المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 57 فهرس المحتويات 1- كلمة صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ٢٦

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌العدد 57 فهرس المحتويات 1- كلمة صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز

‌العدد 57

فهرس المحتويات

1-

كلمة صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز في زيارته للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

2-

كلمة التحرير زيارة كريمة: بقلم الشيخ سعد ندا

3-

افتتاحية العدد: لفضيلة الدكتور عبد الله الصالح العبيد

4-

الهجرة في سبيل الله: للشيخ أبي بكر الجزائري

5-

تحية المسجد: للدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي

6-

مسلك القرآن الكريم في إثبات الوحدانية: علي بن محمد بن ناصر الفقيهي

7-

مفهوم الأسماء والصفات: بقلم الشيخ سعد ندا

8-

رخصة الفطر في سفر رمضان وما يترتب عليها من الآثار: الدكتور أحمد طه ريان

9-

يريد الله بكم اليسر: للشيخ حسن عبد الوهاب مرزوق

10-

مجموعة نصائح: للشيخ إبراهيم الراشد الحديثي

11-

حقوق الإنسان في الإسلام (6) : الشيخ: عبد الفتاح العشماوي

12-

صفحات مشرقة من حياة عمر بن عبد العزيز: للشيخ إبراهيم الجمل

13-

الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية (2) : للدكتور محمد نغش

14-

تفاعل المسلمين مع دينهم: للدكتور محفوظ إبراهيم فرج

15-

الدين بين الشرق والغرب: للشيخ عادل رمضان

16-

معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لبني قريظة والرد على ما يثار حولها من شبهات:

للدكتور جمعة علي الخولي

17-

المستشرقون

والسيرة النبوية: للدكتور عوض عبد الهادي العطا

18-

نماذج من الدعاة الصالحين: الشيخ أبو بكر الجزائري

19-

من نحاة الأندلس ابن هشام الخضراوي: للدكتور أحمد محمد عبد الله

20-

رسائل لم يحملها البريد: للشيخ عبد الرؤوف اللبدي

21-

بحث في صيغة "أفعل"(بين النحويين والغويين واستعمالاتها في العربية) : الدكتور مصطفى أحمد النماس

22-

منهج في دراسة المنهج: للدكتور أحمد بسام ساعي

23-

الاتجاه الإسلامي في شعر أحمد محرم: للدكتور صلاح الدين محمد عبد التواب

24-

اللسانية العربي بين الأصالة والتعريب: للدكتور محمد منذر عياشي

25-

تسابيح: للشيخ عبد المحسن حليث مسلم

26-

مع المجاهِدِين الأفغَان: للدكتور محمود أحمد عبد المحسن

27-

رمضان..والجرح.. والأمل: شعر: عبد الرحمن صالح العشماوي

28-

رحم الله المحلقين: للشيخ يوسف الهمزاني الشافعي

29-

حوار حول الأدب الإسلامي ومناهج دراسته

30-

في المشارق والمغارب: الشيخ عبد الله أحمد القادري

31-

حقيقة القات في ضوء العلم والدين: للشيخ محمد المجذوب

32-

ملاحظات حول كتاب عقيدة السلف والخلف: للشيخ عبد القادر السندي

33-

هل كتابة التعاويذ من الآيات القرآنية وغيرها وتعليقها في الرقية، شرك أم لا؟ : لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز

34-

الإيمان: لفضيلة الشيخ سعد ندا

35-

ديانة النصرانية: للشيخ محمد رجب حميدو

36-

أخبار الجامعة وقائع اللقاء التاريخي

: إعداد إدارة العلاقات العامة بالجامعة

37-

ترجمة موجزة لفقيد كلية القرآن الكريم بالجامعة

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 281

كلمة صاحب الجلالة الملك فهد بن عبد العزيز

في زيارته للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

لقد سمع الإخوان البارحة عن المشاريع التي ذكرت من 1401 هـ إلى 1403 هـ، وأودُّ أن أقول: إنه من الصعوبة بمكان أن يستوعب الإنسان دائماً كمية المشاريع أو نوعيتها التي تم إنجازها في المدينة من 1401 هـ إلى السنة الحالية الآن 1403 هـ.

هناك الكثير من المشاريع التي قاربت على النهاية، وبقية هذه المشروعات سيتم إنجازها خلال العام الثالث، فقد بلغ ما رصد لإنجاز هذه المشروعات في السنوات من 1401 هـ إلى 1403 هـ بلغ 14 ألف مليون ريال، و 200 مليون ريال خلال هذه الفترة.

ومثلما ذكرت: إن أكثر سكان المدينة بطبيعة الحال مثلي أنا ومثل أي شخص آخر، لا يمكن له أن يستوعب كل ما ينشر في الجريدة بين شهر وآخر وإنما إذا رأينا الآن ما نفذ في الثلاث سنوات الأخيرة سنجد أنه بلغ 14 ألف مليون ريال كلها في خلال سنتين لأن السنة الثالثة بدأت الآن، ما هي بالبساطة بمكان، ولا يعتبر هذا إهمالاً للمدينة، أو أن هناك تغافلا.

مع هذا كله قرر مجلس الوزراء أن تكون هناك هيئة، ويشرفني أن أكون مشرفاً عليها لتطوير المدينة، وعلى رأس ما ينفذ في هذا المجال:

التوسعة للمسجد النبوي، وكذلك الأمور الأخرى التي ستجعل المدينة تأخذ وضعها المتكامل لأنها في الواقع لها حق كبير على الدولة. وعلى المواطنين. وعلى أي إنسان.

أحب أن أطمئن سكان هذا البلد العظيم ألا يفكروا أبداً أن المدينة مغفلة أو مهملة، نأمل أن نرى- إن شاء الله- في القريب العاجل إضافة مشاريع أخرى خلاف هذه المشاريع، والمسألة كلها مسأَلة وقت حتى يمكن لو أردنا أن نرصد مبالغ طائلة، قد يجوز أن التنفيذ فيه صعوبة أو قد يجوز نأتي إلى السؤال الأول وهو:

ص: 282

كيف تصرف الأموال وأين صرفت؟ ولماذا وجدت الأموال؟ ولماذا لا تصرف..؟ هذا ما هو موجود أمامي الآن من 1401 هـ/ إلى 1403 هـ- ونأَمل أن نلمس في السنة الحالية كذلك ما يجد من جديد، وفي السنوات الأخرى- سوف نعمل جاهدين ما نستطيع عمله لجعل المدينة تأخذ الوضع اللائق بها.

وشكراً لمعالي الدكتور نائب رئيس الجامعة الإسلامية- وما قدِّم من أسئلة من الإخوان، وقرأتها الآن، وستكون الزيارات ليس فقط هذه الزيارة، ولكن ستكون زيارات متتالية، والاجتماع بالإخوان وبالأساتذة في هذه الجامعة التي نعتبرها في الحقيقة جامعة قيادية.

وأعود مرة أخرى، وأكرر: يسرنا أَن نعمل لها فروعاً، ولكن بعض الصعوبات التي أشير إليها أنني لا أَريد أن يكون فيه إحراج بالنسبة لأي دولة إسلامية أَو قادتها أو حتى لو أَردنا أَن نفتح لها فروعاً- وأي دولة لا تريد، ما في إمكاننا نعمل أكثر من الطلب والرغبة، والتأكيد على أن أي فرع يعمل في أي بلد إسلامي لن تكون له أَهداف سياسية أو خلق مشاكل لمجتمع هذا البلد الذي يمكن أن يفتح فيه فرع إسلامي.

بقى شيء واحد وهو أن أوجه كلمة قصيرة لطلبة الجامعة الإسلامية، وهي أن يواصلوا هذا المجهود الخبر. سواء في ذلك إخواننا الذين قدموا من جميع البلدان الإسلامية، أَو من السعوديين الموجودين فيها، وأَن يتبصروا في العقيدة الإسلامية التبصر الصحيح، والعقيدة الإسلامية والحمد للهّ أبانت الأمور بشكل غير قابل للنقاش إلا من أَراد أن يوهم بأشياء أخرى، والدين الإسلامي وسط، فلا رهبنة في الإسلام، وقد يعتقد البعض أن التصوف أو بعض النواحي الأخيرة البعيدة عن منطق الإسلام هي الإسلام.

إنه على العكس. فالإسلام فيه المرونة والمحبة والتقوى والعمل والجد والنشاط، ولم تأمر العقيدة الإسلامية بالكسل أو التكاسل أو التصوف على غير معنى.

ص: 283

وهذا البلد والحمد لله بلد إسلامي، وكل ما أرجوه أن تكونوا رسلا للبلاد الإسلامية بعد أن شرفت المملكة العربية السعودية ورحبت بكم أن تعودوا إلى أوطانكم دعاة للإسلام في الإطار الصحيح، وكلنا نعرف ما أدخل على العقيدة الإسلامية لكن السبب في ذلك من المسلمين أنفسهم، فالعقيدة الإسلامية في القمة إلى أن تقوم الساعة.

لذلك أَرجو أن ندرك معنى العقيدة الإسلامية، وأن لا نقع فيما وقع فيه الغير بواسطة من يريد أن يبعدنا عن مسار العقيدة الإسلامية الصحيح.

فشكراً لفضيلة الدكتور وشكراً لطلبتنا في الجامعة الإسلامية، وشكراً للإخوة الذين حضروا هذا الاجتماع، وأرجو إذا حصل أي لبس في التفسير أو في الإجابة أن نستكملها في مرة أخرى قادمة، وأن أجيب على جميع الأسئلة، وسوف نسير في الخط المستقيم إن شاء الله، ونجعله دائماً الهدف الرئيسي لنا ونتمسك بعقيدتنا الإسلامية، فقد وعدنا الله سبحانه وتعالى بالحق:{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُم} ونحن لا ندعي أبداً بأي حال من الأحوال أننا نحن المسلمون فقط، ففي جميع أنحاء العالم دول إسلامية قيادة وشعباً، وفي كثير من الدول غير الإسلامية عشرات مئات الملايين من المسلمين وكل يوم وكل شهر وكل سنة نجد أن العقيدة الإسلامية تسير بخطى حثيثة وقوية. وفي بلدان لها أهميتها الكبرى، مثل أوربا وأَمريكا واليابان. وحتى الصين الشعبية أَو الاتحاد السوفيتي، نحن نسمع الآن أَنهم قد بدأوا في تفكير آخر وهو احترام العقيدة الإسلامية واحترام المسلمين، ونأمل أن يتحقق ذلك بصرف النظر عن عقيدتهم، ونأمل أن يعطى المسلم الحرية المتكاملة في أن يمارس عقيدته الإسلامية في إطارها الصحيح. وأرجو أن تكونوا الرسل للعقيدة الإسلامية في بلدانكم عندما تعودون إليها بمفهوم العقيدة الإسلامية الصحيحة.

ص: 284

وشكرا مرة أخرى. وأرجو أن نلتقي دائما في هذا الإطار المحبب للنفس. وأكرر مرة أخرى الشكر لمعالي الدكتور، وأرجو أن يوفقنا رب العزة والجلالة لما فيه الخير للإسلام والمسلمين.

ص: 285

مجموعة نصائح

للشيخ إبراهيم الراشد الحديثي

رئيس محاكم منطقة عسير

1-

صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم:

الحمد لله الذي فرض الحج على المستطيعين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه والتابعين. أما بعد:

فلما دخل الناس في دين الله أفواجاً حج صلى الله عليه وسلم فخرج من المدينة متجرداً في ثوبين إزار ورداء، وطيبته عائشة طيباً فيه مسك، وذلك في خمس بقين من ذي القعدة سنة عشر من الهجرة، فصلى الظهر بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم في مصلاه، ثم أهل وركب راحلته، وكان معه خلائق لا يحصون عن يمينه وعن شماله وبين يديه مد البصر قيل إنهم مائة وستة عشر ألفاً، وساق معه مئة بدنة وأصبح يوم الأحد بسَرف، وصلى المغرب والعشاء ثم صلى الصبح بعرق الضبية ثم نزل الروحى فصلى العصر والمغرب والعشاء، وأصبح يوم الثلاثاء بالعرج، ويوم الأربعاء بالأبواء، ويوم الجمعة بالجحفة، ويوم السبت بقديد، ومر بامرأة ومعها ابن لها صغير فأخذت بعضده وقالت ألهذا أحج؟ فقال نعم ولك أجر. وكان يوم الأحد بعسفان، ولما انتهى إلى الثنيتين بات بينهما فيما بين كرى وكدي ثم أصبح واغتسل.

ودخل مكة يوم الإثنين الرابع من ذي الحجة من أعلاها حتى انتهى إلى باب بني شيبة، فلما رأى البيت رفع يديه وكبر وقال:"اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريماً ومهابة وبراً" ولما دخل المسجد بدأ بالطواف وكان راكبا على راحلته ولما أتى إلى الركن استلمه وهو مضطبعٌ بردائه، ثم رمل ثلاثة أشواط وكان يأمر من استلم الركن أن يكبر ويقول لا إله إلا الله، الله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك فلما قضى الطواف صلى ركعتين خلف المقام قرأ في الأولى (قل يا أيها الكافرون) وفي الثانية (قل هو الله أحد) .

ص: 286

ثم عاد واستلم الحجر وقال لعمر "استلم الركن فأنت قوي" ثم خرج إلى الصفا من باب بني مخزوم وقال: أبدأ بما بدأ الله به، وصعد الصفا وكبر وسعى على راحلته وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. ولما انصبت قدماه في الوادي رمل وقال: أيها الناس اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي وقال في سعيه: رب اغفر وارحم فلما قضى سعيه أمر من لم يسق هديه أن يفسخ حجه إلى عمرة ويتحلل ثم يهل بالحج. وقال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ودخل الكعبة وصلى فيها ركعتين وقام بها حتى يوم الخميس وكان يوم التروية فخطب بعد الظهر بمكة ووعظ الناس وقال: من استطاع أن يصلي بمنى فليفعل فصلى في مكة بحجته أربعة أيام يقصر الصلاة ويقول أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر وركب حين زالت الشمس يوم التروية بعد أن طاف بالبيت فصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى.

ولما طلعت الشمس ركب إلى عرفة حتى أتى باطن وادي عرنة وخطب حين زالت الشمس على ناقته فلما فرغ من الخطبة أذن بلال وأقام العصر والظهر بأذان واحد وإقامتين ثم رفع يديه يشير إلى الناس ارفعوا عن بطن عرنة ثم قالت في خطبته: يا أيها الناس إني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا. خطب خطبته المشهورة التي وعظ بها الناس الموعظة البليغة وفتح الله أسماع الناس في عرفة ووقف بعرفة خلف الصخرات، وقال: كل عرفة موقف إلا بطن عرنة كل مزدلفة موقف إلا بطن محسر، وقال: إن خير الدعاء دعاء يوم عرفة، خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. ووقف على راحلته حتى غربت الشمس. ونزل عليه وهو واقف بعرفة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} .

ص: 287

ثم انصرف بعد ما تحقق غروب الشمس عن يسار طريق المأزمين وصلى المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد وإقامتين، ولما طلع الفجر صلى الصبح، ثم ركب راحلته ووقف بمزدلفة حتى قرب طلوع الشمس. وأردف الفضل بن عباس من مزدلفة إلى منى ثم سار حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر على ناقته ولا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك، ثم نحر هديه وقال نحرت هنا ومنى وفجاج مكة كلها منحر. ونحر بيده ثلاثاً وستين بدنة ثم حلق، ثم أفاض إلى مكة، فطاف وأتى زمزم فأمر بدلو فشرب وصب على رأسه وقال: لولا أن تغلبوا لنزعت معكم. وكان يرمي الجمار أيام التشريق بعد ما تزول الشمس ماشياً على قدميه وخطب في حجته ثلاث خطب، الأولى يوم التروية بعد الظهر بمكة، والثانية بعرفة يوم زالت الشمس. والثالثة يوم النحر بمنى. بعد الظهر على راحلته.

فلما انتهت أيام منى قال: نحن نازلون غداً إن شاء الله في ضيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر يعني المحصب لقصد إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر فنزل في المحصب وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ورقد رقدة خفيفة، ثم نهض وطاف بالبيت طواف الوداع ليلاً، ثم خرج من أسفل مكة إلى المدينة. ولأن الحج أعظم مؤتمر إسلامي يجتمع فيه المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها وهو ركن من أركان الإسلام أحببت أن أبين لإخواني صفة حجه صلى الله عليه وسلم بصفة مختصرة موجزة. وأرجو الله أَن تكون خالصة لوجهه الكريم وأن ينفع بها من قرأها أو سمعها وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم: والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

2-

في فضل الزكاة

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. أما بعد.

ص: 288

فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان". فهذه هي أركان الإسلام وهي محك التمحيص لصحة الإسلام ومن يتأمل القرآن العظيم يجده مملوءاً بالأمر بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. لأن الصلاة عمود الإسلام كما أن الزكاة أمانة الله في مال كل إنسان لأن الله سبحانه قد افترض في أموال الأغنياء زكاة تؤخذ منهم وتعطى الفقراء وأداء الزكاة هو عنوان على شكل الغنى بالمال الذي إذا دفعه للفقراء يلهجون بالثناء عليه.

وقد سميت الزكاة لأنها تزكي أي تطهر المال وتنميه وتنزل البركة فيه حتى في يد وارثه إذا كان صاحبه يؤدي زكاته وتزكي إيمان مخرجها من مسمى البخل.

وقد أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ما نقصت الصدقة مالاً بل تزيده. بل تزيده. بل تزيده. ويقول الرب العظيم {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أما الذي لا يخرج الزكاة فقد استحوذ عليه الشيطان وأما من أخرج الزكاة فإن الله يخلف عليه بأضعاف مضاعفة قال تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} أيها الإخوة المسلمون حصنوا أموالكم بإخراج زكاتها فإنه ليس من مال لا تخرج زكاته إلا يعذب به صاحبه يوم القيامة وفي إخراج الزكاة طهرة للمال وتنمية له. فمن أعطاه الله مالاً فيجب عليه إخراج زكاته والصدقة منه وصلة رحمه والنفقة في وجوه الخير، وما من مال لا تخرج زكاته إلا عذب به صاحبه يوم القيامة قال تعالى:{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} .

ص: 289

والزكاة أيها المسلمون قدر يسير يترتب عليها أجر كثير وخلف من الله كبير وتجب الزكاة في كل مال أريد للتجارة إذا حال عليه الحول سواء كان وديعة في البنوك أو في جهة أو مودعاً في أسهم في شركة فيه كله زكاة، ومن حلي النساء ولو كان للاستعمال فتجب فيه الزكاة، وما من مال لا تخرج زكاته إلا ذهب وكان عاراً على صاحبه.

وما هلك مال في بَرٍّ ولا في بحر إلا بسبب منع الزكاة، أما الغني الذي يخرج الزكاة فيكتسب زيادة في ماله وبركة فيه ويدل على قوة إيمانه. والزكاة فطرة الإسلام ودليل على صحة الإيمان. والواجب على كل مسلم عند حلول وقت الزكاة أن يحسب ماله ويؤدي زكاته طيبة بها نفسه. لأن المال في هذا الزمان قد فاض على الناس والمال غاد ورائح ويبقى لمخرج الزكاة شرف الذكر وعظم الأجر، ولمانع الزكاة عظم الوزر. وإنني أرجو الله أن يوفقنا وإخواننا المسلمين إلى المسارعة إلى أداء الزكاة لأن إخراجها ينمي المال ويبارك فيه ويزيده ويحصل لمخرج الزكاة الأجر العظيم. هذا ما أردت جمعه وأرجو الله أن يكون خالصاً لوجهه الكريم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

3-

في فضل الجهاد وثوابه

الحمد لله الذي شرع الجهاد بالنفس والمال واليد واللسان وجعل جزاء من قام به الغرف العالية في الجنان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك المنان وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله سيد ولد عدنان، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، أما بعد:

ص: 290

لما أكرم الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالرسالة كان يغشى الناس في أنديتهم في أيام المواسم وغيرها وفي أسواقها ويتلو عليهم القرآن ويدعوهم إلى الله ويصبر على ما يناله من الأذى من قريش ومن يتبعه ينال منهم أشد العذاب كبلال وآل عمار وغيرهم كانوا يذيقونهم ألوان العذاب. وقد أمر الله بالجهاد في آي كنيرة من كتابه العزيز كما في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} وقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فالجهاد وإن كان مكروهاً للنفوس لما فيه من التعرض للقتل فقد رتب الله عليه من الأجر مالا يخطر على بال ولا على قلب بشر قال عكرمة: إنهم كرهوه ثم أحبوه وقد تظاهرت آيات الكتاب العزيز والسنة النبوية على الترغيب في الجهاد والحرص عليه قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فجعل سبحانه هاهنا الجنة ثمناً لنفوس المؤمنين وأموالهم بحيث إذا بذلوها فيه استحقوا الثمن، وعقد معهم هذا العقد وأكده بأنواع من التأكيد وأخبرهم سبحانه وتعالى بصيغة الخبر المؤكد بأداة إن والإخبار بذلك بصيغة الماضي الذي قد وقع وثبت واستقر. وأضاف هذا العقد إلى نفسه سبحانه وأخبر أنه هو الذي اشترى هذا البيع، وأنه وعدا بتسليم هذا الثمن وعداً لا يخلفه ولا يتركه إنه أتى بصيغة عليّ التي للوجوب إعلاما لعباده بأن ذلك حق عليه أحقه هو على نفسه وأكد ذلك بكونه حقاً عليه وأخبر عن محل هذا

ص: 291

الوعد وأنه أفضل كتبه المنزلة من السماء وهي (التوراة والإنجيل والقرآن) إعلاماً لعباده بصيغة استفهام الإنكار وأنه لا أحد أوفى بعهده منه سبحانه وأمرهم أن يستبشروا بهذا العقد ويبشروا به بعضهم بعضا بشارة من قد تم له العقد ولزم بحيث لا يثبت فيه خيار ولا يعرض له ما يفسقه وأخبرهم إخبارا مؤكداً بأن ذلك البيع الذي بايعوه به هو الفوز العظيم والبيع هاهنا بمعنى المبيع الذي أخذوه بهذا الثمن وهو الجنة.

ولأن المسجد الأقصى له مكانته بالأفضلية لأنه أولى القبلتين وثالث الحرمين وأسري بمحمد صلى الله عليه وسلم إليه. وفي الحديث أن الصلاة في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة وقد عبثت فيه أعداء الله وأعداء رسوله وأحرقته ومنعت الإطفاء وخربت مضخات الماء لكي لا يستعملها الجمهور لإطفاء الحريق وأعلن زعيمهم اللعين أن المسجد الأقصى لهم وأنه لا معنى لليهود بدون القدس. وقد أدرك جلالة الملك الراحل عبد العزيز أسكنه الله الجنة بثاقب فكره وغيرته على المقدسات الإسلامية خطر هجرة اليهود إلى فلسطين كما جاء في كتابه الموجه إلى الحكومة البريطانية المؤرخ في 31 ربيع الثاني 1357 هـ والذي فيه أنه يفضل أن تفنى الأموال والأولاد والذراري ولا تؤسس دولة لليهود في فلسطين وكذا كتابه إلى رئيس الحكومة الأمريكية في 7 شوال 1357 هـ والذي فيه: أما دعوى اليهود التاريخية فلا نجد ما يبررها لأن فلسطين كانت مشغولة بالعرب وكان السلطان فيها لهم وغيرها مما ذكر مما تخوفه من هجرة اليهود واستيطانهم فلسطين رحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء.

ص: 292

ويحدثنا التاريخ أن المسجد الأقصى سبق وأن استولى عليه الصليبيون وذلك في عام 492 هـ وقتلوا فيه ما يقرب من سبعين ألف نسمة وظل في أيديهم مدة 92 سنة يعملون فيه المنكرات حتى أتاح الله تبارك وتعالى بفضله السلطان صلاح الدين ففتحه وطهره من الإفرنج ونظف الصخرة والمعبد وصلوا فيه الجمعة 4 شعبان في السنة المذكورة وتولاه المسلمون ولله الحمد.

وقد كان جلالة الملك الشهيد/ فيصل أسكنه الله الجنة ينوي أن يصلي فيه وقد أدركته منيته وإن شاء الله له قدر على أجر نيته وقد قطع الملك نور الدين زنكي على نفسه عهداً لا يظله سقف حتى يثأر من الإفرنج الذين في بيت المقدس وظل ملتزماً بعهده حتى وافته المنية وحكومتنا الرشيدة وعلى رأسها جلالة الملك وولي عهده ورجاله المخلصون ينوون أن يخلصوه من أيدي الشرذمة اليهودية لأنه قبلتهم الأولى. ولكل ما ذكر فإننا نهيب بجميع المسلمين من ملوك وأمراء ورؤساء وأثرياء أن يستعينوا بالله وأن يصمموا على جهاد أعداء الله لتكون كلمة الله هي العليا ويبشروا بالنصر كما وعدهم الله في كتابه وقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ} لأن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام. وأرجو الله أن يهيئ ويوفق ولاة المسلمين وحكامهم لما فيه الخير والسعادة واستعادة مقدسات الإسلام. وقد حررت هذه العجالة للتذكر وأرجو الله أن تكون خالصة لوجهه وأن تلقى أذناً واعية وأنا الفقير إلى الله إبراهيم الراشد الحديثي أرجو أن تحوز القبول والرضاء. وصلى الله على عبده ورسوله محمد إلى يوم الدين.

4-

وجوب الحجاب للمرأة المسلمة

ص: 293

الحمد لله القائل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يلزم نساء المسلمين أن يدنين عليهن من جلابيبهن والجلباب الثوب الواسع ليعرفن بالتقوى والعفاف فلا يؤذين. إن المرأة المسلمة لا تدانيها امرأة من العالم وقد أعطيت حقوقها كاملة فكرامة المرأة المسلمة في الإسلام قد بلغت كرامة ما تبلغها كرامة امرأة في الوجود.

وفى الحديث "ما أكرم النساء إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم" وفي الحديث أيضاً "خيركم خيركم لأهله وأنا خبركم لأهلي" وفى آخر عمره صلى الله عليه وسلم قال "استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عوان عندكم" وقوله تبارك وتعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} والخطاب للمؤمنات يعلمهن الباري سبحانه وتعالى أن الخمار من قوله تعالى {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وهو ما يغطي الرأس وأن الجيب هو فتحة على الصدر وإن الله تبارك وتعالى أمر كل مسلمة أن تغطي وجهها وعنقها بالخمار لا رأسها فحسب ويقول تعالى {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وهذا صحيح بوجوب غطاء رأسها وصدرها، فمن كشفت عن رأسها وصدرها فإنها عاصية ولم تتمثل أمر الله.

ص: 294

ومن أخطر ما يكون الذي حذر الله منه المسلمين الاختلاط بين الجنسين الذكر والأنثى ومن أكبر الأسباب الميسرة لفعل الفاحشة، ولهذا حذرت منه الشريعة السمحاء لقوله صلى الله عليه وسلم "لا يخلو رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" وكذلك اتخاذ الخدم الرجال والسائقين الأجانب الذين يحملون معهم نساء في سيارات وينفردون بهم دون محارم فهذا يذهب بها إلى المدرسة ويأتي بها بدون محرم وإن المسلم لا يرضى أن يخلو أجنبي بمحارمه. ويوجد من يحضر امرأة مربية لأبنائه وهي غير مسلمة وتربي الأبناء على غير الطريقة المستقيمة ويخلو بها وهي أجنبية وهذا لا يجوز لأن الله أمر بغض البصر سواء في ذلك الرجال والنساء، ولا يجوز للمرأة أن تكشف وجهها أو شيئاً من بدنها أمام رجل أجنبي.

فيجب على المسلم صيانة محارمه وامتثال أوامر الله بقوله تبارك وتعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} . هذا ما أردت جمعه لإخواني المسلمين في هذه العجالة ولو أخذنا تعدد مساوئ التبرج وما ينشأ من دخول غير المسلمات إلى بيوت المسلمين من الضرر الذي لا يعلمه إلا الله. فعلى المسلم أن يجتنب كل ما يضره في دينه ويذكر وقوفه بين يدي الله يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم: وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إن من الواجب أن تصان المرأة وكرامتها أن المرأة الشريفة العفيفة المؤمنة يأمرها الباري تبارك وتعالى في الآية الكريمة في إطار من الصون والكرامة وإن التبرج وبروز المرأة للمجتمعات من دواعي الفساد وما نهى الله ورسوله عنه. فعلى المسلم الغيور على دينه أن ينهى عنه وأن يراقب الله لأنه مسئول عنه لقوله صلى الله عليه وسلم "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".

جاهلية الغرب

ص: 295

- عثرت قوات الأمن البريطانية على جثة فتاة في الحادية عشرة من عمرها. مدفونة وهي حية. تحت التراب، من قبل أحد خاطفي الأطفال وتأكد لدى سلطات البوليس أن الطفلة (اورسولا هيرمان) دفنت وهي حية في صندوق طوله خمسة أقدام تحت الأرض.

(النور المغربية)

ص: 296

حقوق الإنسان في الإسلام (6)

الشيخ: عبد الفتاح العشماوي

محاضر بكلية الحديث

الباب الثامن

ويشمل المواد الآتية من (إعلان حقوق الإنسان) وهي ثلاث مواد.

المادة الثانية والعشرون:

لكل شخص بصفته عضواً في المجتمع الحق في الضمانة الاجتماعية، وفي أن تحقق بواسطة المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتفق ونظم كل دولة ومواردها، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي لا غنى عنها لكرامته، وللنمو الحر لشخصيته.

المادة الرابعة والعشرون:

لكل شخص الحق في الراحة، وفي أوقات الفراغ، ولا سيما في تحديد معقول لساعات العمل، وفي عطلات دورية بأجر.

المادة الخامسة والعشرون:

(أ) لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كافٍ للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته، ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية، وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة، وله الحق في تأمين معيشته في حالات البطالة والمرض والعجز والترمل والشيخوخة، وغير ذلك من وسائل العيش نتيجة لظروف خارجة عن إرادته.

(ب) للأمومة والطفولة الحق في مساعدة ورعاية خاصتين، وينعَم كل الأطفال بنفس الحماية الاجتماعية، سواء كانت ولادتهم ناتجة عن رباط شرعي أم بطريقة غير شرعية.

ص: 297

ونحن نقول: - لقد كانت فريضة الزكاة عندنا أضمن ضمان لكل أنواع البشر الذين أحسوا بنقص ما عن مستوى الضروريات الإنسانية، فتجد هذا النوع الذي تخلف في هذه القافلة الدنيوية جمع بكل فروعه بالرقم (8) الحسابي، ولا يمكن أن تبحث عن بائس أو تعس أو محزون خارج هذا الرقم، فكانت الزكاة لهم لتكفكف دمعهم وتذهب همهم وترأب صدعهم، فيلحقوا بالسعداء والهانئين، وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها، والمؤلفة قلوبهم، وفي الرقاب، والغارمين، وفي سبيل الله، وابن السبيل، وليس تسولاً منهم ولا منًّا من غيرهم، وإنما أعزهم الله بقوله:{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} ، أي ليس تفضلاً من أَحد سواه، وإنما هو حق يرغم به أنف مانعه على أدائه {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيل} ، فإن أبى فعلاجه الموت، حيث أصبح عدواً لله وللمجتمع البشري بأسره، أنانياً لنفسه وليغني من عداه، إذاً فليمت هو ليسلم عدل الله من الظلمة الذين يعيشون على أنين الناس ونكدهم.

لقد ذكروا بعد ما أوردنا من آيات بينات عدة أحاديث عاطرات، نورد منها ما يلي:

عن عبد الرحمن بن أبى بكر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس" رواه البخاري.

ص: 298

وأخبر ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه" رواه البخاري- وأيضاً روى "أطعموا الجائع وفكوا العاني" وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل" رواه مسلم، وإن هذا الحديث وحده ناهيك عن قسطاس هذا الإسلام ككل، (لهو ضربات ماحقات للذين هوَوْا في مستنقع أقذار الشيوعية، التي كتبت العدالة على ورق نجس ودمرت بالظلم وتكبيل الجهود مجتمعها، حتى إن زعيمتهم روسيا لا زالت تشتري حبة القمح لتطعم شعبها المقيد المقهور بمبادئ ماركس ولينين ومن أتى بعدهما من كل عتل كفور، ولكن دعهم في أوحال عداوتهم يتمرغون. فلن نعطيهم من احتقارنا لهم إلا بما قال شاعرنا:

فالصخر يصبح مثقالاً بدينار

لو كل كلب عوى ألقمته حجراً

وكقول آخر:

فلم يهنها وأدمى قرنه الوعل

كناطح صخرة يوماً ليوهنها

إننا عندما نسمع هذا الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه فنسمع أعجب ما تسمع الدنيا من العدالة والمساواة والإيثار يقدمه معلم العالمين كلهم بأمر ربه محمد صلى الله عليه وسلم، ونقدم الحديث بلفظه وطوله أولاً، ثم نعلق عليه بقليل من الكلمات.

ص: 299

يقول أبو هريرة عن نفسه: الله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، فإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال:"أبا هِرّ" قلت لبيك يا رسول الله، قال "الحَقْ"ومضى فتبعته، فدخل. فاستأذن فأذِن لي، فدخل فوجد لبناً وقدح فقال:"من أين هذا اللبن؟ "قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال "أبا هِرْ" قلت لبيك يا رسول الله، قال:"الحَقْ إلى أهل الصفة فادعهم لي"قال- يعني أبو هريرة- وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل، ولا مال، ولا على أحد، إذا أتته صلى الله عليه وسلم صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة؟ كنتُ أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاؤوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن؟ ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، فأخذوا مجالسهم من البيت، فقال:"أبا هِرّ" قلت لبيك يا رسول الله، قال:"خذ فأعطهم"، فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عَلَيَّ القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد عليّ القدح، فيشرب حتى يروى، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال:"أبا هر" فقلت لبيك يا رسول الله، قال:"بقيت أنا وأنت" قلت: صدقت يا رسول الله، قال:"أقْعدْ فاشرب" فقعدت فشربت فقال: "اشرب" فشربت، فما زال يقول

ص: 300

"اشرب" حتى قلت: لا، والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، قال:"فأرني" فأعطيته القدح، فحمد الله وسمَّى، وشرب الفضلة، وفي رواية، وشرب من الفضلة قال صاحب الفتح، وفي هذا إشعار بأنه بقي بعد شربه شيء، فإن كانت محفوظة فلعلها أعدها لمن بقي بالبيت من أهله صلى الله عليه وسلم، انتهى هذا الحديث الشريف العظيم.

والحديث كما نرى لو بسطنا فيه القول من كل الجوانب المتصلة به لامتد بنا الأمر وأكثرها لا يتصل بالباب الذي نحن بصدده، فنأخذ منه فقط بعض ما نريده:

1-

أبو هريرة امتحن في أمر يتصل بإزهاق روحه، وهو الجوع، ولكنه ازداد إيماناً بربه، فلم ينحن ليأخذ لقمة خبز بسؤال، ولم يردد كلمات الزور العالمية اليوم، الإقطاع، الطبقات، التسلط، الشيوعية، لماذا أجوع وغيري شبعان، إذاً نؤمم، إذاً نصادر، إذاً نستولي على الحقوق، باسم العدالة والمساواة والاشتراكية.

2-

كوفئ أبو هريرة بوقوع معجزة عظيمة كان هو سببها، فكأس من الحليب يشبع أهل الصفة، وعددهم في أقل الروايات ثلاثون، ثم يظل هو يشرب من تلك المعجزة حتى يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكاً، وهو الذي حدث نفسه وهو يدعو أَهل الصفة بأن قدح اللبن لن يغني عنه ولا عن أهل الصفة شيئاً، وساءه ذلك التصور كما ذكر عن نفسه في الحديث.

3-

القائد العظيم والمشرّع الكريم بأمر ربه صلوات الله عليه لم يشرب إلا آخرهم جميعاً، وهو خيرهم وسيدهم جميعاً، أسَمِعت الدنيا بحكام وقيادات من هذا الطراز، إلا طراز واحد هو شرع الله أَرحم الراحمين بعباده، وأَقام على تنفيذه إنساناً معصوماً من الحيف والظلم والأنانية كما هو حال غالبية حكام اليوم من عرب ومسلمين بل شيوعيين واشتراكيين ورأسماليين إلى غير ذلك من أَسماء ابتدعوها وحتى ما طبقوها إلا على الضعفاء، واستثنوا منها أَنفسهم والأقوياء.

ص: 301

ومشينا بعدالتنا النازلة من السماء أحقاباً سعيدة هنيئة، حتى يأتي يوم في عصر الخليفة الراشد بعد الأربعة الراشدين وهو خامسهم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فيبعث بيحيى بن سعيد لجمع زكوات إفريقية، يقول يحيى بن سعيد، طلبت الفقراء لأعطيهم حقهم في الزكاة، فلم نجد فقيراً بها، ولم نجد من يأخذها،- وهكذا أغنت عدالة الإسلام كل الناس، حتى الضاربين في الصحراء والفيفاء، ويثني الشاعر جرير على عدالة عمر بن عبد العزيز وحَدَبه على جميع المسلمين. بقصيدة منها:

ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر

كم باليمامة من شعثاء أرملة

كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر

ممن يعدك تكفي فقد والده

من الخليفة ما نرجو من المطر إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا

أما عن إعطاء البدن الإنساني كفايته من الراحة ليستأنف بعدها سعايته، فهل كان الإسلام يمنع ذلك، ويطلب لإنسان أن يخر صريع الإجهاد هالك الإضناء، أم أَنه أسهل وأيسر وأرفق دين نزل على العباد من السماء طيلة هذه الدنيا، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً} {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ، وغير هذا من كتاب الرحمة والراحة، من قرآن الله العظيم.

ومن الأحاديث الصحيحة قوله صلوات الله عليه:

"ما أمرتكم به من أمر فأتوا منه ما استطعتم".

ص: 302

"إن لبدنك عليك حقا".

"إن المنبت لا أَرضاً قطع ولا ظهراً أبقى".

"إن الله لا يمل حتى تملوا، وإن هذا الدين متين ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فأوغلوا فيه برفق". الحديث الأخير ورد بعدة روايات، ولكنه ثابت لاشتراك البخاري فيه فإذا كان أقدس وأجل عمل في هذه الدنيا وهو عبادة الله، قد أمر سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله، أن لا نكلف أَنفسنا في هذه العبادة أي لغوب أو عناء، فلا نطيل الصلاة أثناء الجماعة حتى لا يقع لأحد ملل منها، أَو إعنات لضعف صحة، أو إجهاد لشيخوخة، أو ضياع لحاجة عاجلة بعد الانتشار من الصلاة، وإنما التطويل يكون للمصلي وحده بما يشاء من طول، فقد وزن خصائص نفسه وصلى بما لا ينتقد به فيه أحد أو يلام عليه من الغير، وحتى مع هذا الحال لم يسكت الإسلام عن الرفق مع أهله، فقد دخل الرسول صلى الله عليه وسلم المسجد، فرأى حبلاً ممدوداً بين ساريتين، فقال:"ما هذا"؟ قالوا: لزينب، تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال:"حُلوه، لِيصل أَحدكم نشاطه، فإذا كسُلَ أو فتر فليرقد"، رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه.

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نعس أحدكم في الصلاة فليرقد حتى يذهب عنه النوم، فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس، لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه"رواه مسلم.

وفي رواية "إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف، فلعله يدعو على نفسه وهو لا يدري"رواه الجماعة.

وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نعس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرؤه" رواه مسلم.

وعنه أيضاً- أنس- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشددوا على أنفسكم فَيشَدَّدَ عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم، فَشُدِّدَ عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم"رواه مسلم.

ص: 303

فإذا كان هذا الحُنُوُّ قد وُجهنا إليه ونحن نؤدي ما لَوْ أفنينا أنفسنا أثناء تأديته ما وفينا نعمة واحدة من نعمه علينا سبحانه، أفيقسوا الإسلام أو يسمح باستغلال صاحب العمل للعامل حتى يضنيه ويعجزه؟.

بل لقد لفت القرآن النظر إلى ما يرغب ويشجع على التريض والتنزه، عندما تسمع قوله تعالى {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ؛ وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} {وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، فهل تدبرت قوله تعالى في الآية الأخيرة:{انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ} فأنت إذا لم تخرج لتنظر، لتريح نفسك من عناء العمل، ومشاغل الدنيا، ثم لترى جمال الخالق في جمال خلقه، وعظمة المبدع في عظمة ما أبدع، فقد يكون فيك نقص من إيمان، لأن الآية قالت في النهاية:{إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ، وقد حدث أني خرجت مرة إلى بعض الحدائق ووجدت شجرتيْ زيتون ورمان متقاربتين، فظننتهما نوعاً واحداً لتشابه الصورة في الجذع والفرع والأوراق، ولما شخصت بعيني إلى ثمرهما وجدت في إحداهما حب زيتون وفي الأخرى فاكهة الرمان، فتذكرت قوله تعالى:{وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} ، أي مشتبها في الصورة غير متشابه في الثمر، فأخذت درساً عملياً في التفسير ما كان لي أن أتعلمه قبل ذلك.

ص: 304

فأيهما أَنفع للإنسان، حقوقه التي وضعها لنفسه، أم التي وضعها الله له؟. الله أَكبر.

(الباب التاسع)

ويشمل مادتين من مواد (إعلان حقوق الإنسان) وهما المادتان السادسة والعشرون والسابعة والعشرون.

المادة السادسة والعشرون:

(أ) لكل شخص الحق في التعلم، ويجب أن يكون التعليم في مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان، وأن يكون التعليم الأولي إلزاميا، وينبغي أن يعمم التعليم الفني والمهني، وأن ييسر القبول للتعليم العالي على قدم المساواة التامة للجميع، وعلى أساس الكفاءة.

(ب) يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماء كاملاًًً، وإلى تعزيز احترام الإنسان والحريات الأساسية، وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية، وإلى زيادة مجهودات الأمم المتحدة لحفظ السلام..

(ج) للآباء الحق الأول في اختيار نوع تربية أَولادهم.

المادة السابعة والعشرون:

(أ) لكل فرد الحق في أن يشترك اشتراكا حرا في حياة المجتمع الثقافي وفي الاستمتاع بالفنون، والمساهمة في التقدم العلمي، والاستفادة من نتائجه.

(ب) لكل فرد الحق في حماية المصالح الأدبية والمادية المترتبة على إنتاجه العلمي أَو الأدبي أو الفني.

ص: 305

ونحن نقول:- إن أول ما يتحتم معرفته وإدراكه من العلم، هو أن يعرف المخلوق من الذي خلقه، ومن هذا المُتَّكأ الأعظم تنطلق كل المعارف والإحاطات العلمية، بتأكد اليقين الفهمي لحياتيْْ ما قبل الموت وما بعده، هذه هي النظرة الإسلامية لحقيقة العلم، أما أَن ينشغل كافر بموجودات الدنيا، مبهورا بما أودع فيها خالقها من عجائب يركز فيها خلايا مخه لأنه لا يؤمن إلا بها، أو أن يقف مسلم مكذبا بما يكتشف الكافر صاحب الدنيا، فينطوي على نفسه مكتفياَ بعبادات محضية أو ترانيم كلامية، تاركا للكافر يتمتع وحده بما أودع الله في دنياه باسم التصوف والتبتل {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} ، فإن الإسلام يرفض الكافر السابق والمسلم اللاحق اللذين أشرنا إليهما، وإني كما ذكرت في البداية هو أن العلم بالصانع سيجعله ينتفع بكل صنعته، الآن وبعد موته، فهو الآن يجب أن يكون تاجراً أو صانعاً وزارعاً، وباحثاً في أغوار اليابس. وغائصاً في أعماق الماء. وطائراً في الهواء، ومتفكراً في عجائب الفضاء، ومتبصراً في كواكب السماء، على أن هذا من صنعة الصانع الذي عرفه وأيقن به عز وجل، فلما سعد بدنياه حين استخدمها بما ذكرنا، راح يذكر موجد هذه النعمة بالانحناء راكعاً وبالكف صائما وبالإخراج مزكياً وبشد الرحال حاجاً، ولِما نهي عن المعاصي تاركا. ولما أمِرَ به من الطاعات فاعلا مؤدياً، وبهذا أخذ الطريق إلى حيازة ما هو أنعم وأدوم. عندما يلقى الله بالفناء المحتم {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً -في الدنيا- وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} - أي في الآخرة- وفي آية أخرى قوله {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَر} .

ص: 306

ولهذا صنع نوح السفينة الأم الكبرى، فكان أن نجا بها في الدنيا ومن معه، والنجاة العظمى في الآخرة تنتظرهم، ومن هذه السفينة الهائلة، حيث يوصف ضخامتها في الكتب المقدسة ابتداء من التوراة إلى القرآن، لم يصنع أحد حجمها لا حاملات طائرات ولا غيره، وإلا فما ظنك بسفينة تتسع لتحمل على ظهرها من كلٍّ زوجين اثنين، ذكرا وأنثى من كل الأحياء إنساناً وحيوانا.

ولهذا أيضاً صنع داود أسلحة القتال بغير أفران مجمعات الصلب والحديد، وبغير أفران ذرية. وبغير وغير

مما نسينا به الصانع الأعظم الذي علم من صنعته نوحاً {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} وعلم من صنعته داود، ثم سخر له الحديد ليكون كالعجين في يده بغير نار ولا مصهار، وإنما بكلمة (كن){وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} . فيا للعجب من تلك القدرة والعظمة التي نسيناها.

ص: 307

ولهذا أيضاً صنع ذو القرنين أعجب سد وأمنع سور بالصورة العجيبة التي ذكرها القرآن {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً، آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً - نحاساَ- فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً، قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} ؟ أسمعت أيها القارئ بأن هذا السد- هذا الاختراع في بناء الحصون والأسوار على حد تعبيرهم- سيبقى لمتانة صنعته حتى يجيء وعد الله بيوم الساعة فيدكه هو - وحده- بقدرته {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} ، وغير هذا كثير من عجائب مبدع الملكوت بالمباشرة أو بتسبيبه. إذاً فكيف نوجَّه بإعلان حقوق الإنسان يأتينا من عدونا ونحن الذين علمنا الدنيا من علم الذي قال {قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} {كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ} ، وغير هذا وفير في الكتاب الذي ضمنه الله علم الدنيا والآخرة، نظرا وكونا وجِرما وفكرا وبحثا ونقلا {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} . الله أكبر. فماذا بعد هذا؟ ورحنا نستجدي ونحن الأكرم والأجدى بما علّمنا به الذي علمْنا به، سبحانه، ولكن أساس حيرتنا وتطلعنا إلى ما في يد الغير من كل شؤون الدنيا علماً أو غيره، هو فراغ قلوبنا من كامل الإيمان بالذي وسع كل شيء علماً. فالأزمة أزمة إيمان قبل كل شيء، ولقد أهاجني حقاً تلك الكلمات التي ذكرها الأستاذ نديم الجسر في كتابه القيم والذي عنونه

ص: 308

بهذا العنوان الرائع (قصة الإيمان) ، وسأنقل هذه الكلمات هنا لي ولمن يعجب بها معي، يقول الأستاذ نديم الجسر:-

إن لإيمان بالله هو: رأس الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وسند العزائم في الشدائد، وبلسم الصبر عند المصائب، وعماد الرضا والقناعة بالحظوظ، ونور الأمل في الصدور، وسكن النفوس إذا أوحشتها الحياة. وعزاء القلوب إذا نزل الموت أو قربت أيامه. والعروة الوثقى بين الإنسانية ومثلها الكريمة، ولا يخدعنك عن هذا من يقول لك: إن مكارم الأخلاق تغني- بوازع الضمير- عن الإيمان، لأن مكارم الأخلاق، التي تواضعنا عليها للتوفيق بين غرائزنا وحاجات المجتمع، لا بد لها عند اعتلاج الشهوات في الشدائد والأزمات، أن تعتمد على الإيمان، بل إن هذا الشيء الذي نسميه ضميراً، إنما يعتمد في سويدائه على الإيمان، وانقياد الناس لمكارم الأخلاق، إنما يكون بزاجر من السلطان. أو وازع من القرآن، أو رادع من المجتمع.

ثم يستمر الأستاذ نديم فيقول:-

ص: 309

فإذا كنا في نجوة من سلطان القانون والدين والمجتمع، لم يبق لنا وازع، إلا الضمير، ونحن في معركة الشهوات والغرائز مع الضمائر. قلّ أن نرى الضمير منتصرة إلا عند القلة من الناس، وهذه القلة نفسها لا تستمسك بضمائرها عند جموح الشهوات إلا إذا كانت تخشى الله يا حيران. ولو تركنا مكارم الأخلاق جانبا ونظرنا إلى حاجتنا إلى الإيمان، من حيث هو سند في الشدائد، وبلسم للمصائب، وسكن للنفوس، وعزاء للقلوب، وعلاج لشقاء الحياة، لوجدنا أننا عند فقد الإيمان نكون أسوأ حظاً في الحياة، وأدنى رتبة في سلم المخلوقات من أذل البهائم، وأضعف الحشرات، وأشرس الضواري

فالبهائم تجوع كما نجوع، ولكنها في نجوة من هم الرزق. وخوف الفقر. وكرب الحاجة. وذل السؤال. وهي تلد كما نلد، وتفقد أولادها كما نفقد. ولكنها في راحة من هلع المثكلة، وجزع الميتمة، وهم اليتامى المستضعفين. وهي في أجسادها تلتذ كما نلتذ وتألم كما نألم. ولكنها في راحة مما يأكل القلوب، ويقرح الجفون، ويقض المضاجع، ويقطع الأرحام، ويفرق الشمل، ويخرب البيوت من المهلكات كالحسد والكذب والنميمة والفرية والقذف والنفاق والخيانة، والعقوق وكفر النعمة ونكران الجميل، وهي تعرف بنوع من الإدراك ما يضرها وما ينفعها، ولكنها في نجوة من أعباء التكليف، وأثقال الأوزار، ومضض الشك، وكرب الحيرة، وعذاب الضمير، وهي تمرض كما نمرض، وتموت كما نموت، ولكنها في راحة من التفكير في عقبى المرض. وفراق الأحباب، وسكرات الموت. ومصير الموتى وراء القبور، والضواري تسفك الدماء لتشبع بلا صرف، ولكنها لا تسفكها أنفاً ولا جنفاً، ولا صلفاً ولا ترفا، ولا علوا في الأرض ولا استكبارا.

ثم يمضي الأستاذ نديم ليختم هذا الجزء من كتابه (قصة الإيمان) فيقول:

ص: 310

أما هذا الحيوان الفيلسوف- يقصد الإنسان- الضعيف الهلوع الجزوع. المطماع، المختال، المترف، المتكبرة المتجبر، السافك الدماء، الذي لا يأتيه شقاء الحياة إلا من تفكيره. فإنه لا علاج لشقائه إلا بالإيمان، فالإيمان هو الذي يقويه، وهو الذي يعزيه، وهو الذي يسليه. وهو الذي يمنيه، وهو الذي يرضيه. وهو الذي يجعله إنساناً يسعى إلى مثله الأعلى لتسجد له الملائكة، انتهى.

إذا ًفكل العلوم التي تدرك من أمر الحياتين أولاها وأخراها. مصدرها ومردها إلى الإيمان، ذلك الينبوع الهادر بالخير كله، في الحال والمآل، فما أتعس من طلب العلم عن غير صفاء النبع، وراح يوقف عمره تحت قيادة الشيطان ليخرب ما عمَّر الله بالمقاتلات والقاذفات. ثم يجلس بجانب الركام يذرف الدمع على ما هدمه بيده على رأسه، {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} أما وعد الله الذي سيدمر فيه كل هذه الدنيا فسيكون نصيبه أوفر: من هذا الدمار الذي ليس بعده إعمار.

أما نحن فهذا نوع علمنا الذي سعدنا به في اليوم وما بعده يقدمه رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى الخليقة كلها {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاس} ، في هذه الأحاديث المتفق عليها، وغيرها كثير.

"ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صاحبه إلى هدى، أو يرده عن ردى. وما استقام دينه حتى يستقيم عقله".

"إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في جوف البحر، ليصلون على معلم الناس الخير".

"لا حسد إلا في اثنتين. رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق. ورجل آتاه الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها".

"منهومان لا يشبعان، طالب علم، وطالب مال" وشتان.

ص: 311

ولقد أعجب (كوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب) أعظم الإعجاب من شغف العرب بالعلم. ولقد كان إعجابه أعظم أن رأى هذا الشغف منبعثًا منهم عن الدين نفسه. وقال في ذلك: إن العلم الذي استخفت به أديان أخرى قد رفع المسلمون من شأنه عالياً، وإليهم ترجع في الحقيقة هذه الملاحظة الصائبة القائلة باسم الدين:"إنما الناس هم الذين يتعلمون والذين يعلمون، وأما من عداهم فمضر أو لا خير فيه"مشيراً بذلك إلى الحديث الصحيح "ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردًى. وما استقام دينه حتى يستقيم عمله. وفي رواية، حتى يستقيم عقله"، أي بالعلم. ثم يستمر (كوستاف) في كتابه فيقول:- إن النشاط الذي أبداه العرب في الدراسة كان مدهشاً جداً، ولئن ساواهم في ذلك كثير من الشعوب فلم يكن منهم فيما أظن من سبقهم. وكانوا إذا ما استولوا على مدينة وجهوا عنايتهم في الدرجة الأولى إلى تأسيس جامع وإقامة مدرسة، وعدا مدارس التعليم البسيطة فإن المدن الكبرى مثل بغداد والقاهرة وطليطلة وقرطبة الخ، كان فيها جامعات علمية مجهزة بالمخابر والمراصد والمكتبات الغنية، وبكلمة واحدة كانت هذه الجامعات مجهزة بكل المواد الضرورية للبحوث العلمية، وكان في أسبانيا وحدها سبعون مكتبة عامة، وكانت مكتبة الخليفة (الحكم الثاني) في قرطبة تحتوي كما ذكره االمؤلفون العرب على ستمائة ألف مجلد كان فيها للفهرس فقط أربعة وأربعون مجلدا. وقد لوحظ بحق، أن (شارل الحكيم) لم يستطع بعد أربعمائة سنة من هذا التاريخ أن يجمع في مكتبة فرنسا الملكية أكثر من تسعمائة مجلد. وكاد أن يكون ثلثها فقط خارجاً عن علم الكهنوت.

ص: 312

وقال (كوستاف) أيضا في كتابه: لقد بلغ شغف العرب بالتعليم مبلغاً عظيما جداً، حتى إن خلفاء بغداد كانوا يستعملون كل الوسائل لجذب العلماء وأشهر الفنيين في العالم إلى قصورهم. وأن أحد هؤلاء الخلفاء بلغ به الأمر إلى إعلان الحرب على قيصر القسطنطينية ليجبره على السماح لأحد الرياضيين المشهورين بالحضور إلى بغداد والتعليم فيها، انتهى وحسبنا أن شهد شاهد منهم.

(الباب العاشر)

ويشمل المواد الثلاث الآتية: وبها نأتي على آخر مواد إعلان حقوق الإنسان:

المادة الثامنة والعشرون:-

لكل فرد الحق في التمتع بنظام اجتماعي دولي تتحقق بمقتضاه الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحققا تاما.

المادة التاسعة والعشرون:-

(أَ) على كل فرد واجبات نحو المجتمع الذي يتاح فيه وحده لشخصيته أَن تنمو نموا حرا كاملا.

(ب) يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي.

(ج) لا يصح بأي حال من الأحوال أن تمارس هذه الحقوق ممارسة تتناقض مع أغراض الأمم المتحدة ومبادئها.

المادة الثلاثون:-

ليس في هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخول لدولة أو جماعة أو فرد أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى هدم الحقوق والحريات الواردة فيه.

ص: 313

أما عن المادة الأولى من هذه المواد الثلاث (لكل فرد الحق في التمتع بنظام اجتماعي دولي) ، فأي نظام هذا الذي قالوه وما بينوه، أم هو التيه في ظلمات الأرض لما أظْلمت قلوبهم، إنكارا لموجد هذا المجتمع الدولي الذي تحدثوا عنه وما تحدثوا عن منظمه، بأغرب وأعجب وأدق نظام أَنزله على خير الأنام، صلى الله عليه وسلم {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} ، {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فهل بديع السماوات والأرض والإنسان ضمن إبداعه يمكن- عقلا- أن يوجد المبْدَع نظاما خيراً ممن أبدع؟ ، لتتحقق بمقتضاه الحقوق أكثر مما حققها واقتضاها؟ {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} ، وسيظل الإنسان المسكين ذليل هواه ودنياه، ترديه جيلا بعد جيل، حتى يعلم أَنه-- وفي الدنيا قبل الآخرة- لا أحد أنظم ممن نظم صورة أدميته، ثم أحكم له نظام تقلبه في نهاره، وسكنه في ليله، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} لكن تقول الآية {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، فهم وحدهم الذين يعلمون ذلك دون سواهم.

وعن المادة التاسعة والعشرين من حقوقهم تقول الفقرة (أ) :

ص: 314

على كل فرد واجبات نحو المجتمع، وإنها لكلمة حق أريد بها الباطل. وهل رأينا أفرادهم إلا متهالكين نحو شهواتهم وخصوصية ميولهم وما يلهثون إلَاّ وراء أنانيتهم الفردية. أما نحن فقلنا لبعضنا ما قاله لنا ربنا {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وما قاله لنا نبينا- صلى الله عليه وسلم "كلكم راع وكلَكم مسئول عن رعيته" و"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وتاريخنا العاطر مشحون بأعمال رجالنا تنفيذاً لما أمرهم الله ورسوله، من الإيثار وتقديم مصلحة الغير والمجتمع على النفس. وقد قدمنا منه العديد في بحثنا هذا. ونزيد فنقول ما رأي واضعوا هذه الحقوق التي ما أحقوها يوماً. عندما عرِضت رأس شاة على جار فقير. فيقول: أعطوها لجاري فقد يكون أولى بها مني. وتظل رأس الشاة تنتقل من دار إلى دار حتى تعود إلى الجار الأول بعد أن تأكد أن غيره ليس أحوج إليها منه. تلك صورة من قاعدة مجتمعنا. أما من قمة مجتمعنا فيشعر عمر بن الخطاب بتقلبات في بطنه وقرقرة في أمعائه حيث ما كان له أدام عام الرمادة إلا الزيت، فيقول لبطنه قرقري أو لا تقرقري. فلن تأتدمي السمن حتى يأتدمه المسلمون) فأي واجبات الفرد حاكما أو محكوماً نحو المجتمع تؤدَّى بأروع من هذا يا بني الإنسان؟ عندما تدور رأس شاة بين أيد محتاجة إليها حتى تستقر عند من هو أشد احتياجاً، وعندما يلزم رئيس أضخم وأوسع أمة في التاريخ بألَاّ يأكل السمن حتى يأكله كل شعبه ويكون هو آخر من يأكله.

ص: 315

أم هل أتى واضعوا حقوق الإنسان التي أسلموها للنسيان. نبأ المرأة العراقية التي سافرت الأميال الطوال سائلة عن بيت عمر بن عبد العزيز، فوجدته كوخا ظنت من دلها عليه أنه يسخر منها. ولكنها تأكدت لما قالت لها زوجة الخليفة إنه نصيبه من القصور والدور والضياع والزروع التي كانت له. وتخلى عنها جميعها للمجتمع الإسلامي غداة أن استخلف، ويأتي الخليفة وتقص عليه المرأة قصتها: بأن زوجها مات في الجهاد في سبيل الله وترك لها خمس بنات لا تملك لهن شيئاً، وعندما نسمع جواب عمر بن عبد العزيز تدخل في الفقرة (ب) التي تتحدث عن ممارسة الحقوق وضمان الاعتراف بها للغير.

فطلب عمر قلما وقرطاسا وأخذ يكتب بنفسه- فلا وكيل ولا سكرتير-.

من أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى والي العراق. إذا أتتك هذه المرأة فتثبت من أمرها، فإن كان حقاً ما تقول، فاجعل لا بنتها الأولى ألف دينار، فقالت المرأة: الحمد لله، فزاد الخليفة: واجعل للثانية ألف دينار. فقالت المرأة: الحمد لله، فزاد الخليفة: وللثالثة ألف دينار، فقالت: الحمد لله، فقال: وللرابعة ألف دينار، فقالت الحمد لله، فزاد الخليفة: وللخامسة ألف دينار. فقالت المرأة: شكرا لك يا أمير المؤمنين، فجرَّ بقلمه على نصيب الخامسة وألغاه. فقالت لم يا أمير المؤمنين؟ فقال: شكرت الله في الأربعة الأول فأعطاهن من فضله. وشكرتني في الخامسة وليس لدي ما أعطيه إياها. إنما أنا قاسم والله معطي، فلتأكل مع أخواتها.

فأي ممارسة للحقوق وأي ضمان لها أرفع من هذا وأعز يا واضعوا حقوق الإنسان؟.

إذا جمعتنا يا (دعي) المجامع)

(أولئك آبائي فجئني بمثلهم

مع الاعتذار للشاعرين، جرير والفرزدق، حيث وضعْت (دعي) من عندي.

وهل بعد ادعاء من وضعوا حقوق الإنسان وأكلوها ادعاء؟.

ص: 316

أما عن الفقرة (ج) وهي الأخيرة من المادة التاسعة والعشرين فسأعيد فقط نصها لنضحك من أمرها معاً، تقول الفقرة:

لا يصح بأي حال من الأحوال. أن تمارس هذه الحقوق ممارسة تتناقض مع أغراض الأمم المتحدة ومبادئها.

ووجه الضحك والسخرية من هذه الفقرة أننا ما علمنا للأمم المتحدة أغراضاً أو مبادئ رأى العالم شيئاً من نفعها حتى تتناقض أو لا تتناقض. ما رأينا من مبادئها إلا بطش القوي بالضعيف في عدوان مسلح ينتشر في كل أرجاء الأرض. وابتلاع دول صغيرة بأكملها. وطرد لِشعوب بِمَلايينها في صحراء الفاقة والعوز والهلكة، كما ذكرنا في بداية البحث. فأي أغراض ومبادئ لهيئة أممهم المختلفة..... لقد أضحكونا ورفّهوا عنا.

أما المادة الثلاثون والأخيرة فتقول:

ليس في هذا الإعلان نص يجوز تأويله على أنه يخول لدولة أو جماعة أو أي فرد أي حق في القيام بنشاط أو تأدية عمل يهدف إلى عمل عدم الحقوق والحريات الواردة فيه) أي (في كل إعلان المواد التاسعة والعشرين) .

أما عن الدول التي هدمت الحقوق والحريات الواردة في حقوق الإنسان. فلتسأل هذه الدول نفسها كم هدمت وأهدرت من تلك الحقوق ولا زالت، وقد فصلناها وفضحناها في أماكنها من هذا البحث، أما نحن فقد قدمنا إليهم نماذج الإسلام الفذة من حكامنا الحوالى الذين حكموا دولهم باسم حاكم الحكام ومالك الممالك. بل إننا مع تحري عدل الله في حكمنا زَهَّدَنا رسولنا وخوفنا من تولي المسئولية وأمانة الحقوق على عمومها.

فعنه صلى الله عليه وسلم قوله: "ويل للأمراء. ويل للعرفاء، ويل للأمناء، ليتمنّينّ أقوام يوم القيامة، أن ذوائبهم معلقة بالثريا، يدلون بين السماء والأرض. وأنهم لم يلوا عملا". رواه ابن حبان، وفي رواية:"ليوشكن رجل أن يتمنى أنه خرّ من الثريا. ولم يل من أمر الناس شيئا" رواه الحاكم.

ص: 317

وعن كلمة (الجماعة) وأنها لا تخول أيضا هدم الحقوق الواردة في الإعلان. فمن الذي يجهل ما تقوم به الهيئة المسماة (بالصليب الأحمر) ..باسم العمل الإنساني والتطبيب العلاجي، وهي في الحقيقة ليست إلا هيئة تبشيرية عالمية كبرى. وأداة تخريب دولية للعقائد والحقوق، وما هي إلا حكومة صليبية تمون بكل أسباب القوة والبأس والتأثير والإغراء من كل دول العالم الصليبية، وأكثر ميادينها التي تصول فيها وتجول هي الدول الإسلامية خاصة المتخلفة منها، ووجدت فيها القصد المطلوب والرجاء المبتغى. وحتى في اختيار اسمها ما استطاعت أن تخفي تصلبها بالصليب والدم الأحمر السليب، وأخيرا، أخيرا جدا، أفاق المسلمون أو بعضهم على دنس قصد هذا (الصليب الأحمر) فقابلوا ذلك بـ (الهلال الأحمر) في بعض بلاد إسلامية، ولكن بعد أن غزيت نفس هذه البلاد بالصليب الأحمر من مستشفيات وملاجئ ورياض أطفال. إلى غير ذلك من منشآت شيطانية شتى، حتى لم يجد الهلال المتأخر في بلده مكاناً للصليب الذي سبقه إليها. وأصبح المئات كل عام بل كل شهر يقعون صرعى التنصر والارتداد عن الإسلام، بسبب العمل الإنساني الذي تقوم به جمعية الصليب الأحمر ولا تخرقْ به قانون الأمم المتحدة ولا حقوق الإنسان.

كل هذا والمسلمون الـ1000 مليون وحكامهم أشبه بثور هائل صرعه المرض، لا يستطيع دفع الزواحف والثعالب التي تنهش من لحمه وهو حي، ذلك لأن المرض ألزمه الأرض فلم يجد من يعينه على النهوض من جديد.

ص: 318

نعم. إننا لم نكتف بإلقاء ديننا وراءنا، بل وقّعنا بأيدينا على دينهم وقوانينهم، فشاركناهم حيرتهم الدنيوية، فحيرتهم زادت بارتقائهم المادي الدنيوي، هكذا أدركناه ونحن نتنقل في أرقى دول أوربا، وهم الآن يبحثون عن راحة النفس متجهين إلى الروح، ونحن تركنا راحة النفس بالروح واتجهنا إليهم لتشقينا معهم المادة. وما نخشى إلا أن يدركنا ونحن على هذا الحال موعد إنهاء الوجود. فنكون ولا حتى من أصحاب (الأعراف) وإنما- ونعوذ بالله- لا هذه ولا الآية الآتية. لا دنيا ولا أخرى، فاللهم الطف بنا، وعجل بإنقاذنا، وإلى دينك ردنا، ولا تزدنا من هذا الهوان، يا خير من أكرمت بني الإنسان، والحمد لله رب العالمين.

ص: 319

صفحات مشرقة من حياة عمر بن عبد العزيز

للشيخ إبراهيم الجمل

مدرس بالمعهد الثانوي

كان عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي أمّةً وحده في تاريخ بني أمية، فلم تر الدنيا مثل عمر حاكما، يخاف الله، ويكره ويبغض لله، فكان ورعاً، زاهداً، تقياً، صابرا. كان من أشد الخلفاء حرصًا على أن ينال كل إنسان تحت إمرته حقه، لا فرق بين أمير وغير أمير، أو قريب وبعيد. وإن أخباره مشهورة، وأعماله تبارى فيها مع جده الفاروق عمر بن الخطاب [1] رضي الله عنه، حتى عده المؤرخون الخليفة الخامس المتمم للخلفاء الراشدين الأربعة.

لقد أعاد عمر نهار الإسلام الساطع في الخلافة الأموية، برغم قصر مدة خلافته فقد كانت سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام.

أرسى قواعد الدين الصحيحة وأعاد للإسلام قوته ومبادئه، فتفرع العلماء لتدوين الحنيفية السمحة، فلا عجب أن ينبش العباسيون- وقد حاربوا الدولة الأموية واستولوا عليها- قبور الأمويين، وأن يمثلوا شر تمثيل بمن في القبور من خلفاء وقادة إلا قبر عمر بن عبد العزيز فقد احترموا رفاته، وأثنوا عليه الثناء الكامل؛ والفضل ما شهدوا به

تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة بعد موت الخليفة سليمان بن عبد الملك. والبلاد قد اتسعت رقعتها، وكثر العدو الذي كان يهدد أطرافها، وشغل عمر بأمر الناس والبلاد ليلا ونهارا. وما كان لكل هذا أن يشغله عن رعاية أولاده، وأن يتعرف على أحوالهم، وما يقتضيه واجب العناية والتربية.

ص: 320

لقد أشرف بنفسه على تربية أولاده، وخصص لهم جزءا من وقته ليطلع على أعمالهم، فيقْوّم معوجهم، ويوجه من اختاره ليتولى تربيتهم إلى الطريق القويم. فيضع بهذا منهجا إسلامياً لا يصلح لأبنائه وحدهم، وإنما هو قاعدة أساسية لتربية أبناء المسلمين، وإن في رسالته لسهل مولاه وقد اختاره ليؤدب أولاده. منهجا قويما يخلق الأمة الصالحة التي تكون درعاً ووقاية للإسلام والمسلمين.

يقول الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لسهل مولاه ومؤدب أولاده: "أما بعد: فإني اخترتك على علم مني بك لتأديب ولدي، فصرفتهم إليك عن غيرك من مواليّ، وذوي الخاصة بي، فحدثهم بالجفاء؛ فهو أمعن لإقدامهم، وترك الصحبة فإن عادتها تكسب الغفلة، وقلة الضحك، فإن كثرته تميت القلب.

وليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغضْ الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن، فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن حضور المعازف، واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب الماء.

ولعمري لتوقي ذلك، بترك حضور تلك المواطن أيسر على ذي الذهن من الثبوت على النفاق في قلبه، وهو حين يفارقها لا يعتقد مما سمعت أذناه على شيء مما ينتفع به.

وليفتتح كل غلام منهم بجزء من القرآن. يتثبت في قراءته، فإذا فرغ تناول قوسه ونبله، وخرج إلى الغرض حافيا فرمى سبعة أرشاق، ثم انصرف إلى القائلة، فإن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقول:

"يا بني قيلوا فإن الشياطين لا تقيل".

إن هذه الرسالة الخالدة لتضع أسس التربية الصحيحة في كل زمان ومكان: فهي تضع الجد في معاملة المربي والمؤدب للدارسين عليه، والبعد بهم عن طريق اللهو، ومزج الجد باللعب. حتى يكون ذلك أدعى لتقويم النفس، وتعويدها على الشجاعة والإقدام.

ص: 321

ثم إن عمر رضي الله عنه يبغض الملاهي من حضور المعازف، والاستماع إلى الأغاني، وترديدها. وتأْثيرها في حياة الشباب، والانحراف بقلوبهم عن طريق الحق والصواب. والاشتغال بها قد يضيع على الشباب كل ما يفيده وينفعه في دنياه وآخرته.

ويوصي رضي الله عنه بأن يحرص كل غلام على قراءة جزء من القرآن الكريم كل يوم، والتثبت في قراءته، حتى ينطبع في قلبه حب القرآن والعمل بهِ.

ثم يختم رسالته بالاستعداد للجهاد، وبإعداد فتيان المسلمين وشبابهم وتمرينهم على استعمال القوس والنبل، وإجادة الرمي، حتى إذا دعا داعي الجهاد، كانوا على أتم الاستعداد لقتال العدو ومغالبته والانتصار عليه.

كان لعمر بن عبد العزيز من البنات: أمينة وأم عمار وأم عبد الله وقد حرص رضي الله عنه على تزويدهن بالنصيحة، وبطاعة الله، والعمل على مرضاته، والرضا بما قسم لهن، وقد استطاع حينما تولى الخلافة، أن ينقلهن معه من حياة الترف والعز والنعيم الذي كن يعشن فيه إلى مشاركة أبيهن فيما اتخذ له من طريق ارتآها الموصلة إلى سعادة الآخرة التي اختارها فهي طريق النجاة والفوز، فما عند الله خير وأبقى.

لقد شاركن الأب في حياة الزهد والتعفف والتقشف، وكن سعداء مع هذا الوالد، الخائف من الله، والمتقرب إليه، والذي يحاول إرضاءه.

كان عمر يصلي العتمة كل ليلة، ثم يدخل على بناته، فيسلم عليهن، دخل عليهن ذات ليلة، فلما أحسسنه، وضعن أيديهن على أفواههن ثم تبادرن الباب.

قال عمر للحاضنة: ما شأنهن؟

قالت إنه لم يكن عندهن شيء يتعشينه إلا عدس وبصل، فكرهن أن تشم ذلك من أفواههن.

فبكى عمر، ثم قال لهن:

يا بناتي ما ينفعكنَّ أن تعشين الألوان، ويمر بأبيكن إلى النار فبكين حتى علت أصواتهن، ثم انصرف.

مرت أمينة ابنة الخليفة عمر بن عبد العزيز يوما عليه وهو جالس، فدعاها الخليفة:

يا أمين، يا أمين.

ص: 322

فلم تجبه، فأمر إنسانا فجاء بها، فقال:

ما منعك أن تجيبي.

قالت:

إن ملابسي ليست حسنة!

فقال: يا مزاحم، انظر إلى تلك الفرش التي فتقناها، فاقطع لها منها قميصا .

فذهب إنسان إلى أم البنين عمتها فقال:

ابنة أخيك ليس عندها من الملابس ما تستحسنه، وأنت عندك ما عندك، فأرسلت إليها بتخت من ثياب، وقالت:

ويروي ابن عبد الحكم في سيرة عمر: أن ابنته أرسلت إليه بلؤلؤة وقالت له:

يا أبتي إن رأيت أن تبعث لي بأخت لها حتى أجعلها في أذني.

فأرسل لها بجمرتين ثم قال لها:

إن استطعت أن تجعلي هاتين الجمرتين في أذنيك بعثت إليك بأخت لها!!.

كان عمر بن عبد العزيز قبل أن يتولى الخلافة يعيش في نعيم مقيم، وترف لم يره أموي، وهبت له هبات كثيرة- غير ما ورثه- وضياع منتشرة في كل الآفاق، كان له أرض تُدرّ عليه الغلات الكثيرة في الحجاز والشام ومصر واليمن والبحرين. فدخل له من الأموال ما لا يحصى.

قال ابن عبد الحكم:

"وكان عمر بن عبد العزيز أعظم أموي ترفها وتملكا غذي بالملك، ونشأ فيه، لا يعرف إلا وهو تعصف ريحه فتوجد رائحته في المكان الذي يمر فيه، ويمشي مشية تسمى "العمرية"فكان الجواري يتعلمنها من حسنها، وتبختره فيها، وأنه ترك كل شيء كان فيه لما استخلف غير مشيته، فإنه لم يستطع تركها، فربما قال لمزاحم:

ذكرني إذا رأيتني أمشي فيذكره فيخلطها، ثم لا يستطيع إلا إياها فيرجع إليها".

وبلغ عمر من رفاهيته قبل الخلافة أن الناس كانوا ينتظرون يوم أن تؤخذ ملابسه إلى المغسل، لتغسل ملابسهم بعد ملابسه حتى ينالها الكثير مما نزل منها من الطيب في الماء.

لكنه ترك كل هذا لحظة تولى الخلافة، ورأى أنه مسئول مسئولية كاملة أمام الله عن الدين وعن العباد بادئا بنفسه وأهله، راجيا أن ينجو من العقاب في آخرته.

ص: 323

كان له من البنين عبد الله وأبو بكر وإبراهيم وإسحق ويعقوب وموسى والوليد وعاصم ويزيد وعبد العزيز وعبد الملك ولم يأل جهدا في تربيتهم ونصحهم وتدريبهم وتوجيههم إلى ما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم.

حكى عن ابنه عبد العزيز وكان يلي المدينة ومكة- بعد موت أبيه- ليزيد بن عبد الملك، وثبته فيهما مروان بن محمد، أن أباه كان دائم الوصية له ولإخوته ومما كان يقول له:"يا بني إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم فلا تحملها على شيء من الشر ما وجدت لها محملا على الخير".

ومما روي أن ابنه عبد الله ذهب إليه، وقال له: اكسني يا أبت!

فقال له: اذهب إلى الخيار بن رباح البصري، فإن لي عنده ثيابا فخذ منها ما بدا لك.

قال: فذهبت إلى الخيار بن رباح، فقلت له: استكسيت أبي، فأرسلني إليك، وقال: إن لي عند الخيار بن رباح ثيابا.

قال: صدق أمير المؤمنين، فأخرج إليه ثيابا رخيصة، رأى عبد الله ابن الخليفة أَنها لا تناسبه، فسأل الخيار: هل عندك غيرها له؟

قال: ما عندي غيرها لأمير المؤمنين فخذ منها ما بدا لك.

لم يأخذ عبد الله منها شيئا، ورجع إلى أبيه عمر، فقال: يا أبتاه، استكسيتك فأرسلتني إلى الخيار بن رباح، فأخرج لي ثيابا ليست من ثيابي ولا من ثياب قومي. قال: فذاك ما لنا عند الرجل. فانصرف عبد الله حتى إذا كاد يخرج ناداه فقال له: هل لك أن أسلفك من عطائك مائة درهم؟

قال: نعم يا أبتاه.

فأسلفه مائة درهم، فلما خرج عطاؤه حوسب بها، فأخذت منه!

وقال مسلمة بن الخليفة عبد الملك يذكر عطاء عمر لأولاده:

"رحم الله عمر والله لقد هلك وما بلغ ابن له قط شرف العطاء"

كان عمر يكره أن يلي أحد أولاده ولاية أو منصبا، مكتفيا بنفسه حيث سيحاسبه الله على كل صغيرة وكبيرة متأسيا بجده الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حيث خوطب في تولية ابنه عبد الله بن عمر فأبى وقال: أعمر وابنه؟!!

ص: 324

روى أن عمر بن عبد العزيز قال لبنيه:

"أتحبون أن أولي كل رجل منكم جندا فينطلق تصلصل به جلاجل البريد؟

فقال ابنه أبن الحارثية [2] : لم تعرض علينا شيئا لست صانعه بنا؟

فقال عمر: إني لأعلم أن بساطي هذا يصير إلى البلى، وإني لأكره أن تدنسوه بخفافكم، فكيف أَقلدكم ديني تدنسونه في كل جند!! "

وروي أن بعض أولاد عمر اتخذ خاتما، واشترى له فصا بألف درهم فكتب إليه عمر:

أما بعد: فقد بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم فبعه وأشبع ألف جائع. واتخذ خاتما من حديد صيني واكتب عليه: "رحم الله امرءا عرف قدر نفسه".

ولقد بلغ أولاده منزلة كبيرة بعد وفاته، وكانوا محل احترام القريب والبعيد في حياة عمر وبعد مماته، لما اتصفوا به من حسن خلق، وجميل صفات عفة وزهدا وأدبا، واضعين ما أخذهم به أبوهم نصب أعينهم حتى كان منهم المحدثون والولاة.

فكان ابنه عبد العزيز بجانب ولايته على المدينة ومكة في عهد يزيد بن عبد الملك والخليفة مروان بن محمد راويا للحديث.

ذكر له الحافظ أبو جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي أحاديث منها ما رواه عن صالح بن كيسان عن عثمان بن عفان قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم خرج من بيته يريد سفرا أو غيره فقال حين يخرج: باسم الله آمنت بالله، اعتصمت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله إلا رزق خير ذلك المخرج وصرف عنه شره".

وروى له أيضا عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من صلى ركعتين قبل أن يتكلم رفعت في عليين".

وكان عبد الله بن عمر بن عبد العزيز واليا على الكوفة بعد موت أبيه.

ص: 325

ومن أنجب أولاده، وأزهدهم، وأقربهم من الله عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، وأمه ليست فاطمة بنت الخليفة عبد الملك بن مروان زوجة عمر وإنما هي أم ولد فقد أنجب منها عمر عبد الملك هذا والوليد وعاصما ويزيد وعبد العزيز وزيان وأمينة وأم عبد الله. كان أزكى أولاده عقلا، وأحدهم تفكيرا، وأقواهم إيمانا، وأشدهم- على الرغم من صغر سنه- خوفا من الله! وأصبرهم على البلاء.

وكان منذ طفولته أكثر إخوته التصاقا بأبيه، ملازما له، معاونا له في الشدائد، ناصحا له في العمل، داعيا له، مخوفا لأبيه من لقاء الله مع صغر سنه، حتى لقد روى عن بعض مشيخة أهل الشام قال:"كنا نرى أن عمر بن عبد العزيز إنما أَدخله في العبادة ما رآه من ابنه عبد الملك"!.

كتب عمر إلى عبد الملك ابنه مرة فقال: "إنه ليس من أحد، رشده وصلاحه أحب إليّ من رشدك وصلاحك، إلا أن يكون والي عصابة من المسلمين، أو من أهل العهد يكون لهم في صلاحه، ما لا يكون لهم في غيره، أو يكون عليهم من فساده، ما لا يكون لهم من غيره".

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى ابنه عبد الملك وهو صغير وقد ظهرت عليه مخايل النجابة والفهم الواعي، وقد خصه والده بالعناية والاهتمام قال في رسالته إليه:

أما بعد: فإن أحق من تعاهدت بالوصية والنصيحة بعد نفسي أنت، وإن أحق من وعى ذلك، وحفظه عني أنت.

إن الله له الحمد قد أحسن إلينا إحسانا كبيرا بالغا في لطيف أمرنا وعامته، وعلى الله إتمام ما غبر من النعمة، وإياه نسأل العون على شكرها.

ص: 326

فاذكر فضل الله عليك وعلى أبيك. ثم أعن أباك على ما قوي عليه وعلى ما ظننت أن عنده فيه عجزا عن العمل فيما أنعم به عليه وعليك في ذلك، فراع نفسك وشبابك وصحتك، وإن استطعت أن تكثر تحريك لسانك بذكر الله تحميدا وتسبيحا وتهليلا، فافعل فإن أحسن ما وصلت به حديثا حسناً حمد الله وشكره، وإن أحسن ما قطعت به حديثا سيئا حمد الله وذكره، فلا تفتتن فيما أنعم الله به عليك فيما عسيت أن تقرظ به أباك فيما ليس فيه.

إن أباك كان بين ظهري إخوته يفضل عليه الكبير. ويدنى دونه الصغير، وإن كان الله- وله الحمد- رزقني من والدي حسبا جميلا. كنت به راضيا أرى أفضل ببره ولده عليّ حقا حتى ولدت وولدت طائفة من إخوتك، ولا أخرج بكم من المنزل الذي أنا فيه، فمن كان راغبا في الجنة، وهاربا من النار فالآن التوبة مقبولة والذنب مغفور قبل نفاد الأجل وانقضاء العمل، وفراغ من الله للمنقلبين، ليدينهم بأعمالهم في موضع لا تقبل فيه الفدية، ولا تنفع فيه المعذرة، تبرز فيه الخفيات، وتبطل فيه الشفاعات، يَرِده الناس بأعمالهم، ويصدرون عنه أشتاتا إلى منازلهم.

فطوبى يومئذ لمن أطاع الله، وويل لمن عصى الله. فإن ابتلاك الله بغنى فاقتصد في غناك، وضع لله نفسك، وأد إلى الله فرائض حقه من مالك، وقل كما قال العبد الصالح:{هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (سورة النمل آية 40) .

ص: 327

وإياك أن تفخر بقولك، وأن تعجب بنفسك، أو يخيل إليك أن ما رزقته لكرامة لك على ربك، وفضيلة على من لم يرزق مثل غناك، فإذا أنت أخطأت باب الشكر، وتركت منازل الفقر، وكنت ممن طغى للغنى، وتعجل طيباته في الحياة الدنيا، فإني لأعظك بهذا، وإني لكثير الإسراف على نفسي غير محكم لكثير من أمري، ولو أن المرء لم يعظ أخاه حتى يحكم أمر نفسه، ويعمل في الذي خلق له من عبادة ربه إذن لتواكل الناس الخير، وإذن لرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة في الأرض، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (سورة الجاثية 36- 37) .

هذا الابن البار. والذي أخذه والده بالنصيحة. لم يمض عليه زمن يسير، حتى أصبح الأب الخليفة ينتظر منه توجيها له نصيحة يقدمها بين يديه. ورأيا صائبا يعرضه عليه. وأمرا يخوف أباه منه، ودرجة عند الله يغري بها الابن والده. وأصبح عمر ينتظر كل يوم جديدا من عبد الملك ينقذه به من غفلة ومن سهو حتى لقد قال سيار بن الحكم:

"كان ابن لعمر بن عبد العزيز يقال له عبد الملك. وكان رحمه الله يفضل على عمر. قال: يا أبت أقم الحق ولو ساعة من نهار".

وروي أن عبد الملك دخل على عمر فقال:

- يا أمير المؤمنين إن بي حاجة فأخلني- وعنده مسلمة بن عبد الملك- فقال له عمر: أسر دون عمك.

قال: نعم.

وخرج وجلس بين يديه. فقال:

يا أمير المؤمنين. ما أنت قائل غدا لربك إذا سألك، فقال: رأيت بدعة فلم تمتها، أو سنة فلم تحيها؟

فقال عمر: يا بني أشيء حملّك الرعية إليّ أم رأي رأيته؟

قال: بل رأي رأيته من قبل نفسي. وعرفت أنك مسئول فما أنت قائل؟.

قال أبوه:

رحمك الله، وجزاك من ولد خيرا، فإني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير.

ص: 328

يا بني إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة، وعروة عروة. ومتى ما أريد مكايدتهم على انتزاع ما في أيديهم، لم آمن أن يفتقوا علي فتقا تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون عليّ من أن يهراق في سببي محجمة من دم.

أو ما ترى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة، ويحيي فيه سنة حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين.

وجلس عمر بن عبد العزيز يوما للناس، فلما انتصف النهار ضجر وملَّ وكلذَ، فقال للناس: مكانكم حتى أنصرف إليكم. ودخل ليستريح ساعة، فجاء ابنه عبد الملك، فسأل عنه، فقالوا: دخل.

فاستأذن عليه. فأذن له، فلما دخل قال:

يا أمير المؤمنين ما أدخلك؟

قال:

أردت أن أستريح ساعة.

قال عبد الملك رحمه الله:

أو أمنت الموت أن يأتيك، ورعيتك على بابك ينتظرونك. وأنت تحتجب عنهم!!

فقام عمر من ساعته، وخرج إلى الناس.

وقال عبد الملك مرة يا أمير المؤمنين ما يمنعك أن تمضي الذي تريده، فو الذي نفسي بيده ما أبالي أن لو غلت بي وبك القدور!!

قال:

وحق هذا منك!

قال: نعم والله.

قال عمر:

الحمد لله الذي جعل من ذريتي من يعينني على أمر ديني، يا بني: إني لو باهت الناس بالذي تقول لم آمن أن ينكروها، فإذا أنكروها لم أجد بدا من السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف. يا بني: إني أروض الناس رياضة الصعبة. فإن بطأ بي أرجو أن ينفذ الله مشيئتي. وإن تعدد على منيتي فقد عدم الله الذي أريده.

ودخل عبد الملك على أبيه الخليفة عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين، ماذا تقول لربك إذا أتيت، وقد تركت حقا لم تحيه. وباطلا لم تمته؟.

قال: اقعد يا بني.

ص: 329

إن آباءك وأجدادك خدعوا الناس الحق، فانتهت الأمور إلي. وقد أقبل شرها وأدبر خيرها. لكن ليس حسنا جميلا أن لا تطلع الشمس علي في يوم لا أحييت فيه حقا. وأمت فيه باطلا. حتى يأتيني الموت وأنا على ذلك.

وغضب عمر يوما واشتد غضبه، فلما سَكت عنه. قال له عبد الملك:

يا أمير المؤمنين في قدر نعمة الله عندك، وموضعك الذي وضعكم الله به وما ولاك من أمر عباده أن يبلغ بك الغضب ما أرى.

قال عمر:

كيف قلت؟

فأعاد عبد الملك كلامه.

فقال عمر:

أما تغضب أنت يا عبد الملك؟

فقال الفتى رحمه الله:

ما يغني عني جوفي إن لم أرد الغضب فيه حتى لا يظهر منه شيء.

اجتمع نفر من بني أمية من الذين يريدون المال والجاه والسلطان الدنيوي إلى عبد الملك بن عمر فقالوا له:

إن أباك قطع أرحامنا، وانتزع ما في أيدينا. وعاب على سلفنا وإنا- والله- لا نصبر على ذلك، فقل له يكفي عما نكره. ففعل ذلك عبد الملك. ودخل عليه فأخبره بذلك.

فكأن عمر وجد في نفسه مما قال، فقال له عبد الملك:

يا أمير المؤمنين امض لما تريد، فوالله لوددت أنه قد غلت بي وبك القدور في الله

فقال له:

جزاك الله خيرا يا ولدي، الحمد لله الذي شد ظهري بك يا عبد الملك.

لم يتجاوز عبد الملك السابعة عشرة من العمر حتى أصبح مستشارا للخليفة، لا يُقْضى أمر إلا بعبد الملك، فكان كلما أشكل موضوع نادى المقربون والفقهاء عبد الملك، ليقضى الأمر برأيه حتى صار على صغره في الصف الأول من فقهاء الشام علما وزهدا وورعا. حتى لقد قالوا عن عبد الملك "إنه أعجوبة تاريخ ونادرة فلك".

عرض عمر رضي الله عنه يوما على وزيره مزاحم ما يفعله ببعض المال، وكان ذلك العرض أمام الناس فقال مزاحم:

ولدك يا أمير المؤمنين أحق به!

فلما بلغ عبد الملك ما قاله مزاحم. أسرع إليه فلقيه فقال له: بئس وزير الخليفة أنت يا مزاحم!

ص: 330

ثم انطلق إلى أبيه ولم يزل به حتى دفع ذلك المال إلى بيت المال وحذره من وزراء السوء.

وكان عمر يرى أن الأموال التي أخذت من الناس في غير عهده ظلم ليس مسئولا عنها. واختلف الفقهاء. ولم يصلوا لرأي، فقالوا: نادوا عبد الملك.

فقال رحمه الله:

يا أمير المؤمنين أرى أن تردها، فإن لم تفعل كنت شريكا لمن أخذها.

مواقف عديدة وكثيرة لعبد الملك. ولا يملك الأب الخليفة إلا أن يضم ابنه النابغة إلى صدره ويشبع رأسه ووجهه لثما وتقبيلا.

هذا الابن البار بأبيه. والذي أوشك على السن التي يقضي بها بين الناس، أصبح فجأة عديم الحركة، قليل الكلام، ملازم الفراش، يتلوى من الألم.

كثر دخول الأطباء وخروجهم. والأب مشغول بالرعية. يمر على فتاه من وقت لآخر. والله أعلم بما يكابد.

ولكن العلة أحكمت. وزاد المرض، والتفت عمر إلى الأطباء فقالوا:

إذا مس الطاعون وهو قرحة فوجد لينا طمع لصاحبه في البرء منه. وإن كان خشنا يئس من صاحبه.

دخل الخليفة على فلذة كبده، فقال.

دعني أمس قرحتك. فكَره عبد الملك أن يمسّها أبوه فيجزع. وكانت متحجرة خشنة، فقال:

أو تعفيني يا أمير المؤمنين؟ فعلم عمر لم منعه، فقال:

ولم يا بني؟ فو الله لأن أقدّمك فأجدك في ميزاني أحب إلي من أن تقدمني فتجدني في ميزانك.

فقال الابن البار:

وأنا يا أمير المؤمنين، لأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب، فلمسها، فقال:

يا عبد الملك، {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} (آل عمران آية 60) .

فقال:

{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (سورة الصافات آية 103) .

غاب الأب قليلا، ثم رجع ملهوفا إلى ابنه، فوجده يجود بنفسه، فقال:

كيف تَجِدك يا بنَي؟

قال:

أجدني في الموت، فاحتسبني يا أمير المؤمنين، فإن ثواب الله خير لك مني.

قال عمر:

ص: 331

رضي الله عنك يا بنيّ، فإنك لم تزل تَسر أباك، وأنت في الخِرَق، وما كنت قط أسَرّ إليّ منك حيث يصيّرك الله في ميزاني، فرضي الله عنك، وعن كل شاهد وغائب دعا لك بالخير.

وما كاد عمر يخرج، حتى عاد إلى ابنه، وكان قد فارق الحياة، فكشف عن وجهه، وأنعم النظر....... ثم قال:

رحمك الله يا بني، سررت بك يوم بشرت بك، ولقد عُمرّت مسرورا لك، وما أتت عليّ ساعة أنا بك فيها أسر مني بك من ساعتي هذه، أما والله إن كنت لتدعو أباك إلى الجنة!

دعا عمر رضي الله عنه أبا قلابة. وكان يستعد لغُسْل عبد الملك رحمه الله، وقال إذا غسّلته وكفنته، فآذنى به قبل أن تُغَطي وجهه، فنظر إليه ثم قال:

رحمك الله يا بُنَيّ وغفر لك.

وخرج الناس بسريره ليصلى عليه، فصف عمر الناس، ثم قام حيال صدره أو رأسه ثم قال:

هكذا يقوم ولي الرجل من الرجل، ومن المرأة يقوم حيال وسطها، فلما صار إلى القبر، دخل فيه وأخذ برأس ابنه حتى وضعه في اللحد.

قال زياد بن حسان:

إنه شهد عمر بن عبد العزيز حين دفن ابنه عبد الملك رحمه الله وسوى عليه التراب، سووا قبره بالأرض، وصنعوا عند رأسه خشبتين من زيتون إحداهما عند رأسه، والأخرى عند رجليه، ثم جعل قبره بينه وبين القبلة، واستوى قائما.

فلما رآه الناس قائما قاموا، فقال اجلسوا، فإنما يجب القيام على أَولياء الميت.

فلما انتهى من قبول التعزية أحاط به الناس، فنظر إلى قبر ابنه ثم قال:

والله يا بني لقد كنت برا بأبيك، والله مازلت مذ وهبك الله لي مسرورا بك، ولا والله ما كنت قط أشد سرورا، ولا أرجى لحظي من الله فيك منذ وضعتك في المنزل الذي صيرك الله فيه. فرحمك الله، وغفر ذنبك، وجزاك بأحسن عملك، ورحم الله لكل شافع يشفع لك بخير من شاهد أو غائب، رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره، والحمد لله رب العالمين".

ص: 332

انصرف عمر راجعا وفي أثناء سيره رأى قوماً يرمون، فلما رأوه أمسكوا فقال: ارموا، ووقف عليهم.

فرمى أحد الرامين، فأخرج، فقال له عمر:

أخرجت، فقصّر.

ثم قال للآخر:

ارم.

فرمى، فقصّر فقال له عمر:

قصرت فبلغ.

فقال له مسلمة:

يا أمير المؤمنين أيفرغ قلبك لما يفرغ له، وإنما نفضت يدك من تراب قبر ابنك الساعة، ولم تصل إلى منزلك بعد؟!

فقال له عمر:

يا مسلمة، إنما الجزع قبل المصيبة، فإذا وقعت المصيبة فَالْهَ عما فاتك.

ويقال: إن عمر بن عبد العزيز وهو يدفن ابنه عبد الملك رأى رجلا يشير بشماله.

فقال له:

يا هذا إذا تكلمت فلا تشر بشمالك، أشر بيمينك.

فقال الرجل:

ما رأيت كاليوم أن رجلا دفن أعز الناس ثم إنه يهمه شمالي ويميني.

خطب عمر بن عبد العزيز الناس بعد وفاة ابنه عبد الملك فكان مما قاله:

إن الله جل ذكره لم يجعل مسيء ولا لمحسن خلودا في الدنيا، ولم يرْضَ بما أعجب أهلها ثوابا لأهل طاعته. ولا ببلائها عقوبة لأهل معصيته، فكل ما فيها من محبوب متروك، وكل ما فيها من مكروه مضْمَحل.

كتب على أهلها الفناء، وأخبر أنه يرث الأرض ومن عليها، فاتقوا الله واعملوا ليوم {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} (سورة لقمان آية 33) .

كتب رجل إلى عمر يعزيه فأجابه:

إني لم أزل في صحة منه وسلامة، موطنا نفسي على فراقه والسلام.

وكتب عمر إلى عماله:

إن عبد الملك بن عمر كان عبدا من عبيد الله أحسن إليه وإلى أبيه فيه. أعاشه ما شاء. ثم قبضه إليه، وكان ما علمت- والله به أعلم- خيرا. ومن صالحي شباب أهل بيته قراءة للقرآن. وتحريا للخير. وأعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله. فإن ذلك يحسن بي في إحسانه إلي. وتتابع نعمه عليّ.

ص: 333

وقد قلت عند الذي كان بما أمر الله عز وجل أن أقوله عند المصيبة، ثم لم أجد بحمد الله إلا خيرا. ولا أعلم ما بكت عليه باكية. ولا ناحت عليه نائحة، ولا اجتمع لذلك أحد؛ فقد نَهيْنا أهله الذين هم أحق بالبكاء عليه.

لقد درب عمر منذ الصغر وقبل الخلافة على مواساة الناس، وإظهار منزلة الصبر في حياة المؤمن، والعمل بما وعي وفهم، مستمدا كل هذا من معاملته مع ربه، قوي الإيمان، ثابت العقيدة.

قال له الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك يوما: يا عمر هل يكون المؤمن في حالة تنزل به المصيبة، فلا يألم لها؟

قال عمر:

لا، يا أمير المؤمنين، لا يكون أن يستوي عندك ما تحب وما تكره، أو تكون الضراء والسراء عند أحد سواء. ولكن مُعوّل المؤمن الصبر.

كان الناس يتكاثرون، يبكون ويواسون الخليفة عمر بن عبد العزيز، قاصدين التخفيف عن أمير المؤمنين في موت عبد الملك ابنه، ولكن عمر كان يسبقهم بالنصيحة والموعظة.

وقف مرة بين الناس، وهم يواسونه، فكان مما قاله:

الحمد لله الذي جعل الموت حتما واجبا على خَلْقه، ثم سوَّى بينهم، فقال:

{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (آل عمران 185، الأنبياء35، العنكبوت 57) .

فليعلم ذوو النّهى أنّهم صائرون إلى قبورهم، مفْرَدون بأعمالهم، واعلموا أن عند الله مسألة فاضحة، فقال عز وجل:

{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. َ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة الحجر آية 92) .

قال أبو الحسن المدائني: أخبرنا العباس بن معاوية قال:

عزى محمد بن الوليد بن عتبة بن أبى سفيان عمر بن عبد العزيز عن ابنه عبد الملك فقال:

يا أمير المؤمنين، ليَشْغَلْك ما أقبل من الموت إليك عمن هو في شغل عما دخل عليك، واعْدد لما ترى عُدّة تكون لك جُنَّةً من الحزن، وسِتْرا من النار.

فقال عمر: فَهَلْ رأيْتَ حزنا يُنْكر أو غفلة أنبّه لها؟

فقال:

ص: 334

يا أمير المؤمنين، لو أن رجلا ترك تعزية رجل، لعلْمِه وانتباهه لكُنْتَه، ولكنّ الله قضى أن الذكرى تنفع المؤمنين.

رثى الناس عبد الملك، وتكلم الكثيرون عن فضله مع صغره وذكائه النادر، وعلمه الغزير، وعمر يتقبل كل هذا بصبر الواثق بما عند الله، وكان مما قيل ليواسوا به عمر، وليصرفوا عنه حزنا ألم به.

لما قد ترى يغذى الصغير ويولد تَعَزّ أمير المؤْمنين فإنّه

لكل على حوض المنية مورد هل ابنك إلا من سلالة آدم

ثم مرض عمر بن عبد العزيز بعد موت عبد الملك، وكان من آخر ما تكلم به عمر أن قيل له: لقد تركت أولادك صغارا وهم كثيرون، وليس لهم مال، ولم تولهم إلى أحد، قال:

ما كنت لأعطيهم شيئا ليس لهم. وما كنت لآخذ منهم حقا لهم. أولي فيهم الذي يتولى الصالحين، إنما هؤلاء أحد رجلين رجل أطاع الله ورجل ترك أمر الله وضيعه.

ودخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في مرضه الذي مات فيه، فقال: يا أمير المؤمنين.

من توصى بأهلك؟

فقال عمر رضي الله عنه:

إذا نسيت الله فذكرني.

فأعاد عليه القول مسلمة قائلا: من توصي بأهلك؟

فقال عمر:

إن وليي فيهم الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين.

ودخل عليه مسلمة بن عبد الملك في رواية أخرى فقال:

يا أمير المؤمنين ألا توصي؟

قال عمر:

وهل من مال أوصي فيه؟

فقال مسلمة:

مائة ألف أبعث بها إليك. فهي لك فأوص فيها.

قال:

فهلا غير هذا يا مسلمة.

قال:

وما ذاك يا أمير المؤمنين.

قال عمر رضي الله عنه:

تردُّها من حيث أخذتها!!

فبكى مسلمة، وقال:

رحمك الله لقد ألنت منا قلوبا كانت قاسية، وزرعت في قلوب الناس مودة، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا [3] .

وروي أيضا:

أن مسلمة دخل على عمر في مرض موته فقال:

ص: 335

إنك أفقرت ولدك من هذا المال فتركتهم عيلة لا شيء لهم، فلو أوصيت بهم إليّ وإلى نظرائي من أهل بيتك.

فقال عمر رضي الله عنه:

أسندوني، ثم قال: أما قولك إني أفقرت أفواه ولدي من هذا المال فو الله إني ما منعتهم حقا هو لهم، ولم أعطهم ما ليس لهم.

وأما قولك: لو أوصيت بهم إليّ أو إلى نظرائي من أهل بيتك. فإن وصيتي ووليي فيهم الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين.

بنيّ أحد رجلين إما رجل يتقي الله فسيجعل الله له مخرجا، وإما رجل مكب على المعاصي فإني لم أكن أقويه على معصية الله.

ثم بعث إليهم- وهم بضعة عشر ذكرا- فنظر إليهم، فذرفت عيناه فبكى ثم قال:

بنفسي الفتية- كما يقولون- تركتهم عيلة لا شيء لهم، فإني بحمد الله قد تركتهم بخير.

أي بَنِيَّ إنكم لن تلقوا أحدا من العرب ولا من المعاهدين إلا أن لكم عليهم حقا.

أي بَنِيّ إن أباكم ميل بين أمرين بين أن تستغنوا ويدخل أبوكم النار، أو تفتقروا ويدخل أبوكم الجنة، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أحب إليه من أن تستغنوا ويدخل النار. قوموا عصمكم الله!!

روى أحد المؤرخين قال:

مات الخليفة هشام بن عبد الملك، وخلف أحد عشر ابنا، فقسمت تركته، وأصاب كل واحد من تركته ألف ألف دينار، ورأيت رجلا من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله عز وجل ورأيت ولد هشام يُتَصدق عليه.

رحم الله عمر بن عبد العزيز وأولاده ورضي عنهم أجمعين.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

أم عمر بن عبد العزيز هي أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قيل اسمها: ليلى أو قريبة أو عنبة تزوجها عبد العزيز فولدت له عمر (سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم) .

[2]

من زوجات عمر لميس بنت علي بن الحارث وأنجب منها عبد الله وبكر وأم عمارة.

ص: 336

[3]

التعازي للمبرد ص 62

ص: 337

الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية (2)

للدكتور محمد نغش

أستاذ مساعد بكلية الشريعة بالجامعة

كتاب بشأن الحصن الذي استجده الفرنج وهدمه السلطان صلاح الدين.

أرسل القاضي الفاضل إلى بغداد رسالة عن هدم هذا الحصن الحصين، وقدم لها مقدمة طويلة تشمل- كالعادة- تمجيداً للخليفة العباسي، والدعاء له، ومما جاء فيها:

"الدولة العباسية الإمامية المستضيئة، يرفع الله منارها، ويعمر قلوب البشر من بشائرها الموجبة لاستبشارها، ويحرز لها من الفتوحات التي تتدارك لها خواطر القنوط، وتمد الرجاء بعد تقلص ظله المبسوط، وتمضي لها من عزائم الأولياء، وتذل بها من أعناق الأعداء، ويظهر من دلائل العنايات بأمرها، ويرسل ملائكة سمائية إلى أرضه لنصرها ويقشع من ظلمات الخطوب برايتها السوداء ويدها البيضاء، ونعمتها الخضراء، وبحور أنعامها الزرقاء، وسيوف انتقامها التي تخرق الآجال برايتها الحمراء [1] .

استدعى السلطان صلاح الدين أخيار البلاد الشامية وعشائرهم، وكتائب من التركمان، وحمل إليهم الأموال وآلات القتال، ومن بينها المنجنيقات وعددها، وسلاليم لمرمى القلاع ومصعدها.

وسار بهذا الجيش الجرار إلى المخاضة في يوم السبت 19 ربيع الأول سنة 575 هـ – 25 أغسطس 1179 م.

وهنا يصف القاضي الفاضل الحصن الحصين. فهو مبني على تلال وعرة عالية. وأبراجه مرتفعة متينة، وقد عرض حائطه إلى أن زاد على عشرة أذع، وبني من حجارة صلدة، توعز للحديد بأنه من الصعب هدمه.

وبداخل الحصن ما يزيد على أَلف وخمسمائة رجل، ولديهم الجروخ [2] الوثيقة، "وقد نصبت عليه مجانيق يروع خاطر الجسارة منظرها، وتلتهم الحصون فكيف الخيام حجرها؟، ويسري إلى الأجساد خبرها، وحفر له خندق أحاط بالمدينة سرادقه، وفتحت أبوابها ثقة بما صانته مغالقه، وقد بنوه حتى لا تنهار حروفه، ووسعت حتى لا تنجار جروفه [3] .

ص: 338

ثم ركب السلطان صلاح الدين ثاني يوم الأحد إلى صفد، فقطع منها قضب الكروم والأخشاب، فأما الكروم فليجعلها ستائر للمنجنيقات للتمويه على العدو مثلما تفعل الجيوش المحاربة في العصر الحاضر، وأما الخشب ونشارته فبغرض إيقاد النار في أسوار الحصن بعد نقبها.

وعاد السلطان صلاح الدين في نفس اليوم إلى المخاضة، واستقر رأيه على قتال الحصن بطريقتين، وهما القتال زحفا مع نقب الأسوار في آن واحد.

ونقف قليلاً أمام هذه العبارة "وعلم- أي صلاح الدين- أن أمراً أَوله الاستخارة، وأوسطه الاستشارة، وخاتمته الجسارة، فإن الجامع بينها لا يندم [4] ".

ففيها رغم إيجازها وصف كامل للحالة النفسية للمقاتلين الذين يستعينون بالله على محاربة عدوهم، ثم يليها استشارة القائد ضباطه لأخذ آرائهم، ثم الشجاعة والجرأة التي تنجم عن تعبئة روحية عالية، تكون النتيجة الظفر على الأعداء بإذن الله.

ثم يلي ذلك وصف المعركة، ومنه:"وفي الحال أَطافت بالحصن المقاتلة من جميع أقطاره، ولبوا تلبية الحجيج، وكل يرمي جمرة سهم، وعبرت الآجال المسماة على قناطر القسي المحنية، وقدحت زنودها البيض شرار جمر المنية، فصارت الأبرجة كأنها مستلئمة بسلاحها، أو كأنها لكثرة ريش السهام طائرة بجناحها، أو كأنها صدور قد أظهرت حسك [5] الضغائن، أَو كأن أبرجتها لازدحام السهام بها كتائن [6] ، فنجدد عليهم حصر بان في البيوت بعد الحصر في المدينة، وضاق مجال اليد عن أنجاد خواطرها اللعينة المبينة، وفي الحال هجم الأولياء على الحوش، وحازوا الخندق وأطلقوا النيران فتبسطت خطواتها، وتسلطت سطواتها، وأحاطت بالأعداء خطياتها"[7] .

ص: 339

ولم ير الصليبيون بداً من النجاة بأنفسهم إلى أسوار الحصن ليحموا أنفسهم وحصنهم حتى يأتي إليهم المدد من طبرية، غير أن المسلمين ألحوا في القتال رغبة في الوصول إلى نتيجة حاسمة قبل وصول المدد، وأدرك الليل قبل أن تتضح النتيجة فأمر السلطان صلاح الدين بالمبيت في الباشورة إلى الغد، وفي الصباح باشر النقابون تنقيبهم في أسوار الحصن وهي بالغة الفخامة. حتى بلغ طول النقب ثلاثين ذراعا في عرض ثلاثة أذرع، وحشى النقب بالحطب، وأشعلت فيه النيران فلم يسقط أيضاً. ولذا أمر السلطان صلاح الدين بإطفاء النار ليتم نقبه، وعاد النقابون إلى عملهم حتى خرَقوا السير وعمقوا الخرق، ثم حشوه بالقش والحطب وأشعلوا النار، فسقط السور يوم الخميس 24 ربيع الأول سنة 575 هـ= 30 أغسطس 1179 م. وكان الصليبيون قد جمعوا وراءه حطباً، فلما وقع السور دخلت الرياح فردت النار على من به، وأحرقت بيوتهم وطائفة منهم، واجتمع الباقون إلى الجانب البعيد من النار وطلبوا الأمان فأمنهم صلاح الدين. وغنم المسلمون مائة ألف قطعة من الحديد من جميع أنواع الأسلحة، عدا ألف زردية، فضلا عما كان في الحصن من أقوات كان الصليبيون قد اختزنوها استعدادا لمقاومة طويلة.

ووجد السلطان صلاح الدين بداخل الحصن من أسرى المسلمين ما يزيد على مائة رجل، فأمر بنزع القيود من أرجلهم، ووضعها في أرجل الصليبيين المأسورين البالغ عددهم نحو السبعمائة.

وتقدم السلطان صلاح الدين فاقتلع بيده الأحجار من أسها، ومحا حروف البنيان من طرسها، وطم جب الماء الذي حفره الصليبيون وسط الحصن، بأن ألقى فيه القتلى من الصليبيين والمحترق من دوابهم، واستمر مقامه ثلاثة أيام، إلى أن دمر ما كانوا يصنعون. وأعز الله الإسلام، وأمر أمره، ونصر الإيمان، وكان حقاً على الله نصره.

ص: 340

ثم سار صلاح الدين إلى أعماق طبرية وصور وبيروت، وأنزل بالصليبيين الذين احتلوها الهلاك وبحصونها الدمار، وثل عروشها. وأحل بالكفار الهزيمة المنكرة في ثلاثة أيام وهو في طريقه إلى دمشق.

وعاد السلطان صلاح الدين إلى دمشق في يوم الخميس 19 ربيع الآخر سنة 575 هـ= 29 سبتمبر 1180 م بالنصر الظاهر. والظفر الباهر. فمدحه عدة من الأمراء والشعراء وهنأوه بالفتح [8] .

والقاضي الفاضل يشيد بهذا الفتح الذي يعد فتوحا، قد ضاعف الله بها بهاء الإسلام والملة، وأن هذا الفتح كليلة القدر جمالا وبهاء وقدسية، وأنه قام مقام تجديد شباب الإسلام بل مقام مولده.

ثم يعرج إلى مدح الخليفة العباسي من خلال تمجيده لهذا الفتح، فمن ذلك قوله:

"وقد تخير الله له- أي الفتح- أفضل زمان، وتخير للزمن أفضل قائم، واشتملت أيامه على فتوحات يوصل منها كل خال بتال، ويتجدد منها كل قديم بقادم [9] .

ويحسن القاضي الفاضل الانتقال إلى. موضوع قلج أرسلان إذ يقول: "وسقط جوده الفائض غرس إحسانه، بأعذب وأطهر من سلالة الغمائم، فلا يزال ذلك الغرس مستثمراً لا تخلف دلالته، وذلك الصفو جمالاً ينزف زلالته، غير أن الشوائب لا يخلو منها دهر، والعوارض لا يصفو منها صدر [10] ".

فقد كان قلج أرسلان سلطان السلاجقة بالروم، وأولياؤه بآسيا الصغرى ممن يكرهون قيام دولة كبيرة على أنقاض الدولة النورية [11] .

فبينما كان السلطان صلاح الدين مشغولا بالصليبيين، تحرك قلج أرسلان نحو حلب، وحاصر حصن رعبان مدعياً أن نور الدين اغتصبه منه، وأن السلطان الصالح إسماعيل أمر برده إليه، ولم يقم صلاح الدين وزنا لهذا الادعاء، فكلف ابن أخيه تقي الدين عمر والأمير سيف الدين مشطوب بصده، وقد نجحا في مهمتهما، وقضيا على مطامعه التوسعية في تلك الجهة [12] .

ص: 341

ويوضح القاضي الفاضل أن السلطان صلاح الدين قضى بذلك على تطرف قلج أَرسلان وتطرفه في ادعائه المذكور، وأنه قطع عروة تعلقه بالفساد وبدد أحلامه التوسعية.

ولم يكن أمام السلطان صلاح الدين غير هذا السبيل، فقد أتى قلج أرسلان بكبيرة يحل بها قتاله، وأقدم على عظيمة يجب بها استئصاله. وتوجب الضرورة حينئذ موادعة الكفار ليكون الذرع خاليا لأمره، والأمر مصروفاً عنانه إلى عقره، والرمح مسدداً سنانه إلى عقره [13] .

والقاضي الفاضل يستكثر من قلج أرسلان أن يهاجم سلطنة صلاح الدين القاهرة، التي لم تجد خصما يقهرها، وينزل بأرضها. ولذا فقد قرر السلطان صلاح الدين أن يمهل العدو الصليبي، إلى أن يؤدب هذا المعتدي الباغي، الذي يشق عصا الطاعة على الإسلام بتعديه وظلمه.

وقبل أن تنتهي هذه الرسالة يرد ذكر قاض كريم الخلال قائم بتبليغ هذه البشارة، ولكن لم يذكر اسمه، وإن كانت قد تحددت المهمة المنوطة به، فهو نائب عن السلطان صلاح الدين يشرح بلسانه ما جاء في الرسالة، والتعليق على بنودها من عنده. وعليه أن يؤدي تحية الخلافة والثناء للخليفة.

وتختم هذه الرسالة بالدعاء هكذا: ((لازال المجلس السامي معان [14] الأماني ومأواها.

وموئل الرغبات ومثواها، ومجتبي ثمرات السعود ومجتلاها، وملقي رحال الندى ومبتداها إن شاء الله [15] .

رسالة عن فتح آمد:

وهذه الرسالة الطويلة كباقي الرسائل من هذا النوع، الذي يرسله القاضي الفاضل إلى الخلافة العباسية، كتذكرة بالأمجاد التي يؤديها السلطان صلاح الدين. ويطلب في أثنائها مجازاته بتقليده ما يفتحه من البلاد.

وهو في مقدمتها يمدح الخليفة العباسي، الذي امتد نفوذه، واشتد سلطانه فالأخبار تتوالى عنده مبشرة بانتصار أوليائه.

ص: 342

ثم يصف القاضي الفاضل شعور السلطان صلاح الدين عند ورود التقليد إليه بولاية آمد. فقد فرح به وتناوله وكأنه كتاب أنزل من السماء أو نور يمشي به بين الناس، وسار من توه لفتح آمد (بلاد بكر الحالية) ، فوصلها في يوم الأربعاء17 ذي الحجة سنة 578هـ= أبريل سنة 1183 م.

ونرى القاضي الفاضل يسجل ما حدث قبيل الحرب في أمدا وينتقل بعدها لوصف المعركة نفسها، وما انتهت إليه.

فقد أمر السلطان صلاح الدين أن تكتب الرقاع للآمديين يعدهم بالخير والإحسان إن أطاعوه، ويتهددهم إن قاتلوه، وانتظر ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع، أخذ في ردم أسوارها، إذ أرسل النقابين لنقبها، فما زالوا بها حتى نقبوها من عدة نواح، فضلاً عن رميها بالمجانيق. وهنا يتفنن القاضي الفاضل في تشخيص المعركة في أسلوب تشعر من خلاله بمدى ضراوتها، فهي كجهنم وقودها الناس والحجارة، وقد أزالت معالم المدينة، مثلما يزال جلد الشاة، والمنجنيقات تسقي الموت لأبرجتها ويعجز أهلها عن الذود عنها، والنقابون ينقبونها فيهتكون حجابها، فهو يصور في بلاغة، قوة البطش بها وبمن بداخلها.

ثم تسلم السلطان صلاح الدين آمد بأموالها وذخائرها، ورفع أعلامه على أسوارها يوم 14 محرم 579 هـ= 6 مايو 1183 م، فقد فضل الآمديون التسليم على المقاومة.

ويفتخر القاضي الفاضل بهذا الفتح المبين، وما تم بعد إحراز النصر المؤزر، فيقول: وهذه مدينة آمد، فهي مدينة ذكرها بين العالم متعالم، وطالما صادم جانبها من تقادم، فرجع عنها مفدوغا أنفه، وإن كان محلاً، وقرعها مزيداً بهجة، وإن استصحب حفلاً، ورأى حجرها فقد رأته لا يقال له حجر وسوادها فحسب أنه لا يتوشحه فجر، وحمية أنف أنفها فاعتقد أنه لا يستجيب لزجر، من ملوك كلهم طوى صدره على العليل إلى موردها، ووقف بها وقفة المحب المائد فلم يفز بما أمل من جواب معهدها [16] .

ص: 343

ثم وهب السلطان صلاح الدين البلد بما فيه لنور الدين محمد بن قرج أرسلان [17] وقد وعده بها من قبل [18] .

وقضى السلطان صلاح الدين على الحلف الذي تزعم عز الدين مسعود صاحب الموصل، واشترك فيه إيغلازي بن ألبي بن تمرتاش صاحب ماردين، ومغيث الدين طغول شاه بن قلج أرسلان، صاحب أرزن، وغيرهم.

ويطلب السلطان صلاح الدين في هذه الرسالة التقليد لا بالموصل وما علق به أهل الموصل، ذاكراً أن في ذلك خيرا كثيرا للدولة العباسية، حيث أنه لا يوجد بين ولاتها من له مثل فضله وأمجاده،. فيقول: ((هذه آمد لما أرسل إليه مفتاحها، وهو التقليد، فتحها، وهزه الموصل لما تأخر عنه المفتاح منعها وما منحها، ولو أعين به لعظمت على الإسلام عائدته، وظهر في رفع مناره فائدته. لأن اليد كانت تكون به على عدو الحق واحدة، والهمة لآلات النصر واجدة [19] .

ثم يبين للخليفة أن ذلك هو السبيل الوحيد إلى توحيد الأمة الإسلامية، والقضاء على الحروب الصليبية، والظفر بالمسجد الأقصى. وهو أغلى أمنية، فالسلطان صلاح الدين أبر أولياء الخليفة، وأشدهم على أعدائه، وأثبتهم رأياً وروية.

ويعود إلى الدعاء ولكن في هذه المرة للدين، إذ يقول: أعاد الله يا أمير المؤمنين هدى الدين إلى معالم حقه، وأطال يد سلطانه الطولى إلى أن أخذ الأمور مأخذها [20] . وهو يريد أن يعود إلى الإسلام مجده التليد.

ويختم رسالته هَكذا: (وللآراء علوها إن شاء الله [21] ".

الأمة الإسلامية

يقول لينين:

(يمكن أن تتحول كل أمة إلى الشيوعية إلا الأمة الإسلامية، لذلك يجب

العمل على تجريد المسلمين من إيمانهم أولاً..) .

من كتاب (من الرق إلى السيادة)

(لسامحة أي ويردي: التركية)

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 75.

ص: 344

[2]

الجرخ (GARKH) مأخوذ عن الفارسية (تشرخ TCHARKH) وهو نوع من القوس الرامي، ترمي عنه النشاط أو النفط، هكذا تصفه النصوص وهكذا وصفه دوزي بأنه:

(UNEARBOLETE AVEC LA QELLE ON LANCAIT، SOIT DE FLECHES LE NAPHTE)

وقد ذكر مرضي بن علي في تبصرة أبصار الألباب ص 6، 8 (أربعة أنواع للقوس الرامي الذي يشبه المنجنيق، وهو قوس الزياد، قوس العقاد، قوس الرجل، ويقال للذي يرمي عن قوسه السهام أو النفط ((الجرخي)) ، ويقابله بالفرنسية (ARBALETRIER)

والجمع ((الجرخية)) ، وقد عقد الحسن بن عبد الله في كتابه آثار الأول ص 60 فصلا عن صفة القسي والنشاب، أضاف إليه فيه معلومات قيمة عن الشعوب التي تؤثر استعمال الجرخ، والقوس العقاد، وأين يستعمل كل منهما؟. لأن القوس الجرخ يصنع من القرن، والعقاد يصنع من الخشب.. الخ.

[3]

من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 77.

[4]

من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 78.

[5]

الحسك: أداة من أدوات الحرب.

[6]

الكتائن: مفردها كتانة: جعبة صغيرة من أدم للنبل.

[7]

من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 89.

[8]

ابن الأثير: الكامل جـ 11ص 301، 303، أبو شامة: الروضتين جـ 2 ص 11، 13، ابن واصل مفرج الكروب جـ 2 ص 83، 85، المقريزي جـ 1 قسم 1 ص 69، والعين جـ 21 قسم 3 ص 614. Lane. Poob: saladin p. 159.

[9]

من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 83.

[10]

نفس المرجع السابق.

[11]

الدكتور نظير حسان سعداوي: التاريخ الحربي المصري ص 51.

[12]

أبو شامة: الروضتين جـ 2ص8، 9، ابن كثير: البداية والنهاية جـ 12ص 2.

[13]

من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 84.

[14]

في الأصل مغان، ولعل الصواب ما أثبتناه، فالمعاني يراد بها الصفات المحمودة.

[15]

من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 85.

[16]

من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 71.

ص: 345

[17]

صاحب حصد كيفا، توفي سنة 581هـ = 1186م (النجوم الزاهرة جـ6ص98) .

Lane –Pool: saladin P. 170 [18]

ابن الأثير: الكامل جـ11ص320، أبو شامة جـ2ص41.

[19]

من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 72، 73.

[20]

من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 73.

[21]

نفس المرجع السابق اللوحة 73.

ص: 346

تفاعل المسلمين مع دينهم

للدكتور محفوظ إبراهيم فرج

أستاذ مساعد بكلية اللغة العربية

يحدثنا التاريخ الإسلامي قديمه وحديثه أن المسلمين تكون لهم العزة والسيادة إذا تمسكوا بدينهم في جميع شئونهم. وإذا لم يكن لدينهم واقع في حياتهم دبّ الضعف في صفّهم وتداعى عليهم المعتدون كما تتداعى الأكلة على القصعة وليس ذلك عن قلتهم بل إنهم كثير- ولكنهم غثاء كغثاء السيل كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح.

وقد حمل المسلمون السابقون شريعتهم قوية فتية في إطار جميل من المعاملة الطيبة والاحترام الصادق للحقوق والأموال والأعراض.

وساعد على ذلك ما أدركوه وفقهوه من أن تلك الشريعة أشبعت حاجة الناس إلى القواعد العادلة للعلاقات الاجتماعية ولجميع المعاملات، فأيقظت بذلك الضمائر، وأحيت فيها رقابة الله تعالى، فقد علقت الامتياز والخيرية بأمر هو في إمكان الناس جميعا ذلك ما يوحي به قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وما نأخذه ومن قول الرسول صلى الله عليه وسلم "لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى".

وكان من تفاعل المسلمين مع دينهم أن سلوك الواحد منهم في حياته الخاصة والعامة كان انعكاسا لما يقوم به من طاعة وما يؤديه من عبادة مرتفعا عن الأغراض والأهواء لا تتحكم فيه الغرائز والميول.

تمتع المسلمون وهم على هذا المنهج القيم بالقوة والمنعة ودانت لهم الدنيا وملكوا العالم، وسادوا الشعوب ومكن الله لهم في الأرض وتحقق وعد الله القائل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} .

ص: 347

ذلك أن مبادئ الإسلام الخالدة هي مبادئ الحضارة التقدمية، ولم يشهد التاريخ قوة للإسلام ولا عزة للمسلمين إلا حينما كانوا يتخلقون بما في هذه المبادئ من أخلاق وقيم.

والقوة في هذه المبادئ أنها تنتظم جميع الأفراد وأنها عامة يتساوى أمامها الأمير والصغير، والغني والفقير، فليس هناك تفاضل بالأموال أو الأنساب أو الجاه. وإنما التفاضل بالعمل الصالح والتنافس فيه.

وإذا قدر لواحد منهم أنه استجاب لداعي شهوة أو غريزة ذكر الله فاستغفره. كي تظل حياته عامرة بالإيمان. ولا يجد حرجا أن يعلن عن مخالفته ليرجع إلى الله بالتطهير مما اقترف ولو كان في ذلك قضاء على حياته. لعلمه أنها فانية، وأن الدار الآخرة هي الحيوان فنجد ماعزاً رضي الله عنه يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: يا رسول الله زنيت فأقم عليّ الحدّ. فيراجعه الرسول صلى الله عليه وسلم مرة ومرة ويظل على رأيه لا يحيد عنه، فيأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه.

وتجيء الغامدية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول له: زنيت. هذا الحمل من سفاح فراجعها الرسول صلى الله عليه وسلم وتصر على الاعتراف فيؤخر الرسول صلى الله عليه وسلم إقامة الحد عليها حتى تضع حملها وتلد ويستغني الولد عن اللبن بالفطام. وتأتي بعد كل ذلك مختارة ليقام عليها الحد. فتطهر من الدنس الذي علق بها وتلقى الله وهو راض عنها.

كما نجد أن صحابيا تحت تأثير شهوة أتى امرأته في نهار رمضان ولما أفاق من غفلته تحرك فيه الوازع الديني فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا: هلكت ليجد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقا لنجاته، فيرشده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فعل الكفارة على ضوء الحديث الذي حدثنا به أبو هريرة رضي الله عنه من رواية البخاري.

ص: 348

هذه أمثلة توضح أن السلف الصالح رضوان الله عليهم حققوا المبادئ الإسلامية في تفكيرهم، وأحسنوا تنفيذها في معاملتهم. ورجعوا إليها إذا انحرفوا عنها تحت تأثير شهوة، لإيمانهم العميق بتلك التعاليم التي اعتنقوها مبدأ وسلوكا.

ولما بدأ التفاعل بين المسلمين ودينهم يضعف. أخذ الإسلام يتحول في نفوس أهله من حياة قوية متوثبة إلى تقاليد وشكليات. فكان أن دب الضعف في الصف الإسلامي، ولعب الاستعمار دوره فصرفهم عن دينهم. وقتل فيهم حيويته وقوة تعاليمه. فتفتتوا بعد توحد، وتمزقوا بعد تجمع، وقل الوازع الديني الذي بجمع الكلمة ويوحد الصف.

وهكذا دار الفلك دورته. وعاد الإسلام غريبا كما بدأ. وهذه الغربة نعيشها اليوم في عصر العلم وغزو الفضاء، فمع التفوق العلمي في جميع ميادين الحياة. نشاهد طغيان المادة على القيم والمبادئ. ونلمس أن الغرائز أضلت عقول الناس لبعدهم عن غذاء النفس وتقويتها، فكان التصدع بين الأفراد والجماعات، وبين الدول والشعوب نتيجة ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وتعدي الجماعة على الجماعة، وحرب الدولة للدولة.

في هذا الجو المكفهر المشحون بالمخالفات يتحقق قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يحدثنا به أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعا من رواية لمسلم: "بدأ الإسلام غريباً ثم يعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس".

ص: 349

فتعاليم الإسلام أصبحت غريبة غير مألوفة في المجتمعات الإسلامية وأصبح التدين رجعية. والقابض على دينه كالقابض على الجمر. وفقدت التربية الإسلامية، وانعدمت الرحمة من القلوب. فلا شفقة لصغير، ولا تقدير لكبير، واختلت الموازين. وأصبح الأمر فوضى، واستخفت الناس بشعائر الله، وأصبح المعروف منكرا والمنكر معروفاً، وسيطرت الأنانية وانعدم الإيثار أو كاد. وضلّ الناس طريقهم، فمنهم من ظالم يظن أنه عادل، ومسيء يظن أنه محسن. وجاهل يظن أنه عالم، وغبي يظن أنه فاهم، وضنين بنعم الله عليه يظنّ أنه من المزكين، وسار الناس حياتهم في إطار من البغض والكراهية والتمزق، ووهنت الروابط وكادت تنعدم الإنسانية.

وعاد الناس في أزمة ضمير، وساعد على ذلك الأفكار المستوردة، وسموم الاستعمار حتى طفح الكَيل، وحاربت مع الأسف الدولة المسلمة شقيقتها. وكان ضياع آلاف الأرواح والخسائر المتعددة الأشكال والأنواع. وتحقق قول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .

فذل المسلمون بعد عز. وضعفوا بعد قوة، وأصبحوا فرقاً وأحزاباً بعد أن كانوا أمة واحدة قوية فتية لها وضعها ومكانتها في المجتمع الدوليّ.

ولن يلتئم الجرح النازف في الصف الإسلامي، ولن يعود للإسلام مجده وحيويته، ولن تعود للمسلمين قوتهم ومنعتهم إلا إذا فهموا دينهم كما فهمه السابقون من أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم عبادة ومعاملة ومنهجا وسلوكا يسيرون على أضوائه في محيط حياتهم. وفي جميع شئونهم الخاصة والعامة لا يجدون في أنفسهم حرجاً من تنفيذ أحكامه.

وصدق قول الإمام مالك رضي الله عنه إمام دار الهجرة (لا صلاح لهذه الأمة إلا بما صلح به أولها) .

ص: 350

وعندئذ يعود المسلمون سيرتهم كما وصفهم القرآن الكريم: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} .

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".

وقوله عليه الصلاة والسلام: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" هذا رجاؤنا، وما ذلك على الله بعزيز.

زيادة النعم بالشكر عليها

قال أبو يوسف ينصح هارون الرشيد رحمهما الله: إن الله عز وجل، بمنه ورحمته، جعل ولاة الأمر خلفاء في أرضه، وجعل لهم نوراً يضيء للرعية ما أظلم عليهم من الأمور فيما بينهم، وبين ما اشتبه من الحقوق عليهم.. وإضاءة نظر ولاة الأمر:

إقامة الحدود، ورد الحقوق إلى أهلها بالتثبت والأمر البين، وإحياء السنن التي سنها القوم الصالحون أعظم موقعاً، فإن إحياء السنن من الخير الذي يحيا ولا يموت.

وجور الراعي هلاك الرعية، واستعانته بغير أهل الثقة والخير هلاك للعامة..

فاستتم ما آتاك الله، يا أمير المؤمنين، من النعم بحسن مجاورتها، والتمس الزيادة فيها بالشكر عليها، فإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز:

{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}

ص: 351

الدين بين الشرق والغرب

للشيخ عادل رمضان

من جملة الظواهر التي تعاني منها المجتمعات الغربية بشكل عام ظاهرة التشكيك في كل شيء، في القيم، والمبادئ، في المثل، والأخلاق، وحتى في الإنسان نفسه، في وجوده المادي والروحي، هل هو وجود حقيقي أم هو ضرب من الأوهام؟

وتستشري هذه الظاهرة حتى تمس الدين وتطرح التساؤلات حول صلاحيته لهذا العصر وما بعده.

وإننا سوف نقتصر في موضوعنا هنا على بحث ما يتعلق من هذه الظاهرة التشكيكية بمسألة الدين لكونها على درجة كبيرة من الأهمية، لا سيما وأن الخطورة فيها تكمن في تسرب هذه الأفكار الخاطئة إلى رؤوس بعض الشباب داخل المجتمع المسلم، وبشكل خاص أولئك الذين يستهويهم زيف الحضارة الغربية ويخطف لبهم بهرجها.

صحيح إن الشباب في الغرب يعيشون مزيجاً من القلق والضياع والاضطراب الفكري بعد أن فقدوا الثقة بما لديه من قيم دينية.

لكن الأمر يختلف تماما بالنسبة لنا وفيما يتعلق بديننا الحنيف، إذ هو مناط وجودنا والمحافظ الوحيد على شخصيتنا، وبه كان عزنا ومجدنا وانتصاراتنا. وحقائق التاريخ تثبت ذلك، وتثبت أن الإسلام كان ولا يزال العامل الأساسي في حياتنا واستقلالنا الفكري والثقافي في عالم تضطرب فيه الموازين وتضيع فيه ملامح الشعوب الصغيرة أمام تجاوزات الدول الكبرى، والقوى الاستعمارية العالمية والشيوعية الدولية التي تخطط للقضاء على الإسلام وتعمل لذلك، انطلاقا من خلفيات متعددة تحيك خيوطها في الظلام مسخرة في ذلك كلّ ما لديها من وسائل وضغوط وإغراءات لتخريب كيان الأمة وتمييع شخصيتها تمهيدا لربطها بفلكها وإخضاعها لسيطرتها الدائمة.

ص: 352

والحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن البال مطلقاً هي أن هنالك حلفا استعماريا صهيونياً إلحاديا يعمل بمكر وخداع من أجل الهيمنة على العالم الإسلامي ونهب ثرواته واستغلال خيراته، وإفساد عقيدته عقيدة أفراده وتسميم أفكار شبابه وإدخال التشكيك في حياتهم اليومية بطرح فلسفات مادية إلحادية وأفكار وجودية فوضوية تحمل لهم الفساد الاجتماعي والانحلال الخلقي وتشغلهم بجدليات فارغة تكرس الأفكار المشوهة، والآراء المتطرفة، مستغلة أجواء الحرية المتاحة في بعض الدول المسلمة في القول والتعبير ونشر الأفكار المسمومة في أوساط بعض أنصاف المثقفين ليجعلوا منهم أذناباً لهم يتوصلون به إلى أهدافهم العدوانية والتوسعية.

والغريب في هذا الخصوص أن يسقط بعض شباب الأمة في شباك المجرمين دون تبصّر فينساقون وراءهم فيبعدون عن كل القيم والمبادئ، متأثرين بمظاهر الحياة الأوربية الزائفة، فيعيشون حياة ضياع فكري وخلو روحي ونفاق وجداني، تمهيدا لربطهم بفلكهم وإخضاعهم لسيطرتهم البغيضة.

ولئن كان للشباب في الغرب العذر في الخروج على تعاليم الكنيسة والتمرد على أوامرها لأنها تتنافى مع الحق والمنطق السليم، فليس لشبابنا عذر في السير خلفهم وتقليدهم في كل شيء دون دراسة أو بحث مدفوعين بنظرة الإعجاب لكل ما هو غربي.

إن من الجهل الفاحش أن يغمض الإنسان عينه عن البحث والدراسة والمقارنة خاصة وأن الله تعالى مَنّ عليه بعقل لو استعمله لاستطاع أن يصل إلى الحقيقة مهما بعدت.

صحيح أن الدين في أوربا مشوه مزيف يقوم عليه تجار الكنيسة وباباواتها. وكان سبباً في التأخير والانحطاط ومبعث الفوضى والاضطراب عكس ديننا الحنيف الذي لم تمسه يد التحريف إطلاقاً.

ص: 353

وإذا كان إقليدس مثلاً قد تعرض للحكم عليه بالإعدام لقوله بكروية الأرض ودورانها من محكمة كنسية أصدرت حكمها باسم الدين. فإن ديننا الحنيف جعل الحقائق الكونية من جملة المعارف الأصلية التي وفق بعض الباحثين إلى معرفتها، ثم وجد السباق إلى معرفة كثير من الحقائق التي وقف العلم حائراً أمامها فترة من الزمن.

الدين في أوربا يأمر أتباعه أن يغمضوا أعينهم عن حقائق الكون ويسلموا لرجال الكنيسة بلا مناقشة أو اعتراض، وأول ما يعلم البطارقة أتباعهم المقولة المتخلفة (أطفئ نور عقلك واتبعني) ويلقنونهم بعد ذلك ما يحلو لهم من الأوهام والأباطيل.

هذه حقيقة ما يعرض باسم الدين في أوربا اليوم. وهو يتنافى مع أبسط قواعد العقل والمنطق. ولشباب الغرب كما أسلفنا العذر في نبذه والإعراض عنه إذ كيف يمكن للعقل السليم أن يقبل دعوى ألوهية المسيح وهو بشر يأكل كما يأكل البشر وينام كما ينامون مع زعمهم أن اليهود عدوا عليه فلم يملك أن ينجي نفسه منهم فأخذوه وصلبوه على حد دعواهم الباطلة، وكيف يمكن للفكر أن يتصور أن الإله لا يملك أن يغفر لبني آدم- وهو الذي خلقهم- فيقدم على التضحية بابنه الوحيد أمام اليهود ليخلص البشر من وبال الخطيئة القديمة التي وقع فيها أبوهم قبل ملايين السنين وهم بريئون لا جريرة لهم في ذلك، وهل يمكن أن نقبل هذا التلفيق في الوقت الذي نرى فيه الخوري أو البابا أو البطريق يغفر لمن يشاء ويحلل ويحرم كما يحلو له.

ص: 354

إن الدين في أوربا اليوم يقوم عليه سماسرة ماكرون، اتخذوا من الخديعة والافتراء مهنة لهم، واستخدموا أساليب الحيلة واللف والدوران للسيطرة على الناس وابتزاز أموالهم. ولقد استنكر القرآن الكريم عليهم تشويه كتبهم السماوية وتحريف كلمها عن مواضعه وعاب عليهم أكلهم أموال الناس بالباطل. ومضاهاتهم قول الذين كفروا، وتعاملهم بالربا وتحايلهم على قواعد الشرع وأسسها فما يؤمنون به اليوم يخالفونه غداً، {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} .

إن دراسة الأديان ومقارنتها من خلال منظور التطور الحضاري للإنسان ومن خلال المخطط الإلهي لبناء الإنسان تبين أن الدين المسيحي في حد ذاته إنما كان يناسب فترة زمنية محددة من تاريخ البشرية.

وبسبب المنافع الدنيوية الرخيصة أصر بعض رجاله المسيحية المتأخرون على التوقف بمسيرة الإنسان عند حد معين لتبقى لهم الرياسة والزعامة والسيطرة، فعادوا الإسلام وكادوا لأبنائه، ووقفوا في وجه مسيرته المعطاءة الخيرة، فخالفوا أمر ربهم ونقضوا ميثاقه الذي قطعه عليهم بالإيمان بالرسول الذي يأتي من بعد عيسى عليه الصلاة والسلام متمماً لشرائع الأنبياء قبله ومتمماً لمنهج الأديان وخاتماً للمرسلين.

وبهذا اصطدم رجال الكنيسة بناموس الحياة فانفرط عقد الدين في أوربا، وتفرق الناس أشتاتاً وشيعاً وحدثت لدى المثقفين منهم ردود فعل أدت بهم إلى رفض التدين مطلقاً بل والتهجم على الأديان عموماً، وراح يصفها بالرجعية والتخلف حتى زعموا أنها أفيون الشعوب وأنها لا تصلح لهذا الزمن.

ولقد استغل أنصار الشيطان ودعاة الإلحاد هذه الظروف، فاتخذوا من الشيوعية المادية، والوجودية الفوضوية مبادئ راجت عندهم.

وكانت ردود الفعل هذه بمغالاتها وتطرفها أكثر تهوراً ومثلها كمثل المستجير من الرمضاء بالنار.

ص: 355

وظهرت على الساحة الأوربية أفكار أخرى كانت أقلّ خطراً من ردود الفعل السابقة فصلوا فيها الدين عن الحياة، فقالوا دع ما لقيصر لقيصر والدين للرب في الأعالي.

ووقف بعضهم من الصراع الدائر حول الكنيسة موقف اللامبالاة، ووقع كثيرون غيرهم في الحيرة، ولجأ آخرون إلى القوانين الوضعية وراحوا يحدثون لأنفسهم أنظمة يسيرون عليها. ولم تخلُ الساحة من أناس حكموا عقولهم وأعملوا فكرهم بالبحث ووضعوا المسيحية تحت الفحص والتمحيص وظهرت نتيجة ذلك حركات التحرر والمذاهب الإصلاحية، وأزيلت الحواجز التي أقيمت بين الشباب وبين الإسلام للتعرف على حقيقة والإطلاع على دقائقه وتفاصيله التي ليس هناك مجال للمقارنة ولا يحتاج الإسلام للحكم عليه.

إن الإسلام لا يغفل العقل بل يحث على المحافظة عليه واستخدامه ويدعو إلى العلم ويطالب بفهم الحجة والبرهان.

وقد حث أتباعه على النظر في ملكوت السماوات والأرض، ونعى على المشركين عدم استخدامهم عقولهم، واعتمادهم على الأصنام والأوثان، وما يروجوه لهم سدنتها من الخرافات والأباطيل، واستنكر تقليدهم الأعمى للآباء والأجداد، واتباعهم الهوى والظن.

وأمر بالعلم وجعله فرضاً على كل مسلم، ونفر من الجهل، وكانت أول آية نزلت من عند الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم آمرة بالقراءة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .

وقرر الإسلام أنه لا واسطة بين العبد وربه وأن الرسل والأنبياء إنما هم مبلغون. مبشرون ومنذرون، وينحصر عملهم في الدلالة على الهدى وتوضيح معالم الطريق وكذلك العلماء من بعدهم، وبذلك قطع الإسلام الطريق على كل من تسول له نفسه الدجل الرخيص والتلاعب بالمثل والقيم والتستر خلف الدين لتحقيق منافع شخصية ومآرب دنيوية رخيصة. واستنكر على أصحاب الديانات قبله ما قاموا به من تشويه كتبهم السماوية وتحريف كلمها عن مواضعه.

ص: 356

ولقد وجد منصفون كثيرون غايتهم وضالتهم في الإسلام حين عرفوا أنه الدين الوحيد الذي يتلاقى مع العقل والعلم ويتناسب مع الفطرة البشرية السليمة ولا يُكره الإنسان على طقوس روحية غامضة ومرهقة، فلم يكلفه مالا يطيق، ولم يكبت فيه نوازع الغريزة وإنما وجهها الوجهة الصحيحة التي تتلاقى مع الفطرة الصافية وتدفع عن المجتمع أوضار الرذيلة والفساد، كما راعى في تشريعاته التوفيق بين متطلبات النفس وضروريات الحياة، وأقام التوازن بين المادة والروح، في وضوح وعلى البصيرة.

ثم إنه حارب الفقر والمرض، وفرض في أموال الأغنياء حقاً للفقراء والمساكين.

وأعلن المساواة التامة بين الناس فلا تفاضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح.

وضمن حقوق الإنسان كاملة وسهر على حماية روحه وعرضه وماله.

وقرر حرية الفرد كاملة وبما لا يتعارض مع حرية الآخرين، وأنصف المرأة وأعطاها حقوقها وألزمها واجباتها، وحماها من سوء تصرف الرجل. ومنع الظلم، ودعا إلى تحرير العبيد والقضاء النهائي على كل أشكال الاسترقاق، فقد حث على العتق، ورغب فيه، وجعله من أفضل الطاعات والقربات، بل لقد فرض العتق كحد وكفارة وعقوبة.

وفي كنف الإسلام نشأ علماء أفذاذ مهدوا طريق العلم لمن خلفهم، وكانت أوربا غارقة في ظلمات الجهل فأخذوا من المسلمين علمهم ونهضتهم.

لقد تأسف مستشرقون منصفون على هزيمة العرب في معركة بواتيه واعتبروا ذلك سبباً في تأخر الحضارة عن أوربا عدة قرون.

وفي مجال العلوم والمعرفة الحديثة كان الدين الإسلامي رائداً وسباقاً إلى الكثير من المعارف والحقائق العلمية. بحيث جاءت العلوم الحديثة تثبت بنظريات جديدة ما بادر القرآن الكريم إلى إثباته قبل آلاف السنين.

ص: 357

من كل ما سبق يتبين لنا أن الفرق الواضح بين ما يعرض باسم الدين في أوربا وبين حقيقة الدين الإسلامي، ليدرك الناس الحقيقة قبل أن يجرفهم تيار الهوى ويميت الشيطان قلوبهم- {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .

ص: 358

معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لبني قريظة

والرد على ما يثار حولها من شبهات

للدكتور جمعة علي الخولي

رئيس قسم العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين

بالنسبة لمعاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لبني قريظة. لا نريد أن نتعجل الحكم ونقول إنه عليه الصلاة والسلام عالج الأمر بالعلاج الوحيد الذي لا ينفع غيره، أو حل عقدته بالسلاح الذي يناسبه.. لا نريد أن نتعجل الحكم بذلك قبل أن نقف على حيثياته وظروفه.. معروف أنه بمجرد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة عقد بينه وبين اليهود الموجودين بها معاهدة رائدة بمثابة أقدم دستور مسجل في العالم [1] . كان من بنود هذه المعاهدة:

أ- التزام كل من المسلمين واليهود بالمعايشة السلمية فيما بينهما وعدم اعتداء أي فريق منهما على الآخر في الداخل [2] .

ب- تعهد كل من الطرفين بالدفاع المشترك عن المدينة ضد أي اعتداء خارجي وعلى اليهود أن يتفقوا مع المؤمنين ما داموا محاربين [3] .

وحدث في العام الخامس من الهجرة أن مر المسلمون بظروف قاسية عندما تجمعت أكبر قوة معادية للمسلمين في ذلك الوقت للقضاء عليهم داخل المدينة، وأحاطت جيوش الأحزاب بالمدينة في عشرة آلاف مقاتل [4] من مشركي قريش وقبائل غطفان وأشجع وأسد وفزارة وبني سليم على حين لم يزد عدد المسلمين على ثلاثة آلاف مقاتل [5] ، وكان المتوقع أن ينضم يهود بني قريظة إلى صفوف المسلمين ضد القوات الزاحفة على المدينة بناء على نصوص المعاهدة المبرمة بين الفريقين.. لكن الذي حدث هو عكس هذا، فقد فوجئ المسلمون ببني قريظة يخونهم في أخطر أوقات محنتهم ولم يرعوا للجوار حقاً، ولا للعهود حرمة، ولقد كانوا يسعون من وراء انضمامهم هذا إلى صفوف الأحزاب التعجيل بسحق المسلمين والقضاء عليهم قضاء تاماً.

ص: 359

ولقد أحدث نقض بني قريظة لعهدهم مع المسلمين وإعلانهم الانضمام إلى صفوف الغزاة فزعاً شديداً في صفوف المسلمين لأنهم ما كانوا يتوقعون أن يحدث هذا في مثل تلك الظروف، لدرجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص أول الأمر على كتمان الخبر على المسلمين لما كان يخشى من وقعه على نفوسهم. وبمجرد أن انتهى إلى سمعه النبأ أرسل وفداً مكوناً من سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وعبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير ليذكروا القوم بما بينهم وبين المسلمين من عهود، ويحذروهم مغبة ما هم مقدمون عليه، وأوصاهم قائلا:"انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقاً فألحنوا لي لحناً أعرفه. أي ألمحوا لي في الكلام تلميحاً دون تصريح، حتى لا يفت ذلك في عضد الناس، وأما إن كانوا على الوفاء بيننا وبينهم فاجهروا به للناس.." فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم. وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبينه، فرجع الوفد وأخبر رسول الله تلميحاً لا تصريحاً. بأن قالوا له عضل والقارة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله أكبر، أبشروا يا معاشر المسلمين ( [6] ) .

وهكذا ركب القوم رؤوسهم، وقرروا الانضمام الفعلي للغزاة، وأخذوا يمدونهم بالمال والعتاد.. وكانت خيانتهم الأثيمة تلك بمثابة طعنة للمسلمين من الخلف أشق على نفوسهم من هجوم الأحزاب من خارج المدينة، لأنهم ما كانوا يظنون أن يأتيهم الروع من مأمنهم الحصين، وعند ذلك عظم البلاء، واشتد الخوف. وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظن المؤمنون كل ظن، وظهر النفاق من بعض المنافقين يفتون بذلك في عضد المسلمين ويرجفون به في المدينة، حتى أن أحدهم ليقول كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن أن يذهب إلى الغائط ( [7] ) .

ص: 360

هكذا كان الوضع إبان معركة الأحزاب حتى لتصور السيدة أم سلمة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ظروف المسلمين وقتئذ بقولها: "شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهد فيها قتال وخوف، شهدت المريسيع، وخيبر، وكتاب الحديبية، وفي الفتح، وحنين، لم يكن ذلك أتعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخوف عندنا من الخندق، وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري. فالمدينة تحرس حتى الصباح تسمع فيها تكبير المسلمين حتى يصبحوا خوفاً [8] ، لكن عناية الله تدخلت لنصرة الإيمان وأهله وهزيمة الشرك وحزبه، وشاء الله أن يندحر ذلك التحالف الوثني اليهودي {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} (الأحزاب الآية 25) .

ص: 361

وبعد أن ولى المشركون وحلفاؤهم الأدبار، يحملون معهم كل معاني الإخفاق رجع المسلمون إلى منازلهم بالمدينة يغسلون أنفسهم من وعثاء الجهاد والتعب ويلتقطون أنفاسهم بعد قلق نفسي بالغ دام شهرا كاملا.. ويبدو أن البعض ظن أن الموضوع انتهى إلى ذلك الحد لكن أيترك الناكثون للعهود دون محاسبة وتأديب.. ذلك ما لا يكون.. وتأباه العدالة الإلهية، ولذلك كان عقابها عاجلاً، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء المرابطة في غزوة الأحزاب في بيت أم سلمة رضي الله عنها إذ تبدى له جبريل عليه السلام فقال:"أوضعت السلاح يا رسول الله، قال: نعم. قال: ولكن الملائكة لم تضع أسلحتها، وهذا أوان رجوعي من طلب القوم، ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم [9] ، فنادى عليه الصلاة والسلام في المسلمين "ألا لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"، فسار الناس فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، وقال بعضهم بل نصلي، ولم يرد منا ذلك فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم [10] .. وتبعهم عليه الصلاة والسلام بعد أن استخلف على المدينة عبد الله بن أم مكتوم، وحاصر القوم شهراً أو خمسة وعشرين يوماً [11] .. ولما طال عليهم الحصار.. عرضوا على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتركهم ليخرجوا إلى (أذرعات) .. بالشام تاركين وراءهم ما يملكون، ورفض عليه الصلاة والسلام إلا أن يستسلموا دون قيد أو شرط واستسلم يهود بني قريظة، ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوكل عليه الصلاة والسلام الحكم فيهم إلى سعد بن معاذ أحد رؤساء الأوس [12] . وفي اختيار سعد دلالة على حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد نظره، وإدراكه لنفسيات هؤلاء القوم، لأن سعدا كان حليف بني قريظة في الجاهلية، وقد ارتاح اليهود لهذا الاختيار، وظنوا أن الرجل قد يحسن إليهم في حكمه، لكن

ص: 362

سعداً نظر إلى الموقف من جميع جوانبه. وقدره تقدير من عاش أحداثه وظروفه. وشاهد كروبه ومآزقه وعرف النذر المستطيرة التي تراءت في الأفق فأوشكت أن تطيح بالعصبة المؤمنة لولا عناية الله عز وجل التي أنقذت الموقف.. وسعد هو نفسه الذي شفع لديهم بادئ ذي بدء ليرجعوا عن غدرهم وغيهم، لكن القوم مضوا في عنادهم لا يقدرون للنتائج عاقبة، ولا يراعون الله في حلف ولا ميثاق، ولذلك لما كلم في شأنهم أكثر من مرة قال رضي الله عنه "لقد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم"[13] .

وبعد أن أخذ رضي الله عنه المواثيق على الطرفين أن يرضى كل منهما بحكمه [14] أمر بني قريظة أن ينزلوا من حصونهم وأن يضعوا السلاح ففعلوا، ثم قال: "إني أحكم أن تقتل مقاتليهم وتسبى ذريتهم وأموالهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبع أرقعة [15] ، أي سموات.. وأمر عليه الصلاة والسلام بتنفيذ الحكم فسيقوا إلى خنادق في المدينة، فقتل رجالهم وسبي نساؤهم وذراريهم ومن لم ينبت من أولادهم ولاقى بنو قريظة أسوأ مصير على أفظع خيانة.. وهذا مصداق قول الله عز وجل:{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} (الأحزاب الآية 26. 27) .. وهنا يحلو للبعض أن يتقولوا على الإسلام. وأن يتطاولوا على تصرف الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاملته لبني قريظة ويعتبروا أن الإعدام الجماعي الذي تم لهؤلاء الناس يتسم بالوحشة والقسوة، وأنه كان من الممكن أن يعاقبوا بأي عقاب آخر كالإجلاء أو النفي.. ونقول لهؤلاء:

ص: 363

أولاً: ماذا لو أن نتيجة غزوة الأحزاب تمت حسبما كان يخطط لها بنو قريظة وأحزابهم، ألم تكن هي الإبادة التامة للمسلمين أجمعين. على أن اليهود لم يقدِموا على هذا العمل الخسيس إلا بعد أن تكون لديهم ما يشبه اليقين بأنهم- بمساعدة المشركين- سوف يقومون بتدمير الكيان الإسلامي تدميراً كاملاً، واستئصال شأفة المسلمين استئصالاً كلياً، ولهذا لم يترددوا في الغدر بحلفائهم المسلمين وعلى تلك الصورة البشعة [16] . ولقد كانوا حريصين الحرص كله على المصير إلى هذه النتيجة. حتى لقد طلبوا من الأحزاب والمشركين أن يسلموا إليهم سبعين شاباً من أبنائهم رهائن عندهم ليضمنوا أن جيوش الأحزاب لن تنسحب من منطقة المدينة إلا بعد أن تفرغ من المسلمين وتقضي عليهم قضاء تاماً [17] .. على أن اليهود ترددوا في الاشتراك مع صفوف المشركين في بداية الأمر وأخذ كعب بن أسد القرظي يقول لحيي بن أخطب الذي جاءه يغريه بالانضمام إليهم أخذ يقول له: "إنك امرؤ مشئوم وإني قد عاهدت محمداً فلست بناقض ما بيني وبينه [18] لكنهم لما تلقوا تأكيدات تفيد أن وضع المسلمين يائس، وأنهم لن يصمدوا طويلاً أمام تلك الأعداد الضخمة سارعوا بالانضمام إليهم، فاليهود - لا قدر الله- لو أمكنهم القدر من رقاب المسلمين ما ترددوا لحظة في القتل والإبادة تمشياً مع مزاجهم الدموي الذي لا يرى بأسا في قتال الآخرين واستحلال دمه {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران الآية 75) .

ص: 364

وفي سفر التثنية: "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح فإن أجابتك وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حرباً فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيباً فلا تستبق منها نسمة ما بل تحرمها تحريماً ( [19] ) أي تستأصلها استئصالاً.

ولذلك يعلق مولانا محمد علي، على هذا النص في كتابه ((حياة محمد ورسالته)) بقوله ((وهكذا حكم سعد وفقا للشريعة الموسوية بقتل ذكور بني قريظة وبسبي نسائهم وأطفالهم وبمصادرة ممتلكاتهم.. ومهما بدت هذه العقوبة قاسية، فقد كانت على درجة الضبط للعقوبة التي كان اليهود ينزلونها- تبعاً لتشريع كتابهم- بالمغلوبين من أعدائهم، فأي اعتراض على قسوة هذه العقوبة هو في الواقع انتقاد لا شعوري للشريعة الموسوية، وتسليم بأن شريعة أكثر إنسانية يجب أن تحل محلها، وأيما مقارنة بالشريعة الإسلامية في هذا الصدد خليق بها أن تكشف- في وضوح بالغ- أي قانون رفيق عطوف رحيم قدمه الإسلام إلى الناس" [20] .

ثانياً: أن اليهود لم يلقوا من المسلمين طيلة الأعوام التي تلت المعاهدة إلا كل بر ووفاء، كما شهدوا أنفسهم بذلك، فعندما ذهب حيي بن أخطب إلى كعب بن أسد القرظي يغريه بنقض العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: دعني وما أنا عليه فإني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاءً [21] .. لكنه لم يزل به حتى أقنعه بالخيانة ونقض العهد.

ص: 365

ثالثاً: هذا الحكم وإن كان صادراً من سعد بن معاذ، إلا أنه بمثابة الحكم الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو أقره، وتقرير الرسول صلى الله عليه وسلم كقوله وفعله مما هو معروف عند أهل الحديث.. ورسول الله لا ينطق عن الهوى، فكأن ذلك هو حكم الله والرسول في هؤلاء الخونة الغادرين، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لسعد، لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة [22]، وفي رواية الطبري: لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله [23] .. ثم أليس جبريل عليه السلام هو الذي وقف على النبي عليه الصلاة والسلام وهو يغسل رأسه إبان مرجعه من غزوة الأحزاب ويأمره بالمسير إلى بني قريظة ويقول له إن الله يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزل أركانهم، وفي رواية: "قم فشد عليك سلاحك فو الله لأدقنهم كدق البيض على الصفا [24] .. فعلام يدل هذا إلا أن يكون الهلاك التام والعقاب الصارم من رب العالمين لكل مجرم خائن.

رابعاً: أن قانون أي دولة الآن يحكم بالإعدام على من يخون وطنه ويقيم اتصالات مع العدو أو يتجسس لحسابه، ويقول أحد الكتاب المعاصرين، لو درس الذين يطعنون في حكم سعد على بني قريظة القوانين المعاصرة دراسة نافذة وطبقوها على قضية بني قريظة لرأوا أن قوانين القرن العشرين لا تختلف في شيء عما أصدره سعد بن معاذ، لقد كان بين الرسول وبين يهود بني قريظة معاهدة تحفظ حقوق الفريقين وتقضي على كل فريق أن ينصر الآخر إذا واجهه خطر في حرب، ولكن اليهود تآمروا فانضموا إلى أعدائه وأوقعوه بين شقي الرحى في المدينة مصطليا بنار أعدائه المشركين من جهة واعتداء حلفائه اليهود في ساعته العسرة من جهة ثانية فاقترفوا بذلك، الغدر ثلاث جرائم.

أ- رفع السلاح ضد سلطان المدينة مع الأجنبي المعتدي.

3-

دس الدسائس لدى العدو ضد المسلمين.

3-

تسهيل دخول العدو للبلاد.

ص: 366

وقوانين العقوبات العصرية تجعل الإعدام عقوبة كل جريمة من الجرائم الثلاث [25] .

خامسا: قد يقال: كان من الممكن أن يعامل النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني قريظة كما يعامل القائد المنتصر رجال جيش عدوه الذي انهزم أَمامه واستسلم، أو يعاملهم كما عامل يهود بني النضير وبني قينقاع.. والجواب على ذلك أن بني قريظة لم يكونوا أسرى حرب حتى يميل بهم إلى الشفقة، ولم يكونوا في حالة حرب مع المسلمين، وإنما كانوا جيرانا متحالفين يشكلون مع المسلمين وحدة وطنية ملزمة بالدفاع المشترك عن المدينة ضد أي عدوان، لكنهم ظهروا أخطر من الأعداء، وشراً منهم، إذ يبيتون لأناس يأمنونهم ويخصونهم بحقوق الجار، وواجبات الذمام، فكانوا بمثابة الخائن المتآمر المتواطئ مع العدو على أمته ووطنه في حالة الحرب القائمة وهذه خيانة عظمى ليس لها في جميع الشرائع إلا الإعدام السريع.. وموقفهم هنا يختلف اختلافا واضحا عن موقف بني قينقاع وبني النضير، فالأولون قد أبدوا البغضاء من أفواههم وأشاعوا الرعب والشكوك ورأوا في الدعاية المغرضة سلاحا لا يفل.. وبنوا النضير ائتمروا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحالفوا مع بعض المنافقين على المناجزة دون أن تتيح لهم الفرصة طريقا يصلون منه إلى التنفيذ، وهؤلاء وأولئك أَهون خطبا من الذين سلوا السيوف ووقفوا في صفوف العدو وأوقعوا الهلع في قلوب يحيط بها الروع من كل ناحية، فتعادل الكفتين بينهما طيش لا يقره إنصاف، وقد جلا بنو قينقاع وبنو النضير عن المدينة، فكانوا مثار القلق والفتنة ومبعث الضيق للمسلمين فهم الذين حزبوا الأحزاب وجمعوا القبائل مع المشركين ليوم الخندق فأعطوا بمؤامراتهم المزعجة محمداً درسا حاسما يحتم استئصال شأفتهم، وتتبع أفاعيهم في كل مكمن، ليطفئ لهيبا يستعر إذا هبت عليه الريح [26] .

ص: 367

فعلى الذين يستبشعون الحكم على بني قريظة، ويصفونه بأنه كان قاسيا شديدا، عليهم أن يحيطوا علما بجوانب الموضوع وظروف القضية ليدركوا أن اليهود هم الذين جروا الوبال على أَنفسهم (وعلى نفسها جنت براقش) والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة د/ محمد حميد الله ط ثالثة سنة 1389.

[2]

سيرة ابن هشام جـ1/501 ط ثانية سنة 1375.

[3]

المرجع السابق.

[4]

المرجع السابق جـ2/217 ط ثانية.

[5]

السيرة لابن هشام جـ2/220 ط ثانية.

[6]

السيرة النبوية لابن هشام جـ 2/222 ط ثانية.

( [7] المرجع السابق. نفس الصحيفة.

( [8] في ظلال القرآن جـ21/548 ط سابعة سنة 1391هـ.

[9]

السيرة لابن هشام جـ2/232 ط ثانية.

[10]

صحيح البخاري، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب.

[11]

تاريخ الرسل والملوك للطبري جـ2/583 والسيرة لابن هشام جـ2/234.

[12]

تاريخ الرسل والملوك جـ2/586.

[13]

المرجع السابق 587.

[14]

تاريخ الرسل والملوك جـ2/587.

[15]

الطبقات الكبرى جـ2/75 ط بيروت 1376.

[16]

غزوة بني قريظة – محمد أحمد باشميل – 243.

[17]

السيرة الحلبية جـ2/347 ط التجارية سنة 1382.

[18]

عيون الأخبار لابن سيد الناس جـ2/59.

[19]

سفر التثنية – الإصحاح العشرون 10: 18.

[20]

حياة محمد ورسالته ص 175 نقلا عن غزوة بني قريظة / محمد أحمد باشميل 179.

[21]

البداية والنهاية 4/103 ط 1966.

[22]

السيرة لابن هشام جـ 2/240 ط ثانية.

[23]

تاريخ الرسل والملوك جـ 2/587.

[24]

عيون الأثر لابن سيد الناس جـ 2/68 ط دار المعرفة بلبنان.

ص: 368

[25]

غزوة بني قريظة – محمد أحمد باشميل نقلا من مقال للدكتور محمد رجب البيومي بمجلة الحج العدد 12 السنة 88.

[26]

المرجع السابق – 274.

ص: 369

المستشرقون

والسيرة النبوية

للدكتور عوض عبد الهادي العطا

أستاذ مساعد بكلية الحديث

اهتم المسلمون في الفترة المعاصرة بأمر الاستشراق. وأخذوا يدرسون ويقرأون ما كتبه المستشرقون حتى يقفوا على حقائق الموضوعات التي درسوها وخاصية ما يتعلق بالسيرة النبوية العطرة.

وقد اتسع نطاق الاستشراق وتشعبت موضوعاته حتى شملت جميع موضوعات الدراسات الإسلامية، فتعرضوا لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته ومع أَهله وفى ميدان الدعوة والجهاد، وبالرغم من أن وقائع السيرة النبوية قد لا تحتاج إلى كثير من الشروح والتفاسير والتعليقات فهي قد تحتاج إلى قدر معقول من تنسيق المادة الأولية وترتيبها. إلا أن هؤلاء المستشرقين استرضوا تلك الأخبار وعارضوها بآرائهم وأفكارهم ليصلوا إلى نتائج وأحكام متأثرة بعواطفهم وخلفياتهم الدينية، وسبب ذلك أَنهم اتبعوا منهجا خاصا وضعوه بأنفسهم إذ أنهم يبيتون فكرة مسبقة ثم يأخذون وقائع الأحداث ليأخذوا منها ما يؤيد فكرتهم ويستبعدوا ما دون ذلك فيتمسكون بالخبر الذي يؤيد رأيهم أو الذي يمكنهم تأويله حسب أغراضهم مهما كان ضعفه [1] .

وخطورة الأمر تنجم من كثرة حجم التأليف عند هؤلاء حتى غزوا بهذا الحجم الكبير أفكار الناس في الشرق والغرب. ففي القرن التاسع عشر والقرن العشرين كما يذكر (جب وباون)[2] اللذين تفرغا فترة لمراجعة المخطوطات التركية والعربية، إنه بالرغم من ضخامة التأليف في موضوعات هذه المناطق إلا أَن بعضها عديم القيمة بسبب ما بها من قصور واضح، كنقص الخبرة الوثيقة بالموضوع أو جهل بلغة البلاد أو اعتماد بعض الكتاب (ويقصد كتاب الغرب) على السماع المشكوك في صحته أَو عدم الدراية بالأساس التاريخي [3] .

ص: 370

ويتضح من هذا أن مدخل هؤلاء الكتاب لدراسة الإسلام وعلومه المختلفة أمر تنقصه مقومات أساسية في تحرى الحق والتزام جانبه. وتظهر هذه المسائل بالذات في كتب الرحالة والتي كثيراً ما تمتلئ بالخيال أو استبعاد المصادر الأساسية والاعتماد على مصادر غير دقيقة أَو ذات أسلوب قصصي.

والواقع فإن المجتمع الغربي قد اكتشف أهمية الفكر الإسلامي منذ العصور الوسطى، ونقل ذلك التراث نقلاً لا يظهر فيه التصرف إلا في تجاهل ذكر المؤلفين الحقيقيين، وعن طريق ذلك خطت أوربا خطواتها التاريخية في مجال النهضة المعروفة بالنهضة الأوربية renaissance، وبذلك الفكر وعلى هديه أخذت أَوربا منهج التطور العلمي وبنت لنفسها الشخصية العلمية الرائدة. وأرادت بعد ذلك أن تطمس معالم الخلفية التاريخية لكل هذا التطور العلمي حتى وصمت بلاد المسلمين بالتخلف والركود والجمود الاقتصادي والعلمي وغيره سواء في صدر الإسلام أو بعد ذلك، علما بأن هذا الشمول في المجالات الإسلامية أمر تحسه في الدراسات الموسعة لهؤلاء.

ثم لجأت أوربا مرة أخرى في العصور الحديثة تدرس الفكر الإسلامي وعلومه المختلفة عندما أصبح لها أَطماع وأغراض سياسية واقتصادية، وأرادت بذلك حصار الإسلام واقتسام البلاد الإسلامية كجزء من مناطق النفوذ الأوربي الاستعماري، فلجأت إلى دراسة اللغة العربية والتاريخ الإسلامي وغير ذلك فزاد هذا من إنتاج المستشرقين في هذا المجال.

وكان أسلوبهم في غزو الإسلام والمسلمين أسلوبا ناعما متنوعا، جاء في شكل معاهد علمية وشركات أجنبية وبضائع وملابس وأثاثات منزلية وكان للغزو الفكري أثر كبير على أبناء المسلمين، وقد وجدت الإرساليات التبشيرية مساحة واسعة للتحرك في بلاد المسلمين، كما وجد دعاتها الفرصة السانحة للدراسة والتأليف في موضوعات إسلامية مثل (ترمنجهام) triningham الذي ألف عدة كتب عن الإسلام وأثره في عدة مناطق من العالم الإسلامي.

ص: 371

وقد اتخذت الدول المسيحية من التربية وسيلة مباشرة حيث منحت بعض أبناء المسلمين فرصاً واسعة للدراسة والتعليم في معاهدها وكلياتها لينهلوا من آدابها وفنونها وعلومها الاجتماعية والتطبيقية، ويعودوا إلى بلادهم وقد تشبعوا بأفكار الغرب وحضارته.

وليس من السهل فصل ما تقوم به هذه الدول عن المجهودات التي يقوم بها المستشرقون في كتاباتهم، فقد كانت تلك الوسائل وغيرها من أساليب النشاط التبشيري مجالاً لنشر حضارة الغرب وفكره وأسلوبه في الحياة، كما أصبحت الدراسات المختلفة ومن بينها علوم تتعلق بالدراسات الإسلامية تصل لأبناء المسلمين عن طريق قنوات الغرب المسيحي التعليمية، وهو أسلوب مكن المستشرقين من فرض أفكارهم وتخريجاتهم وتحليلاتهم لكثير من الأحداث في تاريخ الإسلام والمسلمين ولحركة الجهاد الإسلامي بما في ذلك عصر النبوة.

وقد لاحظ (جب وباون) أن التعليم كان له دور كبير في أضعاف الأثر الديني لدى الدارسين وذلك لتأثر التعليم في بلاد المسلمين بالطابع العصري الغربي المسيحي فقد أخذ المظهر الديني الخالص للتعليم في الانزواء رويدا رويدا وذلك بفعل ازدياد الطرائق التعليمية الغربية كنتيجة لإرسال البعثات التعليمية إلى أوربا وازدياد عدد المدارس الأوربية ومن نتائج ذلك تمكن اللغات الأوربية في التعليم وأثرها على لغة الكلام ولغة الأدب وغير ذلك من الآثار [4] .

ومن الواضح أن العالم الإسلامي في هذه الأثناء يعاني من أَثر الانهيار أمام التيار الثقافي الغربي والذي تأثر به كثير من المثقفين والمتعلمين من أبناء المسلمين وانساق الكثير منهم خلفه باعتباره المنهج العلمي الذي تقوم عليه الحضارة الحديثة، ولعلهم تناسوا الجذور الإسلامية التي قام عليها ذلك الفكر حتى انتبهوا أخيرا لذلك.

ص: 372

وقد اتفق كثير ممن ألف في السيرة النبوية العطرة في الفترة الحديثة والمعاصرة على أَن المستشرقين أو الغربيين قد استغلوا بعض الأخبار كمادة للطعن في الإسلام وفي نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فضلاً عما ذكروه من مثالب أو مطاعن نسبوها زورا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بقصد الإساءة مدفوعين بتعصبهم الأعمى ضد الإسلام والمسلمين ( [5] ) .

وبالرغم من هذه المواقف فإن بعض المستشرقين انتقدوا بعضهم بعضا في تفنيد منهجهم الذي مارسوه في دراسة التاريخ الإسلامي وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، فقد ذكر أنه من المتعذر إن لم يكن من المستحيل أن يتجرد المستشرقون عن عواطفهم وبيئتهم ونزعاتهم المختلفة، وهم يمارسون الكتابة عن الإسلام أو عن بلاد الإسلام أو عن المسلمين. ورغم ما يزعمونه من اتباعهم لأساليب النقد البريئة ولقوانين البحث العلمي الجاد فإنا نلمس من خلال كتاباتهم من يتحدث وهو متأثر ببيئته التي نشأ فيها أو خلفياته العلمية التي درسها ولذلك تأثر منهجهم بحسب منطقهم الغربي وخيالهم العصري.

وأبرز مثيل لذلك ما ذكره بعض الدارسين لمنهج المستشرقين مما هو ملاحظ في تفكيرهم المادي للأشياء والمسائل المختلفة. فالمفكر منهم مثلا تجده يصلي في الكنيسة ويقرأ في كتابه المقدس ولكنه إذا دخل المعمل نظر للمسألة نظرة مجردة عن الإطار الديني.

ص: 373

والواقع فإن منهجهم يقوم على افتراضات يفترضونها، وقد لا ينطبق ذلك على حقيقة الوقائع والأحداث، وبالتالي تكون نتائجهم خاطئة لأنهم يريدون الوصول إلى هذه النتائج عن طريق استنتاجاتهم وإخضاعهم الحقائق الثابتة والمعروفة والتي تضمنتها مؤلفات إسلامية عريقة إلى منهجهم العلمي، ولذلك فهم عندما يلجأون إلى تأييد رأي من الآراء يهدمون بعض الأخبار أو يحللونها ليصلوا إلى نتيجة يقصدونها ومن الأمثلة لهذا المنهج نشير إلى ما كتبه (مونتجمري وات) w.montgomery، watt عن السيرة النبوية العطرة، فقد ألف كتابين هما (محمد في مكة) و (محمد في المدينة)[6] صلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

وناقش في كتابه الأول الفترة المكية وتعرض لموضوعات كثيرة يضيق المجال لعرضها هنا، ولكن من ضمن الموضوعات التي ذكرها هجرة المسلمين إلى الحبشة، وهو موضوع احتوته وحفظته وشرحته كتب السيرة النبوية المتداولة لدى المسلمين جميعا مثل سيرة ابن هشام والروض الأنف للسهيلي وابن كثير وغيرهم ممن تناول السيرة النبوية من المؤرخين والكتاب. وقد ذكر السهيلي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانه من الله عزوجل ومن عمه أَبي طالب وإنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم عنده أحد وهي أَرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم)[7] .

ص: 374

ومن ثم فقد أصبحت هجرة المسلمين إلى الحبشة في هذا الظرف حدثا تاريخيا هاما في مراحل الدعوة الإسلامية، إذ أن اختيار الحبشة كان خطوة موفقة من خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم الواعية لأن ذلك ينطوي على معرفة تامة بحقيقة الوضع في الجزيرة العربية وأطرافها المجاورة وظروف الدول المحيطة بها من الفرس والروم، فقد كانت القبائل العربية في الجزيرة مرتبطة ارتباطا وثيقا بقريش تجاريا ودينيا وكان لبعضها أحلاف ومعاهدات، والمعروف أن لقريش رحلة تجارية إلى الشام ورحلة تجارية إلى اليمن، وكانت كل رحلة عبارة عن مدينة تجارية متحركة فقد بلغت كل رحلة ألف بعير أو تزيد تحمل سلعا وبضائع متنوعة بعضها محلى من إنتاج أهل الجزيرة وبعضها مستورد من الشام واليمن والهند بل من أوربا وبلاد الصين وكلها تصب في مكة وتصنف من بعد إلى الجهات التي تكون سوقا لها تبعا للخبرة التجارية وفن التسويق ونوع الرحلة، ولقريش أسواق مشهورة بعد مكة [8] . ومن ثم جاءت الهجرة إلى الحبشة رغم ما فيها من مشقة، ولكنها بلا شك رمز صادق للعزم والإصرار على المبدأ. ولذلك لا يمكن قبول استنتاجات (وات) watt حول أسباب هذه الهجرة فهو يذكر أن من ضمن دوافعها الأساسية أغراض اقتصادية- وإلا في نظره لماذا أقام هؤلاء المهاجرون في الحبشة حتى عندما انتفت الأسباب التي ذكرتها كتب السيرة في مكة بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة [9] وهو يتناسى هنا عودة بعض المهاجرين إلى مكة عندما بلغهم أن قريشا قد أسلمت.

ثم يذكر أن هؤلاء المهاجرين قد تولاهم يأس قاتم حملهم على التخلي عن كل أمل في الإصلاح الديني في مكة، ولكن (وات) يذهب إلى أن هذا حتى لو كان موقف المهاجرين فإنه ليس موقف محمد صلى الله عليه وسلم [10] وكان يشير إلى أن هذه الهجرة إنما هي هروب من ميدان الجهاد والاختفاء بعيداً عنه.

ص: 375

وهو قول ينطوي على دس واضح لأنك عندما تستعرض أسماء الذين هاجروا تجدهم الرواد الأوائل للدعوة الإسلامية وهم الذين حملوا لواءها فيما بعد وماتوا مجاهدين في سبيلها. بل يذهب هذا الكاتب إلى أكثر من ذلك فيقول: "إن هذه الهجرة عبارة عن جزء من مخطط بارع لمحمد على أمل أَن يحصل على مساعدات حربية من الأحباش كما سبق أن سعى جده من قبل للحصول على مساعدات حربية من أبرهة [11] .

والمعروف أن أبرهة جاء إلى مكة غازيا ينوي هدم الكعبة فلا يمكن بأي حال أن يطلب عبد المطلب خادم البيت الحرام أي مساعدات من عدوه ليدافعه بها. وقد حفظ لنا ابن هشام هذه القصة كاملة فقال رحمه الله تعالى"وكان عبد المطلب أوسم الناس وأعظمهم فلما رآه أَبرهة أجله وأَعظمه وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال لترجمانه قل له: ما حاجتك؟ فقال له ذلك الترجمان؛ فقال: حاجتي أن يرد عليّ الملك مئتي بعير أصابها لي، فلما قال له ذلك، قال أبرهة لترجمانه قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه، لا تكلمني فيه! فقال له عبد المطلب: إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربا سيمنعه، قال: ما كان ليمتنع مني، قال: أنت وذاك"[12] .

ص: 376

فأين موضوع الأسلحة هنا وأين الحجة التي تجعل عبد المطلب يطلب مساعدات حربية من أبرهة. وإذا كان المستشرق قد افترض افتراضات على ضوء أحداث معينة فإن الافتراض لم يكن صحيحا وبالتالي فقد جاءت نتيجته أيضا غير صحيحة، ثم يأتي بافتراض آخر ليثير جدلاً لا يستوي ومكانة الصحابة رضوان الله عليهم بأي حال من الأحوال، ولكنه لا يتورع عن ذلك ليصل إلى القول بأنه قد حدث انقسام قوي في الرأي بين الجماعة الإسلامية الناشئة [13] . في حين تتفق جميع المصادر الإسلامية بأن هذه الجماعة الإسلامية في طور الدعوة السرية في مكة المكرمة وبعد أَن صدع الرسول صلى الله عليه وسلم بما أمره الله، قد كونوا جماعة إسلامية متجانسة منسجمة فيما بينها تؤمن بالله وبرسوله وتتسلح بقيم أخلاقية وسلوكية ربطت بينها رابطة الأخوة الصادقة، فقضت على كل نعرة للعصبية أو الخلافات الشخصية أو العرقية، وأصبحت العقيدة الإسلامية هي الرابطة بين هذه الجماعة، فلم يكن هناك مجال للخلاف أو الانشقاق. ولو كان من دوافع الهجرة إلى الحبشة أي خلاف مثل هذا الذي دسه المستشرق لما أقلقت تلك الهجرة قريشا ولما جعلها تهتم هذا الاهتمام الشديد بأمر الذين هاجروا وتسعى في طلبهم من النجاشي وبالتخلي عن حمايتهم وعودتهم إلى مكة مرة أخرى. ولكن أسماء المهاجرين تشير إلى اتساع دائرة الإسلام وكسبه لعناصر من شتى بطون قريش فقد هاجروا من بني هاشم وبني أمية وبني أسد وبني عبد شمس وبني نوفل وبني عبد الدار وبني قصي وبني زهرة وبني هذيل وبني تميم وبني مخزوم وغيرهم [14] . فأصبح هناك تنوع كبير في أصول الذين اعتنقوا الإسلام وبالتالي أصبحت للدعوة الإسلامية صفة الشمول في مكة رغم قلة أعضائها ولم يعد هناك مجال للخلاف بسبب العصبية والقبلية أو النسب أو الجاه أو المال.

ص: 377

وإذا كان الكاتب المستشرق قد تعرض لكل هذه الموضوعات بهذا المنهج فإن هذا يعكس تماما مقومات الدراسة والقواعد التي ارتكز إليها وهي قواعد مسيحية وعلمانية وبالتالي لا يمكن بأي حال أن يكون موافقا لمقومات الإسلام والبيئة الإسلامية.

وعموما فإن الإحاطة بكل المسائل التي أثارها الكاتب في كتابيه عن الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من المستشرقين في موضوع واحد أو كتاب واحد أمر يصعب إثباته ولكن توسيع نطاق البحث في مثل هذه الموضوعات قد يعطي الفرصة للرد على مثل هؤلاء وبالله التوفيق.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

عماد الدين خليل، دراسة في السيرة، ص 13 (1398هـ) .

Gibb، H. and Bowen، H.، Islamic Society and the west، oxford 1937 [2]

اانظر ترجمة هذا الكتاب لأحمد عبد الرحيم مصطفى (القاهرة) .

[3]

جب وباون، المصدر السابق، (مترجم) ص7، 8.

[4]

جب وباون، المصدر السابق، (مترجم) ص21.

[5]

محمد عبد العزيز خير الدين، محمد خاتم الرسل، صلى الله عليه وسلم جـ1 ص5 القاهرة (1388هـ) .

W. MONTGOMERY،WATT، MUHAMMED At MECCA، Oxford، 1953 [6]

W. Montegomery.watt، Muhammed At MEDINA، Oxford، 1956.

[7]

عبد الرحمن السهيلي، الروض الأنف، جـ3 ص203 تحقيق عبد الرحمن الوكيل.

[8]

أحمد عبد الرحمن عيسى، ((في الدلالات سورة قريش)) مجلة كلية العلوم الاجتماعية، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ص111-115، العدد الأول 1397هـ.

[9]

يذكر المستشرق محمدا مجردا، وقد أوردت أمام اسم الرسول الصلاة عليه.

Watt، M. op. Cit، P. 114 [10]

Ibid، E [11]

[12]

ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وآخرين جـ 1ص 50.

ص: 378

WATT، M. op.cit،p. 115 [13]

[14]

السهيلي، المصدر السابق، جـ1ص205-213.

ص: 379

نماذج من الدعاة الصالحين

الشيخ أبو بكر الجزائري

رئيس قسم التفسير بالجامعة

شيخ الإسلام أحمد بن تيمية

شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

شيخ الإسلام أحمد بن تيمية

حقا إذا ذكر الدعاة الصالحون في أمة الإسلام أن يذكر على رأسهم أحمد بن تيمية الحراني شيخ الإسلام، وإمام الهدى، محيي السنة وقامع البدعة، وناشر راية الإصلاح في العالم الإسلامي.

وحقا أن في حياة هذا الداعي الكبير لأسوة حسنة، لمن يرغب في الاتساء بالصالحين وتمثل جوانب الكمال في حياتهم. ولما كانت حياة شيخ الإسلام كلها مجالا للقدوة والاتساء فإنا نكتفي بذكر أبرز الجوانب فيها: تعلمه وزهده، وحلمه، وشجاعته، وصبره، وكمال عبوديته، وحسن دعوته. وقبل عرض هذه الجوانب الكمالية في الحياة الأحمدية. نعرف به رحمه الله تعالى فنقول:

من هو أحمد بن تيمية؟

فنجيب بأنه: الإمام تقي الدين أبو العباس أَحمد بن عبد الحليم بن الإمام مجد الدين أبى البركات عبد السلام بن أبى محمد بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله بن تيمية [1] الحراني. ولد يوم الاثنين العاشر من شهر رببع الأول سنة 661 هـ. وهاجر به والده إلى دمشق عندما أغار التتار على بلاد الإسلام سنة 667 وتوفي بقلعة دمشق ليلة الاثنين لعشرين خلت من القعدة الحرام سنة 728 هـ.

علمه رحمه الله:

نبدأ في الحديث عن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى من منطلق كماله ألا وهو العلم وطلبه وحصوله عليه وتفوقه فيه، فنقول لقد طلب أحمد بن تيمية العلم صغيرا ولازم الدرس والتحصيل كبيرا حتى فاز بأنواع العلوم والمعارف ما أصبح به إماما للعلماء، وشيخا للإسلام والمسلمين في سائر أنحاء العالم الإسلامي.

وها هي ذي شهادات فحول علماء عصره ومصره له بذلك فلنستمع إليها:

ص: 380

قال ابن النجار- كما ذكر ذلك بهجة البيطار-: قدم بابن تيمية والده إلى دمشق، فأخذ الفقه والأصول على والده. وسمع من خلق كثيرين منهم الشيخ شمس الدين، والشيخ زين الدين بن المنجا والمجد بن عساكر. وقرأ العربية على ابن عبد القوي، ثم أخذ كتاب سيبويه فتأمله وفهمه وعنى بالحديث، وسمع الكتب الستة، والمسند مرات وأقبل على تفسير القرآن الكريم فبرز فيه، وأحكم أصول الفقه، والفرائض والحساب والجبر والمقابلة، وغير ذلك من العلوم، ونظر في الكلام والفلسفة، وبرز في ذلك على أهله، ورد على رؤسائهم وكبارهم، وتأهل للفتوى والتدريس، ولم يبلغ العشرين سنة، وتضلع في علم الحديث وحفظه، حتى قال من قال: إن كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فهو ليس بحديث. وأمده الله تعالى بكثرة الكتب وسرعة الحفظ وقوة الإدراك والفهم، وبطء النسيان، حتى قال غير واحد، إنه لم يكن يحفظ شيئا فينساه، وألف في أغلب العلوم التآليف العديدة. حتى قال الحافظ الذهبي: وما أبعد أَن تصانيفه تبلغ خمسمائة مجلد.

وقال الحافظ المزي: ما رأيت مثله (أي ابن تيمية) ولا رأى هو مثل نفسه، وما رأيت أَحدا أعلم بكتاب الله وسنة رسوله، ولا أتبع لهما منه.

وقال ابن دقيق العيد: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه، يأخذ ما يريد ويدع ما يريد، وقلت له: ما كنت أظن أن الله بقي يخلق مثلك!!!

وقال الشيخ إبراهيم الرقي: إن تقي الدين يؤخذ عنه ويقلد فإن طال عمره ملأ الأرض علما وهو على الحق، ولا بد أَن يعاديه الناس لأنه وارث علم النبوة.

وقال: قاضي القضاة ابن الحريري: إن لم يكن ابن تيمية شيخ الإسلام فمن هو؟

ص: 381

وقال الحافظ الزملكاني، قد أعطي ابن تيمية اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين، وقد ألَانَ الله تعالى له العلوم كما ألَانَ لداود الحديد، كان إذا سئل عن فن من العلم ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن وحكم أن أحدا لا يعرفه مثله. وقال:

وصفاته جلت عن الحصر

ماذا يقول الواصفون له

هو بيننا أعجوبة الدهر

هو حجة لله قاهرة

أنوارها أربت عن الفجر

هو آية في الخلق ظاهرة

هذه بعض شهادات العلماء لابن تيمية وغيرها كثير. وهي شهادات حق وصدق ليس فيها مجازفة ولا مواربة أبدا، فإن الرجل أجل مما وصف به، وأعظم قدرا مما قيل فيه.

زهده رحمه الله:

إن الزهد وهو الرغبة عن المال والجاه وسائر أعراض الدنيا لتفاهتها وحقارتها وقلة قطرها. صفة كمال في الرجال وشيخ الإسلام ابن تيمية كان أَكمل أهل عصره في هذا الوصف وصف الزهد، لأنه كان أعرف الناس بفضل الزهد، وشرف أهله ولولا زهده لما نال ما نال من العلم والتقى والبصيرة في دين الله والهدى. وحسبنا تدليلاً على زهده أن نذكر الروايتين التاليتين:

الأولى: قال ابن فضل الله العمري كان يجيء ابن تيمية من المال في كل سنة ما لا يكاد يحصى، فينفقه جميعه آلافا ومآت، لا يلمس منه درهما بيده، ولا- ينفق آخر في حاجته، وكان إذا لم يجد ما ينفقه على من يسأله يعمد إلى شيء من لباسه فيدفعه إليه. قال وهذا مشهور عند الناس من حاله.

والثانية: قال أحدهم: كنت يوما جالسا بحضرة شيخ الإسلام ابن تيمية فجاءه إنسان فسلم عليه فرآه الشيخ محتاجا إلى ما يقيم به، فنزع الشيخ عمامته ومن غير أن يسأله الرجل وقسمها نصفين فاعتم بنصفها، وأعطى الرجل المحتاج نصفها الآخر فاعتم به.

حلمه رحمه الله تعالى:

ص: 382

إن الحلم خلق فاضل، وكمال نفسي قل من يظفر به، والعلماء كثيرون ولكن أهل الحلم فيهم قليل.

إذ الحلم: ضبط النفس عند الغضب، أو هو عدم الغضب. والغضب فطري، ولكن الحلم كسبي ومن لا يغضب لا يحلم. وأكثر مظاهر الحلم عند اشتداد سورة الغضب وحب الانتقام ممن اعتدى وظلم. فمن أوذي وقدر على أذية من آذاه ولم يفعل فقد حلم وعفا وغفر في القرآن الكريم (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) .

ومن هنا كان عظماء الرجال وخاصة دعاة الحق والخير من أعلم الناس وأكثرهم صفحا وعفوا ولقد ضرب شيخ الإسلام ابن تيمية المثل في باب الحلم، فإنه على كثرة من آذاه وعاداه لم يثبت أنه انتقم يوما من أحد منهم حتى ولو مكن منهم

وهذا غاية الحلم ونهايته أنه لما نقل ابن تيمية إلى الديار المصرية وسجن بالجب بقلعة الجبل سنة ونصفا، ولما أفرج عنه واجتمع بالسلطان في حفل كبير ضم القضاة والأمراء وأعيان البلاد، وأكرم الشيخ إكراما عظيما، وشاوره السلطان في قتل بعض أعدائه وخصومه فامتنع الشيخ من ذلك، ولم يقبل أن يقتل أحد بسببه، وجعل كل من آذاه في حل من أمره. وهكذا تتجلى في أحمد صفة الحلم التي هي عنصر من أقوى عناصر الكمال في الدعاة الصالحين، وبذا كان ابن تيمية نموذجا صالحا في حياة الدعوة ودنيا الدعاة.

شجاعته وصبره.

ص: 383

إن شجاعة أحمد بن تيمية بنوعيها العقلية والقلبية كانت نادرة في الرجال وقد أصبح بها والحق يقال أسوة صالحة للمؤمنين، وليس أدل على شجاعته القلبية والعقلية معا من تلك الوقفة الجبارة التي وقفها في وجه جيوش التتار، وما أقام به من حشد القوات وجمع الطاقات لقتالهم، وهو العالم الزاهد الرباني فقد جعل الله تبارك وتعالى طرد تلك القوة الفاتكة العاتية التي دمرت وخربت وعاثت في ديار الإسلام فسادا، على يديه وبسبب ما قام به. وقد كانت له مواقف مع بعض ملوك التتار نادرة في الشجاعة والتضحية والفداء.

فقد روي أن ملك الكرج أراد أن يفتك بأهالي دمشق فيسبي نساءهم وذراريهم ويغنم أموالهم فبذل مالاً كثيرا للسلطان غازان المغولي الذي كان قد أسلم أول من أسلم من ملوك المغول، بذل له أموالاً طائلة ليخلي بينه وبين سكان دمشق. وبلغ الخبر شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية فقام من فوره، وانتدب رجالا من وجوه البلاد وكبرائهم، من ذوي النهى والعقول الراجحة. ولما وصلوا إلى السلطان المغولي أخذ الشيخ يحدثه بقول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في العدل وغيره، ويرفع صوته على السلطان ويقرب منه في أثناء حديثه حتى كاد يلصق ركبته بركبتي السلطان، والسلطان مع ذلك مقبل عليه، مصغ لما يقول، شاخص ببصره إليه لا يعرض عنه، وذلك مما أوقع الله تعالى في نفسه من المحبة والهيبة للشيخ حتى سأل قائلا من هذا الشيخ؟ فإني لم أر مثله، ولم أر من هو أوقع منه حديثا في نفسي ولا رأيتني أعظم انقيادا لأحد منه! وقال الشيخ للترجمان قل للسلطان أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاض وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا، وأبوك وجدك كانا كافرين وعملا الذي عملت: عاهد قومنا وأنت عاهدت فغدرت وقلت فما وفيت وَجُرْت. فبذل الشيخ نفسه في طلب حقن دماء المسلمين فبلغه الله ذلك، فكان سببا، وكان رحمه الله تعالى يقول: لن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه.

ص: 384

ومن مظاهر شجاعته أيضا أن أحدا من المسلمين شكا إليه ما فعل به أحد السلاطين وكان هذا السلطان ذا جبروت، ظلم واعتدى وأخذ أموال الناس، فذهب إليه الشيخ ولما دخل عليه قال له السلطان في تهكم وازدراء، إني كنت أريد أن آتي إليك، لأنك عالم زاهد، فأجابه الشيخ قائلا، موسى كان خيرا مني، وفرعون كان شرا منك وكان موسى يجيء إلى باب فرعون كل يوم ثلاث مرات، ويعرض عليه الإيمان.

ومن مظاهر شجاعته أيضا أن وشى به أحد خصومه المبطلين إلى الملك الناصر لدين الله فأحضره السلطان ووجه إليه تهمة الخيانة فقال له: بلغني أنك قد أطاعك الناس وأن في نفسك أخذ الملك، فلم يكترث أحمد بالتهمة الباطلة وقال في هدوء ورباطة جأش وثبات قلب وبصوت عال: أنا أفعل ذلك؟ والله أن ملكك لا يساوي عندي فلسا واحدا، فتبسم السلطان من ذلك وقال: والله إنك صادق، وأن الذي وشى بك لكاذب وهذا من جراء ما ألقى الله تعالى في قلبه من الهيبة العظيمة والمحبة الدينية، ولولا ذلك لكان يفتك به.

هذا عن شجاعة ابن تيمية رحمه الله تعالى.

أما عن صبره فحدث ولا حرج، وحسبنا أن نعرف أن حياته كلها قضاها في جهاد متواصل بالسيف واللسان والقلم فما كلَّ ولا ملَّ، ولا ترك دعوة الإصلاح في كل حياة المسلمين حتى توفاه الله تعالى في قلعة دمشق.

وماذا نقول عن صبر ابن تيمية وهو القائل: ماذا يبغي الأعداء منى! أو ما يصنع أَعدائي بي أنا جنتي وبستاني في صدري أين رحت فهي معي لا تفارقني. أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة وكان يقول: المحبوس من حُبس قلبه عن ربه والمأسور من أسره هواه.

كمال عبوديته:

ص: 385

إن تحقيق العبودية بالعبادة والتوكل، وصدق اللجأ، والإنابة إلى الله تعالى بكل حال من صفات شيخ الإسلام أحمد بن تيمية الغالبة عليه. فلننظر إليه عندما يؤمر به إلى السجن كيف يكون حاله: ذكر صاحب الكواكب الدرية: إن الشيخ لما أمر به إلى السجن بقلعة دمشق أظهر السرور بذلك، وقال إني كنت منتظراً ذلك، وهذا فيه خير عظيم. وروي أنه لما سجن بمصر بسجن القضاة، بحارة الديلم صار الحبس بالعلم والتعلم والعبادة والدين خيراً من كثير من الزوايا والأربطة والمدارس، وصار عدد كبير من المساجين إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده، وكثر المترددون إلى الشيخ حتى صار السجن يمتلئ بهم.

وكان رحمه الله تعالى يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وكان يقول: المحبوس من حبس قلبه عن ربه والمأسور من أسره هواه. ولما دخل القلعة وأصبح داخل سورها قال فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. فكان يرى في السجن جنة الدنيا لما يحققه له من القرب من ربه بالتفرغ لعبادته والانقطاع إلى الله تعالى فيصبح في جنة أنس ونعيم نفس. حكى عنه عارفوه أنه مع كثرة ما يهدد، ويضايق ويحبس كان أطيب الناس نفساً وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وما هذا إلا لقوة إيمانه، وكمال عبوديته، وصدق توكله.

حسن دعوته:

إن من غير المشكوك فيه أن شيخ الإسلام أحمد بن تيمية كما كان رجل جهاد، بالنفس والمال في سبيل الله، كان رجل دعوة وإصلاح، وقد كملت رجولته في ذلك فلم يدانيه أحد من معاصريه، ولا ممن جاءوا بعده بحال من الأحوال. وهذا من فضل الله عليه، والله يؤتي فضله من شاء وهو الحكيم العليم.

ص: 386

تصدى ابن تيمية لمحاربة الفساد المستشري في أمة الإسلام والمتمثل في الحكام والعلماء والعباد من المتصوفة والمبتدعة والخرافيين، فقاومه بالحجة والبرهان وانبرى لمقاومته الحكام بالوعيد والتهديد، والسجن والحرمان، وتصدى له العلماء، بالإنكار والتشنيع والوشايات لدى الحكام وتصدى له المتصوفة والمبتدعة بالكيد والمكر والدس والخداع والكذب والتضليل.

ووقف الشيخ وحده في الميدان ليس له من ولي ولا نصير إلا ربه تعالى وكفى بالله ولياً ونصيراً. وكان ما أجمع عليه أعداؤه فيه ثلاث مسائل ادعوا أنه خالف فيها الإجماع وهي طلاق الثلاث، والوسيلة، وشد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة. هذه أبرز ما اجتمع عليه أعداء الشيخ فحاربوه عليها حربا ضروسا بلا رحمة ولا شفقة، فما تركوا وسيلة للنيل من الشيخ إلا استعملوها، فكذبوا عليه، وزودوا وافتروا. وقالوا ما لم يقله عدو في عدوه والشيخ صابر محتسب يقرع الحجة بالحجة، ويبين زيف الدعاوى، وافتراء المفترين. كل ذلك بأسلوب نزيه، وكلام طيب، وقول حسن فلا يغلظ في قول، ولا يجفو في عبارة، ولا يحاول انتقاص أحد، أو النيل من كرامته إن كان من ذوي الكرامات. الأمر الذي يعد فيه ابن تيمية فريدا وحيداً أشبه رجل بنبي في دنيا الرجال، وكان إذا التبس عليه أمر أو خفيت عليه حال أو لم يتبين وجه الحق في مسألة فزع إلى ربه يستعلمه ويستهديه فكان يقول في جوف الليل وقد انقطع إلى ربه: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. فيعلمه ربه ويهديه إلى وجه الحق الذي التبس عليه.. وما مات ابن تيمية حتى أوضح منهج الإسلام، وأقام سبيل الدعوة، وفتح الله به عيونا عميا وأسمع بدعوته آذانا صما، وهدى به قلوبا زائغة عن الحق حائرة في طلب الهدى. وكل من أتى بعده من رجال الإصلاح والدعوة في

ص: 387

هذه الأمة إنما هو من مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية. فرحمه الله رحمة واسعة.

وفاته رحمه الله تعالى:

بعد أن أظهر الله تبارك وتعالى الحق على يدي عبده ووليه، أَحمد بن تيمية، في مسائل كثيرة من أهمها العقيدة الإسلامية بجوانبها الثلاثة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.

وبعد أن استنارت في ديار الإسلام بعلوم شيخ الإسلام، وتبددت دياجير الظلام التي عاشتها بلاد الإسلام زمنا غير قصير وفي ليلة الاثنين لعشرين خلت من شهر القعدة عام 728 هجرية قبض الله تعالى إليه روح عبده الصالح، ليكرمها على ما قدمت من تضحيات جسام طلباً لمرضاة ربها، ورغبة فيما لديه من الكرامة. وفي ظهر يوم الاثنين خرجت جنازة شيخ الإسلام من المسجد الأموي بدمشق بعد أن صلي عليها عقب صلاة الظهر يشيعها إلى مثواها الأخير خلق من النساء منهن فقط تمكن خمسة عشر ألف امرأة مشيعة لجنازة الإمام وقالوا: إنه لم يتخلف عن جنازة الإمام ابن تيمية من سكان دمشق من حكام وأَمراء ورجال علم، وصلاح وعامة الناس إلا ثلاثة نفر كانوا أعداء ألداء للشيخ تخلفوا خوفاً على أَنفسهم من أن يرجمهم المسلمون بالحجارة لغضبهم عليهم وحزنهم على شيخهم وهم يودعونه الوداع الأخير. فرحم الله أحمد بن تيمية ورزقنا الأسوة به في طلبه العلم وفي صبره وشجاعته وجهاده وحسن دعوته.

شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب

إن الحلقة الأخيرة في سلسلة نماذج من الدعاة الصالحين هي شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى.

تعريف:

فمن هو يا ترى محمد بن عبد الوهاب؟

إنه أبو عبد الله محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد التميمي. المولود بقرية العيينة سنة 1115 هجرية من البلاد النجدية الواقعة شمال مدينة الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية.

جوانب من الكمال في الشيخ رحمه الله:

ص: 388

إننا في هذه السلسلة من أول حلقة فيها إلى هذه الأخيرة منها لا نعرض كثيراً لكمال في الداعية إذا كان وهبيا غير كسبي بعلة أن الوهبي لا تتأتى الأسوة فيه وإنما الأسوة تكون في الكمال الكسبي، ولذا لا نبرز من حياة الداعي إلا جوانب خاصة في حياته لكونها محط الاتساء، ومجال الاقتداء.

وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب الحلقة الأخيرة في سلسلة الدعاة الصالحين ممن آثرنا الكتابة عنهم للاقتداء بهم والاهتداء بهديهم. حياته كلها عظات وعبر وما من جانب منها إلا وهو صالح لأن يكون قدوة صالحة للمقتدين، وأسوة حسنة للمؤتسين ونظراً للحاجة الماسة للاختصار فإنا نكتفي بإبراز الجوانب التالية من حياته المليئة بالبر والهدى وهي طلبه العلم ورحلته في سبيله:

كماله العلمي. دعوته الإصلاحية. صبره وما لاقى من أذى في سبيل الدعوة، نجاحه في دعوته. سر نجاحه فيها.

طلب الشيخ العلم ورحلته في ذلك:

ما من شك أن النبوغ في كل شيء لابد له من عوامل تساعد عليه، ومن عوامل نبوغ الشيخ التي أثرت في حياته العلمية وكانت السبب البارز في نبوغه في العلم وتفوقه فيه على

ص: 389

أقرانه أن والده الشيخ عبد الوهاب بن سليمان كان عالما فقيها ملما بالكتاب والسنة، ففتح الشيخ عينيه على نور العلم في بيت والده فأخذ منه ما كان طاقة له اقتدر بها على استيعاب شتى الفنون والعلوم وبخاصة العلوم الشرعية، وفي أثناء طلبه العلم ببيت والده قد ولع بمطالعة كتب الشيخين المصلحين الكبيرين شيخي الإسلام أحمد بن تيمية، وابن القيم الجوزية، فانفتح له بمطالعة كتبهما آفاق واسعة بعيدة في العلم والتطبيق. ونظر إلى ما حوله وإذا العلوم الشرعية في واد والناس في واد آخر، العلوم الشرعية تدعو إلى أن يعبد الله تعالى وحده وأن لا يعبد إلا بما شرع، والناس أكثرهم لا يعبدون الله وحده، ولا يعبدونه بما شرع ولكن بما ابتدعوا وحسنوا، فالشرك بأنواعه الأكبر والأصغر والخفي والجلي شائع ذائع معمول به وأكثر العبادات أعطيت حكم العادات فلا تأثير لها في تزكية النفس وإصلاحها وذلك لخلوها من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها. ومن روح الإخلاص لله تعالى.

وهنا أخذ الشيخ تفكير عميق، وتواردت عليه أسئلة عديدة:

ص: 390

هل ما عليه المسلمون اليوم في هذه الديار هو فرض لله تعالى؟ وهل المسلمون في غير هذه البلاد أحسن حالاً من هؤلاء؟ ما هي مقومات إصلاحهم، وعلى ما يصلحون، وتقفز إلى ذهنه إجابات متعددة، قد يكون منها: أن مقومات إصلاحهم أن يعلموا فإن أَكثرهم لا يعلمون. وأن ما يصلحون عليه لن يكون غير ما صلح عليه المسلمون الأولون: إنه الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم تعلما وعلماً وعملاً وتطبيقاً. وتحرَّك الداعية الموهوب في محيط بلده ينهى عن المنكر ويأمر بالمعروف، فتُقَابَل دعوته بالاستنكار الشديد بل وبالتجهيل له أحيانا والتسفيه، ورأى أن الرسوخ في العلم ضرورة لمن أَراد أن يقوم بالدعوة الإسلامية، واقتنع برأيه. وهنا عزم على الرحلة إلى ديار الإسلام لتحقيق غرضين ساميين: أَولهما التزود من العلم والإكثار من المعرفة، والثاني الاطلاع على أحوال المسلمين. ومعرفة ما هم عليه من الهدى والضلال.

وحان موعد الحج إلى بيت الله فخرج الشيخ حاجا وتمكن بذلك من الاتصال المباشر بالعالم الإسلامي فعرف ما عليه المسلمون علماء وجهالاً، وأن حالهم لا تختلف عن حال أهل بلاده النجدية، وقضى حجه، وجلس إلى العديد من علماء المسجد الحرام وأخذ عنهم ثم شد الرحْل زائراً المسجد النبوي الشريف ثم زار قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وزار قبري صاحبيه رضي الله عنهما وجلس إلى العلماء وكانوا كثيرين بالمسجد النبوي حتى لكان المسجد النبوي جامعة قائمة بذاتها فأخذ الحديث عن رجاله وأخذ التفسير عن رجاله كذلك وتضلع في كثير من العلوم كالفقه الحنبلي والتوحيد السلفي. ثم رحل إلى البصرة فطلب العلم بها من كبار

علمائها ثم رحل إلى الشام كما رُويَ راجلا بلا زاد ولا راحلة حتى كاد يهلِك في بعض أسفاره إلا أن الله أنجاه وكذلك ينجي الله تعالى أولياءه.

ص: 391

ولما امتلأ وطابه وطال في العلم باعه، ورسخت في المعرفة قدمه عاد إلى بلاده النجدية، وقد عرف أحوال المسلمين، وعرف ما هم عليه من شرك وضلال وجهالات جهلاء وغايات دهماء وأيقن أنه لا دواء ولا شفاء إلا بالعلم والعمل. العلم بشرع الله تعالى والعمل به. فوطن نفسه لذلك واستعان بالله تعالى وبدأ دعوته.

كماله العلمي:

إن آية كمال علم المرء ورسوخه فيه هو ما يتحلى به من صفات الكمال النفسي وما يقوم به من دعوة وعمل ومن هنا كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب على درجة من الكمال العلمي لا تدانى ولنستمع إلى الشهادة التالية: قال بعض من ترجم له: كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى علما من الأعلام ناصرا للسنة مانعا للبدعة، خبيرا مطلعا، إماما في التفسير والحديث والفقه وأَصوله وعلوم الآلة كالنحو والصرف والبيان، عارفا بأصول عقائد الإسلام وفروعها، كشافا للمشكلات حلالا للمعضلات، فصيح اللسان قوي الحجة، مقتدرا على إبراز الأدلة وواضح البراهين بأبلغ عبارة وأَبينها، تلوح على محياه علامات الصلاح، وحسن السيرة وصفاء السريرة، يحب العباد ويغدق عليهم من كرمه ويصلحهم ببره وإحسانه ويخلص لله في النصح والإرشاد، كثير الاشتغال بالذكر والعبادة. قلما يفتر لسانه عن ذكر الله.

ومن مؤلفاته العديدة ما يلي:

ا- استنباط من القرآن (يقع في جزئين) .

2-

كتاب التوحيد.

3-

مختصر صحيح البخاري.

4-

أَصول الإيمان.

5-

كتاب الكبائر.

6-

آداب المشي إلى الصلاة.

7-

مختصر الإنصاف والشرح الكبير في الفقه.

9،- كشف الشبهات.

9-

مختصر السيرة.

10-

الثلاثة الأصول.

11-

نصيحة المسلمين بأحاديث خاتم المرسلين.

12-

مختصر زاد المعاد.

13-

مسائل الجاهلية.

ص: 392

وبهذه تبين أن الشيخ الداعية الكبير ما أطلق عليه لقب شيخ الإسلام إلا لكمال علمه، وما حققه به من هداية لخلق لا يحصون عدا، ولا يعدون كثرة ولا يخطئ المرء إن قال إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وإن كان تلميذا للإمامين الجليلين ابن تيمية وابن القيم في علومه، وأفكاره، ومقومات دعوته، وأسباب جهاده، فإنه قد كان له الفضل الكبير في مد دعوة الإصلاح التي قام بها الإمامان المذكوران آنفاً بعد أن انكمشت، وكادت تذوى وتموت، فبعث الله الشيخ فجدد حياتها وأمدها بروح قوية ودفعها بحركة اطرد بها سيرها، حتى بلغت ما بلغ الليل والنهار في هذه الأيام. وهذا عائد إلى ما وهب الشيخ من صدق نية وصفاء طوية، وإخلاص لله تعالى في السر والعلانية.

دعوته الإصلاحية:

بدأَ الشيخ دعوته الإصلاحية التي أَطلق عليها المغرضون من ذوي النيات السيئة (المذهب الوهابي) بدأَها رحمه الله تعالى بقرية الحريملا حيث انتقل إليها والده الشيخ عبد الوهاب من العيينة وكانت حالة البلاد النجدية العقائدية من أسوأ البلاد حالا، إذ كان بها بعض القبور المنسوبة إلى بعض الصحابة رضي الله عنهم يحج إليها، ويطلب منها حجاجها وزائروها قضاء الحاجات، ويستغيثون بها عند الشدائد، وإلمام الملمات. ومن بين تلك القبور قبر زيد بن الخطاب. ولم يقف أمر أهل الجهل والباطل على عبادة القبور فحسب بل استغاثوا بالأشجار والأحجار، فقد كان أهل المنفوحة يتوسلون بفحل نخل، ومن ذلك قول العانس من النساء: يا فحل الفحول أريد زوجا قبل الحول.

وما أن أَعلم أهل بلاده بضلالهم، وأنكره عليهم حتى قام الناس رجالاً ونساء ينكرون على الشيخ ويناصبونه العداء لطول ما ألقوا من الباطل وما اعتادوا من الضلال ومع هذا فقد اهتدى أناس على يد الشيخ وأصبحوا أنصاراً وأعوانا.

ص: 393

ولما أَذن الله بنصر دينه، بيت بعض العبيد الأنكاد المناجيس الشيخ فتسوروا عليه جدار المنزل وأَرادوا الفتك به، غير أَن الله أيقظ رجالاً من أهل الحي فصاحوا فيهم فهربوا. وهنا قرر الشيخ العودة إلى بلاه وكان بها حاكم صالح يقال له عثمان بن حمد بن معمر، فتلقى الشيخ بغاية الحفاوة والتكرم وعرض الشيخ عليه الدعوة فقبلها بعد أن عرف أنها حق وأن غايتها إصلاح العباد والبلاد وبانضمام هذا الأمير إلى الدعوة عزت فأمكن الشيخ أن يعلنها داوية وأن يغير الباطل بيده بعد أَن عجز عن تغييره بلسانه، فهدم قبة زيد بن الخطاب وقطع ما كان يعظم من الأشجار فعظم شأن الشيخ وذاع صيته في البلاد.

وهنا شعر حاكم الأحساء بخطر الدعوة إذا استفحل أَمرها فكتب إلى واليه عثمان بن معمر يقول له: إن المطوع الذي عندك قد فعل وفعل فإذا وصلك كتابي هذا فاقتله، وإلا قطعنا عنك خراجك. فخاف عثمان على مركزه فأمر بإخراج الشيخ من بلده، فخرج الشيخ يمشي على رجليه ووراءه فارس موكل به.

ومن كرامات الشيخ رحمه الله أن الفارس الموكل به قد هم بقتلة في الطريق بإيعاز من ابن معمر، غير أَنه لما هَمَّ ارتعدت يده وخارت قواه ولم يفعل، فكفى الله الشيخ شره والحمد لله. وهذه ثمرة من ثمار ذكر الله تعالى والتوكل عليه، إذ كان الشيخ في طريقه لا يفتر عن ذكر الله، ومن الحين إلى الحين يردد قول الله تعالى:(ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه) .

ص: 394

ووصل الشيخ قرية الدرعية ونزل ضيفا على الشيخ عبد الرحمن بن سويلم، وخاف الأخير على نفسه من الأمير محمد بن سعود أمير المنطقة، فسكن الشيخ من روعه، وطمأنه على نفسه فسكن وهدأ. وعلم بوجود الشيخ عند بن سويلم أعيانُ البلاد وضواحيها فزاروا الشيخ خفية فوعظهم ورغبهم في الخير، وبين لهم أهداف دعوته وأنها دعوة حق وخير، وكان للأمير محمد بن سعود إخوان وزوجة صالحة فعزموا ثلاثتهم على أن يذكروا للأمير عن وجود الشيخ ويرغبونه في زيارته والاتصال به، ونصرته وتأييده، ففعلوا، فزار الأمير الشيخ فدعاه إلى التوحيد، وبينه له، ورغبه وبشره بنصر الله تعالى إن هو نصر دينه، واقتنع الأمير بالمبدأ وأعلن تأييده للشيخ ونصرته على إبلاغ دعوته، غير أنه اشترط على الشيخ شرطين الأول أن لا يرجع الشيخ عنه إن نصرهم الله ومكن لهم، والثاني أن لا يمنعه من أخذ الخراج المضروب على أَهل الدرعية وقت الثمار فأجابه الشيخ إلى ذلك فقال أما الأول فالدم بالدم والهدم بالهدم. وأما الثاني فلعل الله يفتح عليك الفتوحات وتنال من الغنائم ما يغنيك به عن الخراج.

ص: 395

وهنا دخلت الدعوة طوراً جديداً إذ علم الناس بانضمام الأمير محمد بن سعود إلى صف الدعوة وعرفوا أن الشيخ عز جانبه فأخذ الناس يفدون من أنحاء البلاد النجدية عليه لاسيما من سبق أن اقتنع بالدعوة وآمن بها وكثر عدد الأنصار فخافها أصحاب المنافع المادية فناصبوها العداء، وبدأت الحرب بين فريق الهدى وفريق الضلال. ودارت المعارك دامية، ونصر الله جنده، فأخذت القرى النجدية تسقط الواحدة تلو الواحدة ولم تمضي سنوات حتى سقطت العاصمة الرياض ودخلها الإمامان إمام القلم وإمام السيف وتكونت أَول دولة قرآنية في البلاد النجدية وذلك سنة 1187 هـ وبعدها بسنة توفي الإمام محمد بن سعود وبويع لولده عبد العزيز بن محمد بن سعود وهنا أَسند الشيخ مهام الأمور إلى الأمير عبد العزيز بن محمد بن سعود وتفرغ لنشر العلم، والدعوة فأقبل على إلقاء الدروس ومراسلة العلماء والحكام في أنحاء العالم الإسلامي يشرح لهم الدعوة وبين لهم حقائق التوحيد ويظهر لهم ما هم عليه من الباطل والضلال. ووصل صوت الشيخ إلى أقاصي البلاد الإسلامية وأجابه من أَراد الله هدايته وأعرض من لم يكن أهلاً للخير والفلاح. هذه دعوة الشيخ الإصلاحية التي أثمرت وجود دولة إسلامية بكاملها اتسع نطاقها حتى غزت على يد الأمير سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود العراق ووصلت إلى كربلاء وأوقعت بأهلها خسائر جساما وهدمت قبة الحسين بها.

صبر الشيخ وما لاقى من أذى:

ص: 396

إن ما لاقاه الشيخ من الشدائد وما قاساه من أذى الناس في سبيل الدعوة إلى الحق أمر لا يوصف وحسبه أن عاش مجاهدا طيلة عمر مديد بلغ إحدى وتسعين سنة (1) وحسبنا من ذكر صبر الشيخ ذكر مواطنه وقد مر بنا بعضها من ذلك سفره في طلب العلم إلى الشام على رجليه حيث لم يجد راحلة ولا دابة يركبها، وما لاقى من مشاق السفر مما أشرف معه على الهلاك خروجه من العيينة بأمر ابن معمر وهو حاسر الرأس حافي القدمين خائفاً يترقب وقد هم الفارس الموكل به في الطريق بقتله فاستل سيفه وأَراد أن يضرب الشيخ غير أن الله تعالى أنزل به رعبا فشل معه في ضرب الشيخ.

الحروب التي دارت في بلاد نجد وشنها عليه وعلى الأمير محمد بن سعود أعداء الإصلاح والتوحيد تلك الحروب التي دامت سنوات كلها خاضها الشيخ جنبا إلى جنب مع الأمير محمد بن سعود والموحدين. وقد يغنينا عن مزيد ذكر الأحداث الجسام التي يتجلى فيها صبر الشيخ وتحمله الأذى في سبيل دعوة الحق أَن أخاه سليمان وهو شقيقه قد تصدى له يوما في إبان الدعوة وظهورها، تصدى له أخوه فطعنه بسكين طعنات قاتلة وفر والتحق بصفوف أَعداء الدعوة الإسلامية. غير أن الله تعالى رحمه ببركة دعاء الشيخ فتاب وعاد إلى صفوف دعوة الحق وناصرها حتى مات.

نجاح الشيخ في دعوته وسر ذلك النجاح:

ص: 397

إن نجاح دعوة الشيخ أمر ظاهر لا يشك فيه، وقضية مسلمة لا يجادل فيها فما من دعوة إصلاحية ظهرت بعد دعوة الشيخ وفي كل ديار المسلمين شرقا وغربا إلا وهي ترديد لصدى دعوة الشيخ رحمه الله تعالى. وبالرغم من العنف الذي واجه دعوة الشيخ والشدة التي حوربت بها من قبل السياسيين والعلماء والانتفاعيين من ذوي النيات الفاسدة، والأغراض الخبيثة فإنه لم يبق صقع من أصقاع العالم الإسلامي إلا وفيه مؤمنون قلوا أو كثروا يترحمون على الشيخ ويدعون بدعوته، ويسيرون على منهجه في الدعوة إلى الله تعالى وخير ما يقال في هذا الحديث عن نجاح دعوة الشيخ أن دعوة الشيخ شابهت دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم في كل مراحلها وإلى أن انتهت بنصرها، ولنورد وجوه الشبه فنقول: إن البلاد النجدية بصورة خاصة كانت عند ظهور الشيخ في غاية الفساد والضعف من حيث العقائد والأخلاق والسلوك العام والخاص وكذلك كانت حال مكة والبلاد حولها عند بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم عندما بدأ الشيخ دعوته في نجد بدأها سرا وكان المؤمنون بها قلة لا تذكر ولاقوا من الضغط الشديد والعداء العنيد مما اضطر الشيخ إلى الهجرة من الحريملا إلى العيينة ثم إلى المدينة وكذلك أتباعه كالذي حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، حتى استقروا بدار الهجرة والإيمان بالمدينة المنورة.

ص: 398

عندما آمن بدعوة الشيخ الأمير محمد بن سعود وانتصر لها أصبحت الدرعية مركز الدعوة ومنطلقها كالذي تم للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة النبوية إذ بعد الهجرة إليها والاستقرار بها أصبحت مركز الدعوة ومنطلقها بدأ جهاد الشيخ المسلح من الدرعية كما بدأ جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم المسلح من المدينة. انتصرت الدعوة الإسلامية على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد أن خاض الرسول صلى الله عليه وسلم وأَصحابه المعارك البطولية ضد جيوش البغي والطغيان. انتهت بتطهير مكة وكل شبه الجزيرة من الشر ومظاهره والفساد وآثاره. وأعلن فيها عن التوحيد والحق والعدل وسادها طهر وصفاء وعدل وأمن ورخاء. وانتصرت دعوة الشيخ في نجد أيضا بعد معارك طويلة خاضها الشيخ وأتباعه على الحق وانتهت بتطهير البلاد النجدية من الشرك والخرافة والباطل والشر والفساد وسادها العلم والعدل وحل بها الأمن والرخاء بتكوين دولة آل سعود بها الأمر الذي لا مجال لإنكاره.

ففي هذه المراحل كلها كان الشبه بين الدعوتين كبيرا مع الفارق الذي هو النبوة وعدمها وآخر وجوه الشبه أن الرسول صلى الله عليه وسلم راسل الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام لسعادتهم وكمالهم فراسل كسرى وقيصر وغيرهما، فكذلك الشيخ راسل أمراء وعلماء العالم الإسلامي يدعوهم إلى الإسلام، ومن بين ما أذكر رسالة وجهها إلى علماء جامع الزيتونة بتونس ورسالة وجهها إلى الملك سليمان ملك المغرب، وقد رحب الأخير بالرسالة وشرحها لرجاله وقدمها للأئمة في خطبة جمعة ضمنها أهداف الدعوة الإسلامية جزى الله تعالى كلاً من المرسل والمرسل إليه خير الجزاء.

وأخيرا إن سر نجاح دعوة الشيخ يكمن في أمور يجب أن لا تغيب عن ذهن الداعي الإسلامي الذي يريد أن يبلغ الكمال في دعوته وتلك الأمور هي:

ص: 399

1-

العلم والمعرفة والرسوخ في ذلك الأمر الذي يمكن الداعي من إظهار الحجج ومقاومة الباطل وإظهار زيف التضليل مهما طلى وحسن ونمق.

2-

قوة الصلة بالله تعالى وذلك بالإكثار من القربات وفعل الطاعات.

3-

الترفع عن الدنيا والزهد في حطامها الفاني، وعدم الالتفات إلى ملاذها.

4-

الإخلاص في الدعوة إلى الله تعالى، وعدم نسوبها بأمة شرك ما.

5-

الصبر والتحمل وعدم الكلل أو الملل بحال من الأحوال.

6-

توطين النفس على الجهاد وخوض معاركه عندما يحين وقته ويتعين القيام به.

هذه الأمور كلها قام بها الشيخ واتصف بها في مثالية نادرة، فكانت سر نجاحه في دعوته وبلوغها أهدافها في الهداية والإصلاح. ولا يسعنا هنا إلا أن نترحم على الشيخ ونسلم عليه فرحمة الله عليك يا بن عبد الوهاب وسلام عليك في المجاهدين، وسلام عليك في الدعاة الصالحين.

قيل لحكيم أَي الأمور أَجل عقوبة فقال ظلم من لا ناصر له إلا الله ومقابلة النعمة بالتقصير واستطالة الغني على الفقير قيل فمن أظلم الناس لنفسه قال من تواضع لمن لا يكرمه ومدح من لا يعرفه قيل فمن أعظم الناس حلما قال من قمع شبه بالصبر وجاهد هواه بالعزم قيل فبم يسلم الإنسان من العيوب قال إذا جعل الشكر رائده والصبر قائده والعقل أميره والاعتصام بالتقوى ظهيره والمراقبة جليسه وذكر الزوال أنيسه.

الدوريات الخليجية

عن مركز التوثيق الإعلامي لدول الخليج العربي صدر كتاب بحصر الصحف والمجلات (الدوريات) التي تصدر في دول المنطقة الأعضاء في المركز باسم (الدوريات الخليجية- الصحف والمجلات الصادرة في أقطار الخليج العربي) - بغداد 1402 هـ/1982م- وذلك لتسهيل مهمات المركز ومهمات الباحثين والعاملين في المؤسسات الإعلامية والثقافية والعلمية داخل منطقة الخليج العربي وخارجها.

وقد تضمن هذا الكتاب بياناً عن مميزات الدوريات وأنواعها- وشمل حصرا لها في الدول الآتية:

ص: 400

1-

دولة الإمارات العربية المتحدة.

2-

دولة البحرين.

3-

المملكة العربية السعودية.

4-

الجمهورية العراقية.

5-

سلطنة عمان.

6-

دولة قطر.

7-

دولة الكويت.

وإن مجلة الجامعة الإسلامية ليسرها أن تقدم الشكر إلى مركز التوثيق الإعلامي لدول الخليج العربي، لما يبذله القائمون عليه من جهد في إخراج هذا الكتاب المفيد، ونسأل الله أن يجزيهم خيرا، وأن يوفق الجميع لما فيه الخير للإسلام والمسلمين.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

تيمية هذه هي أم الجد الأعلى لشيخ الإسلام نسب إليها ولدها لكونها كانت عالمة واعظة، فنسب إليها ولدها وعرف بها.

ص: 401

من نحاة الأندلس

ابن هشام الخضراوي

للدكتور أحمد محمد عبد الله

أستاذ مساعد بكلية الدعوة وأصول الدين

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:

فمدرسة النحو الأندلسية ذات نشاط نحوي متميز، فلقد تمثَّل علماؤها تراث أئمة النحو السابقين من بصريين وكوفيين وبغداديين، ومنذ أوائل القرن السادس الهجري وحتى منتصف القرن الثامن تقريبا، نشطت الحركة النحوية بشكل لافت، فظهر الاجتهاد في الفروع والكثرة الهائلة في وفرة الاستنباط، والروعة الفائقة في حسن التعليل والاحتجاج.

وبالجملة فقد استطاع نحاة الأندلس- في الفترة الزمنية السابقة- أن يختطوا لأنفسهم طريقا يبعد إلى حدٍّ مَّا عن التأثير المشرقي، فعوَّلوا على أنفسهم بعد أن برز فيهم كوكبة من النحاة الكبار، مازالت آثارهم إلى يومنا هذا تشكل ثمرات يانعة في مجال الدراسات النحوية.

وبقليل من تفصيل هذا الإجمال يمكن القول: إن معرفة الأندلسيين للنحو في المشرق ترجع إلى أواخر القرن الثاني الهجري وأوائل القرن الثالث:-

فقد تناهى إلى مسمعهم ما كان يدور في مدينتي البصرة والكوفة من توفُّر طبقة من العلماء على الدراسات النحوية واللغوية

الأمر الذي أغرى بعضهم أَن يشد رحاله إلى المشرق بحثا عن مكنون هذه الدراسة وأسرارها.

وكان أول مرتحل إلى المشرق هو جودي بن عثمان المتوفى سنة 198 هـ[1] الذي اتصل بزعيم المدرسة الكوفية الكسائي المتوفى سنة 189 هـ وبتلميذه الفراء المتوفى سنة 207 هـ.

وبعد أن عرف الكثير عن هذه الدراسة قفل راجعا إلى الأندلس، ليكون بذلك أَول عالم أندلسي يحيط بالنحو الكوفي، ويؤلف فيه كتاباً وسمه بـ ((منبه الحجارة)) [2] .

ص: 402

وكان أول من اهتم بالنحو البصري هو محمد بن موسى المعروف بالأفشنيق المتوفى سنة 307 هـ[3] الذي جعل وجهته مصر ليلتقي بعالمها الفذّ أبي جعفر الدينوري المتوفى سنة 282 هـ[4] ليأخذ عنه كتاب سببويه وليعود إلى موطنه ((قرطبة)) مقرئا ومدرسا إياه لتلاميذه الذين التفوا حول حلقته مبهورين بهذا المؤلف العظيم، ولتقوم بعد ذلك حركة نحوية نشطة عكفت على مدارسة هذا الكتاب وغيره من كتب النحويين البصريين والكوفيين.

وهكذا فقد بدأ علم النحو في الأندلس ((كما بدأ في المشرق عبارة عن قطعة مختارة فيها لفظ غريب يشرح، ومشكلة نحوية توضح على النحو الذي نراه في ((أمالي القالي)) و ((الكامل للمبرد)) ، ثم ألفوا نحواً في مسائل جزئيه كما فعل أبو علي القالي نفسه في ((فعلت وأفعلت)) و ((المقصور والممدود)) وكما فعل ابن القوطيَّة في كتابه ((الأفعال)) فلما انتقل إلى الأندلس كتابا الكسائي وسيبويه ألف الأندلسيون في النحو من حيث هو كلٌّ يشمل. جميع الأبواب)) ( [5] ) .

ويعد صاحب المحكم ابن سيدة المتوفى سنة 458 هـ أول أندلسي يشتغل بالنحو البغدادي على النحو الذي اشتغل به العلماء قبله بالنحو البصري والكوفي، وعلى الرغم من وصول النحو الكوفي والبغدادي إلى الأندلس فلقد كان نحو المدرسة البصرية هو الرائد الأول للأندلسيين، فقد اهتموا- في الأعم الأغلب- بمنهج السماع مبتعدين عن القياس ما أمكنهم ذلك ( [6] ) ، وسنرى تأثير هذا المنهج على ابن هشام الخضراوي نفسه حين يأتي الحديث عنه بعد قليل.

وبإطلالة القرن السادس الهجري نجد أن نحاة الأندلس قد اعتمدوا على أنفسهم بشكل يثير الإعجاب وقد برز في هذا القرن وما بعده علماء أفذاذ دوت شهرتهم في الآفاق أمثال:

ص: 403

ابن السيد البَطلْيوسي المتوفى سنة 521 هـ، وابن الباذش المتوفى سنة 528 هـ، وابن الطراوة المتوفى سنة 528 هـ، وابن طاهر المتوفى سنة 580 هـ، والسهيلي المتوفى سنة 581 هـ، والجزولي المتوفى سنة 607 هـ، وأبو علي الشلوبين المتوفى سنة 645 هـ، وابن عصفور المتوفى

سنة 663 هـ، وابن مالك العظيم المتوفى سنة 672 هـ، وأبي حيان المتوفى سنة 745هـ اللذين رحلا إلى المشرق وغير ذلك من جلة العلماء. ويمكننا بعد عرض ما تقدم أن نستخلص النتائج التالية:-

أولاً: بدأت معرفة الأندلسيين للنحو منذ أواخر القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث.

ثانياً: كان النحو الكوفي هو أول ما عرفه الأندلسيون متمثلا ذلك في رحلة جودي بن عثمان والتقائه بإمام المدرسة الكوفية علي بن حمزة الكسائي وتلميذه الفراء، ثم عرفوا بعد ذلك النحو البصري عن طريق كتاب سيبويه الذي نقله الأفشنيق عن أبي جعفر الدينوري.

ثالثاً: لم يتهيأ للأندلسيين الإلمام بالمذهب البغدادي إلا في منتصف القرن الخامس على وجه التقريب على يد ابن سيده.

رابعاً: كانت للمذهب البصري في الأندلس السمة الغالبة، فقد رأَينا عشرات من علماء الأندلس وقد عكفوا يشرحون كتاب سيبويه ويعلقون عليه ويدرسونه

الأمر الذي ترك بصمات واضحة في مؤلفاتهم.

خامساً: اعتمد الأندلسيون بشكل أساسي على المشرق حين بدأوا يشتغلون بهذا العلم، ولكنهم بمرور الوقت عولوا على أنفسهم، وحاولوا أن يضيفوا للنحو جديدا، وقد تمثل هذا فِي بعض الآراء الاجتهادية في المسائل الفرعية، وتمثل في دعوة ابن مضاء القرطبي وثورته العارمة على العامل النحوي والمطالبة بإلغائه، أو إقصائه جانبا.

ص: 404

بل إنه يمكن القول: إن القرن السادس الهجري يمثل قمة ازدهار النشاط النحوي، إذ قاموا بالاستقلال في البحث والتأليف، لذا كان إنتاجهم وافراً وأكسبهم ذلك فضلاً كبيراً على التراث، حداهم في ذلك روح التفاني والجهد الدائب في سبيل خدمة العربية والإخلاص لها، وقد كان الإنتاج الرائع لعلماء الأندلس تعويضا خلاّقاً عما فقده المشرق حين تهاوى تحت جحافل الغزاة والطامعين، وبديلاً فعَّالا لما افتقدته الدراسات النحوية من جهود علماء البصرة والكوفة الذين انْحلَّ عقدهم بعد القرن الرابع الهجري تقريباً.

تلك فكرة عجلى عن الدراسات النحوية في الأندلس منذ نشأتها حتى عصر عَالِمنَا الذي سنتحدث عنه ((ابن هشام الخَضْرَاوي)) .

ومما تجدر الإشارة إليه أن ابن هشام الخَضْرَاوي لم ينل حظه من الشهرة والذيوع مثلما نالها ابن هشام المصري ذلك أن الأخير بلغ شأواً بعيدا في فنه فألف كتابه المشهور (مغني اللبيب عن كتب الأعاريب) وغيره كأوضح المسالك، وشرح اللمحة البدرية

وهي مؤلفات تدلك على علو كعبه في هذا الفن وقوة اقتداره وتمكنه العجيب، ولو اقتصر على المغني.. لكفاه منزلة ورفعةً، ولهذا غطت شهرته الآفاق، وتبارى الباحثون في الكتابة عنه مرَّات ومرَّات، غاية القول أنه لم يترك لزميله في المغرب الفرصة للظهور حتى يمكن للدراسات أن تدور حوله، فظل شخصية يكتنفها الغموض، وعلى الرغم من ذلك فقد وجدنا ابن هشام المصري يعتمد آراء ابن هشام الخضراوي ويعول عليها، والقارئ لكتاب مغني اللبيب يجده يشير إليه حينا يلقبه الخضراوي [7] وحينا بدونه [8] ، وكذا فعل في أوضح المسالك وشرح اللمحة البدرية، وهذا يعطينا الدلالة على مكانة ابن هشام الخضراوي في مجال الدراسات النحوية وأثره في الخالفين بعده من العلماء. فمن هو؟

ص: 405

هو محمد بن يحيى بن هشام الخضراوي الأنصاري الخزرجي الأندلسي، وكنيته أبو عبد الله، ولد سنة 575 هـ[9] بالجزيرة الخضراء التي نسب إليها والتي تحدث عنها ياقوت الحموي [10] بقوله:

هي مدينة مشهورة بالأندلس، وقبالتها من البَرِّ بلاد البربر ((سبته)) وأعمالها متصلة بأعمال شذونه وهي شرقي شذونه وقبلي قرطبة، ومدينتها من أشرف المدن وأطيبها أرْضَا، وسحرها يضرب به ماء البحر، ولا يحيط بها البحر كما تكون الجزائر لكنها متصلة ببر الأندلس

ومرساها من أجود المراسي وبين الجزيرة وقرطبة خمسة وخمسون فرسخا، وهي على نهر برباط

الخ)) .

وقد تحدث العلماء عن مكانته العلمية فقالوا: إنه كان رأساً وأستاذاً في العربية بعامة والنحو بخاصة فقد تلقى تعليمه عن أساتذة أفذاذ أمثال عمر بن عبد المجيد الرندي [11](بضم الراء) وعلي بن محمد بن يوسف [12] ومصعب بن محمد بن ذرّ الخُشْني [13] وأخذ القراءات عن والده [14] كما أفاد منه وتتلمذ عليه من كان لهم شأنهم مثل عمر بن محمد المعروف بالشلوبين والذي لقب بالأستاذ [15] وغيره من الذين نهلوا من علمه.

وقد ترك عدداً لا بأس به من المصنفات دلَّت على المكانة المرموقة التي يتمتع بها هذا العالم وهي: فصل المقال في أبنية الأفعال، المسائل النخب، الإفصاح بفوائد الإيضاح، الاقتراح في تلخيص الإيضاح، شرح الإيضاح، غرر الإصباح في شرح أبيات الإيضاح، النقض على الممتع لابن عصفور، وله نظم ونثر وتصرف في الأدب

((وقد وافته المنية بتونس ليلة الأحد رابع عشر جمادى الآخرة سنة 646 هـ بعد حياة حافلة بالعطاء والعلم والمعرفة)) [16] .

والقارئ لكتب النحو المختلفة يجد حشدا من آرائه النحوية التي تحمل سمات شخصيته ومذهبه النحوي، فهناك آراء تفرَّد بها وآراء وافق فيها البصريين والكوفيين، وآراء وافق فيها العلماء قبله وآراء كانت موضع نقد من العلماء ويتمثل كل ذلك فيما يلي:

ص: 406

أولاً: له آراء اجتهادية أو آراء انفرادية إن صحَّ هذا التعبير تطالعنا في كتب النحو المختلفة، وهي تكشف عن فكره واستقلال شخصيته في كثير من الأحيان، فقد ارتضى كثيراً من الآراء وتفردَّ بها، ورفض أن يكون مقلدا فيما ذهب إليه، والمقام يقتضينا أن نذكر طرفا منها على سبيل المثال لا الحصر:-

. من أوجه ((حتى)) أن تكون عاطفة بمنزلة الواو، إلا أنه يشترط في معطوفها ثلاثة شروط:

الأول: أن يكون المعطوف إمَّا بعضا من جمع قبلها نحو: قدم الحجاج حتى المشاة، أو جزءا من كل نحو: أكلت السمكة حتى رأسها، أو غير ذلك.

الثاني: أن يكون المعطوف غاية لما قبلها إمَّا في زيادة أو نقص نحو: حضر الفقراء حتى الأغنياء، ونحو: غلبك الرجال حتى الأطفال.

الثالث: أن يكون معطوفها ظاهراً لا مضمراً، كما أن ذلك شرط مجرورها، ذكر ذلك الخضراوي. قال ابن هشام المصري: ولم أقف عليه لغيره [17] ، أي الشرط الثالث.

. من أوجه ((لو)) أن تكون للتمني نحو: لو تأتيني فتحدثني، وعلى هذا المعنى قوله تعالى:(فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين)[18] أي فليت لنا كرة، ولهذا نصب (فنكون) في جوابها، كما انتصب (فأفوز) في جواب ليت في نحو قوله تعالى:(يا ليتني كنت معهم فأفوز)[19] .

واختلف في (لو) هذه فقال ابن هشام الخضراوي: هي قسم برأَسها لا تحتاج إلى جواب كجواب الشرط ولكن قد يؤتى لها بجواب منصوب كجواب ليت، وتبعه في هذا ابن الضائع المتوفى سنة 680 هـ[20] .

. جوز الزمخشري في قوله تعالى: {لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهداً} [21] أن تعرب (منْ) فاعلا، والواو قبلها علامة، واختلف هل يقاس على هذه اللغة فيقال: جاءوا زيد وعمرو وبكر على أن الواو علامة وما بعدها فاعل. منع ذلك ابن هشام الخضراوي [22] وحده.

ص: 407

أجاز النحاة إسناد ((أوشك، وعسى، واخلولق)) من أفعال المقاربة إلى ((أن يفعل)) فتكون أن والفعل مغنية عن الخبر، وسادة مسد الجزأين، فتقول: اخلولق أن تمطر السماء. قال الخضراوي لا يجوز ذلك الإسناد في اخلولق، بل يختص بأوشك وعسى فقط [23] .

. ذهب قوم منهم الزمخشري والسيرافي إلى أنه: يجب وقوع خبر ((أن)) الواقعة بعد ((لولا)) فعلا ليكون جبراً لما فات ((لو)) من إيلائها الفعل ظاهراً نحو قوله تعالى: (ولو أنهم صبروا)[24] ولا يجوز عندهم: لو أَن زيداً أخوك، وجوز الخضراوي: وقوع خبر ((أنَّ)) بعد ((لو)) جامداً ومشتقا غير فعل، قال السيوطي [25] : وهو الصواب لوروده في قوله تعالى: (ولو أنَّ ما في الأرض من شجرة أقلام)[26] .

. ذهب ابن هشام الخضراوي إلى أَن ((الباء)) المفردة قد تكون بمعنى ((الكاف)) حين تدخل على الاسم، ويراد التشبيه نحو: لقيت بزيد الأسد، ورأيت به القمر، فالباء عنده بمعنى الكاف أي بلقائي إياه الأسد والقمر، أي يشبهه، ولم يرتض هذا أبو حيان الذي قال: والصحيح أنها هنا للسبب، أي بسبب لقائه وسبب رؤيته [27] .

. تقع ((كم)) ظرفا نحو: كم ميلا سرت وكم يوما صمت، ومصدراً نحو: كم ضربةً ضربت زيدا، وتقع ((كم)) مفعولا له نحو:(لكم إكراما لك وصلت) قال بهذا الخضراوي، قال أبو حيان: ولا نعلم أحداً نصَّ على جواز وقوع ((كم)) مفعولا له غيره [28] .

. إذا قلت: نجح الطلاب لا سيّما زيد، بجر زيد، فسيبويه يرى أن ((سيَّ)) مضافة إلى زيد وما زائدة، وزيادة ((ما)) بين المضافين مسموعة. ولهذا يجوز حذفها، وزعم ابن هشام الخضراوي أنها زائدة لازمة لا تحذف، قال السيوطي: وليس كما قال [29] .

. في الأفعال المتعدية إلى ثلاثة مفعولات زاد فيها سيبويه ((نَبَّأ)) وزاد فيها الخضراوي (أَنبأ)[30] .

ص: 408

ثانيا: وافق الخضراوي غيره من النحاة في بعض الآراء، تحريا للصواب، ولم تمنعه أندلسيته أن يكون يكون موافقا للمشارقة في آرائهم، وهم الذين نشأ عندهم علم النحو ونما وترعرع ولم يصل إلى الأندلس إلا بعد أن اكتمل نموه تقريبا. فاختياره يدل على أنه ذو تفكير حر أييضا فهو يتحرى الحق ويسير إليه ومن أمثلة ذلك:

. يشترط فيما يصاغ، منه فعلا التعجب أن يكون فعلا ثلاثيا، فإن كان مزيدا على وزن ((أفعل)) فذهب بعض العلماء إلى عدم الجواز مطلقا. وذهب بعضهم إلى أنه يجوز مطلقا، وعلى ذلك سيبويه وفد اختار الخضراوي ما ذهب إليه سيبويه وصححه [31] .

. إذا أكد الضمير المتصل أعيد مع ما اتصل به: نحو: قمت قمت، أما الحرف فإن كان جوابياً أعيد وحده نحو:(لا لا) وإن لم يكن جوابيا فقال ابن مالك: يعاد مع ما اتصل به نحو: إنّ زيدا إن زيدا. ولا يعاد وحده إلا ضرورة، وأجاز الزمخشري: إنّ إنّ زيدا. بإعادة الحرف وحده دون ضرورة وتبعه على ذلك ابن هشام الخضراوي [32] .

. يذكر النحاة أن المركب تركيب إسناد لا يثنى ولا يجمع اتفاقاً نحو: تأبط شرا، وشاب قرناها، وأما المركب تركيب مزج كبعلبك وسيبويه فالأكثر على منعه أيضا لعدم السماع ولشبهه بالمحكي غير أن الكوفيين أجازوا تثنية المركب المزجى وجمعه، وقد وافقهم في هذا ابن هشام الخضراوى [33] .

. قال عمرو بن يعد يكرب:

يسوء الفاليات إذا فلينى

تراه كالثِّغام يُعلُّ مسكا

فقد اجتمع في (فلينى) نون الوقاية مع نون الإناث، وحذفت إحداهما. وقد اختلف العلماء في أي النونين حذفت، فقال المبرد: هي لون الوقاية. لأن النون الموجودة ضمير فاعل لا يليق بها الحذف ورجح ذلك ابن جني واختاره ابن هشام الخضراوي [34] .

ص: 409

في نحو قولك: (ظننت زيدا قائما) يجوز أن تحذف الفاعل ويقام المفعول الأول مقامه فيقال: ظن زيدٌ قائما. وذلك عند البصريين حسن وذهب الجزولي المتوفى 607 هـ إلى أنه لا يجوز إقامة المفعول الأول في المثال المتقدم، وتبعه في هذا ابن هشام الخضراوى [35] ، والجزولي من علماء الأندلس كان إماما في العربية لا يشق غباره، لزم ابن برّي بمصر ثم عاد إلى بلده (المريِّه) متصدرا للإقراء.

. لحتى الداخلة على المضارع المنصوب ثلاثة معان:

مرادفة ((إلى)) نحو {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [36] ومرادفة ((كي)) التعليلية نحو {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ} [37] ومرادفة ((إلا)) في الاستثناء، وهذا المعنى قال به سيبويه حين فسَّر قولهم (والله لا أفعل إلا أن تفعل) المعنى عنده: حتى أن تفعل، وقد اختار هذا المعنى ابن هشام الخضراوي [38] .

ثالثا: وكما وافق غيره من النحاة فقد وافقه بعضهم في كثير ما ذهب إليه تأثراً به واعتدادا بوجهته واعترافا بأستاذيته من ذلك:-

. في باب العلم: كنّوا عن اسم جنس غير علم (بهن) في المذكر. (وهنَه) بفتح و (هنْه) بسكونها في المؤنث، ولا يكنى بما تقدم عن علم عاقل أو غيره كأسامة، وعلى هذا الخضراوي والشلوبين [39] ، ومعلوم أن الشلوبين أخذ عنه وانتفع بعلمه.

. لو المستعملة في نحو: ((لو جاءني زيد لأكرمته)) تفيد ثلاثة أمور:-

أحدها: الشرطية، الثاني: تقييد الشرطية بالزمن الماضي، الثالث: الامتناع، وقد اختلف النحاة في إفادتها له وكيفية إفادتها إياه فذهب بعضهم أنها لا تفيده بوجه وأن ((لو)) في المثال المتقدم لا تدل على امتناع الشرط ولا على امتناع الجواب، بل على التعليق في الماضي، كما في دلت (إن) على التعليق في المستقبل، ولم تدل بالإجماع على امتناع ولا ثبوت وعلى هذا الرأي ابن هشام الخضراوي والشلوبين [40] .

ص: 410

تمييز (كم) الخبرية يكون مجرورا ويكون مفردا وجمعا. وذهب الخضراوي والشلوبين إلى أن (كم) إذا انتصب تمييزها التزم فيه الإفراد. لأن العرب التزمته في كل تمييز منصوب [41] .

رابعاً: وهو يرفض بعض الآراء بعد أن يقف عندها مليّا ثم يعرضها على منطق تفكيره وميزان عقله ثم يرفضها ويردها بالحجة القوية والدليل الواضح. مثال ذلك:

. ذهب بعض النحاة إلى جواز إضافة الصفة إلى الموصوف نحو: كريم زيدٍ أي زيد الكريم وأنكر ذلك أبو علي، وقال: العرب لا تقول: قائم زيد، ولا قاعد عمرو. ويريدون: زيد القائم وعمرو القاعد، قال ابن هشام الخضراوي: وقد جاء الذي منعه أبو علي في قول الشاعر:

حج بأسفل ذي الحجاز نزول

وكأن عافية النسور عليهم

وإنما أراد النسور العافية [42] .

. جوّز الكوفيون جمع الصفة المؤنثة التي لا تقبل التاء جمع مذكر سالم واستشهدوا بقول أبي قيس بن رفاعة:

والعانسون ومنا المرد والشيب

منَّا الذي هو ما إن طُرَّ شاربه

وقول الشاعر:

جلائل أسودين وأحمرينا

فما وجدت نساء بنى نزار

والبيتان عند البصريين من النادر الذي لا يقاس عليه. قال الخضراوي:

عادة الكوفيين إذا سمعوا لفظا في شعر أو نادر كلام جعلوه بابا أو فصلا، وليس بالجيد [43] .

خامسا: وهو ذو مكانة علمية مرموقة، فالنحاة يثقون في علمه وفيما ينقله عن العلماء، وحسبنا أن كتابه (الإفصاح) يعد أحد المصادر المهمة التي نهل منها أبو حيان والسيوطي وابن هشام المصري وغيرهم وللتدليل على ذلك نذكر ما يلي:

. (رُبَّ) عند البصريين حرف. وعند الكوفيين وابن الطراوة اسم، وهي تفيد التقليل. ونقل في (الإفصاح) أنها للتكثير قال بذلك جماعة منهم صاحب العين وابن درستويه [44] .

. إذا وقع بعد شبه الجملة مرفوع، فإن تقدمها نفي أو موصوف أو موصول نحو:

ص: 411

ما في الدار أحد. ومررت برجل معه صقر. وجاء الذي في الدار أبوه. وزيد عندك أخوه".

ففي المرفوع ثلاثة مذاهب:

أحدها: أن الأرجح كونه مبتدأ، مخبرا عنه بالظرف أو المجرور، ويجوز كونه فاعلا.

والثاني: أن الأرجح كونه فاعلا واختاره ابن مالك.

والثالث: أنه يجب كونه فاعلا، نقله ابن هشام الخضراوي عن الأكثرين [45] .

. جمع التصحيح والمحمول عليه كالهندات والبنات والأخوات وأولات، الأفصح الوقف عليه بالتاء. ويجوز إبدالها (هاء) وفى الإفصاح: ما حكاه الفراء وقطرب من الوقف عليها بالهاء شاذ لا يقاس عليه [46] .

. أنكر المبرد أن تكون (عامّة) من ألفاظ التوكيد، وقال: إنها هي بمعنى أكثر، قال السيوطي:(عامة) لم يذكرها أكثر النحاة غير أن سيبويه قال بها على أنها بمنزلة (كل) معنى واستعمالا. قال أبو حيان: وممن نقلها عن سيبويه صاحب الإفصاح [47] .

. قال ابن هشام في أوضح المسالك: ((وإذا تعدى الفعل لأكثر من مفعول، فنيابة الأول جائزة اتفاقا. ونيابة الثاني ممتنعة اتفاقا. نقله الخضراوي)) [48] .

سادسا: وعلى الرغم مما تقدم فقد تعقّبه بعض النحاة كابن هشام المصري وأبي حيان الغرناطي والسيوطي. واستدركوا عليه أمورا ينبغي عليه أن يتثبت منها وأن يقف عندها مدققا غير أنه لم يفعل، وفي الحقيقة هي هنات لا تقلل من قيمة الرجل وشموخه في فنه. ومن أمثلة تلك الهنات:

. (كأنّ) حرف مركب عند أكثر النحاة، والأصل في (كأن زيداً أسدٌ) إنّ زيدا كالأسد. ثم قدم حرف التشبيه اهتماما به ففتحت همزة أن لدخول الجار عليها، ولقد حكى الإجماع على أنها مركبة ابن هشام الخضراوي قال ابن هشام المصري: ليس كذلك فقد ذهب بعض العلماء إلى القول ببساطتها كأبي حيان. لأن التركيب خلاف الأصل فالأولى أن تكون حرفا بسيطا، إذن فادعاء الخضراوي الإجماع على التركيب غير سديد [49] .

ص: 412

ذهب بعض النحاة إلى جواز منع الصرف وعدمه في المؤنث المعنوي إذا كان ثنائيا (كيد) ، أو ثلاثيا ساكن الوسط كهند ومصر، وعلى جواز الأمرين اختلف في الأجود منهما. فالأصح أن الأجود المنع. قال ابن جني: وهو القياس والأكثر في كلامهم، وقال أبو علي الفارسي: الصرف أصح. قال الخضراوي: ولا أعلم أحداً قال هذا القول قبله، وبعد أن ذكر السيوطي آراء بعض العلماء علّق على كلام الخضراوي قائلا: وما ذهب إليه غلط جلي [50] .

. تلزم اللام والنون في جواب القسم، والاكتفاء بأحدهما أي اللام أو النون إن لم يفصل بينه وبين اللام ضرورة. خلافا لأبي على الفارسي والكوفيين في تجويزهم ذلك في الاختيار، وعلى الرغم من تجويز أبي علي الفارسي والكوفيين فقد نقل السيوطي عن أبي حيان أن الخضراوي وهم فادعى الإجماع على المنع، وذلك غير سديد [51] .

. يتعدى الفعل اللازم بتضعيف العين سماعاً نحو: فرح زيد وفرَّحته، ومنه قوله تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [52] وقيل: يتعدى الفعل اللازم بتضعيف العين قياساً. قال السيوطي: وادعى ابن هشام الخضراوي الاتفاق على الأول، قال أبو حيان: وليس بصحيح [53] .

(وبعد)

فهذه لمحة عجلى عن ابن هشام الخضراوي الذي كان إماماً في العربية، مقدما فيها، فهو عالم بالأدب والقراءات والنحو، ويعد بحق واحدا من النحاة الأفذاذ في موطنه الأندلس حيث تلقى النحو وغيره عن علماء لهم مكانتهم العظيمة كما انتفع بعلمه الكثيرون أمثال أبي علي الشلوبين الذي لقب بالأستاذ، ويبدو أن الخضراوي قد أعجب كل الإعجاب بأبي علي الفارسي [54] المتوفى سنة 337هـ، وبكتابه الإيضاح، ومن ثم أخذ يشرح هذا الكتاب ويلخصه ويشرح شواهده وغوامضه، ولا عجب فأبو علي الفارسي كان واحدَ زمانه في علم العربية، وحسبنا أن ابن جني [55] المتوفى سنة 392 هـ من تلاميذه، وهو الأديب البارع والعالم المتبحر في علوم النحو والصرف واللغة.

ص: 413

ويبدو من خلال الآراء المتقدمة لابن هشام الخضراوي أنه يميل إلى مذهب البصريين، فهو يهتم بالسماع الكثير ويقيس عليه مثلما يفعلون، ومن ثم أخذ يعيب على الكوفيين أنهم يقيسون على الشاذ والنادر من الكلام.

وقد ترك آثاراً نحوية تشهد بكثرة عطائه ورسوخ قدمه في فنه. ولعل أهمها هو كتاب الإفصاح الذي يعد بحق مصدراً من المصادر المهمة التي اعتمد عليها النحاة بعده في مؤلفاتهم كأبي حيان والسيوطي والمرادي وغيرهم، ولا يزال هذا الكتاب (مخطوطا) ومن المفيد أن يحقق هذا الكتاب لينتفع به ولتعم فائدته.

والله نسأل أن يلهمنا السداد في الفكر والقول والعمل فهو حسبنا.

وألبس ثوب الصبر أبيض أبلج

وإني لأغض مقلتي على القذى

فما ينفك أن يتفرجا

وإني لأدعو الله، والأمر ضيق

أصاب لها من دعوة الله مخرجا

وكم من فتى ضاقت عليه وجوهه

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

إنباه الرواة: 2/306، وبغية الوعاة 1/490.

[2]

تأريخ الفكر الأندلسي: 185 ط أولى مصر 1955م.

[3]

إنباه الرواة: 3/216.

[4]

بغية الوعاة: 1/306.

[5]

ظهر الإسلام جـ3ص91، وتأريخ الفكر الأندلسي:185.

[6]

المدارس النحوية: 292.

[7]

مغني اللبيب: ص169، 171، 337، ط دار المعرفة بيروت 1972م.

[8]

المرجع السابق: 252، 352، 480، 579.

[9]

بغية الوعاة ص115 ط دار المعرفة بيروت.

[10]

راجع معجم البلدان جـ1 ص136 ط دار صادر ـ بيروت.

[11]

ترجمته في بغية الوعاة: 361.

[12]

ترجمته في التكملة لابن الأبَّار 676 ومعجم الأدباء 15، 75، وفوات الوفيات: 2/79، وبغية الوعاة:354.

[13]

المغني: 334 وبغية الوعاة: 393.

[14]

البغية: 115.

ص: 414

[15]

ترجمته في إنباه الرواة:2/232 والتكملة لابن الأبَّار658 والديباج المذهب 185 وشذرات الذهب5/232.

[16]

راجع بغية الوعاة: 115 والمدارس النحوية: 303، 304.

[17]

المغني: 171ط بيروت وانظر الهمع 2/136.

[18]

الشعراء: 102.

[19]

النساء: 72.

[20]

الهمع: 2/66 وراجع الأشموني 4/32.

[21]

مريم: 87.

[22]

المغني: 48.

[23]

ارتشاف الضرب 1/472، 473 والهمع 1/131 والأشموني 1/266، 7

[24]

الحجرات: 5.

[25]

الهمع 1/138.

[26]

لقمان: 27.

[27]

الهمع 2/22.

[28]

ارتشاف الضرب 1/238.

[29]

الهمع 1/234.

[30]

ارتشاف الضرب 2/955 وحاشية الصبان 3/40.

[31]

ارتشاف الضرب 2/926 وحاشية الصبان 3/21.

[32]

ارتشاف الضرب 2/857 والتصريح 2/125.

[33]

الهمع 1/42.

[34]

المرجع السابق 1/65 وراجع المغني 808 والخزانة 2/445.

[35]

ارتشاف الضرب 1/523 وراجع الأشموني 2/69.

[36]

طه 91.

[37]

البقرة 217.

[38]

المغني 169 وراجع معاني القرآن 1/136.

[39]

الهمع 1/74.

[40]

المغني 337 والهمع 2/65.

[41]

ارتشاف الضرب 1/239 والهمع 1/255.

[42]

ارتشاف الضرب 2/776 وحاشية الصبان 2/242.

[43]

الهمع 1/45 وراجع المغني 400 وشرح شواهد المغني 244.

[44]

ارتشاف الضرب 2/735.

[45]

المغني 579.

[46]

الهمع 2/209.

[47]

الهمع 2/123 وراجع الكتاب 1/189 والواضح في الدراسات النحوية 64،65.

[48]

أوضح المسالك 1/264.

[49]

المغني 252 والارتشاف 1/483 والهمع 1/133 والأشموني 1/271،272.

[50]

راجع الهمع 1/33،34.

[51]

راجع الهمع 2/42.

[52]

الشمس /9.

[53]

المرجع السابق 2/82.

ص: 415

[54]

ترجمته في إنباه الرواة 1/273 ونزهة الألباء 315 ومعجم الأدباء 7/232 وطبقات النحويين واللغويين 120.

[55]

ترجمته في إنباه الرواة 2/335 وبغية الوعاة 2/132 ونزهة الألباء 332.

ص: 416

كلمة التحرير

زيارة كريمة

بقلم الشيخ سعد ندا

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن تبع هديه ووالاه.

وبعد: فقد كانت لفتةً كريمةً لها مدلولها الرائع أَن يولى جلالة الفهد- ثبت الله قَلْبَهُ على الهدى ومُلْكَهُ على الحق- مدينةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم رعايته بزيارته الميمونة، ويعطيها من جهده ووقته، ويخطط لرفع مستواها إلى المقام اللائق بها، ما نسأل الله تعالى أن يسدد له فيه الخُطى وأن يجزيه به خير ما يجزي به المخلصين الصادقين.

وكيف لا تكون المدينة النبوية أحق بالعناية والرعاية، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنها ستكون آخر معقل للإيمان، في قوله:"إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها"[1] . كما أخبر أن الله تعالى قضى بحمايتها ممن يريد بأهلها سوءا وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "من أراد أهلها بسوء- يريد المدينة- أذابه الله كما يذوب الملح في الماء"[2] . وفضلا عن ذلك فإن ساكن المدينة الصابر على لأوائها حتى يموت جعل له الرسول صلى الله عليه وسلم الجزاء العظيم يوم القيامة في قوله: "لا يصبر أحد على لأوائها حتى يموت إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة إذا كان مسلما"[3] . ولهذا رغب الرسول صلى الله عليه وسلم في سكنى المدينة بقوله: "والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون"[4] .

ثم كانت لفتة كريمةً ثانيةً أن يزور جلالة الفهد- رعاه الله- الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة- التي شرفها برئاسته العليا لها، وأن يفتح صدره لمنسوبيها من مسئولين وأساتذة وطلاب، فيجلس بينهم، ويتحدث إليهم حديث الأب الحنون لأبنائه البررة، ويبثهم جياش عواطفه النابعة من حبه لهذه الجامعة التي هيئت لتكون جامعة المسلمين في أنحاء الدنيا

ص: 417

جميعا، والتي شاء الله لها أن تكون في هذا البلد الطيب الذي شعَّ منه نور الإسلام، فأضاء الدنيا كلها، وانطلقت منه أسمى حضارة عزَّ من استظل بظلها، ومن ثم كانت هذه الجامعة رمزاً يذكرنا بأمجادنا الأولى، ويفتح أمامنا أبواب العمل الجاد لتحقيق آمالنا في عودة تلك الأمجاد، ونشر الإسلام في أرجاء العالمين.

أَلا حيا الله المليك الكريم فهد بن عبد العزيز، وبارك أعماله، وسدد خطواته، ونصره بالحق، ونصر الحق به، وأعزه بالإسلام، وأعز به الإسلام والمسلمين، إن ربنا جواد كريم، وبالإجابة جدير.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده الكريم ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

صحيح مسلم حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[2]

المرجع السابق حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

[3]

المرجع السابق حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

[4]

المرجع من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 418

رسائل لم يحملها البريد

للشيخ عبد الرؤوف اللبدي

المدرس بكلية الشريعة بالجامعة الإسلامية

أختي العزيزة هل:

هذه هي الرسالة الثامنة تكتبها إليك أختك همزة الاستفهام، وتحدثك فيها عن صيغ ثلاث جديدة من هذه الصيغ التي تدخل فيها على لم النافية الجازمة للفعل المضارع، وقد كانت من قبل قد حدثتك في رسائلها السبع المتقدمة عن أربع عشرة صيغة، أما الصيغة الخامسة عشرة فهي:"ألم يهد"، وقد وردت كما ثلاث آيات من آيات القرآن الكريم:

الآية الأولى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} (الأعراف/100) .

الهمزة في هذه الصيغة (أو لم يهد) في آيتها الأولى للإنكار والتوبيخ: ينكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على أهل مكة وغيرهم من العرب الذين استخلفوا في الأرض من بعد أهلها، ينكر عليهم ويوبخهم أن لم يتعظوا بما أصاب أهل هذه الأرض قبلهم من عذاب وهلاك بسبب كفرهم وتكذيبهم الرسل، مع علمهم بأن الله قادر على أن يصيبهم بما أصاب أولئك لو شاء ذلك.

والفعل المضارع في هذه الصيغة وهو (يهد) أي يتضح ويبين مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهو الياء من آخره. وفي فاعله ثلاثة آراء ذكرها أبو حيان في تفسيره البحر المحيط [1] وذكرها أيضا صاحب الفتوحات الإلهية نقلا عن السمين [2] .

أحدها: أنه المصدر المؤول من أنْ وجواب لو، والمفعول به على هذا الرأي محذوف، والتقدير: أو لم يتبين إصابتُنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك عاقبة أمرهم، فإصابتُنا وهو المصدر المؤول فاعل، وعاقبة أَمرهم هو المفعول به المحذوف.

ص: 419

الرأي الثاني: أن الفاعل ضمير اسم الله تعالى، وعلى هذا الرأي فالمصدر المؤول من أنْ وجواب لو هو المفعول به، والتقدير أو لم يهد أي يبين الله لهم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك.

الرأي الثالث: أن الفاعل ضمير مستتر في يهد يعود على ما يفهم من سياق الكلام، والتقدير: أو لم يبين لهم ما جرى للأمم السابقة إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك.

ويبدو لي - والله أعلم- أن أقرب هذه الآراء الثلاثة إلى الصواب هو الرأي القائل: إن المصدر المؤول من أَنْ وجواب لو هو الفاعل لأنه هو الذي يبدر إلى الذهن أول وهلة، وعليه ظاهر اللفظ، ويؤيده تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، وتفسير أبي جعفر بن جرير، فقد جاء في تفسير ابن كثير [3] : "قال ابن عباس رضى الله عنهما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} أولم يُبين لهم أنْ لو نشاء أصبناهم بذنوبهم. وكذلك قال مجاهد وغيره، وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيرها [4] يقول الله تعالى أولم يبين للذين يستخلفون في الأرض من بعد إهلاك آخرين كانوا أهلها، فساروا سيرتهم، وعملوا أعمالهم، وعتوا عن أمر ربهم {أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} اهـ.

والظاهر من التفسيرين المتقدمين أن الفاعل هو أنْ وما في حيزها، وليس فيهما ما يدل على أن الفاعل ضمير اسم الله تعالى، أو ضمير يعود على غيره تعالى.

الآية الثانية التي وردت فيها صيغة (ألم يهد) قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لأُولِي النُّهَى} (طه/ 128) .

همزة الاستفهام في (أفلم يهد لهم) في آيتها الثانية للإنكار والتوبيخ كما في الآية الأولى:

ص: 420

ينكر الله سبحانه وتعالى على أن المشركين من أهل مكة وغيرهم ويوبخهم أن لم يبيّن لهم ويعظهم كثرة من أهلكهم من الأمم قبلهم بسبب كفرهم وتكذيبهم الرسل، مع أنهم يمشون في مساكن أولئك المهلكين وهم مسافرون إلى الشام وغيرها، ويتقلبون في بلادهم، ويشاهدون آثار العذاب الذي نزل بهم..

وقد اختلفت الآراء أيضا في فاعل يهد في هذه الآية.

يقول أحدها: إن الفاعل ضمير اسم الله تعالى، أي ألم يبيّن الله لهم.

ويقول رأي ثان: إن الفاعل مصدر مأخوذ من أهلكنا بدون سابك، رعاية لما يقتضيه المعنى، والتقدير أفلم يهد لهم إهلاكُنا.

ويقول رأي ثالث: إن الفاعل مقدر، تقديره الهدى.

ويقول رأي رابع: إن الفاعل هو الجملة بعده، أي جملة كم أهلكنا قبلهم من القرون.

وأنا أميل إلى هذا الرأي الرابع، وهو رأي كوفي يجوّز وقوع الجملة مسندا إليها في الصورة وظاهر اللفظ، مع تأويلها بمفرد يدلّ عليه المعنى [5] .

ويعجبني قول ابن مالك في شرح التسهيل: "وفي قوله تعالى {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا} إنه على تأويل أو لم يهد لهم كثرةُ إهلاكنا، وجاز الإسناد في هذا الباب باعتبار التأويل، كما جاز في باب المبتدأ نحو {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} اهـ قول ابن مالك [6] .

وقول ابن مالك هذا يشعر (كما قال القاسمي) بأن الفاعل الجملة لتأويلها بالمفرد.

وقد فسر ابن كثير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} (السجدة/ 26) فسره بقوله "يقول تعالى أولم يهد لهؤلاء المكذبين ما أهلك الله من الأمم الماضية" اهـ[7] ويبدو من هذا التفسير أن فاعل (يهد) هو جملة كم أهلكنا ولكن باعتبار معناها ومضمونها.

ص: 421

وعلى الرأي القائل إن الفاعل هو جملة كم أهلكنا على تأويلها بالمفرد يكون المفعول به محذوفا تقديره مآل أمرهم وعاقبة كفرهم.

أما إعراب ما يتعلق بهذه الصيغة من كلمات في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} ف (لهم) جار ومجرور يتعلقان بالفعل (يهد) . و (كم) تكثيرية مبنية على السكون في محل نصب مفعول مقدم لأهلكنا. و (أهلكنا) أهلك فعل ماض مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك أو مبني على فتح مقدر على آخره منع من ظهوره السكون العارض لاتصاله بضمير رفع متحرك. والفعل على كلا الإعرابين لا محل له من الإعراب. و (نا) ضمير مبنيى على السكون في محل رفع فاعل. و (قبلهم) قبل حرف زمان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره و (هم) ضمير مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وهذا الظرف متعلق بالفعل قبله (أهلك) . و (من القرون)(من) بيان لكم والجار والمجرور يتعلقان بمحذوف صفة لكم وهذا رأي، وهناك رأي آخر يقوله إن من البيانية ومجرورها في محل نصب على الحال وجملة (يمشون في مساكنهم) في محل نصب حال من الضمير في (لهم) .

الآية الثالثة التي وردت فيها صيغة (ألم يهد) قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} السجدة/ 26.

الهمزة في هذه الصيغة في آيتها الثالثة للإنكار والتوبيخ بالمعنى الذي تقدم تفصيله في الآية السابقة.

وما قيل في فاعل (يهد) في آيتها الثانية المتقدمة يقال هنا في هذه الآية الثالثة، فلا حاجة إلى الإعادة والتكرار.

وإعراب بقية كلمات هذه الصيغة قد تقدم ذكره في الآية الثانية.

أختي العزيزة هل:

ص: 422

أما الصيغة السادسة عشرة من هذه الصيغ التي أدخل فيها على لم النافية الجازمة للفعل المضارع فهي (أو لم يتفكروا) وقد جاءت هذه الصيغة في آيتيها اثنتين:

الآية الأولى قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ} الأعراف/184.

الهمزة هنا في هذه الصيغة (أو لم يتفكروا) للإنكار والتوبيخ:

ينكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية على كفار مكة ويوبخهم أن لم يتفكروا في انتفاء الجنون عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو صاحبهم قد عرفوه من قبل هذا صغيرا وجرّبوه كبيرا فما رأوا فيه طيش شباب ولا انحرافا عن صواب، واستأمنوه فكان المستأمن الأمين، واستمعوا إلى قوله فكان المحدث الصادق، وحكّموه فيما شجر بينهم من خلاف فكان الحكم العدل والقاضي الثاقب الرأي، فمن أين يجيئه الجنون بعد هذا كله؟!! لو كنتم يا كفار مكة تتفكرون في أنفسكم! وتتدبرون الذي عرفتم عن صاحبكم هذا لقلتم حقاً وصدقاً إن هو إلا نذير مبين.

وإعراب (أولم يتفكروا) واضح بيِّن قد مضى إعراب مثله كثيراً.

وإعراب (ما بصاحبهم من جنة) : (ما) نافية غير عاملة، حرف مبني على السكون لا محل له من الإعراب (بصاحبهم) جار ومجرور ومضاف إليه: الباء حرف جر وصاحب مجرور بالباء وهم ضمير مبني على السكون في محل جر بالإضافة. والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم، ولك أن تقول الجار والمجرور في محل رفع خبر مقدم. (من جنة) من حرف جر زائد وجنة مجرور بمن وعلامة جره كسرة ظاهرة على آخره وجنة المجرور بحرف الجر الزائد مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها الكسرة التي أتي بها لمناسبة حرف الجر الزائد، وعلى رأي من يرى أن المجرور بحرف الجر الزائد يكون إعرابه محلياً تقول (جنة) مبتدأ مؤخر وهو في محل رفع.

ص: 423

وجملة (ما بصاحبهم من جنة) في محل نصب بالفعل (يتفكروا) بعد إسقاط حرف الجر (في) ومن النحويين من يجوز أن تكون جملة (ما بصاحبهم من جنة) في محل جر بفي المقدرة.

الآية الثانية التي وردت فيها هذه الصيغة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} (الروم/8) .

همزة الاستفهام في هذه الصيغة في آيتها الثانية للإنكار والتوبيخ:

ينكر الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين يكفرون بالبعث ولا يؤمنون بالآخرة، ينكر عليهم ويوبخهم ألا يتفكروا في أنفسهم ويتدبروا في هذه الأشياء العظيمة التي خلقها الله تعالى، هذه السموات والأرض وما بينهما، وأنه تعالى ما خلقها عبثاً ولا لعباً، وإنما خلقها متلبسة بالحق مقترنة بالحكمة مقدرة بأجل مسمى تنتهي إليه، وهو يوم القيامة يوم الحساب والثواب والعقاب، يوم لقاء رب العالمين.

وإعراب (أولم يتكفروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى) واضح سهل. ومع ذلك أعرب بعض كلماتها:

(وما بينهما) الواو عاطفة (ما) اسم موصول مبني على السكون في محل نصب معطوف على السموات، و (بين) ظرف مكان منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره، وبين مضاف وهما مضاف إليه مبني على السكون في محل جر بالإضافة. ومن المعربين من يجزئ (هما) فيقول في إعرابها: الهاء وحدها هي الضمير، والميم حرف عماد، والألف حرف دال على التثنية، وقد سبق أن بينت ضعف هذا الرأي، لأن الذي يدل على الاثنين الغائبين هو مجموع الأحرف الثلاثة، وليس الهاء وحدها.

وظرف المكان (بين) متعلق بفعل محذوف تقديره كان، والجملة مكونة من هذا الفعل المحذوف وما تعلق به صلة الموصول (ما) وهي جملة لا محل لها من الإعراب.

ص: 424

(إلا بالحق)(إلا) أداة حصر حرف مبني على السكون لا محل له من الإعراب، (بالحق) جار ومجرور يتعلقان بمحذوف حال، والمعنى: ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا متلبسة بالحق وأجل مسمى.

(وأجل مسمى) الواو عاطفة و (أجل) معطوف على الحق و (مسمى) نعت لأجل مجرور وعلامة جره كسرة مقدرة على آخره وهو الألف منع من ظهورها التعذر.

وجملة (ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى) في محل نصب مفعول به لفعل (يتفكروا) على إسقاط الخافض، ويجوز أن تكون هذه الجملة في محل جر بفي المقدرة.

أختي العزيزة هل:

الصيغة السابعة عشرة من هذه الصيغ التي أدخل فيها على لم النافية الجازمة للفعل المضارع هي (ألم ينظروا) وقد جاءت في آيتين اثنتين:

الآية الأولى قوله وتعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف/ 185) .

هذه الاستفهام في هذه الصيغة الواردة في هذه الآية للإنكار والتوبيخ:

ينكر الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين يكفرون بآيات الله، وينكرون البعث والحساب، ويكذّبون بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ينكر عليهم ويوبخهم أن لم يتأملوا في عظمة الله وسلطانه وبديع صنعه فيما خلق من سموات وأرض وأشياء كثيرة مختلفة لا تحصى مبثوثة أمام أعينهم في كل مكان تدل على أنه الواحد القادر على كل شيء، فيؤمنوا بالله سبحانه وتعالى، ويصدقوا برسوله صلى الله عليه وسلم.

وينكر عليهم أيضاً ويوبخهم أن لم يتدبروا اقتراب أجلهم فيبادروا إلى الإيمان قبل الفوات، قبل أن يأتيهم الموت بغتة فيهلكوا وهم على الكفر وبئس الممات.

ص: 425

هذا، وإعراب قوله تعالى (أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض) سهل واضح، قد تقدم إعراب مثله أكثر من مرة.

وأما إعراب قوله تعالى بعد ذلك (وما خلق الله من شيء) فالواو عاطفة، و (ما) اسم موصول مبني على السكون في محل جر معطوف على ملكوت. و (خلق) فعل ماض ولفظ الجلالة (الله) فاعل و (من شيء) من حرف جر، وهي هنا بيانية تبين المعنى المراد من اسم الموصول (ما) وشيء مجرور بمن، والجار والمجرور (من شيء) في محل نصب على الحال من (ما) وجملة (خلق الله من شيء) لا محل لها من الإعراب صلة الموصول، والعائد محذوف، والتقدير وما خلقه الله من شيء.

وإعراب قوله تعالى بعد ذلك (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) :

الواو عاطفة و (أن) - بفتح الهمزة وسكون النون- مخففة من أنَّ الثقيلة، حرف توكيد، تنصب المبتدأ ويسمى اسمها وترفع الخبر ويسمى خبرها، واسمها ضمير الشأن محذوف تقديره هو أي الحال والشأن.

وعسى فعل ماض جامد مبنية على فتح مقدر على الألف للتعذر لا محل لها من الإعراب.

وتستعمل (عسى) أحياناً فعلا ناقصا فتعمل عمل كان، وأحياناً فعلا تاما فتكتفي بمرفوعها على أنه فاعل.

وتدل (عسى) على الترجي والطمع في خبرها أو فاعلها إن كان محبوبا، وعلى الخوف والإشفاق منه إن كان مكروها.

وتفيد (عسى) الظن والشك في وقوع أمر مع توقع حصوله، وقد تأتي لليقين، وهي هنا في هذه الآية لليقين.

ويجوز في (عسى) الواردة في هذه الآية أن تكون ناقصة وأن تكون تامة، وعلى اعتبار أنها ناقصة في (أجلهم) المذكور في آخر جملتها اسمها مرفوع وعلامة رفعه ضمة ظاهرة على آخره وهو اللام. (أجل) مضاف و (هم) مضاف إليه مبني على السكون في محل جر بالإضافة، وعلى هذا الإعراب تكون المسألة من باب التنازع:

ص: 426

تنازع (عسى) و (يكون) و (اقترب) في (أجلهم) فأعمل الأول وهو عسى وأضمر في الثاني والثالث، وأتم الإعراب على اعتبار أنها ناقصة وعلى اعتبار التنازع السابق الذكر فأقول:(أن يكون) أن حرف مصدري ناصب للفعل المضارع مبني على السكون لا محل له من الإعراب، و (يكون) مضارع كان الناقصة منصوب بأن وعلامة نصبه فتحة ظاهرة على آخره، واسم يكون ضمير مستتر تقديره هو يعود على (أجلهم) المتأخر لفظاً المتقدم رتبة، (قد اقترب أجلهم) :

(قد) حرف تحقيق مبني على السكون لا محل له من الإعراب. و (اقترب) فعل ماض مبني على الفتح لا محل له من الإعراب، وفاعله ضمير مستتر تقديره هو يعود على (أجلهم) المتأخر لفظاً المتقدم رتبة، وجملة (قد اقترب) في محل نصب خبر يكون، والمصدر المؤول من (أن يكون) في محل نصب خبر (عسى) .

وعلى اعتبار (عسى) تامة يكون فاعلها المصدر المؤول من (أن يكون) واسم (يكون) يجوز أن يكون ضمير الشأن المحذوف وحينئذ يكون أجلهم فاعل اقترب ويجوز أيضاً أن يكون أجلهم اسم يكون، وفاعل اقترب حينئذ ضمير يعود على أجلهم المتأخر لفظاً المتقدم رتبة.

وأيًّا كان الإعراب في (أنْ) المخففة من الثقيلة وما دخلت عليه في تأويل مصدر يكون في محل جر بالعطف على ملكوت المجرور بفي، ولأن عسى فعل جامد لا يؤخذ منها مصدر يقدر المصدر من الكون على معنى أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وكينونة عسى أن يكون قد اقترب أجلهم.

الآية الثانية التي وردت فيها صيغة (ألم ينظروا) قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (ق:6) .

همزة الاستفهام في هذه الصيغة الواردة في هذه الآية للإنكار والتوبيخ:

ص: 427

ينكر الله سبحاله وتعالى على الكافرين بالبعث ويوبخهم أن لم ينظروا بعيونهم نظراً يصحبه التدبر والتفكر إلى هذه السماء فوقهم عاليةً بعيدة في علاها، من غير أن تقوم على عمد، قد أحكم بناؤها فلا فطور ولا فروج ولا اضطراب، وهى مع ذلك جميلة رائعة الجمال، تزينها أشعة شمس الصباح فتملأ الأعين وتأخذ بمجامع القلوب، وتزينها أشعة شمس الغروب فتذهب النفس معها كل مذهب، ويطير الخيال وراءها كل مطار.

وللسماء بين هذه وتلك وجه مشرق وضيء يملأ الكون صفاء وبهاء.

وفي الليل- وما أجمل ليل السماء، وما أجمل سماء الليل- يزينها لألاء النجوم، وبسمات الكواكب، وأشعة القمر، فلا تمل منها عين ولا يروى بصر، يود الناظر إليها أن يطير وراء كل نجم، وأن يسبح معها في كل فلك.

لقد كان بناء هذه السماء وتزيينها بالشمس والقمر والكواكب من أعظم الدلائل على أن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، فما لهؤلاء الكافرين بالبعث لا يفكرون ولا يعقلون، إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

أما إعراب هذه الآية: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ ُفرُوجٍ} فسهل واضح في الكلمات الأولى (أفلم ينظروا إلى السماء) .

ص: 428

وأما إعراب ما جاء بعد ذلك فـ (فوقهم)(فوق) ظرف مكان منصوب وعلامة نصبه فتحة ظاهرة على آخره، وهو متعلق بمحذوف حال من السماء، فوق مضاف وهم مضاف إليه مبني على السكون في محل جر بالإضافة. و (كيف بنيناها)(كيف) اسم استفهام مبني على الفتح في محل نصب حال من (ها) في بنيناها و (بنيناها) مكونة من فعل ماض (بنى) مبني على السكون لاتصاله بضمير رفع متحرك لا محل له من الإعراب. و (نا) ضمير مبني على السكون في محل رفع فاعل. و (ها) ضمير مبني على السكون في محل نصب مفعول به. وجملة (كيف بنيناها) في محل جر بدل من السماء وهو بدل اشتمال، والمعنى أفلم ينظروا إلى السماء كيفية بنائنا لها.

(وزيناها) الواو عاطفة، وإعراب (زيناها) كإعراب (بنيناها) .

(وما لها من فروج) الواو للحال، و (لها) جار ومجرور يتعلقان بمحذوف خبر مقدم و (من) حرف جر زائد، و (فروج) مجرور بمن وعلامة جره كسرة ظاهرة على آخره. وفروج المجرور بمن مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه ضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها الكسرة التي أتي بها لمناسبة حرف الجر الزائد، وجملة (مالها من فروج) في محل نصب على الحال من (ها) في (زيناها) .

أختي العزيزة هل:

قبل أن أختم هذه الرسالة أحب أن أنبهك على أشياء:

أحدها: قد تقدم في إعراب قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} أن (من) حرف جر زائد، وأحب أن أنبهك هنا على أن هذه الزيادة لا تعني أن هذا الحرف الزائد حشو في الكلام، دخوله فيه كخروجه منه، ولكنها اصطلاح نحوي يعني ثلاثة أشياء:

أحدها: أن المعنى الأساسي للجملة يتم بدون هذا الحرف الزائد.

الثاني: أن هذا الجار الزائد لا يحتاج إلى متعلق.

الثالث: أن مجرور هذا الحرف الزائد له حركة إعرابية غير هذه الكسرة التي جاءت لمناسبة حرف الجر الزائد.

ص: 429

هذا الذي سماه أهل النحو زائدا لا بد منه عند أهل البلاغة، عند من يتذوقون أساليب القول الرفيع، ويتعرفون وجوه البيان المشرق.

فالإتيان بهذا الحرف الزائد في هذا المكان من قوله تعالى يفيد نفي الجنون عن الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم والشمول نصاً لا يقبل أي احتمال. والحال التي كان عليها كفار مكة من وصفه صلى الله عليه وسلم كذبا وبهتانا بالجنون أكثر من مرة، حالهم تلك تقتضي مثل هذا القول، وقد سبق بيان مثل هذا في قوله تعالى:{أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} وذلك في الصيغة الثانية عشرة وفي الرسالة السادسة من هذه الرسائل.

الثاني: التعبير عنه صلى الله عليه وسلم (بصاحبهم) في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} كان تعبيرا عميق الدلالة فالج الحجة، كأنما هو يقول لكفار قريش: إن طول مصاحبتكم لهذا الرسول، واطلاعكم الكامل على أحواله، وتجاربكم الطويلة المتنوعة معه، كل أولئك قد أثبت لكم صدقه في الحديث، ورجاحة عقله في تصريف الأمور. فمن أين يجيئه الجنون يا بله التفكير ويا عمي البصائر.

الثالث: قد تقدم في هذه الرسالة بيان معنى الاستفهام في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} وأحب أن أنبهك هنا على أن الأوضح والأرجح- في رأيي- أن يتعلق الجار والمجرور (في أنفسهم) بالفعل (يتفكروا) على اعتبار أن الأنفس ظرف للتفكر.

ولأن التفكر لا يقع إلا في القلوب والأنفس كان (في أنفسهم) زيادة تصوير وتوكيد للتفكر، ومن هذا الأسلوب قولك اعتقده في قلبك وأضمرْه في نفسك، وأبصرْه بعينك واسمعه بأذنك.

ص: 430

وعلى هذا الاعتبار المتقدم يكون متعلق التفكر ومفعوله والشيء الذي وبخوا على عدم التفكر فيه هو ما تضمنه قوله تعالى بعد ذلك: {مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً} .

الرابع: ذهب الجلال المحلي في تفسير الجلالين [8] إلى أن الاستفهام في قوله تعالى:

{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} ذهب إلى أن هذا الاستفهام للتقرير على معنى أنهم نظروا وعلموا ما ذكر. وليس هذا بصحيح لأنهم لو نظروا إلى ما تضمنته الآية الكريمة نظرا دقيقاً متدبراً، وعلموه علم اليقين لآمنوا بقدرة الله تعالى على البعث، ولصدّقوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

والحق أن هذا الاستفهام للإنكار والتوبيخ على المعنى الذي تقدم بيانه.

أختي العزيزة هل:

لقد آن أن أقول وداعا، فأقول وداعا، وأسأله جل وعلا أن يعين على رسالة قادمة أكتبها إليك يكون فيها النفع والسداد. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.

أختك

همزة الاستفهام

المراجع

مراجع الصيغ الواردة في هذه الرسالة:

1-

مراجع (ألم يهد) وهي الصيغة الخامسة عشرة:

أ- البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (السالف الذكر) :

ج4 ص 349/ ج6 ص 288.

ب- تفسير أبي السعود- الناشر: مكتبة ومطبعة محمد عبد الرحمن محمد بالقاهرة: ج3 ص 254/ ج6 ص 48/ ج7 ص87.

جـ- تفسير ابن كثير (السالف الذكر) : ج2 ص 234/ ج3 ص170/ ج3 ص463.

د- الكشاف للزمخشري (الناشر: الحلبي بمصر) : ج2 ص 99/ ج ص 558.

هـ- الفتوحات الإلهية (السالف الذكر) : ج2 ص 169/ ج3 ص 116/ ج3 ص420.

و تفسير القرطبي (الطبعة الثالثة المصورة عن طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة) : ج14 ص 110.

ص: 431

ز- تفسير الجلالين (هامش الفتوحات الإلهية المتقدم ذكره) ج2 ص 169.

2-

مراجع الصيغة السادسة عشرة وهي: (ألم يتفكروا) :

أ- البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (السالف الذكر) : ج4 ص 431/ ج 7 ص163.

ب- تفسير أبي السعود (السالف الذكر) : ج3 ص298/ ج7 ص 51.

جـ- الفتوحات الإلهية (السالف الذكر) : ج2 ص 215/. ج3 ص 386.

د- الكشاف للزمخشري (السالف الذكر) : ج3 ص 215.

3-

مراجع الصيغة السابعة عشرة وهي: (ألم ينظروا) :

أ- البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي: ج4 ص 432.

ب- تفسير أبي السعود: ج3 ص 299.

جـ - الفتوحات الإلهية: ج2 ص 215/ ج4 ص 191.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي- الناشر: مكتبة ومطابع النصر الحديثة بالرياض- ج4 ص 349.

[2]

الفتوحات الإلهية المعروفة بحاشية الجمل على الجلالين- الناشر الحلبي بمصر- ج2 ص 169.

[3]

تفسير ابن كثير- الناشر: الحلبي بمصر- ج2 ص 234.

[4]

تفسير الطبرى- الطبعة الثالثة- الناشر: الحلبي بمصر: ج9 ص 9.

[5]

حاشية الدسوقي على مغني اللبيب- الناشر: مكتبة ومطبعة المشهد الحسيني: ج2 ص 57.

[6]

حاشية ياسين على التصريح- الناشر: دار الفكر/ بيروت: ج1 ص 268.

[7]

تفسير ابن كثير (السالف الذكر) : ج3 ص463.

[8]

تفسير الجلالين (هامش الفتوحات الإلهية السالف الذكر) ج4 ص 191.

ص: 432

بحث في صيغة "أفعل"

(بين النحويين والغويين واستعمالاتها في العربية)

الدكتور مصطفى أحمد النماس

المدرس بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر

حسّ وأحسّ [1]

تقول: أحس الرجل بالبرد، وأحس الرجل البرد بمعنى شعر به وتقول أحس الحنان والتقدير من صديقه أو أحس بالحنان بمعنى شعر به أو علمه أو عرفه أو ظنه أو تيقنه ويجوز أن نستعمل بهذا المعنى الفعل الثلاثى المجرد فنقول: حس الرجل البرد، وحس الرجل بالبرد إلا أن بعض اللغويين يتزمت فيمنع هذا وحجته أن ما ورد في القرآن بهذا المعنى هو الثلاثي المزيد لا المجرد قال الله تعالى:{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ} ، وقال تعالى:{فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا} وقال تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} ولم يأت الثلاثي المجرد بهذا المعنى بل ورد بمعنى القتل أو القطع قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} فالمعنى تقتلونهم وتأتون على إحساسهم فلا تبقون لهم حسا وبهذه الحجة يمنعون أن نقول بعض المشتقات من المادة الثلاثية المجردة فلا تقل على رأيهم: حاسَّة: اسم فاعل من حسَّ وجمعها حواس للسمع والبصر والشم والذوق واللمس ويسمونها المحسات ويمنعون كذلك اسم المفعول محسوس وجمعه محسوسات ولا يجيزون إلا المحس وجمعه المحسات لأنهم لا يجيزون المادة الثلاثية بل لا يستعملون في هذه الأغراض إلا الفعل المزيد بالهمزة وكأنهم رفضوا استعمال الثلاثي.

ص: 433

ودحض حجتهم هذه أن القرآن الكريم هو الحجة في فصاحة اللغة وبلاغتها ولكن لاشك أنه لم يستوعب كل كلماتها، كما أنه لم يستعمل كل كلمة في معانيها اللغوية فإذا ترك كلمة ما لا يكون دليلا على عدم فصاحتها وكذلك إذا استعمل كلمة في معنى وترك بعض المعاني الأخرى لا يكون دليلا على حظر المعاني الأخرى ولقد جاء الفعل الثلاثي المجرد من هذه المادة في لغة العرب بمعاني غير القطع والقتل والذي يعنيني استعمال الثلاثي المجرد بمعنى الشعور وما يتصل به من العطف والتوجع قال الشاعر الجاهلي السفاح بن خالد التغلبي [2] .

ولا حَسُّوا بنا حتى اعتلينا

فَلَبَّيْتُ الصريخَ ولم يَرونا

فالمعنى فيه ولا شعروا بوجودنا حتى هجمنا عليهم، ومن ذلك قول الكميت بن زيد الأسدي

أو يبكى الدار ماء العبرة الخضل

هل من بكى الدار راجٍ أن تحس له

فالفعل تحس بفتح التاء مضارع من الفعل الثلاثي المجرد فإذا فسرناه بمعنى ترق له وتعطف عليه فهو من معاني الشعور.

وأيضا حديث قتادة كما في اللسان [3]"إن المؤمن ليحسّ للمنافق " أي يعطف عليه أو يتوجع له فبان بذلك ضعف الرأي الآخر الذي أنكر الثلاثي من هذه المادة وأن استعمال المصدر الذي هو الحس من الثلاثي والمصدر من المزيد هو الإحساس ويدل كذلك على أن كثيرا من الأفعال العربية يأتي الثلاثي المجرد والثلاثي المزيد بالألف بمعنى واحد أي أن فعل وأفعل بمعنى واحد وهو ما يقول به كثير من العلماء وأمثال الزجاج في كتاب فعلت وأفعلت ولذا كان قول ثعلب في كتاب الفصيح "والعامة تقول: حسست الشيء في أحسست وهو خطأ "دعوى من غير دليل.

أثمر:

وفي شفاء الغليل ص 21 أثمر يكون لازما وهو المشهور الوارد في الكتاب العزيز ولم يتعرض أكثر أهل اللغة لغيره: وورد متعديا كما في قول الأزهري في تهذيبه يثمر ثمرا فيه حموضه، وكذا استعمله كثير من الفصحاء كقول ابن المعتز:

ص: 434

فأسقيته أجْفاني بسح وقاطرِ

وغرس من الأحباب غيبت في الثَّرى

لقلبي يجنيها بأيد الخواطر

فأثمر همًّا لا يبيد وحسرة

وقال ابن نباتة السعدي:

إذا ما كان فيها ذا احتيال

وتثمر حاجة الآمال نحجا

وقال محمد بن شرف وهو من أئمة اللغة:

فروعها قطر الندى نثرا

كأنما الأغصان لما علا

زبرجد قد أثمر الدرا

ولاحت الشمس عليها ضحى

وقول ابن الرومي: سيثمر لي ما أثمر الطلع حائط.. إلى غير ذلك مما لا يحصى وهكذا استعمله الشيخ في دلائله والسكاكي في مفتاحه، ولما يره كذلك شراحه.

قال الشارح استعمل الاثمار متعديا بنفسه في مواضع من هذا الكتاب فلعله ضمنه معنى الإفادة أو جعله متعديا بنفسه ولو قيل إن تعديه إلى مفعوله كثر حتى صار كاللازم له لما دل عليه، ولذا يذكر أن لم يكن كذلك لم يبعد ألَا تراك إذا قلت: أثمرت النخلة علم أنها أثمرت بلحا ونحوه.....

أخضر:

استعمل مدحا بمعنى مخضب رحب الجنان وكان يقال للفضل بن العباس رضي الله عنه الأخضر قال: ـ

أخضر الجلدة في بيت العرب

وأنا الأخضر من يعرفني

وذما بمعنى لئيم لا يأكل إلا البقول:

فويل لتيم من سرابيلها الخضر

كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها

حصيت وأحصيت:

يقال حصيت إذا عددته وأحصيته إذا ميزته بعضه من بعض قال الشاعر:

ونحصى الحصاة بل يزيد على العد

ويربى على عد الرمال عديدنا

والحصاة العقل أيضا قال الشاعر وهو طرفة بن العبد:

حصاة على عوراته لدليل

وإن لسان المرء ما لم تكن له

ويقال أحصيت الشيء إذا أطقته واتسعت له وقال الله عز اسمه:

{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أراد والله أعلم لن تطيقوه- وقال الشاعر:

ولا تطيق علاهم أيةً وقعوا

فاقعد فإنك لا تحصي بنى جشم

يريد لا تطيق بني جشم.

ص: 435

ومما يحتمل هذه المعاني قول الرسول صلى الله عليه وسلم "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدة إنّه وتْر يحب الوتْر من أحصاه دخل الجنة".

قال محمد بن يزيد المبرد: " معناه عندي من عدها من القرآن لأن هذه الأسامي كلها مفرقة في القرآن فكأنه أراد من تتبع جمعها وتأليفها من القرآن وعانى في جمعها من الكلفة والمشقة دخل الجنة" انظر تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص 24.

ما جاء على أفعل ثم أميت

وقد استعمل العرب بعض الأفعال على وزن أفعل أصلا ولكنهم عدلوا عن الأصل وجعلوه ملحقا بالرباعي فأصبح ملحقا بغيره في الاستعمال بعد أن كان أصلا قال السيوطي في المزهر [4] واستعمل (الهث) ثم أميت وألحق بالرباعي في الهثهثة وهو اختلاط الأصوات في الحرب أو في صخب قال الراجز (العجاج) :

فهثهثوا فكثر الهثهاث

وأمراء قد أفسدوا فعاتوا

واستعمل (الجع) ثم أميت وألحق بالرباعي في جعجع والجعجعة القعود على غير طمأنينة، واستعمل (القح) ثم أميت وألحق بالرباعي فقيل القحقح وهو العظم المطيف بالدبر واستعمل الكح ثم أميت وألحق بالرباعي فقيل كحكح وهو الناقة الهرمة التي لا تحبس لعابها واستعمل (ألذع) ثم أميت وألحق بالرباعي فقيل ذعذع الشيء إذا فرقه.

أفعل فهو فاعل [5]

المعروف أن صيغة فاعل إنما تصاغ من الثلاثي المتصرف ويكون كثيرا مطردا من الفعل المفتوح العين سواء كان متعديا أو لازما ومن مكسور العين المتعدي إما مضموم العين أو مكسورها اللازم فهو قليل وقد وردت صيغة فاعل من الرباعي الذي على وزن أفعل في بعض المواد سماعا.

قال في الغريب المصنف لم يجىء أفعل فهو فاعل إلا ما قال الأصمعي: أبقل الموضع فهو باقل من نبات البقل، وأورس الشجر فهو وارس إذا أورق ولم يعرف غيرها.

ص: 436

وزاد الكسائي: أيفع الغلام فهو يافع- قلت: وفي الصحاح بلد عاشب ولا يقال في ماضيه إلا أعشبت الأرض وفيه أقرب القوم إذا كانت إبلهم قوارب فهم قاربون ولا يقال مقربون قال أبو عبيد وهذا الحرف شاذ وفي أمالي القالي: القارب: الطالب للماء، يقال قربت الإبل وأقربها أهلها. قال الأصمعي فهم قاربون ولا يقال مقربون وهذا الحرف شاذ وقال القالي: إنما قالوا قاربون لأنهم أرادوا: ذو قرب وأصحاب قرب ولم يبنوه على أقرب.

وقال السيوطى في المزهر: ليس في كلامهم أفعل فهو فاعل إلا أعشبت الأرض فهي عاشب، وأورس الرمث وهو ضرب من الشجر إذا تغير لونه عن البياض فهو وارس وأيفع الغلام فهو يافع، وأبقلت الأرض فهي باقل وأغضى [6] الليل فهو غاض، وأمحل البلد فهو ماحل.

أفعله فهو مفعول [7]

صيغة مفعول إنما تصاغ من الثلاثي التام المتصرف سواء كان متعديا أم لازما ويشترط مع اللازم أن توجد معها واسطة من جار ومجرور أو غيره تقول محمد محفوظ بعناية ربه وأنت ممرور بك، ومنهوب إليكْ، وقد وردت صيغة مفعول من غير الثلاثي الذي على وزن أفعل من المواد الآتية:

ولم يأت أفعله مفعول إلا أجنه فهو مجنون وأزكمه فهو مزكوم، وأحزنه فهو محزون وأحبه فهو محبوب.

وقال ابن جني في الخصائص باب نقض العادة: ونحو ذلك ما جاء عنهم من أفعلته فهو مفعول وذلك نحو أحببته فهو محبوب، وأجنه فهو مجنون وأزكمه فهو مزكوم. وأكزه فهو مكزوز، وأقره فهو مقرور، وآرضه آلة فهو مأروض، وأملأه الله فهو مملوء. وأضأضه فهو مضؤود، وأحمه الله فهو محموم، وأهمه (من الهم) فهو مهموم، وأزعقته فهو مزعوق أي مذعور. ومثله ما أنشدناه أبو علي من قوله (وهو خفاف بن ندبة)

جرى وهو مودوع [8] واوعد مَصْدَق

إذا ما استحمت أرضه من سمائه

ص: 437

وأما أحزنه الله فهو محزون فقد حمل على هذا غير أنه قال أبو زيد يقولون إلا يحزنني (بفتح الياء) ولا يقولون حزنني إلا أن مجىء المضارع يشهد للماضي فهذا أمثل ما مضى- وقد قالوا فيه أيضا محزن على القياس ومثله قولهم: محب منه بيت عنترة:

مني بمنزلة المحب المكرم

ولقد نزلت فلا تظني غيره

ومثله قول الأخرى هند بنت أبي سفيان أخت معاوية رضي الله عنهما وهي ترقص ابنها عبد الله:

مكرمة محبَّةْ تحب أهل الكعبةْ

لأنكحنّ ببة: جارية خِدبةْ

وقال الآخر:

يأتيك منهم خير فتيان العرب

ومن يناد آل يربوع يجب

المُنكْبُ الأيمن والرَّدف المحب

والملحوظ أن أحزنه جاء الثلاثي منه وإن قرن بالمزيد استغناء به عن وصفه، وما قبله ليس في هذا المعنى.

وهذه مجموعة من الأفعال تكلم فيها بأفعلت أو اختير فيها أفعلت على فعلت كما وردت في كتاب فعلت وأفعلت للزجاج: أبنّ بالمكان أقام. وأبرَّ على القوم غلبهم. وأبدع في الأمر إبداعا أتى فيه ببدعة، وأبطا القوم صارت إبلهم بطاء وأبلد القوم صارت إبلهم بليدة، وأبلق الفحل إذا ولد له ولد أبلق.

أتلد الرجل إذا كان له مال تليد أي قديم: وأتأرت الرجل بصري إذا أتبعته بصرك..

وأتأمت المرأة وهي متئم إذا ولدت ولدين في بطن

وارتفتْ فلانا من الترفة وأتمر القوم إذا كثر تمرهم، وأتعب القوم أي تعبت ماشيتهم، وأترعت الإناء ملأتة فهو مترع.

أثغم الوادي صار فيه الثغام وهو شجر أبيض النَّوْر ويشبه به الشيب، ويقولون أثغم رأس الرجل صار كالثغامة وأثغر الشراب صار فيه الثغر

وأثلج الرجل إذا حفر بئرا فبلغ الطين.

ص: 438

أجذى سنام البعير في أول ما يبدو، وأجمل القوم كثرت جمالهم، وأجنت الأرض كثر جناها، وأجاد الرجل صار له فرس جواد

وأجرب الرجل صارت له إبل جربى، وأجرز الرجل صار في أرض جرز وهي التي لا تنبت شيئا وأجها القوم انكشفت لهم السماء. وأجدلت الظبية وجدلت وجذبت إذا مشى معها ولدها.

أحمص القوم أكلت إبلهم الحمص

وأحمق الرجل فهو محمق إذا ولد له ولد أحمق، وأحمر الرجل إذا ولد له ولد أحمر وأحذيت الرجل نعلا

وأحلبت الرجل أعنته على الحلب وأحبينا الأرض وجدناها حية النبات غضة.. وأحوب الرجل إلى الحوب وهو الإثم.

آدمّ الرجل ولد له ولد دميم وهو الصغير الخَلْق. وأدبت الأرض فهي مدبية إذا كثر فيها الدّبا وهو صغار الجراد وأدمن الرجل على الشيء إذا داومه

وأدهيت فلانا وجدته داهيا.

أذعن الرجل بالطاعة ألزمها نفسه

وأذكرت المرأة ولدت ذكرا

وأذمّ الرجل ولد له ولد مذموم، أو فعل فعلا مذموما

وأذدت الرجل أعنته على ذياد إبله، وأذممت الرجل وجدته مذموما.

أرعت الأرض وهي مرعية خرج منها المرعى، وأسكن رعيها وهو الكلأ. وأركب المهر أمكن أن يركب

وأرهمت السماء مطرت مطرا ضعيفا، وأربع القوم دخلوا في الربيع. وأربع الرجل ولد له في شبابه وولده ربعيون وأردع الرجل حفر بئرا فرأى تباشير ماء كثير. وأرتعت الأرض إذا شبعت فيها الماشية.

أزمع الرجل على الأمر أي عزم عليه واجتمع رأيه فيه.... وأزحف القوم للقوم صاروا لهم زحفا يقاتلونهم وقال العجاج: مثلين ثم أزحفتْ وأزحفا.

أسمن القوم وهم مسمنون إذا كثر سمنهم وكذلك إذا كثرت ماشيتهم

وأسنت القوم أصابتهم السنة وهي الجدب

وأسهل القوم صاروا إلى السهولة

وأسبقت الناقة ولدت ولدا ذكرا

وأسنهنا وأسنينا دخلنا في السنة

وأسنعنا وأسوعنا انتقلنا من ساعة إلى ساعة، وأسهب الرجل في منطقه بلغ في القول ما كثر

وحفر الرجل فأسهب أي بلغ الرمل.

ص: 439

أشفى فلان فلانا عسلا إذا جعله له شفاء

وأشهب الفحل ولد له الشُهُب

أشب شب ولده وأشب الرجل بنيه إذا صاروا شبانا

وأشحم القوم كثر شحمهم

وأشهر القوم أتى عليهم الشهر.

أصرّ الرجل بأنفه إذا شمخ

وأصبت المرأة فهي مصب ومصبيه إذا كان أولادها صبيانا وأصعبت الأمر وافقته صعبا، وأصممت الرجل وجدته أصم، وأصهب الفحل إذا ولد له الصُّهب.

أضب الرجل على ما في نفسه إذا أقام على الحقد، وأضب يومنا كثر ضبابه وأضأن القوم كثرت غنمهم الضأن وأضال المكان كثر فيه الضال وهو السدر البرئ وقيل أضيل المكان مثله.

طيب الرجل وأطيب ولد له ولد طيب

وأطاب الرجل جاء بأمر طيب..... وأطنب الرجل في الشيء إذا بالغ في صفتهِِ وأطلى الرجل مالت عنقه، وأطردت الرجل جعلته طريدا أظهر القوم دخلوا في وقت الظهر

وأظلموا ادخلوا في الظلمة.

أعرب الرجل صار صاحب خيل عراب وهو معرب قال الجعدي:

يّ صهيلا تبين للمعرب

ويصهل في مثل جوف الطوّ

وأعرب الفرس صهل فتبين بصهيله أنه عربي.... وأعوهوا إذا دخلت إبلهم العاهة

وأعوز الشيء إذا عز فلم يوجد

وأعطن القوم إذا عطنت إبلهم وأعشب المكان إذا نبت عشبه، وأعشب الرائد إذا صادف عشبا قال أبو النجم:

يقلن للرائد أعشبت انزل

أغزر لبن الرجل كثر لبنه

وأغد القوم أصابت إبلهم الغدة

وأغفى الرجل نام..... وأغم الرجل.

أفردت الرجل جعلته فريدا

وأفقر المهر أمكن أن يركب، وأمشى القوم كثرت ماشيتهم

وأفرضت إبل فلان صارت فيها الفريض.... وقد أفلى الرجل ركب فلوا من الخيل. وأفجر الرجل جاء بالغدر والفجور.

ص: 440

أقمر القوم دخلوا في ضوء القمر

وأقلص البعير إذا بدا سنامه يخرج.... وأقطف الشيء حان قطافه.... وأقفر المنزل خلا.... وأقلقت الناقة قلق جهازها وهو ما عليها من قتبها وآلتها.... وأقوى الرجل صارت إبله قوية وأقطف النخل إذا كانت دانية قطوفها.... وأقرح القوم صارت إبلهم قرحى

وأقتلت الرجل عرضته للقتل وأقدمت الرجل تقدمت عليه.... وأقدت الرجل خيلا جعلت له خيلا يقودها.

أكثر الرجل وهو مكثر، وأكشف القوم صارت إبلهم كشفا والكشف جمع ناقة كشوف والكشوف هي التي يحمل عليها في كل سنة

وأكلب الرجل أصاب إبله الكلب.... وأكاس الرجل ولد له أولاد أكياس.. وأكفر البعير إذا ابتدأ سنامه يخرج.... وأكسد القوم إذا كسدت سوقهم.

ألأم الرجل مهموزا أتى باللؤم في أخلاقه

وألام فعل ما يلام عليه.- وألمحت المرأة إذا ملت في النظر إليها وألهج الرجل لهجت فصاله بالرضاع، وألحم الرجل كثر عنده اللحم.

أمضغ اللحم استطيب وأكل، وأمات القوم وقع إبلهم في الموت

وأمغل القوم إذا مغلت شاؤهم وهو أن يتوالى حملها في كل سنة.... ويقال أمكنت الطير إذا كثر بيضها

وأمخّ العظم صار فيه المخ

وأملحت الإبل وردت ماء ملحا.... وأمعز الرجل كثرت غنمه المعزى.

أنفق القوم نفقت سوقهم، وأنهل إبله والنهل أول الشرب وأنشط القوم نشطت ماشيتهم، وأنتجت الخيل حان نتاجها، وأنوكت الرجل وجدته أنوك

وأنقى القوم صارت إبلهم ذات نقة وهو المخ، وأنزع القوم نزعت إبلهم إلى أوطانها، وأنحز القوم أصابت إبلهم النحاز وهو ضرب من السعال.... وأنعمت الريح هبت نعامى وهي الجنوب.

أهيج الرجل الأرض وجد نبتها قد هاج أي يبس قال رؤية:

وأهيجَ الخلصاءَ من ذات البرَق

وأهملت الشيء إذا تركته

وأهزل القوم إذا أتى الهزال في ماشيتهم.

ص: 441

أوقف له الشيء إذا ارتفع ويقولون ما يوقف لفلان شيء إلا أخذه

وأوشى القوم كثرت غنمهم وأوصبوا أصاب أولادهم الوصب وهو المرض

وأوسع القوم صاروا إلى السعة

وأوعثوا وقعوا في الوعوثة

وأوفر النخل كثر حمله.

أهلك الله لهذا الأمر جعلك الله له أهلا

وآسدت الكلب أغريته بالصيد

وآد الرجل كثرت عنده آلة الحرب وآتيته الشيء أعطيته

وآلى حلف.

أيسر الرجل صار موسرا

وأيبس القوم صاروا إلى مكان يابس

وأيمن الرجل إذا قصد نحو اليمن.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

انظر تصحيح الفصيح ج1 ص297.

[2]

انظر الأنوار ومحاسن الأشعار ص257.

[3]

انظر اللسان (حسّ) ، تصحيح الفصيح ج1 ص298.

[4]

انظر المزهر ج2 ص46.

[5]

انظر المزهر ج2 ص76، وأدب الكاتب لابن قتيبة ص635 وإصلاح المنطق ص305 والمزهر ج2 ص82.

[6]

أغضى الليل: أظلم فالليل مغض لغة قليلة، والخصائص ج2 ص215.

[7]

انظر المزهر ج2 ص82، والخصائص ج2ص216، وأدب الكاتب ص636 تحت باب في شواذ التصريف.

[8]

قوله مودوع مفعول من ودعه أي تركه والملحوظ أن الثلاثي منه قد ترك استغناء بترك.

ص: 442

منهج في دراسة المنهج

للدكتور أحمد بسام ساعي

أستاذ مساعد بكلية اللغة العربية

يشكو البحث العربي الراهن، ولاسيما الإنساني منه، مثلما تشكو الموضوعات التي يتخذها مادة له، من انحسار القاعدة والمنهج انحساراً خطيراً يتنافى مع ما تتجه إليه الإنسانية في خطها العام من دقة وموضوعية ومنطق، وهذه الصفات ترتبط بكل خطوة من خطواتها التي يعوّل عليها وحدها في تطور هذه الحضارة، دون الحضارات المزيفة الأخرى التي تواكبها، والتي تتطفل على مائدة العلم والحضارة، حتى تكاد تستأثر بها، لولا أثارة من أصالة الحقيقة التي تتسلح بها تلك الخطوات الأصيلة الأولى المعوّل عليها.

وهكذا تزخر المكتبة العربية الحديثة بركام من الكتب التي يبهرنا منظرها، وتكاد مظاهرها المدلسة، وأغلفتها المتبرجة، وحروفها المتأنقة، وأوراقها السميكة، تعشي عيوننا عن إبصار حقيقتها أو استكناه باطنها، وإدراك غثاثة ما فيها، وفقدانها لأبسط شروط الأبحاث، من منهجية، ودقة، وأمانة، وقدرة على التحليل والاستنتاج والإبداع، وقدرة على التعبير عن كل ذلك بلغة أمينة واضحة، مما يسهم إسهاماً حقيقياً في حركة التطور البشرى ودفعها إلى الأمام.

ص: 443

ورغم الدراسات الجادة التي قدمتها خلال الأربعين سنة الأخيرة أقلام عربية رصينة في مجال التنظير للبحث، ورغم اطراد افتتاح فروع الدراسات العليا في الجامعات والمعاهد العربية، مما يسهم في إيجاد مناخات طيبة للبحث العلمي وقواعده وأصوله، ورغم أن مادة "منهج البحث" قد عدّت إحدى المواد الأساسية التي يدرسها الطالب في معظم هذه الجامعات، إن لم أقل كلها، على الرغم من ذلك مازلنا نشهد الانحراف المنهجي في كتابة البحوث- أو ما كان يرجى لها أن تكون كذلك- يزداد اتساعا يوماً بعد يوم، مما يشعرنا باطراد الحاجة، مع اطراد حركة البحث والتأليف، إلى تدارك النقص فيما نظرته أو ترجمته أقلام المنهجيين الرواد حتى الآن في طرائق البحث وأصوله وآدابه.

ويجدر بي هنا أن أنبه- بأسف- إلى غياب المصطلح المنهجي، ليس عند الباحثين العاديين فحسب، بل حتى عند بعض من ألف في مناهج البحث، ومن المؤلم حقا أن تزين واجهات مكتباتنا التجارية مثلا نسخ من مؤلف وضع في "البحوث الأدبية، مناهجها ومصادرها"ثم نجد واضعه وقد عجز عن التمييز بين "منهج"البحث و "خطته"فخلط بين المصطلحين، وطبعيّ أن لا يستطيع بعد ذلك الخلوص إلى شيء مما يفيد الباحث، إن لم أقل إنه يشكل- باضطرابه المنهجي وفوضاه الفكرية- ضرراً حقيقيا على طلاب مادة "منهج البحث "إن وقع في أيديهم، وعلى رأسهم الطلاب الذين قام المؤلف بإلقاء فصول كتابه عليهم في إحدى جامعاتنا.

ونحمد الله على أن مثل هذا المؤلَّف قليل في مكتبة منهج البحث العربية، وأظن من المفيد أن أعرّف تعريفاً سريعاً بأبرز كتبها، وأكثرها عمقاً وإحاطة ومنهجية، قبل أن أنطلق إلى بقية حديثي [1] وإن كنت سأقتصر في تعريفي على الكتب التي وصلت إلى يدي، غير غافل عن وجود عدة من الكتب في هذا الباب قد تحتل مكانة هامة فيه، مما لم أتمكن من الوصول إليه في فترة كتابتي لهذا البحث. وهذه الكتب هي تبعاً لدرجة أهميتها عند الباحث المبتدئ:

ص: 444

1-

"البحث الأدبي " لشوقي ضيف: وهو أكثر مؤلفات مكتبة منهج البحث العربية إحاطة وشمولاً دون منازع، وضعه مؤلفه عام 1973 وجمع فيه حصيلة لخبرة عشرات من السنين قضاها في التدريس الجامعي والإشراف على الرسائل الجامعية ومناقشتها، وفي وضع ما يقرب من ثلاثين مؤلفاً أحاط فيها بشتى جوانب الثقافة العربية، الأدبية واللغوية والنقدية، وكان له من كل ذلك تجارب وافرة في ((المنهج)) سمحت له بأن يحشد في كتابه كثيراً من الأخطاء الفكرية والمنهجية التي وقع فيها- أو يحتمل أن يقع فيها- الباحثون والمحققون على السواء، مسترسلاً في عرض الأمثلة وشرحها والتعليق عليها، حتى كاد أن ينقلب كتابه في كثير من المواضع إلى ركام من المعلومات التاريخية والأدبية التي تفيد كل باحث، ولكنها في الوقت نفسه تسيء بعض الشيء إلى منهجية الكتاب. مثلما أساء إليها إغفاله ذكر أيّ من مصادره أو مراجعه سواء في هوامش الكتاب أو ملحقاته. وهذا أدى بوجه من الوجوه، إلى اختلاط مادة المصادر بعضها ببعض في الكتاب. ساعد على ذلك إيراد المؤلف لآراء الباحثين - على تناقضها أو تباعدها أحياناً- مختلطة بآرائه. من غير أن يضعنا أمام الاتجاه الأكثر صواباً أو يدلنا على الرأي الذي يرجح على الآراء الأخرى.

إن أهمية الكتاب كانت جديرة بأن يظهر خلواً من تلك الهنات. وبأن يلحق به المؤلف فهارس بأسماء الكتب والأعلام والقضايا، لكثرة ما ورد وما تداخل في ثنايا فصوله من كل ذلك، ممّا تضيع درره بين ركام من التفصيلات والاستطرادات المتنوعة التي تحجب عنا الإفادة السريعة الميسورة من معظم الحقائق التي يسوقها إلينا في تلك الفصول.

ص: 445

2-

"منهج البحث في الأدب": أملية جامعية أصدرها الدكتور شكري عياد لطلاب الدراسات العليا بمعهد الآداب والثقافة العربية في جامعة قسنطينة (الجزائر) عام 1977. تدارك المؤلف فيها ما فات الآخرين غالباً فيما يتعلق بالتحقيق أو بالدراسة الأدبية وعلاقاتها بالدراسات التاريخية. فدرس جوانب جديدة في هذا الاتجاه بعمق لم تعرفه أي من الدراسات العربية التي وضعت حتى الآن في هذا الباب، وأضاء كثيراً من الكوى حول كتب المصادر العامة والموسوعات، وطبيعة المنهج ومادته، وتحقيق كل من النصوص المروية أو المخطوطة أو المطبوعة، وكذلك فحص الوقائع التاريخية وتحقيقها والتأكد من صحتها من خلال الاستعانة بالموسوعات المتخصصة وكتب التراجم وكتب الفهارس، وكشف أيضاً جوانب من الدراسة الخارجية والدراسة الداخلية للنص لم تزل مظلمة عند كثير من باحثينا.

2-

"منهج البحث الأدبي": ألفه الدكتور علي جواد الطاهر وطبع لأول مرة في بغداد عام 1970. وهو كتاب يمتاز بمقدمته وتمهيده الخصبين اللذين يعّرفان البحث والمنهج تعريفاً مفصلاً يقدم للقارىء- طالباً ومدرساً لمادة منهج البحث- كثيرا من الإضافات المفيدة الممتعة، كما يمتاز بـ "المراجع النافعة"التي ألحقها بكتابه سارداً فيها أسماء أهم الكتب العربية والفرنسية والإنجليزية مما يمكن أن يعود بالفائدة على القارئ في هذا الباب. ولكن ما ينحصر بين فاتحة الكتاب وخاتمته من فصول، لا يزيد عن دروس في آداب البحث، يتناول فيها اختيار الموضوع وتبييضه وطبعه على الآلة الكاتبة ثم في المطبعة، وهي دروس سبق أن بحثت في أكثر من كتاب عربي كما سنرى، وإن كان يسجل للمؤلف هنا تخصيصه جزءاً من أحد فصول الكتاب لحديث مفصّل مفيد عن الدرجات العلمية وأنواعها وأسمائها واختلافها بين أهم جامعات العالم.

ص: 446

4-

"منهج البحوث العلمية": وضعته ثريا عبد الفظاح ملحس ونشر في بيروت عام 1960، تدرس المؤلفة فيه وسائل البحث وأدواته وخطواته دراسة علمية، مستعينة بأمثلة توضيحية كثيرة، ويمتاز بمراجعه الأجنبية الكثيرة التي اعتمدتها المؤلفة وكلها إنكليزي، ومع ذلك فهو كتاب لا يضيف جديداً إلى كتاب الدكتور أحمد شلبي (كيف تكتب بحثاً أو رسالة) الذي نشره في القاهرة عام (1952) والذي يعد رائد الكتب العربية في هذا الباب، وهذا رغم حرص المؤلفة على أن تذكر في مقدمتها أنها تسعى إلى إضافة جديد في مكتبة مناهج البحث.

5-

"الاستقراء والمنهج العلمي": للدكتور محمود فهمي زيدان. نشر في الإسكندرية عام 1977، وهو كتاب غزير الفائدة في معرفة تاريخ الاستقراء وتطوره وأنواعه وطرق استخدامه في البحوث العلمية، وقد أفاد كثيراً من كتاب الدكتور محمود قاسم (المنطق الحديث ومناهج البحث) كما أفاد من كثير من المراجع الإنجليزية غير المترجمة إلى العريية. ولكن لغة الكتاب، التي كانت قاصرة في كثير من الأحيان عن التعبير بوضوح وسلامة عن أفكاره المترجمة، والأخطاء المطبعية الكثيرة التي وقعت فيه، تنال كثيراً من قيمته العلمية، وتحدّ من درجة الإفادة منه والتعويل عليه.

ص: 447

6-

"أصول نقد النصوص ونشر الكتب": محاضرات ألقاها المستشرق الألماني برجستراسر (Bergstraesser) على طلبة كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1931، ثم نشرها وقدم لها الدكتور محمد حمدي البكري في القاهرة عام 1969، وهو أول مؤلف يوضع بين أيدي المحققين العرب، يرشدهم إلى أصول تحقيق الكتب ونشرها، وينبههم إلى الأخطاء الكثيرة التي رافقت تحقيق الرواد من العرب لكتب التراث، ولكن الدكتور البكري ارتكب خطأ منهجياً كبيراً للكتاب حين أضاف إليه إضافات عديدة في الهامش وفي المتن، ليست من أصل الكتاب، دون أن يشير إلى ذلك في أماكنه أو في مقدمة الكتاب، ولولا معرفتنا تاريخ وضع الكتاب أو المحاضرات وتاريخ وفاة المؤلف (1932) لظنناها جزءاً من أصل الكتاب.

7-

"منهج البحث في الأدب"(تأليف غوستاف لانسون) و "منهج البحث في اللغة"(تأليف انطون ماييه) : وكلا المؤلفين فرنسي استجاب لطلب ناشر كتاب (De la methode sciences) فأعدّ كل منهما دراسة عن منهج البحث في اختصاصه لتكون جزءاً من الكتاب الموسوعي الكبير الذي خرج في جزءين من نحو ألف صفحة. وقد ترجم الدراستين إلى العربية الدكتور محمد مندور ونشرها في بيروت عام 1946، ثم ألحقها في الطبعات المصرية التالية بكتابه (النقد المنهجي عند العرب) .

والكتاب الأول (منهج البحث في الأدب) أكثر استحقاقاً لاسمه لأنه يتحدث باستيفاء وتركيز شديدين عن منهج البحث بوصفه علماً بحتاً، مع التركيز على الباحث التاريخي والباحث الأدبي خاصة، مما لا غنى عنه للدارس العربي إذ لا يحلّ محلّه كتاب آخر وضع بالعربية أو ترجم إليها. أما الكتاب الثاني (منهج البحث في اللغة) فهو في حقيقته أقرب إلى التمهيد لقواعد علم اللغة ونظرياته منه إلى وضع منهج عام للبحث اللغوي، وهذا على الرغم من أن الكتابين أعدّا لهدف عام واحد في الأصل كما قدمنا [2] .

ص: 448

ويجدر بنا هنا أن نميز بين أنواع الدراسات التي وضعت في موضوع منهج البحث، فبعضها انصرف إلى البحث العلمي، وبعضها إلى البحث التاريخي وآخر إلى البحث اللغوي، وكثير منها إلى البحث الأدبي، وانصرف بعضها إلى تحقيق الكتب والنصوص القديمة أو الحديثة، ولكن ما هو أكثر أهمية من ذلك اختلاف طبيعة هذه البحوث حتى ضمن الفرع العلمي أو الإنساني الواحد، فمن الضروري أن نميز فيها أيضاً بين ما كتب في (طرائق البحث) وما كتب في (آداب البحث) وما كتب في (أصول البحث) وهي مصطلحات لابد من التمييز بينها، خلافاً لما ذهب إليه الدكتور علي جواد الطاهر حين ساوى بينها وجعلها أسماء لمسمى واحد [3] . (فطرائق البحث) : وهو المصطلح الأجدر بأن يساوي مصطلح (منهج البحث) - تعني المناهج النظرية والفكرية والفنية التي يتبعها الباحث في إنشاء بحثه، والمنهج لغوياً، هو الطريق، فللباحث أن يتبع منهجاً نظرياً: فرضياً، أو استقرائياً تقليدياً، أو استقرائيا معاصراً، أو منهجاً فكرياً: تأثريا، أو موضوعياً أو مادياً أو إسلامياً أو تقريرياً، أو منهجاً فنياً: وصفيا أو تاريخيا أو نقدياً أو نفسيا أو اجتماعياً أو جمالياً أو بنيوياً أو تكاملياً

الخ.

أما (آداب البحث) فهي القواعد التنظيمية التي لابد من مراعاتها حين ممارستنا للمناهج المذكورة نظريا أو فكرياً أو منهجيا، وهي قواعد تهدي الباحث في جمعه لمادته وسعيه وراء مصادرها، ثم في طريقة الإفادة منها وتنظيمها وتبويبها وصياغتها وإخراجها بعد ذلك في بحث مخطوط فمطبوع، وأما (أصول البحث) فتعني القواعد السلوكية والأخلاقية التي يتخلّق بها الباحث في تعامله مع مصادره البشرية وغير البشرية، وكذلك قواعد الأمانة العلمية والتاريخية التي لابد أن يأخذ نفسه بها خلال كتابته للبحث.

ص: 449

(البحث الأدبي) لشوقي ضيف مثلا كتاب في طرائق البحث وآدابه وأصوله معًا بينما ينصرف بحث شكري عياد إلى طرائق البحث وأصوله دون آدابه. أما مؤلفات أحمد شلبي وثريا ملحس وعلي جواد الطاهر فتنصب على آداب البحث خاصة دون الجانبين الآخرين.

أما هذا البحث فليس في طرائق البحث ولا في آدابه ولا في أصوله، بل هو في (طرائق المنهج) أو هو في (علم المنهج) بتعبير أصح. ومع ذلك فأنا لم أضع نصب عيني في كتابة بحثي استقصاء طرائق المنهج، وإنما أردت أن اقترح طريقة في دراسة المنهج أو تدريسه، وإن كانت هذه الطريقة قد قدمت عمليا- ومن غير القصد المباشر إلى ذلك- كثيرا من الخطوط الرئيسية، وأحياناً، الفرعية. لأصول البحث وطرائقه.

ولعل لدعوة الدكتور علي جواد الطاهر في مقدمة كتابه (منهج البحث الأدبي) إلى أن "ينهض الأساتذة إلى نشر خبراتهم الخاصة، والحديث عن المناهج التي ساروا عليها في جامعاتهم التي درّسوا فيها" لعل لهذه الدعوة أثرها غير المباشر في انصرافي إلى صياغة هذا البحث الذي جاء ثمرة لتدريس مادته لطلاب الدراسات العليا في جامعة قسنطينة (الجزائر) ومن قبلها في جامعة اللاذقية (سورية) . وقد أردت في بحثي أن أضع بين يدي الباحثين - طلاباً وأساتذة على السواء- حصيلة تجربة متواضعة في هذا المجال، دون أن أسمح لنفسي بأن أردد ما سبق إلى ترديده ونشره الباحثون الآخرون.

إنها طريقة وجدت أنها الأصلح في تدريس مادة ((منهج البحث)) وأنها الأكثر فائدة لطلاب هذه المادة لأنها تعينهم على اكتساب قدر وافر من المنهجية التنظيمية والفكرية والتعبيرية في صياغة بحوثهم. وقد انتهيت إلى ذلك لعلمي أن الطالب الذي دفع به تفوقه إلى الدراسات العليا لا بد أن يكون:

1-

قد قرأ جيداً في الماضي.

3-

قادرا على أن يقرأ جيدا في المستقبل.

ص: 450

وإذن كان على المدرس أن يشحذ فيه الطاقة الكامنة التي اكتسبها من خلال تلك القراءة الوافرة، ليس بإلقاء المعلومات القديمة أو الجديدة عليه، فبإمكان القراءة أن تغنيه إلى حد شبه تام عن ذلك كله، ولكن بطريقة تفجير الفكرة تلو الفكرة في رأس الطالب، ومساعدته على تخليقها وبلورتها ثم تنظيم هذه الأفكار ووضعها- عن طريق الطالب نفسه- في السياق المنهجي الذي ينتظمها جميعاً.

فمن المهم لأستاذ الدراسات العليا- وهو غالباً ما يدرِّس طلاب الدراسات الجامعية الدنيا في الوقت نفسه- أن لا يقدم لطلابه من خلال المواد التي يدَرِّسها المعلومات نفسها التي سبق للطالب أن تلقاها- جزئياً أو كليا- في دراساته الجامعية الأولى، بل من المهم أن لا تكون محاضرته مجرد محاضرة في المعلومات "محاضرة إعلامية"إذ من السهل على الطالب أن يعود إلى هذه المعلومات حيث يحيله المدرس إليها، وإذا كان من معلومات جديدة لدى المدرس ما لا تتوفر في الكتب. فبإمكانه أن يخرجها في أملية يضعها بين يدي طلبته، ولكن الأهم من ذلك كله أن يعمل أستاذ الدراسات العليا على صياغة محاضراته بشكل يستطيع معه تغذية ملكة البحث والتفكير لدى الطالب، فيحاول أن يستنبط مادة المحاضرة من ألسنة طلابه بعد أن يطرح عليهم موضوعه، وتكون طريقة طرح هذا الموضوع قادرة على تفجير الأفكار في نفوسهم. وقدح زناد ملكتهم التفكيرية والإبداعية، ثم إذا ما انتهى من "نتح"ما عندهم حول هذا المحور الذي طرحه، انصرف وإياهم إلى "منهجة "أفكارهم ومناقشتها، ثم ترتيبها وتبويبها تبويبا منهجيا منطقياً بحيث يمكن أن تكون عناصرها في النهاية عناصر لموضوع أو بحث أدبي صغير هو جماع المحاضرة في الحقيقة.

ص: 451

إن الغاية الأساسية لأستاذ الدراسات العليا هي بذلك تلقين طلابه- من خلال محاضراته- تلقيناً عملياً تطبيقياً، ما أمكن، أصول "المنهجية"وطرائق التفكير العلمي الموضوعي، وكذلك التعبير بدقة وموضوعية عن أفكارهم التي تعتمل في أذهنتهم دون أن يجدوا القدرة في كثير من الأحيان، على إخراجها إلى حيز الوجود في الشكل اللغوي الصحيح وفي البناء المنطقي السليم، مما لا يمكن أن يحصل عليه هؤلاء الطلاب من المكتبة أو غيرها بمفردهم.

و"المحاضرة الإعلامية " توازي في كثير من بحوثنا الأدبية المعاصرة "التأليف الوصفي"أو "التاريخي"في دراسة الأدب، وهي بحوث يعفي المؤلف نفسه فيها من أي إبداع أو كشف جديد، فينصرف إلى صياغة الواقع التاريخي للأدب- ماضياً أو حاضراً- صياغة وصفية أفقية، فيها من الزخرف الإنشائي - أحياناً- أكثر مما فيها من الفكر والإبداع. ولعل كثرة هذه البحوث التاريخية- الإنشائية كانت وراء التقسيم المفتعل الذي فرض على مادة الأدب في معظم الجامعات العربية، فجعلها في مادتين: واحدة في تاريخ الأدب، وأخرى في نصوصه، مما شجع الاتجاه التاريخي أو "الإعلامي"لدى كثير من أساتذة الأدب في محاضراتهم الجامعية، سواء على مستوى الدراسات الجامعية الدنيا أو على مستوى الدراسات العليا، فرأينا كثيراً من المحاضرات في مادة الأدب تسرد على الطلاب تاريخ أدبهم سرداً أجوف تغني الطالب عنه عشرات من الكتب التي تؤرّخ لهذا الأدب، فيستعيض بها أو ببعضها عن مدرسه الذي يتجشّم عناء السرد عليه ومشقة المحاضرة فيه.

إن تجاوزنا لمرحلة الدراسة الوصفية أو التاريخية للأدب تدفعنا إلى تجاوز هذا التقسيم المفتعل لمادة الأدب من ناحية، وإلى تجاوز "المحاضرة الإعلامية"- حتى على مستوى الدراسات الدنيا- من ناحية أخرى.

ص: 452

والطرائق لتجاوز الأسلوب "الإعلامي" كثيرة، لعل أبرزها وأقربها متناولاً طريقة طرح الأسئلة المحيطة بالموضوع الذي يريد المدرّس أن يحاضر فيه. ولطريقة طرح الأسئلة هي أيضاً طرائق متعددة، فهناك السؤال الجزئي، والسؤال الكليّ، والسؤال المباشرة والسؤال غير المباشر، والسؤال المفرد، والسؤال المزدوج. وهذا النوع الأخير من الأسئلة- الأسئلة المزدوجة- هو الذي تبنّيناه في تدريس هذه المادة، ومن ثم في صياغة هذا البحث، وهو الذي نراه أكثر مقدرة على تفجير طاقة الطالب الكامنة، لأنه يقوم على قطبين: سالب وموجب - إذا استعملنا لغة الفيزيائيين- يمكن بالتقائهما أو تصادمهما أن يثيرا الشرارة الغنيّة التي نسعى للحصول عليها من ذهن الطالب.

وهكذا لم أشأ أن ألقي درساً إعلامياً على طلابي في منهج البحث، الصحفي، أو العلمي، أو التاريخي، أو اللغوي، أو الأدبي، بل كنت أضع الطلبة في كل محاضرة أمام سؤال مزدوج يشدّ عقولهم باستمرار إلى محور الموضوع الأساسي للمحاضرة، ويدفعهم إلى أن يعطوا من بنات أفكارهم أكثر مما كانوا يتوقعون، مهما كان ظنهم بأنفسهم حسناً. وهكذا بدأت معهم محاضراتي بإلقاء هذا السؤال عليهم:

- ما الفرق بين الصحفي والباحث؟.

وتتالت أجوبتهم الذكية- غالباً- بعد أن قدح السؤال المزدوج زناد أفكارهم: إن على أذهانهم الآن- تبعاً لطبيعة السؤال- أن تبحث، في وقت واحد، عن حقيقة الصحفي، وعن حقيقة الباحث، ثم أن توجد المعادلة إثر المعادلة في إيضاح الفروق الأساسية بينهما، ثم أن تبحث عن صياغة مقبولة سليمة لهذه المعادلات يمكن أن تعبر بدقة عن المطلوب منهم: الفرق بين الطرفين.

ص: 453

وكانوا- في البداية- كثيراً ما يخلطون بين "الفروق"وغيرها، فيأتون بصفة للصحفي لا تقابل تماماً الصفة التي قدموها للباحث، مما يخرج بهم عن "المعادلة"المطروحة، ثم لا يزالون يصقلون إجابتهم ويهذبونها حتى يستقيم لهم طرفا المعادلة، فأسجّل الإجابة أمامهم، بعد أن قسمت اللوح المخصص للكتابة إلى قسمين: الأول للصحفي، والآخر للباحث.

وتظل الإجابات تترى. ثم لا يلبث نوع من هذه الإجابات أن يدفعني إلى تعديل لابد منه على السؤال، إذ يتبين من خلال طرح الإجابات ومناقشتها وجود أكثر من نوع واحد من الصحفيين في أذهان الطلاب فهناك "الصحفي اليومي"، أو "الإخباري"الذي لا يهمه - في كثير من الأحيان- أن يمحص الخبر وأن يدقق كثيراً في صحته، وهناك "الصحفي السياسي"الذي يهمه إبراز أخبار معينة وإخفاء أخرى، أو يستخدم أساليب ذكية في عرضها يجعل من الخبر الأول خبرا ثانوياً، أو العكس، هذا إذا لم يصطنع الأخبار أو يزيفها بنفسه، ثم هناك "الصحفي الشهري"أو "الفكري "والذي هو في حقيقته باحث أيضاً، وإنما تقوم مقارنتنا هذه على "الصحفي اليومي"خاصة دون "الصحفي الفكري"حتى نحقق التباعد بين الطرفين إلى أقصى حد، ولكي نصل من خلال هذا التباعدا في أذهان الطلاب، إلى ما يمكن أن نصل إليه من ملامسة القطبين الكهربائيين السالب والموجب، من قوة أو طاقة. وهكذا نعيد صياغة السؤال بشكل أكثر دقة فيكون: ما الفرق بين الصحفي اليومي والباحث؟

ص: 454

وإذا تجمع أمامنا عناصر عديدة تكاد تستقصي الفروق بعين هذين الطرفين- ومعظمها من صنع الطلاب أنفسهم- نعود إلى دراستها عنصراً عنصراً: من الناحية الفكرية، والتعبيرية، والمنهجية، فنحذف منها ما أغنى عنه غيره، ونعدّل منها ما استدعت موضوعية الفكرة أو دقتها تعديله، ونعيد صياغة ما قصرّت لغته عن الوفاء بالمعنى المقصود بدقة، ويجري هذا كله على أيدي الطلبة أنفسهم- مع المساعدة الضرورية من المدرس أحياناً- ونفصّل خلال ذلك، الحديث عن هذه العناصر، دارسين جوانب كل عنصر منها على حدة، وملمين عبر هذا التفصيل بشوارد العنصر وروافده.

وتأتي الخطوة الأخيرة، في إعادة ترتيب العناصر التي توصل إليها الجميع، من قبل الجميع أيضاً، ترتيباً منهجياً يراعي تسلسل الأفكار واطرادها، متصورين أن هذه العناصر ما هي إلا عناوين فقرات في موضوع أو فصول في كتاب، فإذا ما توصّلنا إلى ترتيبها على هذا الشكل كان أمامنا مخطط كامل لموضوع أو بحث.

ثم لا تلبث المحاضرات التالية أن تضع الطلاب أمام أسئلة أكثر دقة، ومن ثم تكون الإجابة عليها أكثر صعوبة، وأشدّ إثارة للفكر، وتفجيرا للطاقة، فكلّما قلّت المسافة بعين قطبي المعادلة ازدادت صعوبة تحديد الفروق بينهما، وفي الوقت نفسه ازداد العمق الفكري للمحاضرة، وازدادت إجابات الطلاب دقة وتركيزاً. وهكذا يجد الطلاب أنفسهم في المحاضرة التالية أمام هذا السؤال:

- ما الفرق بين الباحث العلمي والباحث الإنساني؟

فيدخل بهم السؤال الجديد عالما أكثر ضيقا: عالم الباحثين وحدهم، فإذا كان الفرق بين الباحث وغير الباحث كبيرا وواضحا، فهو بين الباحث والباحث دقيق وأقل وضوحا. ولكن أن يكون الطرف الأول من المعادلة هو (الباحث العلمي) والطرف الثاني هو (الباحث الإنساني) - وبينهما مسافة لا يخفى امتدادها- يجعل الانتقالة بين السؤالين، الأول والثاني، انتقالة بسيطة ميسورة.

ص: 455

ولكن بالانتقالة التالية، ثم ما بعدها، نشدّد الحصار أكثر فأكثر على الطالب، حين نضعه في المحاضرات المتوالية أمام هذه الأسئلة المتطورة عمقا والمطردة دقة وتركيزا.

- ما الفرق بين الباحث والمحقق؟

- ما الفرق بين الباحث الأدبي والباحث التاريخي؟

- ما الفرق بين الباحث الأدبي والباحث اللغوي؟

- ما الفرق بين الناقد الأدبي والمؤرخ الأدبي؟

- ما الفرق بين دارس الشعر ودارس النثر؟

ومع اشتداد الحصار عليه تزاد العمليات الذهنية لديه قوة وعمقا، وتزداد أجوبته دقة وإحكاما، ويصل مع أستاذه إلى السؤال الذروة وقد أصبح ملمًّا بمعظم عناصر المنهج ومقومات البحث من ناحية، وممتلكا لمقدرة أكبر على التفكير و "المنهجية"وإصدار الأحكام العميقة الجادة، من ناحية أخرى.

إنها أسئلة اخترتها تبعا لاتجاهات طلابي الدراسية وطبيعة اهتماماتهم وحاجاتهم ضمن هذه الاتجاهات، ولكل مدرس أن يختار الأسئلة التي يعتقد أن الإجابات ستقدم لطلابه أهم ما يحتاجونه من مادة منهج البحث. وعلى هذا فالأبواب مفتوحة أمام المدرس في وضع مثل هذه الأسئلة المزدوجة، واتجاهاتها كثيرة، وألوانها مختلفة، تبعا لاختلاف المادة، أو نوعية اختصاص الطلبة، كما في هذه النماذج المتباعدة من الأسئلة مثلا:

- الفرق بين الباحث الديني والباحث العلماني.

- الفرق بين الباحث الإسلامي والباحث الماركسي.

- الفرق بين المؤرخ اللغوي والباحث اللغوي.

- الفرق بين المحقق في الغرب والمحقق في الشرق العربي.

- الفرق بعين الباحث الشرقي والباحث الغربي.

- الفرق بين تحقيق كتاب في العربية وآخر في اللاتينية.

- الفرق بين محقق الكتاب القديم ومحقق الكتاب الحديث.

- الفرق بين طباعة الكتاب في الشرق العربي وطباعته في الغرب.

- الفرق بين عمل الباحث وعمل المترجم.

- الفرق بين منهج المقالة الصحفية ومنهج الخبر الصحفي.

ص: 456

- الفرق بين منهج الخبر الصحفي ومنهج الإعلان الصحفي.

- الفرق بين المنهج الاجتماعي والمنهج النفسي في دراسة الأدب.

- الفرق بين المنهج التكاملي والمنهج البنيوي

الخ.

وهي أسئلة ما تزال تحتاج إلى من يجيب عنها من الدارسين- ولا أدري إن كنت سأفعل ذلك في المستقبل- وأنا أرجو أن يسبقني إلى ذلك الباحثون الآخرون، وأن يطرحوا على أنفسهم- ومن ثم على قارئيهم- أسئلة كثيرة أخرى تستطيع إجاباتهم عليها أن تستوعب قدراً كبيراً من المادة الفكرية لمنهج البحث عن طريق هذه الفروق التي نتصورها بين أنواع البحوث والمناهج، ثم تفريع الفروع والعناصر من تلك الفروق، تفريعاً نعمد خلاله إلى قتل أطرافها بحثاً ودراسة وتمحيصاً.

علم وعمل

انظر في سير الأولين وأخبار الماضين. فكم فيها من جليل وغني وكبير، كانت تسير له المواكب، ويقف له على كل باب حاجب قد انقضى بموته خبره، ومحي في غياهب الحقب أثره، فلا نعرف له اليوم ذكراً، ولا نقيم له قدراً، وكم من عالم أو شاعر. أو قائد أو ناثر كان من خدام بابه، وسدنة أعتابه لا يزال ذكره بيننا حاضراً وفضله في أيدينا ناضرا، ولا سبب لهذا إلا أنه كان لهذا (علم وعمل) وأما الأول فكان خلوا منهما، إن هي إلا زخارف وشارة وأبهة وإمارة، تذهب كالزبد جفاء إن حان لصاحبها القضاء.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

والمنشور هنا هو الجزء الأول منه.

ص: 457

[2]

اكتفينا بالتعريف بالكتب التي لم تعرف بها الدراسات السابقة، أما الكتب والدراسات الأخرى، العربية والمترجمة، فنشير إلى أشهر مواضع التعريف بها:. الكتب (مصطلح التاريخ) لأسد رستم، و (منهج البحث التاريخي) لحسن عثمان، و (نحن والتاريخ) لقسطنطين زريق، و (كيف تكتب بحثا أو رسالة) لأحمد شلبي، عرفت بها ثريا ملحس في كتابها (منهج البحوث العلمية) ، ثم (منهج البحث الأدبي عند العرب) رسالة دكتوراة لأحمد جاسم الفجيري عرف بها علي جواد الطاهر في كتابه (منهج البحث الأدبي) ، ثم (الأدب وعلم النفس) لسامي الدروبي، و (مناهج الدراسات الأدبية) لشكري فيصل، و (مناهج النقد الأدبي) لديفيد دنيشس ـ ترجمة محمد يوسف نجم، و (تحقيق النصوص ونشرها) لعبد السلام هارون، و (نظرية الأدب) لرينيه ولك وأوستين وارن ـ ترجمة محيي الدين صبحي) وقد عرف بها شكري عياد في أمليته ـ وستصدر في كتاب ـ ثم مقدمة كتاب (الأدب الجاهلي) لطه حسين وقد عرف بها شوقي ضيف في (البحث الأدبي) .

[3]

في مقدمة الطبعة الثالثة لكتابه (منهج البحث الأدبي) ص12، بغداد:1976.

ص: 458

الاتجاه الإسلامي في شعر أحمد محرم

للدكتور صلاح الدين محمد عبد التواب

أستاذ بكلية اللغة العربية ـ جامعة القاهرة

من فضل الله على هذه الأمة أن القرون تمر عليها تلو القرون ورسالة الإسلام لم تخمد ولن تخمد أبدا في نفوس وقلوب المسلمين.

وكيف تخمد رسالة الإسلام وكتاب الله بين المسلمين يتلى؟ وكيف تخبو عزيمة المسلمين وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم في أسماعهم يدوي: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً

كتاب الله وسنتي"؟..

أجل.. إنه لم يمر عصر من عصور الإسلام منذ انبثاق هذا الدين القيم حتى عصرنا الذي نعيش فيه إلا وقد برزت عظمة الإسلام معلنة عن جوهر هذا الدين وصدق دعوته إلى الحق وإلى الخير، ومعلنة كذلك عن إخلاص دعاته وإيمانهم برسالتهم لأنها رسالة الحق والخير..

ولقد يتراءى لبعض الناس أحيانا أن مظاهر الضعف أو الفتور قد تغلب على حياة المسلمين مما يهددهم بالتوقف أو الجمود.. ولكن الحقيقة التي لا مراء فيها أن دعوة الإسلام لم تخب ولن تخبو أبداً- والله غالب على أمره- مهما تألبت قوى البغي والشر على هذا الدين، وإذا كانت هناك من غفوة ألمت بالمسلمين فإنما يعقبها صحوة، صحوة تعيد للدين مجده وللرسالة إشراقها وبهاءها وللمسلمين قوتهم وعزتهم، فالدين لم يمت، والمسلمون المُعتزّون بدينهم- وهم كثرة- بحمد الله ما زالوا به متمسكين وأولاً وقبل كل شيء فإن منزل الكتاب- جل في علاه- قد ضمن له الحفظ والبقاء، وصدق الله العظيم:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

وليس أدل على ذلك من أن كتاب الله - بعد هذه القرون منذ نزوله- ما زالت آياته تتلى وتملأ الأسماع وستظل بحكمها وأحكامها تعلن للأجيال المتعاقبة أنها الآيات المحكمات..

ص: 459

وليس أدل على ذلك أيضاً من أن لغة الكتاب قد اتسع نطاق درسها وانتشر التعامل بها على كافة المستويات حتى دوت في الآفاق كلمات هذا اللسان العربي المبين..

ثم ليس أدل على ذلك أيضا من أن الأدب العربي الإسلامي لم تنطفئ جذوته بعد أربعة عشر قرناً من الزمان، وسيظل أبدا بإذن الله يهتف بالإسلام ويمسك بمبادئه. ويذكر المسلمين بتاريخ أسلافهم حتى يكونوا دائماً خير خلف لخير سلف.

أجل.. ما زلنا بعد هذه القرون المتعاقبة نرى أدب الدعوة الإسلامية بيننا يعلو نداؤه وتتردد أصداؤه ليملأ الأسماع والأبصار، فتخفق له القلوب، وتستجيب له النفوس، وهو يصل حاضرها بماضيها التليد.

وإذا كانت الأمثلة كثيرة في عصرنا الحديث، تلك التي تؤكد أن أدب الدعوة الإسلامية إلى وقتنا هذا لم يمت ولن يموت ما بقيت رسالة الإسلام ودعوتها فإن المثل الذي بين أيدينا جدير بالإشادة والتقدير لأنه يبعث على الأمل ويؤكد أن نور الله لا يمكن أبداً أن ينطفئ من القلوب..

إنه ديوان (مجد الإسلام) للشاعر المسلم أحمد محرم، الذي شاء الله لمؤلفه أن ينظمه ليستعيد شباب الأمة أمجاد أسلافهم ثم ليكونوا امتداداً من بعد لأولئكم السالفين.

أما عن أحمد محرم فقد ولد في القاهرة سنة سبع وسبعين وثمانمائة وألف ميلادية ونشأ منذ البداية نشأة عربية أزهرية، وبرز في الشعر منذ صباه حتى أنه نال شهادة الامتياز بين "شعراء النيل "من لجنة التحكيم التي تولت أمر النظر في القصائد المقترحة على كبار الشعراء فيما كان يسمى عيد جلوس الخديوي سنة عشر وتسعمائة وألف (ميلادية) ونال عدة جوائز في مسابقات شعرية ونثرية أخرى اقترحتها الصحف والمجلات في فنون شتى وموضوعات مختلفة من سياسة الممالك وتربية الأمم، وما تصدى كاتب ولا أديب لتعيين طبقات الشعراء إلا عرف له مكانه ووضعه في الصف الأول [1] .

ص: 460

وأما عن العصر الذي عاشه أحمد محرم فقد سادت فيه نزعة إسلامية ظهرت بوضوح في كتاب العصر وقادته ومفكريه وانعكست أثارها على الشعر ولم يكن هناك بعين الشعراء المعاصرين وقتذاك- على اختلافهم وتباين نزعاتهم- من يخلو شعره من تلك النزعة، من مدح للخليفة التركي، والإشادة بفضله على المسلمين، وحرصه على إعلاء كلمة الدين، وهم يرون أن الخليفة هو الجامع لشمل المسلمين، وأنه حين يحارب فإنما يحارب دفاعا عن الإسلام وتمسكاً بإعلاء كلمته بين الدول التي تتربص به، وهم- يدعون إلى اتحاد كلمة المسلمين في ظل راية الخلافة، محذرين من الإصغاء إلى دعوة التفرقة التي لا تصيب الأمم الإسلامية جميعاً إلا بالشر [2] .

ص: 461

وكان طبيعيا أن يهبَّ الشاعر أحمد محرم- وهو المسلم الغيور- ليقوم بدوره في مجال الدعوة الإسلامية، وكانت فكرة ديوانه (مجد الإسلام) كامنة في نفسه ولكنها لم تخرج إلى مجال التنفيذ إلا بعد أن بعث أحد رجال الإسلام الغيورين- وهو الأستاذ محب الدين الخطيب صاحب مجلة (الفتح) إلى صديقه الشاعر أحمد محرم رسالته في الخامس والعشرين من ربيع الأول عام ثلاثة وخمسين وثلاثمائة وألف من الهجرة يقول فيها: سيدي الأستاذ الجليل مفخرة البيان العربي وشاعر مصر الكبير الأستاذ أحمد محرم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، فإن من دلائل رضا الله عز وجل عن حركة الجهاد الضئيلة لوقف هذا الطغيان على الفضائل انشراح صدركم لتأييده، وتصدقكم ببعض الوقت للوقوف في صفوفه، ورب فارس واحد خير من ألف.. وكنت هممت أكثر من غير مرة أن أكتب إليكم أقترح عليكم مشروعاً كنا نحاول إقناع شوقي بك رحمه الله به ولكن خشيت أن يصرفكم ذلك عن معاني الجهاد الأخرى.. وهذا المشروع هو إرسال نظركم الكريم بين حين وآخر إلى مفاخر التاريخ الإسلامي الخلقية والعمرانية والسياسية والإصلاحية والحربية

الخ. ونظم كل مفخرة منها في قطعة خالدة تنقش في أفئدة الشباب، فإذا زخر أدبنا بكثير من هذه القطع، على اختلاف أوزانها وقوافيها، أمكن بعد ذلك ترتيبها بحسب تاريخ الوقائع: وتأليف (إلياذة) إسلامية من مجموعها.. أليس من العار أن يكون للفرس الذين حفل تاريخهم زمن جاهليتهم بالشنائع ديوان مفاخر يغطى فيه البيان على العيوب، ويشير الكاتب بذلك إلى (شاهنامة الفردوس) .. ثم يردف قائلا: وأن يكون لليونان زمن وثنيتهم وأوهامهم الصبيانية ديوان مفاخر (كالإلياذة) تتغنى بها الإنسانية إلى يوم الناس هذا

؟

ثم يواصل الكاتب حديثه إلى الشاعر أحمد محرم مبينا أن الإسلام هو الأولى بذلك (وهو الذي لم تفتح الإنسانية عينيها على أعلى منه رتبة، وأعظم منه محامد) ..

ص: 462

وما دام المؤرخون- في نظر الكاتب- قد قصدوا في جانب التاريخ الإسلامي ولم يعطوه حقه من التصحيح والإنصاف، فإن (ما قصّر فيه) المؤرخون لا يستطيع أن يستدركه إلا الشعراء.

وكان هذا الخطاب هو الشرارة التي أججت شعلة الحماس في نفس الشاعر أحمد محرم.. فإذا به يقدم على ديوانه يعرض فيه خلاصة نقية للتاريخ الإسلامي في قالب شعري، مكتمل الفن، واضح الأداء، قوي التعبير، حتى يلفت شباب الإسلام إلى مفاخر تاريخهم وعظمة آبائهم وأسلافهم، ويدفع عنهم عقدة النقص التي جعلتهم ينظرون إلى آثار الأمم الأخرى كما ينظر الأقزام إلى العمالقة.

وحشد أحمد محرم كل طاقاته الفنية، وعكف على التاريخ الإسلامي يستخلص حقائقه، ويستوعب مفاخره، ويسجلها فناً عالميا عاليا يسنده الواقع وتؤكده حقائق التاريخ

[3]

وكان أول ما بدأ به أحمد محرم في ديوانه الذي بلغت قصائده تسعاً وستين ومائة قصيدة كلها في تاريخ الإسلام والمسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت أولى القصائد تحت عنوان: (مطلع النور الأول من أفق الدعوة الإسلامية)، وفيها يقول الشاعر:

وأغمر الناس حكمة والدهورا

املأ الأرض يا محمد نورا

يكشف الحجب كلها والستورا

حجبتك الغيوب سرا تجلى

فتدفق عليه حتى يغورا [4]

عب سيل الفساد في كل واد

ويستمر الشاعر في قصيدته إلى أن يقول:

غيرت كل كائن تغييرا

أنت أنشأت للنفوس حياة

نابه الذكر في العصور شهيرا

أنجب الدهر في ظلالك عصرا

ثم يقول مبينا كيف كان العالم قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم حتى جاء دين الله:

يحسبون الحياة إفكا وزورا

أنكر الناس ربهم وتولوا

جعلوا البغي شرعة والفجورا؟

أين من شرعة الحياة أناس

فع مثقال ذرة أو تضيرا؟

تلك أربابهم: أتملك أن تشـ

باب ما كان عاجزا مقهورا

ص: 463

قهروها صناعة، أعجب الأر

ى) غناء لمن يقيس الأمورا

ما لدى (اللات) أو (مناة) أو (العز

الله يحمي لواءه المنشورا

جاء دين الهدى وهب رسول

ثم يمضي الشاعر مستذكراً ذلك الموقف الذي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواجهة عمه أبي طالب فيقول حاكياً:

أن يقيموك سيداً أو أميراً؟

جاءه عمه يقول: أترضى

ل حياً ماطراً وغيثا غزيرا

ويصبوا عليك من صفوة الما

أبتغيها وما خلقت حصورا [5]

قال يا عم ما بعثت لدنيا

ت أريهم مطالبي والشقورا [6]

لو أتوني بالنيرين لأعرضـ

لأدع الهوى وأعصى المشيرا

إن يشيروا بما علمت فأنى

تطعم الحتف رائعا محذورا [7]

دون هذا دمي يراق ونفسي

وفي قصيدة أخرى يذكر صاحب ديوان مجد الإسلام ذلك الموقف الذي أراد فيه المشركون قتل الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم ما كان من أمر الهجرة إلى المدينة فيقول في مطلع قصيدته:

ـل يميط الأذى ويشفي الصدورا

أجمعوا أمرهم وقالوا: هو القتـ

ثم يمضي الشاعر في تصوير ما حدث للمتآمرين الذين وقفوا بباب الرسول صلوات الله وسلامه عليه:

أم عمىً في عيونهم مذرورا؟

مالهم؟ هل رمى النبي تراباً

أنكروها دهياء عزت نظيرا

ذهلوا مدة، فلما أفاقوا

كل وجه فرده معفورا.

ينفضون التراب، من مسَّ منا

مالأوصالنا تحس الفتورا؟

أين كنا ما بالنا لا نراه

فسكرْنا وماشربْنا الخُمورا

أين وَلىَّ؟ لقد رمانا بسحر

هـ على غرة لخر عقيرا؟

ياله مصعب لو أنّا أصبنا

أملا ضائعا وجدا عثورا

راح في غبطة ورحنا نعاني

يا لها حسرة تشب وتورى [8]

خيبة تترك الجوانح حرى

ص: 464

وفي قباء يقول الشاعر من قصيدة له يشير فيها إلى رسالة المسجد في الإسلام:

جيئة الروح تبعث المقبورا

يا حياة النفوس جئت قباء

للبرايا صنيعك المشكورا

ارفع المسجد المبارك واصنع

أن يميل الهوى بها أو يجورا

معقل يعصم النفوس ويأبى

أو سياج يذود عنها الشرورا

أوصها بالصلاة فهي علاج

وقضاها أرومة وجذورا [9]

غرس الله دوحة الدين قدما

وفي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار يقول الشاعر مشيدا بدور الإسلام فيها:

فلا محالة من حب وإيثار

هي الأواصر أدناها الدم الجاري

حييت من أسرة بوركت من دار

الأسرة اجتمعت في الدار واحدة

يدعو البنين فلبوا غير أغمار [10]

مشى بها من رسول الله خير أب

واستحصد الحبل من شد وإصرار [11]

تأكد العهد مما ضم ألفتهم

يحمي الذمار ويرعى حرمة الجار

كل له من سراة المسلمين أخ

وليس يعطيه إن أعطى بمقدار

يطوف منه بحق ليس يمنعه

ويبذل المال في يسر وإعسار

يجود بالدم والآجال ذاهلة

في صورة الفرد فانظر قدرة الباري

هم الجماعة إلا أنهم برزوا

بين القبائل دين الجهل والعار [12]

هذا هو الدين، لا ما هاج من فتن

وعندما تدور رحى الحرب بين المسلمين والمشركين في بدر ويسقط أبو جهل صريعاً في أول معركة يدافع فيها المسلمون عن دينهم، ويعزهم الله بعد أن حسبهم الكافرون أذلة..

يقول الشاعر:

سقيت زعاف الموت فاشرب أبا جهل

بسيفك فيما اخترت من عاجل القتل

لنفسك من حقد مذيب ومن غل

شهدت الوغى تبغى على الضعف راحة

وفاتك ما نال الرويعي من فضل

أصابك فيها ما أصابك من أذى

هو الجد كل الجد لو كنت ذا عقل

دع الهزل يا ابن الحنظلية إنه

وزادتك هذي من ضلال ومن خبل

ص: 465

هي اللات والعزى أضلتك هذه

رضيت به ربا يفوز ويستعلي

فلو كنت ترجو أن ترى الهبل الذي

وباء عدو الله بالخزي والذل

أصبت ابن مسعود سناء ورفعة

فما بعد ما أعطاك ربك من سؤل

فخذ سيفه ثم ارفع الصوت شاكرا

ويمضي الشاعر يسجل في ديوانه (مجد الإسلام) مواقف مشرفة للمسلمين وجهادهم في سبيل الدعوة الخالدة

وكلها من النماذج الرفيعة التي يعتز بها المسلمون أينما كانوا وحيثما حلوا ومع كل نموذج من هذه النماذج الرائعة دعوة تهيب بكل مسلم ومسلمة على وجه هذه الأرض أن يكون واقع حياتهم على نمط ما كان عليه المؤمنون السابقون حتى يصل المسلمون حاضرهم بماضيهم فتكون حياتهم كلها حياة العزة والشرف والكرامة والإباء..

وينهي الشاعر ديوانه الكبير بحادث جلل في تاريخ الإسلام والمسلمين وهو يوم انتقال الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى رحمة ربه راضياً مرضياً.

ومع شدة وقع هذا الأمر على نفوس المسلمين. فقد ذكره الشاعر في معرض حدث آخر، كانت بدايته في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم كانت نهايته المشرفة بعد وفاتة عليه الصلاة والسلام وكأن الشاعر يريد أن يقول: لئن كان الرسول قد مات.. فإن رسالته كانت وستظل ماضية، ودعوته بإذن الله ستكون باقية قوية ما حرص المسلمون على بقائها وقوتها..

أما هذا الحدث الهام الذي أنهى به الشاعر ديوانه فقد كان حول سرية أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما.. والتي كانت آخر سراياه صلى الله عليه وسلم إلى بلاد الشام للتهيئة لحرب الروم..

ص: 466

وهناك أمر آخر في هذه السرية حرص الشاعر على أن يلفت الأنظار إليه وهو أن إرسال أسامة بن زيد على رأس هذه السرية إن دل على شيء فإنما يدل على إمكانية الاعتماد على الشباب المؤمن الغيور على دينه في عظائم الأمور.. فقد كلف أسامة لقيادة الجيش ولم تتجاوز سنه العشرين وقيل إن سنه كانت سبعة عشر عاماً.. الأمر الذي جعل بعض كبار القوم يستنكفون من الانقياد تحت إمارته ويقولون: غلام!! فلما بلغت النبي صلى الله عليه وسلم مقالتهم غضب ثم صعد المنبر وقال: "أما بعد أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ ولئن طعنتم في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله إن كان لخليقاً بالإمارة، وإن ابنه من بعده لخليق بالإمارة، وإن كان من أحب الناس إلي، وإنه لمظنة كل خير، فاستوصوا به خيراً فإنه من خياركم ".

ثم تكون وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وينفذ أبو بكر رضي الله عنه إرسال سرية أسامة. ويصدق ظن الرسول بهذا القائد الشاب الذي نصره الله وأيده في جهاده ضد أعداء الإسلام والمسلمين..

وكانت هذه الحادثة هي ختام ديوان (مجد الإسلام) للشاعر أحمد محرم، وفيها يقول:[13]

أنت الأمير وإن تعتب واهم

سر يا أسامة ما لجيشك هازم

وفتى على الصيد الخضارم حاكم

قالوا: غلام للكتائب قائد

جهل الغضاب الساخطون لعالم

غضب النبي وقال: إني بالذي

والعدل عندي لا محالة قائم

إن يجهلوه فقد عرفت مكانه

من قبل والدَهُ ولجَّ الناقم

ولئن رموه بما يسوء فقد رموا

أهل فكل أحوذيّ حازم

نقموا الإمارة فيهما وهما لها

يا قوم وانطلقوا كما أنا عازم

الخير فيه وفي أبيه فآمنوا

والخطب بينهما مقيم جاثم

ساروا وظل مع النبي خليله

صنع القضاء فهمه متراكم

ينتاب مضجعه وينظر ما الذي

يغشاه موج للأسى متلاطم

مرض النبي طغى عليه، فقلبه

ص: 467

والحزن طام والدموع سواجم

ودرى أسامة فانثنى في جيشه

ثم يعقب الشاعر بعد ذلك مشيراً إلى ذلك الحدث الجلل فيقول:

أحيا نفوس الناس وهى رمائم

مات الرسول المجتبى مات الذي

أسفا عليه وكل جو قاتم

مات الرسول فكل أفق عابس

والناس شر والحياة مآتم

مات الذي شرع الحياة كريمة

تشفي العقول وداؤها متفاقم

مات الذي كانت عجائب طبه

حتم وإن زعم المزاعم حالم

صلى عليك الله إن قضاءه

وينتهي ديوان (مجد الإسلام) للشاعر أحمد محرم على هذا النمط من صدق العاطفة وحرارة الإيمان وإشراق الديباجة ونصاعة البيان.. وهو بذلك يضارع شعراء عصره في تلك النزعة الإسلامية إن لم يكن قد فاق الكثير منهم بهذه الملحمة الرائعة التي استلهمها من مجد الإسلام ومفاخر المسلمين منذ أن أعزهم الله بهذا الدين القويم.

شكوى

قال أبو العيناء: كان لي خصوم ظلمة فشكوتهم إلى أحمد بن أبي داؤد، وقلت له: إن القوم قد تضافروا عليَّ وصاروا يداً واحدة عليّ، فقال: يد الله فوق أيديهم، فقلت: إن لهم مكراً، فقال: ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله. فقلت: إنهم كثير وأنا واحد، فقال: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرةً بإذن الله، والله مع الصابرين

أوصيك بثلاث

دخل أبو جعفر محمد بن الحسين بن علي رضي الله عنهم على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وقد ولاه. فقال له أبو جعفر: أوصني، فقال له: أوصيك بثلاث: أن تتخذ صغير المسلمين ولدا، وأوسطهم أخا، وأكبرهم أباً، فارحم ولدك، وصل أخاك، وبِرَّ والدك، وإذا صنعت معروفا فرَّ به.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

راجع مشاهير شعراء العصر لأحمد عبد الحميد الجزء الأول ص115.

ص: 468

و (شعراء العرب المعاصرون) للدكتور أحمد زكي أبو شادي ـ ص48 الطبعة الأولى ـ القاهرة 1958.

[2]

راجع الفصل م (الجامعة الإسلامية) من كتاب (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر للدكتور محمد محمد حسين ج1 ص1-49) .

[3]

راجع مقدمة ديوان مجد الإسلام.

[4]

غار الماء: ذهب.

[5]

من معاني الحصور: الضيق الصدر، والهيوب: المحجم عن الشيء.

[6]

الحاجات والأمور المتصلة بالقلب المهمة له: جمع شقر.

[7]

ديوان مجد الإسلام ص3-6.

[8]

تشتعل 8-10.

[9]

الأرومة: الأصل، ديوان محبة الإسلام ص15..

[10]

غير حاقدين.

[11]

استحصد: قوي، والإمرار: الفتل.

[12]

ديوان مجد الإسلام ص27-30.

[13]

ديوان مجد الإسلام ص449-452، وراجع سيرة ابن هشام ص219 ج4، ط شركة الطباعة الفنية المتحدة بالقاهرة - 1974.

ص: 469

اللسانية العربي بين الأصالة والتعريب

للدكتور محمد منذر عياشي

ما تزال اللسانية كعلم غريبة على فهم بعض الناس، ولا نزال نسمع هنا وهناك من يفسر أهدافها تفسيراً يخالف العلم وقوانينه. ونحن نعتقد أن لهذا ما يعلله من الأسباب. ويمكننا أن نختار منها سببين رئيسيين:

1-

سبب خارجي:

أ- الاستعمار.

ب- الموقف المعادي الذي تجلى عند كثير من رجالات العلم في الغرب، ومن والاهم من العرب إزاء الحضارة الإسلامية واللغة العربية.

2-

سبب داخلي:

أ- الانحطاط العلمي كنتيجة للانحطاط السياسي.

ب- مقاومة غريزية لكل كشف علمي جاء من الغرب المستعمر.

1-

1- نظرة الغرب إلى اللغة العربية:

- لقد اخترنا، لهذه الفقرة، اثنين من المفكرين الغربيين يمثلان- في رأينا- السبب الأول ويحملان كل الأفكار التي يحملها الغرب تجاه:

- الحضارة الإسلامية والإنسان العربي.

- الحضارة العربية وآدابها.

أما عن النقطة الأولى فقد اخترنا "المفكر"المستشرق (شارل بلا) وهو أستاذ في جامعة السوربون بباريس. إنه يقول:

"هذا العربي البدائي، الظريف في بعض النواحي من شخصيته، الفخور الكريم، وصل به الأمر أن يحتفظ بعنجهية عشائرية وشخصية في منتهى العنف، وهو يعتبر أن ليس هناك شيء آخر بالنسبة إليه غير القبيلة والأنا. وفوق ذلك، فقد ظهر كتاب من أصل إلهي يحث العربي على التعجرف ويدفعه إلى الاحتقار، أي إلى تجاهل كل غريب أجنبي. ومنذ ذلك الوقت أصبح مستنداً إلى القرآن في حياته اليومية. أما عن الأدب، فإن العربي يحتفظ بتقاليد شعرية قديمة وهذا كل ما يكوّن القاعدة الجوهرية لنشاطه الأدبي [1] .

ص: 470

أما عن النقطة الثانية، فقد اخترنا "أندريه مارتينه "، وهو واحد من أكبر علماء اللسانية في فرنسا، وصاحب شهرة واسعة في العالم، ومع ذلك سنراه في الفقرة التي سنأخذها من أحد كتبه يقف من اللغة العربية موقفاً غير علمي. إنه يقول:

"ربما تكون اللغة قبل كل شيء، لغة تقليدية، أدبية، أو مقدسة ثم تكون سيئة التأقلم بحيث لا تلبي مجموع الحاجات المنوعة للأمة، كما هو الحال بالنسبة للغة العربية "الكلاسيكية "في البلدان الإسلامية"[2] .

هل المقصود من ذلك هو الطعن في القرآن؟ يعلم كل عالم موضوعي ونزيه أن هذا الكتاب، منذ أنزله الله وحتى يومنا هذا، يمثل الضمير اللغوي للأمة العربية. كما يعلم كل عالم أن القرآن ما دام حياً بين أظهر معتنقيه، ويعيش في مشاعرهم، فإن اللغة العربية ستبقى حية.

إذا كان الطعن في القرآن لإبعاد الناس عن لغة القرآن هو قصدهم، فإن هذا ليس من أهداف البحث العلمي اللساني ولا من أغراضه، وقد كان الأجدى بهم كعلماء في اللغة وآدابها أن يتجهوا إلى دراسة العلاقة بين القرآن من جهة والعربية من جهة أخرى.

أ- 2- إن مناقشة هذين الرأيين توقعنا في حرج شديد. ولذا فإننا نرى أن لا نناقش الأول، لأن صاحبه لا يمثل في عالم العلم أية قيمة كما يدل عليه قوله. وأما الثاني فنرى في مناقشته بعض الفائدة لا لأنه موضوعي وعلمي ولكن لأن لصاحبه في عالم العلم مؤلفات- في اللسانية- ذات قيمة علمية معترف بها.

قبل أن نبدأ نود أن نسوق خمس ملاحظات إلى كل مفكر غربي لها أهميتها الإنسانية:

ا- إن على المفكرين في الغرب أن يدركوا أن العالم الغربي لا يملك الحق من وجهة نظر علمية أن يعتبر نفسه المركز الوحيد لحركة الفكر في العالم.

2-

إن على هؤلاء أن يعلموا أن النظريات التي تنطبق على عالمهم قد لا تنطبق على غيرهم بشكل آلي، وخاصة في ميدان العلوم الإنسانية.

ص: 471

3-

إن عليهم أن يعترفوا بأن النتاج العلمي الفكري والإنساني عند غيرهم من الأمم لا يقل أهمية عما أنتجوه.

4-

إن عليهم أن يعلموا أن عهد السيطرة الثقافية قد انقضى، وأن الشعوب قادرة على إبداع ما يتناسب ومستواها الحضاري من علم وفكر.

5-

أخيرا، نريد أن نقول لهم بأن الحضارات يَأخذ بعضها من بعض. عندما نلفظ كلمة "لساني"، فإنه ينزل في تفكيرنا مباشرة أن الباحث، في هذه الأمور يمتاز بموضوعية مطلقة يستمدها من طبيعة البحث ومنهجيته. والعلم لا ينفصل عن الحقيقة. ولذا فإن الاغتصاب الذهني، والعنصرية الثقافية، وتشويه الحقائق

كل هذا لا يدخل في ميدان البحث العلمي، ومع ذلك فإن هذا لم يمنع "أندريه مارتنيه"أن يخوض مع الخائضين، فينسب إلى العربية ما ليس منها ولا فيها. وقد نعجب من هذا المفكر إذا نظرنا إليه وهو يتكلم عن لغته القومية، وكيف يمتدحها في نفس الكتاب المذكور آنفاً. إنه يقول:

"إن اللغة الفرنسية، كأداة، يستعملها عدد من الكائنات الحية بنجاح للاتصال فيما بينهم"ص (147) .

لننظر إلى كلمة "نجاح"هنا، وإلى "سيئة التأقلم"هناك عندما تكلم عن اللغة العربية، وربما زال عجبنا إذا علمنا أن "أندريه مارتينه"لم يتكلم، ولم يتعلم، ولم يتصل بالعربية لا من قريب ولا من بعيد.

ب- 2- لكي نحدد موقفنا ونبين الحقائق ونكشف المغالطات، لابد لنا من تصنيف الأفكار التي تدور حول اللغة. وإننا نرى أنها تنقسم عموماً إلى ثلاثة أقسام:

- الأفكار التي تعتبر لغة من اللغات الحية كلغة سيئة التأقلم.

- الأفكار التي تسعى أن تقيم علاقة بين إحدى اللغات وإيديولوجية سياسية معينة.

- الأفكار التي تنطوي على أحكام غير صحيحة كأن تعتبر أن لغة الشعب الفلاني أغنى وأرفع وأفضل من لغات الشعوب الأخرى. دون أي دليل علمي.

ص: 472

وبما أننا نريد أن نعالج الأمر من الناحية اللسانية، فمن الأفضل أن نبقى ضمن مناهجها وطرقها العلمية، وأن نبين اهتماماتها. ونعتقد أن هذه هي الوسيلة المثلى لرد أقوال أولئك الذين لم ينظروا إلى اللغة إلا من خلال أفكار إن صلحت في فترة من الفترات لطمس الحقائق العلمية، فهي لا تصلح أن تكون علماً يدرس ويستفاد منه في تعميق وتثبيت الأطر المنهجية التي تتبناها اللسانية في أبحاثها:

1-

إن الدراسات اللسانية تهدف إلى بناء أسس نظرية تنطبق على جميع اللغات.

وتنقسم هذه الأسس قسمين:

- أما القسم الأول فإن الاتجاه فيه يقوم على تزويد المنهج التحليلي بالأدوات اللازمة لاستخراج القواعد المكررة ضمن الكلام الإنساني، وذلك لدراسة الفوارق التي تميزها عن غيرها من القواعد التي تبنى عليها وسائل التعبير والاتصال الأخرى عند الإنسان، كالموسيقى وإشارات المرور، أو الموجودة عند الحيوان كرقصات النحل مثلاً.

- أما القسم الثاني فالاتجاه فيه يهدف إلى شرح نص من النصوص مع افتراض عدة طرق تأويلية له.

إذا كانت كل اللغات الإنسانية تنطبق على هذه الأسس، لا لشيء إلا لأنها وسائل اتصال مرتبطة بنشاط البشر في حياتهم اليومية والفكرية، فلا يجوز أن ينظر إلى العربية أو إلى غيرها إلا بهذا المنظار.

2-

عندما تعمد اللسانية إلى دراسة لغة من اللغات، فإنها تدرسها لذاتها، وتغض الطرف عن الاعتبارات الفلسفية والسياسية والمذهبية والطائفية، ذلك لأنها علم والعلم منهج، وبالإضافة إلى أنه مجرد من هذه النزعات فهو موضوعي.

يجب أن لا تكون الدراسات اللغوية موطن صراعات إيديولوجية. فاللغة- كحد أدنى من التعريف- أداة. ومن شأن الأدوات أن لا تفكر، ولكن تستخدم وتستعمل.

ص: 473

إن اللغة نظام، ونظامها القواعد. وإن شئنا فإننا نستطيع القول أن نظام القواعد فيها هو نظام الاستعمال والاستخدام، وبما أنها كذلك، أي أنها أداة توصيل، فإن الفكرة الواحدة ونقيضها تأخذ فيها طريق الظهور. وبمعنى آخر، إن الأفكار لا تنقل اللغات ولا تعكسها ولكن اللغات هي التي تنقل الأفكار وتعكسها.

ب-3- إن ما ذكرناه آنفاً يحتم علينا أن ننظر إلى اللغة كأداة، وأن نجرد نظرتنا عن النزعات غير العلمية. ومما لا يدخل في مجال الدرس العلمي قولنا مثلاً بأن لغة البلد الفلاني لغة ثورية وأن لغة البلد الآخر لغة رجعية، أو قولنا بأن اللغة الفلانية لغة مؤمنة على حين أن باقي اللغات تعتبر كافرة، أو قولنا- والقول هنا لأندريه مرتينه- بأن هناك لغات "مقدسة " وأخرى "سيئة التأقلم "ونحن نعني ضمنياً بأن هناك لغات غير مقدسة وأخرى جيدة التأقلم.

إن كل هذه الأقوال، وقول (مارتينه) من ضمنها لا تدخل في إطار الدراسات اللسانية تماماً، ككل من يجعل اللغة مولوداً لإيديولوجية معينة. ولو أن "مارتينه"درس علاقة الحضارة الإسلامية باللغة وأثرها في تطوير العربية لقبل منه وحمد مسعاه، ولكنه لم يفعل. وهنا نود أن نقف على كلمة "مقدسة"لشرح المقصود منها في ذهنية وفكر الغربيين حين يطلقونها على لغة من اللغات:

ص: 474

1-

عندما عكف الغربيون على دراسة اللغات الشرقية عثروا في بعض جهات الهند على لغات خاصة بالصلوات والشعائر الدينية، وتستعمل فقط من قبل رجال الدين لهذه الغاية. ولقد وقفوا عند هذا الحد من الملاحظة ولم يعنّوا أنفسهم جهد البحث عن أصولها- في الحقيقة إن عالم الشرق وحضاراته لا يزال مغلقاً على أفهامهم- واكتفوا بتسمية هذه اللغات بلغات "مقدسة "، أي لغات خاصة بالعبادة. وكعادة بعض منهم ممن لا يرون إلا القشور دون اللباب جاء "مارتينه" بحكمه السريع، وصنف اللغة العربية في عداد هذه اللغات. وإننا نعتقد أن الذي أوحى له ولغيره بهذه الفكرة هو نزول القرآن المجيد باللغة العربية وأن الصلاة عند المسلمين لا تصح إلا بنطق الآيات باللغة العربية. ولقد نسي "مارتينه"أو تناسى أن العربية سابقة على نزول القرآن، وأن العرب يستخدمونها كأداة لاتصال بينهم في حياتهم اليومية والأدبية والعلمية وفي مساجلاتهم الفكرية، وأن المكتبات تعج بملايين الكتب العربية، وأن المطابع لا تزال تطبع يومياً أعداداً كبيرة منها في كل مجالات العلم.

2-

إن كلمة "مقدسة"تعود ببعض الغربيين إلى المفهوم المسيحي للغة. وهم يرفضونه لسببين: أولاً: لأنه لا يتفق ومناهج البحث العلمي. ثانياً: لأن تفكيرهم المادي يحول بينهم وبين أي تصور ديني لأي أمر من الأمور. أما فيما يخص السبب الأول فنحن لا نملك إلا أن نشاركهم الرأي، لأن المفهوم المسيحي للغة يقوم على مغالطتين: المغالطة الأولى من وجهة نظر علمية، والمغالطة الثانية من وجهة نظر إسلامية. ويمكننا أن نعرض هذا المفهوم لنرى ذلك:

ص: 475

لقد استمد علماء الغرب والدارسون للغة في العصور "الكلاسيكية "مفاهيمهم العلمية واللغوية من الإطار الثقافي الذي كان يحيط بالحياة الذهنية ويهيمن على كل النشاطات الفكرية. وقد كان هذا الإطار يقوم أساساً على الإنجيل. وكان من نتيجة تبنيهم للتصور الإنجيلي ميلاد المفهوم اللغوي الذي يعتبر كجدول من الكلمات ومجموعة من المفردات، وليس كنظام قائم على قوانين، ولما ظهرت اللسانية في العصر الحديث رفضت هذا المفهوم وتخلت عنه. وهنا لابد لنا من طرح السؤال التالي: إذا كان هذا المفهوم غير العلمي قد وجد في المسيحية فهل يعني هذا أن له ما يقابله في الإسلام؟ لكي لا نطيل نقول إن المفهوم الإسلامي للغة يخالف المفهوم المسيحي لها. وإن الرأي الذي سنقدمه من خلال القرآن مقارناً مع الإنجيل يبين ذلك:

اللغة العربية، كشأن لغات الأرض جميعاً، لغة طبيعية وإنسانية. ولها خصائصها التي تنفرد بها ككل لغة لها خصائصها. وإن القرآن لا يعارض هذا المفهوم في شيء، بل على العكس، إنه يؤكده ويدعمه، ففي مواضع متعددة منه يشير إلى وجود لغات منوعة. ولا يقف القرآن عند هذا الحد بل يوسع الدائرة بما يضيف من لغة الحيوان إلى اللغات الإنسانية، إنه ليخبرنا بأكثر من ذلك إذ ما من شيء إلا ويسبح بحمد الله:

- لغة الإنسان.

أما عن اللغات، فيجب أن لا نتصور أن القرآن يحصيها عدداً. إنه يشير إلى وجودها واختلافها. يقول تعالى:

{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ} (الروم:22) .

ص: 476

إن الإشارة إلى تعدد الألسنة لها أهمية من وجهة نظر لسانية، لأنها تنفي فكرة الأصل الواحد للغة والوارد في الإنجيل. ونعني بالأصل الواحد اعتبار الإنجيل أن الله لم يخلق إلا لغة واحدة، وأنه سبحانه جعلها كمجموعة من الكلمات التي هي مسميات للأشياء، أو كأنما هي جدول رصفت في داخله المفردات. ويدلك على هذا ما ورد في الإنجيل:

"لقد سمى الله النور نهاراً والظلمات ليلاً ". (GENESE 5)

"لقد سمى الله الفضاء سماء واليابسة أرضاً، وسمى مجامع المياه بحاراً "(GENESE 8)[3]

- لغة الحيوان.

وأما عن لغة الحيوان فإن القرآن يشير إليها في آيات كثيرة، ونكتفي هنا بالآية:

{قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُم} (النمل: من الآية18) .

بالطبع لا يفصح القرآن عن الطريقة التي عبرت بها النملة، ولكن الدارسين لحياتها يعلمون أن لها نظاماً من الإشارات تستخدمه كأداة للاتصال.

ومن يقرأ القرآن يجد أن الله قد ركز على اعتبار رسالة الأنبياء تذكرة، وفي هذا دلالة على اعتبار اللغة أداة توصيل واتصال:

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} (فصلت: من الآية44) .

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف:2) .

{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} (سورة ق: من الآية45) .

هذه الآيات وغيرها كثير تبين هذا المعنى، أي تعتبر اللغة أداة اتصال بين البشر. وقد نزداد عجباً إذا علمنا أن الإسلام يذهب إلى نفي اللغة المقدسة كلية إذ لا يوجب على الناس اختيار لغة معينة للتوجه إلى الله، بل لا يوجب عليهم الكلام في ذلك أصلاً. وإن قراءة القرآن في الصلاة بلغة عربية لا يغير من هذا شيئاً، الأمر الذي يجعلنا نستيقن أن القرآن يعتبر اللغات على حد سواء، وأن استعمال اللغة إنما هو من طبيعة الإنسان.

ص: 477

لم يطلع "مارتينه"على القرآن، لذا فهو لا يستطيع أن يبني أحكاماً صائبة.

ونعتقد أنه أراد أن يندد بمفهوم تقليدي للغة، فسار على عادة بعض الغربيين في النظر إلى الأمور، أي أنه استوحى مما يعرفه عن الإنجيل ليحكم على العربية. ولكن العجيب عند هذا اللساني أنه قد حمل حكماً على اللغة ذاتها لا على الفكرة أو على المفهوم اللغوي، وكل يدري أنه بين اللغة وبين جملة المفاهيم التي نبنيها حول اللغة فرقاً وبعداً، أو على الأقل هما شيئان لا شيء واحد.

لو عمدنا إلى حصر الأخطاء التي وردت في قوله فإننا نستطيع أن نبرز ثلاثة:

- لقد وضع اللغة العربية تحت ما سماه بـ "اللغة المقدسة"حتى يتمكن من تضييق مجالاتها فلا تكون مستعملة إلا في الصلاة والشعائر الدينية. وهذا خطأ شنيع يكذبه أو يصححه الواقع. فاللغة العربية مستعملة في الصلاة وفي كل مجالات الحياة.

- لقد أطلق حكمه على اللغة وكان أولى به أن يطلق حكمه على المفهوم اللغوي.

وهذا يعني أن "مارتينه"لم يفرق بين ما يسمى "بالنظرية اللغوية" واللغة.

- لقد أغفل "مارتينه" الواقع اللساني للغة العربية. ومن البديهي أننا إذا أنكرنا وجود لغة ما، فإننا ننكر وجود الشعب الذي يتكلمها. فكيف تأتى له ذلك؟ وهل للعرب وجود أو لا؟.

ج 1- إن اللغة تحتفظ بسيطرتها كاملة على المجموعة الاجتماعية مادامت تملك القدرة على تسجيل المشاعر وأداء أغراض من يستعملها ويتكلمها. وإن قدرة اللغة تدل على حيويتها. وتتجلى هذه القدرة في احتواء اللغة- كلما دعت الحاجة- للعناصر الجديدة التي تنبع من حاجة الأمة وتطورها، لذلك فإن اللغة عندما تكون حية لا تشكل نظاماً مقفلا يحول بينها وبين التأقلم. وإن ما نعنيه بالتأقلم هنا هو مجموع الإمكانات اللغوية التي تسمح.

ص: 478

إن اللغة ليست انعكاساً للفكر. ومن العبث أن نظن أن مثل هذا القول يضفي على اللغة أهمية خاصة. فاللغة تستمد أهميتها الاجتماعية أولاً وأخيراً من الدور الذي تضطلع به ضمن المجتمع كأداة للتوصيل والتفاهم، والتعبير والتخاطب، إلى آخر ذلك من الأغراض التي تلبيها.

نود أن نضيف عنصراً جديداً إلى جملة ما قلناه سابقاً، ألا وهو دور الجماعة في إغناء اللغة: إنه مما لا جدال فيه، أن الجماعة التي تؤلف أمة تعطي اللغة قوة الثبات وتدفع بها نحو التجديد في آن واحد. وما دامت هناك جماعة فهناك لغة. ومن المعروف أن كل جماعة تبحث لنفسها عن مثل لغوي أعلى ينطوي تحته كل الأفراد الراغبين في العيش ضمن مجتمع واحد. وإن من شأن هذا البحث عن المثل اللغوي الأعلى أن يقوي وحدة الأمة، وانطلاقاً من هذه النظرة نستطيع أن ندرس أثر اللغة في الحدث القومي، كما لا نريد أن تكون مفاهيمنا مستوحاة من هذه النظرة. وذلك لأن مفهوم القومية، أو قومية اللغة لا يفيد في دراسة اللغة باعتبارها مجموعة من القواعد التي تؤلف نظاماً. ونحن حين نقف على دراسة لغة من اللغات، فإنه لا يدخل في حسابنا موضوعياً الشعب الذي يتكلمها، لأن هذه الناحية لا تدخل في مجال الدراسات اللسانية، ومن الأفضل إحالة مثل هذه النواحي إلى ميادين علمية أخرى تعنى بمثل هذه الدراسات كالعلوم السياسية والاجتماعية مثلاً. إن العلم يقتضي منا أن نقف إزاء اللغة موقفاً مجرداً دون خلط بين عدة ميادين. وكما يقف الكيميائي من المواد التي يحللها ويجري تجاربه عليها بمعزل عن الأفكار غير الكيميائية، فإن على اللساني أن يقف هذا الموقف من مادته، وأن لا يستعير من الميادين الأخرى إلا ما يسمح به موضوع البحث نفسه.

قبل أن نغادر هذا الأمر إلى أمر آخر نحدد فيه موضوع اللسانية، نرى أن نقدم الأسباب التي تدفعنا إلى اتخاذ هذا الموقف:

ص: 479

إن مفهوم قومية اللغة- في رأينا- مفهوم خاطئ تماماً. فاللغة ككل أداة تمتاز بخصال ثلاث:

1-

اللغة هي حصيلة لتجربة إنسانية عاشها الأفراد ضمن جماعة وليست حصيلة لتجربة قومية بالمعنى الحديث لهذا المصطلح.

2-

اللغة كتجربة لا تختلف عن باقي التجارب، يشارك فيها المجتمع الذي يتكلمها بشكل مباشر، وتشارك فيها الإنسانية جمعاء بشكل غير مباشر.

2-

إذا كانت اللغات كلها إنسانية، فهي ملك لمن يتكلمها لا ملك لقوم بالذات. ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم:"من تكلم العربية فهو عربي"[4] .

يدرس اللسان في اللغة مجموع الرموز الصوتية والبنى القواعدية، ويعني بدراسة المعاني، وهذا هو موضوع اللسانية، وإذا كنا نلح على هذه الناحية فلأن اللسانية تريد أن تكون علماً أولاً وأخيراً. أما إذا تدخلت الأهواء القومية، والنزعات المذهبية، فإن العلم- مهما كان نوعه- يفقد أهم خصائصه الموضوعية، ونعني التجرد والبحث الدقيق للوقوف على القوانين التي يسير بموجبها الأحياء والأشياء. ولو نظرنا في تاريخ الفكر الإنساني لوجدنا أن هذه الأهواء وهذه النزعات قد اتخذت طريقها- في بعض الأحيان- ضمن البحث اللغوي حتى كادت أن تودي بمفاهيمه العلمية الأصيلة. ونستطيع أن نضرب مثلاً بأحد أعلام الفكر الغربي من المتعصبين لنرى بعد ما يقوله عن التجرد والبحث الدقيق والحقائق العلمية، يقول "ديورو"الفرنسي في حديث عن لغته وعن باقي اللغات ما يلي:

"إن الحكمة تقضي باختيار الفرنسية لغة. ويجب استعمال الفرنسية في المجتمعات الراقية، والمدارس الفلسفية. وإن لغتنا ستكون لغة الحقيقة إذا قدر لها أن تعود إلى الأرض، على حين أن اليونانية واللاتينية واللغات الأخرى ستكون لغات الخرافة والكذب.

ص: 480

لقد جعلت الفرنسية للتثقيف والإيضاح والإقناع، وأما لمخاطبة الشعب فلا بأس من استعمال اليونانية واللاتينية والإيطالية، ولكن لمخاطبة الحكماء يجب استعمال الفرنسية" [5] .

إن مثل هذه الأقوال توجد في كل الحضارات وعند كل الشعوب، ولكن هل يمكن اعتبارها براهين علمية؟ ولكي ننتهي من هذه الفقرة، نعود مرة أخرى إلى "مارتينه" ونقول: إذا كانت اللغة الفرنسية مستعملة بنجاح، فإن كل اللغات الحية، ومن ضمنها العربية، مستعملة بنجاح أيضاً. وحول هذا الأمر يقول CHRISTION Nigue:

"إن لكل اللغات وظائف منتظمة وقوانين عامة للكلام، وإن كل اللغات الواقعة تحت الملاحظة منتظمة ومباشرة، ولكن بشكل مختلف. لذا فإنه من غير الصحيح أن نقول بأن هناك لغات غنية وأخرى فقيرة، وأن هناك لغات متطورة وأخرى بدائية، كما أنه لا توجد لغة قريبة من الاتصال الحيواني وأخرى بعيدة. إن كل لغة تنطبق على حضارة الشعب الذي يستعملها وعلى أنماط حياته وعاداته "[6] .

2-

اللغة العربية- نظرة من الداخل:

1-

موقف سلبي:

لقد ذكرنا سابقاً في بداية هذا المقال، أن الدراسات اللسانية العربية ما تزال غريبة على فهم بعض الناس. وقد يكون قولنا هذا من قبيل المبالغة، فهناك من الأعمال والمؤلفات ما هو جدير بالذكر، ولكن مجموع هذه المؤلفات ما زال قليلاً ولا يسد الحاجة. وإذا أردنا أن نبحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا، فإننا نستطيع أن نحصرها في سببين:

- السبب الأول خاص بالبُحَّاث العرب.

- السبب الثاني خاص بظروف الاحتلال.

- البحاث العرب:

ص: 481

أ- تتجلى أولى سلبيات البحاثة العرب في العصر الحديث في وقوفهم على ما أبدعه القواعديون العرب القدماء دون السعي إلى تطويره ومتابعته وتعميقه. وإذا كان القدماء قد فجروا عبقريات لغوية، فلأن حضارتهم الإسلامية كانت وراء ذلك، وكان الباحث منهم يستفيد منهجياً وذهنياً من تلك الحضارة. وعندما وصل إلينا ما تركوه لنا، أخذناه نريد درسه، غير أننا لم ننجح تمام النجاح، وظل هذا العلم مغلقاً على أفهامنا في معظم نواحيه. وللحقيقة نقول بأن هذا الفشل يعود إلى أننا قد عزلنا هذا العلم عن الحضارة التي أنشأته وولدته، فإذا هو يصبح في أيدينا جثثاً هامدة لا حياة فيها، أو أوراقاً تلقى على الأسماع دون أن تعيها العقول، وتحفظ عن ظهر قلب لتردد في بعض المحافل أو في امتحانات آخر السنة الدراسية.

ب- وإذا كنا لم ننفذ إلى أعماق التراث- إلا من رحم ربي وهم قليل- فإننا لم نتابع بفهم جيد ما جد في ميدان البحث العلمي. وربما يكون الأمر كذلك لنفس السبب الذي ذكرناه آنفاً، أي لأننا لا نعير العنصر الحضاري اهتماما في دراستنا، مع العلم أن كل تقدم مهما كان نوعه إنما هو حصيلة للحضارة التي أنشأته. ونحن إذا لم نعتمد العنصر الحضاري كأساس في كل أبحاثنا العلمية فسنبقى عالة على غيرنا لا نتاج لنا ولا عطاء.

- ظروف الاحتلال:

من الأسباب التي أدت إلى خلق السلبيات عند البحاث العرب، نجد الاستعمار بمختلف أشكاله. وباعتبار أن الغرب هو مصدر الاستعمار فقد وقفوا منه موقف العداء.

لقد رأى القواعديون العرب في العصر الحديث، وغيرهم من العلماء، ما أنزله الغرب المستعمر ببلادهم من البلاء، حيث انطمست الحركة العلمية، وخمد النشاط الذهني الخلاق. وشاهدوا أيضاً مدى ما ألحقه باللغة العربية من ضرر عند متكلميها، حتى كان من عاقبة ذلك:

أ- الابتعاد عن منبع اللغة ومصدرها الحضاري.

ب- الابتعاد عن اللغة نفسها وذلك عن طريق:

ص: 482

- إغلاق المدارس ومنع التعليم باللغة العربية في كثير من مناطق العالم الإسلامي.

- إحلال لغة المستعمر وفرضها في الدوائر الرسمية والتعليم كبديل للغة العربية.

- العمل على توليد طبقة متأثرة بثقافة المستعمر، تتكلم لغته وتحتقر أصولها الثقافية واللغوية.

ت- انقطاع الصلة في بعض البلدان بين اللغة المتكلمة واللغة العربية الفصحى مما أدى إلى فقر الأولى واختفاء الثانية بعد أن كانت مصدراً يغنيها ويثريها باستمرار.

ث- احتجاب اللغة الأم، فصحى ومتكلمة، في بلدان المغرب عند معظم المثقفين.

ولقد قامت حركة التبشير، والاستشراق بدور هام في دعم خطة المستعمر: أما البعثات التبشيرية فقد تجلى دورها في الإلحاح على قطع صلة الشعوب المستعمرة بماضيها الحضاري الإسلامي. وأما حركة الاستشراق فقد سعت حثيثاً لتحريف وتشويه تاريخ الفكر الإسلامي والتشكيك فيه، كما أنها ركزت جهوداً جبارة للتقليل من أهمية اللغة العربية ودورها الحضاري حتى بدت هذه في عيون بعض (المثقفين) العرب كلغة ميتة لا علاقة لها بالعصر الحاضر، ولا تفي بحاجات التطور العلمي.

2-

موقف إيجابي.

- اتجاه نحو التراث:

أ- لقد اتجه بعض البحاث العرب في العصر الحديث إلى نقل التراث.

وكانت هذه خطوة إيجابية بحد ذاتها، لأنها أيقظت حماسة كثير من العلماء. وينقسم هذا الاتجاه- حسب اعتقادنا- أربعة أقسام رئيسية:

1-

اتجاه عني بنقل التراث ونشره.

2-

اتجاه عني بشرح المنقول وتفسيره والتعليق عليه.

2-

اتجاه عني بتأليف الكتب على غرار كتب الأقدمين.

4-

اتجاه اعتمد التراث، فألف كتباً مبسطة حتى يسهل على أبناء الجيل الجديد تناول المادة المطروحة واستيعابها.

ص: 483

ب- إذا كان هذا الاتجاه قد نجح نسبياً، فإنه قد أخفق نسبياً أيضاً. وإذا كان من أهداف هذا الاتجاه نقل التراث، فإن هذا لا يعني أن الإفادة من التراث ستتم بطريقة آلية. والتفسير الممكن لهذا هو أن الذهنية التي أنتجت التراث هي غير الذهنية التي تلقته. وإننا لا نملك، بالإضافة إلى ذلك، لا الاستعدادات العقلية لذلك، ولا الاستعدادات النفسية، ومناهج التربية وأساليب البحث العلمي عندنا تحول بيننا- في معظم الأحيان وعند معظم المثقفين- وبين بلوغ النضج العقلي الذي يسمح بالإفادة الكلية. وإذا كنا نحكم بأن إفادتنا جزئية، فمن الأفضل أن نعدد الأسباب بشكل أوضح:

ا- إن المكونات الحضارية التي وَلَّدت هذا الفكر تختلف عن المكونات الحضارية للمجتمع الذي نعيش فيه، والتي من خلالها ننظر إلى التراث.

2-

إذا كان هذا التراث هو نتاجاً حضارياً لمجتمع متحضر، فإن المجتمع الذي نؤلفه لا يمت إلى الحضارة بصلة، هذا إذا اعتبرنا الحضارة فكراً وروحاً. إن مجتمعنا في أحسن أحواله مجتمع "متقدم مادياً وتقنياً ". ولو عدنا إلى العلامة ابن خلدون لرأيناه يربط تطور الذهنية العلمية بالحضارة ربطاً لا انفصام فيه، إنه يقول:

"وأما العلوم العقلية أيضاً فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه"[7] .

وهو يعزو ذلك كما قلنا إلى الحضارة:

"فلم يزل كل ذلك في الأمصار ما دامت الحضارة.

فلما ضربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم والصنائع ذهب العلم" [8] .

ص: 484

3-

إن هذا التراث يقوم على الديمومة لأنه يتمثل في المجتمع المتحضر الذي أبدى لسان الحقيقة. وهذا يعني أن جوهر التصور الذهني والفكري للذين أوجدوه كان مبنياً على اليقين. أما المجتمع الذي نعيش فيه، فيقوم على عكس ذلك تماماً: لا ديمومة تمثل الحقيقة، ولا ثبات يرافق النمو الفكري والإبداع العقلي، ولقد حل الشك محل اليقين. إن مجتمعنا كتصور ذهني، قد بني على الفرضية ونقيضها في نفس الوقت.

4-

كان المجتمع العلمي الذي ولَّد هذا التراث، في كل ميادين أبحاثه، يعمد إلى تفكيك العناصر ثم تركيبها وفق قوانين مستقاة من سنن صدرت عنها هذه العناصر. والاتجاه العلمي المعاصر يعمد فقط إلى تفكيك العناصر إلى وحدات، ثم يعمد إلى هذه الوحدات فيفككها إلى وحدات أخرى أصغر، ثم أصغر حتى تفقد كل صلة لها بأصولها الأولى، أو بالقوانين التي بنيت عليها والنظم التي جمعت بينها. ولقد عبر ابن خلدون عن الرؤية العلمية التي كانت عند أصحاب هذا التراث فقال:

"وأما العلوم التي هي آلة لغيرها (.....) ، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط ولا يوسع فيها الكلام، ولا تفرع المسائل لأن ذلك مخرج لها من المقصود، إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود"[9] .

نستخلص من كل ما سلف أن الإفادة من التراث تستدعي منا تأمين شروط معينة بدونها لا نستطيع استيعاب كل الأبعاد الحضارية لهذا الفكر. وقد تثير هذه النظرة حفيظة "المغتربين"أي الذين طوتهم معايير المقاييس الغربية، ولكن لا بأس علينا منهم.

ص: 485

أخيراً نستطيع القول أن الذين نقلوا التراث -بصورة عامة- والذين علقوا عليه أو ألفوا وكتبوا على غراره لم يكونوا على مستوى الشروط الحضارية، أي لم يكونوا عقليا وذهنيا مشبَّعين بها- هناك استثناءات قليلة- ولذا فإنهم لم يستطيعوا أن يثيروا بالتراث ما كان يثيره في بيئته الطبيعية. وهذا ما قصدنا عندما عزونا إليهم الإخفاق النسبي.

- اتجاه نحو الغرب:

إلى جانب الاتجاه الأول، نجد اتجاها ثانيا يكاد يكون معزولاً عنه. فهو لا يؤمن بالتراث ولا يعيره أي اهتمام إنه اتجاه نحو الغرب. ومن العجيب الغريب في هذا الاتجاه هو ما يضفيه عليه أصحابه من صفة العلمية دون أن يكلفوا أنفسهم أي جهد علمي للتحقق من ذلك أو النظر إلى التراث قبل رفضه.

إذا أنعمنا النظر في هذا الاتجاه، فإننا سنقف فيه على حركتين تسيران معا بآن واحد، وفي نفس الاتجاه:

أ- أما الحركة الأولى فتعنى بترجمة ونقل المؤلفات الغربية إلى العربية.

ب- وأما الحركة الثانية، فتستلهم من المؤلفات الغربية وتحاول أن تزرع المفاهيم المستوردة في حقل الذهنية العربية.

إن النقد الذي وجهناه للاتجاه الأول يصلح، في بعض نواحيه، أن يكون موجها للاتجاه الثاني. وإذا كان الاتجاه الأول قد أخفق نسبيا كما بينا، فإن الاتجاه الثاني لم يحقق في مقابل ذلك، نجاحا يذكر. ومع ذلك، نريد أن نبين ما حققه من خلال نقطتين:

أ- لقد مكن هذا الاتجاه الباحث العربي من الإطلاع على ما يجري في الغرب، وكشف له عن التقدم العلمي الهائل الذي تم إحرازه. وهذا الأمر إيجابي في ظاهره، سلبي في حقيقته وجوهره كما سنرى.

2-

لقد أدى تضاعف هذا النشاط إلى "تغريب"في الحياة العقلية لبعض البحاث العرب وبعض المثقفين، فنتج عن ذلك انفصال بين ذهنية هؤلاء والمجتمع الذي يعيشون فيه.

3-

أدى هذا الاتجاه إلى ميلاد شيئين خطيرين:

- "المسخ"، أي التحول إلى شيء لا شكل له ولا هوية.

ص: 486

- "التبعية"، وتبرز هذه الظاهرة عند من رأى في ثقافة الغرب شخصية جديدة له فتقمصها وأخذ يعمل على أساسها.

نستخلص من هذا كله أن كلا من الاتجاهين، على ما فيه من إيجابية، لم يؤد الغرض المطلوب منه، كما نلاحظ أن كلا من الاتجاهين أيضا لم يؤد إلى كشف علمي يذكر لا من وجهة نظر حضارية، ولا من وجهة نظر تقنية.

لقد كان لقدماء العرب من المسلمين ميزان دقيق يزنون به لك أعمالهم وأبحاثهم العلمية، كما كانوا في كل دراساتهم يقفون على وجهين من وجوه البحث:

أ- الوجه الداخلي أو الروحي.

2-

الوجه الخارجي أو المادي.

لو أن الدراسات العربية الحديثة اعتمدت هذا المفهوم، وسعت لكشف القوانين الداخلية والروحية، والقوانين الخارجية والمادية والتداخل القائم بينها لحققت الأمل المنشود دون نقص. ونحن نعتقد أننا إذا أدخلنا هذا المفهوم في أبحاثنا فسنسد ثغرة تركها الشرق والغرب مفتوحة. ولو عدنا للمرة الأخيرة إلى ابن خلدون نستنطقه، فسنجد أنه يعيد العلوم إلى هذين الأصلين دون أن يفصل بينهما. إنه يقول:

"اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين:

علوم مقصودة بالذات، وعلوم هي وسيلة آلية لهذه العلوم".

أخيراً، يجب أن نوفق بين الأصول الحضارية لتراثنا، والتقدم الحادث، ويكون ذلك بجعل العنصر الثاني، أي التقدم بالمفهوم الذي شرحناه، من منتجات العنصر الأول ووسائله، أي الحضارة. وهذا يتطلب منا أن نبني تصورنا الذهني والفكري على ما قامت عليه حضارتنا، ثم ننظر في كل ما جد من تطور فنأخذ به من خلال ما استقر عندنا من مفهوم حضاري.

والله الموفق والمستعان

--------------------------------------------------------------------------------

CHARLES PELLAT: LANGUE ET LITTERTURE ARABE. P227.

[1]

ANDRE MARTINET: ELEMENT DE LINGUISTIQE GENEVAE. P155.

[2]

ص: 487

LA bible: Traduction en Franqis: louis segond.

[3]

ورد شيخ الإسلام ابن تيمية هذه الفقرة في حديث أم سلمة بن عبد الرحمن ثم علق عليه بقوله: هذا الحديث ضعيف

لكن معناه ليس ببعيد، بل هو صحيح من بعض الوجوه، انظر (اقتضاء الصراط المستقيم) ص169 ج1 ط مكة 1389.

[4]

Di derot: lettre sur les suords et les muetes. P371-372. EJ j، assezat، ceuvrescompletes DA Divrot، Vol (1) Franier Freres.1875. PARIS.

[5]

Initiation methodice’a la grammaire generatique. p10. ED. Armand Colin. 1974.

[6]

المقدمة ص/544/.

[7]

المقدمة ص/545/.

[8]

المقدمة ص/537/.

[9]

ص: 488

تسابيح

للشيخ عبد المحسن حليث مسلم

تصارعني وتُمِعْنُ في الصراع

إلهي أين أمضي والخطايا

وكم في الجهلِ سافر بي شراعي

فكم أبحرتُ في دنياي لهوا

قضيتُ العمرَ في طلبِ الخداع

وبعد هُنيهةٍ أيقنتُ أني

وأظهرت الذي وارى قناعي

إلهي قد كشفتُ إليك ضري

غوى وأتاكَ من بعد الضياع

وجئتُ تسوقني هفوات عبدٍ

إليكَ وخانني فيه دفاعي

وقدمتُ الذي قد كان مني

أشد لظى من العمر المضاع

وما في هذه الدنيا شقاء

وإني في حماك لمستجيرُ

مددتُ يديَّ نحوكَ يا إلهي

إلى رحماكَ يا ربي فقيرُ

غنيٌّ أنت عن مثلي وإني

لعرض حسابي اليوم العسير

إلهي ما أقول إذا دعاني

ذنوبٌ ليسَ تمحوها البحور

وكل صحائفي سودٌ وفيها

أم العُقبْى عذاب مستطير

فهل أوتى كتابي في يميني

فأنتَ بما أتى مثلي بصير

فحاسبني بجودكَ لا بفعلي

وغرتني من الدنيا القشورُ

لقد ضيعت هذا العمر لهواً

ص: 489

مع المجاهِدِين الأفغَان

للدكتور محمود أحمد عبد المحسن

أستاذ مساعد بكلية الحديث الشريف

مثلا كأورع ما تكون قويه

ومجاهدو الأفغان صار قتالهم

فغدا يصول بغضبة مضريه

هجموا هجوم الليث ديس عرينه

في وجه أشرس قوة همجيه

صمدوا صمود الراسيات شهامة

لم تثنهم نذر ولا وحشيه

شعب أباة الضيم أبطال الوغى

لا يطلبون سوى الجنان هديه

باعوا لربهم النفوس سخية

أعلى وأسمى ما تكون قضيه

قد طار بين الخافقين حديثهم

مهج النفوس فدىَ لها وضحيه

وقضية الإسلام خير قضية

همم تضيق بوصفها العربيه

لله در المؤمنين وحبذا

في كم بكرة وعشيه

يستبشرون بفتح كابل عنوة

ووسيلة لرضى الإله سنيه

وجهاد أهواء النفوس فريضة

مر صرح كل فضيلة دينيه

إن الذنوب هزيمة كبرى تد

وتحط من قدر الرجال رديه

وتدك صرح النصر من عليائه

تبا لها شهوة نفسيه

أتغاضب المولى الكريم جهالة

الرب لا تخفى عليه خفيه

اكبح جماح النفس عنك قل لها

بالبر والتقوى بكل رضيه

يا إخوة الدين الحنيف تعاونوا

إن التآلف طاقة ذريه

يا إخوة الدين الحنيف تآلفوا

إن الخلاف هزيمة وبليه

ولم الخلاف؟ وفيكمو قرآنكم

مثل البناء مودة أخويه

كونوا على الأعداء صفا واحدا

فتحوا البلاد وأصلحوا البشرية

أجدادكم لما تجمع شملهم

والصبر للنصر المبين مطيه

لا تيأسوا فاليأس شر هزيمة

مثل الجهاد فريضة حتميه

إن الثبات على القتال تجشما

ص: 490

رمضان..والجرح.. والأمل

شعر: عبد الرحمن صالح العشماوي

وفؤادي ـ كما ترى ـ ولهان

جئتَ بعد الغياب يا رمضانُ

يك نور، وفي خطاك اتزان

أيها القادم الحبيب، وفي عينيـ

خاشعا، حين أُنزل القرآن

لَكأني أراكَ، والكونُ يُصغي

وتجلى في ظلك الإيمان

نبتت في حماك راحة نفسي

وفؤادي في أمرها حيران

الرُّؤى من وراء أفقكَ لاحت

ونفسي تذيبها الأحزان

كيف ألقاك أيها القادم الفذ

وتخلى عن مركبي الرُّبان

قيّدتني هموم عصرٍ غريق

حد يرى ولا شطآن

وتمادى محيط حزني فما للبحر

مثلما تاه في نشيدي البيان

تاه في لجّة الحياة شراعي

وماذا أقول يا رمضان؟

بما أفضي إليك من نبأ القوم

نبأ قد مشى عليه الزمان

أعن القدس، والضحايا، فهذا

جمدت دون حلها الأذهان

شغلونا عن شأنها بقضايا

كل يوم يجتاحنا عدوان

أبدلونا بجرحنا ألف جرح

فأحداث أمتي ألوان

صبّر القلب أيها القادم الفذ

القدس يعاني، وتشتكي لبنان

كنتُ، فيما مضى، أقول لك

وتشقى بدعها الأجفان

فيلوح الأسى على وجهك الغض

صار يلهو بأمرها الشيطان

مزقت أمتنا الخلافات حتى

دمار، وحسرة، وهوان

إنها الحرب أيها القادم الفذ

فيلاقيك مأتم ودخان

أيَّ شيء تقوله حين تأتي

تاه فيه السجين والسجَّان

نحن في عالم غدا مثل سجن

في طريق، وماله عنوان

وانبرى كل فارس فيه يجري

ر وقد حال دونه الطوفان

تائها في العباب ليس يرى النور

ء وهو المماذق الخوان

ألف بوق يشدو بأمجاده الغرا

وصلاح، وظلمه إحسان

ص: 491

وتماديه في الغواية هديٌ

فارسا، ذلك الغبي الجبان

لا تسلني من بعدها كيف أضحى

يدرون، واختلَّ فيهم الميزان

جهل الناس كل شيء وهم

إن يكن زلَّ في حديثي اللسان

أيها القادم الحبيبُ، أقلني

وجهك نور، يبثه القرآن

ربما جئت منقذا، فعلى

للتآخي، وفي رؤاك أمان

موسم أنت للهدى، ومجال

سيولي، لو أشرق الإيمان

ناد قومي فإن ليل المآسي

يتلظى بناره الإخوان

كل خطب يهون إلا عداء

ص: 492

رحم الله المحلقين

للشيخ: يوسف الهمزاني الشافعي

مدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة

وسمعت لله لا تألو حتفيه ما أبرَّ النفس قد لبَّت وفيه

فيض آيات ولاء وتحية

صدَّق المكنون أعمال جليه

ذلك الحاج إلى خير بنيَّة

راح يزجيها إلى رب البرية

ناصح التوبة قد أنكر غيّه

قد أتاه صاغرا صادق نية

أعتق المولى بها اليوم وليّه

فأتى الإطلاق والمن عطية

ليس فيها غير نبتات خفيّه

وتجلت صفحة الرأس سوية

إن للسابق في الفضل سنيّه

حلق الشعر فلم تبق بقيّه

كل ما أثقل نفسا من خطيّة

وتهاوى يسبق الشعر هُويَّة

صفحة في العمر بيضاء نقيّه

وغدت تُكتب للنفس الرضية

أي ميلاد سعيد لِزكيّه

تولد النفس بها وهي فتية

خير زاد لحياة سرمديّه

عزمات في الهدى تمَّت قوية

وبفيض النور قد أضحت غنيّه

من هموم العيش قد باتت خلية

وخلت من كل أعلاق دنية

خلصت لله جهرا وطوية

أي فوز أي أيام هنية

حُرِّرت من غلها فهي نجية

بِمُنى النفس من الخير سخية

أي عين لحياة ذهبية

ويرد النفس حسناء صبية

ماؤها يبعث في الميت الحمية

كم طوى ركب إليها من ثنية

حُلُم الماضين أزمانا خلية

وهي ليست ببعيد أو خفية

وأضاعوا العمر بحثا كل طِية

ذلك العود خلاص البشرية

إنها العود إلى رب البرية

عُظم المولى بها فهي مطية

حرمات الله في الأرض علية

ورضا الله لنا أبقى بقية

حق للمالك أن تعنو الرعية

ص: 493

حوار حول الأدب الإسلامي ومناهج دراسته

تحت رعاية صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز أمير منطقة المدينة المنورة عقدت كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية حواراً حول الأدب الإسلامي ومناهج دراسته في المدة من 5 إلى 9 رجب 1402 هـ.

فكرة الحوار

إن طبيعة الجامعة الإسلامية الدعوية. وحرصها على تلمس حاجات المسلمين وبذل الجهد في تلبية ما تستطيعه منها، والإحساس المتزايد بين المسلمين كافة بأنهم في حاجة إلا أدب جميل ونظيف يصدر عن تصور إسلامي وينمّي الأذواق ويربي الأجيال ويسهم في واجب الدعوة إلى الله، لا سيما وأن قسما من آدابهم قد تحول بفعل الغزو الفكري إلى أداة تهديم للعقيدة والسلوك:.

ولكي تؤدي كلية اللغة العربية في الجامعة الإسلامية بعض واجبها في خدمة الإسلام والمسلمين.

لذلك كله.

دعت الجامعة عددا من رواد الأدب الإسلامي المعاصر ودارسيه ومدرسيه في جامعات المملكة وبعض الأقطار العربية الأخرى إلى حوار يناقشون فيه أهم قضايا الأدب الإسلامي لتأصيلها وتعميقها ودعم مناهجها.

كلمة صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز أمير منطقة المدينة المنورة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، فضيلة نائب رئيس الجامعة الإسلامية، إخواني الأساتذة أعضاء ندوة حوار الأدب الإسلامي. أيها الحاضرون جميعا:

إنه ليطيب لي أن ألتقي بكم وفي هذه المناسبة المحببة إلى قلبي التي تعد من أهم المناسبات الإسلامية في القضايا المعاصرة التي تهم الغيورين على دينهم ولغتهم العربية وهي ارتباط الأديب المسلم بدينه وعقيدته وولائه لكتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته الإسلامية حيث يكون بيانه وثقافته وأدبه مسخرا لخدمة هذا الدين ملتزماً بعقيدته.

ص: 494

وإذا كانت العقائد والأفكار والمذاهب المعادية للإسلام تجد من يدعمها بالمال والقلم والقوة واللسان من دول ومؤسسات وأحزاب وأفراد فإنما على المسلمين أن يهبوا لنصرة دينهم امتثالاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} .

وإن عقد مثل هذا الحوار الذي يقصد به إبراز مفهوم الأدب الإسلامي وتعميقه في نفوس أبناء الإسلام من ذوي الطاقات والمواهب الذين لا تستغني الأمة الإسلامية عما أوتوا من بيان وجمال وأسلوب وصدق رؤية مع التزام بمنهج هذا الدين الشامل لكل جوانب الحياة.

إن عقد هذا الحوار بهذه الصفة لهو من الجهاد في سبيل الله الذي أرجو أن تجني الأمة الإسلامية ثماره من خلال أفكار أعضائه وتوصياتهم البناءة الهادفة، كما أرجو أن توفق الجامعات العربية والإسلامية والمؤسسات الأدبية أن تبرز هذا الأدب الملتزم بالخط الإسلامي إلى حيز الوجود وأن تطبقه عمليا لتنير لشباب الإسلام الصراط المستقيم في مناهج الأدب.

وإني أهنئ الجامعة الإسلامية على ما تقوم به من نشاط في كل مجال من المجالات المفيدة ومنها عقد هذا الحوار الذي تنظمه كلية اللغة العربية وأتمنى لكم أيها الأعضاء كل نجاح وتوفيق.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كلمة الدكتور عبد الله الزايد نائب رئيس الجامعة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن نزغات الشياطين، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى أتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.

صاحب السمو الملكي الأمير عبد المحسن، أصحاب الفضيلة والسعادة، أيها الحضور الكرام.

ص: 495

إن من دواعي سرورنا واغتباطنا في هذه الجامعة أن نجد الاستجابة التامة من العلماء والأدباء والمفكرين لحضور هذا المنتدى الكريم الذي ستناقشون فيه ما يتصل بتأكيد إعادة الحق إلى نصابه بربط الأدب بالإسلام وهذا الموضوع وإن بدا لبعض الأفكار غريباً إما لكونه من باب تحصيل الحاصل وإما لأن الأدب له مناهجه المتحررة من قيود الدين والالتزام بقوانينه التي قد يرى الأديب نفسه مكبلا بقيود حديدية لا يستطيع تجاوزها إلى الرحب من آفاق الأدب ومجالاته المتعددة فإنا على أي حال من الحالين لا بد أن نعنى في الجامعات العربية الإسلامية بتبيان الحق وتأكيد ارتباطه بمنبعه وأصله.

إن الأدب في أصدق معانيه هو ذلك الأسلوب التعبيري الرفيع بشتى صوره خدمة للإنسان وللأمة.

أو هو ذلك البيان المؤثر على السامع بأي نوع من أنواع البيان أو لنقل ما شئنا فإنه لن يخرج عن هذه الدائرة الإنسانية ومن هنا كان لا بد أن يعلم الناس حقيقة الأدب من حيث هو أدب يخدم عقل الإنسان وفكره وحياته ذات الجوانب المتعددة وهذا يتطلب لعمر الحق جهودا مضنية توازي تلك الجهود التي بذلت بكثافة عبر فترات من التاريخ خلا فيها المقام من قائم للحق بحجة كافية.

ولعل الله قد اختاركم لتنالوا شرف القيام بهذه الحجة لتعيدوا إلى الصواب ما نَدَّ عنه من أفكار ومفكرين.

فإن اللسان ما خلقه الله تعالى إلا ليكون عبدا له وحده قريبا من كل ما يحقق هذا الأكيد بعيدا عن كل ما يعيق مسيرته في تحقيقه، يقدم الخير للناس ويدعو إلى المثل والقيم وعمارة الحياة الإنسانية بالهدى والحق.

إن الذين يظنون الأدب هو ذلك الأسلوب الناد عن الأدب البعيد عن الالتزام بالمبادئ الأخلاقية يظلمون أنفسهم بالباطل من الظن قبل أن يكونوا معتدين على الحقيقة والحق.

ص: 496

ويقيني أن الباطل لا يدوم وأن الحق هو الذي سيظل طوداً شامخاً على مر الأجيال والعصور {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} .

إننا إذ نؤكد ترحيبنا بكم لعلى أمل أن يسفر حواركم عن النافع والمفيد لنا في هذه الجامعة الإسلامية ولسائر الجامعات العربية والإسلامية والمؤسسات الثقافية في سائر الوطن الإسلامي والعربي بإذن الله. وفقكم الله وسدد خطاكم.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كلمة الأعضاء المشاركين في الحوار

ألقى الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا نيابة عن الأعضاء المشاركين في الحوار الكلمة التالية:

الحمد لله، أحمده وأستعينه، والصلاة على محمد سيد خلقه، وخاتم رسله ثم التقدير كل التقدير لهذه الجامعة الإسلامية التي ملأت ديار المسلمين خيراً وبراً، وأفعمت أقطارهم دعاة وهداة.

وضراعة إلى الله العلي القدير أن يجمعنا معشر المسلمين- على الخير والبر، وأن يحقق على أيدينا ما يرضي الله ورسوله.

وبعد: فباسم الإخوة القادمين إلى هذا البلد الأمين وجامعته الغالية للإسلام في مجال من مجالات نشاطها المتعدد المتنوع المتواصل ألا وهو الدعوة إلى الأدب الإسلامي والعناية به، ومحاولة نشره في الأرض.

باسم هؤلاء الإخوة نشكر هذه الجامعة والقائمين عليها، وعلى رأسهم معالي نائب رئيسها الدكتور عبد الله الزايد أجزل الشكر وندعو له ولمن معه أوفر الدعاء. ونسأل الله أن يهب ملك هذه البلاد الغالية الصحة والقوة والعون، وأن يسبغ على ولي عهده الخير للإسلام، والبر بالمسلمين، وأن يكرم أمير المدينة المنورة كما أكرم هذه الندوة برعايته لها.

والله جلت قدرته هو أعز من يسأل وأغنى من يجيب.

برنامج الحوار التفصيلي

الأربعاء 5 رجب 1402 هـ:

ص: 497

حفل الافتتاح في قاعة المحاضرات الكبرى بالجامعة.

11،30-12.00 صباحا

استراحة والانتقال إلى الكلية.

12.

00-12،30

جلسة الإجراءات.

12،30-1،30

صلاة الظهر وراحة.

1،00

جلسة الحوار الأولى (مدير الجلسة الأستاذ محمد قطب) .

5،00 - 6،45

مناقشة مفهوم الأدب الإسلامي.

صلاة المغرب

6،45 - 7،15

بقية الجلسة

7،15 - 8،15

صلاة العشاء

8،15

الخميس 6 رجب 1402هـ

جلسة الحوار الثانية (مدير الجلسة الدكتور زاهر عوض الألمعي)

8،00 -10،00

مناقشة العلاقة بين الأدب والعقيدة

راحة

10،00 - 10،30

جلسة الحوار الثالثة (مدير الجلسة معالي الشيخ عبد العزيز الرفاعي)

10،30 - 12،30

مناقشة وظيفة الأدب

صلاة الظهر وراحة

12،30

جلسة الحوار الرابعة (مدير الجلسة الدكتور عماد الدين خليل)

5،00 - 6،45مساء

مناقشة مقاييس تقويم الأدب

صلاة المغرب

6،45 -7،15

بقية الجلسة

7،15 -8،15

صلاة العشاء

8،15

الجمعة 7 رجب 1402هـ

جلسة الحوار الخامسة (مدير الجلسة الدكتور عبد القدوس أبو صالح)

5،00 -6،45

مناقشة منهج دراسة الأدب الإسلامي

صلاة المغرب

6،45 -7،15

بقية الجلسة

7،15 -8،15

صلاة العشاء

8،15

السبت 8 رجب 1402هـ

جلسة الحوار السادسة (مدير الجلسة عبد الرحمن رأفت الباشا)

8،00 - 10،00 صباحا

مناقشة قضايا متنوعة في الأدب الإسلامي

زيارة معالم المدينة

10،00-1،00

جلسة الحوار السابعة (مدير الجلسة الدكتور نجيب الكيلاني)

5،00 - 6،45 مساء

مناقشة وسائل تدعيم الأدب الإسلامي

صلاة المغرب

6،45 -7،15

بقية الجلسة

7،15 -9،00

صلاة العشاء

9،00

الأحد 9 رجب 1402هـ

ص: 498

مناقشة التوصيات

9،00 - 11،00 صباحا

حفل غداء

2،00

الحفل الختامي

7،30 -9،30

العاملون في الحوار

اللجنة التحضيرية

الدكتور/ عبد الباسط بدر- أمين الحوار

الدكتور/ مصطفى عليان

الدكتور/ صالح آدم بيلو

الدكتور/ عمر الساريسي

الدكتور/ نزيه عبد االحميد

الدكتور/ جلال حجازي

لجان العمل

لجنة التنظيم والمتابعة:

الشيخ/ عبد الله أحمد قادري الشيخ/ عبد العزيز الصاعدي الدكتور/ عبد الفتاح بحيري الدكتور/ عبد الباسط بدر

اللجنة الإدارية:

الدكتور/ مصطفى عليان

الدكتور/ عمر الساريسي

الدكتور/ صالح آدم بيلو

لجنة الإعلام:

الشيخ/ محمود سالم

الشيخ/ محمد عوض السهلي

لجنة البحوث والطابع:

الدكتور/ جلال حجازي، الدكتور/ نزيه عبد الحميد، الشيخ/ عائض نافع العمري

لجنة الاستقبال والمرافقة:

الشيخ/ عبد الرحمن الحجيلي

الشيخ/ جبران أحمد صالح

الشيخ/ عمر باحاذق

الشيخ/ كامل أحمد سعيد

المشاركون في الحوار:

أ- من خارج المملكة:

1-

الدكتور نجيب الكيلاني

أديب إسلامي.

الإمارات العربية المتحدة- دبي.

2-

الدكتور عماد الدين خليل

أديب إسلامي

وأستاذ سابق في جامعة الموصل- العراق.

3-

الدكتور محمد حسن عبد الله

الأستاذ في كلية الآداب بجامعة الكويت.

4-

الدكتور النعمان القاضي.

الأستاذ بكلية الآداب بجامعة صنعاء.

5-

الدكتور مصطفى يونس

عميد كلية اللغة العربية- جامعة الأزهر- أسيوط.

وقد دعي الأستاذان:

أبو الحسن الندوي

الأديب والداعية ومدير جامعة ندوة العلماء بلكنهو- بالهند.

ويوسف العظم

الأديب الإسلامي المعروف

واعتذرا لارتباطهما المسبق بمؤتمرات تعقد في موعد الحوار نفسه.

ب- من داخل المملكة:

ص: 499

أساتذة من جامعة أم القرى:

الأستاذ محمد قطب

الكاتب الإسلامي المعروف والأستاذ بقسم الدراسات العليا.

الأستاذ عبد الرحمن حسن حبنكة

الأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين.

أساتذة من جامعة الملك عبد العزيز بجدة

الدكتور كامل الدقس

الأستاذ بكلية الآداب.

ودعي كل من:

الدكتور أبو بكر أحمد باقادر

والدكتور عبد الرحمن بارود

الأستاذين بكلية الآداب ولم يحضرا.

أساتذة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية:

الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا

رئيس قسم النقد والبلاغة ومنهج الأدب الإسلامي بكلية اللغة العربية بالرياض.

الدكتور عبد القدوس أبو صالح

الأستاذ بكلية اللغة العربية بالرياض.

الدكتور عبد الإله الحامد

عميد معهد اللغة العربية بالرياض.

الدكتور عبد الله العسيلان

عميد شئون المكتبات بكلية اللغة العربية بالرياض.

الدكتور زاهر عوض الألمعي، الشاعر والأستاذ بكلية الدعوة وأصول الدين بالرياض

الدكتور محمد على الهاشمي الأستاذ بكلية اللغة العربية بالرياض

الأستاذ أحمد براء الأميري

الأستاذ بمعهد اللغة العربية بالرياض

الدكتور موسى ريحان

الأستاذ بكلية الشريعة واللغة العربية بالقصيم

الأستاذ محمد عادل الهاشمي

الأستاذ بكلية الشريعة واللغة العربية بأبها.

وقد دعي أيضاً كل من:

عميد كلية الشريعة واللغة العربية بأبها.

والدكتور عبد الله بريمه

الأستاذ بكلية الشريعة واللغة العربية بالقصيم.

واعتذرا عن الحضور لانشغالهما بارتباطات أخرى.

أساتذة من جامعة الملك سعود:

الدكتور محمد الصباغ

الأستاذ بكلية الآداب بالرياض.

شخصيات من جهات مختلفة:

معالي الشيخ/ عبد العزيز الرفاعي

المستشار بمجلس الوزراء "سا بقاً"والأديب المعروف.

ص: 500