيرا عما كان عليه في الأمم الأخرى. وكانت الحروب الدعامة الكبرى للرق، فعندما تقوم الحرب. ويأسر الغالب المغلوب يأخذه أسيرا عنده. وأيضا كان الرق نتيجة للثراء بعد أن يخطف الرقيق؛ فلقد خطف زيد بن حارثة وهو صغير في أثناء لعبه بعيدا عن أمه وهو عند أخواله، ثم بيع في إحدى الأسواق القريبة من مكة واشتراه حكيم بن حزام ابن أخي السيدة خديجة بنت خويلد، ثم أهداه حكيم إلى عمته ولما رأت رضى الله عنها رغبة زوجها الأمين محمد بن عبد الله قبل البعثة أن يلازمه فيقوم بخدمته، قدمته إليه هدية فلزم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة وبعدها.
وكانت تجارة الرقيق من أهم موارد الثروة عند أهل مكة في الجاهلية ومن أشهر تجار الرقيق عبد الله بن جدعان. وكان ذا تجارة واسعة في الرقيق.
ولقد حرم الأرقاء في الجاهلية من كافة الحقوق المدنية، ومن التصرف في شئونهم الخاصة وغالبا ما كنوا يطلقون كلمة السبايا على النساء خاصة وفي ذلك يقول الشاعر:
فعادوا بالغنائم حافلات
وعدنا بالأسارى والسبايا [21]
وكان العبد أحيانا ينال حريته؛ وذلك إذا أظهر شجاعة فائقة في الحروب والقتال ضد من يعتدي على سيده وعلى قبيلته، ويحفظ لنا التاريخ قصة عنترة المشهورة وعتق وليه وأبوه له، وجعله حُرًّا يتصرف تصرف الأحرار بعد أن كان عبدا يرعى الغنم، وأيضا فقد يكون الإخلاص الشديد سببا في العتق.
ومهما يكنا من وجود طريق إلى حرية الرقيق فقد كانت قليلة بل نادرة، وكانت معاملة الرقيق لا تضرج عما كان متبعا في الدول الأخرى.
الرق في الإسلام
جاء الإسلام والعالم تتحكم فيه قوتان كبيرتان هما الفرس في أسيا والروم في أوربا، والفوارق الطبقية بلغت مداها، وما يزال الرق منتشرا، والرقيق يعاملون وكأنهم جزء من المتاع لا يملكون من أنفسهم شيئا.
جاء الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية بشريعة رب العالمين، فيها سعادة البشر في الدنيا والآخرة، ولم تكن دعوته لقوم دون قوم، أو لطائفة وحدها وإنما هي دعوة لجميع البشر، في أنحاء المعمورة لا تتقيد بمكان أو زمان إلى يوم القيامة:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (سورة سبأ 38) .
وأول ما دعا إليه الإسلام حفظ كرامة المسلم، وتحريره من كل القيود لا فرق بين أسود وأبيض أو غني وفقير أو حاكم ومحكوم، الكل أمام الله سواء.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} (سورة الحجرات 13) .
ومما يروى في سبب نزول هذه الآية: ما روي أنها نزلت في أبي هند، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوه امرأة منهم، فقالوا يا رسول الله ونزوج بناتنا موالينا فنزلت الآية.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود إلا بتقوى الله"[22] .
ولقد عامل الإسلام في أول عهده الرقيق الذين أسلموا- وما يزالون قريبين من العهد الجاهلي- أحسن معاملة، ولم يلغ ما سبق في الجاهلية حتى لا تفسد أمور الناس، وينشغلوا عن أصل الرسالة بأمور جانبية.
لقد عاملهم معاملة حسنة، وكان إسلامهم طريقا إلى التخلص من الرق بطريق مشروع؛ كأن يُشتَرى العبد المسلم من سيده ويعتق، كما حصل للعبد بلال بن رباح، فقد أسلم، ولكنه ما يزال عبدا لسيده أمية بن خلف الذي أذاق بلالاً كل أصناف التعذيب، فكان يتركه في حرارة الشمس القاتلة ساعات الظهيرة كي يرجع عن إسلامه، ولكنه كان قوي الإيمان فتحمل العذاب الأليم إلى أن جاء أبو بكر الصديق واشتراه وأعتقه.
ولقد وجد الرقيق في الإسلام عزا وكرامة، ووجدوا في أخوة الإسلام ما جعلهم يعيشون أحرارا، يرتقون بهذه الأخوة إلى أسمى الرتب ولنضرب لذلك مثلا بزيد بن حارثة وابنه أسامة الذي ولى قيادة جيش المسلمين، ولما يناهز الثامنة عشرة وقد ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، ونفذه كبار الصحابة بعد وفاته، ومشى أبو بكر الخليفة رضي الله عنه وهو راكبـ، وكان تحت قيادته الصحابة من أمثال عمر وعلى وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين
…
ولقد افتخر المسلمون بأن رابع الذين أسلموا كان زيد بن حارثة، فقد أسلم بعد السيدة خديجة زوج الرسول علية الصلاة والسلام وأبى بكر وعلى رضي الله عنهما.
الإسلام المنقذ
إن من حق الإسلام أن يترك ابتداء، فالإسلام ليس نحلة قوم، ولا نظام وطن، ولكنه منهج إله، ونظام عالم.. ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية الإنسان في الاختيار. وحسبه أنه يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته، إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة للفطرة، المقيدة لحرية الاختيار.
سيد قطب
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
لسان العرب لابن منظور جـ11 ص415.
[2]
دائرة المعارف الحديثة لأحمد عطية الله مادة "الرق)) .
[3]
قصة الحضارة تأليف ول ديورانت ترجمة د. زكي نجيب محمود جـ1 ص37.
[4]
المرجع السابق.
[5]
قصة الحضارة جـ1 ص38.
[6]
حقائق الإسلام وأباطيل وخصومه للعقاد ص210.
[7]
سفر التكوين 31-2-7 وسفر التثنية 21، 14، 24، 7
[8]
النظم الإسلامية د. حسن إبراهيم ص301.
[9]
حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص209.
[10]
دائرة معارف القرن العشرين لمحمد فريد وجدي جـ4 ص278 مادة رقق.
[11]
الرق في الإسلام لأحمد شفيق ص11.
[12]
دائرة معارف القرن العشرين جـ4 ص275 مادة رقق.
[13]
الرق في الإسلام لأحمد شفيق ص 18.
[14]
الرق في الإسلام لأحمد شفيق ص 18.
[15]
معجم لاروس مادة "رق))
[16]
النظم الإسلامية ص 301.
[17]
النظم الإسلامية ص 301.
[18]
دائرة معارف القرن العشرين جـ3 ص277.
[19]
الرق في الإسلام ص 32.
[20]
دائرة معارف القرن العشرين جـ3 ص 278.
[21]
النظم الإسلامية ص 301.
[22]
الترغيب والترهيب للمنذري جـ3 ص57.
دراسات في أصول الفقه
للدكتور علي أحمد بابكر
المساعد بكلية الشريعة بالجامعة الأستاذ
في الحلقة الأول من هذه الدراسة الأصولية والتي نشرناها في العدد 46 من هذه المجلة والتي دارت حول أهمية علم الأصولي وخصوبته، أشرنا إلى المضمون العام لهذا العلم، ولكن لابد لنا من بيان الحد الاصطلاحي له كما قرره العلماء، ثم مناقشة وتحليل ذلك حتى نخرج بفكرة واضحة لما أراده العلماء من حدهم الذي وضعوه في عبارات مختصرة ثم ننتقل بعد ذلك لعرض ودراسة مباحث علم الأصول الرئيسية، والتي أشرنا فيما مضى إلى أنها تطلب الاتصال بعلوم متعددة.،
حقيقة علم الأصول:
نلاحظ أن العلماء في تحديدهم لعلم الأصول، منذ أن ظهر هذا العلم منظماً ومكتوبًا، قد أوردوا تعريفات متعددة ومتنوعة في صياغتها، ونجد مناقشات تدور حول تلك التعريفات، ولعل هذا التنوع في التعريفات يرجع إلى أسباب نحاول توضيحها فيما يلي:
أولا: يميل بعض العلماء إلى الاختصار الشديد وتقديم أقصر العبارات لإعطاء معنى إجمالي لهذا العلم، بينما يميل البعض الآخر إلى أن تكون الكلمات التي يشتمل عليها التعريف متضمنة بارتياح لذلك المعنى. فيبدو للناظر أن بعض هذه التعريفات غير جامع لمعنى العلم وبعضا آخر غير مانع من دخول علوم أخرى في التعريف.
ومن هنا تتوجه بعض الملاحظات والانتقادات والمآخذ من العلماء على بعضهم.
ثانيا: من الأسباب التي يرجع إليها التنوع في تعريفات هذا العلم أن بعض الكلمات والعبارات التي تستخدم في التعريفات تلقى ظلالا، وتشير إلى معان زائدة والبعض الآخر من العبارات والكلمات لها معان محددة، فاستعمال الكلمات التي لها ظلال قد يؤدي إلى اختلاف في فهمها ومدى أدائها للمعنى المقصود. فيحدث بذلك اختلاف في الاعتداد بالتعريف أو عدم الاعتداد به.
انظر مثلا إلى تعريف الغزالي لهذا العلم حين يقول: "هو عبارة عن أدلة الأحكام، وعن معرفة وجوه دلالاتها على هذه الأحكام "[1] . فعبارة وجوه دلالاتها ضمّنها الغزالي القياس ووجوه الاجتهاد العقلي الأخرى. وهى عبارة قد تعطى ذلك المعنى الذي أراده الغزالي، وقد يرى غيره أنها لا تتسّع لتشمل كل ما أراده بها، وقد وردت مناقشات حول هذا التعريف، نوردها في مكانها عندما نعرض لهذا التعريف بتحليل أكثر.
ثالثا: من الأسباب التي يرجع إليها تنوع التعريفات للأصول أن بعض العلماء يعتبر أن الأصول هي المصادر التي تستقى منها الأحكام فحسب، والبعض الأخر يرى أن الأصول تشمل المصادر والقواعد الأصولية المختلفة والأبحاث التي إشتمل عليها العلم. ومن هنا يخرج بعضهم ما يدخله الآخرون في مضمون العلم فيحدث الاختلاف.
رابعاً: اختار العلماء ما يناسب عصورهم المختلفة من عبارات وألفاظ بحيث يسهل على أجيالهم فهم مضمون التعريف من غير كبير عناء. وللتحقق من هذا يمكن النظر في تعريفات بعض المعاصرين من الأصوليين ومقارنتها بالتعريفات القديمة؛ فالصياغة والأسلوب، يسببان اختلافا في صورة التعريف، وربما يوحيان باختلاف في المعنى.
هذه بعض الأسباب التي بدت لنا، والتي نظن أنها أدت إلى الاختلاف في تعريف علم الأصول في كتبه المختلفة على مرّ العصور. وربما كانت هنالك أسباب أخرى لم تبد لنا في هذه الساعة التي نكتب فيها هذا البحث.
وينبغي أن لا يفهم من ذكر هذه الأسباب -من إيضاح أن هنالك اختلاف في صورة التعريفات التي وردت في كتب الأصول- أن هذا الاختلاف هو اختلاف مخلّ بالمضمون، يؤدى إلى تعارض في المعنى، ولكن هذا الاختلاف ربما يحدث فرقا في توسيع المعنى أو تضييقه حسب ما سنرى بعد أن نعرض بعض نماذج من هذه التعريفات ونتعرض لتحليلها ومقارنتها.
بعد هذه الملاحظات التي أبديناها حول اختلاف تعريفات علم الأصول التي وردت في كتبه، نورد بعض هذه التعريفات ولا نستقصيها لتساعد في توضيح النقاط التي أثرناها في الفقرات السابقة، ثم نتوصل إلى تقرير أوضح حد لعلم الأصول. ونرجو أن لا يمل القارئ عرض هذه التعريفات التي سنوردها تباعا من غير تعليق، ثم نعقب عليها بتعليق مجمل يسهّل مقارنتها ويوصل إلى الخلاصة.
أول تعريف نورده هو التعريف الذي أورده أبو الحسين البصري [2] في كتابه المعتمد في الأصول، والذي كان شرحا لكتاب العمد في الأصول للقاضي عبد الجبار بن أحمد [3] بحسبان أن هذا الكتاب هو أقدم الكتب الأصولية بعد رسالة الإمام الشافعي ألف على طريقة الشافعية، وأن الإمام الشافعي في رسالته نثر مفهوم علم الأصول في عبارات مطولة ومشروحة خلال بيان مفهوم هذا العلم؛ فلخص أبو الحسين البصري هذا المفهوم في عبارات محددة، كما لخَّصها من بعده الإمام الغزالي في كتابه المستصغى في تعريف مشابه لتعريف أبي الحسين، كما سنورد ذلك.
يقول أبو الحسين البصري في تعريفه لعلم الأصول: "هو طرق الفقه على طريق الإجمال، وكيفية الاستدلال بها، وما يتبع كيفية الاستدلال بها"[4] .
وقد شرح أبو الحسين هذا التعريف الذي أورده بأنه أراد بطرق الفقه على وجه الإجمال: أن هذه الطرق غير معينة؛ مثل أن يتكلم الفقيه عن أن الأمر للوجوب والنهى للتحريم وكذلك إذا تكلم في مطلق الإجماع والقياس. فليس الحديث في هذه الأمور مثل الحديث في أدلة الفقه التفصيلية المعينة؛ مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" فهذا ينتمي إلى الفقه وليس لأصوله.
وشرح كيفية الاستدلال بأنها: الشروط والمقدمات وترتيبها الذي يستدل معه بالطرق على الفقه- أما ما يتبع كيفية الاستدلال فقد بينه بأنه الحديث عن المجتهدين.
وعند مقارنتنا للتعاريف التي سنوردها سندرك وجوه الاتفاق والاختلاف بينها، ووجوه التقارب.
وبما أننا أوردنا تعريفا قديما من تعريفات العلماء الذين كتبوا في الأصول على طريقة الشافعية، فينبغي أن نورد هنا أيضا تعريفاً من التعريفات القديمة التي أوردها العلماء الذين كتبوا في الأصول على طريقة الحنفية [5] ، وسنورد هنا التعريف الذي أورده البزدوي [6] ؛ لأن البزدوي من أهم العلماء الذين كتبوا في الأصول على هذه الطريقة، وقد اعتمد عليه المتأخرون من علماء المدرسة الحنفية في كتابتهم في أصول الفقه. على الرغم من أنه كان مسبوقا بعدد من علماء الأحناف الذين كتبوا في الأصول، وكان أسبقهم أبو الحسن الكرخي [7] الذي ألف رسالة في الأصول ذكر فيها الأصول التى عليها مدار فقه الأحناف. ولكنه لم يضع تعريفا محددا لعلم أصول الفقه كما وضعه البزدوي.
يقول البزدوي في تعريف هذا العلم: "اعلم أن أصول الشرع ثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع، والأصل الرابع القياس بالمعنى المستنبطة من هذه الأصول"[8] .
أما أبو حامد الغزالي الذي اتبع في تعريفه لشيخه إمام الحرمين [9] فيقول: "افهم أن أصول الفقه عبارة عن أدلة هذه الأحكام، وعن معرفة وجوه دلالاتها على الأحكام من حيث الجملة لا من حيث التفصيل"[10] .
وقد أورد ابن قدامة نفس هذا التعريف مع الاختصار قليلا حيث قال: "وأصول الفقه أدلته الدالة عليه من حيث الجملة لا من حيث التفصيل"[11] .
ونسبة لأن تعريف ابن الهمام يعطينا نموذجا مستقلا متميزا عما أوردنا من تعريفات فيستحسن أن نورده للاستفادة منه في تحليل هذه التعريفات. يقول ابن الهمام: "أصول الفقه هو القواعد التي يتوصل بمعرفتها إلى استنباط الفقه"[12] .
ونختم نماذج تعريفات القدماء بما أورده الإمام الشاطبي [13] في كتابه الموافقات من بيان يريد به توضيح معنى أصول الفقه، وهذا البيان الذي أورده يتناسب مع أسلوبه في الكتابة. ومع أنه أطول من التعريفات المعهودة، فسنورده كآخر نموذج من التعريفات القديمة، يقول الإمام الشاطبي:
"الأدلة الشرعية ضربان: أحدها ما يرجع إلى النقل المحض، والثاني ما لا يرجع إلى النقل المحض. وهذه القسمة بالنسبة إلى أصول الأدلة. وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر إلى الآخر. لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر. كما أن الرأي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل. فأما الضرب الأول فالكتاب والسنة- وأما الثاني فالقياس والاستدلال. ويلحق بكل واحد منهما وجوه إما باتفاق وإما باختلاف. فيلحق بالضرب- الأول الإجماع على أي وجه قيل به، ومذهب الصحابي، وشرع من قبلنا؛ لأن ذلك وما في معناه راجع إلى التعبد بأمر منقول صرف لا نظر فيه لأحد. ويلحق بالضرب الثاني الاستحسان، والمصالح المرسلة إن قلنا إنها راجعة إلى أمر نظري، وقد ترجع إلى الضرب الأول، إن شهدنا أنها راجعة إلى العمومات المعنوية- ثم نقول: إن الأدلة في أصلها محصورة في الضرب الأول. لأنا لم نثبت الضرب الثاني بالعقل وإنما أثبتناه بالأول- وإذا كان كذلك فالأول هو العمدة"[14] .
والآن نورد بعض نماذج من تعريفات المعاصرين لعلم أصول الفقه. فقد عرفه الشيخ الخضري بقوله: "أصول الفقه هو القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة".
وعرفه الشيخ عبد الوهاب خلاف بقوله: "هو العلم بالقواعد والبحوث التي يتوصل بها إلى استفادة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية"[15] .
ونختم نماذج التعريفات المعاصرة بالتعريف الذي أورده الشيخ أبو زهرة ونكتفي بذلك لتشابه التعريفات المعاصرة، بل يمكن أن نقول تطابقها حتما في الألفاظ، يقول الشيخ أبو زهرة:"أصول الفقه هو العلم بالقواعد التي ترسم المناهج لاستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية"[16] .
هذه نماذج من التعريفات التي أوردها العلماء على مر العصور لعلم الأصول- وهي تعريفات تمثل آراء العلماء في المدارك الفقهية المختلفة إلى حد، من القرن الثاني الهجري إلى عصرنا هذا.
وبإلقاء نظرة فاحصة على هذه التعريفات ومقارنتها، نخرج بملاحظات عامة، نخلص بعدها إلى نتيجة توضع ما إذا كان هذا الاختلاف فما شكل وصورة التعريفات يشكّل اختلافاً فما المضمون، والملاحظات العامة تتلخص فيما يلي:
الملاحظة الأولى هي: أن جميع هذه التعريفات تدور حوله ثلاثة أمور: فهي إما أن تشير إلى منابع الفقه ومصادره، أو تشير إلى القواعد المستخدمة لاستخراج الأحكام من هذه المنابع، أو تشير إلى الأمرين معاً.
الملاحظة الثانية هي: أننا بتتبع الكتب التي ألفت في الأصول، لم نجد اختلافا في وضع منابع الأصول ومصادرها ودراستها في بداية جميع هذه المؤلفات بلا استثناء- ثم تأتي بعد ذلك الأبحاث التي تتضمن القواعد المختلفة التي يتوصل بها إلى استخراج الأحكام.
الملاحظة الثالثة هي: أن المتأخرين تأثروا بالمتقدمين من حيث المذهبية، فجاءت صياغة التعريفات متماثلةً تقريباً بعين فقهاء المدرسة الواحدة. مثلا فقهاء المدرسة الشافعية ومن تبعهم تشابهت تعريفاتهم، وفقهاء المدرسة الحنفية تشابهت تعريفاتهم.
فالتعريفات التي أوردناها للمؤلفين المعاصرين كلها تأثرت بالتعريف الذي أورده صدر الشريعة الحنفي. وبما أننا لم نورد تعريفه في مضى فإننا نقول إن صدر الشريعة عرّف الأصول بقوله: "وعلم أصول الفقه: العلم بالقواعد التي يتوصل بها إليه [17] على وجه التحقيق"فانظر إلى التشابه بينه وبين التعريفات المعاصرة.
الملاحظة الرابعة هي: أن بعض الأصوليين يبدأ تعريفه بقوله: هو العلم بكذا. وبعضهم يحذف كلمة العلم -هذه- ويبدأ تعريفه بقوله: هو كذا. وطبعا العلم بالشيء ليس هو حقيقة الشيء. وربما تأثر بعض المعاصرين ببعض المتقدمين في ذكر هذه الكلمة في أول التعريف.
هذه بعض الملاحظات التي نلاحظها ونحن نقرأ تعريفات الصيغ المختلفة لتعريفات علم الأصول التي أوردها العلماء على مرّ العصور.
ومن ذلك نستطيع أن نقول: إن الذين أرادوا أن يقصروا التعريف على القواعد المتبعة لاستخراج الأحكام فقط بحيث لا يشمل المصادر نفسها قد حذفوا من التعريف ما لا يمكن إهماله. حتى هم -أنفسهم- لم يستطيعوا الاكتفاء بالقواعد فقط في كتاباتهم، بل بحثوا المصادر نفسها أولا، ثم بحثوا القواعد التي تتبع لاستخراج الأحكام من هذه المصادر. ولأن كلمة أصول نفسها أقرب إلى المصادر منها إلى أي شيء آخر.
أمّا الذين قصروا تعريفهم على المصادر فقط، فقد اعتبروا أن حديثهم عن المصدر كالقرآن مثلا يتضمن الحديث عن القواعد المتبعة لاستخراج الأحكام من القرآن، من تفسير مجمل أو تخصيص عام الخ وهذا أقرب فيما يبدو.
ولكن التعريف الأشمل فيما نرى هو الذي يشمل الطرفيين: المصادر والقواعد، ولعل التعريف الذي نقلناه عن الغزالي هو التعريف الشامل للطرفين.
ولعل هذه النتيجة التي توصلنا إليها هي التي توصل إليها التفتازاني [18] عندما كان يبحث في حقيقة علم الأصول قال: "ثم نظروا- أي العلماء- في تفاصيل تلك الأدلة- يشير إلى الأدلة الفقهية- فوجدوا أن الأدلة راجعة إلى الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. والأحكام راجعة إلى الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة وتأملوا في كيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام إجمالا، وبيان طرقه وشرائطه- أي الاستدلال- ليتوصل بكل من تلك القضايا إلى استنباط كثير من تلك الأحكام الجزئية عن أدلتها التفصيلية. فضبطوها ودونوها وأضافوا إليها من اللواحق والمتممات، وبيان الاختلافات ما يليق بها وسموا العلم بها أصول الفقه".
ولكن التفتازاني بعد وصوله إلى هذه النتيجة يعود فيقول: "فصارت- أي أصول. الفقه- عبارة عن العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه"[19] ولو قال: فصارت عبارة عن المصادر والقواعد الخ لكان التعريف مطابقا تماما لما سبقه من تفصيل.
لقد أطلنا في تحقيق معنى علم الأصول- ولكنا نظن أن هذا التحقيق ضروري لمعرفة النتيجة التي يسوق إليها اختلاف الصيغ التي وردت في تعريف حقيقة هذا العلم. والآن ننتقل إلى الحديث عن مباحث علم الأصول.
مباحث علم الأصول إجمالا:
من خلال تعريف وتحليل علم الأصول في الفقرات الماضية، نستطيع أن نلمح المباحث والمواضيع التي يتعرض لها ويبحثها العلماء في هذا العلم. ولكن لابد من عرض سريع به بعض التفصيل، يلقى ضوءاً على مباحث هذا العلم، ووجه بحثها فيه، وارتباط هذه المباحث ببعضها. كما يوضح هذا العرض علاقة بعض العلوم الفرعية بعلم الأصول مثل علم الخلاف [20] وقواعد الفقه العامة.
ولن نتعرض في هذا الفصل للعلوم التي أشرنا إليها من قبل في معرض حديثنا عن خصوبة علم الأصول، لأن تلك علوم مساعدة للتمكن من علم الأصول، وليست من المباحث الأساسية التي درج علماء الأصول على بحثها في كتبهم.
سنحاول ما أمكن إعطاء فكرة عن المباحث تقارب الصورة التي بسطها الأصوليون في تأليفاتهم مع محاولتنا تبويبها على وجه يتمشى مع ترابط وتسلسل تلك المباحث. وسيكون عرضنا لهذه المباحث إجماليا بحيث نذكر رأس المبحث ونعلق عليه تعليقاً خفيفا ونترك تفصيل المبحث إلى مكانه من العلم.
وعليه فربما يبدو عرضنا لمباحث علم الأصول مجملا جدا، وهو المقصود هنا لأن المطلوب هو التعريف الإجمالي بتلك المباحث.
بعض هذه المباحث التي سنتعرض لها هنا ربما تبدو غير مندرجة في مباحث هذا العلم، لأن العلماء ظلوا يبحثونها في كتب أخرى، لكنها- كما نرى- من المباحث التي يجب أن ترتبط بمباحث علم الأصول، مثل مبحث الثبات والمرونة في الشريعة.
ولابد من أن يتصدر المباحث المندرجة في علم مبحث نشأة علم الأصول، وتدرجه والكتابة فيه وأساليبها وأسسها مع أن العلماء بحثوا هذا الأمر ضمن تاريخ التشريع. لكن حين يكون هذا المبحث متصدرا لمباحث علم الأصول فإنه يساعد كثيرا على فهم العلم، وفهم أصول المذاهب المختلفة، وكيف تكونت. وبالطبع فإن مثل هذا المبحث يعده كثيرون مبحثاً تاريخياً ما كان ممكنا أن يتصدر كتب الأقدمين، خاصة الذين وضعوا اللبنات الأولى لهذا العلم مثل الإمام الشافعي؛ لأنهم كانوا يؤسسون علما لم يسبقهم عليه مؤلفون- أما اليوم فهناك رصيد من الماضي يمكن أن يكون تقديما مفيدا لمباحث علم الأصول.
وفيما يلي من الفقرات نعرض لهذه المباحث إجمالا كما أشرنا:
(1)
أوّل المباحث التي بحثها الأصوليون في هذا العلم هو مبحث بيان حقيقة هذا العلم وهو المبحث الذي قدمناه على هذه الفقرات المخصصة للمباحث.
(2)
الحكم الشرعي:
يقع الحكم الشرعي- بعد بيان حقيقة الأصول- على رأس مباحث علم الأصول.
فجميع علم الأصول ومباحثه هو وسيلة للتوصل لاستخراج الأحكام الشرعية. فالحكم هو محور العلم كله وغايته التي يهدف إليها.
ففي تعريفنا لعلم الأصول قلنا إنه: أدلة الأحكام، ووجوه دلالاتها على الأحكام. فالغاية من العلم واضحة من هذا التعريف وهى التوصل إلى الحكم الشرعي. ومن هنا كان مبحث الحكم على رأس مباحث الأصول. وهذا المبحث فيه تفصيلات كثيرة مثبته في مكانها من كتب الأصول.
3) الحاكم:
ومبحث الحاكم من المباحث الأصولية التي يوضح فيها من تصدر عنه الأحكام الشرعية، ثم يوضع فيه إجمالا مكان العقل البشرى من التشريع. أما مكان العقل من التشريع تفصيلا فله مباحث أخرى معنونة بعناوين خاصة تأتى في الفقرات التالية. فالحكم الشرعي لابد له من مصدر ينطلق منه ومن هنا جاء مبحث الحاكم تاليا لمبحث الحكم.
4) التكليف والمكلف:
عندما يصدر الحكم من الحاكم فإنه يتطلب من يكلّف به لتطبيقه وتنفيذه. من أجل هذا ارتبط مبحث التكليف وحدوده بمباحث الأصول لأنه متفرع عن الحكم. وكذلك المكلَّف (بفتح اللام) معرفته ترتبط بمبحث الحكم. ومن هنا كانت له أهميته بين مباحث علم الأصول.
هـ) أفعال العباد:
وهى ما يشير إليها الأصوليون بالمحكوم فيه. وهو مرتبط بمبحث التكليف. ويمكن أن يكوّنا معاً مبحثا واحداً، لأن حدود التكليف. والأفعال التي يكلف الله بها عباده أمر يكاد يكون واحداً، ومن نقاط مبحث أفعال العباد صفات الأفعال؛ أي أفعال الناس وحسنها وقبحها العقليين، واتفاق واختلاف تلك الصفات مع أحكام الشريعة، من واجب وحرامٍ الخ ولقد درج بعض الكتاب في أصول الفقه أن يشيروا إلى أن هناك أبحاثاً دخلت ميدان الأصول وهى ليست منه، ويضربون مثلا لذلك بمبحث صفات أفعال العباد من حسن وقبح عقليين وما يتعلق بذلك. ولاشك أن أفعال العباد من الجانب الذي بحثها منه الأصوليون من المباحث الهامة في هذا العلم، ولم يدخله علماؤنا المتقدمون في هذا الميدان إلا بعد إدراكهم لخطورة هذا الموضوع بالنسبة لعلم الأصول. إدراكهم أنه يتعلق تعلقا وثيقاً بعلل الأحكام، ومدى اتفاق الشرع والعقل في علة الحاكم وتأثير ذلك في الحكم، وهل يدرك العقل الحكم بإدراكه لصفات الأفعال من غير معاونة الشرع، وهل يترتب على ذلك شيء في الآخرة، إلى غير ذلك من النقاط الهامة التي لها اتصال مباشر بالحكم الشرعي [21] .
6) تعليل الأحكام:
هذا من المباحث الأصولية التي لها أهمية قصوى. وقد درج العلماء على مناقشة هذا الموضوع وعرضه أثناء عرضهم لباب القياس على أساس أن هذا الموضع هو ركن من أركان القياس. ولا شك أنه ركن من أركان القياس ولكن لو نظرنا إلى تعليل الأحكام لوجدناه يرتبط بالمصالح عموماً. كما أن الأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة منها ما له علله ومقاصده التي ينبغي أن تعرف حتى إذا لم نكن محتاجين لاستخدام القياس في موضوعها. ويرتبط موضوع التعليل أيضا بموضوع تحديد أهداف الشريعة العامة. وسنفرد للأهداف بندا خاصا من بين بنود هذه المباحث. ويرتبط مبحث تعليل الأحكام بمباحث الأسباب والشروط والموانع الخ [22] .
وبحث موضوع التعليل في باب مستقل لا يعنى أن نمنع عرضه كركن من أركان القياس. بل يعرض هناك بوصفه ركناً من الأركان، أما عرض التعليل مفصلا من حيث حقيقته في الشريعة فينبغي أن يعقد له فصل مستقل لأهميته بالنسبة للتشريع.
7) الكتاب:
مبحث القرآن الكريم -كمصدر رئيسي للتشريع- هو المبحث الرئيسي في علم الأصول وقد رأينا أن يتأخر في ترتيب بحثه- كما درج علماء الأصول- ليتمكن الدارس من إدراك الحكم وما يتعلق به من أبحاث. لأن الحكم هو المقصد الذي نزل القرآن الكريم لبيانه. ومن هنا كان تقديم مبحث الحكم على مبحث الكتاب؛ ليدخل الدارس على الكتاب ولديه تصور لما يهدف الكتاب الكريم لبيانه.
وفي مبحث الكتاب تقدم الدراسات التي يحتاج إليها في تصور القرآن الكريم عموماً لا تفصيلاً، ويحتاج إليها في بيان أن القرآن الكريم هو المصدر الأول الذي ترجع إليه كل الأصول.
8) السنّة النبوية:
يأتي مبحث السنة النبوية عقب مبحث القرآن الكريم فهي الأصل الثاني والمكمل للأصل الأول. وما قلناه في تأخير مبحث القرآن عن مبحث الحكم الشرعي وما يتعلق به نقوله أيضاً هنا في تأخير مبحث السنة عن الحكم الشرعي. وتبحث السنة في علم الأصول من حيثيات مختلفة. من حيث مكانتها في التشريع وكيفية أخذ الأحكام منها ومقارنتها مع الأصول الأخرى إلى غير ذلك من المباحث المستفيضة والتي يطلبها الدارس في مكانها من علم الأصول.
9) الإجماع:
مبحث الإجماع هو المبحث الثالث الذي يلي مبحث السنة وهو المصدر الثالث من مصادر الأحكام. وفي حقيقته ومستنده ومراتبه والأخذ به تفصيلات مبسوطة في مكانها.
10) الألفاظ وتفسيرها:
هذا مبحث واسع من مباحث الأصول ويشتمل على فصول عديدة وهو من أهم مباحث هذا العلم. ففي هذا المبحث تدرس كيفية فهم وتفسير ألفاظ القرآن والسنة ببيان معاني ألفاظ هذين المصدرين الرئيسيين، ودلالاتها وإشاراتها، وأمرها ونهيها، وعمومها وخصوصها، وإطلاقها وتقييدها، وناسخها ومنسوخها، ووضوحها وعدم وضوحها ومنطوقها ومفهومها.
11) القياس والمصادر العقليه الملحقة به:
ومبحث القياس والمصادر العقلية الأخرى -كالمصالح المرسلة والاستحسان والعرف والذرائع والمخارج، هذا المبحث من المباحث المهمة في ميدان الأصول- وقد حدث عليها اختلاف كبير مما جعل تفصيلاتها ومناظراتها ومناقشاتها مستفيضة في كتب الأصول، لأن جميع هذه المباحث تقوم على العلة المعقولة؛ لتبنى عليها الأحكام من خلال هذه الأبواب ولقد عد بعض علماء الأصول القياس وبقية الأصول العقليه من وجوه دلالات نصوص القرآن والسنة ولم يجعلوها أصولاً قائمة بذاتها [23] وجعلها بعضهم أصولا قائمة بذاتها ولكنها مرتبطة بالنصوص وبأهداف الشريعة التي حددتها النصوص. وليس هنالك فرق بين المذهبين في الحقيقة.
12) الاجتهاد:
هذا المبحث حقيقته جمع وتلخيص وترتيب للمباحث السابقه خاصة مباحث الألفاظ والمصادر العقليه. حيث أن تلك الأبحاث تحدد كيف تستخرج الأحكام من النصوص ومن معقول النصوص -والاجتهاد في النهاية لا يعني أكثر من هذا المضمون- وفى هذا المقام تدرس نقاط عديدة من بينها: المجتهد وأحواله ويلحق بذلك الإفتاء.
12) التقليد:
التقليد من مباحث علم الأصول وإن لم تناقشه بعض كتب الأصول فبدراسته يتبين الحد الفاصل بين الاجتهاد والتقليد. فالتقليد هو ضد الاجتهاد كما أن المقلد هو في مقابلة المجتهد.
14) مباحث متفرقة:
هنالك مباحث أخرى متفرقة تدرس في علم الأصول لمعرفة ما إذا كانت مضامينها أصولا تستقى منها الأحكام أم لا، نذكرها جملة هنا. تلك المباحث هي: الشرائع السماوية السابقة للإسلام، قول الصحابي، الاستصحاب.
15) أهداف الشريعة العامة ومبادئها:
على الرغم من أن هذا المبحث مرتبط بتعليل الأحكام لكن رأينا تخصيصه بمبحث خاص. فربما يفهم من مبحث تعليل الأحكام أن المقصود من ذلك بحث علل الأحكام الفردية. لذا رأينا أن ندقق على أهمية دراسة مقاصد الشريعة العامة من حفظ دين ونفس وعقل ومال ونسل ومن تيسير ورفع حرج
…
الخ.
16) الثبات والمرونة في شريعة الإسلام:
هذا المبحث ينبغي أن يدرج ضمن علم أصول الفقه مع أنه بحث في كتب مستقلة ولكني أرى أنه من صميم علم الأصول. فتحديد الأصول والمبادئ التي تقوم عليها مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان من قياس ومصالح والأصول التي يقوم عليها ثبات بعض الأحكام من خصوص وتقييد وتفسير، كل ذلك لا يأتي إلا من خلال علم الأصول. فهو الميزان الذي نزن به تلك الأسس التي تقوم عليها مرونة الشريعة وصلاحيتها لكل زمان ومكان وهو المقياس الذي نميز به الأحكام التعبدية من الأحكام المدركة عقلا والأحكام الخاصة والمقيدة وغيرها مما لا يدخله تغيير أبدأ والأحكام الاجتهادية غير المجمع عليها مما يمكن أن يخضع لاجتهادات جديدة.
ففي نظرنا أن هذا الموضوع ينبغي أن يلحق بمباحث الأصول. هذا مجمل ما أردنا أن نقوله هنا حول بيان حقيقة علم الأصول ومباحثه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
المستصفى جـ1 ص4-5.
[2]
توفي أبو الحسين البصري في ربيع الآخر سنة 436هـ (أنظر وفيات الأعيان)
[3]
توفي عبد الجبار بن أحمد في عام 415هـ
[4]
المعتمد، جـ1 ص9. الذين كتبوا في الأصول على طريقة الحنفية [4] وسنورد هنا التعريف الذي أورده البزدوى [4] لأن البزدوى من أهم العلماء الذين كتبوا في الأصول على هذه الطريقة، وقد اعتمد عليه المتأخرون من علماء المدرسة الحنفية في كتابتهم في أصول الفقه. على الرغم من أنه كان مسبوقا بعدد من علماء الأحناف الذين كتبوا في الأصول، وكان أسبقهم أبو الحسن الكرخي [4] الذي ألف رسالة في الأصول ذكر فيها الأصول التي عليها مدار فقه الأحناف. ولكنه لم يضع تعريفا محددا لعلم أصول الفقه كما وضعه البزدوى.
[5]
كانت الكتابة في الأصول الفقه في القديم على طرقتين، طريقة الشافعية وطريقة الأحناف، ثم اندمجت الطريقتان فيما بعد كما سنوضح ذلك في فصل خاص.
[6]
توفي سنة 482هـ
[7]
توفي ببغداد سنة 340هـ.
[8]
أصول البزدوي جـ1 ص19-20 الخ.
[9]
توفي سنة 478 هـ
[10]
االمستصفى جـ1 ص4.
[11]
روضة الناظر ص4.
[12]
التحرير وشرحه جـ1 ص24.
[13]
توفي سنة 790هـ.
[14]
الموافقات جـ3 ص24-25 الخ.
[15]
أصول الفقه لخلَاّف ص12.
[16]
أصول الفقه لأبي زهرة ص7.
[17]
قوله إليه الضمير راجع إلى الفقه.
[18]
توفي سنة 793 هـ
[19]
التلويح على التوضيح
[20]
أمر الغزالي، المستصفى جـ 1ص 4- 5.
[21]
أنظر الآمدى. الأحكام جـ3 ص 102الخ
[22]
أنظر الغزالي المستصفى جـ1 ص8
[23]
أنظر الغزالي جـ1 ص9
القرآن الكريم بين الدراسة والتطبيق
للشيخ محمد الراوي
رئيس قسم التفسير بكلية أصول الدين
بجامعة الإمام محمود بن سعود الإسلامية
إن تحولا هائلا قد وقع في الأرض بنزول القرآن صارت معه قافلة الحياة على هدى ونور، ونشطت مع فجره نفوس لبت نداء الله فأحياها وجعل لها نورا تمشي به بين الناس وبقي القرآن للحياة بقاء النور في الكون لا يتوقف مده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ولم أر شيئا تفجرت به ينابيع الحكمة وامتدت أنهار المعرفة في غير انقطاع كما تم للقرآن الكريم. لقد شغل الناس جميعا من آمن به ومن أعرض عنه وأثر في هذا وذاك مطاوعة ومكابرة، تأييدا ومعارضة ونجاة وهلاكاً رفعا وخفضا وحربا وسلما وهزيمة ونصرا، وظل القرآن في جميع الأحوال وسيظل عزيزا شامخا أبيا ولو تكسرت من حوله السيوف أو ضعفت النفوس {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} .
لقد نزل القرآن وبنزوله طويت الكتب وختمت الرسالات وحفظت للناس أسباب الحياة وصان الله كتابه من التزييف والتبديل ومضى القرآن في الحياة يعلن الرسالة رسالة الأنبياء جميعا كما جاءت من عند الله وتقيم الحجة على الناس جميعا وعلى أهل الكتاب ويدعوهم إلى كلمة سواء ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إلاّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف 158) .
مضى القرآن يدعو الناس في كل زمن ويتلى عليهم في كل مكان ويحمله موجات الأثير إلى كل بيت، ومن قبل كان ينتقل مع حركة الحياة إلى كل مكان هاديا في تجارة تعبر البحار ومع قافلة تنقل الزاد والمتاع وكانت هذه الحركة في نشاطها أسبق وأقوى من وسائل عصرها هاكم ساحة الأمن أمام أعيننا.. سلوا التاريخ وسلوا أنفسكم كيف امتد القرآن في هذه الساحة الواسعة بوسائل العصر الذي نزل فيه وكيف استطاع أن يقوم الألسن مع اختلافها ويجعلها تنطق به كما نزل من عند الله. أليس من عجائب القرآن أن ترى على الفطرة رجلا يجلس في ظل شجرة تنبت بعيدا عن موطن الوحي يكتب من آيات الله ما يكتب ثم يردد بلسان عربي مبين {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} (الزخرف 43) ولو جلست تخاطبه باللسان العربي في غير القرآن لاضطربت الألفاظ وذهبت الكلمات وجاءت الإشارات.
ولا أنسى ما حييت منظر بائع متجول في نيجيريا يبيع الفاكهة والثمار يأتي ويجلس في جانب الدار ليبيع ما قدر له، ولا يمل من قرب، إذا غبت عنه يؤثر البقاء في الظل ولو طال الوقت وعلى وجهه بسمة مشرقة لا تفارقه اشترى الناس منه أو أعرضوا عنه.. خرجت يوما وقد تعودنا عليه فوجدته قد بدأ التلاوة في سورة الأعراف فلم أخاطبه في بيع أو شراء وآثرت أن أسمع وهو يتلو حتى فرغ من القراءة فلم يقع في لحن ولا خطأ مع طول ما قرأ، وكنت قد تعودت عند البيع والشراء أن استعمل أصابه اليد في تحديد السعر من أخذ وعطاء. أليس دليلا على تيسير الله وهدايته أن ترى ماهرا في القرآن من وصفت حاله ولسانه فلا يتتعتع فيه ولا يكون عليه شاقا، أليس هذا دليلا على عزة القرآن وغلبته أن تتوحد الألسنة المختلفة عند تلاوته كما تتوحد القلوب المتنافرة بتوفيق من الله عند جبله. وقد تعجز جميع الوسائل من أن توحد بين اللهجات المختلفة لأصحاب اللغة الواحدة واللسان الواحد كما تعجز في إنفاق ما في الأرض جميعا أن تؤلف بين قلبين لا يجمعهما الإيمان ونفسين لا يقود سعيهما القرآن {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}
(الاسراء 9) .
أي والله للتي هي أقوم في كل شيء وإني أقسم بمواقع النجوم وإنه قسم لو تعلمون عظيم إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إن فيه غنى لطالب الحق والراغب فيه، ومن قبل كانت المعجزات لزمن محدود لا يتأثر بها إلا من رآها أو عاش في عصرها فهي لا تدوم ولا تكون حجة إلا لمن رآها ولمن شاهدها من جيل أو قبيل. أما القرآن فآية لا تزول وهو حجة على كل من بلغه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. آيات تتلى على جميع الناس في كل زمان ومكان {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إلاّ الْكَافِرُونَ} {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ} {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ومن لم يكفه القرآن فالنار أولى به فإن الجبال الصم لو خوطبت به لكان حالها كما ذكر الله {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
القرآن يتلى على الناس فهو حجة لهم أو حجة عليهم {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَاراً} وكما قال السلف: ما جالس أحد القرآن وقام عنه سالما إما أن يربح أو يخسر، وقال ابن مسعود رضى الله عنه القرآن شافع مشفع وحاصل مصدق، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره قاده إلى النار. وعنه قال يجيء القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبه فيكون قائدا إلى الجنة أو شاهدا عليه فيكون سائقا إلى النار. وقال أبو موسى الأشعري رضى الله عنه إن هذا القرآن كائن لكم أجراً وكائن عليكم وزراً فاتبعوا القرآن ولا يتبعكم القرآن فإن من أتبع القرآن هبط به على رياض الجنة ومن أتبعه القرآن زج في قفاه فقذفه في النار فقد ورد في السنة الصحيحة ما يؤكد أن موقف الإنسان يتحدد بموقف القرآن شهادة له أو عليه. روى مسلم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه"، وروى مسلم عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع آخرين" وروى مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا يقدمهم سورة البقرة وآل عمران يحاجان عن صاحبهما".
إن القرآن يتلى وبتلاوته تقوم الحجة وتنقطع المعذرة {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
آيات تتلى على جميع الناس وترى في الآفاق والأنفس وفي كل زمان. والناس غاديان فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها؛ قال أبو بكر بن عباس: قال لي رجل مرة وأنا شاب: خلص رقبتك ما استطعت في الدنيا من ربق الآخرة فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبداً قال فو الله ما نسيتها بعد. وكان بعض السلف يبكي ويقول: ليس لي نفسان إنما لي نفس واحدة إذا ذهبت لم أجد أخرى. القرآن يتلى ولذا تستطيع أن تقول إن جانب الدراسة لم ينقطع أبدا منذ نزول القرآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فإن الدراسة لا تحتاج لفلسفة متعمقة إنما تحتاج لتلاوة متدبرة، وقلوب حاضرة، تعرف مقاصد القرآن وهدايته، وتستمسك به في نزاهة لا يخالطها هوى أو رغبة، ولا تقعدها حظوظ عاجلة، أو يأسرها منفعة باطلة وعندئذ تقترن الدراسة بالتطبيق وينتصر الحق في نفس الإنسان ويتغلب على هواه ويستطيع الإنسان أن يعرف ذلك من نفسه حين يصادم مطلب الحق مقاصد النفس من مطالب وشهوات، فإما أن يؤثر الحق ويرضى به وإما أن يركن إلى النفس ويخلد للأرض. ولا تمر الحياة على إنسان دون تجربة أو امتحان {ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} العنكبوت آية 1- 3، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} محمد آية 31.
وكل جيل من الأجيال يمر بالتجربة، ويأتي الجزاء من جنس العمل، جزاء المحسن على إحسانه وجزاء المسيء على إساءته {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} والقرآن الكريم يسجل لنا نتائج كل شيء وبين سمات الهالكين وصفات الناجين لكي نعي ونتدبر ونحذر {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ومع القرآن الكريم لنعرف سنن الله في خلقه، ونبصر عواقب الأمور ونتائجها، ونرى من تأسوا بنبيهم. وكان القرآن لهم خلقاً كيف صدعوا به وارتقوا؟ والقرآن يوضع لنا مواطن الفوز والنجاة ويبين خصائص من يرفعهم الله ومن يخفضهم، تقرأ القرآن {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} والدراسة تعي الدلالة وتعرف المقصود والتطبيق والعمل، يبين أن من الناس ناساً يتعلقون بالرغائب وينسون العواقب، وربما فقدوا صفاتهم من أجل أن ينالهم عرض من زخرف الدنيا وزينتها، وقد يختلط عليهم إكرام العبد في دار الجزاء وتفاوت الحظوظ في دار الابتلاء فتلهيهم العاجلة عن الآجلة، والقرآن الكريم يوضع ذلك في مواطن كثيرة ليأخذ الناس بأسباب الرفعة وأسباب الحياة {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً فأصحاب فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} وبين القرآن من هم السابقون، ومن هم أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة، ويذكر جزاء كل فريق، ثم يبين في نهاية السورة أن هذا الجزاء مرهون بالأجل، فإذا جاء الأجل - وما أسرع أن يجيء - لقي كل فريق جزاءه {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} .
إن هذا البيان لا يعزل الناس عن الحياة الدنيا أو يزهدهم فيها إنما يصحح أمرها بالآخرة، والعاجلة لو قصدت وحدها لقادت أصحابها إلى النار والدمار {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} . وكل حسبان أن الخير في عاجل يعطاه الإنسان من مال وبنين رده القرآن وبين أنها زينة، والزينة يخدع بها من غفل عن العاقبة {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ} .
فواضح أن الآخرة تُطلب بصفات وهذه الصفات لا يتوفر للناس الأمن والسلام إلا بها، فهي لدنيا الناس أمن وسلام، ولآخرتهم نور ورضوان، وواضح أن حسبان الأمر غير هذه الصورة دليل على عدم الشعور بحقائق الأمور {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} وإذا أصيب الناس بعدم الشعور رغبوا في الزينة والمتاع وغفلوا عما ينتظرهم من حساب وجزاء، ولم يستطيعوا أن يفرقوا بين ما يعطى للإنسان استدراجا وإملاءً وبين ما يعطى تعليماً وجزاءً، إن فقدان الشعور وتبلد الحواس يلحق الإنسان بالأنعام، بل ينزله به دونها، وعندما تختلط الأمور فلا يفرق الناس بين العاجلة والآخرة وبين ما هو فانٍ وما هو باق ويؤثرون ما يفنى على ما يبقى ويحبون العاجلة ويذرون الآخرة. عندئذ تتحول الأمة إلى غثاء كغثاء السيل ولا يغني عنها شيئا من وفرة عددها وكثرة ما بيدها. وهذا ما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم:"ما الفقرا أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت عليكلم من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم" وفي الحديث المتفق عليه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج إلى قتلى أحد فصلى عليهم بعد ثمان سنوات كالمودع للأحياء والأموات ثم طلع المنبر فقال: "إني بين أيديكم فرد وأنا شهيد عليكم فإن موعدكم الحوض وإنما أنظر إليه من مكاني هذا وإني لست أخشى عليكم أن تشركوا ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوها"، قال فكانت آخر نظرة نظرتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وفي رواية:"ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم" فقال عقبة: فكانت آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر. من القرآن الكريم ومن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم نرى نتائج الأعمال وآثارها في نجاة الأمم
أو هلاكها. وبالعمل كما أمر الله ورسوله يكون القرآن حجة لنا وبالدراسة وحدها يكون حجة علينا لأن الدراسة فهم وعلم، وبالعلم تقوم الحجة والتطبيق تنفيذ وعمل وعليه يكون الجزاء وبه تقع قيمة الدراسة ويعلو شأنها {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} .
الدراسة هنا تفهم الدلالة والتطبيق يقتضي ألا نستعين إلا بالله وأن نأخذ بالأسباب والاستعانة بغير تفريط أو استهانة، بأن تخلص القصد لله وتستقيم كما أمرنا وأن تكون جميع أقوالنا وأعمالنا لإعلاء كلمة الله ولنصرة دينه عندئذ نصدق في حسن التوكل عليه. وطلب النصرة والنجاة منه -وإن فعلنا- ذلك فلأنفسنا إن فرطنا فعليها وما ربك بظلام للعبيد {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} الدراسة هنا تفهم الدلالة والتطبيق يقتضي استقرار النفس بما أعطيت، وهذا الاستقرار دلالة صدق الإيمان؛ لأن الآيات إذا لم يظهر أثرها في الحياة تكون قد وقفنا بها عند الدراسة فحسب، وهذا قدر قد يزيد من حسابنا ويقيم الحجة علينا، {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} .
هذا بيان لنتائج العمل الجاحد الخاسر؛ إذ العمل المقبول عند الله لا يكون إلا بصدق الولاء له وحسن الاستقامة على دينه. وكل شيء يناصب الإنسان العداء إذا عادى الإنسان ربه حتى جوارحه التي ينالها من العذاب ما ناله تخضع وتخشع لإرادة الخالق لا إرادة المخلوق ولا يملك الإنسان في فترة الحساب إلا أن يجعلها طوع إرادته كما طوعها في فترة الامتحان في الحياة الدنيا والتطبيق العملي لفهم هذه الآيات أن يتجنب الإنسان ما من شأنه أن يقع فيما وقع فيه الجاحدون ويتقى الله في السر والعلن "قل آمنت بالله ثم استقم" إذ لا فائدة من الدراسة إذا عرفنا مصير الجاحدين وفعلنا فعلهم ويا ويل من أضله الله على عدم والقرآن الكريم بين مصير هؤلاء ويذكر جزاء من آمن واستقام في آيات متباينة بلا فصل {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} . {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} بعد هذا نقرأ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} .
وتلك طريقة القرآن في إعطاء النتائج متقابلة ومتجاورة فمن ضاقت أنفاسه من عقاب أولئك- فليأخذوا طريق النجاة ليكون ممن أنعم الله عليهم ورضي عنهم ومن رأى كيف تكون العداوة هناك بين الجاحدين فليأخذوا طريق أخوة المؤمنين وصداقة المتقين {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إلاّ الْمُتَّقِينَ. يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} الزخرف.
وهكذا نجد القرآن الكريم يقدم لنا بيانَ كلِّ شيء ويوضع النتائج التي تترتب على الأعمال، وكثيراً ما يقدمها في أسلوب الشرط والجزاء أو الأمر وجوابه وهي أشد انضباطا في المعادلات الرياضية التي لا يختلف الناس على أمرها {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} . {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} . {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} .
وربط الجزاء والنتيجة بالمقدمة {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُون} . {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} . {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} . {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} . {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} . {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ} . {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُون وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .
إن القرآن الكريم يتلى على الناس جميعا وقد يسمعه المتقون والفجار ولكن مواقف الناس لا تتحدد بالسماع والدراسة وحدها؛ فإن العلم بالشيء قد يستوي فيه بار وفاجر وإنما تتحدد مواقف الناس بالعمل وما يشفع إليه بالبيان وفرق بين الاتباع والأعراض، والجهاد والقعود والطاعة والمعصية واتباع سبيل المؤمنين أو اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين وكل ذلك سيوزن بميزان دقيق {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} . {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} . {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ} .
ولذا فإن النفر من الجن لما سمعوا القرآن علموا أن السماع يتبعه الإجابة والتنفيذ وإلا لزمت الحجة {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} قاموا بتبليغ ما سمعوا وكانوا أمناء صادقين طلبوا من قومهم أن يجيبوا داعي الله وأن يؤمنوا به وبينوا الجزاء {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وحذرهم من عدم الإجابة تحذيرا بالغاً {وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} لقد فهم هؤلاء النفر من الجن دلالة ما يتلى من الكتاب فلم يقفوا عند حدّ السماع وحده أو الدراسة وحدها، بل قاموا بواجب التبليغ على خير وجه وحددوا موقفهم على أساس من هذا الدين {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} عرفوا النتائج وبلغوها إلى قومهم وعلموا ألا نجاة إلا بالصدق مع الله ولا ملجأ من الله إلا إليه {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً} يقول الله تعالى {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
إن القرآن الكريم لحركة الحياة ولشرفها وطهارتها، بل هو الحياة نفسها لأنه روح ولا حياة بلا روح ونور، وهل يستوي من أحياه الله وجعل له نوراً يمشى به في الناس كمن مثله من الظلمات ليس بخارج منها {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} .
والذكر يطلق على الشرف ويطلق على البيان والتذكرة فإذا أعرض من شرفهم الله به فقد رضوا لأنفسهم أن يعيشوا بلا شرف وأن يسيروا على غير هدى وفي ذلك من الإساءة لأنفسهم في عاجل أمرهم وأجله ما فيه.
إن جيل القرآن الأول لم ير لنفسه شرفاً في غير ما شرفه الله به ولم يبتغ العزة في غير ما أعزهم الله به ولذا كانت دراستهم للقرآن دراسة علم وعمل وكان مواقفهم معبرة عن مدى تأثير القرآن في نفوسهم وكان بيان الرسول صلى الله عليه وسلم أمام أعينهم تطبيقاً عملياً للقرآن يتبعونه ولا يخافون وما كان لهم الخيرة من أمرهم إذا قضى الله ورسوله أمرا {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} كانوا لا يتباطئون ما فيما أمروا به ولا يلتفتون لما نهوا عنه أن سمعوا من رسولهم: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" قاموا إليها مسرعين يقول قائلهم: "والله لئن بقيت حتى آكل تمراتي تلك إنها لحياة طويلة"وإن أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم دعاة إلا الله فواجهوا الخطر استقبلوه راضين مستبشرين وإن طعنوا في سبيل الله حمدوا الله أن جعلهم من الفائزين، وإن خرجوا إلى أعدائهم لم يخرجوا بطراً ورئاء الناس بل دعاة إلى الله يعلون كلمة الله بأنفسهم وأموالهم ولا يرون لأنفسهم حظاً إلا فيما عند الله ولا ينشدون إلا رضاه.
في الحديث المتفق عليه عن أنس رضى الله عنه جاء ناس للنبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: "ابعث معنا رجالاً يعلموننا القرآن والسنة"فبعث معهم سبعين رجلاً من الأنصار فيهم خالي حرام يقرأون القرآن ويدرسونه بالليل ليتعلموه وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة والفقراء فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم فعرضوا لهم فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان فقالوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا أو أتى رجل حراما خالد أنس من خلفه فطعنه برمح حتى أنفذه قال حرام "فزت ورب الكعبة"فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن إخوانكم قد قتلوا وإنهم قالوا اللهم بلغ عنا نبينا أنا قد لقيناك فرضينا عنك ورضيت عنا.." تلك دراستهم وهذه مواقفهم دراسة تعتني بتدبر القرآن وتنفيذ أمره ويأتي الامتحان بعد الدراسة في مواطن كثيرة فلا يتعثرون في إجابتهم ولا يجيبا أحد منهم إجابة خاطئة بل تكون إجابتهم درساً للإنسانية كلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها لقد أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم ليكونوا دعاة لفريق من الناس في زمنهم فكانوا بإجابتهم دعاة للزمن كله وللناس جميعا بعدهم.
كانوا يقرؤون القرآن ويتدارسونه بالليل ليتعلموا فأعدت نفوسهم بالقرآن إعداداً يواجه الحياة بسرائها وضرائها بيسرها وعسرها، في ثبات لم تتبدل نفوسهم بتبدل الأحوال ولم تتغير بتغير العوارض، يقول عتبة بن غوان وهو يخطب الناس في البصرة وكان أميراً عليها لقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مالنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا فأخذت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فأتزرت بنصفها وسعد بنصفها فلم يصبح منا أحد إلا وأصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما وعند الله صغيرا. هذا حالهم في العسر وهم رجال في جميع الأحوال لا تتغير نفوسهم بتغير الأحوال.
وبعد مرة أخرى فإن المسلمين لا يستطيعون في كل زمان ومكان أن يواجهوا قضايا عصرهم وزمانهم إلا بالقرآن، يعتصمون به في روابطهم ويقيمون أحكامه في حياتهم ويجاهدون به أعداءهم ويصلحون به دنياهم، ويستقبلون به آخرتهم ولقد اقتضت سنة الله في خلقه أن تكون هداية الله سبباً لنجاتهم {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} . ولقد أدرك جيل القرآن الأول منذ اللحظة الأولى أن أقوى العدة والعتاد في مواجهة أعدائهم أن ينتصر دين الله في نفوسهم، وأن يكونوا أهلا لنصر الله فإذا تخلف عنهم بحثوا في عيوب أنفسهم، وهم يعلمون أن الذنوب أخطر على المسلمين من العدو وعلى أنفسهم، ولقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتابا إلى سعد بن أبى وقاص لما أرسله إلى فتح فارس جاء فيه:
أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة على الحرب. آمرك ومن معك من الأجناد أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم؛ فإن ذنوب الجند أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينتصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عدونا ليس كعدوهم ولا عدتنا كعدتهم. فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة وإن لم ننتصر عليهم بفعلنا لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون فاستحيوا منه، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله. ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يسلط علينا فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بنى إسرائيل لما عملوا بمعاصي الله كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألوه النصر على عدوكم. (الله أكبر.... الله أكبر) .
تستطيع أن ترى في كل كلمة من هذه الكلمات قبساً من نظر القرآن أو هدي النبوة. إن ناسا شغلوا أنفسهم فأصلحوها، وفروا إلى الله موحدين جديرون أن يخاطبوا من قبل الله عز وجل إكراما لهم {وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} . إن العالم كله في حاجة إلى نور القرآن لتصان كرامة الإنسان الذي صار في عصرنا هذا أرخص شيء في دنيا الناس. العالم في حاجة إلى القرآن ليكون الحق والعدل أساساً في معاملة الإنسان للإنسان، ودراسة القرآن لم تتوقف ولن تتوقف أبداً بإذن الله لأنه يتلى ويكفي أن يتلى، ولكن الذي يتوقف أحياناً هو التطبيق وبه يتباين جيل عن جيل ويعز ناس ويذل آخرون، وجيلنا هذا قد انحسر عنه التطبيق في كثير من دياره إلى درجة لم يسبق لها نظير فانحدر المسلمون إلى درجة لم يسبق لها مثيل ولكن من رحمة الله بخلقه أن حفظ لهم الذكر كما حفظ لهم بفضله بيانه فجمع الأسباب التي صعدت بأسلافنا ورفعهم الله بها قائمة أمام الأجيال كلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها كتاب وسنة، فهل نستطيع أن نجعل دراستنا عملاً وتطبيقاً كما كان أسلافنا من قبل، أم نطمع من الدراسة بالشهادة والألقاب، وإن فعلنا ذلك كان القرآن حجة علينا فإن عملنا به مقتدين بالرسول صلى الله عليه وسلم كان القرآن حجة لنا.
نسأل الله أن يجعله حجة لنا لا علينا وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم،،،
نكون أسعد الخلق لو وصلنا إليه بعد ألفى عام
إن البشرية لتفخر بانتساب رجل كحمد- صلى الله عليه وسلم إليها. إنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد الخلق لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي عام.
شبرل
عميد كلية الحقوق بجامعة فيينا
التربية الإسلامية للشباب
للدكتور عبد الرحمن بله علي
الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية بالجامعة
لمحة لغوية:
الشباب جمع شاب، وقد تجمع على (شبان) كفارس وفرسان، وقد تجمع على (شببة) ككاتب وكتبة. جاء في السيرة: لما برز يوم بدر عتبة وشيبة والوليد برز لهم شببة من الأنصار، وقال ابن عمر رضي الله عنهما:"كنت أنا وابن الزبير وشببة معنا". والمؤنث منه شابة وتجمع على (شواب) كدابة ودواب.
ومادة (ش ب ب) من باب (ضرب) تشير هي وجميع مشتقاتها إلى معنى القوة والفتوة والحداثة والجمال والنماء. فالشؤبوب هو الدفعة من المطر، وأول كل شيء وشدة دفعه، يطلق كذلك على شدة حرّ الشمس. وفرس مشب هائج متمرد عَصيّ القياد. والشباب بالكسر النشاط.
ومن معانيها الحداثة والابتداء تقول فعل فلان هذا الشيء في شبابه أي في أول عمره وحداثة سنه، وتقول: سافر فلان في شباب الشهر أي في أوله. وتقول: جئتك في شباب اليوم أي في أوله؛ ومنه التشبيب، وهو ما يذكر في أول القصيدة من ذكر النساء، وما يتصل بهن، ويدور حولهن؛ قالت أم معبد:"لما سمع حسان قولا لهاتف شبب بجارية"، أي أخذ يجاوبه من التشبيب وهو الابتداء بالكتب والأخذ فيها.
ومما تحمله المادة: الحسن والجمال تقول: شب الخِمار لون المرأة؛ أي زاد في بياضها وجمالها، لأن الضد يزيد في الضد، ويبدو ما خفي منه، لهذا قالوا:(وبضدها تتميز الأشياء) وقالوا (والضد يظهر حسنه الضد) ؛ ومنه قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب حين جيء له بجواهر ولآلىء: يشب بعضها بعضا. أي يزيد بعضها في جمال بعض.
من معانيها النماء والزيادة، تقول: شب فلان أي كبر وزاد حجمه ومنه قول جزيمة الأبرش: "شب عمرو عن الطوق"؛ أي نما جسمه وزاد حجمه، حيث الطوق لم يعد يمكن الدخول في عنقه.
والإنسان إذا بلغ السادسة عشر من عمره يسمى (شابا) حتى سن الأربعين ثم هو كهل حتى سن الستين، ومن ثم يسمى (هرما) حتى يموت. وهذه الحدود ليست موضع اتفاق ولا هي حدود بارزة كحدود الحجرات، في المنزل ولكنها حدود وهمية كخطوط العرض والطول. ومن ثم فقد نرجع بالحديث عن الشباب إلى ما قبل مرحلة الشباب لما بين هذه المراحل من تداخل واضح وارتباط وثيق
سر الاهتمام بالشباب:
يمثل الشباب من حيث الكم 60% من مجموع الأمة. ومن حيث الكيف يمثل قلب الأمة النابض وقوتها الدافعة ودرعها الواقي.. هم بُدورها إذا أظلم ليلُها، وهم سيوفُها إذا جَلَّ خطبها.. هم كنزها المدخر، ورصيدها المعتبر.. ومستودع آمالها، وموضع ثقتها ورجائها.
إذا نظرت بعين الحقيقة إلى فترة الشباب، وجدتها فترة التأثير والتأثر، والعطاء والبذل، لأننا ونحن نعد الشباب نستثمر مواهبه، ونفجر طاقاته ونستغلها في البناء والتعمير، ودفع العدو المغير، هي فترة الحاجة الماسة إلى التوجيه والترشيد والتبصير والعناية والرعاية.. هي فترة وضع حجر الأساس، وكلما كان الأساس متينا كان البناء قويا شامخ الذرى، وكلما كان الأساس ضعيفا كان البناء هشًا سرعان ما يتحطم وينهار عند أول هبة ريح أو رشة مطر.
إذن هي فترة لها ما بعدها، ومرحلة لها أثرها الخطير في المستقبل: سلبا أو إيجابا. صلاحا أو فسادا، سموا أو هبوطا فلا غرو إن وجدنا رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام يوجه بحسن استغلال هذه الفترة فيقول:"اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك، وفراغك قبل شغلك" كما نجده يوجه الشباب إلى كل ما يحفظ عليهم صحتهم، ويستبقى قوتهم، ويصون أخلاقهم فيقول:"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة -المقدرة على الزواج والقيام بواجباته الحسية والمعنوية- فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء". . أي وقاية من الوقوع في الفاحشة والآثام -إنما خص الشباب بوصيته الغالية لحاجتهم إليها بحكم نوازعهم الفطرية والشباب في هذه السن الباكرة يكونون أصلح للتربية والتوجيه، وأسمع للنصح والترشيد. فإذا وجدوا من يأخذ بأيديهم اتبعوه، وعملوا بأمره.
من هنا كان السر في إقبالنا على الشباب، وعنايتنا به ورعايتنا له حتى يمضى إلى غايته الكبرى وهدفه الأسمى مصونا من الانحراف الفكري والتدهور الخلقي والضعف العقلي. أما إذا تركناه هملا بلا رعاية، وسدى بلا ولاية فلسوف يتضعضع كيانه ويضمر بذله وعطاؤه، ويستشرى خطره وفساده فيصبح نقمة بعد أن كان نعمة، ومحنة بعد أن كان منحة، وبلاء بعد أن كان نفحة وعطاء.
إن شبابنا اليوم يواجه هجمة استعمارية فكرية شرسة تحاول زعزعة إيمانه وزحزحة أقدامه، وضعضعة كيانه، فلا بد من تسليحه بالسلاح الذي يصيب مقاتلها. إن أعداءنا لما عجزوا من غزونا عسكريا لجأوا إلى غزونا فكريا. وبتعبئة الأمة وتجنيد طاقاتها وإعداد شبابها سيؤول أمر الغزو الفكري مآل الغزو العسكري: هزيمة نكراء وفشلا ذريعا. إذا شيدوا للشباب المراقص شيدنا له المساجد، وإن أقاموا له الحفلات الغنائية أقمنا له الكتائب الليلية، ليكونوا رهبانا بالليل وفرسانا بالنهار، لينشدوا أراجيز الحرب والقوة بدل التغني بفنون اللذة....ليحرصوا على الموت أكثر من حرصهم على الحياة وحبهم لها.. ليقتلوا أعداءهم بدل قتلهم أوقاتهم.. وهكذا نواجه مكر أعدائنا بمكر أدهى، وهجماتهم بدفاع أعتى حماية لشبابنا، وصونا لعقيدتهم وحقيقتهم....
لماذا نعد الشباب؟
السؤال الذي يطرح نفسه أمامنا ما هي الأهداف التي من أجلها نهتم بتربية الشباب وإعداده؟ هل نُعدّ الشباب ليكون -صالحا في نفسه غير مصلح لغيره؟ هل نعدّ الشباب ليكون مهتما بأمره هو، لا بأمر غيرها؟ هل نُعِدّ الشباب ليتمثل فيه الدين ثقافة وعلما؟ هل نربي الشباب ليؤدى شعائر الإسلام من صلاة وصوم وحج وزكاة؟ هل نربي الشباب ليكف بصره، ويصون فرجه ويحفظ جوارحه ويرسل لحيته وكفى!؟
الواقع أن السؤال الواحد تفرعت عنه أسئلة، ولكنها نشأت عنه وارتبطت به كارتباط الفروع بالشجرة. ونجد المفكرين ورجال الإصلاح يجيبون على هذه الأسئلة إجابات كافية شافية، فهم يرون أن المرمَى من إعداد الشباب أن يكون هو في ذاته صالحا، لأن الفاسد لا يصلح غيره. ثم يقوم بمهمة التغيير والتحويل والتبديل
…
نعدُّه ليكون ثورة الحق على الباطل، وحملة الإيمان على الإلحاد، وكتيبة الصدام في وجه الأعداء
…
نعدُّه ليصون دينه وطنه من خطر المذاهب الهدامة والأفكار الملحدة المنحلة.. نعدُّه ليكافح بحزم لا هوادة فيه البدع والخرافات وأنواع الضلالات.. نعدُّه ليخرج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، نعدُّه ليمسح بيده الحانية القوية آلام أمته وآلام الإنسانية، ويوفر للحياة جوا من الطهر والأمن والسعادة. نعدُّه ليمزق بسيف الحق جيوش الباطل، ويبدد بنور العلم ظلام الجهل.. نعدُّه ليقود أمته بقوة العزيمة وشدة الشكيمة إلى حيث يضعها في مكانها اللائق بها تحت الشمس.. نعدُّ في الشباب سواعده لتحمل راية الإسلام ودعوته، نعدُّ عقوله لتحمل فكر الإسلام وثقافته.. نعدُّ أرواحه لتحمل هدي الأسلم وصفاءه وشفافيته.
وإن الشباب لقادرون على كل ذلك -إن شاء الله تعالى- إذا وجدوا العناية الفائقة، والتوجيه السديد، والمتابعة الدقيقة التي تراقب خطوهم، وتزيل العقبات من دروبهم. ونحن نرى كيف أن المذاهب المختلفة تتلقف الشباب، وتحتضنهم بالجماعات، وتعدُّهم إعدادا، ليقوموا بمهمة الدعوة إليها والذود عنها، وهي في سبيل ذلك ترسم الخطط المحكمة، وتجند الطاقات الهائلة، وتنفق الأموال الطائلة، لتضمن بقاءها على أيد قوية، وعزائم ماضية فتية. وعلى الشباب أن يدركوا هذه الحقيقة، ويعوا تلك الغاية البعيدة المدى، وتكون همهم الملازم ينامون به، ويقومون به ويمشون به بين الناس، عاقدين عليه قلوبهم، حانين فوقه ضلوعهم:
قد رشحوك لأمر لو فطنتَ له
فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
الشباب عنوان الأمة:
إذا أردت أن تعرف ماهية الأمة وحقيقة أمرها، فلا تسأل عن ذهبها ونشبها وبترولها ورصيدها المالي، ولكن انظر إلى شبابها، فإن رأيته شبابا متدينا متمسكا بقيمه الأصيلة منشغلا بمعالي الأمور، قابضا بأذيال الكمال وأهداب الفضائل -فاعلم أنها أمة جليلة الشأن، رفيعةُ القدر والجاه، قوية البناء، مرفوعة العلم لا ينال منها عدو، ولا يطمع فيها قوى.
وإذا رأيت شباب الأمة هابط الخلق والقيم، منشغلا بسفاسف الأمور، يتساقط على الرذائل كما يتساقط الذباب على جيف الفلاة -فاعلم أنها أمة ضعيفة البناء مفككة الأوصال هشة الإرادة، سرعان ما تنهار أمام عدوها، فيستلب خيراتها، ويحقر مقدساتها، ويهين كرامتها، ويشوه تاريخها وثقافتها.
وتلك حقيقة جلية لا يزيدها تعاقب الزمن إلا رسوخا ووضوحا، لأنها جاءت نتيجة لتجارب الأمم وحوادث التاريخ وسنن الكون.. إن الشباب هو عنوان الأمة والمتحدث بلسان حالها، والمترجم عن مصيرها ومآلها -تستطيع الأمة بشبابها -بعون الله- حماية دينها وأرضها واستخراج كنوزها، وتطويع مواردها، واستغلال خيراتها.. إلا أن ذلك مرهون بتربيته، والعناية به وصيانته من كل خطر يهدد خلقه وعقيدته.. ذلك مرهون بتمكن الإيمان في قلبه وبين جنبيه.. ذلك مرهون بتنمية روحه وضميره وعزمه وفكره تلك هي التنمية المطلوبة، والتي ينبغي أن نهتم بها أكثر من غيرها كتنمية الموارد الطبيعية، لأن الأخيرة هذه إنما تدار من أجل الإنسان فهو إذن قطب الرحى، فالاعتناء به ينبغي أن يكون في مقدمة ما نعتني به، وفرق بين تنمية تدفع إليها الحاجة، وتنمية يسار إليها مع الحاجة.
لعلنا على اتفاق أن حاجتنا الملحة هي تنمية شبابنا ليكون عنوان الأمة والناطق بلسانها والذائد عن حياضها. إذا وجدت غريقا جائعا يستغيث من الغرق والجوع فإن منطق العقل والحكمة والحاجة يقتضي أن تنقذه أولا ثم تذهب فتبحث له عن طعام، وإن أنت تصرفت على غير هذا النحو تكون قد جافيت الصواب، وأخطأت التصرف.
ماذا نقول عنك لو أنك تركته لأمواج البحر تبتلعه، وذهبت تبحث له عن طعام؟
وإنها لتنمية تعلو في درج المشقة، درجات، وتمضى في مشوار الصعوبة أشواطا، وتتقدم على التنمية المادية بمسافة شاسعة، إذ ليس بناء النفس كتشييد العمارات، ولا تعمير الأرواح كتأسيس المصارف، الأمر إذًا يحتاج منا إلى منهج رشيد وجهد مكثف يقرب البعيد، ويسهل الصعب ويجعل القول عملا والخيال واقعا.
ونحن لا نقلل من أهمية التنمية المادية المتمثلة في النهوض بالناحية الاقتصادية والزراعية وغيرهما، ولكن الذي نعيبه هو الانشغال بها عن التنمية الروحية والتربية الدينية.. فهلا سارت التنميتان معا كركبتي بعير، أو كفرسي رهان، إن لم تتقدم الثانية على الأولى.
مظاهر الاهتمام بالشباب:
لم يبدأ اعتناء الإسلام بالشباب عند بلوغهم سنَّ الشباب، بل اعتنى بهم وهم نطف في أصلاب آبائهم وترائب أمهاتهم وذلك حين دعا إلى:
1ـ اختيار الزوجة والتحري من كرم أصلها وطيب منبتها؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يبذر بذرا اختار له الأرض الصالحة بغية أن يخرج نباته بإذن ربه، والأمر بالنسبة للزوجة أجل خطابا وأعظم هولاً، لأنه إنتاج بشري وذاك إنتاج زراعي، وفرق شاسع بين إنتاج وإنتاج، فلا عجب إن دعا الإسلام إلى التدقيق في اختيار الزوجة والنظر إليها والوقوف على أخلاقها ودينها حتى يكمل الانسجام، وتزداد المحبة، وصولا إلى عش الزوجية الهادئ الذي يستقبل الأبناء في عطف وحنان فيترعرعون في ظله؛ ليقدمهم إلى المجتمع رجالا أصلاء ونساء عريقات.
2ـ من آداب المعاشرة الزوجية أن يسمى الرجل الله تعالى، ويأمر زوجته بها اتباعا للسنة وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم:"لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضى بينهما ولد لم يضره الشيطان أبدا "وهكذا يدعو الأبوان لابنهما قبل أن يولد بل قبل تكوينه.. حتى إذا جاء إلى الحياة نشأ نشأة رحمانية بعيدة عن غواية الشيطان ومكائده.
3ـ حينما يولد المولود نؤذن في أذنه اليمنى، ونحنكه بمضغ تمرة ووضعها في فيه، وندعو له بالبركة، ثم نعقّ له في اليوم السابع، ونختار له اسما حسنا، وهذه كلها معان خيرة تتعاون على رسم بداية طيبة لحياة قادمة مليئة بالكرامة والخير والاستقامة والسعادة.
4ـ حفظا لفطرة المولود من أي شيء يغيرها، ويعكر صفوها نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من استرضاع المرأة الحمقاء حتى لا يتعدى حمقها إلى الطفل متسربا إلى نفسه الذكية مع لبنها، فيلوثها بما يشوه جمالها، ويغير طبيعتها.
5ـ أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يطعم الطفل، ويغذى من حلال؛ لأن الذي ينبت لحمه من حلال ينشأ وهو يحب الحلال -كما أن الذي ينبت لحمه من حرام ينشأ وهو يحب الحرام، ولا يخفى ما في هذه المسألة من خير كثير في شقها الأول، ومن شر مستطير في شقها الثاني.
6ـ إذا بلغ الأطفال السابعة من أعمارهم أمرناهم بالصلاة فإن داوموا عليها فبها ونعمت، وإلا ضربناهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقنا بينهم في المضاجع حتى لا يلتفتوا إلى أشياء جنسية، في وقت مبكر، هم لم يتأهلوا لها عقليا فتؤثر في أخلاقهم وتنحرف بسلوكهم. ومن حكمة الله ورحمته بخلقه أن الإنسان لا يبلغ الحلُمَ إلا في مرحلة متأخرة يكون فيها عقله قد نما وأصبح يدرك الأمور ويتحكم لحد ما في رغبته، وكبح جماح شهوته.
7ـ يزود الإسلام الشباب في وقت مبكر بثقافة جنسية تتناسب مع سنه وتصلح أساسا لثقافة جنسية كاملة، فنحن نعلمه الصلاة نعرفه بآداب قضاء الحاجة، ونواقض الوضوء.. وهكذا. والثقافة الجنسية لازمةٌ للأولاد؛ لأنها ترشد سلوكهم، وتضبط نوازعهم، وتصون خطاهم من الانحراف.
إشادة وتكريم:
إنَّ الشباب إذا أخلص انتماءه لدينه تمسكا به ودعوة إليه وجهادا في سبيله، استحق أن يحلى صدره بأوسمة المجد والفخار.. قال تعالى إشادة بأهل الكهف الذين فروا بدينهم، وآووا إلى كهف حفاظا على عقيدتهم، وتعرضا لرحمة ربهم قال سبحانه:{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} ، فسجل موقفهم قرآنا عربيا يتعبد بتلاوته، وقال عز وجل تنويها بموقف إبراهيم عليه السلام الذي وقف يصيح بكلمة التوحيد في وجوه قومه الذين عبدوا الأصنام، وأمام صيحته القوية العالية، انخلعت قلوب القوم، وخابت وخسرت أصنامهم.. قال سبحانه:{قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} ورسولنا الأعظم يثنى على الشباب المتدين الناشئ في طاعة ربه، ويجعله مع الحكام العادلين والأخوة المتحابين والأغنياء المتصدقي، ن وبقية السبعة الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلا ظله.
كما نجده عليه الصلاة والسلام يسند إلى الشباب أرفع المناصب وأخطر المسئوليات فيسند إلى علي رضي الله عنه وكان في ريعان الشباب وميعة الصبا -أن ينام على فراشه ليلة تسور عليه سبعون فتى من فتيان قريش ينتظرون (ساعة الصفر) ليميلوا على رسول الله ميلة رجل واحد- أمره أن ينام على فراشه ليعمى عليهم أمرهم وأحسن التخلص عليه الصلاة والسلام حيث كانت بداية الهجرة النبوية المباركة. أما علي رضى الله عنه فقد قال فيما بعد عن نومه في فراش النبي صلى الله عليه وسلم: "والله ما نمت ليلة أهدأ من تلك الليلة".
ويُسنِد عليه الصلاة والسلام مهمةَ الدعوة في المدينة إلى مصعب بن عمير وكان شابا في مقتبل العمر- فقام بواجبه على خير وجه، وبلغ من التوفيق والنجاح أن أهل المدينة يكادون يكونون قد اسلموا جميعا على يديه. وفي غزوة (أحد) نجده عليه الصلاة والسلام يرجح رأي الشباب على رأى الشيوخ فيخرج لمواجهة العدو خارج المدينة، كما وكل قيادة الجيش الذاهب إلى الشام إلى أسامة بن زيد - وكان في العقد الثاني من عمره، وفي الجيش كبار الصحابة
…
وهكذا كان عليه الصلاة والسلام يعد الشباب جنوداً مجاهدين وعمالا حركيين، ويكل إليهم من المسئوليات أخطرها ومن المناصب أعلاها وأرفعها.
وقد سار على قدمه ومضى على سنته سلف الأمة في إعدادهم الشباب وثقتهم فيه وتقليدهم المهام الجسام؛ فهذا أبو بكر رضي الله عنه ينادى (زيد بن ثابت) رضي الله عنه، ويعهد إليه بجمع القرآن الكريم بعد أن أثنى على أخلاقه وأنه شاب مستقيم، الأمر الذي أهله ليرأس المجموعة الخيرة التي نهضت بذلك العمل الفخم الجليل.
كان ذلك في ماضي الأمة الناضر الزاهر فينبغي لها في حاضرها أن تهتم بأمر الشباب حضًّا لهم على التمسك بأهداب الدين والخلق المتين مع إزالة كل عقبة تقف في سبيل إعدادهم، ولعله من الأفضل أن تسند إليهم بعض المناصب والمسئوليات مع إعطائهم الصلاحيات التي تجعلهم يتحركون في حرية واختيار، فإن في ذلك إعداداً لهم، وتنمية لملكاتهم، وتفجيرا للكامن من طاقاتهما مع إتاحة الفرصة لهم للالتقاء بالشيوخ، والاستفادة من خبرتهم، والاقتباس من تجاربهم حتى تلتحم قوة الشباب مع حكمة الشيوخ فيثمران رشادا في الرأي وصلاحا في العمل، وإلا جاءت الأمور كما قال حكيم الشعراء:
إن الأمور إذا الأحداث دبَّرها
دون الشيوخ ترى في بعضها خللا
الشباب والتقليد:
يقول علماء الاجتماع: "الإنسان مدني بطبعه"أي أنه لا يذوق للحياة طعما إلا إذا عاش بين جماعة، ومادامت هناك جماعة فلابد من أن يؤثر بعضهم في بعض، ويقلد بعضهم بعضا؛ لأن التقليد وسيلة من وسائل التعليم ونقل الخبرات، خاصة لمن هم في ريعان الشباب ومقتبل العمر، والواقع أن التقنية الحديثة وسرعة المواصلات جعلت العالم كله أسرة واحدة مرتبط بعضها ببعض ارتباطا عضويا.
وليس في هذا ضرر بل فيه منفعة، ولكن الضرر يكمن في أن يتحول التقارب إلى امتزاج، والالتصاق إلى ذوبان يفقد الناس معه أصالتهم وذاتيتهم وتراثهم. إننا لا نمانع أن تهب علينا رياح الثقافات، ولكن لا نرضى أن تصبح الرياح ريحا تقتلع شجرة ثقافتنا.
وإنك لتجد كثيرا من شبابنا اليوم يتخلى عن عاداتنا السمحة وتقاليدنا الأصيلة منصرفا إلى تقليد الغربيين في شتى مناحي الحياة، ولم يقفوا عند حد التقليد بل ذهبوا إلى الدعوة إليها والمناداة عليها باعتبار أن كل ما يأتي من الغرب حق كله والأخذ به تقدمية، والانصراف عنه تأخر ورجعية.
وإحقاقا للحق واعترافا به أن ما يأتي من الغرب ليس شرا كله، بل هناك جوانب مشرقة وخيرية، فيجب علينا أن نقف ونتبين ونميز، ولا نكون أمامها (كحاطب ليل) ، فما وافق ديننا وأخلاقنا أخذناه (خذ الحكمة من أي وعاء خرجت) وما خالف ديننا نبذناه نبذ النواة. ولكن شبابنا -هداهم الله- قلدوا أهل الغرب في الجوانب المظلمة وتركوا المشرقة فمثلهم -كما قال الشيخ محمد الغزالي حفظه الله- مثل رجل مسلول- مصاب بذات الرئة - رأى عملاقا- فارع الطول مفتول العضل ولكنه يشرب الدخان- فلم تعجبه هذه العملقة بقدر ما أعجبه شرب الدخان فقلده فيه ليجلب على نفسه الضعف والهلاك. ولعل التربية الإسلامية كفيلة بتبصير شبابنا بمساوئ الحضارة الغربية حتى لا يغتروا بزخارفها الخادعة، وأشكالها الفارغة من المحتوى والكيان، وفي الوقت نفسه تحضهم على التمسك بأخلاقنا الإسلامية العظيمة وعاداتنا الوطنية الأصيلة محافظة على تراثنا واعتزازا به، وإن في تمسكهم به غنى لهم عن غيره، وتحصينا لهم من ضرره، وعاصما لهم من الانحراف الفكري والانحطاط الخلقي. كما تبين لهم الأثر الكبير- للحضارة الإسلامية في تقدم أوربا، وأن نهضة الغرب الحالية إنما كانت بدفع قوى من يدي الإسلام، وأنه لولا جهود المسلمين لتأخرت نهضة أوربا بضعة قرون، وأن مؤلفات ابن سينا وغيره من علماء المسلمين كانت تدرس في جامعات أوربا حتى القرن الثامن عشر الميلادي.
وأن العلماء المسلمين كانوا أساتذة أوربا في جميع فروع المعرفة، وأن الغربيين مدينون لهم في الحقل العلمي. وقد اعترف علماء أوربا بهذا الفضل للمسلمين- والفضل ما شهدت به الأعداء.
والواقع أننا لسنا في حاجة لشهادتهم لنا، ولكن نذكرها لما رأينا قومنا يجهلون ما علمه غيرهم وينكرون ما اعترف به سواهم، ليقبلوا عليه وينشغلوا به، ويضيفوا إليه كل ما يعلى أسواره ويغيظ غرامه وحساده.
واجب الآباء:
الأبناء نعمة وشكرها يكون بحسن الرعاية لها، وكمال الإشراف عليها من جانب الأب والأم؛ ليتم التعاون بين المدرسة والبيت على التربية القويمة والتوجيه السليم والمتابعة الدقيقة.
وتطلعا للنتائج العظيمة وتفاديا للعواقب الوخيمة، أذكر بعض التوجيهات راجيا النظر فيها والعمل بها:
1ـ الاهتمام بالتربية الإيمانية، وذلك بتعميق الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر في نفس الابن وغرس العقيدة السليمة، في أعماقه لتكون مصدرا للسلوك الشريف والمعاملة الصادقة، فالعقيدة هي سفينة النجاة وصمام الأمان، وقد جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وكان يركب خلفه على دابة فقال له: "يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك
…
"الحديث. ومما يقوي العقيدة ويعمق جذورها الصلاة على وقتها وفي جماعة، وتلاوة القرآن، وذكر الله تعالى، وقراءة السيرة النبوية وسير الصحابة الأجلاء والسلف الصالح. ولابد من متابعته حتى لا ينحرف بها عن الجادة أو يخلطها بشيء من البدع والخرافات.
2ـ تقديم النصيحة الخالصة، والمعرفة الصحيحة على حسب نموه العقلي، لتقع موقعها من الحاجة فتثمر ثمارها، وتحدث أثارها، تنمية ملكات واتساع مدارك واستقامة سلوك. ولا يكفي أن نلقي إليه بذلك وكفى، ولكن لابد من المتابعة والوقوف على أثر هذه الجرعات في تكوينه الفكري وسلوكه الفعلي.. وهكذا نراقبه مراقبة الطبيب مريضه حتى تذهب العلة، وتحل العافية، أو مراقبة الزارع حرثه حتى يستغلظ ويستوي على سوقه ويدلي بثماره.
3ـ التأكد من صلاح الصحبة التي يلتقي بها، ويخرج معها؛ لأن الشاب سريع التأثر بأصحابه شديد الرغبة في أن ينسجم معهم ولا يشذَّ عنهم، فإن كانوا أخيارا انسجم مع أخيار، وتَطبَّع بطباعهم وتخلق بأخلاقهم، وإن كانوا أشرارا فالأمر واضح، والنتيجة أوضح ومن الحكم النبوية البالغة قوله صلى الله عليه وسلم: عن أبي موسى الأشعري رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنة "متفق عليه، أما أن يترك للشاب الحبل على الغارب يخرج متى شاء، ومع من شاء بلا رقابة من أب أو أم أو ولي فليس هذا من حسن التربية وتقدير المسئولية ورعاية الأمانة.
4ـ تنظيم أوقات الأبناء وبرمجةُ استذكارهم مع إشعارهم بقيمة الوقت وأنه هو الحياة، وأن فواته من غير منفعة أشق من فوات الروح، بهذا يحرصون على أوقاتهم حرص الشحيح على المال والجبان على الروح فيستثمرونه على وجه نافع. ومن المعلوم تربويًا أنه لا بد من وقت للترفيه والتسلية البريئة؛ لأن سير الأمور على وتيرة واحدة - مجلبة للسآمة والضجر والملل، والقلوب إذا كَلَّتْ عميت، وسويعةُ ترفيه تجدد النشاط وتقوى العزيمة، وتفتح نوافذ البصيرة. أما وسائل الترفيه البريء فأنت أعرف بها، وأقدر عليها.
5ـ أن نكون قدوة صالحة لأبنائنا، لأنهم يقلدون الآباء، ويتشبهون بهم، وينشأون على ما عودوهم عليه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وأكثر ما تقع أعينهم على آبائهم، فتنطبع صورهم على شاشة فطرتهم، فلنحرص على أن تكون تلك الصور مرسومةً بمداد الاستقامة، لابسة ثياب التقوى. وهم إنما يتأثرون بما يشاهدون أكثر من تأثرهم بما يسمعون، إذ الدلالة الفعلية أقوى أثرا من الدلالة القولية، وإذا اجتمعت الدلالتان فعلتا في النفس فعل السحر، وجذبتا القلب بأسلس عنان:
وينشأ ناشىء الفتيان منا
على ما كان عوّده أبوه
العلماء والشباب:
إن هناك خطراً مريعاً يتهدد شبابنا، وحتى ننبهه إلى هذا الخطر ليأخذ حذره، ويتفادى الوقوع فيه، لابد من دق ناقور الخطر. والسؤال من الذي يدقه؟ والجواب: العلماء فعليهم يقع عبء المسئولية، وواجب الإنقاذ، وإن لم يكن هم فمن؟
العلماء هم الأساة الذين يشخصون الداء، ويعطون جرعات الدواء ويراقبون العلة حتى تذهب، وتحل مكانها الصحة والعافية. وكل مرض ترك وشأنه فتك بالمريض، وأهلكه، فليس هناك مناص من أن يقوم العلماء بواجبهم، ويؤدوه على وجه يرضى ربهم وضمائرهم، ويحفظ شباب الأمة، وإلاّ فهم مسئولون أمام التاريخ، فضلاً عن المسئولية الكبرى أمام الله عز وجل الذي أخذ الميثاق وأكد العهد على العلماء في كل ملة أن يبينوا الحق، ولا يكتموه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَه
…
ولله در الشيخ عبد الله بن أحمد قادري إذ يقول متحدثا عن واجب العلماء تجاه الشباب:
يا علماء الأمة
شبابكم في ظلمة
قد حاد عن إسلامه
وغاص في آثامه
وصار جل همته
إشباعه لشهوته
وقاده الأعادي
للكفر والإلحاد
حتى غدا مناصرا
لمن يكفر جاهرا
ففقد الشخصية
والنبل والحمية
وأنتم في غفلة
يا علماء الأمة
ما بكم لم تنهضوا
وكسلا لم ترفضوا
من غَيرَكمُ للجيل
يهديه للسبيل
أليس في القرآن
والسنن الحسان
قد جاءنا وعيد
مغلظ شديد
لكل ذي كتمان
وتارك البيان
فانتهوا يا علماء
لخطر قد دهما
وكل مالا يحسن
فللشباب بينوا [1]
فعلى العلماء أن يلتقوا على أمر الله تعالى وتلتحم صفوفهم، وينطلقوا في دروب الجهاد والإصلاح، ينازلون الباطل بخطة محكمة وطاقات مجندة، وعزائم لا تعرف الضعف ولا الفتور، وصولاً إلى الانقلاب الإسلامي المنشود، وظفراً بالغاية المخطط لها والمتفق عليها، وهما تحقيق أمر الله جل جلاله واقعا يعاش، ومنهجا يتبع، وسلوكا يمارسا وقانونا يحكم، ودولة تسهر على حمايته، وتسعى جادة لنشره بين البشر، وبهذا نوفر الجو الصالح لشبابنا لينمو نموا كاملا، يرمي إلى الناس بالخيرات المباركات والثمار اليانعات. ذلكم واجب العلماء الذي لا يجوز لهم التغافل عنه، أو التهاون فيه وإنما واجب الساعة، الإقبال عليه، والقيام به، قياما لا جلوس بعده وسيرًا لا جلوس عقبه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]
جوهرة الإسلام: 44.
خصائص ومقومات: الاقتصاد الإسلامي
للشيخ محمد إبراهيم برناوي
مدرس بدار الحديث المدنية
الاقتصاد كما يبدو لنا في بعض معانيه أو جلّها:- هو الاعتدال الذي لا إفراط فيه ولا تفّريط، الاعتدال في الدخول والإنتاج، والمنصرفات، لضمان بقاء الحياة الاقتصادية في جو معتدل بعيدا عن التدهور والكساد ـ والاقتصاديون يحاولون حل المشاكل الجماعية والفردية وفق المنهج الاقتصادي العادل الذي لا ظلم فيه لأحد على حساب آخر.
والمتأمل في النظريات الاقتصادية السائدة ـ اليوم ـ يراها تقوم على أصل مضاعفة الإنتاج الذي يعتبره رجال الاجتماع والاقتصاد الحل الوحيد للمشكلات الاقتصادية، فهذا الحل في الواقع وجيه وسليم لولا ما في ذلك من إنكار ذات الفرد في المجتمع وإنكار ملكيته وتحديد الدخل القومي للمجتمع بأسره باسم القضاء على الطبقات لتحل محل ذلك المساواة -المزعومة-
…
كي تصبح السلطة في يد الدولة ـ الحاكمة ـ فيتجرع مرارة ذلك الحرمان الشعب المغلوب على أمره
…
وقد وضع الاقتصاديون لذلك خطة عنيفة تمشيا مع التفسير المادي للتاريخ الذي يرون فيه أنه نتيجة للصراع الطبقي على هذه البسيطة.
وأسلوب الخطة يتلخص عندهم فيما يأتي: ـ
1-
التحليل المادي للتاريخ: فيزعمون أن التطور المادي في مكان ما هو وحده الذي يفرض نظام المجتمع الواجب الاتباعِ.
2-
إنكار كيان الفرد، ومحاربة الحوافز الفردية ووجوب تغيير نظام المجتمع القائم على هذا الأساس
…
3-
حتمية الصراع الطبقي من أجل تغيير المجتمع، وإلغاء الملكية الفردية لجميع وسائل الإنتاج فيه.
4-
إلغاء الدولة عندما يصبح الناس فيها اشتراكيين ويتضمن هذا القضاء على الطبقات- هذه أفكار المذاهب التجريبية عند الشيوعيين والاشتراكيين
…
وتلك هي الفلسفة المادية التي جعلت المجتمع الذي يرزح تحت سيطرتها طبقة واحدة من الفقراء والبؤساء، فلا هي تركت الفقير يعالج مشكلاته الاقتصادية على أساس من حرية الكدح والاكتساب المشروع لتنمية وتغطية احتياجاته الاقتصادية في هذا الصدد، ولا هي تركت الغني يعيش في مستواه الطبيعي ويستثمر مدخولاته لتنمية مورده الاقتصادي في هذا المجال.
الاقتصاد في نظام الاشتراكية:-
يؤسس الاقتصاديون النظام الاشتراكي على أساس التفسير المادي للتاريخ
…
فهم يفسرون الصراع الطبقي في الحياة بأنه نتيجة للحالة الاقتصادية لدى الأفراد والجماعات التي يحتاجها الإنسان، وضربوا لذلك مثلا بتأمين المأكل، والمشرب، والمسكن، والجنس
…
فإذا اشترك الناس جميعا في هذه الأمور فقد تمت المساواة بينهم، ولا محل للصراع والشقاء في نظرهم
…
ومن ثم قرروا ما يلي:
1-
إنكار كيان الفرد في المجتمع ومحاربة الحوافز فيه، ضرورة تغيير نظام المجتمع.
2-
إلغاء الملكية الفردية لجميع وسائل الإنتاج.
ومعلوم أن إلغاء الملكيةَ الفرديةَ وهدم كيان الفرد وقتل الحوافز لدى الأفراد والجماعات يؤدي إلى تدهور الحالة الاقتصادية لديهم، حتى تصبح السلطة الرئيسية للدولة، وبالتالي تكون هي المسيطرة على الحالة الاقتصادية في البلاد بزعم المساواة في الطبقات وما ذهبوا إليه لحل المشاكل الاقتصادية التي اصطنعوها ويودون حلها بهذه الفكرة، إنما هي في الحقيقة عمل مضاد للمنهج الإلهي العادل وكذلك للسنن الكونية، والفطرة الإنسانية السليمة.
المنهج الإسلامي:
في الظروف الحرجة التي تضل فيها البشرية الطريق السوي لتنظيم حياتها وحلّ مشكلاتها في شتى نواحي الحياة، وحينما يعجز المفكرون عن وضع الحلول المناسبة لإنقاذ الإنسانية عامة، ويصلون بتجاربهم وفلسفاتهم ونظرياتهم المادية إلى طريق مسدود. يقف الإسلام دائما لإنقاذ البشرية من حمأة المادة وويلاتها، ويصف لها العلاج الناجع في هذا الصدد؛ لأنه المنهج الصالح لكل زمان ومكان، وهو بحق الكفيل بتنظيم حياة الإنسان خاصها وعامها في شتى النواحي الاقتصادية الفردية والجماعية، لأنه المنهج الرباني العادل الذي لا ظلم فيه ولا حيف، بعكس النظم الوضعية النفعية التي تظلم فريقا لتحقيق رغبات فريق آخر. وهذا مشاهد في الأنظمة الشيوعية والاشتراكية.
أما الإسلام فهو نظام مستقل إذ يقدر للعاملين نتيجة عملهم وكسبهم المشروع في الحياة، ويحقق مصلحة الفرد والجماعة، بل ويحثهم على السعي كما في قوله جل وعلا في سورة الجمعة {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} والشاهد في هذه الآية هو الانتشار في الأرض ابتغاء فضل الله، وكذلك كما في قوله تعالى في سورة الملك {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} فالإسلام يحث المسلم على الكدح في ميادين الحياة الفسيحة. مع مراعاة الطهر والنزاهة، وعطاء إخوانه السائلين والمحرومين حقهم المعلوم، فتطيب نفوسهم وتنتزع منهم الأحقاد.
إن الإسلام يعلم المسلم أن المال في الحقيقة هو مال الله، والله تبارك وتعالى هو الذي استخلفه فيه، والسائل والمحروم إذا لم يُعط حقه في هذا المال يمتلئ قلبه حقدا وحسدا على الغني الذي منعه حقها، أما إذا أدى الأغنياء حقوق الله فيه؛ شعر الفقراء أنهم أخوة لهم، وبهذا يعيش المجتمع المسلم حياة كلها وئام وصفاء لا ترف فيها الأنانية أو النفعية الخاصة، التي لا تعرف الرحمة، ولا تعرف حق الإنسان- نحو الإنسان الذي يدعو إليه دعاة (حقوق الإنسان) الذين أكلوا حقوق الإنسانية كلها تحت هذا الستار.
مرة أخرى نقول إن نظام الإسلام الاقتصادي أفسح المجال للعاملين والكادحين لمضاعفة- الإنتاج في شتى النواحي الاقتصادية والزراعية والصناعية والتجارية على السواء وأتاح الفرصة- أيضا لتسخير جميع القوى الإنسانية الفردية منها والجماعية والآلية على طول الخط شريطة ألا تضر بالمصالح العامة على حساب المصالح الخاصة كما أن استثمار الأموال يجب أن يبعد عن الطرق غير المشروعة كالقروض الربوية طويلة المدى والقصيرة المدى وما شابه ذلك من احتكار وغش وتدليس، تلك هي بعض الأسس التي يقوم عليها النظام الإسلامي لتنظيم حياة البشرية في شتى مجالات الحياة، ولن تصل الإنسانية كافة إلى ما تصبو إليه من سعادة وطمأنينة واستقرار، وتحقق معنى الخلافة في الأرض إلا إذا طبقت منهج الله العادلة.
خصائص ومقومات الاقتصاد الإسلامي
قلنا إن النظريات الاقتصادية الغربية هي نتيجة- الصرع الطبقي التي دعت الإنسان لحب التملك والاستعلاء كما يزعمون
…
لكنا نحاول بيان مقومات وخصائص الاقتصاد الإسلامي بعد أن عرفنا موطن الداء في النظريات الاقتصادية- السلبية- التي تتنافى مع فطرة الإنسان ومع المصلحة الجماعية في آنٍ واحد، فضلا عن منافاتها للسنن الكونية. فمنهج الإسلام كما يبدو واضحا وواسعا وشاملا في نفس الوقت- تراعى فيه مصلحة الجماعة من جهة وتراعى فيه مصلحة الفرد من جهة أخرى لأن الفرد عضو في هذه الجماعة وليس كمًّا مهملا ساقطا من أي اعتبار وإنما هو كيان له ما للجماعة المتمثلة في بقية الأفراد.
فالشريعة الإسلامية لا تسقط من حسابها مصلحة الفرد، ولا تهمل أيضا المصلحة الجماعية كذلك فهي تقيد هذه وتلك بقيود لا تتنافى مع العدل والإنصاف، ولا تترك العنان لإحدى المصلحتين- الجماعية أو الفردية، أن تطغى على الأخرى.
فلئن كانت المصلحة الجماعية مقدمة في الأصل على المصلحة الفردية فكذلك الربط بين المصلحتين الفردية والجماعية أيضا، فلا تضر الشريعة بمصلحة الفرد على حساب المصالح الجماعية، وإنما تدور هذه المصالح جميعها في فلك واحد لا يتنازعان على طول الخط مادام هناك تقدير لجهود الفرد- ومادام هناك شعور بحق الجماعة كما سلف.
وهذه هي أبرز مقومات وخصائص الاقتصاد الإسلامي نلخصها فيما يلي:-
1-
تسخير ما في السماوات وما في الأرض للناس على السواء.
2-
حرية الكسب والتحصيل بطرق شرعية.
3-
مراعاة المصلحة الفردية.
4-
مراعاة مصلحة الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد في حدود العدل والإنصاف.
5-
محاربة الفوائد الربوية بشتى طرقها.
تلك هي أهم خصائص ومقومات الاقتصاد الإسلامي كما سنوضح ذلك بإذن الله تعالى.
1-
تسخير الله ما في السماوات وما في الأرض للناس على السواء:
بهذه الخاصية نستدل على أن الإسلام خول للناس جميعا حرية العيش في الأرض، واستخدام- الوسائل التي تمكنهم من الاستفادة مما خلق الله لهم في السماوات والأرض بشتى الطرف. بل وطلب الإسلام من الإنسان أن يستخدمها ليستفيد ويفيد. فالله سبحانه وتعالى ذلل لهم ما خلق في السماوات وما خلق في الأرض وسخر جميع ما فيها من خيرات ومواد وخامات وجعلها معايش للناس جميعا لا احتكار فيها ولا استئثار فيها لأحد دون أحد، والآيات- التي تشير إلى ذلك وتحث الناس على أن يشكروا لله تلك النعم الكثيرة التي لا تحصى؛ يقوله تعالى من سورة البقرة {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً الآية} وقوله تعالى من سورة الأعراف:{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} وقوله تعالى من سورة الملك: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} فهذه الآيات المتقدمة تشير إلى أن الله خلق جميع ما في الأرض للناس على السواء. والهدف من هذا كله هو الانتفاع بذلك ليكون عونا لهم على عبادته جل وعلا؛ لأنه في الحقيقة لم يُمكن الله العباد في هذه الأرض هذا التمكين ويكشف لهم عن- أسرارها ودواخلها وما تحويه بين طياتها من كنوز ومعادن ومواد إلا ليعبدوه وحده، لا لتسيطر عليهم "مادة"فيعبدوا من دونه فتثقلهم، وتقعدهم عن السمو بأرواحهم، بل ليعيشوا مع خالقهم ورازقهم الذي منحهم هذه الأشياء بمحض كرمه وامتانه، وإلا فإن الله قادر على قهرهم وعدم تمكينهم من أن يتوصلوا إلى كل هذه الاكتشافات، ولكنه سبحانه يبلوهم فيما آتاهم على حد قوله تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك) . وبهذا نستطيع تحديد الأبعاد
…
ما بين طبيعة المنهج الرباني الذي وضعه الله للناس على علم، وما بين الفلسفات "المادية التي وضعها البشر"، وشتان ما بينهما، فبينما يسخر الله
تبارك وتعالى كل ما في الأرض وما في السماء للبشرية عامة ويطلب منهم أن يجتهدوا في طلب الرزق على تفاوت منازلهم ليعموا هذا الكون وفق منهجه، إذا بالفلسفات الحمقاء تقف حجر عثرة على الطريق لتعرقل سير الإنسانية عن هذا الطريق السوي بكبت المواهب وقتل الحوافز لدى الأفراد والجماعات، فتحجر عليهم طرف الكسب والتحصيل كما سنوضع ذلك في محله، فإلى أين تذهب البشرية في عملياتها إلى متى تستمر في تنكبها عن الطريق.
2-
حرية الكسب والتحصيل بطرق شرعية:
وهذه الخاصية كسابقتها من حيث الضرب في الأرض ابتغاء فضل الله فلم تضيق الشريعة الإسلامية الخناق على الناس في طرق كسبهم من الرزق المقدور لهم شريطة ألا يتعدى ذلك المنهج الذي رسمه الله لهم وألا يخرج عن إطاره، وعلى الفرد أن يختار بعد ذلك العمل الذي يريده من حرف يدوية، وصناعة آلية ومن بيع وشراء وما إلى ذلك بصور فردية جماعية. مادام ذلك الكسب والتحصيل بطرق شرعية نظيفة.
والطرق الشرعية في ذلك كثيرة. نذكر أهمها فيما يلي:
أ- البيع والشراء الشرعيان.
ب- طرق المضاربة. برؤوس الأموال.
جـ- العمل بأجر أو الاحتراف وما إلى ذلك.
ويشترط فيها جميعها "الطهارة والنزاهة وصدق المعاملة"في كل كلمة واحدة منها مع عدم الغش والتدليس.
3-
مراعاة المصلحة الفردية:
سبق لنا القول عن حرية الكسب والتحصيل وكيف سخر الله ما في السماوات وما في الأرض للناس جميعا. إلا أننا نكرر في هذه الخاصية ما سبق أن ذكرناه من أن الشريعة الإسلامية نظرت للمصلحة الفردية بعين الاعتبار، فراعت تلك المصلحة بل وجعلتها من المصلحة العامة أيضا أفمن مراعاتها للمصلحة الفردية وجعل مصلحة الفرد مرتبطة بمصلحة الجماعة هو مقت البطالة ومحاربتها بشتى الوسائل حتى ولو كانت عن ظهر غنى وتلك من مصلحة الجماعة أيضا؛ لأن توقف هذا الفرد عن العمل بدون أي مبرر هو خسارة فادحة على المجتمع بأسره إذ قد خسر المجتمع موهبة هذا الفرد الذي كان بإمكانه أن يسهم بدوره في رفع إنتاج البلاد فيفيد ويستفيد.
فالإسلام يشجع على العمل، ويمقت البطالة ويعتبر العامل في نظر الشريعة الإسلامية- كالمجاهد، وهو يفضل على العابد المنقطع للعبادة وحدها، فقد جاء في الأثر "أن من الذنوب.. ذنوبا لا يكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة [1] يكفرها الهموم في طلب المعيشة"وجاء أيضا في الحديث الصحيح:"ما أكل ابن آدم طعاما قط خيرا من عمل يديه".
تلك هي مراعاة المصلحة الفردية التي تدعو الفرد لتنمية مواهبه وثرواته المادية وتقدر له ذلك حق التقدير، وترى أن عود الفائدة ليست له وحده، وهو كذلك بلا شك فقد تعود الفائدة إلى ورثته من بعده، وقد تعود للمصلحة العامة التي يشترك فيها جميع إخوانه من المسلمين، وتعتبر تلك الثروات التي قدمها زيادة الإنتاج كان له دوره في إسهامه وتعود فيه الفائدة أيضا على الجميع فضلا عما يقدمه هو لآخرته من أعمال البر والإحسان ليكون له رصيد يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.
4-
مصلحه الجماعة مقدمة على مصلحة الفرد في حدود العدل والإنصاف:
في هذه الخاصية نرى الترابط الوثيق بين المصلحتين. فمصلحة الفرد مرتبطة بمصلحة الجماعة في نفس الوقت، ولكن المصلحة الجماعية في الحقيقة لها دورها الكبير في هذا المجال لأنها مصلحة الأمة بأسرها والتي يعتبرها الشرع من المصالح العامة التي لا يحل لفرد من أفراد الأمة استغلالها لحسابه الخاص، فمن هذه المصالح العامة على سبيل المثال ما يلي:-
1-
الطرق والميادين العامة وما شابهها والتي جعلت للناس كافة، فلا يحل لفرد من الأفراد استغلالها لمصالحه الشخصية.. فيعرقل مصالح المسلمين بوضع عوائق في طرقاتهم وشوارعهم.
2-
الأموال العامة تعتبر من المصالح العامة للمسلمين فلا يحل لوال من الولاة التصرف فيها وصرفها في غير وجهها، وإنما يوزعها على المستحقين وفق العدل والإنصاف فيقرض من يحتاج إلى القرض. ويحمى بها الثغور الإسلامية.
3-
عدم احتكار أقوات الناس للإضرار بهم لحساب مصلحة شخصية، كما هو الحال لدى أصحاب رؤوس الأموال حينما يلجئون لكسب السوق، بتعطيل المصالح الجماعية فلا يحل لفرد من الأفراد أن يبخل على إخوانه ببعض ما أتاه الله فيبيعهم بالأسعار المناسبة المعقولة فضلا عن احتكار أقواتهم وأرزاقهم فقد جاء في الحديث أن المحتكر ملعون والجالب مرزوق.
هذه هي النظرة الإسلامية لمصلحة الأفراد والجماعات، وهى في حقيقتها نظرة عادلة لا ظلم فيها ولا حيف؛ لأنها تقدر حق الفرد ولا تسقط من حسابها حق الجماعة المتمثلة في هؤلاء الأفراد وتلك هي سنة العدل والإنصاف.
5-
محاربة الفوائد الربويه:-
المتأمل في عمليه الربا يجدها في الواقع عملية ((سلبية بحته)) جامدة فضلا عن نتائجها السيئة التي تأباها الفطرة السليمة. ولما كانت الشريعة الإسلامية تنظر- نظرتها الواسعة للأمور وتضع لكل مشكلة حلولها المناسبة لها بعد علم المقدمات والإحاطة الشاملة "بالنتائج "عندها تحلل وتحرم عن علم ودراية بمصالح البشرية كافة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} . وما كان الربا من أفحش الظلم وأشنعه حرمة إلا لأنه يتنافى مع العدل الذي أراد الله أن يُسَوِّد العباد- {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة) .
فلئن ظن المرابي أنه يحقق بهذه العملية رغباته في الحياة ويصبح من أصحاب الأموال الطائلة التي لا تحصى، بما يتحصل عليه من فوائد ربوية لا تقف عند حد فيجب أن يتيقن كذلك أن ما جمعه إلى زوال وأن مآله "المحق"كما قال تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} . فشتان ما بين وجه السماحة وطهارة النفس وسمو الإنسانية، وهو الوجه المقابل للصدقة الذي تكفل الله له النماء والزيادة، والوجه الآخر المقابل لعداء الإنسانية كلها بما لا يعرف للرحمة أو الشفقة طريقا، ذلك الوجه المرذول الممثل للأنانية والحقد والشّحّ وخبث النفس والذي توعده الله بالمحق. ولسنا في حاجة بعد ذلك كله لنعت المرابي بأكثر من تلك النعوت التي نعت بها في مواضع كثيرة من الكتاب الكريم لأن مرد ذلك إلى شيء واحد وهو مرض القلب والعياذ بالله، ومرض القلب معروف النتائج ِ
…
ولما أراد الله تبارك وتعالى أن يبين حقيقة المنافقين؛ إنما نعتهم بذلك فقال: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} . وبالاستقراء والاستنتاج نجد أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه إنما عمل -أول ما عمل في بادئ الأمر- على معالجة القلوب في كثير من الأحيان، ووردت في ذلك أحاديث كثيرة تعالج هذه النواحي النفسية بما لا نستطيع حصرها في مثل هذه المعالجة. ولا بأس بذكر شيء منها على سبيل المثال.. فقد جاء في ذلك من حديث طويل رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تدبروا وكونوا عباد الله إخوانا -كما أمركم الله تعالى- المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره...." الحديث.
ومعلوم أن كل هذه الأفعال إنما هي من أعمال القلب. وكذلك ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبى أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام ". إنما يعالج أمراضا نفسية مناطقها القلب. وكذلك الأمر في بيع الرجل على بيع أخيه المنهي عنه في الحديث، لأنه يسبب التباعد والتباغض، والإسلام إنما جاء في الحقيقة ليجمع لا ليفرق، إذا كان الأمر كذلك فما هو موضع- آكل الربا الذي آذنه الله ورسوله بالحرب ولعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.