المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌العدد 108 فهرس المحتويات 1- مقدمة العدد: مدير الجامعة الإسلامية د. صالح بن - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ٣٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌العدد 108 فهرس المحتويات 1- مقدمة العدد: مدير الجامعة الإسلامية د. صالح بن

‌العدد 108

فهرس المحتويات

1-

مقدمة العدد: مدير الجامعة الإسلامية د. صالح بن عبد الله العبود

2-

الملك عبد العزيز آل سعود وفقه الدعوة: للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي

3-

الدين. والشرف. والمروءة في حسِّ الملك عبد العزيز رحمه الله: د/ عوض بن أحمد بن سلطان الشهري

تابع الدين. والشرف. والمروءة في حسِّ الملك عبد العزيز

(1)

تابع الدين. والشرف. والمروءة في حسِّ الملك عبد العزيز

(2)

تابع الدين. والشرف. والمروءة في حسِّ الملك عبد العزيز

(3)

4-

أثر الدعوة السلفية في توحيد المملكة العربية السعودية: د. حمود بن أحمد الرحيلي

تابع لأثر الدعوة السلفية في توحيد المملكة العربية السعودية (1)

تابع لأثر الدعوة السلفية في توحيد المملكة العربية السعودية (2)

5-

أصالة المنهج في سيرة الملك عبد العزيز وأثر ذلك في الاستقرار الشامل للمملكة العربية السعودية: د/ عبد الرب بن نواب الدين بن غريب الدين آل نواب

تابع لأصالة المنهج في سيرة الملك عبد العزيز

(1)

تابع لأصالة المنهج في سيرة الملك عبد العزيز

(2)

6-

جهود الملك عبد العزيز في بسط الأمن وأثره في حفظ مقومات المجتمع السعودي وتنميته وازدهاره: الدكتور / عبد الرحيم بن محمد المغذوي

تابع لجهود الملك عبد العزيز في بسط الأمن

7-

الرعاية الصحية لحجاج بيت الله الحرام في عهد الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله

الدكتور عبد العزيز محمد نورولي

عمادة البحث العلمي - جميع الحقوق محفوظة 1423 هـ / 2002 م

ص: 287

مقدمة العدد

تقديم

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، خاتم الأنبياء والرسل، لا نبي بعده ولا رسول، بعثه الله إلى الناس كافة، ينذرهم عن الشرك ووسائله وأسبابه، وعن البدع والخرافات والتفرق واتباع الأهواء، ويدعوهم إلى التوحيد وتحقيقه، واتباع السنة والاعتصام بحبل الله جميعاً، ولزوم الجماعة، والتعاون على البر والتقوى، فلا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها عنه، ثم توفاه الله إليه، وأبقى دينه، وافترض طاعته على الجن والإنس، إلى يوم القيامة، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

ص: 288

فإنه يسرني أن أقدم، بهذا التمهيد، هذا العدد الخاص من مجلة الجامعة الإسلامية؛ المجلة العلمية المحكمة، وهو إصدار خاص؛ بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية، أقدمه للقراء الكرام، وقد حوى هذا العدد، من الموضوعات العلمية القيمة، العديد المفيد، لعلماء محققين، وأساتذة باحثين، كتبوا عن الملك عبد العزيز رحمه الله المؤسس الباني، عن منهجه السلفي الصالح، وأثره في توحيد المملكة العربية السعودية، وإصلاحها دينا ودنيا، وتنميتها علميا وصحيا، وبسط الأمن في ربوعها، وفقه الدعوة إلى الله تعالى لديه، والتزامه مكارم الأخلاق والشرف والمروءة؛ التي بعث بها الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان لذلك الأثر العظيم، في توطين أشتات من العرب هم "أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم"لذلك و"لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية، من نبوة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة"[1] ، "فإذا كان الدين، بالنبوة أو الولاية، كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين، المُذْهِب للغلظة والأنفة، الوازع عن التحاسد والتنافس، فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، يذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق، تَمَّ اجتماعهم، وحصل لهم الملك والتغلب"[2] .

ص: 289

ولقد كان في واقع الحال - قبل قيام الملك عبد العزيز رحمه الله كما هو المشهور من الرواية المتواترة، وكما هو المشاهد الآن من بقيته على حاله، في خارج المملكة العربية السعودية، مما ينافي تحقيق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، - مظاهر خطيرة على الأمن والإيمان، كالأضرحة المقدسة من دون الله، والمشاهد الشركية، والقباب المقامة على القبور المعظمة، يطاف حولها ويعكف تعبدا لها، وتقصداً للتبرك بها، وطلب قضاء الحوائج، وتفريج الكربات عندها، في مكة مركز التوحيد نفسها، كالقباب التي كانت في المعلاة في الحجون، على قبر خديجه وغيره، وفي الحلقة القديمة على قبر المستسقي، وقبر العلوية قريب من باب مكة، وقبر الشيخ أبو سرير وضريحه؛ بزاوية كانت معروفة في آخر سوق الندى، والقبر الشهير بالمظلوم والزوايا المنسوبة إلى الصوفية، وما فيها من الأضرحة والخرافات التي تنسج حولها، وفي طريق النورية قبة (على ما يزعمونه) قبر ميمونة، وفي الزيمة على قبر الرشيد، وغير ذلك، كما في المدينة في البقيع القباب التي كانت على قبور الصحابة، وفي أحد كانت القبة المشهورة على قبر حمزة، وغير ذلك.

هذا في مكة والمدينة، فكيف في غيرهما؟ إنه كثير، في نواح عديدة، كانت القباب على القبور، والأماكن والأشجار والأحجار والغيران، والطواغيت، التي تقصد للدعاء والتبرك وذبح القربان، وغير ذلك مما لم ينزل الله به من سلطان، وإنما هي مظاهر للبدع والشرك والخرافة التي يدعو إليها الشيطان، ويتخذ منها بعض الناس سُلّما لسلب الأموال، عن طريق سدانتها والشعوذة والدجل على ضعاف العقول والجهلة، خاصة من الحجاج والغرباء.

ص: 290

ولما كانت هذه الأمور الواقعة منافيةً للإيمان، ولا لها من ينكرها ويغيرها، كانت بيئتُها مرتعاً لاضطراب الأمن بل عدمه، مرتعاً لنشاط أهل الشرك، وعبد الطاغوت، وجفاة الأعراب، وسراق الحجيج، ومنافقي العرب، وعلوج العجم، في النهب والسلب والقتل وقطع الطريق، والاحتيال والنصب، بمختلف الطرق الملتوية، وأساليب الدجل والشعوذة؛ حتى انتشرت جرائم الحرامية، وعصابات قطع الطريق، على حجاج بيت الله الحرام، وسلب أموالهم، ونهب بضائعهم وأمتعتهم، من قِبل البدو والعربان والأدلاء والمطوفين والجَمّالة، فكان الحاج (فضلاً عن غيره) عرضةً لكل ألوان التعدي على العرض والدم والمال، والنهب، والعبث بالحرمات، من الضرب والقتل والسرقة والخطف والاغتصاب، وسوء الأدب والصياح والصخب، واتخاذ شتى أنواع الخداع والحيل لاستغفال الحاج والغريب، عن أمتعته وثيابه ونفقته، أو استدراجه بعيدا عن رفاقه، ليُقضى عليه بضربة بعصا أو خنجر أو طلقة نار، فتخمد أنفاسه، وعندئذٍ يعريه الحرامي من ثيابه، وينتزع حزامه، ويفر به إلى الجبال، وربما كان هذا الحرامي أحدَ الجماميل أو الحراس أو الأدلاء، وقد لا يجد مع ضحيته مالاً، فلا يتأسف إلا على رصاصته!

ولذا؛ أصبح الحج سلسلة من المشقات، بل نوعاً من المغامرة والمجازفة، وكان الناس يحذرون المسافرين من أخطار الطريق، وكان من يريد الحج يودع أهله وداع مفارق لا يرجو العودة؛ بسبب اضطراب الأمن، وسوء أحواله، وكانوا يقولون:"الذاهب للحج مفقود، والعائد منه مولود"وأصبح هذا القول مثلاً، يرويه المسنون، الذين أدركوا هذا الواقع [3] .

ص: 291

وكان التعصب المذهبي قد بلغ ذروته، حتى وصل بهم إلى أن تقام في المسجد الحرام أربع جماعات في الصلاة المفروضة، لكل أهل مذهب جماعة وإمام ومقام، وقد رأيت أبنية هذه المقامات في المسجد الحرام، وهذا لاشك له أثره في تفريق جماعة المسلمين، وتمزيق صفوفهم، فرحم الله الملك الإمام على توحيده الأمة.

هكذا كان الواقع في الحجاز وغيره، سواء كان في الشرق أو في الغرب أو في الشمال أو في الجنوب؛ قبل قيام الملك الإمام عبد العزيز بتأسيس دولة التوحيد؛ المملكة العربية السعودية، فلما هيأ الله عبد العزيز سلطانا للإسلام نصيرا، وملكا للعرب حاميا، وقدوة للمسلمين وعزاً، ولما لم يكن كذلك بمشيئة أجنبي أو مستعمر، بل بمشيئة الله تعالى وحده، قام فيهم مقام الولي؛ مقام وريث النبي؛ الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، وتحقيق توحيده، ويذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخذهم بمحمودها، ويؤلف كلمتهم، لإظهار الحق، فتم توطينهم واجتماعهم على تحقيق التوحيد؛ الذي هو حق الله على العبيد، وأصبح الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خلق الكبر والأنفة والجفاء والغلظة والمنافسة والحسد على الدنيا، ذهب ذلك منهم، فسهل انقيادهم، وتوافقت أهواؤهم، على إمامته؛ بما يقيم لهم من الملك، وما يقيم فيهم من التوحيد؛ الذي هو حق الله على العبيد؛ فحصل له ولأبنائه من صلبه ومن شعبه توحيد المملكة العربية السعودية على ولايتهم؛ قدراً كونياً، وشرعاً دينيا؛ رغم ما كانت عليه الحال من الشتات والشقاء والفرقة، فلله الحمد والمنة.

وصدق الشاعر محمد بن عثيمين؛ حين قال يخاطبه:

تألفت بك أهواء مفرقة

تأججت بينهم من قبلك النار

فأصبحوا بعد توفيق الإله لهم

بعد الشقا والجفا في الدين أخيار

ص: 292

وإن مرور مائة عام قرن من الزمان على تأسيس المملكة العربية السعودية على التوحيد، نعمة من الله عظيمة، نبتهج بها، وتقتضي منا جميعا الشكر لله تعالى، والتأمل والاعتبار، فيما حققته هذه المسيرة، من ترسيخ دعائم وحدة المملكة العربية السعودية، وأمنها ورخائها، على المنهج السلفي الصحيح؛ الذي التزم به قائد هذه المسيرة، الملك عبد العزيز رحمه الله وسار عليه أبناؤه البررة، وشعبه الوفي، من بعده، فما زالت الوحدة السعودية متماسكة بالتوحيد (ولله الحمد والمنة) وماتزال (إن شاء الله تعالى) متماسكة بالتوحيد؛ قال الله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الأنفال: 53.

مضى قرن من الزمان، والمملكة العربية السعودية (ولله الحمد والمنة) تحتل المكانة الدينية في العالم الإسلامي مكان القلب في الجسد، سواء في البناء وتوحيد الكيان، أو في الحكم والإدارة، أو في التنفيذ والتطبيق، أو في التربية والتعليم، منذ نشأة بنائها إلى استكماله وتطويره؛ من لدن المؤسس الباني؛ الملك الإمام عبد العزيز رحمه الله ثم مروراً بعهد أبنائه الملوك؛ سعود وفيصل وخالد رحمهم الله إلى عهد قائد نهضتها، ورائد تعليمها، ومحكم قوتها؛ خادم الحرمين الشريفين؛ الملك المفدى؛ فهد بن عبد العزيز، وولي عهده الأمين، والنائب الثاني، وبقية الأمراء من أبناء عبد العزيز، والشعب السعودي؛ عُصبةِ العز والمنعة (بإذن الله تعالى) حفظ الله الجميع، وأمدهم بعونه وتوفيقه، وأسبغ عليهم وعلى أمتهم نعمة الصحة والعافية.

ص: 293

وبقدر الإمكان، فلنغتنم هذه المناسبة المجيدة؛ للتذكير بتاريخنا المشرق بالتوحيد، وسن السنة الحسنة ما استطعنا، ولا ندع تاريخنا المضيء للتشويه والجحود والنكران، ولمن يحوله في غير مساره؛ الذي هو تاريخ تحقيق التوحيد، وفي ذلك المصلحة (إن شاء الله) في الدنيا والدين.

ولنجعل من مرور مائة عام (بفضل الله تعالى) على تأسيس مملكة التوحيد، مناسبةً تقتضي منا جميعاً بذل الجهد للتذكير؛ لنشكر الله تعالى، ونراجع أسباب عزنا وأمننا، ونتأمل تاريخنا، ونرسخ الولاء الصادق لهذه الوحدة السعودية، وتجديد الثقة بها، جماعةً للمسلمين، ونواةً لوحدتهم العظمى.

لنذكِّر أجيالنا ومن بعدهم، بهذه النعمة الشرعية، فقد كنا أعداءً، فألف الله بها بيننا، وأصبحنا بها وحدة سعودية واحدة، فنشكر الله عليها دائما؛ لنستديم هذه النعمة، وهذا ليس أمراً نحدثُه في الإسلام قال الله تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} إبراهيم: 7.

وفي الختام أشكر أسرة التحرير رئيساً وأعضاء ومحكمين وكل من ساهم على ما بذلوه من جهد كبير في إصدار المجلة (جزاهم الله خيراً وأثابهم) وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

مدير الجامعة الإسلامية

د. صالح بن عبد الله العبود

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

عبد الرحمن بن خلدون المقدمة، 151.

[2]

المصدر السابق.

[3]

انظر: حالة الأمن في عهد الملك عبد العزيز تأليف رابح لطفي جمعة، ص42.

ص: 294

أصالة المنهج

في سيرة الملك عبد العزيز

وأثر ذلك في الاستقرار الشامل للمملكة العربية السعودية

د/ عبد الرب بن نواب الدين بن غريب الدين آل نواب

الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول اللَّه وآله وصحابته ومن والاه وبعد: فإن المنهج الأصيل في مختلف مسالك الحياة ضرورة عصرية وبغية لا غنية عنها فهو سبب نهضة الأمم وبقاء الحضارات ونمائها ومصدر عزها وسؤددها، وهذا مطرد في كل الأحقاب والأجيال:

لأن حياة الناس لا تنتظم إلا على منهج واحد يسلمون له ويذعنون إليه.

ولأن الدين الحنيف هو السبيل الأقوم والنهج الأعدل الذي تنبثق منه عرى الأمن والسلام، وتنبعث منه وشائج الحياة السعيدة المستقرة التي تقيم في الإنسان موازين الحق والعدل، وتقيم موازنة حكيمة بين متطلبات الجسد والعقل والروح.

ولأن تعدد المناهج واختلافها وتنافرها في المجتمع الواحد من أهم أسباب تفككه وعوامل ضعفه فانهياره، وهو داء نراه يستشري في كثير من المجتمعات الإنسانية فيرديها، ومنها الأوساط الإسلامية إذ لا يصلحها ولا ينهض بها غير الاستمساك بالهدي القويم والنهج الحكيم في أصالة ونقاء من غير تجزئة ولا تحوير. وهذا ما دل عليه تاريخ المسلمين في مختلف العصور والأحقاب.

ولأن من مقررات الدين الحنيف أن المنهج القائم على توحيد اللَّه عز وجل في ربوبيته وألوهيته، المؤسس على تحكيم شرعه واتباع هديه هو المنهج الأصيل الذي نزلت به الكتب ودعت إليه الرسل وقام عليه أمر الدنيا والآخرة. وبغير هذا المنهج لا تتحقق سعادة الدنيا ولا نعيم الآخرة.

والأصالة في المنهج بكل محاوره ومضامينه ومقاصده ليست من مبتكرات العقل ولا من منجزات الفكر البشري المحدود، ولا هي من معطيات الحضارات وتجارب الأمم، إنها فوق ذلك وأسمى من ذلك.

ص: 295

إن الأصالة هي ما تنزل به الوحي الإلهي المعصوم على خاتم النبيين والمرسلين، والمنهج الأصيل هو ما تضمنه الدين الحنيف بمراتبه الثلاث: الإسلام والإيمان، والإحسان، وهو ما يعبر عنه بالعقيدة والشريعة والأخلاق.

وللمنهج من الخصائص والمقومات (كالربانية والشمولية والعصمة والخلود) ما يحقق فيه معاني الأصالة على مر الأجيال، وتتابع الأحقاب إلى يومنا هذا وإلى يوم الدين.

والحاجة اليوم تتنامى وتتعاظم إلى هذا المنهج الكامل الفريد لاسيما بعد أن طغت النزعات المادية في العالم، وتوغلت إثر ذلك في عالمنا الإسلامي الاتجاهات المادية التي تقصي الدين عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل وتعده من أسباب ضعضعة المجتمع وحجر عثرة في طريق التقدم والتطور، فظلت المناهج الوضعية الوافدة خاضعة للتقويم والتصويب بين الحين والحين، وكان ثمن التجريب فالتصويب واكتشاف الزيف باهظا بل مدمراً لمقومات المجتمعات الإسلامية وخصائصها ورسالتها.

ص: 296

وعلى صعيد العمل الإسلامي المعاصر يتراءى للناظرين تعدد مناهج الإسلاميين أنفسهم وهم يرومون تقويم ما اعوج في مسيرة المجتمعات الإسلامية، ويصدون عنها ما اعتراها من أسباب البعد عن منهج اللَّه، والركون إلى المادية الجوفاء، فمنهم من جنح إلى الأخلاق يدعو إليها، ويلاحي عنها، ويقتصر عليها، ومنهم من صوّب جهده وطاقته صوب الحزبية فهو يخوض غمارها، ويزج بنفسه في معتركها في غير طائل، ويرى بأم عينه انغماس الناس في البدع والشركيات واتخاذ الأسباب الصارفة عن أنوار التوحيد واقتفاء السنة فلا يحفل به، ومنهم من يرى التقدم كامناً في احتذاء النمط الغربي ضارباً عرض الحائط بمقومات الدين الحنيف وثوابته وقيمه وآدابه، ومنهم من ضاق أفقه فانحصر المنهج عنده في الزهد والخمود واعتزال المجتمع، بل ومنهم من يرى في التأصل تنفيرا وتفريقا للأمة، فهو يعادي ترسيخ العقيدة في القلوب ويجافي تصحيح المفاهيم الخاطئة لمعنى كلمة التوحيد ومقتضياته

وتلك نماذج.

وعلى هذا فإن إبراز المنهج الأصيل الذي سار عليه ودعا إليه الأنبياء والمرسلون - عليهم الصلاة والسلام - واجب الدعاة والعلماء والولاة لا يسعهم غير ذلك؛ لأن بنيان المجتمع الإسلامي لا ينهض ولا يستقيم إلا على توحيد اللَّه تعالى وإفراده جل وعلا بالعبادة فلا إله غيره ولا رب سواه، وإن العمل على هذا الأصل منقبة الدهر يصطفي اللَّه تبارك وتعالى للتمسك به، والدعوة إليه، المخلص من عباده العلماء والولاة في مختلف الأجيال، وتعاقب الأحقاب.

ص: 297

ولقد رأينا كيف ابتدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته إلى توحيد اللَّه تعالى، وأنه طيلة العهد المكي اقتصرت دعوته على تحقيق هذا المقصد الإيماني العظيم، وفي العهد المدني أقام المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية الأولى على أساس العقيدة الخالصة التي نشرها خلفاؤه الراشدون في الآفاق من بعده، وكيف قيض الله تبارك وتعالى من بعدهم من الخلفاء والملوك والعلماء من رفعوا راية الإسلام في الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، وممن يذكره التاريخ من العلماء: الأئمة الأربعة وشيخ الإسلام ابن تيمية مؤسس المدرسة السلفية في القرن السابع، والشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد الدعوة في القرن الثاني عشر، ومن آزر الدعوة من ملوك آل سعود إلى يومنا هذا.

وأما الملك عبد العزيز فقد قيضه الله تبارك وتعالى لهذا العمل الجليل والمقصد النبيل، واتسم جهده وجهاده بما انفرد به في عصره، فقد تسلم راية الدولة الإسلامية قبل أن تسقط في الأستانة فاتصل ارتفاعها واستمر، وراية الدولة الإسلامية لم تسقط أبدا منذ أن أسس النبي صلى الله عليه وسلم أول دولة في الإسلام بالمدينة النبوية.. وليتبين للناس أن منهج الرشد ليس في الشرق ولا الغرب، وإنما هو في هذا الدين الحنيف الذي ارتضاه الله لعباده والذي لا يقبل دينا سواه بالاحتكام إليه وتطبيق شرعه والاستمساك بهديه في مسالك الحياة كلها، وتأسيس ذلك على أساسه الوطيد ومرتكزه الركين، وهو تحقيق كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ومقتضياتها.

ص: 298

إن التمسك بالمنهج الأصيل في المجتمعات الإسلامية في عصرنا يتجاوز حدود الضرورة الحضارية والحاجة المتجددة إليه، إلى ما هو أرقى من ذلك وهو أنه مطلب شرعي، وواجب ديني لا تتحقق سعادة الإنسان إلا بالاستمساك به والدعوة إليه والذب عنه، وتقديمه على كل صور وأنماط النظم الوضعية والاجتهادات البشرية، فالملك عبد العزيز رحمه الله صاحب منهج، ومنهجه قويم لأنه مستمد من الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم.

والحديث عن المنهج وأصالته حديث عن كيان وعقيدة ودولة بكل عناصر الدولة (السكان، والأرض، والحكومة، والسيادة) والحديث عن عظماء الرجال تكثر شعبه، وتتعدد جوانبه؛ لتكاثر المجالات التي تستدعي حديثا وكتابة وفقها وتأريخا. والحديث عن الملك الصالح والإمام الملهم عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود يتشعب وتذهب فيه مسالك الكتابة والتأمل كل مذهب، فإنه رحمه الله جمعت فيه مناقب عديدة وخصال فريدة، قل أن تراها في عظماء الرجال بعد انصرام القرون المفضلة.

ولئن كان رحمه الله مؤسس الدولة السعودية الثالثة وبانيها فلقد قيضه الله تعالى في ظروف عصيبة، واجتباه لخدمة الحرمين الشريفين في وقت كانت الأمة الإسلامية - ولا زالت - تمر فيه بمنعطفات تاريخية غير مسبوقة.. وتحديات فكرية ترتكز على القوة والنفوذ والغلبة لا على الحكمة والمنطق!

فقد استطاع - بعد توفيق الله - بقوة إيمانه ويقينه بالله وببصيرته النافذة وعزيمته الماضية وملكاته المتعددة إقامة وبناء هذا الكيان الإسلامي الكبير: (المملكة العربية السعودية) على منهج إسلامي راشد تجلت فيه الأصالة والمعاصرة في معادلة متوازنة. فهي مملكة القوة والسلام، ومملكة الأمن والوئام، مملكة العلم والإيمان، مملكة الحق والعدل، مملكة البناء والعمران، مملكة الثقل الدولي المؤثر والموقر.

ص: 299

والكتابة عن إمام فذ، وملك راشد في مثل مقام الملك عبد العزيز ومنهجه الراشد شرف لكاتبه وتشريف لقارئه، ومعظم الذين كتبوا في سيرة الملك عبد العزيز ممن عاصروه أو ممن لم يحظوا بمعاصرته نهجوا في التأريخ له منهج الوصف، فظلت كتاباتهم - مع أهميتها وقيمتها العلمية الكبرى - منحصرة في الجانب التاريخي الوصفي، وتنامت إثر ذلك الحاجة إلى كتابات تأصيلية تكشف من خلال المنهج التحليلي أبعاد المعاني الإسلامية والأهمية العصرية للدولة الإسلامية في فكر الملك عبد العزيز وسيرته ومنهجه، لتكون نبراسا للأجيال القادمة، ولتعرف هذه الأجيال مكانتها وموقعها ورسالتها في خارطة العالم المعاصر، عالم له توجهاته المادية العارمة، وله مع ذلك صبغته التكتلية العاتية، ولتعرف تلك الأجيال ما قام به سلفنا من جهود موفورة، وما بذلوه من تضحيات مشكورة لإعلاء كلمة الله في أرض الله.

فإن من حق الأجيال الصاعدة أن تعرف في قادتها إيمانهم وجهادهم وتضحياتهم، وتعي إثر ذلك مسالك الولاء لهم في السر والعلن، للمحافظة على المكتسبات وإكمال المسيرة، وهو ولاء ووفاء للحق وللعقيدة ومعطياتها، فقادة هذه البلاد هم - بعد الله تعالى - أولياء النعمة التي يرفل فيها جيلنا والأجيال القادمة حيث شيوع الأمن، وغضارة العيش، وانتشار التعليم، وقبل ذلك التربية العقدية والتبصرة الدينية القويمة.

وعلى الصعيد الخارجي العمل على وحدة الصف العربي وتعزيز الأخوة الإسلامية، والتضامن الإسلامي، والإسهام في إيجاد كل ضرورات الحياة الإسلامية المثلى للقاصي والداني، وفي المحافل الدولية ترسيخ مقومات الحق والعدل والسلام، وتلك ثمرة العقيدة الإسلامية واستشعار المكانة والمسئولية التاريخية.

بواعث الدراسة:

وللكتابة عن تاريخ المملكة ومؤسسها ودراسة منهاجه الأصيل في مثل هذه المناسبة العزيزة بواعث تتلخص فيما يلي:-

ص: 300

أولاً:- إن دراسة وتأمل ماضي المسلمين وحاضرهم للاتعاظ والاعتبار مطلب شرعي، لاسيما المنجزات وجهود الإصلاح فهي في بؤرة الاهتمام الإسلامي، كيف كنا؟ وإلى ماذا صرنا؟! تلك النقلة الهائلة من حالة التشتت والفرقة والجهل والتناحر إلى نعمة الوحدة والقوة والعلم والمنجزات الحضارية

كل ذلك لم يكن ليتم لولا مشيئة اللَّه تعالى ثم عزيمة الملك عبد العزيز وإيمانه.

ولقد أشاد القرآن العظيم بهذا الجانب من حياة المسلمين فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] وللَّه تعالى سنن نافذة وهي سنن ثابتة لا تتغير ولا تتبدل:

* منها أن نصر اللَّه وتأييده لا يتأخر إن صدق المسلمون في إيمانهم وأخلصوا لربهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} . [محمد:7]

* ومنها أن ظهور الأمة الإسلامية وقيامها بالحجة على الخلق أمر مطرد فقد يعتريها فترات من الضعف والجهل وفشو المنكرات لكن نور الإسلام لا ينطمس بالكلية بل يعاود قوته وسطوعه قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} . [الرعد: 17]

وقال في موضع آخر: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} . [غافر: 51] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة"[1] .

ص: 301

قال النووي: "وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة فإن هذا الوصف ما زال بحمد اللَّه تعالى من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن، ولا يزال حتى يأتي أمر اللَّه المذكور في الحديث"[2] .

* ومنها أن الأمة المحمدية أمة لها رسالة فهي أمة علم، وأمة صلاح وإصلاح قال اللَّه تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران. 110]

*ومنها أن التمكين في الأرض لا يتحقق إلا إذا استمسك المسلمون بشرع الله وعملوا على إعلاء كلمة الله، قال تعالى:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج:41] .

والمسلمون اليوم في أمس الحاجة إلى فهم المنهج الأصيل الذي ارتضاه الله لهم والعروة الوثقى التي أمرهم بالاستمساك بها، والصراط المستقيم الذي به مناط سعادتهم وانتصارهم، ولا تتحقق لهم السعادة والعزة في الدنيا والآخرة إلا بهذا الطريق فحسب.

ومنهج الملك عبد العزيز رحمه الله موضع قدوة ومنار أسوة للباحثين عن سبل السلام والأمن والوئام:

إذ نبذ كل النظريات البشرية شرقية وغربية في إباء وشموخ.

والتزم عقيدة التوحيد صافية نقية كما وردت في الكتاب والسنة على منهج السلف الصالح.

وأقام على هذا الأصل الأصيل منهج الحكم الراشد، وعليه أسس هذا الكيان الإسلامي المبارك.

ص: 302

قال رحمه الله: "إنني أدعو المسلمين جميعا إلى عبادة الله وحده والرجوع للعمل بما كان عليه السلف الصالح لأنه لا نجاة للمسلمين إلا بهذا وأسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا إلى ما يحبه ويرضاه، إن المسلمين لا يرقون ولا ينهضون بالبهرجة والزخارف، إن سبيل رقي المسلمين هو التوحيد الخالص والخروج من أسر البدع والضلالات والاعتصام بما جاء في كتاب الله على لسان رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم"[3] .

وإن الأبحاث العلمية في هذا الموضوع تفتح للدارسين آفاقا رحبة في موضوعات هي في بؤرة الاهتمام الإسلامي بل والعالمي المعاصر، وتحل إشكاليات في الفكر السياسي طالما دأب أعداء الإسلام على إيجاد تلك الإشكاليات وتلفيقها مثل:(أهمية الدولة الإسلامية في العصر الحاضر) ، (إقامة الدولة على أساس ديني) ، (موقع النظام السياسي في الإسلام وخصائصه في منظومة النظم السياسية المعاصرة) .

ولقد ظهرت في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي بعد القرون المفضلة اجتهادات لخدمة الإسلام، وانتهاج طريقه القويم، وهديه المستقيم ورفع رايته في كل الأصقاع صافيا من البدع والمكدرات، فقامت دعوات ودول، لكن الدولة التي أقامها الملك عبد العزيز تفردت بجملة من الخصائص لم تتوافر في من سبقها لما يحمله المنهج الذي تبناه من خصائص الأصالة، ثم لما اكتنفت عصره من ظروف وأحداث.

ص: 303

ثانيا - لا يخفى أن عصرنا عصر الغزو الإعلامي المقنن، الأمر الذي يستدعي أكثر من أي وقت مضى أن نربط حاضر مجتمعنا السامق بماضيه المجيد، وأن تظل أسباب العزة والقوة والوحدة نابضة في قلوب الشباب وضمائرهم كي يكونوا هداة مهتدين، وعلى طريق الرشد سائرين، يقول الدكتور صالح العبود:"وقد نشأ جيل جديد وجد نفسه في نعمة هذه الوحدة ولم يكن يعرف ضدها، وأخشى أن يلهو ويغتر وينسى سبب نعمته فلا يأخذ به، فتنتقض عليه عرى أمنه وهدايته، وتحل عليه بديلاتها مما يغزوه عبر الأقمار الصناعية وغيرها من عقائد الكفار وأفكارهم"[4] .

وعلى هذا فإن من الضرورات المعرفية بل من مقومات مجتمعنا أن يتعمق في وجداننا ومشاعرنا أسباب الأمن الوارف الذي نعيشه، والتلاحم العميق الذي نرفل فيه، والوحدة المكينة التي ننعم بها وهو ماثل في عقيدة التوحيد والاحتكام إلى الشرع المطهر وإقامة كافة مناهج الحياة ومباهجها على هذا الأساس، وأن يتعمق مع ذلك في مشاعرنا ما بذله ولاة الأمر في القديم والحديث من ترسيخ هذا الأصل الأصيل في ثقافتنا وبنيتنا الاجتماعية والفكرية، وما لهم من أياد بيضاء في خدمة العقيدة والإسلام والمسلمين، لا يرجون من ورائها جزاء ولا شكورا، ولا مقابل لها سوى الدعاء لهم بظهر الغيب دعاء خالصا يثمر وفاء وولاء وإخلاصا وتلاحما.

ص: 304

ثالثا - تصحيح المفاهيم الشوهاء وتصويبها في أذهان الذين ساروا مع الدعايات المغرضة أو سايروها، وذلك بالأسلوب العلمي الرصين وبالحجة والبرهان، من مثل اصطلاح (الوهابية) الذي يجده القارئون كثيرا في كتابات المستشرقين، وقد تركت صورة محرفة حتى لدى بعض مشاهير الكتاب والمؤلفين الإسلاميين كما في كتاب تاريخ المذاهب الإسلامية لمحمد أبي زهرة عفا الله عنه، إذ جهل حقيقة الدعوة التي نادى بها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فجعل ما أسماه بالوهابية مقترنة مع البهائية والقاديانية تحت عنوان (مذاهب حديثة) !. [5]

وهذا ولا شك إسفاف مبين، وفي مثله يقول الشاعر:

كناطح صخرة يوما ليوهنها

فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل [6]

وقد فند الملك عبد العزيز رحمه الله هذه الشبهة وتلك الفرية كما سيأتي إيراده قريبا إن شاء الله، كما فندها من قبل الشيخ محمد وغيره رحمهم الله جميعا [7] .

وبادئ ذي بدء لا مندوحة من التذكير بأن ما قام به الملك عبد العزيز رحمه الله من تأسيس المملكة العربية السعودية وإقامة بنيانها على قواعد الإسلام ولإعلاء راية التوحيد ليس إلا مظهرا من مظاهر رحمة الله بعباده في هذه الجزيرة خاصة وبالمسلمين عامة، فللجزيرة العربية ومنها الحرمان الشريفان خصائصها المميزة، فهي مهبط الوحي وبها قبلة المسلمين ومن أرضها انبثقت رسالة الإسلام وسطعت أنوارها فعمت الأرض، وبالمدينة النبوية أقام النبي صلى الله عليه وسلم أول دولة للإسلام، فلم تكن المملكة التي أقامها الملك عبد العزيز إلا مظهراً من مظاهر رحمة الله وعنايته بالمسلمين، منذ أن انبثقت شجرة آل سعود المباركة.

ثم هو ثمرة لدعوة مستجابة إن شاء الله، دعوة خرجت من قلب إمام عادل كان يأمل ويرجو رحمة ربه أن تكون كلمة التوحيد في أمته وشعبه بقية نقية خالدة، قال ابن بشر عن الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود المتوفى سنة (1218هـ) :

ص: 305

"وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس ويصلي فيه صلاة الضحى، وقد ذكر لي بعض من أثق به أنه كان يكثر الدعاء لهم في ورده، قال وسمعته يقول: اللهم أَبق فيهم كلمة لا إله إلا الله حتى يستقيموا عليها ولا يحيدوا عنها"[8] .

وهذا التواصل المبارك الذي يراه المتأملون في تاريخ الدولة السعودية في أدوارها الثلاثة نموذج إسلامي فذ، يذكّر بما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم من البر والإحسان، ومن ثم فهي رحمة مهداة، ونعمة مسداة، وسنة ربانية نافذة:

- أن تظل راية التوحيد خفاقة عالية بالتمكين لأهل التوحيد، قال تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]

- وأن يبقى الحرم آمنا، قال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وقال في موضع: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] .

- وأن لا يعبد في هذه البقعة الطاهرة من الأرض غيره جل وعزّ قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:34] وقال: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل: 91]

ص: 306

- وأن يشرف بخدمة مهبط الوحي من هو أهل له قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]

فتوحيد الله في ربو بيته وألوهيته وحرمة البيت صنوان متلازمان منذ أن نزل القرآن الكريم بل منذ أن بني هذا البيت، تأمل قول الحق جل ذكره:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] فقوله: {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} أي: لا تعبد معي إلها غيري، وقوله {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي طهره من الشرك وعبادة الأوثان، وهو وجه في التفسير ذكره أهل العلم [9] .

إن التزام نهج الإسلام في أصالته ونقائه، والإخلاص لله تعالى في العبادة هو الخيار الأوحد الذي أرسى دعائمه الملك عبد العزيز، كما أرساه من قبل أسلافه الميامين الإمام تركي بن عبد الله مؤسس الدولة السعودية الثانية، ومن قبله الإمام محمد بن سعود باني الدولة السعودية الأولى بعد أن آزر واحتضن دعوة التوحيد التي نادى بها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وكذلك هو امتداد لتاريخ حافل أحياه شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته السلفية الضاربة بجذورها إلى عصر التابعين فالصحابة فالوحي المنزل على خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم

ص: 307

وسيذكر التاريخ للملك عبد العزيز بمداد من نور وقفته القوية الصلبة ومنقبته الفريدة بإقامة الدولة على عقيدة التوحيد، وتأسيس كافة أنساق الحكم على تعاليم الشريعة الغراء دون هوادة، وحفظ حقوق الإنسان كأتم ما يكون الحفظ في ظل الدين الحنيف، في وقت شهد فيه العالم الإسلامي ائتمارا عالميا شرسا على إقصاء الدين من مجالات الحياة السياسية، واستبدال ذلك بالنظم الوضعية والنظريات البشرية ذات المصالح الآنية والمقاصد الوقتية

[10]

إن المتأمل الدارس لما كتب عن الملك يحس أنه يقرأ عن سيرة قائد فذ ليست كالسير التي درج عليها عامة العظماء والرواد، ويستشعر أنه في رحاب إمام عادل ورع تراه في ميدان الوغى مجاهدا مقداما، وتراه في محرابه خاشعا متبتلا، وفي حديثه لبقا حكيما، يسمو بمكارمه إلى مقام سامق يذكّر بسير الخلفاء الربانيين والأئمة المهديين الذين لم تنبت الأرض مثلهم في أحقاب التاريخ إلا النادر القليل.

وحسبه شرفا أنه تلقف راية الإسلام يوم رام أعداء الإسلام إسقاطها لما تزعزعت الدولة العثمانية، فاتصل بذلك ارتفاع راية الإسلام عبر مختلف الأحقاب التاريخية منذ أن أسس رسول الله صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام الأولى في المدينة النبوية.

وحقيقةً فإن المتأمل في سيرة الملك عبد العزيز يأخذه الإعجاب من مواهبه المتعددة ومناقبه المتكاملة، ومنهجه الأصيل ومنجزاته الإسلامية الباهرة، ولولا فضل الله ورحمته ومنّه وإحسانه بأهل هذه البلاد وبالمسلمين عامة بل وبالإنسانية جمعاء ما قام عبد العزيز بما قام ولا أنجز ما أنجز!.

شخصية الملك عبد العزيز في مكنونها ظاهرة أخلاقية فريدة لا تفي بحقه الدراسات التحليلية لأحقاب عديدة! فهو السياسي المحنك والعسكري المتمرس والمربي المستبصر والعالم المستنير والعابد الزاهد المتبتل في محرابه، والمتحدث اللبق المفوّه والقائد الملهم وذو الخُلُق الكريم.

ص: 308

ولئن كانت المعالم الرئيسة لسيرة الملك عبد العزيز ثلاثة كما يقول معالي الدكتور عبد الله التركي وهي:

1-

عبقريته ومواهبه المتعددة المتكاملة.

2-

المنهج القويم الذي التزمه.

3-

والنموذج الاجتماعي والسياسي الذي بناه [11] .

فإن كل معلم من هذه المعالم النيرة مدرسة في حد ذاتها لها مقوماتها وخصائصها تستأهل أسفارا ضخاما.

لذا نقتطف قبسا من حياته المباركة وسيرته الفذة في (أصالة المنهج) الذي اتبعه، وهو أهم وأجل الجوانب التي اكتنفت حياته المباركة، والتي من خلالها تتجلى (الأصالة) ناصعة بهية، لنرى كيف أن الله تعالى قيض هذا الإمام الهمام والملك الراشد، وادخره بمواهبه ومناقبه وعزيمته ليظهر في غمرة الأحداث المتتابعة في بقعة من أطهر البقاع، وفي فترة هي أخطر الفترات، وكيف قاد شعبه من الصحراء إلى المجتمع الدولي!.

وهو مع ذلك وقبل ذلك داعية التوحيد، يعمل من أجل ربه جل وعز، ولإعلاء كلمته ونصرة المسلمين.

فلقد كانت الأمة الإسلامية في مهب الريح في أعقاب تفكك الدولة العثمانية وظهور التوجهات الفكرية والنزعات العرقية والمطامع الاستعمارية، من بين كل هذه الأخطار الجسام والنوازل العظام خرج الملك عبد العزيز بشخصه المهيب، ومنهجه الأصيل ليقيم مملكته إسلامية ترفرف عليها راية التوحيد وتجمع بين شعبه كلمة التوحيد، وتنهض عزيمته الميمونة بواجبات إسلامية جليلة في مجال الدعوة إلى الله، والحفاظ على بيضة الإسلام في كل مكان ورعاية شئون المسلمين لاسيما الأقليات، استشعاراً بمسئوليته الإسلامية وموقعه ومكانته.

ص: 309

ثم هو يقوم بهذه الواجبات الجليلة جنباً إلى جنب واجباته في الداخل بتوحيد أجزاء المملكة وتشييد صروحها العلمية والأمنية والصحية والتنموية المتعددة، في تسابق مع الزمن، وبناء المواطن الصالح كأنموذج للإنسان المسلم المعاصر المتدرج في أكناف عقيدة التوحيد، والمعتز بقيادته الواعية الراشدة، المترعرع في أحضان كيان متميز يستشرف خدمة الإسلام والمسلمين ويشرف بها.

ومن أجلّ منجزات الملك عبد العزيز التي لا تقارن بغيرها إطلاقا تربيته الفذة لأبنائه البررة الذين تحمّلوا الأمانة من بعده ورفعوا راية التوحيد خفاقة عالية، وواصلوا مسيرة الخير والعطاء وبذلوا كل شيء لخدمة الإسلام والمسلمين.

نبذة عن عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب:

لم تتجاوز دعوة الشيخ محمد رحمه الله أصل الدين وجوهره، وهذا أمر واضح جلي يلمسه كل من قرأ تاريخ الشيخ وسيرته وتأمل في كتبه ورسائله.

ولعله من المناسب هنا إيراد طرف من كلامه يجلي فيه الأصالة في وضوحها ونقائها ويذب عنه ما ألصق به زوراً وبهتاناً، فها هو يقول في رسالة إلى بعض من سأله:

وأما ما ذكر لكم عني فإني لم آته بجهالة بل أقول ولله الحمد والمنة وبه القوة {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:161] .

ولست ولله الحمد أدعو إلى مذهب صوفي، أو فقيه، أو متكلم أو إمام من الأئمة الذين أعظمهم مثل ابن القيم والذهبي وابن كثير وغيرهم، بل أدعو إلى الله وحده لا شريك له وأدعو إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوصى بها أول أمته وأخرهم وأرجو أني لا أرد الحق إذا أتاني بل أشهد الله وملائكته وجميع خلقه إن أتانا منكم كلمة من الحق لأقبلنها على الرأس والعين ولأضربن بكل ما خالفها من أقوال أئمتي حاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقول إلا الحق [12] .

ص: 310

وقد لقي الشيخ من الجهلة صدودا وكيدا - شأن الدعوات الإصلاحية- فكان يفند ما افتري عليه بالدليل البين والأسلوب الرصين، ومن ذلك قوله في إحدى رسائله:

من محمد بن عبد الوهاب إلى عبد الرحمن بن عبد الله (عالم أهل العراق في زمانه) .

سلام عليكم ورحمة الله وبركته أما بعد:

فقد وصل كتابك وسر الخاطر جعلك الله من أئمة المتقين، ومن الدعاة إلى دين سيد المرسلين وأخبرك إني ولله الحمد متبع ولست بمبتدع، عقيدتي وديني الذي أدين الله به مذهب أهل السنة والجماعة الذي عليه أئمة المسلمين مثل الأئمة الأربعة وأتباعهم إلى يوم ألقى الله لكني بينت للناس إخلاص الدين لله ونهيتهم عن دعوة الأحياء والأموات من الصالحين وغيرهم وعن إشراكهم فيما يعبد الله به من الذبح والنذر والتوكل والسجود وغير ذلك مما هو حق الله الذي لا يشركه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل وهو الذي دعت إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة..) [ثم شرع يرد على الكذب الذي ألصقوه به وقال] :"ومنها ما ذكرتم أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني وازعم أن أنكحتهم غير صحيحة ويا عجبا؟ كيف يدخل هذا في عقل عاقل؟ هل يقول هذا مسلم أو كافر؟ أو عارف أو مجنون؟! وكذلك قولهم إنه يقول لو أقدر على هدم قبة النبي صلى الله عليه وسلم لهدمتها وأما دلائل الخيرات فله سبب وذلك أني أشرت على من قبل نصيحتي من إخواني أن لا يصير في قلبه أجل من كتاب الله ويظن أن القراءة فيه أجل من قراءة القرآن، وأما إحراقه والنهي عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بأي لفظ كان فهذا من البهتان"[13] .

ومن هذا يتبين:

* أن دعوة الشيخ إنما كانت إلى أصل الدين الحنيف وأساسه وهو توحيد الله تعالى في عبادته، وهي أصل دعوة النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء من قبله عليهم الصلاة والسلام، عقيدة سهلة تستجيب لها الفطر السليمة والعقول القويمة.

ص: 311

* وأنه رحمه الله كان بعيداً عن مظاهر التشدد والتطرف مما لفقه أهل الأهواء، وألصقوه به وراج عند الدهماء، فلقد طفق ينفي عن دعوته الغلو الذي افتراه عليه أعداء الدعوة، ويفند ذلك بالأدلة العقلية والنقلية في قوة وإفحام، وكيف وهو الذي نادى بالعودة إلى العقيدة صافية بعيدا عن غلو المتأولين وتأويلات المتكلمين.

· وأنه رحمه الله لم يأت بجديد، ولم يخترع مذهبا حديثا كما يلفقه أعداء الإسلام، وإنما أحيا الله عز وجل على يديه ما اندرس من معالم الدين وسنن الهدى، وأمات على يديه الشرك والبدع والخرافات والدجل والباطل الذي يروج ويسود في غيبة الحق.

إن التدين لا يصح ولا يستقيم إلا إذا كان الأسس التي بني عليها الإسلام وأول ذلك تحقيق التوحيد بأنواعه الثلاثة: الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات، ثم إقامة مسالك الحياة على هذا الأساس.

وتوحيد العبادة أساس الحياة السعيدة وهو سر التفوق والمنجزات والاستقرار ومصدر كل خير وسبيل النجاة يوم القيامة، ولما مضى على هذا سلف المسلمين ازدهرت حضارتهم وسادوا الدنيا أكثر من ألف عام، وكان لهم ثقلهم ووزنهم في كافة الأصعدة، وإنه ليس يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح عليه أولها.

لمحة عن الأصالة:

(لولا الله ثم عبد العزيز) كلمة ترددها الشفاه أنى سارت، وأنى توجهت، يلفظها اللسان، وتنطلق من كل فم، يرددها البدوي ويلهج بها الحضري، ويقولها الأمي ويتغنى بها المثقف، الكل يقول لك:"لولا عبد العزيز بعد مشيئة الله لما كان كذا وكذا".

وهذه المقولة النابعة من الأعماق تعكس حالين متباينين: الحالة المتردية التي عاشها الناس قبل العهد السعودي من فشو الجهل والمرض والخوف وكل ما يفتقده المجتمع من مقومات الحياة الفاضلة في غيبة سلطان الشرع.

ص: 312

ثم في نقلة سريعة حالة الأمن والوحدة والعلم والتحضر في خطى ثابتة متسارعة وفي زمن قياسي على نحو لم يعهده الناس من قبل.. فإذا هم على مشارف العصر وبروح العلم والإيمان والطموح، وفي نقلة هائلة من الصحراء وشظف عيشها إلى التحضر بكل وسائله من فرض التعليم، وإنشاء الهجر، وتوطين البدو الرحل، وتشجيع الصناعة والزراعة ونشر بساط الأمن، تلك هي قصة الملحمة التي عاشها الناس ويذكرونها لعبد العزيز الملك المسلم المخلص ويذكرونه بها، ويحمدون الله عز وجل أن قيض لهم هذا الإمام الملك الراشد.

وكان هذا الولاء والحب نابعا عن قناعة راسخة ومحبة ثابتة لا تتزعزع، وكان الملك عبد العزيز أهلا لذلك، فهو صاحب أصالة في التمسك بالعقيدة، وأصالة في السيرة الذاتية، وأصالة في الفكر، وأصالة في الأخلاق، وأصالة في التعامل مع مستجدات الحياة.

وتتنامى الحاجة في عصرنا وجيلنا إلى توطيد وترسيخ مفهوم المعاصرة في مختلف جوانب الحياة، وتطرد الحاجة قبل ذلك ومع ذلك إلى إبراز الأصالة كمرتكز أساس في الحياة الإسلامية المعاصرة وإلى الأهمية القصوى للدولة الإسلامية المعاصرة، لا سيما بعد بروز الأنماط غير المكترثة بالدين، والتي تحد من دوره الحيوي في الحياة (كالعلمانية واللادينية) وهي أنماط نشأت في البلاد الغربية ولا تصلح إلا لبيئاتها الأصلية، ولا تناسب إلا الرواسب الثقافية والتاريخية لتلك البيئات.

والأصالة - كما يقول علماء اللغة - تتضمن معاني القوة والثبات والاستحكام، وأصل الشيء: أساسه الذي يقوم عليه ومنشؤه الذي ينبت منه [14] .

ومن مدلولات الأصالة: القاعدة وأصل كل شيء أسفله، وأيضاً: الدوام والاستمرار، يقال: إن النخل بأرضنا لأصيل أي هو بها لا يزال ولا يفنى [15] .

وتتسم الأصالة في منهج الملك عبد العزيز رحمه الله وفي سيرته بالخصائص التالية:

ص: 313

أ - إقامة المنهج بكل أنساقه على عقيدة التوحيد وهي أصل الدين الإسلامي ولبه وحقيقته ومرتكزه، بل هو أصل الأصول كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم [16] .

ب - الاستمساك ومع ذلك مقتضيات العقيدة من شريعة (عبادات ومعاملات وأخلاق) وإقامة كافة شئون الحياة على هذا النسق، فالدين الحنيف كامل شامل.

ج - الاعتزاز بهذا المنهج الرباني الفريد (ورفض كل صور وأشكال التزييف للمنهج ورفض الأخذ بالمنهج ناقصاً أو مشوباً أو مجزءاً)

د - رد كل أشكال وصور النظم البشرية السائدة المنافية للعقيدة ومقاصد الشريعة وذلك في إباء وثبات، كالفكر العلماني والماركسي والقومي والعنصري والميكيافيلي والمرقع والانفصامي وغيرها [17] وإقامة موازنة المعاصرة بمعايير نابعة من صميم العقيدة الإسلامية الخالدة، الصالحة لكل عصر ومصر.

ولسنا في حاجة إلى إثبات الأصالة التي نهجها الملك عبد العزيز في إقامة دولته فهو أمر معروف مشهود كالشمس في رابعة النهار وضوحاً وجلاءً، والناس كلهم منذ أن أرسيت قواعد الدولة يعرفون ذلك ويعونه وهو سر ولائهم له وتقديرهم لجهوده وجهاده وإعجابهم بشخصيته الإسلامية الفذة وتفانيه في خدمة دينه وعقيدته وشعبه وأمته.

ومن نافلة القول - بعد هذا - أن نقول إن الأصالة التي اتسمت بها الدولة السعودية منذ أن قيض الله لها المحمدين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والإمام محمد بن سعود - رحمهما الله -هي قيام دولة على أسس الإسلام وركائز الإيمان وإقامة كافة أنساق الحياة على هذا الأساس المتين والأصل المكين.

ص: 314

فلقد قامت الدعوة إلى توحيد الله وإفراده سبحانه بالعبادة، وطرح كل ما ينافي ذلك من الشركيات والخرافات والبدع، والعودة إلى أصل الدين صافيا كما كان عليه السلف الصالح وهذا هو أصل الأصول وقاعدة القواعد، وهو محور رسالات الله ودعوات كل الأنبياء كما هو جلي في قول الحق جل ذكره:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وقوله: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل: 2] .

ولقد استمد الملك عبد العزيز منهاجه وقوته في عمله وإنجازه من قوة إيمانه بالله وصلته به ووثوقه بفضله، وتعلقه به وكان السر في نجاحه وسؤدده وتوفيق الله له: عقيدة التوحيد التي رباه عليها والده الإمام عبد الرحمن الذي تربى عليها هو بدوره في تسلسل ميمون إلى جده الأعلى الإمام محمد بن سعود رحمهم الله جميعاً.

ويتضح ذلك من عشرات المواقف الكريمة، أقتطف منها في هذه العجالة ما يجلي هذا المقام:

أ- يوم فتح الرياض بعدد قليل من الرجال لا يتجاوزون الأربعين وكان ذلك في موازين العقل السائد مغامرة أو ضربا من الخيال، لكن الإيمان بالله والوثوق بتأييده ونصره والتوكل عليه، والإنابة إليه، والاستعانة به، والتضرع بين يديه، وكلها من معاني التوحيد ولوازمه يفعل الأعاجيب. وبفضل الله ثم بوثوق عبد العزيز بالله وبنصره حقق ما أراد.

ب - أقواله المفعمة بالإيمان بالله، وتعد مدرسة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، له أسسه وخصائصه وسماته المميزة ومعالمه الواضحة، فمن أقواله:"اثنتان أحمد الله على واحدة منهما وأشكره على الأخرى، أحمد الله على أني أكره أهل الضلال وعلى كراهية أهل الضلال لي، وأشكره على محبة أهل الخير لي ومحبتي لهم"[18]

ص: 315

وفي هذا تتجلى قوة تدين الملك عبد العزيز وهو السياسي المحنك، وهذه سمة مميزة ترفعه عند الله تعالى درجات، إذ يجنح أغلب الساسة إلى المصانعة والمسايرة لكسب الأصوات واصطناع المحبين الزائفين ولو على حساب الدين، ويرون ذلك من الكياسة واللباقة! وما هو إلا من ركاكة التدين وخور الهمة.

وتبرز - أيضا - أصالة الفكر السياسي القائم على أساس الدين القويم، وأن ذلك هو الأصلح والأوفق لأنه يتسم بالصدق والوضوح، ومعروف ما للصدق من آثار عميقة في استحداث الثقة بين القائد والرعية واستحثاثها.

ومن أقواله أيضا: "أنا قوي بالله تعالى ثم بشعبي، وشعبي كلهم كتاب الله في رقابهم، وسيوفهم بأيديهم، يناضلون ويكافحون في سبيل الله، ولست أدعي أنهم أقوياء بعددهم أو عددهم ولكنهم أقوياء إن شاء الله بإيمانهم"[19] .

وقد تضمن هذا القول الحكيم ميزانا شرعيا دقيقا في معرفة حقائق الناس ومقياس القوة لديهم، فالناس بإيمانهم ومبادئهم وثباتهم عليها واستعدادهم للتضحية في سبيلها، وليس بمظاهرهم وعددهم.

ج - في مؤتمر الرياض عام 1347 هـ إثر خروج بعض الإخوان عليه قال: "أسست هذه المملكة من دون معين، وكان الله القدير وحده معيني وسندي وهو الذي أنجح أعمالي"[20] .

وبقدر ما في هذا القول الباهر من وثوق عبد العزيز بالله جل ذكره وقوة صلته به واعتماده عليه، بقدر ما فيه من اعتزاز القائد بمبادئه العقدية وهو ما ينمي في الرعية بواعث الإعجاب بالقيادة المعتزة بدينها كما يعمق فيهم التدين الذي يعصم من داء التشرذم والتفرق ويحض على الاجتماع، وهو أمر لا يفقهه إلا العظماء المتمرسون من الساسة.

ص: 316

د - في قصة المحمل الذي كان الحاج المصري وغيره يأتي به في الموسم وقد اشتمل على الطبول والبدع، قال المؤرخون عن حجة عام 1344 هـ:"بينما حجاج العالم الإسلامي من جميع الممالك والأقطار مجتمعون في مخيماتهم بمنى، تلفت عربان نجد وكانوا أكثر الحجاج عددا في ذلك العام فرأوا أمامهم (المحمل) القادم من الحج المصري على جمل يتهادى بين الجموع تحيط به موسيقاه وعساكره ودبدباته، وتصايحوا: الصنم الصنم! وتهافتوا يرشقونه بالحجارة وهم بملابس الإحرام ولم يكن من أمير الحج المصري إلا أن أمر بنصب المدافع والرشاشات واطلاق نيرانها على الجموع"!!.

قال الزركلي: "وأخبرني ثقات من حجاج ذلك العام أن عبد العزيز لما علم بالخبر وهو على رأس الحجيج نهض من سرادقه وأسرع يعدو إلى أن توسط ما بين العربان ونار الجند، وبسط ذراعيه يصيح: أنا عبد العزيز! أنا عبد العزيز! وكان من حسن حظ العرب والإسلام أنه لم تتناوله رصاصة طائشة أو متعمدة، وهدأ إطلاق النار وتدخل الجند السعودي وانكف الناس وأمر بحجز المحمل عن الأنظار"[21] .

وهكذا حل الملك هذه المعضلة بثقته بالله ثم بنفسه، وثقته بولاء مواطنيه وحب المسلمين من جميع الأقطار الإسلامية لشخصه الكريم وأسلوبه الحكيم، يقول وهو واثق من نفسه: أنا عبد العزيز أنا عبد العزيز!! وفي المفاجآت والشدائد تتكشف جواهر الأخلاق والطباع.

من هذه القبسات ومن خلال سيرته المباركة يتبين أن الملك عبد العزيز رحمه الله كان صاحب منهج له معالمه وخصائصه، فهو ملك ليس كسائر الملوك، لا يفتأ يذكر منهجه ورسالته في غمرة الأحداث، ولا ينقطع أمله بالله وبنصره حتى في أحلك الظروف.

خصائص المملكة العربية السعودية:

ص: 317

الحديث عن الملك عبد العزيز يستتبع الحديث عن خصائص هذا الكيان الكبير الذي أسسه (المملكة العربية السعودية) وما ينفرد به من خصائص ومميزات دينية وتاريخية وسياسية هي في مكنونها مظهر من مظاهر الأصالة:

أول هذه الخصائص تميز المملكة بالنظام الإسلامي الراشد الذي يتخذ من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة مرجعا في كافة الشئون، فهو نظام قائم على الكتاب والسيف، على العلم والقوة، والمملكة بهذه الخاصية تنفرد من بين سائر الممالك الإسلامية المعاصرة حسب علمنا.

جاء في التعليمات الأساسية للمملكة الصادرة بالتصديق الملكي الكريم في 21 صفر سنة 1345 هـ: في المادة الخامسة من القسم الثاني ما نصه: (تكون جميع إدارة المملكة الحجازية [22] بيد صاحب الجلالة الملك عبد العزيز الأول بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود وجلالته مقيد بأحكام الشرع الشريف) .

وفي المادة السادسة: (الأحكام تكون دواما في المملكة الحجازية [23] منطبقة على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وما كان عليه الصحابة والسلف الصالح)[24] .

وهذا النهج القويم يعطيها بعدا استراتيجيا هاما في الدراسات السياسية المقارنة، وفي الدراسات المتعلقة بالتنمية، وفي هذا النهج الإسلامي الراشد دلائل قواطع تبطل الإشكاليات التي لفقها أعداء الإسلام في صلاحية الإسلام كنظام للحكم، فالنظم الإسلامية (النظام الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي، والسياسي) تواكب التقدم والتطور إذ تحث على العلم وتدعو إلى الأخذ بكل جديد نافع، وعليه فإن النظام العلماني ليس بالضرورة شرطا لتحقيق التقدم والازدهار.

ثانيا: احتضان المملكة لقبلة المسلمين وتشرفها بخدمة الحرمين الشريفين، حيث يؤمها أكثر من ألف مليون مسلم في صلواتهم خمس مرات في اليوم من كافة أنحاء العالم.

ص: 318

كما تهوي إليها أفئدة الحجاج والمعتمرين والزائرين، وهذا يكسبها ثقلا سياسيا رائدا، كما يضفي على كاهلها مسئوليات وواجبات إسلامية جساما، لا تدخر المملكة وسعا في القيام بها مما هو واقع ملموس للقاصي والداني، فهي رائدة التضامن الإسلامي، ومناصرة المسلمين ماديا ومعنويا، ومعينة لكل من ينشد الخير والسلام والوئام للإنسانية.

ثالثا: الموقع الجغرافي الفريد إذ تتوسط قارات العالم وتمثل جسرا يربط مختلف الدول الأوربية والآسيوية والأفريقية تجاريا وسياسيا وثقافيا، وللمملكة أطول ساحل شرقا وغربا وجنوبا من بين الدول العربية، وللخليج في ساحلها الشرقي أهمية استراتيجية قصوى.. وهذا الموقع الجغرافي المتميز يهيئ العديد من المصالح السياسية والتجارية والحضارية.

رابعا: الأهمية الحاسمة للثروة البترولية التي تعد من المصادر الإستراتيجية للطاقة على اختلاف محاورها الصناعية والحربية والتقنية وغيرها، لا سيما وقد دلت الأبحاث العلمية على أنها ثروة طويلة المدى غير ناضبة على المدى القريب.

خامسا: المملكة نمط فريد في بناء الأمة بكل مقوماتها الحضارية وأصالتها التاريخية وخصائصها، وهذا في مكنونه مثال فذ رائع للنموذج الموفق في الجمع بين الأصالة والمعاصرة، والتحول من ظروف القرن الثامن عشر إلى أوضاع القرن العشرين.

وجملة القول: إن الخصائص التي تضافرت في كيان المملكة أضفت عليها المكانة المرموقة، والمواقف المتوازنة الحكيمة سواء على الصعيد العربي أو الإسلامي أو الدولي، فضلا عن الأهمية القصوى للمملكة على مختلف المحاور.

ص: 319

وهذا مرده في الحقيقة إلى النهج الوسط الذي تسلكه المملكة، وهو وحي عقيدتها وتاريخها، فالمملكة عامل استقرار مهم ليس في المنطقة فحسب بل وعلى المستوى العالمي، والمملكة بلد الأمن بكل معانيه وأبعاده لأنها مأرز الإيمان، وكما قال الله تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] .

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

متفق عليه: رواه البخاري في كتاب فرض الخمس (3116) ط وترقيم فتح الباري المطبعة السلفية 1380هـ مصر ـ ومسلم في كتاب الإيمان (156) ترقيم محمد عبد الباقي ط دار القلم.

[2]

المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 13/67 ط 1407هـ/1987م دار القلم بيروت.

[3]

مع عاهل الجزيرة العربية ـ لعباس العقاد ص19 ـ ط: المكتبة العصرية بيروت (دون تاريخ الطبع) .

[4]

عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية - للدكتور صالح العبود ص 15 ط: الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 1408 هـ

[5]

تاريخ المذاهب الإسلامية 1 / 207 ط: دار الفكر العربي 1987 م

[6]

ديوان الأعشى ص 61 شرح وتعليق د. محمد محمد حسين، ط: المطبعة النموذجية 1950م القاهرة، والكامل في اللغة والأدب لأبي العباس المبرد 1 / 397 ط: المكتبة التجارية الكبرى (دون تاريخ الطبع) .

[7]

انظر ص 22 من هذا البحث.

[8]

عنوان المجد في تاريخ نجد1 / 126 لعثمان بن بشر ط: مكتبة الرياض الحديثة (دون تاريخ الطبع) .

[9]

انظر تفسير ابن كثير 3/238 ط دار السلام ـ الرياض 1413هـ / 1992م.

ص: 320

[10]

أنظر في موضوع الغزو الفكري للعالم الإسلامي: (قلاع المسلمين مهددة من داخلها وخارجها) للدكتور محمد عبد القادر هنادي، ط: مكتبة الطالب الجامعي 1408هـ/1978م - مكة المكرمة، وأيضا:(في الغزو الفكري) لنذير حمدان ط مكتبة الصديق - الطائف (دون تاريخ الطبع) .

[11]

الملك عبد العزيز والمملكة العربية السعودية -لمعالي الدكتور عبد الله التركي -ص 18 ط الزهراء للإعلام العربي 1409 هـ /1989 م القاهرة

[12]

تاريخ نجد 2/11 وأيضا 2/ 219 الحسين بن غنام ط 1403 هـ الرياض والدرر السنية 1/31 -32 لعبد الرحمن بن قاسم القحطاني ط 1385 هـ / 1965 م.

[13]

تاريخ نجد لابن غنام 2/155 والدرر السنية 1 /54 –55.

[14]

المعجم الوسيط 1/20 مادة (أصل) مجمع اللغة العربية بالقاهرة ط: طهران (دون تاريخ) وانظر لسان العرب 11/16 مادة (أصل) - محمد مكرم ابن منظور ط: دار صادر بيروت (دون تاريخ الطبع) .

[15]

المعجم الوسيط 1/20 مادة (أصل) مجمع اللغة العربية بالقاهرة ط: طهران (دون تاريخ) وانظر لسان العرب 11/16 مادة (أصل) - محمد مكرم ابن منظور ط: دار صادر بيروت (دون تاريخ الطبع) .

[16]

انظر مجمع الفتاوي 1/20 ترتيب محمد بن قاسم ط: دار العربية 1398 هـ –بيروت

[17]

العلمانية: هي اللادينية وعند بعضهم هي عزل الدين عن الحياة العامة وقصره داخل دور العبادة.الماركسية: نسبة إلى مؤسسها كارل ماركس الذي قال بان تاريخ الإنسانية قائم علي صراع الطبقات ونادى بالشيوعية في الممتلكات وكل ما فيه نفع. القومية: انتماء إلى أمة على أساس اللغة أو الأصل العرقي أو العقيدة، ظهرت في أوربا في القرن 19 م ثم امتدت إلى آسيا وإفريقيا.

= العنصرية: تصنيف الناس على أساس المعايير الفيزيقية كلون البشرة ونسيج الشعر والعرق.

المرقع: المذهب المشوب من كل أو بعض الاتجاهات والمذاهب الفكرية، كترقيع الثوب.

ص: 321

الانفصامية: هي ذات الوجهين المتضادين.

انظر في المذاهب المذكورة: الموسوعة العربية الميسرة ط: 1406 هـ -1986 م دار نهضة لبنان للطباعة بيروت - والاتجاهات الفكرية المعاصرة للدكتور جمعة الخولي ط 1406 هـ / 1986 م الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

[18]

الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ص 55 للزركلي ط: دار العلم للملايين 1984م بيروت، ومع عاهل الجزيرة ص21.

[19]

الوجيز ص 78، والملك الراشد ص 381 لعبد المنعم الغلامي ط: دار اللواء للنشر - الرياض.

[20]

الوجيز ص 141 والملك الراشد ص 373.

[21]

الوجيز ص 126

[22]

كان لقب صاحب الجلالة سنة 1345 هـ / 1926 م (ملك الحجاز ونجد وملحقاتها)، ثم صدر مرسوم ملكي عام 1451 هـ / 1932 م بتسمية البلاد (المملكة العربية السعودية) انظر: الموسوعة العربية العالمية 16/19 ط: 1416هـ الموافق 10 سبتمبر 1926م.

[23]

نفس المصدر السابق.

[24]

جريدة أم القرى عدد الجمعة 3 ربيع الأول 1345 هـ الموافق 10 سبتمبر 1926م.

ص: 322

تابع لأصالة المنهج في سيرة الملك عبد العزيز

أصول المنهج وثوابته:

يعتمد بقاء الحضارات وسيادة الأمم - كما هو معروف - على أصالة المنهج وصلاحه واستمراره، وينفرد المنهج الإسلامي بخاصية الاستمرار والخلود فلا تتغير أحكام الشرع الأساسية وثوابته بتغير العصر، وقد أقام الملك عبد العزيز رحمه الله منهجه على أسس ثابتة مستمدة من الكتاب والسنة وهي:

الأصل الأول - عقيدة التوحيد:

وهي أصل الدين ومبعث الخير ومناط التوفيق، فلا يعبد في أرض الله إلا هو سبحانه، ولا يحكّم في عباد الله إلا شرعه، ولا يكون الولاء والبراء إلا على هذا المبدأ الأصيل والأساس الركين، ولا تستقيم مسارات الحياة كلها إلا وفق معطيات الدين الحنيف فهو دين كامل شامل، فيه العقيدة والشريعة والأخلاق، والشريعة تتضمن العلاقات الدولية، وتحث على الخير والأمن على نحو تتجاوب له الفطرة وتتناسق مع هديه متطلبات كل عصر.

كان الملك عبد العزيز رحمه الله يستشعر هذا المعنى العظيم للتوحيد، ويعرف ما تتسم به الشريعة من الشمولية والخلود، وما تثمره هذه العقيدة الخالدة من خيري الدنيا والآخرة، وما ينعم به المتمسك بالتوحيد الداعي إليه الذاب عنه من أسباب التمكين والتوفيق.

كان يدرك ذلك وهو يؤسس هذا الكيان الإسلامي الكبير على أساس العقيدة، وكان ذلك من نعم الله عليه وعلى شعبه وهو معنى كريم من معاني الأصالة التي أقام عليها منهجه، فها هو يقول في وضوح وجلاء:

"إنني والله لا أحب إلا من أحب الله حبا خالصا من الشرك والبدع، وأنا والله لا أعمل إلا لأجل ذلك، ولا يهمني أن أكون ملكا أو فقيرا، والله ثم والله إني لأفضل أن أكون على رأس جبل آكل من عشب الأرض وأعبد الله وحده من أن أكون ملكا على سائر الدنيا وما فيها"[1] .

ص: 323

وقال: "والله ثم والله إن العجوز القابعة في وكرها والتي لا تملك من الثياب إلا الأطمار البالية وهي تعبد الله وحده عبادة خالصة هي أحب إلى قلبي من أي إنسان بلغ من العظمة والشأن ما بلغ إذ لا يؤمن بالله إيمانا صادقا خالصا، ولا يعمل بما جاء في كتاب الله"[2] .

وهذه الكلمات المنيرات تبين عن الإيمان العميق بالله، والقناعة الراسخة بعقيدة التوحيد، وأنه لا يعبد إلا الله وحده وأن ذلك هدف المسلم في حياته وهو معنى وجوده في الحياة كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} . [الذاريات: 56] .

وهذه العقيدة التي هي أساس الإسلام ومبناه، هي واضحة جلية بينة لا لبس فيها ولا عوج، وهي ما نزل به الكتاب المبين وبينته السنة المطهرة، وصدع به جميع الأنبياء والمرسلين ولا يستطيع أحد من المسلمين إنكار ذلك!.

ونستقي من هذا أن أساس منهجه عقيدة راسخة ومبدأ ثابت عليه تبنى كل مسالك الحياة، وهي مرد كل نازلة.

قال رحمه الله بخطبة له بمكة: "أنا بذمتكم وأنتم بذمتي، إن الدين النصيحة أنا منكم وأنتم مني، هذه عقيدتنا في الكتب بين أيديكم فإن كان فيها ما يخالف أمر الله فردونا عنه، واسألونا عما يشكل عليكم فيها، والحكم بيننا كتاب الله وما جاء في كتب الحديث والسنة"[3] .

وهذا هو غاية الإنصاف، فالمسلمون جميعاً رئيسهم ومرؤ سهم ينبغي أن ينقادوا للحق وأن يتواصوا به وأن يكون ذلك مصدر اعتزازهم واجتماعهم.

ولقد بين كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أصل الدين وأهميته وأثر الاستمساك به، ومضت على ذلك أجيال من سلف الأمة خلت منذ فجر البعثة المحمدية.

فمن معطيات الدين ومقرراته وثوابته مما يستدل به من عشرات الأدلة:

ص: 324

أن الله تعالى لا يقبل ديناً سوى دين الإسلام، قال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} . [آل عمران:85] .

وقال: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 82] .

وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [آل عمران19] .

وأن الإسلام مبناه وأساسه توحيد الألوهية بأن لا يعبد إلا الله ولا يصرف شيء من أنواع العبادة إلا له جل وعلا عما يقول الظالمون علوا كبيرا، قال تعالى:{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66] .

وفي عهد مؤكد يقطعه المسلم على نفسه أكثر من سبع عشرة مرة في اليوم، وهو يقول في صلواته {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} . [الفاتحة: 5] .

وإن جميع الرسل إنما دعوا إلى هذا المبدأ العظيم والهدي القويم قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] .

وهذه كلمة التوحيد لا إله إلا الله نسمع صداها عبر أحقاب التاريخ في دعوة كل رسول ينادي بها، ويدعو إليها، ويجاهد في سبيلها، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25] وقال جل ذكره: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:2] .

ص: 325

وأن عبادة الله سبحانه هي الهدف من خلق الثقلين، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] بل إن هذا الكون بما فيه ومن فيه لم يخلق إلا لهذا الهدف العظيم والمقصد الجليل، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27] .

وأن التوحيد هو الذي من أجله جردت سيوف الجهاد وبذلت النفوس والأرواح قال تعالى: {و َقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39] ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله"[4] .

وأن تحقيق التوحيد مناط الفوز بسعادة الدنيا ودار الكرامة في الآخرة، قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] وهو الأمن بكل صوره وأشكاله في الدنيا والآخرة.

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف: 110] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة"[5] .

ص: 326

وأن ترك التوحيد - والعياذ بالله - ضلال مبين، قال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] ونقيض التوحيد الشرك وهو سبب كل شقاء وبلاء، قال تعالى:{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31] .

وليس المقام هنا مقام إطناب وحسبنا هذه الإشارة ففيها غنية عن بسط العبارة.

وكما عرف الملك عبد العزيز بأصالته في تمسكه بالعقيدة، عرف بأصالته - أيضاً - وحصافته في الذب عنها والدعوة إليها بالأسلوب الحكيم والنهج القويم.

فها هو يبين للناس مبدأ العقيدة ومنهج الاعتدال الذي يدين به وينهجه كل مسلم سوي، ويذكر المسلمين بسلفهم الصالح ويذكرهم مع ذلك بأهمية وأثر العقيدة في الاستقرار والأمن والحضارة والتحصن من كل ما يكدر الحياة من مشكلات ومن كل ما يقعد به عن معالي الأمور:

قال الملك عبد العزيز في خطاب ألقاه في حفل أقيم بالقصر الملكي في مكة المكرمة في غرة ذي الحجة 1347هـ/ 11 مايو أيار 1929م قال:

ص: 327

"يسموننا ((بالوهابيين)) باعتبار أننا أصحاب مذهب خاص، وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض، نحن لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة، ولم يأت محمد بن عبد الوهاب بالجديد فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله وسنة رسوله وما كان عليه السلف الصالح، ونحن نحترم الأئمة الأربعة ولا فرق عندنا بين مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة، كلهم محترمون في نظرنا، هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يدعو إليها، وهذه هي عقيدتنا وهي عقيدة مبنية على توحيد الله عز وجل وخالصة من كل شائبة منزهة عن كل بدعة، فعقيدة التوحيد هذه هي التي ندعو إليها، وهي التي تنجينا مما نحن فيه من محن"[6] .

ونستشف مما سبق:

أن عبادة الله تعالى وحده، وهو ما يعرفه العلماء بتوحيد القصد والإرادة، وتوحيد العبادة والألوهية هو أصل الدين، بل هو أرسخ المعارف وأثبت العلوم وأصل الأصول كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية [7] وقد اتفق على ذلك علماء المسلمين في كافة العصور.

وأن من لوازم هذه العقيدة (الوسطية والاعتدال) وهي سمة أهل السنة والجماعة لم يخالفهم فيها إلا أهل البدع والأهواء كالخوارج ونحوهم [8] .

ولو استقرأنا أحوال المسلمين عبر التاريخ على اختلاف فرقهم لوجدنا أن خاصية التوسط والاعتدال مع التمسك بأصل الدين وأساسه وقاعدته وهو توحيد الله تعالى في ألوهيته ثم من بعد ذلك إقامة مسالك الحياة كلها وفق ذلك، مما اتسمت به عبر الأحقاب وفي كل الأجيال الطائفة المنصورة.

ص: 328

لقد اعترى كثيرا من المسلمين على فترات من التاريخ الجهل بالدين فاندرست معالم السنن وظهرت البدع وصار ذلك رسما ينشأ عليه الصغير ويهرم عليه الكبير، وكان من رحمة الله أن قيض أئمة مهديين يحيون موات القلوب بإقامة السنة وقمع البدعة ودعوة الناس إلى التوحيد بالبيان تارة، وبالسنان تارة أخرى، وكان منهم شيخ الإسلام ابن تيمية في القرن السادس الهجري وشيخ الإسلام ابن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر، والأئمة من آل سعود ومنهم الملك عبد العزيز وإلى يومنا هذا.

إن العقيدة الإسلامية تنمي في المسلم نوازع الخير، وتثمر في حياته كل خير وبر ورشد، وفيما يلي مقتطفات من ثمرات هذه العقيدة التي دعا إليها واحتضنها وأسس عليها دولته الملك عبد العزيز رحمه الله:

أ - الإخلاص لله ثم النصح للمسلمين:

ذلك أن العودة بالحياة الإسلامية إلى ما كانت عليه إبان فجر البعثة المحمدية، خالية من البدع والخرافات وكل ما أدخل في الدين مما ليس منه، والمجاهدة في سبيل تحقيق ذلك هو لب الأصالة وموئل الشرف، وكان ذلك ديدن الملك عبد العزيز رحمه الله.

قال التاريخ: وفي تموز سنة 1924 م صرح ابن سعود لوفد علماء الهند التصريحات التالية، قال:"أعترف أمام الله وأمام كل المسلمين بأني لا أريد إلا العودة إلى دين الإسلام الصحيح القويم، البعيد عن العقائد الوثنية التي ليست من الإسلام في شئ. وأن عقائدي هي عقائد أجدادي الأطهار الأتقياء، عاداتنا هي عاداتهم، وشعائرنا هي شعائرهم، وأننا نعود في كل شيء لأحكام القرآن الكريم وللسنة، ونحاول أن نعيش كما عاش الخلفاء الراشدون، وكل ما نطمع فيه أن يتحد العلماء المسلمون فيتحد العالم الإسلامي، نريد أن يكون اتحادنا قويا متينا، وأن يخضع العالم الإسلامي خضوعا تاما لأحكام القرآن والسنة"[9] .

ص: 329

وهذه الكلمات المنيرات تعيد إلى الأذهان ما كان عليه الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون من نقاء السريرة وحسن السيرة، وصفاء العقيدة من كل شوب، مع بعد النظر وسداد الرأي، وأن الحاكم المسلم الورع التقي إذا أعمر ما بينه وبين الله تعالى وفقه الله لكل خير وجعله رحمة لشعبه وأمته، وإماما يقتدي به الأئمة في كل مجالات الخير، والمسلمون أجمعون مطالبون بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم والأخيار ممن جاءوا من بعدهم وهم السلف الصالح الذين لا ينقطع حبلهم ولا تنفصم عروتهم.

وليس هذا المرقى الإيماني السامق بغريب من الملك عبد العزيز أكرم الله مثواه، فهو يذكّر أن هذه العقيدة التي هي أساس الإسلام ومبناه هي واضحة جلية بينة لا لبس فيها ولا عوج، وهي ما نزل به الكتاب وبينته السنة، وصدع به جميع الأنبياء والمرسلين ولا يستطيع أحد إنكار ذلك!

وهو رحمه الله بمنهاجه الأصيل هذا امتداد للأصل الثابت من آبائه الميامين، وتأمل كلمات ومواعظ سلفه مما وعته ذاكرة التاريخ.

فمن المواعظ الجامعة للإمام تركي بن عبد الله المتوفى سنة (1249 هـ) وكان من حفظة القرآن الكريم منذ صغره، قال رحمه الله:

ص: 330

"بسم الله الرحمن الرحيم.. من تركي بن عبد الله إلى من يراه من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: موجب الخط إبلاغكم السلام والسؤال عن أحوالكم والنصيحة لكم والشفقة عليكم والمعذرة من الله الذي ولاني أمركم والله المسئول أن يتولانا وإياكم في الدنيا والآخرة وأن يجعلنا ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر، والله تعالى يقول:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7] فالذي أوصيكم به تقوى الله في السر والعلانية، قال الله تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] .

وجماع التقوى أداء ما افترض الله وترك ما حرم الله، وأعظم فرائض الله بعد التوحيد الصلاة، ولا يخفاكم ما وقع من الخلل بها والاستخفاف بشأنها وهي عمد الإسلام، الفارقة بين الكفر والإيمان، من أقامها فقد أقام دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، وهي آخر ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم وهي آخر وصية كل نبي لقومه وهي آخر ما يذهب من الدين، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، وبعض الناس يسئ في صلاته، وأحدهم يتخلف عن الجماعة ويصلي وحده أو في نخله هو ورجاجيله والمسجد جار له، وفي الحديث:"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"[10](وهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرق على المتخلفين بيوتهم بالنار لولا ما فيها من النساء والذرية)[11] .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق"[12] وهذه أمور ما يخفاكم وجوبها".

[ثم ذكر رحمه الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووجوب الزكاة وحرمة الربا وبيع العينة والتطفيف في المكاييل والموازين، في موعظة جامعة قال في آخرها] :

ص: 331

"وأنا أشهد الله عليكم أني برئ من ظلم من ظلمكم وأنا نصرة لكل صاحب حق وعون لكل مظلوم، {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] وأعزكم بعد الذلة، وجمعكم بعد الفرقة، وكثركم بعد القلة، وأمنكم بعد الخوف، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم والسلام"[13] .

رحم الله الإمام ((تركي)) ورفع درجته في عليين، فلقد كان إماما ورعا تقيا نقيا، لقد صدق والله وبرّ، وما أعظمها من كلمات منيرات:"وأعزّكم بعد الذلة، وجمعكم بعد الفرقة، وكثركم بعد القلة، وأمّنكم بعد الخوف، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم والسلام! ".

ونموذج آخر من مواعظ الإمام فيصل بن تركي، المتوفى سنة (1282هـ) : "بسم الله الرحمن الرحيم.. من فيصل بن تركي إلى من يصله هذا الكتاب من المسلمين، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإن أجمع الوصايا وأنفعها: الوصية بتقوى الله تعالى، قال تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131] وتقوى الله: أن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله، وأن يترك معصية الله على نور من الله يخاف عقاب الله، ومعظم التقوى والمصحح لأعمالها توحيد الله بالعبادة وهي دين الرسل الذين بعثوا به وهو مبدأ دعوتهم لأممهم، وهو معنى كلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلا الله، فإن مدلولها نفي الشرك في العبادة، والبراءة منه وإخلاص العبادة لله وحده كما قال تعالى:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2-3] .

ص: 332

وقد بين الله تعالى معنى هذه الكلمة في كثير من الآيات المحكمات، قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26] فهذا معنى لا إله، وقوله {إِلَاّ الَّذِي فَطَرَنِي} فهو معنى إلا الله، وقد عبر عنها بمعناها من النفي والإثبات، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية.

والآيات في توحيد العبادة أكثر من أن تحصر.

وهذا التوحيد هو الذي جحدته الأمم المكذبة للرسل، قال تعالى:{أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 71] وجحده مشركو العرب ومن ضاهاهم من مشركي هذه الأمة، قال تعالى:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} الآية [إبراهيم:9] وأما مشركو العرب فأخبر الله عنهم أنهم قالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [سورة ص: 5] ".

[ثم استطرد الإمام في سوق الأدلة إلى أن قال] :

"فيا من يدعي معرفة هذا التوحيد اعرف هذه النعمة وقدّرها فإنها أعظم نعمة أنعم الله بها على من عرفها وأحبها وقبلها وعمل بها وألزمها، فقابِلوها بالشكر ولا تكفروها بالإعراض عنها، واحذروا أن يصدكم الشيطان عن ذلك، واعلموا أنه قد غلط في هذا طوائف لهم علوم وزهد وورع وعبادة، فما حصل لهم من العلوم إلا القشور وقد حرموا لبه وذوقه، وقلدوا أسلافا {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77] فيالها من مصيبة ما أعظمها وخسارة ما أكبرها فلا حول ولا قوة إلا بالله) إلى آخر كلامه رحمه الله"[14] .

ص: 333

ومواعظ وخطب الأئمة في الحقيقة درر في التاريخ الإسلامي، وفي تاريخ الدعوة السلفية، وهي الزاد بعد القرآن والسنة فإنها من معينهما مستقاة، وكما أنها زاخرة ومفعمة بالروحانية والأصالة هي كذلك قطع أدبية راقية نستشف منها منهاج الحاكم المسلم وتقواه وورعه وخطته السياسية، وأن الدولة المؤسسة على أساس العقيدة الخالصة كما قامت في القرون الأولى المفضلة، ها هي اليوم ننعم بظلالها ونتفيأ نعيمها، وكان من آثارها تلكم الحضارة الإسلامية الزاهية التي لا نظير لها في تاريخ الإنسانية، أمن مستتب، وعيش وارف، وتلاحم وولاء بين القيادة والشعب، وتناصر وتناصح..

إن الدين الحنيف صالح ولا زال وسيظل كذلك لتأصيل المناهج السياسية والاجتماعية والإصلاحية على معطياته، كما هو مشاهد في عهد الملك عبد العزيز والملوك الأماجد من أبنائه الميامين: سعود وفيصل وخالد وخادم الحرمين الشريفين فهد، وستظل كذلك إلى آخر الزمان، بل إن صلاح الدول ونهضة الأمة وصحوتها منوط بتمسكها بدينها القويم، وهديها المستقيم.

وعودة إلى سيرة الملك عبد العزيز رحمه الله وأصالة منهجه وعمق إيمانه بالله ومضاء عزيمته وهو من هو مكانة في القيادات الإسلامية التاريخية نلحظ أنه لم يحد عن منهجه.

فقد جاء في الوصية لولي عهده:

"تفهم أننا نحن والناس جميعا ما نعز أحدا ولا نذل أحدا، وإنما المعز والمذل هو الله سبحانه وتعالى، ومن التجأ إليه نجا، ومن اغتر بغيره - عياذ الله - وقع وهلك، موقفك اليوم غير موقفك بالأمس.

ينبغي أن تعقد نيتك على ثلاثة أمور:

ص: 334

أولا - نية صالحة، وعزم على أن تكون حياتك وأن يكون ديدنك إعلاء كلمة التوحيد ونصر دين الله، وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقاتا خاصة لعبادة الله والتضرع بين يديه في أوقات فراغك، تعبد إلى الله في الرخاء تجده الشدة، وعليك بالحرص في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر، وصدق في العزيمة، ولا يصح مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدق، وإلا العمل الخفي الذي بين المرء وربه.

ثانيا - عليك أن تجد وتجتهد في النظر في شئون الذين سيوليك الله أمرهم بالنصح سرا وعلانية والعدل في المحب والمبغض، وتحكيم الشريعة في الدقيق والجليل، والقيام بخدمتها باطنا وظاهرا، وينبغي أن لا تأخذك في الحق لومة لائم.

ثالثا - عليك أن تنظر في أمر المسلمين عامة وفي أمر أسرتك خاصة، اجعل كبيرهم ولدا وأوسطهم أخا وصغيرهم ولدا، وهن نفسك لرضاهم وامح زلتهم وأقل عثرتهم انصح لهم، واقض لوازمهم بقدر إمكانك، فإذا فهمت وصيتي هذه ولازمت الصدق والإخلاص في العمل فابشر بالخير. وأوصيك بعلماء المسلمين خيرا، احرص على توقيرهم ومجالستهم وأخذ نصيحتهم، واحرص على تعليم العلم لأن الناس ليسوا بشيء إلا بالله ثم بالعلم ومعرفة هذه العقيدة، احفظ الله يحفظك" [15] .

ب عبادته وورعه وتقواه:

كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو قدوة المؤمنين في كل زمان أعبد الناس وأخشاهم لله وأتقاهم، وكان يكثر من العبادة والتهليل والتسبيح، وكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه فيقال له في ذلك فيقول:"أفلا أكون عبدا شكورا"[16] .

ومقام العبودية لله تعالى أشرف المقامات وأجلها وهو من لوازم التوحيد.

وعلى هذا السنن مضى خلفاؤه الراشدون وأصحابه المهديون، ثم جاء من بعدهم الأئمة الذين سلكوا سبيله، واجتهدوا ما وسعهم إلا اتباع سنته في كل جيل، وكان منهم الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب.

ص: 335

قال التاريخ عنه أنه كان رحمه الله يحيي غالب الليل قائما يصلي ويتهجد ويقرأ القرآن [17] .

وكان رحمه الله تعالى من الرأي والفراسة والتدبير ما ليس لغيره، وكان كثيرا ما يلهج بقوله تعالى:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15] .

وكان قد ثقل آخر عمره فكان يخرج لصلاة الجماعة يتهادى بين رجلين حتى يقام في الصف وله من العمر نحو اثنتين وتسعين سنة [18] .

وعلى هذا المنهاج النبوي في العبادة وتزكية النفس تتابع الأئمة من آل سعود أكرم الله مثواهم، ومن ذلك مما وعته ذاكرة التاريخ:

أن الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود، المتوفى سنة 1218هـ كان كثير الخوف من الله والذكر، آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم.. قال ابن بشر:"وكان لا يخرج من المسجد بعد صلاة الصبح حتى ترتفع الشمس ويصلي فيه صلاة الضحى، وقد ذكر لي بعض من أثق به أنه كان يكثر الدعاء لهم في ورده، قال وسمعته يقول: اللهم ابق فيهم كلمة لا إله إلا الله حتى يستقيموا عليها ولا يحيدوا عنها"[19] .

ص: 336

وقال التاريخ في سيرة الملك عبد العزيز: "اعتاد أن يستيقظ قبل الفجر بنحو ساعة فيقرأ سورا من القرآن الكريم ويتعبد ويتهجد وكثيرا ما يسمع له نشيج، ويستمر إلى أن يؤذن الفجر فيصلي الصبح مع الجماعة ويسبح ويقرأ ورد الصباح ويدخل فيضطجع إلى أن تشرق الشمس، وينهض فيغتسل ويلبس ثيابه ويفطر ثم يخرج إلى المجلس الخاص فتعرض عليه مهام الحكومة في فترة غير طويلة، يأذن بعدها بالمقابلات الخاصة لكبار الزوار، ثم ينتقل إلى المجلس العام، حيث يدخل كل من يريد مقابلته ويمكث نحو ساعة، فإذا اقترب وقت الظهر نهض إلى مجلسه الخاص فيعرض عليه ما تجدد من الشئون العامة إلى صلاة العصر، ويجلس بعدها لإخوانه وأولاده وأقاربه وكبار الموظفين، ثم يخرج بسيارته إلى ظاهر المدينة للرياضة، ويعود بعد صلاة المغرب، وبعد العشاء يجلس في مجلس شبه عام وهناك يحضر القارئ فيتلو فصولا من كتب مختلفة، وبعد قليل يدخل قارئ الإذاعة العربية فيتلو ما التقط من محطات الإذاعة الشرقية من متنوع الأخبار.. وفي نحو الساعة الرابعة عربية (العاشرة زوالي) مساء ينفض المجلس بنهوض الملك عائدا إلى داخل القصر بعد أن يتلطف بكلمات يختمها بتحية الجميع: السلام عليكم [20] .

ص: 337

ويذكر معاصروه بعض أحواله في التعبد والتبتل حال سفره فيقول: ".. وفي صبيحة يوم السبت الموافق 5رجب [1345هـ] نهضنا من النوم وكان الليل مظلما والسكون سائدا ونسيم الصبا يهب هبوبا قارسا، وكان أول شيء طرق مسامعنا صدى صوت رخيم يخالط ذرات الهواء وهو يختلج في ذلك السكون، فدنوت مستقصيا عن مصدر هذا الصوت لما فيه من الرقة والعذوبة والخشوع في آن واحد، فلما قربت منه علمت أنه جلالة الملك يقرأ القرآن كما هي عادته في كل صباح قبل طلوع الفجر، وكان جلالته يتلو القرآن تلاوة يتخللها بكاء بخشوع عند قراءة آيات الترهيب خوفا من الله عز وجل، فمما لا ريب فيه أنه ليس هناك إنسان يسمع هذا الصوت بخشوع وقلبه يشعر إلا وعينه تدمع لمجرد سماع هذه القراءة الصادرة من ثغر ملك عظيم، ملأت عدالته جزيرة العرب من مشرقها إلى مغربها"[21] .

وقد رأينا فيما سبق ما جاء في وصيته لولي عهده وفيها: "وينبغي أن تتخذ لنفسك أوقاتا خاصة لعبادة الله والتضرع بين يديه في أوقات فراغك، تعبد إلى الله في الرخاء تجده في الشدة، وعليك بالحرص في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يكون ذلك كله على برهان وبصيرة في الأمر، وصدق في العزيمة، ولا يصلح مع الله سبحانه وتعالى إلا الصدق، وإلا العمل الخفي الذي بين المرء وربه"[22] .

ويتبين من هذه المقتطفات من عبادته وتقواه - وهي مظهر من مظاهر الأصالة - أنه كان في ذلك يترسم منهاج السلف، فلم تكن العبادة منحصرة عندهم في الشعائر التعبدية الظاهرة كالصلاة والزكاة فحسب، بل تشمل ذلك وتشمل معه كافة مسالك الصلاح والإصلاح.

ولم يكن التبتل والإخبات ساعات أداء الصلوات المفروضة فحسب، بل كان سمة لازمة تكلل حياتهم كلها بالتوفيق والسداد، لأن العقيدة الخالصة المبنية على مبدأ الإخلاص والتوحيد ليست إيمانا راسخا فحسب، بل هي مع ذلك عمل صالح يحفزه قلب منيب وضمير حي.

ج – طرف من أخلاقه:

ص: 338

من أبرز ما يشد المتأملين في أخلاق الملك عبد العزيز وهو سليل بيت أصيل عرف بالخلق الكريم:

(بره بأبيه) وكيف لا يبر عبد العزيز بأبيه وهو داعية التوحيد، وهو يعلم أن البر بالوالدين مقرون بالتوحيد في التنزيل الحكيم، ولقد كان بر الملك عبد العزيز بأبيه الإمام عبد الرحمن الفيصل آية يندر مثالها في سير الملوك..

يحدثنا التاريخ عن هذا الجانب المشرق من أخلاق عبد العزيز الملك الإنسان فيقول: "بعد عودة جلالته من مكة المكرمة إلى الرياض كنت أرى جلالة الملك تأدبا مع أبيه، يقف على الباب قبل الدخول يصلح من عقاله ويرتب ثوبه، فيدخل بكل أدب وخشوع حتى وصل والده فقبله بين عينيه وجلس بين يديه بكل احترام وإجلال، ثم قدم لجلالة والده بعض رجال حاشيته، وطفق يسأل والده عن صحته وراحته وهو متيقظ بكل بادرة تبدو من أبيه ليأمر بالإسراع في إنفاذها، أقمنا قليلا في المجلس نسمع حديث الإشفاق والتحنان يتداول بين الولد وأبيه ثم خرجنا من المجلس وتركناهما يتناجيان.

هذا ما استطعنا وصفه من المشهد، وأما ما كان يدركه الوجدان من حس العطف الأبوي وخفض جوانح الذل من الرحمة في الولد فهذا ما نعجز عن وصفه، وانه لخلة في جلالة الملك وعلو في نفسه أن يرى الناس فيه - وهو الآمر الناهي في ملكه - هذا الانقياد والطاعة لأبيه، وإنها لمنزلة من الرضوان حق له أن يفاخر بها، وحق على باقي أفراد الرعية أن يتأسوا بتواضعه" [23] .

فهذه العلاقة بين الأب وابنه التي ذكرها حتى الغربيون بشيء كثير من الإعجاب [24] كانت نابعة من الأصالة التي غرسها الإسلام في أبنائه، فعبد العزيز في غمرة النصر وفي نشوة الغلبة والحكم وحتى بعد أن أخضع سائر خصومه واستتب له الأمر ظل بارا بوالده خافضا له جناح الذل من الرحمة كما أمر القرآن الكريم، وهذا نموذج في الحكام قليل بل نادر.

ص: 339

وتتبدى أصالة عبد العزيز كثيرا في سيرته الميمونة في هذا الخلق العظيم، قال الزركلي تحدث فلبي عن أول مرة رأى فيها الملك عبد العزيز سنة 1333هـ[1915م] فقال ما خلاصته:"دخلت الرياض يصحبني الكولونيل كانليف أوين، وجندي يخدمنا وقد ارتدينا الملابس العربية وكان في استقبالنا إبراهيم بن جميعة فدخل بنا القصر إلى غرفة كان فيها شيخ ضئيل الجسم في نحو السبعين من عمره، سلمنا عليه ودعانا إلى الجلوس وجئ بالقهوة، وهو يسأل عن أحوالنا ويلاطفنا، قال فلبي: وبينما كنت أقول في نفسي من هذا؟ وأين ابن سعود؟ إذا بالشيخ ينهض متمهلا ويقول: مرحبا بكم، حديثكم مع الابن عبد العزيز.. وما كاد يتوارى حتى انتصب من زاوية المجلس عملاق أقبل علينا فعرفنا أنه سيد الجزيرة، وكان منطويا على نفسه في حضور أبيه، وكأن عيني لم تقع عليه"[25] .

ومثل هذه الأخلاق لا تبدر إلا من ذوي الخلق العظيم والحظ العظيم.

وكان رحمه الله يقول: "رحمة الله على والدي لقد كان يعاملني كأنني أنا الوالد وهو الولد، وما رأيت قط كهذه بين الآباء والأبناء أو بين الإخوة والأقربين"[26] .

ومن لطائفه المؤثرة التي تستأهل وقفات ووقفات للتأمل والاتعاظ بأخلاق عبد العزيز الإنسان المسلم أنه دخل على أبيه الإمام عبد الرحمن في الرياض فقبل يديه وتزود بدعائه ورضاه، واحتشد من في الرياض لوداعه فكان مما قال:"إني مسافر إلى مكة لا للتسلط عليها بل لرفع المظالم عنها، إني مسافر إلى مهبط الوحي لبسط أحكام الشريعة ولن يكون في مكة بعد الآن سلطان لغير الشرع"وكان سفره من الرياض على الذلول يوم 13ربيع الثاني 1343هـ[27] .

ومن أخلاقه لينه وتواضعه لشعبه، ومن حق جيلنا أن يعرف أصالة الأخلاق التي تبوأها الملك عبد العزيز، والأخلاق في كل أمة وفي كل جيل هي معيار الأصالة ومقياس الصلاح والتقوى.

ص: 340

يقول المستشرق فلبي بعد أن ذكر الشورى وتلاحم الشعب بقيادته: ".. ويعود الفضل في ذلك بالطبع لابن سعود إذ أنه لم يقطع الاتصال برعاياه مهما سبب له ذلك من إزعاج، لا فرق بين الكبير والصغير، والغني والفقير، كان يستمع إلى شكاواهم ويساعدهم في التغلب على مصاعبهم، وكان هذا طبيعة فيه تلازمه، وإنه لمن المدهش حقا أنه استطاع بالرغم من مشاغله العظيمة والمزعجة أن يجد متسعا من الوقت يقوم فيه بتأدية هذه الآلاف المؤلفة من المساعدات البسيطة أو يفكر فيها، هذه المساعدات التي حملت الكثيرين من الناس بعد وفاته على أن يمجدوا ذكراه ويترحموا عليه، فلقد كرس حياته لخدمة الآخرين، وربما كان هذا هو السبب الذي جعله لا يكل جزءا من هذه الأعباء التي يحملها على عاتقه طول حياته لأخلص مستخدميه وموظفيه"[28] .

وكثيرا ما نقرأ في سيرة الملك عبد العزيز وكثيرا ما نسمع من كبار السن الذين عاصروه أنه كان يناديه أفراد شعبه باسمه المجرد وكان أحدهم يقول يا عبد العزيز! ويرفع مظلمته ويعرض حاجته وهو في موكبه الملكي فيقف وينصت ويأمر ويوجه، وهذه في الحقيقة أخلاق لا تصدر إلا من مشكاة النبوة يتمثلها الحاكم المسلم الورع فيزداد قربى من الله وزلفى ويزداد في أعين شعبه تألقا ورفعة.

ومما يدل على كرم معدنه وأصالته أن كان يقوم بمسئوليته الجسيمة في إدارة دفة الحكم وتصريف شئون الدولة بتفان وإخلاص عظيمين ولو على حساب صحته، وهذا ما دفع المستشرق الإنجليزي فلبي إلى القول:"إنها هنات مزايا رجل عظيم، رجل عظيم لا يضاهيه أحد في منطقته مخلص في دينه وصادق وغيور على سمعته واسمه وخير شعبه، لهذا فإنه لم يثق بأي من موظفيه ورعيته في أن يخدمه بالغيرة والكفاءة اللتين أظهرهما هو في خدمتهم، وكثيرا ما كان يردد القول المعروف: كبير القوم خادمهم"[29] .

ص: 341

وعلى الجملة فإن الله تعالى لحكمة يريدها وهب عبد العزيز من الخصال الفريدة المتكاملة ما جعله بها إماما تجتمع عليه القلوب، وتتناهى إليه المكارم وتهتف بقيادته الراشدة ربى المملكة شرقها وغربها وشمالها وجنوبها.

وهذه الخلال الفريدة والخصال الحميدة هي في أصالتها لمما يغرسه الإسلام في أبنائه فتكون أخلاقهم متناسقة مع الفطرة متجاوبة مع الطبيعة البشرية السوية بعيدا عن الشطط والتقلب.

يقول العقاد: "إذا عرفت الملك عبد العزيز ثلاثة أيام فكأنك عرفته ثلاث سنوات أو لازمته في أطول الأوقات، لأن هذا الرجل العظيم مطبوع على الصراحة ووضوح المزاج، لم تشتمل نفسه القوية على جانب من جوانب الغموض التي يحدث منها اختلاف الحالات وتناقض العادات، فهو في أخلاقه وأعماله ومألوفاته يمضي على وتيرة واحدة ولا يواجه عارفيه في حالتي رضاه أو غضبه بخليقة لم تكن لهم في الحسبان"[30] .

الأصل الثاني - تطبيق الشريعة:

من الأسس الجديرة بالدراسة والتنويه (تطبيق الشريعة الإسلامية) وهو سبب قوة المسلمين وعزهم ونصرهم، وبه تكفل حقوق المسلم بل حقوق الإنسان أينما كان لأن الشريعة نظام شامل كامل.

جاء في الموسوعة العربية العالمية: "اختارت الدولة السعودية في عهد الملك عبد العزيز شكل وشعار الدولة وعلمها الحاليين، وقام دستور الدولة على القرآن ويقوم الحكم فيها على تطبيق أحكام الشرع الإسلامي المستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وما أثر عن الصحابة وتابعيهم بإحسان وما عليه الأئمة الأربعة وصالح سلف الأمة، وتطبق الدولة في المعاملات والأحوال الشخصية المشهور من مذهب الحنابلة"[31] .

ص: 342

لقد كان تحقيق العدل ونشر التعليم وإنفاذ الأحكام الشرعية وبسط رواق الأمن ديدن الملك عبد العزيز وهاجسه وهو يرنو ببصره إلى امتداد رقعة الوطن، فقد أرسى قواعد القضاء الشرعي، وأمر بإعداد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشكل مجلس الشورى، ونشر مدارس للتعليم على طول رقعة البلاد وعرضها، وأمر بتوطين البدو وإقامة الهجر، وأمر باتخاذ كل وسيلة عصرية في تحقيق ما يصبو إليه، كل ذلك وغيره لتتضافر أجهزة الدولة على إرساء العدالة ومحاربة الجهل والمرض والفقر.

قال رحمه الله: "إن خطتي التي سرت عليها - ولا أزال أسير عليها - هي إقامة الشريعة السمحة، كما أنني أرى أن من واجبي ترقية جزيرة العرب، والأخذ بالأسباب التي تجعلها في مصاف البلاد الناهضة مع الاعتصام بحبل الدين الإسلامي الحنيف"[32] .

ص: 343

ومن سيرته مع شعبه قوله رحمه الله بعد أن استتب له الأمر في الحجاز في بلاغ عام: "من عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود إلى إخواننا أهل الحجاز سلمهم الله تعالى. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فإني أحمد الله الذي صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده وأهنئكم وأهنئ نفسي بما من الله به علينا وعليكم من هذا الفتح الذي أزال الله به الشر وحقن دماء المسلمين وحفظ أموالهم، وأرجو من الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته وأن يجعلنا وإياكم من أنصار دينه ومتبعي هداه [إلى أن قال] لقد مضى يوم القول ووصلنا إلى يوم البدء في العمل، فأوصيكم ونفسي بتقوى الله واتباع مرضاته والحث على طاعته، فإنه من تمسك بالله كفاه ومن عاداه والعياذ بالله باء بالخيبة والخسران، إن لكم علينا حقوقا ولنا عليكم حقوقا، فمن حقوقكم علينا النصح لكم في الباطن والظاهر، واحترام دمائكم وأعراضكم وأموالكم إلا بحق الشريعة، وحقنا عليكم المناصحة والمسلم مرآة أخيه، فمن رأى منكم منكرا في أمر دينه أو دنياه فلينا صحنا به فإن كان في الدين فالمرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن كان في أمر الدنيا فالعدل مبذول منا إن شاء الله للجميع على السواء. ."[33] .

ومن هذا البلاغ التاريخي يُستشف شمولية المنهج الذي تحض عليه الشريعة الغراء وتأمر به، وأن القرآن العظيم والسنة المطهرة من الشمولية والعمق بحيث يستوعبان أحداث كل عصر ومصر، نصا أو استنباطا أو قياسا أو اجتهادا على نحو ما يفصله علماء أصول الفقه، وقد كان فقه هذه الشمولية في عقل الملك عبد العزيز وقلبه وهو من هو في خدمة الشرع.

ص: 344

يقول الزركلي: "كان الملك عبد العزيز كلما سئل عن دستور بلاده أجاب: دستورنا القرآن وهو يعني تقيده هو ومملكته بأحكام الشرع الإسلامي المستمدة من معاني القرآن، وما لم يكن فيه فمن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله، وما لم يكن فيهما فمن قضاء أصحابه وسيرتهم، وما لم يكن فمن نهج أهل العدل والعقل والسيرة الحسنة من سلف الأمة، وما لم يكن ففي النظم ما قد يقوم مقام التشريع"[34] .

وجوانب الإصلاح التي تحض عليها الشريعة كثيرة لا يتأتى حصرها في هذا المقام مما حفلت به سيرة الإمام الملك عبد العزيز كالتنظيمات الداخلية للدولة، وعلاقاتها الخارجية، وأقتصر في هذا المقام على بعض تلك الجوانب ومنها:

1 العلم والتعليم:

"وجه الملك عبد العزيز عنايته واهتمامه بالتعليم ففتح المدارس النظامية والمعاهد، ووزع الكتب الدراسية، ووزع مساعدات مالية على الطلاب تشجيعا لهم على مواصلة تعليمهم، واستقدم المدرسين من خارج البلاد، وأرسل البعثات إلى الخارج، وأسس المكتبات العامة، وشجع طباعة الكتب وبخاصة الكتب الدينية والكتب التي تفيد في تدريس اللغة العربية وفهمها ووزع كل ذلك دون مقابل"[35] .

لقد واكب العلم والتعليم مسيرة البناء منذ فجر الدعوة الإصلاحية، وعلى سبيل المثال ففي أيام الإمام سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود (ت 1229هـ) وهو من تلاميذ شيخ الإسلام كان يقرأ في مجالسه تفسير ابن جرير الطبري، وابن كثير، ورياض الصالحين، وصحيح البخاري، وغيرها من كتب العلم [36] .

وعلى هذا المنوال كان باقي الأئمة رحمهم الله.

ص: 345

وفي الحقيقة فإن العلوم الشرعية على تعدد أبوابها واختلاف مدارسها يجب أن يتصدى لها فريق من الأمة تعلما وتعليما كما قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] ومن السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"[37] .

وأيضا فإن قدرا من العلوم الشرعية لا يسع المسلم جهله مما هو معدود في الثقافة الشرعية يجب أن يتعلمها العامي ليؤدي فرائض دينه ويعرف الحلال والحرام ويقوم بالحقوق والواجبات تجاه الآخرين، لا سيما علم التوحيد والعقيدة وفي هذا يقول ابن بشر:"إن مسائل التوحيد ليست من المسائل التي هي من فن المطاوعة خاصة، بل البحث عنها أوتعلمها فرض لازم على العالم والجاهل، والمحرم والحل والذكر والأنثى"[38] .

وهذا الأمر في الحقيقة جدير بأن يهتم له كل معلم ومربي وداعية وسائس وغيرهم من علماء المسلمين وولاتهم وعامتهم.

وقد نبه إلى ذلك أهل العلم كما في قول الشيخ محمد رحمه الله في مفتتح كتابه الأشهر الأصول الثلاثة: "اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل (الأولى) العلم وهو معرفة الله ومعرفة نبيه ومعرفة دين الإسلام بالأدلة. (الثانية) العمل به. (الثالثة) الدعوة إليه. (الرابعة) الصبر على الأذى فيه.."إلى آخر كلامه رحمه الله.

ص: 346

وسيرة الملك عبد العزيز رحمه الله حافلة بالعلم والتعلم والتعليم، فإن مجالسه العامرة لم تكن لتخلو من العلماء ومن المسائل العلمية التي كانت تحظى باهتمامه في مجالسه، وكانت نفسه الكبيرة تتوق إلى مزيد من العلم، فها هو يقول:"إن الحروب شغلتني عن التبحر في العلوم والتوسع في الدراسة، أما الذي استوفى نصيبه منها فهو هذا، ويشير إلى سمو الأمير عبد الله بن عبد الرحمن أخي جلالته حيث كان في مجلسه بجواره"[39] .

وهذا تواضع منه رحمه الله وإلا فإن مداومته للاستماع إلى الكتب تقرأ بين يديه أزمنة مديدة ومناقشاته العلمية تركت في شخصه الكريم - ولا شك - آثارا علمية مرموقة.

يقول ابن مانع: "وكانت معرفة الملك بالدين وإخلاصه للإسلام من الأمور التي جعلته يعتبر من أعظم قادة المسلمين عبر التاريخ، وكان قادرا على شرح القرآن وتفسيره بطريقة ممتازة مفهومة لدى أبسط رجال البادية، وفي اعتقادي أنه قدم للعقيدة الإسلامية خدمة لم يقدم مثلها أي رجل في هذا الزمن"[40] .

ويذكر معاصروه أن اهتمامه بالعلم كاهتمامه بالاطلاع على الأحداث التي تجري في العالم، فقد كان يصغي إلى فصول تقرأ بين يديه من كتاب أو معلومة يسمعها من أجهزة الإعلام، ولتحقيق ذلك بانتظام يتقيد بمواعيد حياته اليومية، وكان ذلك جزءا من برنامجه اليومي.

ص: 347

يقول العقاد: "وجلالته يبكر في الإفطار ويأمر بالغداء في الساعة الثانية عشرة ظهرا ولا يتأخر عشاؤه عن الساعة السادسة في المساء، ومواعيده في النوم واليقظة منتظمة في جميع المواسم والأوقات، فيستيقظ قبل الفجر ويقضي نحو ساعة في التهجد وقراءة القرآن ويصلي الفجر حاضرا، ثم يحيل بعض خاصته لإطلاعه على مهام الأمور التي تتطلب التعجيل ثم يغفي قليلا ويخرج للناس ومن عاداته بعد العشاء أن يصغي إلى فصول من كتب التفسير والحديث، أو كتب الأدب والتاريخ ثم تلقى عليه أخبار الإذاعة التي يتلقاها الموظف المنوط بها من أهم المحطات العربية والشرقية فيعقب عليها أحيانا تعقيبا موجزا يدل على بعد النظر وتتبع الأحوال السياسية في مشارق الأرض ومغاربها"[41] .

ويقول أيضا: "أربعة وخمسون عاما عاشها في المملكة لم يختلف في يوم منها برنامجه ونظامه إلا لطارئ من طواري الزمن، أربعة وخمسون عاما يتلى بين يديه ساعة معنية كل يوم منها فصل من التفسير، وفصل من التاريخ يختم على الأكثر بالمناقشة في أهم ما اشتمل عليه "[42] .

وهذا البرنامج العلمي طيلة هذه السنون - ولا شك - كان كافيا لقراءة عشرات الكتب بين يديه في مختلف العلوم والفنون، وأضفى ذلك على شخصه المهيب مزيدا من الفضل والتبصر والحكمة.

والألطف والأعجب من هذا أن الملك عبد العزيز كان حتى في أسفاره قبل استعمال السيارات على هذا النهج - إذ كانوا يسافرون على الإبل والخيول - شديد الحرص على اصطحاب العلماء ليقرءوا عليه فصولا ضافية من كتب التراث الإسلامي، فمما يرويه سمو الأمير طلال بن عبد العزيز قال: يسيح الأربيون فيحملون في حقائبهم الكتب التي تروق لهم مطالعتها في ساعات السفر، وكذلك كان موكب والدي وهو يقطع تلك الفيافي ومعه الكتب الدينية والأدبية والتاريخية يطالعونها في النهار وفي الليل، أجل تراهم يسمرون في السرى فإذا ما طال الليل سمع عبد العزيز ينادي:

ص: 348

"العجيري"[43] .

وقد يكون "راوية نجد"معتزلا الركب كما هي عادته فيكرر أحد الرجال قول الوالد "يا عجيري تقدم"فيحث الراوية راحلته ويدنو من الوالد فيسلم ويشرع يقرأ، أجل إنك إن كنت لا تراه تظنه يقرأ كتبا من كتب الأدب أو الشعر، ولكن العجيري لا يحمل كتابا، العجيري يحمل في رأسه الأغاني والكامل والبيان والتبيين وغيرها من الكتب، وبضعة دواوين من الشعر، وله صوت منشد يحسن مده حين يرفعه بالإنشاد والإلقاء.

العجيري: ماذا يبغي الإمام؟ فصلا في مكارم الأخلاق؟ أم فصلا في الشجاعة والإقدام؟ أم فصلا في البر والتقوى؟ أم فصلا في نوادر الملوك؟ وإذا ما أخذ في القراءة أفاض.. وفي ساعات الإدلاج بعد أن تسري الحملة وأمامها العلم، وبجانبه راكب يحمل قنديلا يسمع الصوت ينادي:

العجيري.

فيدنو الراوية من عبد العزيز ويطفق يرتل طائفة من آي الذكر الحكيم ترتيلا جميلا متأنيا تكاد تعد معه حروفه.. ثم يؤذن المؤذن لصلاة الصبح، وبعد الصلاة تأتي القهوة ويستأنف الموكب السير، فينادي الوالد:

أين الشيخ؟

فيلبيه أحد العلماء، ويشرع يتلو ما تيسر من القرآن، وعند الضحى يدعو ثانية أو يدعو غيره من العلماء، قارئ الرحلة مثلا، فيسلم هذا زمام راحلته إلى خادم يقودها ويتناول من حقيبته "السيرة النبوية"أو "تاريخ ابن الأثير"أو "الترغيب والترهيب" فيأخذ في القراءة ساعة أو ساعتين بصوت عال يسمعه المتقدمون والمتأخرون في الموكب.

ويظل الموكب يسير بنظام لا يخرج عليه متضامين متآزرين، كوكبة من الفرسان تتقدمه وتكاد أحيانا تغيب عن الأنظار تستكشف.." [44] .

ص: 349

وكان من حرص الملك عبد العزيز على العلم والتعليم أنه كان يرسل "المطاوعة"إلى البادية وإلى الهجر التي أنشأها لتوطين البدو ليقوموا بمهمة التعليم والإرشاد، وكان ذلك جزءاً أساساً في مكافحة الجهل والأمية وتأصيل التدين بتجنيبه داء التطرف والغلو، والارتقاء في سلم التحضر والعلم [45] .

ويمكننا القول بعد هذا أن الاحتفاء بالعلم والعلماء جزء من مسيرة البناء في سيرة الملك عبد العزيز، وأن السياسة التعليمية في المملكة منذ تأسيسها اتسمت بالخصائص التالية:

1 الاهتمام بالعلوم الشرعية لا سيما علم التوحيد في مختلف مراحل التعليم.

2 الاهتمام بالقرآن العظيم وحفاظه وهو ما تجلى فيما بعد في مدارس تحفيظ القرآن العظيم التابعة لوزارة المعارف وأيضا التابعة للرئاسة العامة لتعليم البنات، وحلق تحفيظ القرآن الكريم التي تشرف عليها وزارة الشئون الإسلامية.

3 الاهتمام بالعلوم النظرية والتطبيقية المتعددة لمواكبة العصر، وكان من مظاهر ذلك البعثات التحضيرية للدراسة بالخارج والاستفادة من الخبرات العلمية والعملية، وأيضا استقدام العلماء للتدريس في المدارس المستحدثة بالمملكة، يوم كان هذا النوع العصري من الدراسة جديدا لم يعرفه المواطنون قبل عهد الملك عبد العزيز.

4 تشجيع مختلف العلوم والفنون النافعة والتخصصات التي تخدم الإنسان وتعلي شأن الوطن.

ومما يذكره التاريخ من بدايات التعليم النظامي في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله:

· أنه أسس مديرية المعارف العامة عام 1344 هـ / 1926م.

· أول بعثة تعليمية للطلاب السعوديين إلى الخارج كانت عام 1346 هـ / 1927م.

· إنشاء معهد الرياض العلمي سنة 1370 هـ / 1950م وكلية العلوم الشرعية بالرياض سنة 1373هـ / 1953م وكان المعهد والكلية نواة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فيما بعد [46] .

ص: 350

ولا بد من وقفة للإشادة والتنويه بخاصية تكاد تنفرد بها السياسة التعليمية في المملكة من بين كثير من الدول العربية الإسلامية - وتعد من العوامل الأساسية لاستقرار المملكة - وهي خاصية التعليم الديني الشرعي الذي أرسى دعائمه الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، فلقد أثمر ذلك ثمارا يانعة، إذ يلقن الطالب منذ صباه أساس العقيدة الإسلامية، فيدرس الأصول الثلاثة التي لا يسع المسلم جهلها: معرفته ربه عز وجل، ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، ودينه، وذلك منذ السنة الأولى من المرحلة الابتدائية ثم يترعرع في رياض التوحيد والعقيدة الصحيحة على اختلاف مراحل التعليم إلى المستويات العليا فينشأ نشأة دينية سوية، لا مكان فيها للتطرف الناشئ من العلم الناقص والتعلم الديني العشوائي، والزيغ المنبعث من التصورات المنحرفة لمفاهيم الدين الحنيف وأسسه ومقاصده.

فالسياسة التعليمية في المملكة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وإن لهذه التربية الدينية القويمة التي تتسم بالأصالة والوضوح آثارها العاجلة والآجلة، فمن ذلك ومما ينبغي هنا أن يذكر فيشكر أن المملكة تخلو - بفضل الله ثم بفضل سياسة التعليم الديني - من الغلو في الدين ومن العنف وتلقف المبادئ الحزبية المناوئة لمنهج الاعتدال والوسطية في الإسلام.

إن خلو المجتمع من هذه الآفات ثمرة طبيعية للتنشئة الدينية السوية منذ المراحل المبكرة فيشب الطالب وقد عرف أسس دينه وأصول الحقوق التي تجب عليه تجاه خالقه، وتجاه نفسه، ومجتمعه وأمته، وذلك بفضل الله أولا ثم بفضل التعليم الديني الشرعي الأصيل الصافي النابع من الكتاب والسنة بعيدا عن التحريف والغلو ومنذ سن مبكرة، وهذه من مآثر الملك عبد العزيز رحمه الله ومآثر سلفه أجزل الله مثوبتهم وكتب ذلك في صحائفهم.

ص: 351

يقول الدكتور فؤاد فارسي: "أما واضعو السياسة التعليمية السعودية فقد تدبروا النظام التعليمي السعودي من منظور آخر، فاستطاعوا التصدي لمشكلة مهمة تسود في بلدان أخرى ألا وهي مشكلة الثغرة الثقافية الناجمة عن التأكيد الشديد على التعليم العام من ناحية وإهمال التعليم الديني من ناحية أخرى، فبفضل الثقافة الإسلامية المتغلغلة في المملكة العربية السعودية استطاع النظام التعليمي السعودي تفادي المشكلة الملحة المتمثلة في صبغ التعليم بالصبغة العصرية على حساب الدين، لأن الدين يدرس في جميع المراحل التعليمية.

ويلحظ في مصر - مثلا - أن دروس الدين في مراحل التعليم الثانوي والجامعي محدود جدا، بل إن الطلاب في آخر مراحل التعليم الثانوي يدرسون الدين ولكنهم لا يمتحنون فيه ضمن الامتحانات النهائية، فترتب على ذلك إهمال الطلاب لدروس الدين وعدم الاحتفال بها، أما في المستوى الجامعي فالدين لا يدرس إلا لطلاب الجامعة الأزهرية.

والوضع في المملكة العربية السعودية يختلف عن ذلك تماما إذ يدرس الدين في مرحلة التعليم الثانوي بكل الجدية، ويعامل بما له من منزلة عليا، أما في المرحلة الجامعية فيتم تدريس الدين بقدر معقول إلى جانب الدروس الأخرى في جميع سني الدراسة، وبالنسبة لجميع الطلاب.

ص: 352

والدين والثقافة الإسلامية للجميع من متعلمين وغير متعلمين لأنه منهاج حياة، ولأنه يمنح الناس طمأنينة نفسية وسكينة قلب متى عرف طريقه إلى أرواحهم، وعندئذ يهون عليهم تأدية أي نشاط والتركيز التام على إنجازه، والمسلم الصحيح يبقى عميق الإيمان بدينه على الدوام، حتى ولو بلغ أعلى مراتب التعليم في الميادين المختلفة، وينبغي لنا أن نلحظ أن معظم النُّظم التعليمية في بلدان الشرق الأوسط إن لم تكن كلها هي نظم نقلت من تجارب استعمارية سابقة وهو ما يغل يد السياسات التعليمية في تلك البلدان، ولو أرادت أن تتكيف تكيفا يتفق مع احتياجاتها الوطنية لاقتضى ذلك إجراء تغيير واسع ومضن في الأوضاع والمؤسسات التعليمية، ولكن الحال في المملكة العربية السعودية مختلف من حيث أن النظام التعليمي السعودي قد استطاع تجنب كل هذه السلبيات منذ البداية الأولى، فأتاح لواضعي السياسة السعودية فرصة عظيمة لتوجيه احتياجات النظام التعليمي إلى تحقيق مطالب البلاد، هذا مع الاسترشاد بمعظم النظم التعليمية المتقدمة في العالم [47] .

وهذه بعض أسس ومحاور السياسة التعليمية:

· الإيمان بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.

· التصور الإسلامي الكامل للكون والإنسان والحياة، وأن الوجود كله خاضع لما سنه الله تعالى ليقوم كل مخلوق بوظيفته دون خلل أو اضطراب.

· الحياة الدنيا مرحلة إنتاج وعمل، يستثمر فيها المسلم طاقاته عن إيمان وهدى للحياة الأبدية الخالدة في الدار الآخرة، فاليوم عمل وحساب وغدا حساب ولا عمل.

· الرسالة المحمدية هي المنهج الأقوم للحياة الفاضلة التي تحقق السعادة لبني الإنسان وتنقذ البشرية مما تردت فيه من فساد وشقاء.

· طلب العلم فرض على كل فرد مسلم، ونشره وتيسيره في مختلف المراحل واجب على الدولة بقدر وسعها وإمكاناتها.

ص: 353

· العلوم الدينية أساسية في جميع سنوات التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي بفروعه، والثقافة الإسلامية مادة أساسية في جميع سنوات التعليم العالي.

· الثقة الكاملة بمقومات الأمة الإسلامية وأنها خير أمة أخرجت للناس، والإيمان بوحدتها على اختلاف أجناسها وألوانها وتباين ديارها {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]

· التضامن الإسلامي في سبيل جمع كلمة المسلمين وتعاونهم ودرء الأخطار عنهم.

· شخصية المملكة العربية السعودية متميزة بما خصها الله به من حراسة مقدسات الإسلام وحفاظها على مهبط الوحي، واتخاذها الإسلام عقيدة وشريعة ودستور حياة، واستشعار مسئوليتها العظيمة في قيادة البشرية وهدايتها للخير.

· الدعوة إلى الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها بالحكمة والموعظة الحسنة من واجبات الدولة والأفراد وذلك هداية للعالمين، وإخراجا لهم من الظلمات إلى النور وارتفاعا بالبشر في مجال العقيدة إلى مستوى دين الله القويم [48] .

2 القضاء:

العدالة ثمرة الإيمان، والأمن - كذلك - ثمرة العقيدة إذ يذعن الجميع لحكم الله ويسلمون لأحكام شرعه وينقادون لأمره ونهيه، وهذه خاصية ينفرد بها القضاء في الإسلام، فالعدالة في المجتمع الإسلامي مطلب شرعي قبل أن يكون ضرورة حياتية.

وقد عبر الملك عبد العزيز رحمه الله عن هذا المطلب الأسنى بقوله: "لا أريد في حياتي أن أسمع عن مظلوم ولا أريد أن يحملني الله وزر ظلم أحد أو عدم نجدة مظلوم أو استخلاص حق مهضوم، ألا قد بلغت اللهم فاشهد "[49] .

والمتتبع لتاريخ القضاء يجد أن التنظيم القضائي بدأ مبكرا إذ واكب تأسيس المملكة، فقد وضع الملك عبد العزيز قواعد النظم القضائي في المملكة بإصدار المرسوم الملكي بتاريخ صفر سنة 1346 هـ الموافق 12 أغسطس 1927م بتشكيل المحاكم في الحجاز على ثلاث درجات هي:

ص: 354

محاكم الأمور المستعجلة "محاكم جزئية".

محاكم كبرى ومحاكم ملحقة وهي عبارة عن "محاكم عامة ".

هيئة المراقبة القضائية "محكمة التمييز"ولكل محكمة اختصاصاتها [50] .

ونصت قواعد النظام القضائي على:

1 مبدأ الالتزام بالأحكام الشرعية.

2 مبدأ الاستقلال القضائي.

3 مبدأ القاضي الفرد وتعدد القضاة.

4 مبدأ إجازة الحكم بالأغلبية.

5 مبدأ تحديد الحكم بالنوع وبالأشخاص.

6 مبدأ استئناف الحكم إلى محكمة أعلى.

7 مجانية القضاء [51] .

والقضاء في المملكة متميز بخصائصه الإسلامية إذ ينبثق من أحكام الدين الحنيف ويستمد استقلاله وأحكامه وسائر مبادئه من الشرع المطهر، فلا تحاكم إلى غير شرع الله، ولا مجال للقوانين الوضعية لا في الأحوال الشخصية ولا في المعاملات الأخرى ولا في غيرها من مجالات الحياة، وهذه بفضل الله ثم بعزيمة الملك عبد العزيز وأبنائه الملوك من بعده صفحة إسلامية مشرقة في تاريخ المسلمين المعاصر.

قال رحمه الله: "أنا بذمتكم وأنتم بذمتي، إن الدين النصيحة، أنا منكم وأنتم مني، هذه عقيدتنا في الكتب بين أيديكم فإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فردونا عنه، واسألونا عما يشكل عليكم فيها، والحكم بيننا كتاب الله وما جاء في كتب الحديث والسنة"[52] .

3 الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

يقول الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] مع التمكين في الأرض يقوم عباد الله الصالحون بشعيرة الحسبة على الوجه المرضي، ويتواصون بها صونا لسنن الإسلام من الاندراس وإقامة لشعائر الدين ورفعا من شأنه بتقوية وازع الدين والضمير وبالاستعانة بهيبة السلطان.

ص: 355

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: "وأهل العلم يقولون: الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يحتاج إلى ثلاث:

أن يعرف ما يأمر به وينهى عنه.

ويكون رفيقا فيما يأمر به وينهى عنه.

صابرا على ما جاءه من الأذى.

وأنتم محتاجون للحرص على فهم هذا والعمل به، فإن الخلل إنما يدخل على صاحب الدين من قلة العمل بهذا أو قلة فهمه، وأيضا يذكر العلماء أن إنكار المنكر إذا صار يحصل بسببه افتراق لم يجز إنكاره، فالله الله في العمل بما ذكرت لكم والتفقه فيه، فإنكم إن لم تفعلوا صار إنكاركم مضرة على الدين، والمسلم ما يسعى إلا في صلاح دينه ودنياه" [53] .

فالشيخ رحمه الله بهذه الكلمات القليلة يشير إلى ما قاله علماء الإسلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشروط من يتصدى لذلك، وأصول تغيير المنكر ومقاصده، هذا ما يتعلق بالحسبة. وكذلك الدعوة إلى الله تعالى فإن رسالة المسلم في الحياة إيصال الخير للغير والعمل على إعلاء كلمة الله بالأسلوب الحكيم والسمت الرزين، وسبيل الدعوة إلى الله تعالى بين واضح فمقصد الدعوة الأجلّ: تحقيق العبودية لله تعالى، فلا يعبد في أرضه غيره، ولا يتبع في عباده غير شرعه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهذا ما كان في بؤرة اهتمام الملك عبد العزيز وهو ينهض بواجب الدعوة ويأمر بإنشاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويذكّر المسلمين أن الدعوة إلى الله هي طريق الصحوة ونهضة الأمة.

ص: 356

قال رحمه الله: "إنني أدعو المسلمين جميعا إلى عبادة الله وحده، والرجوع للعمل بما كان عليه السلف؛ الصالح لأنه لا نجاة للمسلمين إلا بهذا، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا للعمل بما كان عليه السلف الصالح لأنه لا نجاة للمسلمين إلا بهذا، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا إلى ما يحبه ويرضاه، إن المسلمين لا يرقون ولا ينهضون بالبهرجة والزخارف، إن سبيل رقي المسلمين هو التوحيد الخالص والخروج من أسر البدع والضلالات والاعتصام بما جاء في كتاب الله على لسان رسوله الكريم"[54] .

ويمكننا استشفاف بعض المعالم لمنهج الملك عبد العزيز في الدعوة إلى الله من خلال قوله رحمه الله: "أنا مبشر أدعو لدين الإسلام ولنشره بين الأقوام، أنا داعية لعقيدة السلف الصالح، وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله وسنة رسوله وما جاء عن الخلفاء الراشدين، أما ما كان غير موجود فيها فأرجع بشأنه إلى أقوال الأئمة الأربعة فآخذ منها ما فيه صلاح المسلمين"[55] .

* فالبدء بالعقيدة التي لها الأولية والأهمية في سلم التدرج مرتكز الدعوة ومقصودها الأول والأجلّ.

* وتوحيده تعالى في العبادة هو الأصل والأساس فلا إله غيره ولا رب سواه.

* والعودة إلى المعين الصافي والحياة الإسلامية السوية كما كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين رضوان الله تعالى عليهم مطلب شرعي، ويقتضي ذلك طرح البدع، وما زيد في الدين وليس منه مما أبانه الأئمة المهديون والعلماء الربانيون.

ومن سمات منهجه رحمه الله في الدعوة إخلاصه لدينه وأمته وتفانيه في خدمة هذا المبدأ العظيم، قال رحمه الله:" إنني أفخر لكل من يخدم الإسلام ويخدم المسلمين وأعتز بهم بل أخدمهم وأساعدهم وأؤيدهم، إنني أمقت كل من يحاول الدس على الدين وعلى المسلمين ولو كان من أسمى الناس مقاما وأعلاهم مكانة"[56] .

ص: 357

ولم تكن الشواغل مهما كانت تصده عن الجهر بكلمة الحق لا سيما ما يتعلق بالعقيدة فالملك صاحب رسالة، ومن الأمثلة الكثيرة الدالة على غيرته الدينية، ما يذكره في اجتماع الملك عبد العزيز بالملك فيصل بن الحسين، أراد فيصل تأكيد أمر فقال وحياة رأسك، فنظر إليه الملك عبد العزيز وقال: قل والله [57] .

وفي مضمار إعداد الدعاة وتأهيلهم وهو باب من أبواب الدعوة التي نهض الملك عبد العزيز بأعبائها تجدر الإشارة إلى اهتمامه بأبناء العالم الإسلامي، والأقليات حيثما وجدت، وبشتى الوسائل المستطاعة.

ولعل من أبرز ما تجدر الإشارة إليه إنشاء الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية التي يدرس بها أبناء العالم الإسلامي من أكثر من مئة دولة من كل أنحاء العالم، بدءا بالمرحلة الجامعية والدراسات العليا "الدبلوم والماجستير والدكتوراه "إضافة إلى المعاهد التابعة للجامعة، وقد أنشئت هذه الجامعة المباركة عام 1381 هـ فهي امتداد لجهوده في هذا المضمار.

وهذا عمل مبرور – ولا ريب – من أعماله الإسلامية الجليلة الأخرى التي تكتب في صحائف أعماله رحمه الله، وصحائف أبنائه الملوك البررة الذين ساروا على دربه: سعود وفيصل وخالد رحمهم الله جميعا، وخادم الحرمين الشريفين الملك فهد بارك الله في عمره ومتع به المسلمين آمين.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا" عن أبي هريرة رضي الله عنه [58] .

وعودا على بدء "فإن الملك عبد العزيز رحمه الله اهتم بالدعوة الإسلامية وحارب البدع والخرافات وكان ذلك هو الخط المتواصل الذي نهجته الدولتان السعوديتان الأولى والثانية"[59] .

الأصل الثالث - الوحدة:

ص: 358

وحدة المجتمع وتماسكه ثمرة من ثمار العقيدة الوازعة والشريعة الحافزة، وفي ظل أحكام الشريعة الغراء تذوب العنصريات وتتلاشى النعرات الجاهلية، وينقاد الجميع لسلطان الدين، وتتوافر إثر ذلك العزائم والهمم وتتوجه نحو البناء والتكامل والتعاضد.

ذلك ما كان يصبو إليه الملك عبد العزيز وهو يعمل في إخلاص لتوحيد أجزاء البلاد، ولينعم المسلمون كافة بالأمن الوارف والعيش الرغيد والعون المتواصل وهم ييممون وجهتهم صوب الحرمين الشريفين للحج أو العمرة أو الزيارة..

يقول سمو الأمير طلال بن عبد العزيز:

"كانت أعمال عبد العزيز بعد توحيد الكلمة في نجد توجه بها إلى توسعة النهضة لتشمل سائر أرجاء البلاد وليس ذلك بقليل، بيد أن الدوائر السياسية التي كانت تسود الحجاز في ذلك العهد لم تكن على علم بالإصلاح الاجتماعي الكبير الذي تنطوي عليه نفس عبد العزيز الطامحة، أما هو فيعرف ما يريد، إنه كان قد خطط له وعزم على تنفيذه منذ أن فتح مدينة الرياض: جمع هذه الأمة تحت لواء واحد وإعادة الإسلام إلى جوهره الناصع وروحه الصافية، ففي أوائل ربيع الثاني سنة"1343هـ"كان عبد العزيز يتأهب لمسيرته إلى الحجاز، وكان يتحدث إلى مودعيه ويقول: "ما أنا ذاهب للتسلط على البلاد وأهلها، لأن البلاد بلادي والأهل أهلي، وما أنا بينهم إلا داعيا بالأعمال قبل الأقوال، داعيا إلى توحيد الكلمة وجمع الصفوف ولم الشعث وإعادة الناس إلى فطرة الإسلام الصافية ومثلها العليا، وهذه البلاد بلاد مقدسة وهي لجميع المسلمين مفتوحة الأبواب لا فرق فيها بين مسلم ومسلم" [60] .

ومن ثم فإن وحدة البلاد أساس وطيد من أسس النهج الراشد الذي سلكه الملك عبد العزيز، ومما يذكره في الوحدة الوطنية تسمية المملكة بعد توحيد أجزائها بـ "المملكة العربية السعودية"بموجب المرسوم الملكي في 17/5/1351 هـ[61] .

ص: 359

وعمل بذلك اعتبارا من 21/5/1351هـ الموافق 22 سبتمبر 1932م وهو اليوم الوطني للمملكة، وكانت من قبل تعرف ب "المملكة الحجازية النجدية وملحاقتها"[62] .

الأصل الرابع - البيعة:

في الحديث النبوي الشريف: "الإمام جنة يتقى به ويقاتل من ورائه"[63] .

البيعة والإمامة لا بد منهما كي تستقيم الحياة ويستتب الأمن وتنهض العزائم للعمل والبناء، وقبل ذلك كي تستمكن العقيدة وتطبق الشريعة وتؤازر الدعوة، وتتحقق الوحدة، وتتحقق المصالح الدينية والدنيوية.

قال الإمام الماوردي: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع"[64] .

وقال ابن حزم في كتابه الفصل وهو كتاب في العقائد: "اتفق جميع أهل السنة على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيها أحكام الله ويسوسهم بأحكام الشريعة"[65] .

ولقد كانت البيعة للإمام على الطاعة والولاء والوفاء عقدا شرعيا منذ أن أسس النبي صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام الأولى، قال الله تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح: 18] .

قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع الطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان"[66] .

وعلى هذه البيعة مضت الخلافة الراشدة ومن جاء من بعدهم لتحقيق مناط البيعة وهو تحكيم الشريعة الإسلامية.

ص: 360

إن وجوب البيعة ووجوب الوفاء بها من مبادئ النظام السياسي في الإسلام، وهو أمر بدهي لانتظام شئون الدولة الإسلامية وقيام الميثاق والعهد بين الحاكم وشعبه، وهذا نموذج للبيعة التي أحياها الملك عبد العزيز وسارع إليها شعبه في محبة وولاء:

تسلم الملك عبد العزيز مقاليد الحكم والإمامة بعد أن تنازل والده الإمام في اجتماع كبير عقد بالمسجد الكبير بالرياض بعد صلاة الجمعة عام 1320 هـ / 1902م وظل الأب يشرف على أعمال ابنه طوال حياته، وظل الابن يجل والده ويقدر آراءه ويحترمها [67] .

"وفي يوم الجمعة 23 جمادى الثانية 1344هـ الموافق 8 كانون الثاني سنة 1926م تجمع الناس حول باب الصفا خارج المسجد الحرام وداخله، حيث أعد المكان الخاص لتلاوة نص البيعة، وبعد صلاة الجمعة أتى ابن سعود المكان المذكور ثم ألقى فضيلة الشيخ عبد الملك بن مرداد على الجماهير المحتشدة هذه الكلمة:

"أحمد الله رب هذا البيت المعظم، وأشكره على ما أنعم به وتكرم، فقد من علينا بنعم لا تحصى، ومنن لا تستقصى، حيث أبدل خوفنا أمنا وشدتنا رخاء.

توحدت الكلمة وأجمع الرأي على بيعة عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود بالملك علينا، وتفضل بقبول هذه منا بعد أن طلبنا منه ذلك، وإني أتلو عليكم أيها الإخوان الحاضرون نص وثيقة البيعة التي جرى الاتفاق عليها:

"بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده: نبايعك يا عظمة السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود على أن تكون ملكا على الحجاز على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما عليه الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح والأئمة الأربعة رحمهم الله".

ص: 361

وبعد أن أتم فضيلة الشيخ تلاوة هذه البيعة وتقبلها جلالة الملك تقدم الحاضرون من الناس أفرادا وجماعات عن جميع المملكة إلى جلالته يبايعونه بالملك ويعاهدونه على السمع والطاعة [68] .

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

مع عاهل الجزيرة العربية ص 19 والملك الراشد ص 366.

[2]

المرجع السابق ص 20.

[3]

الوجيز ص 217.

[4]

متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الإيمان حديث (25) ومسلم في كتاب الإيمان حديث رقم (22) .

[5]

متفق عليه: رواه البخاري في كتاب العلم (129) ، ومسلم في كتاب الإيمان (32)

[6]

الأصالة والمعاصرة ص 40-41 لمعالي الدكتور فؤاد عبد السلام الفارسي ط: شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر - جدة، والملك الراشد ص 369 والوجيز ص 217.

[7]

مجموع الفتاوى 2 / 72

[8]

انظر في مذهب الخوارج: الفرق بين الفرق ص 72 فصل في بيان مقالات فرق الخوارج للبغدادي ط: دار المعرفة تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.

[9]

ابن سعود - ص 155: كنث وليمز ط: 1352هـ / 1934 م، والملك الراشد ص 50 مرجع سابق

[10]

هذا الحديث مشهور لكني لم أجده في الصحاح الستة وقد أورده السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة ص 206. باب (ل) ، وضعفه الألباني في ارواء الغليل 2/251 حديث رقم (491) ط: المكتب الإسلامي، وقال ابن قدامة في المغني: لا نعرفه إلا من قول على نفسه، كذلك رواه سعيد في سننه، والظاهر أنه إنما أراد الجماعة، وعبر بالمسجد لأنه محلها، ومعناه: لا صلاة لجار المسجد إلا مع الجماعة، وقيل المراد به الكمال والفضيلة، فإن الأخبار الصحيحة دالة على أن الصلاة في غيره جائزة: المغني 3 / 9 تحقيق د. عبد الله التركي وزميله ط: 1407 هـ / 1987 م القاهرة.

ص: 362

[11]

متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الأذان (644) ، ومسلم في كتاب المساجد (651) .

[12]

الحديث رواه مسلم في كتاب المساجد (654) ، وأبو داود في كتاب الصلاة (463) ترقيم عزت دعاس، وابن ماجة في كتاب المساجد (777) ترقيم عبد الباقي، وأحمد في مسند المكثرين (3440) ترقيم الموسوعة الالكترونية (صخر) .

[13]

عنوان المجد في تاريخ نجد 2 / 57

[14]

عنوان المجد 2 / 66 و2 / 172.

[15]

الوجيز ص 158 – 159.

[16]

متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الجمعة (1130) ، ومسلم في كتاب صفة القيامة (2819) .

[17]

تاريخ نجد 1/84 لحسين بن غنام.

[18]

عنوان المجد 1 / 95

[19]

عنوان المجد 1 / 126

[20]

الوجيز ص 181 - 182

[21]

الرحلات الملكية: د. مدحت شيخ الأرض ص87 ط: دارة الملك عبد العزيز 1416هـ الرياض.

[22]

انظر ص335 من هذا البحث.

[23]

الرحلات الملكية د. مدحت شيخ الأرض ص 132.

[24]

فيلبي في كتابه تاريخ نجد ص 279، وكنث وليمز في كتابه ابن سعود ص 49 وغيرهما.

[25]

الوجيز ص 367.

[26]

مع عاهل الجزيرة ص 54.

[27]

الوجيز ص 86

[28]

تاريخ نجد - فلبي ص 400 – 401.

[29]

تاريخ نجد ص 404

[30]

مع عاهل الجزيرة ص 51.

[31]

الموسوعة العربية العالمية 16 / 96.

[32]

الوجيز ص 215

[33]

الوجيز ص 189.

[34]

الوجيز ص 90

[35]

الموسوعة العربية العالمية 16 / 96.

[36]

عنوان المجد 1 / 171 – 172.

[37]

متفق عليه: رواه البخاري في كتاب العلم حديث (71) ، ومسلم في كتاب الزكاة (1037) .

[38]

تاريخ نجد 2 / 139 لحسين بن غنام.

[39]

مع عاهل الجزيرة ص 49 و 57.

[40]

توحيد المملكة ص 318

[41]

مع عاهل الجزيرة ص 52

[42]

مع عاهل الجزيرة ص 43.

ص: 363

[43]

هو عبد الله بن أحمد العجيري توفى سنة 1352 هـ له ترجمة في جريدة أم القرى عدد 456 الجمعة 18/5/1352 هـ وانظر أيضا الرحلات الملكية ص62 وما بعدها.

[44]

صور من حياة عبد العزيز ص44 يرويها سمو الأمير طلال بن عبد العزيز، إعداد كمال الكيلاني ط 1411 هـ /1990 م ط: دار الشواف للنشر - الرياض.

[45]

انظر الوجيز ص 172 وابن سعود لكنت وليمز ص 67 مرجعان سابقان.

[46]

انظر الموسوعة العربية العالمية 10 / 503 – 504.

[47]

الأصالة والمعاصرة ص 366

[48]

الملك عبد العزيز: د. التركي ص 111 ملخصا.

[49]

الوجيز ص 189.

[50]

الملك عبد العزيز ووضع النظم القضائي في المملكة: د. سعود الدريب ص 55 نقلا عن جريدة أم القرى العدد 64 في 5/9/1344 هـ.

[51]

انظر المرجع السابق ص 64 – 66.

[52]

الوجيز ص217.

[53]

تاريخ نجد 2 / 207.

[54]

مع عاهل الجزيرة العربية ص 19.

[55]

الملك الراشد ص 371 ومع عاهل الجزيرة العربية ص 19.

[56]

مع عاهل الجزيرة العربية ص 19.

[57]

الوجيز ص 185.

[58]

رواه مسلم في كتاب العلم (2674) والترمذي في كتاب العلم (2674 ترقيم أحمد شاكر، وأبو داود في كتاب السنة (3993) وأحمد في مسند المكثرين (8795) .

[59]

الموسوعة العربية العالمية 16 / 97.

[60]

صور من حياة عبد العزيز ص 41 – 51.

[61]

الموسوعة العربية العالمية 10 / 500.

[62]

المرجع السابق 16 / 96 والوجيز ص158.

[63]

متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الجهاد (2957) ومسلم في كتاب الإمارة (1841) .

[64]

الأحكام السلطانية ص 5 ط: مكتبة البابي الحلبي 1393هـ/ 1973م.

[65]

الفِصَل في الملل والأهواء والنِحَل 4 / 87 ط: الخانجي 1321 هـ مصر.

ص: 364

[66]

متفق عليه: رواه البخاري في كتاب الفتن (7056) ، ومسلم في كتاب الإمارة (1709) واللفظ للبخاري.

[67]

الموسوعة العربية العالمية 16 / 95.

[68]

الملك عبد العزيز: د. التركي ص 55 نقلا عن الملك الراشد ص 43 – 44.

ص: 365

تابع لأصالة المنهج في سيرة الملك عبد العزيز

المعاصرة في سيرة الملك عبد العزيز:

المعاصرة صنو الأصالة، ذلك أن الدين الحنيف في شموله وكماله وخلوده غير مقيد بحد زماني أو جغرافي أو عرقي، وعلى هذا فالمعاصرة من لوازم ذلك، وان إبراز هذا الجانب المشرق من خصائص الدين الحنيف في عصرنا خاصة أمر يتطلبه البحث العلمي ذو الصلة بتاريخ الدول الإسلامية المعاصرة، وإن وعي هذه الحقيقة الخالدة من أصالة الفكر السياسي المعاصر وهو ما كان ماثلا في ضمير الملك عبد العزيز وجهاده ومنهجه.

وما من ريب أن في نموذج المملكة العربية السعودية مثالاً يحتذى للدولة الإسلامية المعاصرة التي تجمع بين الأصالة والمعاصرة، إذ تأخذ من دينها العقيدة والشريعة، ومنهج الحكم، والقيم والآداب، وكل ما تتطلبه الحياة الإنسانية السعيدة السوية، وفي الوقت ذاته ترحب بكل ما أنتجته الحضارات المعاصرة مما يعود على المجتمع بالفائدة والنفع ولا يضره في عقله وأخلاقه ودينه.

قال رحمه الله: "إن تقدم المسلمين ونهوضهم من الأمور التي ما برحنا ندعو إليها إن شاء الله، ولا نهوض للمسلمين بغير الرجوع إلى دينهم والتمسك بعقيدتهم الصحيحة، والاعتصام بحبل الله، والطريق إلى ذلك واضح معبد لمن أراد سلوكه وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالتوحيد الخالي من الشرك والبدع، والعمل بما أمرنا به الدين لأنه لا فائدة من قول بلا عمل"[1] .

ولعله من المناسب هنا إيراد الحوار الصحفي التالي ذي الدلالة الواضحة على قضية المعاصرة في منهج الملك عبد العزيز وفكره النيّر:

الكاتب الإنجليزي "دوم لا ندو"كتب لقومه هذا الحوار:

* هل تجدون جلالتكم أن من الممكن الاستمرار بإجراء معاملاتكم السياسية على أساس معتنقاتكم الدينية؟.

ص: 366

نعم. إنني لا أعتقد أن بإمكان المرء أن يحكم دولة من دون أساس ديني، لقد التزمت بذلك طيلة حياتي، وهذا ما أرجوه على الأقل، وسوف أبذل جهدي للاستمرار في هذا الالتزام مستقبلا.

* ولكن أليست هناك حالات كثيرة لا يمكن فيها التوفيق بين الإسلام والسياسة التي تقتضيها الظروف المتغيرة في زماننا الحاضر؟.

في كثير من الأحيان توجد لدى الأجانب فكرة خاطئة عن الإسلام، إن الإسلام ربما كان أكثر الأديان عملية، إن الإسلام يسمح لك بأن تدخل مبتكرات مثل السيارات أو الراديو [وهنا رفع الملك صوته وتكوّن لديّ انطباع بأنه لم يكن يتكلم إليّ وحدي، بل أيضا إلى الذين كانوا يجلسون في مؤخرة الخيمة ولم أستطع تبين شخصية أولئك الجالسين، وربما كانوا من أبناء الملك أو الوزراء أو علماء الدين، ولكن كان من الواضح أنه يستغل المناسبة للحديث إليهم بصورة غير مباشرة] .

واستطرد الملك قائلا: إن الإسلام يعترف بكل شيء يؤدي إلى تحسين ظروف الحياة طالما أن هذه التحسينات لا تؤدي إلى القضاء على التعاليم الأساسية للرسول صلى الله عليه وسلم إن الإسلام يؤيد مثل هذه المبتكرات، لأن الإسلام يعمل على تحسين حياتنا الجسدية والروحية في آن واحد [استخدم الملك هنا كلمة "دينية"وليس كلمة "روحية "ولكنني تعلمت بالتجربة المعنى المقصود] .

* وكيف تقومون جلالتكم بتحديث الحياة العربية على النمط الغربي دون إضعاف الروح الدينية في البلاد؟.

ص: 367

إننا لا نقبل من الغرب أي شيء غير المنافع المادية لحضارته، لا تنس أن الشرق لا يؤمن بالنواحي الروحية في الحضارة الغربية، والشرق في الواقع لا يؤمن بأن هذه الحضارة تجسد أي قيم روحية على الإطلاق، وهكذا فإننا نكتفي بقبول تلك الأشياء الضرورية لتحسين حياتنا الخارجية، ويجب علينا بالطبع التزام الحرص من أجل حماية ثقافتنا كي لا تتأثر بالنفوذ الغربي، إن قبول السينما – على سبيل المثال – لا يعني قبول تلك الأفلام الضارة التي ينتجها الغرب، وسيتعين علينا الاقتصار على الأفلام التعليمية والأفلام التي تدعو إلى القيم الأخلاقية.

* ما هي الوسائل التي تنوون استخدامها في الحفاظ على الروح الدينية للجيل الصاعد في المملكة العربية السعودية؟.

عن طريق التعليم، إن ثقافتنا ومعرفتنا تقومان على أساس الإسلام، وعندما نقدم المعرفة للناس فإننا نملؤهم أيضا بروح الدين.

* هل ينطبق ذلك أيضا على أبناء جلالتكم؟.

بالطبع، وإلى جانب التعليم الصحيح يجب أن يتعلموا أيضا عن طريق المثل الصالح، لقد رأى أبنائي منذ بداية طفولتهم مدى أهمية الدين في حياة والدهم، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تصبح قوة الدين متأصلة في نفوسهم أيضا.

* هل تجدون أن الإسلام متمم للعمل السياسي وأنه ليست هناك ضرورة للفصل بين الدين والسياسة، وبين الأخلاق والسلوك السياسي؟.

إن السياسة الصحيحة يجب أن تقوم على أساس الدين وإلا فإن هذه السياسة ليست صائبة، ولا يمكن الفصل بين السلوك السياسي والسلوك الأخلاقي، إنني لا أعتقد أن هناك ضرورة للفصل بينهما على الإطلاق، كما أنني لم أر مطلقا كيف يمكن فصلهما، إن الإسلام قوة كبيرة للغاية في حياتنا وفي سياستنا.

* وماذا بشأن التجارب التاريخية السابقة، ألم يكن هناك حكام مسلمون كثيرون يدعون أن مقاييسهم تقوم على أساس القرآن، ولكنهم كانوا يتصرفون بصورة غير دينية وغير أخلاقية؟.

ص: 368

يجب عليك أن لا تنسى أن الإسلام أسيء استخدامه على مدى مئات السنوات، وأضيفت إليه بدع ليس له علاقة بها على الإطلاق أو بعيدة عن التعاليم الأصلية للرسول محمد صلى الله عليه وسلم إن كثيرين من الحكام المسلمين أدخلوا تفسيرات تتفق مع أهدافهم السياسية، وبذلك تؤدي إلى تبرير أفعالهم السيئة وهكذا تدهور الإسلام، وكل ما فعلته هو أنني عدت إلى التعاليم الأصلية كما وردت في القرآن الكريم وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، إن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هما الأساس الذي نقيم عليه حياتنا في المملكة العربية السعودية، إن العقيدة نفسها لا يمكن أن تكون لها قوة كبيرة – مهما بدت صائبة – إذا لم يمارسها الداعي إليها في حياته اليومية، والشيء الذي أحاول اتباعه في حياتي هو مثال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي اتبع فيها تعاليم القرآن الكريم.

* وهل تعتبرون جلالتكم أن مهمة المملكة العربية السعودية هي أن تكون جسرا بين روحية الشرق ومادية الغرب؟ وإذا كان الأمر كذلك ما هي الوسائل التي يمكن استخدامها في تحقيق هذه الغاية؟.

لدى الدول الإسلامية كلها مهمة من هذا القبيل، ويعتمد النجاح في تنفيذ هذه المهمة على مدى التعاون مع الغرب، لأننا لا نستطيع تنفيذها إلا بفتح أعيننا على حقيقة الإسلام، وجعلكم تدركون المزيد بشأن أنفسنا وبلادنا، ومن ناحية أخرى يجب علينا أن نتعلم المزيد عنكم وعن أسلوب حياتكم، إن الأمر يعتمد على التفاهم المشترك، ولدينا في الوقت الحاضر الكثير من الأفكار الخاطئة عن الغرب، كما أن لديكم الكثير من الأفكار الخاطئة عنا وعن الإسلام، وبالمعرفة المتبادلة وحدها يمكن للعالم الإسلامي أن يقيم الجسر المطلوب للتعاون والتفاهم.

ص: 369

* ولم أكن أنوي أن أوجه إلى الملك أسئلة لها اتصال مباشر بالموضوعات السياسية، ولكنه كان يشبع فضولي بمزيج من السماحة والصبر، ولذلك وجدت في نفسي الشجاعة لكي أسأله عن القضية التي تشغل بال العالم الغربي وهو ينظر في مستقبل الشرق الأدنى، ألا وهي قضية العروبة والقومية العربية، وسألت جلالته عن موقفه من هذه المسألة.

رد الملك قائلا: إن العروبة أمر أساس، وربما تكون الصورة المرغوبة للقومية العربية مشابهة لما هو سائد في الولايات المتحدة الأمريكية، في داخل هذا الاتحاد الفيدرالي سوف تحتفظ كل دولة عربية بحاكمها الخاص وصورتها الخاصة في الحكم والإدارة، ومع ذلك يجب أن يكون هناك جهاز مركزي ينسق بين الجهود الفردية للدول المختلفة وبهذا الطريق وحده ستحصل هذه الدول على القوة التي تفتقدها، وليست هناك أهمية كبيرة للشكل الخارجي لهذا الاتحاد، كما أنه ليس المهم من سيكون رئيسه أو أين ستكون سلطته المركزية، في بغداد أو في فلسطين، أو في أي مكان آخر، الشيء المهم هو أن العروبة يجب أن تصبح واقعا، إن الذين يعتبرونها مجرد خيال مخطئون وسوف تتحقق إن عاجلا أو آجلا إن شاء الله.

ومرة أخرى توقف الملك عن الحديث ورفع يده، وهنا جاء خادم بالشاي في أكواب سميكة وصغيرة، واحتسى الملك الشاي خلال عدة ثوان وأشار إلى الخادم بالانصراف وبعد ذلك استدار إليّ وطلب مني الاستمرار في الأسئلة.

* إذا واجهتكم مشكلة تتطلب الاختيار بين التزامكم بمبادئكم الدينية وبين القيام بعمل يمكن أن يؤدي إلى نجاح سياسي أو إلى تحقيق الازدهار لرعاياكم ولكنه لا يتفق مع القرآن الكريم، ما هو الطريق الذي ستختارونه في هذه الحالة؟.

سأختار بالطبع الطريق الذي يتفق مع عقيدتنا، لقد واجهت أكثر من مرة معضلات من هذا النوع ومع ذلك حاولت أن أعمل دائما وفقا لتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ولو كان ذلك يعني خسارة سياسية في ذلك الوقت.

ص: 370

* حتى إذا عانى شعبكم من مثل هذا العمل؟.

نعم حتى في هذه الحالة، لقد وجدت أن الطريق الديني يؤدي على المدى الطويل إلى النجاح السياسي باستمرار، ولا تنس مرة أخرى أنني لا أقوم بأعمالي على أساس أقوال الرسول وحدها ولكن أيضا على أساس ما فعله في حياته أيضا.

ومرة أخرى رفع الملك صوته وكأنه يخاطب الجالسين في مؤخرة الخيمة، واستطرد قائلا: لا شك أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم هي المصدر الأكبر لإلهامي، وإذا تصرفت وفقا لمثل هذا المثال فلابد أن أنجح في النهاية، وإذا كنت أحاول أن أكون عادلا، وغير منحاز، كحاكم فإنني أفعل ذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عادلا وغير منحاز.

وسألني وقد عادت إلى وجهه الابتسامة التي كانت تضيئه عند بداية الحديث: إلى أين ستذهب من هنا؟ وعندما أخبرته بالزعماء الآخرين الذين آمل في مقابلتهم في الشرق ثم في أوربا بعد ذلك، قال لي: إنني متأكد أنك ستجد في هؤلاء الرجال كلهم قناعات أخلاقية عميقة، والتزاما بدينهم مشابها للالتزام الذي يحكم أعمالنا في هذه الدولة.

وأدهشتني هذه الكلمات التي نطق بها الملك إلى حد ما، وخصوصا لأنني ذكرت دولة تسود فيها نظريات معينة جديدة تحل محل الإيمان بالله، ومع ذلك كان الملك جادا وكانت نبرة الإقناع المتعاطف في صوته تشير إلى فلسفته الواضحة لا تسمح بوجود أي معتقدات سوى المعتقدات التي ذكرها للتو، ومن وجهة نظري ربما كانت سياسته تعكس التعقيد الذي يرتبط بالشرق ولكن لم يكن هناك أي تعقيد في إيمانه بالله تعالى" [2] .

ويُستنتج من هذا الحوار العلمي التاريخي عدد من أسس المعاصرة على ضوء الأصالة، وهي - أيضا - عوامل الاستقرار الشامل للدولة الإسلامية العصرية من خلال الفكر السياسي للملك عبد العزيز ومنهجه - طيب الله ثراه - يتخلص في الفقرات التالية:

ص: 371

1 -

الدين الحنيف أساس النُّظُم الإسلامية بما فيها النظام السياسي، ولا ضرورة للفصل بين السياسة والدين، ولا بين السياسة والأخلاق، بل لا يمكن ذلك من الناحية الدينية، لشمولية الدين وكماله وخلوده.

2 -

الاعتزاز بالعقيدة وتأصيل كافة شئون الحياة عليها أمر مطرد لدى كل المجتمعات، وهو في المجتمع الإسلامي ألزم وأوجب، ومن لوازمه ترسيخ ذلك وتعميقه في نفوس المسلمين عن طريق التعليم والتثقيف وكل الوسائل المشروعة.

3 -

الدعوة إلى تأسيس العمل الإسلامي على قواعد العقيدة وثوابتها مسئوليات الدول الإسلامية، وهو مطلب حضاري وضرورة حياتية لحل المشكلات ونهضة المجتمعات ولتحقيق السعادة واستتباب الأمن بمفهومه الشامل.

4 -

الأخذ بكل نافع مفيد من أي مصدر كان أمر لا مندوحة عنه ولا غبار عليه ما دام لا يعارض الثوابت العقدية ولا يصادم المقاصد الشرعية.

5 -

ضرورة التمييز بين واقع المسلمين ومصادر الإسلام، فالواقع التاريخي ليس مصدراً للتشريع حاشا عصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، أما مصادر الإسلام فهي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وإجماع الأمة، وفق فهم السلف رضوان الله عليهم.

ولنتأمل مقتطفات من أسلوب الملك عبد العزيز رحمه الله في تصحيح مفاهيم الناس في قضايا المعاصرة من خلال المبتكرات التي تعد من لوازم الحياة..

ص: 372

قال المستشرقون: "قال الرجعيون [3] عن اللاسلكي إنه نوع من السحر، وأنه من عمل الشيطان، وقال ابن سعود يؤيده الإخوان الذين يفهمون غير هذا الفهم قولا غير هذا، وأصرّ ابن سعود على رأيه ووقف يخطب فيقول: ليس في الشريعة الإسلامية ما يمنعنا من الانتفاع بطريق المواصلات الحديثة والتمشي مع التقدم العلمي، ومع هذا فإني أترك هذه الأمور للعلماء والتفت إلى العلماء وقال: هل تجدون في أقوال النبي صلى الله عليه وسلم ما يعارض الانتفاع بهذه المخترعات الحديثة؟ وكان العلماء قد فكروا في هذا الموضوع وقتلوه بحثا فأجابوا: كلا! "[4] .

وموقف آخر: "حينما دخل المذياع المملكة اعترض بعض المحافظين المتشددين وأنكروا على جلالته استماعه للراديو واستعانته باللاسلكي والتليفون لأنهم يظنون أن بها شياطين تنقل الحديث، فسألهم جلالته يوم ذاك هل الشيطان يطيق كلام الله؟! فأجابوا بالنفي. قال: اسمعوا فإذا الراديو يذاع منه القرآن الكريم بصوت عذب رخيم تعد حروفه، وأمر بعض أتباعه بأن يسمع المعترضين في التليفون بعض آي الذكر الحكيم فدهشوا وأيقنوا أن لا شيطان ولا سحر!! "[5] .

عوامل استقرار المملكة:

لقد كانت - ولا ريب - للمنهج الإسلامي الأصيل الذي أقام عليه الملك عبد العزيز هذا الكيان الإسلامي الكبير آثار استراتيجية في استقرار أمن المنطقة خاصة والاستقرار العالمي بوجه عام، وعلى الأخص الاستقرار الداخلي الشامل على اختلاف محاوره، وهو ما ينعم به مجتمع المملكة العربية السعودية من مواطنين ومقيمين ووافدين.

ولعل من أهم عوامل هذا الاستقرار الشامل:

أ - التدين العام:??

ص: 373

وهو التمسك بالدين الحنيف تمسكا وسطا بينّا بين الإفراط والتفريط، وبين التساهل والغلو، والتدين حين يسري في الناس على هذه المثابة من الرشد يستتب الأمن ويعم الرخاء، وينشر التآلف جناحيه على المجتمع، فتؤدى الحقوق ديانة وأمانة ووفاءً، ويقوم المسلمون بواجباتهم بدوافع الرقابة الذاتية، إذ الدين الحنيف في مكنونه حث على أداء الحقوق واتقاء الحرمات:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] .

وقد دلت تجارب الأمم أن التدين في الناس يُسلس قيادهم، إذ لا ينقاد الناس لشيء كانقيادهم للدين، بفعل ما يولده من قناعة ذاتية وباعث ذاتي في الالتزام بالأوامر والانكفاف عن الزواجر، وهذا الانقياد للدين والاستسلام له ليس مقتصرا على العرب فحسب كما يراه ابن خلدون حيث قال:"فصل في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية"قال: والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبُعد الهمة والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم، فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس، فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله ويُذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق تم اجتماعهم وحصل لهم التغلب والمُلك " [6] .

والصحيح أنه يشترك في هذه الخصائص وذاك التأثر والانقياد الذاتي لسلطان الدين كل البشر لما للدين من هيمنة وسلطان على النفوس لا يدانيه أي عامل آخر في ذلك.

ص: 374

ولقد كان الملك الإمام عبد العزيز رحمه الله يدرك هذه القوة النافذة الفذة للدين، وسلطانه على النفوس، وهو يريد إعادة البناء الوجداني لشعبه إثر ما اعتراهم من بدع وضلالات وجهالات ومحن وبعد عن أنوار التوحيد.

ويصور لنا تلك النقلة الهائلة من التشتت إلى القوة أحد معاصريه فيقول:

"لقد كانت الديار النجدية هملا برهة من الزمن، لا وازع ولا سلطان ولا جامعة ولا غاية ولا مبدأ ولا هدف، ولكن لما قام جلالة الملك نبه فيهم روح الدعوة إلى الله وتوحيده الخالص، وتعهد تلك النفوس بما يوقظ فيها هذا الحس العالي، واستعمل للوصول إلى هذا الطريق المؤدية إليها:

دعوةً بالتي هي أحسن، ثم إحسان وإكرام، ثم تنبيه وزجر، ثم تأديب وقهر، وهكذا سبع وعشرون سنة راض فيها الأمور فطاعت، وضرب العاصي العاتي من الغايات فذلت له أعناقها وانقادت، وأصبح ذلك البدوي الجافي القاسي القلب تفيض عيناه من الدمع إذا ذُكّر بأمر الله واتباع ما أمر به، بل صار ذلك العاتي الذي لم يكن قلبه ليلين لأبلغ العبر لا يرى له حياة إلا بطاعة الله واتباع ما أمر به، وإلا لكانت الحياة عذابا عليه، فهو عندما يرى أعز الناس عليه لم يجد له من الألفاظ التي يكرمه بها إلا أن يدعو الله أن يعزه بطاعته لأن العمل بما فيه طاعة الله عز، والعمل في معصية الله ذل وموت وخسران للدنيا والآخرة. فالحياة ولذتها، معناها ينبغي أن تكون غايتها طاعة الله وفي سبيل الله، ذلك شعور يفيض في نفس أهل نجد بدوهم وحضرهم غنيهم وفقيرهم، وقد تجلى للناظرين في استقبالهم لأعز من يعزون" [7] .

ب - الأخلاق الإسلامية:

وهي من ثمرات العقيدة ولوازمها، ومن المعروف ما يشتهر به المسلمون من أخلاق كريمة وسجايا شريفة هي من خصائصهم غرسها فيهم الدين الحنيف وعرفوا بها منذ فجر الإسلام، كالأمانة والشجاعة والصدق والكرم ومراعاة الذمم وجميل المعشر..

ص: 375

قال الملك عبد العزيز: "الإنسان يقوم على ثلاث فضائل: الدين، والمروءة، والشرف، وإذا فقد واحدة من هذه سلبته معنى الإنسانية"[8] .

والتميز الأخلاقي حقيقة جلية يجدها الناظرون في صفحات التاريخ وفي معاملات المسلمين الذين أنعم الله عليهم بنعمة التوحيد، والخلوص من الشرك والتحرر من البدع والخرافات والدجل وكل ما يشين المسلم في دينه وعرضه ومروءته، وذلك بفضل الله تعالى ثم بفضل ما يسكبه صحة المعتقد وسلامة التدين من استقامة السريرة ونقائها.

ومن عشرات الأمثلة على ذلك ما قاله مستشرق يتحدث عن أخلاق المسلمين في الجزيرة العربية في أوائل القرن الرابع عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي قال:

"ولدى الوهابيين [كذا] خصال حميدة، فهم لا يسرقون قط لا عن طريق القوة ولا عن طريق الحيلة، إلا إذا اعتقدوا أن المتاع يخص عدوا أو كافرا، وهم يؤدون أثمان كل ما يشترونه وأجور كل الخدمات التي تقدم لهم بالعملة التي لديهم، يطيعون زعماءهم طاعة عمياء، ويتحملون صامتين كل أنواع المشاق وهم على استعداد لأن يتبعوا قادتهم إلى أقصى أنحاء المعمورة.

إن الحقيقة تفرض عليَّ أن أعترف أنني وجدت جميع الوهابيين الذين تحدثت إليهم على جانب من التعقل والاعتدال، وقد استيقنت منهم كل المعلومات التي أوردها عن مذهبهم، ولكن على الرغم من اعتدالهم لا يستطيع السكان والحجاج سماع مجرد اسمهم دون أن تتملك الرجفة قلوبهم، ولا يتلفظون به إلا همسا، لذا فإن الناس يهربون منهم ويتجنبون التحدث إليهم قدر الإمكان، وكلما أردت التحدث إليهم كان عليّ أن أتغلب على كثير من الصعوبات التي يخلقها لي من يحيطون بي، والسبب الأول في هذه العداوة أن الناس لم يفهموا للوهلة الأولى المعنى الإصلاحي لهدم المزارات، وتقويض أضرحة الأولياء التي كان المؤمنون يؤدون لها واجب الإجلال، وقد كاد هذا الإجلال يتحول إلى نوع من العبادة التي لا تجب إلا لله وحده" [9] .

ص: 376

ومع تحفظنا على بعض ما ورد في تعبير هذا الرحالة الغربي كوصفه الوهابية بأنها مذهب وأن المؤمنين يجلون الأضرحة.. مما يدل على قلة معرفته بجوهر الإسلام وحقيقته، إلا أنه ومن منظوره الشخصي قدم صورة دقيقة عما عاينه ولمسه من سمة الاعتدال والتوسط لدى سلفنا في القرنين المنصرمين، وما تمتعوا به من أخلاق الإسلام الخالدة: الصدق، الأمانة، الوفاء، المروءة، رعاية الذمة

الخ.

وهذه الأخلاق في الحقيقة هي عوامل أساسية لتحقيق الاستقرار العام واستتباب الأمن بكل أنواعه، إذ ينعدم التجاحد، والتظالم أو يندر فتؤدى الحقوق والأمانات، وترعى الذمم ويخشى الناس ربهم وخالقهم جل وعلا قبل أن يخشوا عقاب السلطان، وتبعات الجناية.

جـ - الأمن العام وأمن الحج:

الأمن بمفهومه الشامل ثمرة العقيدة الإسلامية الصافية، ولازم من لوازم تطبيق الشريعة، إذ تزرع العقيدة في نفوس معتنقيها الرغبة في الخير للغير، وتهذب الشريعة السلوك النابي، وتهدي للتي هي أقوم من مكارم الأخلاق ومحامد الصفات، رغبا ورهبا.

وإذا طوينا - اختصارا - القرون المفضلة وما تلتها من أحقاب التاريخ إلى بداية ظهور الدعوة الإصلاحية التي صدع بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر الهجري "1115 - 1206 هـ"نجد أن الأمن على اختلاف محاوره وعمق مدلوله ارتبط في الجزيرة العربية بالحكم السعودي في كل المراحل منذ الدولة السعودية الأولى إلى يومنا هذا فكان يستتب كلما بسط الأئمة من آل سعود سلطانهم ونعم الناس بظلهم فيهنأ بهم المجتمع ويكون ذلك حديث الناس في الأفاق، وهذه حقيقة تاريخية تتجلى في عهد كل إمام من أئمة آل سعود رحمهم الله، سواء في ذلك أمن الحج والحجاج أو الأمن العام.

ص: 377

ولكي تكون حلقات البحث متكاملة فلا بد من التنويه بهذه الحقيقة التاريخة التي طالما قرأها المتأملون في صفحات التاريخ الغابر وهي كذلك ماثلة في وقائع الحياة المعاصرة، وهي أن الحكم السعودي واستتباب الأمن الشامل صنوان متلازمان.

ودونك نماذج مقتبسة من مراحل الحكم السعودي:

يقول ابن بشر في تاريخ الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله "المتوفى سنة 1218هـ ":

"كان الحجاج والقوافل وجباة الغنائم والزكاة والأخماس وجميع أهل الأسفار يأتون من البصرة وعمان وبلد العجم والعراق وغير ذلك إلى الدرعية ويحجون منها ويرجعون إلى أوطانهم لا يخشون أحدا في جميع البوادي مما احتوت عليه هذه المملكة لا بحرب ولا سرق وليس يؤخذ منهم شيء من الخاوات والقوانين التي تؤخذ على الحجاج، وبطل جميع الأخاوات والجوائز على الدروب التي للأعراب أحيوا بها سنن الجاهلية، ويخرج الراكب وحده من اليمن وتهامة والحجاز والبصرة والبحرين وعمان وأنقرة والشام لا يحمل سلاحا بل سلاحه عصاه لا يخشى كيد عدو ولا أحد يريده بسوء "[10] .

وقال التاريخ أيضا: "الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود رحمه الله كانت الأقطار والرعية في زمنه آمنة في عيشه هنية وهو حقيق بأن يلقب مهدي زمانه لأن الشخص الواحد يسافر بالأموال العظيمة أي وقت شاء شتاءً أو صيفاً يمنا وشاما شرقا وغربا في نجد والحجاز واليمن وتهامة وغير ذلك لا يخشى أحدا إلا الله، لا سارقا ولا مكابرا وكانت جميع بلدان نجد من العارض والخرج والقصيم والوشم والجنوب وغير ذلك من النواحي في أيام الربيع يسيبون جميع مواشيهم في البراري والمفالي من الإبل والخيل الجياد والبقر والأغنام وغير ذلك ليس لها راعي ولا مراعي بل إذا عطشت وردت على البلدان ثم تصدر إلى مفاليها حتى ينقضي الربيع أو يحتاجون لها أهلها لسقي زروعهم ونخيلهم وربما تلقح وتلد ولا يدري أهلها إلا إذا جاءت وولدها معها"[11] .

ص: 378

وكذلك الحال في عهد ابنه الإمام سعود بن عبد العزيز "ت 1229هـ"[12] .

ولعله من تحصيل الحاصل الحديث عن الأمن في المملكة العربية السعودية وهي مضرب المثل في هذا منذ عهد الملك عبد العزيز وإلى يومنا هذا، وما من إنسان مقيم أو مواطن أو وافد حاجا أو معتمرا أو زائرا إلا وشاهد وعاين ونقل عن الأمن الأعاجيب.

ومن نافلة القول أن أهم عوامل تحقق الأمن الشامل بمفهومه العميق في المملكة تطبيق الشريعة الإسلامية لا سيما الحدود الشرعية كحد القصاص وحد الحرابة وحد القذف وحد السكر وحد ترويج المخدرات وغيرها، ولتطبيق هذه الحدود آثار ملموسة في تقلص الجرائم واستتباب الأمن تحقيقا لقول الله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] .

والحياة المذكورة في الآية هي حياة الأمن والاستقرار وتطهر القلوب من الأحقاد والضغائن التي يورثها حب الانتقام والأخذ بالثأر، والاضطهاد والاستبداد وغيرها من الأمراض الاجتماعية التي تنجم في غيبة سلطان الشرع.

وهذا الذي يذكره ابن بشر وغيره من المؤرخين نجده وأكثر منه في كتابات المستشرقين الذين جابوا الجزيرة العربية في فترات مختلفة من العهد السعودي، فمن ذلك:

ص: 379

ما ذكره المستشرق فلبي قال: ".. وأقل ما يقال إن الحجاج الذين زاروا الحجاز آنذاك وفيما بعد خلال السنوات القليلة التي سبقت التدهور الاقتصادي المريع في أوائل سنة الثلاثين [الميلادية] لم يجدوا أي سبب يدعوهم للشكوى أو التذمر من الأخطار أو عدم تأمين سلامتهم، هذا علاوة على أن الإجراءات التي اتخذت تحت إشراف ابن سعود شخصيا في المحافظة على صحة الحجاج جديرة بالتقدير، خصوصا إذا عرفنا أنه خلال السبعة والعشرين حجا التي احتفل بها في عهده لم تقع أية حادثة كبيرة على الإطلاق، وبالإضافة إلى هذا فإن قرار ابن سعود أن يمنح الحجاج مختلف التسهيلات التي كانت ممنوعة عليهم قد زادت في راحتهم إلى حد كبير جدا، فتشجيعه استعمال وسائل النقل الآلية قد قلب الأحوال رأسا على عقب، هذه الأحوال التي يواجهها آلاف الحجاج الوافدين من الخارج، فاليوم وبعد أن استعملت الطائرات كوسيلة جديدة من وسائل نقل الحجاج لم يعد الحج بالعملية المتعبة على الإطلاق، وحتى هذا التحول المدهش لم يكن كل ما تميزت بها إدارة ابن سعود، واستحقه من تقدير في الحرص على راحة الحجاج ومصلحتهم بعد أن كانوا يجأرون بالشكوى بسبب الرسوم الكبيرة التي كانت تجمعها الحكومة منهم، مع العلم أن الاحتياطات المتخذة لتأمين سلامتهم وراحتهم تكلف الدولة كثيراً من المال..

ومهما يكن من أمر فليس للحجاج اليوم ما يشكون منه، فقد ألغيت رسوم الحج بأمر من الملك لما ازدادت عائدات الحكومة من البترول والموارد الأخرى التي جعلت بالإمكان منح الامتيازات، تلك الامتيازات التي مكنت الحكومة من تحمل كافة تكاليف التسهيلات المتزايدة التي خصصت لمنفعة جميع قاصدي الحج كطرق لسيارات الشحن الكبيرة التي تسير على المازوت وعلى شبكة من الخطوط كتلك التي بين مكة وعرفات" [13] .

ص: 380

وقال المستشرق كنث وقد ألف كتابه نحو سنة 1950 م: "لقد عني ابن سعود بصحة الحجاج أقصى عناية، وكان لاهتمامه بتحسين مياه الشرب والشئون الصحية والمستشفيات وما إلى ذلك مما تراه اليوم في المدن الحجازية كمكة وجدة أكبر الأثر في تخفيض عدد الوفيات بين الحجاج"[14] .

وقال أيضا: "بعد دخول الوهابيين [كذا] لمكة صرح ابن سعود وهو في الرياض بيانا على العالم الإسلامي قال فيه: لقد دخلت جيوشنا مكة في الرابع من تشرين الأول سنة 1924م، وإننا مغتبطون أشد الاغتباط للاحترام الذي بدا نحو الأماكن المقدسة، وكان بمقدور الفاتحين لو أرادوا أن يشقوا لهم طريقا بالقوة ويدخلوا البلاد عنوة، ولكنهم أبوا إلا احترام الأماكن المقدسة فلم يسفكوا دماء أحد احتراما لتراثنا المقدس، ولقد قضينا على الظلم ونشرنا العدل في ربوع البلاد، وليس أشهى إلى قلوبنا من إقبال المسلمين على الحج من أنحاء العالم الإسلامي، الطرق مفتوحة في وجوهكم أيها المسلمون، ولن يعترض أحد لكم بسوء فاطمئنوا كل الاطمئنان، ونحن أنفسنا سنذهب إلى مكة لنجتمع بالوفود الإسلامية التي نرحب بها، وقد آلينا على أنفسنا أن نعيد إلى الحج ازدهاره ومجده القديم"[15] .

لقد كان لتطبيق شرع الله عز وجل في جميع مناحي الحياة لا سيما الحدود الشرعية لقمع المجرمين العتاة الأثر العميق في استتباب الأمن في الحج وغيره، الأمن بكل محاوره: الأمن الغذائي والأمن الفكري والأمن النفسي والأمن الاجتماعي والأمن العام.

وإن الانقياد لشرع الله - مهما نعق أهل الأهواء - له الأثر البالغ في تحقيق الاستقرار الشامل الذي نتفيأ ظلاله.

ص: 381

قال المستشرق كنث: "وتظهر الأحكام السعودية قاسية كقطع يد السارق مثلا، ولكن هل يدري القارئ أنه منذ قرن كانوا يشنقون الرجل في انكلترا إذا سرق خروفا! ولا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن قسما كبيرا من رعايا ابن سعود لا يزالون يعيشون على الفطرة بعيدين كثيرا عن حالة العمران، بل إن القبائل التي تقيم في الجانب الجنوبي من الصحراء المشهور باسم "الربع الخالي"والذي كان أول أوربي وصل إليه هو المستر "برترام توماس"في سنة 1931م ثم توغل فيه المستر "جون فلبي"في سنة 1932م لا يفرقون كثيرا عن المتوحشين، فإذا استعمل ابن سعود الرحمة معهم فلا شك أنهم يسيئون فهمها ولا يقدرون قيمتها، ولهذا لا يفيدهم إلا الحاكم الجبار الذي يحكمهم بيد من حديد. وابن سعود شخصيا لا يحب القسوة، وهو ليس بالرجل الخشن القاسي في أحكامه، بل هو أحيانا يظهر اللين في غير موضعه!.

ولكنه لا يرحم أحدا إذا خالف الشريعة الإسلامية المقدسة، أو حاول الإخلال بالنظام، وكل نظام ديمقراطي سابق لأوانه قبل أن يتمكن من اخضاع امبراطوريته الشاسعة لإرادته وقبل أن يكون في وسع الإنسان أن يسير مطمئنا بمفرده دون أن يعترضه اللصوص وقطاع الطرق الذين كانوا فيما مضى لا يعرفون غير قطع رقاب المسافرين وسلبهم [16] .

د - الأمن الاجتماعي:

من الأعمال الجليلة التي قام بها الملك عبد العزيز في سبيل تحقيق الأمن الاجتماعي توطين البدو بمختلف السبل لتأليفهم تارة، وبالإكثار فيهم من المطاوعة بتعليمهم تارة، وبإنشاء الهِجَر تارة، وبربطهم بأسباب التحضر والتمدن تارة، "فبعد أن أخضع "جبل شمَّر""والإحساء" انبرى لمواجهة مشكلة البدو المزمنة وما درجوا عليه من شن الغارات على جيرانهم وعلى عابري السبيل والتنقل من مكان إلى مكان حسب مشيئتهم، وهو أسلوب للحياة ينعدم معه الأمن والاستقرار فعقد عبد العزيز العزم على وضع حد لهذا الأسلوب.

ص: 382

وإدراكا منه بأن أية محاولة لإقامة نظام سياسي مستقر في البقاع التي تم فتحها سوف تصطدم حتما بالولاء القبلي الذي هو أكثر رسوخا وأبعد عمقا من الولاء للأسس والمضامين السياسية والإدارية الجديدة التي يريد إقامتها، فقد وضع عبد العزيز خطة ذكية ذات مرحلتين، تتمثل أولاهما في إيفاد دعاة إلى القبائل المختلفة لتعليمها مبادئ الإسلام الأساسية وتشجيعها على الاشتغال بالأعمال الزراعية، أما المرحلة الثانية فتتمثل في توطين البدو في مستوطنات زراعية "تعرف بالهجر"أقيمت في نجد، وقد نجح أول هذه المشروعات وتلته مشروعات أخرى كثيرة "60 مشروعا"[17] .

ويذكر الزركلي أنها بلغت 153 هجرة [18] .

وقد أثمرت هذه الخطة الإصلاحية إذ تحول معظم البدو من البداوة إلى المدنية وسلكوا سبيل العلم والعمل وبرّز منهم العديد في مختلف مجالات الحياة، وهذه منة من الله سبحانه وتعالى، إذ التحضر والتمدن من نعم الله على الإنسان ومن أهم عوامل استقرار مجتمعه لذا كان ذلك من مقاصد الدين، قال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام:{وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100] فجعل التحول من البداوة نعمة.

وعودا على بدء:

فلا جرم أن للدولة الإسلامية المعاصرة أهمية قصوى على اختلاف المحاور التاريخية والواقعية، وهي أهمية استراتيجية تتنامى في ظروف التحديات الثقافية التي يعيشها جيلنا، والملاذ بعد الله تعالى ديننا الحنيف الذي ارتضاه لنا.

قال الملك عبد العزيز: "كل حرية باطلة إلا حرية الإسلام، والإنسان لا ينفع إلا بالدين، ونحن لا نبغي محاربة أوربا، وإنما نطلب حقوقنا باتحادنا فنعتصم بالله، والإسلام أكبر وسيلة وأكبر حصن، هو أكبر من مزايا الحسب والنسب فيجب على المسلم محبة دينه وشعبه ووطنه"[19] .

ص: 383

وبعد: فإن المملكة العربية السعودية شخصية مستقلة في قيادتها وأرضها وأهلها ودعوتها ورسالتها، فهي على رسم منهاج النبوة لا غير.

وقد هيأ الله تعالى حفظا لدينه ورعاية لبيته الحرام ومسجد نبيه صلى الله عليه وسلم للمملكة قيادة تعمل دائبة على تميز هذه البلاد بتلك الخصائص حفظا لمعالم الدين القويم من الاندراس، وحماية لبيضة الإسلام، ورفعا لراية التوحيد ما بقيت في الأرض حياة، وتلك نعمة امتن الله بها على المجتمع السعودي خاصة وعلى المسلمين عامة.

{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [النور: 55] .

رحم الله الملك عبد العزيز وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا، ونسأله تعالى أن يديم علينا وعلى المسلمين جميعا نعمة الأمن والأمان والسلامة والإسلام والتوحيد والتأييد، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المراجع

أولا - القرآن العظيم.

ثانيا - من المراجع العامة "مرتبة على حروف المعجم".

- ابن سعود سيد نجد وملك الحجاز تأليف كنث وليمز، تعريب كامل صموئيل. ط1352هـ /1934م المطبعة الأدبية – بيروت.

- الأصالة والمعاصرة، المعادلة السعودية د. فؤاد عبد السلام الفارسي. ط: شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر جدة.

- تاريخ نجد، ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، تأليف سنت جون فيلبي. تعريب: عمر الديراوي، منشورات المكتبة الأهلية – بيروت.

ص: 384

- تاريخ نجد "روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعدد غزوات ذوي الإسلام"حسين بن غنام. تحقيق د. ناصر الدين الأسد ط1403هـ الرياض.

- تاريخ الدولة السعودية حتى الربع الأول من القرن العشرين د. مديحة أحمد درويش. ط: دار الشروق 1410 هـ /1990م جدة.

- تفسير ابن كثير ط: دار السلام 1413هـ/1992م – الرياض.

- توحيد المملكة العربية السعودية ألفه بالإنجليزية محمد المانع، نقله إلى العربية: د. عبد الله العثيمين - ط 1402هـ.

- الجامع الصحيح "صحيح البخاري"محمد بن إسماعيل البخاري "مع فتح الباري"ط المطبعة السلفية 1380هـ مصر.

- جريدة أم القرى – عدد الجمعة 3 ربيع الأول 1345 هـ الموافق 10 سبتمبر 1926م. وأعداد أخرى سبقت الإشارة إليها في هوامش البحث.

- الدرر السنية: عبد الرحمن بن قاسم القحطاني، ط: 1385هـ / 1965م.

- الرحلات الملكية: د. مدحت شيخ الأرض وزملاؤه، إصدار دارة الملك عبد العزيز ط 1416هـ.

- سنن أبي داود السجستاني، ترقيم عزت عبيد دعاس، ط: 1388هـ سورية.

- سنن ابن ماجة القزويني ترقيم: محمد عبد الباقي.

- سنن الترمذي، ترقيم: أحمد محمد شاكر ط: دار الكتب العلمية، بيروت.

- صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج النيسابوري، ترقيم: محمد عبد الباقي "مع شرح النووي"ط: دار القلم 1407 هـ/1987م بيروت.

- صور من حياة عبد العزيز – يرويها طلال بن عبد العزيز – إعداد كمال الكيلاني ط 1411هـ/1990م دار الشواف للنشر والتوزيع – الرياض.

- عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي - د. صالح بن عبد الله العبود - ط: الجامعة الإسلامية 1408هـ.

- عنوان المجد في تاريخ نجد – عثمان بن بشر النجدي ط: مكتبة الرياض الحديثة.

ص: 385

- قدسية الحرمين الشريفين - إعداد مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية ط: 1408هـ/ 1988م هجر للطباعة والنشر - القاهرة.

- مجلة اليمامة - العدد 1473 السبت 19 جمادى الأولى 1418 هـ / الموافق 20 سبتمبر 1997م.

- مسئولية الدول الإسلامية في الدعوة ونموذج المملكة العربية السعودية - د. عبد الله بن عبد المحسن التركي ط 1416هـ وزارة الشئون الإسلامية – الرياض.

- مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني - الموسوعة الإلكترونية - صخر، مصر.

- المعاصرة في إطار الأصالة - أنور الجندي ط 1407هـ/1987م دار الصحوة للنشر والتوزيع القاهرة.

- مع عاهل الجزيرة العربية: عباس محمود العقاد، ط: المكتبة العصرية بيروت.

- مقدمة ابن خلدون ط: دار الكتب العلمية - بيروت 1413هـ / 1992م.

- الملك الراشد: عبد المنعم الغلامي - ط: دار اللواء للنشر - الرياض.

- الملك عبد العزيز والمملكة العربية السعودية المنهج القويم في الفكر والعمل: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي ط: الزهراء للإعلام العربي 1409هـ/ 1989م - القاهرة.

- الملك عبد العزيز ووضع قواعد النظم القضائي في المملكة - د. سعود الدريب ط: 1408هـ/ 1988م دار المطبوعات الحديثة – جدة.

- الموسوعة العربية العالمية – نشر مؤسسة أعمال الموسوعة للنشر والتوزيع ط: 1416هـ/1996م الرياض.

- الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز: خير الدين الزركلي ط: دار العلم للملايين 1984م بيروت.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

مع عاهل الجزيرة العربية ص 20.

[2]

الحوار منشور في مجلة اليمامة - العدد 1473 ص 44-48.

ص: 386

[3]

الرجعيون والأصوليون والمتطرفون: اصطلاحات غربية كثيرا ما يجدها القارئ في كتابات المستشرقين، وهي في الأصل وصف لفئة تتسم بالقصور في فهم الدين وفي أسلوب الدعوة إليه، كما هو هنا في هذا السياق، لكن مدلول هذه الاصطلاحات من الوجهة الاستشراقية المعادية على الأغلب الأكثر تعم المجتمعات الإسلامية! ولا يخفى ما في ذلك من تجاوز للموضوعية والحقيقة، ولا يخفى ما تحمله تلك النظرة القاصرة من موروثات عدائية.

[4]

ابن سعود: كنث ص 186 وانظر مع عاهل الجزيرة ص74 والوجيز ص116.

[5]

مع عاهل الجزيرة العربية ص 64.

[6]

تاريخ ابن خلدون 1 / 159 (فصل في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية) ط: دار الكتب العلمية 1413هـ/ 1992م بيروت.

[7]

الرحلات الملكية - د. مدحت شيخ الأرض ص 128-129

[8]

الوجيز ص 48.

[9]

جاكلين بيرين: اكتشاف جزيرة العرب ص 202 تعريب قدري قلعجي، تقديم حمد الجاسر ط: منشورات الفاخرية، الرياض (دون تاريخ الطبع) .

[10]

عنوان المجد 1/128.

[11]

عنوان المجد 1 / 126.

[12]

المرجع السابق 1 / 174.

[13]

تاريخ نجد ص353 - 354: سنت جون فلبي، تعريب عمر الديراوي ط: بيروت (دون تاريخ) .

[14]

ابن سعود - كنث ص 18.

[15]

ابن سعود - كنث ص 146 – 147.

[16]

ابن سعود - ص 18 – 19.

[17]

الأصالة والمعاصرة ص 37.

[18]

الوجيز ص 169 – 170.

[19]

الوجيز ص 217

ص: 387

جهود الملك عبد العزيز في بسط الأمن

وأثره في حفظ مقومات المجتمع السعودي

وتنميته وازدهاره

الدكتور / عبد الرحيم بن محمد المغذوي

الأستاذ المشارك في كلية الدعوة وأصول الدين

الجامعة الإسلامية المدينة المنورة

المقدمة

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له ومَن يُضْلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلَاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [1] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَام إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [2] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً} [3][4] .

أمَّا بعد:

فإنَّ للملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود جهوداً عظيمة في توحيد المملكة العربية السعودية، وانتشال مجتمعها المتعدِّد والمترامي الأطراف مِمَّا كان فيه من انقسامات وخلافات وعداوات وحروب، إلى مجتمعِ الأخوة والتراحم والتعاطف.

ولا شكَّ أنَّ أي باحث منصف يحق له أن يعتبر الملك عبد العزيز ظاهرة تاريخية في العصر الحديث، جديرة بالتأمُّل والدراسة والتحليل في جوانب عِدَّة، ومجالات متنوعة.

ص: 388

ومن هذه الجوانب المتعددة الهامَّة التي أولاها الملك عبد العزيز عنايته ورعايته المسألة الأمنية والحفاظ عليها وتقريرها في هذه البلاد المقدَّسة.

ومن هنا، ولِمَا للأمن من أهمية بالغة في أي مجتمع، ولِمَا أكَّدته الدعوة الإسلامية على هذا الأمر، ارتأيت الكتابة في هذا الموضوع وأسميته:(جهود الملك عبد العزيز في بسط الأمن، وأثره في حفظ مقوّمات المجتمع السعودي وتنميته وازدهاره) .

خطة البحث:

يشتمل البحث على مقدمة، وثلاثة فصول، وخاتمة، وفهارس. وذلك على النحو التالي:

المقدمة: وفيها الحديث عن أهمية الموضوع، وسبب اختياره، والخطة بالتفصيل، ومنهج البحث المستخدم.

الفصل الأول: الأمن: مفهومه، أهميته، دواعيه، وضرورته في المملكة

العربية السعودية. وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: تعريف الأمن لغة واصطلاحاً.

المبحث الثاني: مشروعية الأمن وأهميته في الإسلام.

المبحث الثالث: دواعي الأمن وضرورته في المملكة العربية السعودية.

الفصل الثاني: نشأة الملك عبد العزيز، وأبرز جهوده في توحيد المملكة العربية السعودية، وسبل تحقيق الأمن في عهده.

وفيه تمهيد وأربعة مباحث:

المبحث الأول: نشأة الملك عبد العزيز والعوامل المؤثرة في شخصيته.

المبحث الثاني: حالة الأمن في الجزيرة العربية قبل توحيد الملك عبد العزيز لها.

المبحث الثالث: أبرز جهود الملك عبد العزيز في توحيد المملكة العربية السعودية، ونشر الأمن فيها.

المبحث الرابع: سبل تحقيق الأمن في عهد الملك عبد العزيز.

الفصل الثالث: آثار جهود الملك عبد العزيز الأمنية في حفظ مقومات المجتمع السعودي وتنميته وازدهاره. وفيه مبحثان:

المبحث الأول: آثاره في حفظ مقوّمات المجتمع.

المبحث الثاني: آثاره في تنمية وازدهار المجتمع.

الخاتمة: وفيها خلاصة البحث والتوصيات.

ص: 389

الفهارس: وهي مشتملة على بعض الفهارس الفنية المختصرة، مثل:

1 -

فهرس الآيات القرآنية الكريمة.

2 -

فهرس الأحاديث النبوية.

3 -

فهرس المصادر والمراجع.

4 -

فهرس الموضوعات.

منهج البحث:

استخدمت في كتابة هذا الموضوع، منهج البحث التاريخي، والتحليلي مع مراعاة الأمور التالية:

1 -

أنَّ الموضوعات التي تناولها هذا البحث لا تشمل كل ما قام به الملك عبد العزيز - يرحمه الله - من جهود عديدة سواء داخلية أو خارجية في حفظ الأمن وترقية المجتمع السعودي، وإنَّما تناولت أبرز تلك الجهود، وأهم ما قام به في هذا المجال.

2 -

عزوت الآيات القرآنية الكريمة إلى أماكنها، وخرَّجت الأحاديث من مظانها، وأثبتُّ حكم العلماء عليها.

3 -

تحديد البحث ضمن فصول ومباحث ومطالب جزئية، تسهل السير فيه، وتحدد اتجاهه، ومِنْ ثَمَّ نتائجه.

وبعد: فهذا ما يسر الله تعالى به، وما أحببت أن أدونه وأُبيِّنه، وذلك وفاءً لِمَا للملك عبد العزيز - يرحمه الله - من فضلٍ - بعد الله تعالى - على أبناء هذه البلاد، ولِمَا قام به يرحمه الله من جهودٍ مضنية في سبيل راحتهم وتوطيد أمنهم، ولِمَا قام به من خدمةٍ واسعةٍ جليلةٍ للإسلام والمسلمين، فجزاه الله خيراً ورحمه رحمةً واسعة، ووفق الله تعالى أبناءه لكُلِّ خير، الذين ساروا على دربه، واقتفوا أثره ومنهجه، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه. والحمد لله رب العالمين.

وكتبه: د / عبد الرحيم بن محمد المغذوي

الأستاذ المشارك بقسم الدعوة، كلية الدعوة وأصول الدين

الجامعة الإسلامية - بالمدينة المنورة

ضحى الاثنين 22/1/1419هـ

الفصل الأوَّل

الأمن - مفهومه، أهميته، دواعيه

وضرورته في المملكة العربية السعودية

وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: تعريف الأمن لغةً واصطلاحاً.

المبحث الثاني: مشروعية الأمن وأهميته في الإسلام.

ص: 390

المبحث الثالث: دواعي الأمن وضرورته في المملكة العربية السعودية.

المبحث الأول: تعريف الأمن لغةً واصطلاحاً

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: تعريف الأمن لغةً:

للأمن تعاريف عِدَّة في لغة العرب، فمن ذلك:

قول ابن فارس: "الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان: أحدهما الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب، والآخر التصديق..

قال الخليل: الأَمَنَةُ من الأمن. والأمان: إعطاء الأَمَنَة، والأمانة ضد الخيانة.

يقال: أمِنْتُ الرَّجُل أَمْناً وَأَمنةً وَأَماناً، وآمنني يُؤْمنني إيماناً.

والعرب تقول: رجلٌ أُمَّانٌ، إذا كان أميناً. قال الأعشى:

ولقد شهدتُ التَّاجِرَ الأُمَّانَ مَوْرُوداً شرابُهُ" [5] .

وقال الجوهري: "الأمان والأمانة بمعنىً. وقد أمنتُ فأنا آمن، وآمَنْتُ غيري من الأمن والأمان.

وأصل آمن: أَأْمَنَ بهمزتين، لُيِّنَت الثانية. والأمن: ضد الخوف" [6] .

وقال الفيروزآبادي: "الأمْنُ والآمِن: كصاحب، ضِدّ الخوف، أَمِنَ كفرح أمناً وأماناً بفتحهما وأمناً وأَمَنَةً محرَّكتين، وإِمناً بالكسر، فهو أَمِنٌ وأمينٌ كفرح وأمير، ورجلٌ أُمَنَةٌ كهمزة ويُحَرَّك يأمنه كُلّ أحد في كُلِّ شيء"[7] .

وقال الزمخشري: "فلان أَمَنَةٌ أي يأمَنُ كُلَّ أحد ويثق به، ويأمنه الناس ولا يخافون غائلته"[8] .

ومِمَّا ذكره ابن منظور: "الأمان والأمانة بمعنى، وقد أَمِنْتُ فأنا أمِن، وآمنت غيري من الأمن والأمان. والأمن ضد الخوف، والأمانة ضد

الخيانة..

والمأمن: موضع الأمن، والآَمِنُ: المستجير ليأمن على نفسه" [9] .

ومن خلال ما تقدَّم من كلام وأقوال أهل اللغة وأرباب البيان يتَّضِح أنَّ للأمن في لغة العرب إطلاقات عِدَّة، فهو يعني:

"الطمأنينة وعدم الخوف، والثِّقة وعدم الخيانة".

المطلب الثاني: تعريف الأمن اصطلاحاً:

ص: 391

للأمن تعاريف عِدَّة في اصطلاح العلماء والكتاب، وذلك لتنوع النظرة واختلاف التصور، وتباين المشارب، وإن اتَّفقت على بعض وظائفه وأهدافه.

وقبل أن نعطي تعريفاً للأمن يجدر بنا أن نسوق طائفة متنوعة من التعاريف الدَّالَّة عليه.

فقد عرَّفته موسوعة السياسة بأنَّه: "تأمين سلامة الدولة ضد أخطار خارجية وداخلية قد تؤدي بها إلى الوقوع تحت سيطرة أجنبيَّة نتيجة ضغوط خارجية أو انهيار داخلي"[10] .

وعرَّفه اللواء عدلي حسن سعيد بأنَّه: "تأمين الدولة من الداخل ودفع التهديد الخارجي عنها بما يكفل لشعبها حياة مستقرة توفر له استغلال أقصى طاقاته للنهوض والتقدم والازدهار"[11] .

ويعرِّفه الدكتور علي الدين هلال بأنَّه: "تأمين كيان الدولة والمجتمع ضد الأخطار التي تتهدَّدهما داخلياً وخارجياً، وتأمين مصالحهما وتهيئة الظروف المناسبة اقتصادياً واجتماعياً لتحقيق الأهداف والغايات التي تعبر عن الرضاء العام في المجتمع"[12] .

وقيل أيضاً بأنَّ الأمن هو: "الجهد اليومي المنظم الذي يصدر عن الدولة لتنمية ودعم أنشطتها الرئيسية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ودفع أي تهديد أو تعويق أو إضرار بتلك الأنشطة"[13] .

كما يذكر الدكتور ممدوح شوقي أنَّه: "قد جرى العمل على أنَّ المقصود بالأمن في مفهومه الواسع هو تحقيق الأمن على المستويين الداخلي والخارجي [14] .

وأخيراً يذكر الدكتور عبد الله القبَّاع أنَّ الأمن لأي دولة يتكون من ثلاث مستويات: داخلية، وإقليمية، وخارجية" [15] .

ومن خلال التعاريف السابقة نلاحظ أنَّها تركز على - أمن الدولة - أو ما يعرف بالأمن الوطني National Security وتناست المفهوم الشامل للأمن في الإسلام والذي يتناول أمن الفرد دنيوياً وأخروياً، وأمن الدولة داخلياً وخارجياً، بل ويتعدَّى ذلك إلى أمن العالم والكون بعضه إلى بعض.

ص: 392

فالإنسان - في نظر الإسلام - هو جوهر العملية الأمنية، وهو محور الأمن الداخلي والخارجي، لأنَّه مناط التكليف في هذه الحياة الدنيا دون غيره من سائر المخلوقات.

وهنا يمكن لنا أن نعطي تعريفاً للأمن في مفهوم الإسلام فنقول بأنَّه يعني: السلامة الحِسِّيَّة والمعنوية، والطمأنينة الداخلية والخارجية، وكفالة الحياة السعيدة للفرد والمجتمع والدولة.

فهذا التعريف كما هو ملاحظ يركز على الفرد لأنَّه اللبنة الأساسية والخليَّة الأولى، والذي يتكون منه المجتمع ومن ثَمَّ الدولة بمفهومها الواسع.

ويتناول هذا التعريف عِدَّة أمور هامَّة هي:

أولاً: سلامة الفرد والمجتمع والدولة حِسِّياً ومعنوياً.

ثانياً: الطمأنينة وعدم الخوف أو الفزع والهلع.

ثالثاً: أنَّ التعريف يتناول الأمن الداخلي للفرد والمجتمع والدولة، وكذا الأمن الخارجي.

رابعاً: أنَّ الأمن يكفل الحياة السعيدة - بإذن الله تعالى - للفرد والمجتمع المسلم في هذه الحياة الدنيا، لأنَّه يوفِّر البيئة الصالحة والظروف الملائمة لعبادة الله تعالى وتوحيده، والإيمان به، والتعاون الفاعل المثمر البناء في مختلف المجالات والميادين.

خامساً: أنَّ المسلم حينما يأمن في هذه الحياة الدنيا ويقوم بعبادة ربه تبارك وتعالى ويوحده، فإنَّه ولا شك سيفوز بمرضاته ودار كرامته في الحياة الآخرة، وذلك تحقيقاً لوعده تعالى حينما قال:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [16] .

ص: 393

وقوله سبحانه {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [17] .

سادساً: أنَّ التعريف يتناول ويشمل عِدَّة أنواع للأمن كالأمن العقدي، والدعوي، والفكري، والعقلي، والعلمي، والاقتصادي، والبيئي، والزراعي، والعسكري، والسياسي، وغيرها [18] .

المبحث الثاني: مشروعية الأمن، وأهميته في الإسلام

دين الإسلام هو دين الفطرة السوية، والمتأمل في الشريعة الإسلامية وما دعت إليه، يجد أنَّها تلبي احتياجات الفطرة البشرية وتنميها، وترعاها وتوجهها لكل ما فيه خيرها وسعادتها.

قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [19] .

ولا شكَّ أنَّ من دواعي الفطرة الإنسانية ومتطلباتها الاجتماع، وتقارب الناس بعضهم مع بعض في مجتمعاتٍ وتكويناتٍ بشرية عديدة.

ولا ريب أنَّ هذه المجتمعات وتلك التكوينات لا يمكن لها أن تنتظم وتستقر دون أمن يخيم عليها، ودون أمان يظللها ويلقي بجناحه عليها.

ومن هنا جاءت النصوص وتضافرت في التأكيد على مشروعية الأمن وأهميته في الإسلام.

ومن الملاحظ أنَّ تلك النصوص الكريمة قد أوضحت مفاهيم أوسع للأمن، وأكَّدت أهدافاً حقيقية كبرى له، سواء في هذه الحياة الدنيا أو في الحياة الآخرة.

فمن نصوص القرآن الكريم:

يقول الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [20] .

ص: 394

وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [21] .

وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [22] .

وقال تعالى موضِّحاً أنَّ الأمن الحقيقي للذين آمنوا به واعتقدوا بوحدانيته وقيوميته على خلقه، ولم يشركوا به شيئاً، وكان ذلك على لسان إبراهيم عليه السلام حينما حَاجَّه قومه. يقول تعالى موضِّحاً ذلك:{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [23] .

كما يؤكِّد المولى جلَّ وعلا هذه الحقيقة وهذا الوعد الإلهي الكريم للذين آمنوا به ووحَّدوه ولم يشركوا به، أن يمكِّنَ لهم في الأرض، وأن يبسط لهم الأمن ويُذْهِب عنهم الخوف والروع.

يقول تعالى في ذلك: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون} [24] .

ص: 395

يقول الحافظ ابن كثير في إيضاح المقصود بهذه الآية الكريمة: "هذا وعدٌ من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنَّه سيجعل أُمَّته خلفاء الأرض أي أئمة الناس والولاة عليهم، وبهم تصلح البلاد، وتخضع لهم العباد، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً، وحكماً فيهم، وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة"[25] .

كما يرشد الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين في موضع آخر من كتابه الكريم أنَّ الأمن والطمأنينة نعمة عظيمة من نعمه سبحانه على خلقه، يجب على عباده أن يشكروه عليها، وأن يبتغوا السُّبُل في المحافظة على دوامها واستمرارها، وأن يحذروا الكفر والشرك بالله تعالى والتنكُّب لشرعه، لأنَّ ذلك إيذانٌ بوقوع العذاب وانتزاع الأمن وذهاب الطمأنينة وشيوع الخوف بدلاً منهما والعياذ بالله.

يقول الله تعالى موضِّحاً ذلك: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [26] .

والمتأمِّلُ في كتاب الله تعالى يجد أنَّ هنالك عوامل كثيرة قد كفلت الأمن في المجتمع المسلم، وآذنت بتحققه إذا ما التزم الناس بها، كالعقيدة الصحيحة، ودفع ما يؤذي المجتمع من الأقوال والأفعال، وردع المجرمين، ومنع المعصية والمنكر، من التفشي بين الناس، وحثِّ أفراد المجتمع على التحلِّي بالأخلاق الإيمانية الكريمة، ومعرفة أقدار الناس، وإنزالهم مواضعهم اللائقة بهم، وعدم امتهانهم أو التعدِّي عليهم.

كذلك رتَّب الإسلام قاعدة هامَّة بين الحاكم والمحكوم، أو الراعي والرعيَّة، تقوم على تنظيم الحقوق والواجبات بين الطرفين، أساسها الإيمان، وقوامها الثقة، ولحمة سداها الشعور بالمسؤولية المشتركة، المؤدية لخير المجتمع وأمنه واستقراره.

ص: 396

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [27] .

وإنَّ الناظر في أحوال الجاهلية، وما كانت عليه من تفرُّق وعدم اجتماع على كلمةٍ واحدة، أو ما حدث في المجتمعات عبر التاريخ، أو ما يحدث في بعض المجتمعات اليوم من زعزعة في الأمن وعدم طمأنينة واستقرار، إنَّما مرده إلى عدم الأخذ بلوازم الأمن وأسباب تحقيقه، ومن ذلك عدم اجتماع الكلمة، وعدم الطاعة لأولي الأمر، أو التمرُّد عليهم وعصيانهم، وهذا من السُّوء والمنكر الذي حذَّرنا الله تبارك وتعالى منه.

وإنَّ ما ينعم به مجتمعنا في المملكة العربية السعودية من أمنٍ وارف، وطمأنينة تامَّة، وهدوء واستقرار كامل، إنَّما هو فضل من الله تبارك وتعالى ونعمة وإحسان منه، ثُمَّ بفضل التمسُّك بعقيدتنا الإسلامية وطاعة لأولي الأمر واستجابة لهم، الأمر الذي جعل هذه البلاد مضرب المثل في الأمن والاستقرار في العالم بأجمعه والحمد لله.

وأمَّا النصوص التي تحدَّثت عن الأمن وأكَّدته ودعت إليه من السُنَّة المطهرة فعديدة، ولسنا بصدد استقصائها أو الإحاطة بها، ولكن نذكر بعضاً منها على سبيل الاستشهاد والدلالة.

فقد أخرج الترمذي في سننه: عن سلمة بن عبيد الله بن مُحصِنٍ الخطمي عن أبيه - وكانت له صحبة - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنَّما حيزت له الدنيا"[28] .

ص: 397

يقول الإمام العلَاّمة الحافظ المباركفوري في شرح المقصود بهذا الحديث ما ملخَّصه: "من أصبح منكم - أي أيها المؤمنون - آمناً - أي غير خائف من عدو - في سربه - أي في نفسه، وقيل في جماعته، أو في أهله وعياله، وقيل سَربه - بفتح السين - أي في مسلكه وطريقه، وقيل بفتحتين - أي في بيته، كذا ذكره القاري عن بعض الشُّرَّاح. وقال التوربشتي رحمه الله أي بعضهم إلَاّ السَرَب - بفتح السين والراء - أي في بيته، ولم يذكر فيه رواية. ولو سلم له قوله أن يطلق السرب على كُلِّ بيت كان قوله هذا حريّاً بأن يكون أقوى الأقاويل، إلَاّ أنَّ السرب يقال للبيت الذي هو في الأرض. وفي القاموس: السَّرْب الطريق، وبالكسر الطريق، والبال، - والقلب، والنفس، والجماعة، وبالتحريك جحر الوحش والحفير تحت الأرض". اهـ.

ثُمَّ علَّق الحافظ المباركفوري قائلاً: "فيكون المراد من الحديث المبالغة في حصول الأمن ولو في بيتٍ تحت الأرض، ضَيِّق كجحر الوحش، أو التشبيه به في خفائه وعدم ضياعه"ا. هـ[29] .

وهنالك العديد من السنن والتوجيهات والاحتياطات النبوية الكريمة لجناب الأمن في حياة الفرد والمجتمع المسلم حتى يعيش الناس في وفاق وأمان واطمئنان.

ومن أجل ذلك فقد دعا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى كُلِّ عملٍ يبعث الأمن والاطمئنان في نفوس المسلمين، ونهى عن كُلِّ فعلٍ يبث الخوف والرعب في جماعة المسلمين، حتى ولو كان أقل الخوف وأهونه، باعتبار الأمن نعمة من أجَلِّ النعم على الإنسان [30] .

فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لا يحل لمسلمٍ أن يروع مسلماً"[31] .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يشير أحدكم على أخيه بالسلاح، فإنَّه لا يدري أحدكم لعلَّ الشيطان ينزغ في يديه فيقع في حفرة من النار"[32] .

ص: 398

وعن عبد الله بن السائب بن يزيد، عن أبيه، عن جده أنَّه سمع

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً"[33] .

فكل تلك الأمور التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنها أمور تنقض الأمن وتوقظ العداوة وتثير الشحناء بين الناس، حريٌّ بكل مسلمٍ أن يتجنبها ويبتعد عنها.

وهكذا دعوة الإسلام الحنيفية السمحة، ما من أمرٍ فيه خير إلَاّ ودلَّت الناس عليه، وما من أمرٍ فيه شر أو بوادر شر، أو من شأنه إثارة الشر وتبديل الأمن إلَاّ وحذَّرت الناس منه ونهتهم عنه.

ولذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم السَّتر وطلب الأمن وعدم الذعر أو الخوف لأنَّ هذا من أُسُس ومتطلبات الحياة الإنسانية الطبيعية الآمنة.

فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "اللهم استر عوراتي، وآمن روعاتي"[34] .

والمتأمل بعد ذلك في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وما قام به من أعمالٍ جليلة وتصرُّفات حكيمة ومسالك قيِّمة عظيمة، يدرك على الفور مدى ما كان يتمتَّع به المجتمع المسلم - آنذاك - من أمنٍ واطمئنان وسكينةٍ ووقار، لم تتوفر في أي مجتمعٍ آخر. وهكذا كان حال المجتمع الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين، وفي معظم العهود الإسلامية المتلاحقة يفوق غيره من المجتمعات البشرية الأخرى في أمنه واطمئنانه.

يقول الله تعالى ممتناً على هذه الأُمَّة الإسلامية بإخراجها من ظلمات الشرك والخوف إلى نور الإيمان والتوحيد والأمان: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [35] .

ص: 399

وقال تعالى أيضاً عن حال نبيه صلى الله عليه وسلم: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [36] .

كما يُذَكِّرُ المولى جلَّ وعلا الأُمَّة كيف كانت قبل مبعث الرسول المصطفى والنبي المجتبى محمَّد صلى الله عليه وسلم في عداوات وإحن وحروب وخوف وعدم اطمئنان في كُلِّ شيء، وما هي عليه بعد مبعثه ودعوته صلى الله عليه وسلم من ألفة وأخوة ومحبة، وما يجب عليهم من الاعتصام والتمسك بحبل الله المتين.

يقول تعالى موضِّحاً ذلك: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [37] .

يقول الإمام ابن جرير الطبري - رحمه الله تعالى - في المقصود بالآية الكريمة ما ملخَّصه: "تمسَّكوا أيها المؤمنون بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه الكريم من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله تعالى، ولا تتفرَّقوا عن دين الله تعالى ولا تعادوا عليه وكونوا عليه إخواناً. واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم حيث كنتم أعداءً في شرككم، يقتل بعضكم بعضاً عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألَّف الله بالإسلام بين قلوبكم، فجعل بعضكم لبعضٍ إخواناً بعد إذ كنتم أعداءً، تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه.

ص: 400

فهنا يذكرهم جلَّ ثناؤه إذ وعظهم عظيم ما كانوا عليه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم بعضاً، وخوف بعضهم من بعض، وما صاروا إليه بالإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به وبما جاء به من الائتلاف والاجتماع، وأمن بعضهم من بعض، ومصير بعضهم لبعض إخواناً" [38] . فلله تعالى الحمد والمنة.

المبحث الثالث: دواعي الأمن وضرورته في المملكة العربية السعودية

بعث الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم للناس هدايةً ورحمة، وجعل مبعثه في مكَّة المكرَّمة في جزيرة العرب، التي كانت تنتابها المحن والقلاقل والفتن وعدم الأمن، سوى أهل مكة بلد الله الحرام الذين امتن الله تعالى عليهم بالأمن وعدم الخوف كما قال سبحانه:{لإِيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [39] .

ولقد تعاقبت على جزيرة العرب عهود تاريخية كثيرة، وأحداث جسيمة ألقت بظلالها عليها، الأمر الذي أدَّى إلى عدم الاستقرار وتضعضع الأمن وفشو الخوف بين الناس، وتوجس الشر في كثيرٍ من الأحيان. ناهيك عن انتشار البدع والخرافات وتعلُّق الناس بالأوهام، وانصرافهم عن العقيدة الإسلامية الصحيحة في كثيرٍ من الأوقات، وعدم فهمهم لدعوة الإسلام الخيرة النافعة للإنسان في آخرته ودنياه [40] ، وخاصَّة في العهود الإسلامية المتأخرة.

ص: 401

حتى امتن الله تعالى على الناس في هذه الجزيرة بدعوة الشيخ الإمام محمد ابن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى - داعية التوحيد، ومجدِّد ما اندرس من عقيدة الإسلام في العصور الحديثة [41] ، وساعده ووقف بجانبه الإمام محمد ابن سعود أمير الدرعية، بل يمكن لنا القول أنَّ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله لم يكن لها أن تصمد وتنتشر ويكتب لها النجاح لولا توفيق الله تعالى وحفظه وتأييده، ثُمَّ وقفة الأمير محمد بن سعود لها وجهاده من أجلها.

وتتابع الأئمة من آل سعود في احتضان ورعاية الدعوة السلفية والعناية بها، وتكبدوا في سبيل ذلك المشاق والأهوال، بل وتحمَّلوا المحن التي رانت على دولتهم في بعض عهودها من أجل هذه الدعوة المباركة ومن أجل بقائها.

حتى كان العصر الحاضر، وفي عهد الإمام المؤسِّس الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود الذي وحَّد الجزيرة بعد شتات، ولَمَّ شعثها بعد طول سبات، فانتشرت على يديه المباركتين دعوة التوحيد، وراجت كتبها، وتعدَّدت مؤسساتها العلمية، وانتفع الناس بها في الداخل والخارج. كذلك ساد الأمن، وألقت الطمأنينة بظلالها الوارفة، وعمَّت السكينة أرجاء البلاد بعد طول شتات وفرقة وخلاف، فلله الحمد والمنة.

ومِمَّا سبق وتأسيساً عليه يمكن لنا أن نذكر ونسجِّل بعض الأمور التي تستدعي الأمن وتتطلبه، بل وتؤكِّد عليه وتجعله ضرورة هامَّة في هذه البلاد المباركة، ومطلباً حيوياً فيها وهي:

أولاً: أنَّ المملكة العربية السعودية تشغل معظم جزيرة العرب موطن دعوة الإسلام، ومبعث النور والضياء إلى الإنسانية بأجمعها، فكان حريّاً بها أن تكون واحة الأمن والاستقرار.

ص: 402

ثانياً: وجود الحرمين الشريفين في مكَّة المكرَّمة والمدينة المنورة، وكذا بقية الأماكن والمشاعر المقدَّسة التي يهوي إليها المسلمون لتأدية الركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج، أو ما يكون بقصد العمرة والزيارة والصلاة.

ولا شكَّ أنَّ الأمنَ لازمٌ لكي يقوم المسلمون بتأدية عباداتهم تلك وإتمام ما أتوا من أجله في راحةٍ واطمئنان، ومن هنا فقد أمر الله تعالى بأن يكون حرمه آمناً، وبيته ملاذاً للطمأنينة، ومستقراً للسكينة منذ أن أمر جلَّ شأنه ببنائه على يد إبراهيم الخليل وإسماعيل عليهما السلام كما قال تعالى:{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [42] .

وعن عبد الله بن زيد بن عاصم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مؤكِّداً على حرمة مكَّة والمدينة: "إنَّ إبراهيم حرَّم مكَّة ودعا لأهلها، وإني حرَّمتُ المدينة كما حرَّم إبراهيم مكَّة، وإني دعوت في صاعها ومدِّها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكَّة"[43] وعن سهل بن حُنيفٍ قال: أهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فقال: "إنَّها حرمٌ آمن"[44] .

ص: 403

ثالثاً: وفود المسلمين في كُلِّ عام إلى الديار المقدَّسة لأداء العمرة والحج، وبأعداد هائلة، ومن بلدان ومجتمعات مختلفة، وتنقُّلهم في مشاعر عديدة كمنى وعرفات ومزدلفة، وفي أوقات وأزمنة محدَّدة، وبكيفيةٍ معتبرة، كل ذلك يجعل من الأمن مطلباً هامّاً لهذه الجموع المسلمة حتى تؤدي عبادتها ونسكها على أفضل وجه.

رابعاً: إنَّ طبيعة هذه البلاد وموقعها الجغرافي بين عِدَّة أماكن ونقاط التقاء برية وبحرية واحتوائها على ثروات عديدة، جعل من الأمن ضرورة هامَّة لها.

خامساً: نهضة المملكة العربية السعودية والتنمية الشاملة في جميع المجالات والميادين الاقتصادية والزراعية والتعليمية والاجتماعية، والرخاء الذي تنعم به، والأهمية المنوطة بأجهزتها تجاه المحافظة على تلك المكتسبات جعل من الأمن مطلباً هامّاً لها.

سادساً: احتواء المملكة العربية السعودية العديد من الأجهزة والمنظمات والهيئات الإسلامية العالمية، كرابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والبنك الإسلامي، والأمانة العامة لمجلس التعاون لدول الخليج العربي، وغيرها من المنظمات والهيئات والسفارات والبعثات الدولية، كُل ذلك يضاعف من مسؤوليتها الأمنية تجاه المحافظة على تلك الهيئات.

سابعاً: مجالات العمل والإنتاج المتعددة التي تشهدها المملكة العربية السعودية وتعيشها في عدة ميادين ومناشط، جعل من الأمن مطلباً هامّاً لتحقيق هذه المطالب الهامة، وتوفير الحماية والأمان اللازم لعناصرها.

ثامناً: علاقات المملكة العربية السعودية مع غيرها من الدول العربية والإسلامية والدولية، وارتباطها بهيئات ومنظمات ومواثيق دولية، جعل من الأمن مطلباً هامّاً كذلك.

ص: 404

تاسعاً: وهذا أمر وعنصر هام، وهو أنَّ تأسيس المملكة العربية السعودية على يد الملك عبد العزيز – رحمه الله تعالى - جاء على فترة من الخوف وانقطاع السبل وتفشي الرعب بين الناس في هذه الجزيرة، فكان توحيده لها على أساسٍ من العقيدة الإسلامية وجعل الأمن أصلاً من الأصول التي ترتكز عليها هذه الدولة حتى يقطع دابر الفتن ويستأصل شأفة الخلاف بين أرجائها.

وكان جهاده - رحمه الله تعالى - في توطيد الأمن في ربوع هذه البلاد مضرب المثل بين سائر البلدان ومختلف المجتمعات، وأصبح كثيرٌ من المجتمعات يتمنى بعضاً ممَّا وصلت إليه هذه البلاد المباركة في إيمانها وأمنها واستقرارها.

كما كان لجهود الملك عبد العزيز - رحمه الله تعالى - في بسط الأمن آثاراً عظيمةً في حفظ مقومات المجتمع السعودي وتنميته وازدهاره في جميع المجالات والميادين، وسلك في سبيل تحقيق ذلك مسالك عديدة متنوعة أثمرت عن كُلِّ خيرٍ ولله الحمد والمنة. وهو ما سوف نتعرَّف على بعضٍ منه في الصفحات القادمة بإذن الله تعالى.

الفصل الثاني

نشأة الملك عبد العزيز

وأبرز جهوده في توحيد المملكة العربية السعودية

وسبل تحقيق الأمن في عهده

وفيه تمهيد وأربعة مباحث:

المبحث الأول: نشأة الملك عبد العزيز والعوامل المؤثرة في شخصيته.

المبحث الثاني: حالة الأمن في الجزيرة العربية قبل توحيد الملك عبد العزيز لها.

المبحث الثالث: أبرز جهود الملك عبد العزيز في توحيد المملكة العربية السعودية ونشر الأمن فيها.

المبحث الرابع: سبل تحقيق الأمن في عهد الملك عبد العزيز.

تمهيد

ص: 405

إنَّ المتأمِّلَ في حياة الملك عبد العزيز ونشأته - يرحمه الله - والعوامل التي أثَّرت في شخصيته، يدرك على الفور مدى ما كان لتلك الأمور من أثر كبير وفاعلية هامَّة في مسيرته وجهاده العظيم في توحيد المملكة العربية السعودية، ونشره للأمن والأمان فيها، وسلوكه السبل الصحيحة المعينة على تحقيق ما كان يصبو إليه.

فالملك عبد العزيز - يرحمه الله - لم يأتِ من فراغ، ولم يصعد سُلَّم المجد، ويَتَسَنَّم ذرى البطولة دون تربية ونشأة سليمة، وعوامل هامَّة أثَّرت في حياته وطريقة تفكيره وتقديره للأمور، صَقَلَت شخصيته وأنضجتها وأعطتها الدربة الكافية لمواجهة الأحداث التي قد يتعرَّض لها بعد ذلك. وهذا ما نجده واضحاً في جهاده - يرحمه الله - وطريقة توحيده للمملكة العربية السعودية، وبسطه للأمن في ربوعها وبين جنباتها.

وإنَّ المتمعِّن في حال الجزيرة العربية قبل توحيدها يدرك ما كانت تعانيه وتفتقر إليه من أمن وأمان واستقرار واطمئنان وراحة بال، ومقومات هامة في حياتها الاجتماعية والاقتصادية والعلمية، ناهيك عن الناحية العقدية، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية بين أفرادها.

وحينما قام الملك عبد العزيز - يرحمه الله - بتوحيد هذه البلاد بعد طول شتات وفرقة ونزاعات، وطَّد الأمن في ربوعها، وزرع السكينة بين جنباتها، وجمع الناس - بفضل الله تعالى - على العقيدة الصحيحة والشريعة العادلة والألفة والمودَّة والمحبَّة بين الناس، فللَّه تعالى الحمد والمنَّة..

المبحث الأول: نشأة الملك عبد العزيز، والعوامل المؤثرة في شخصيته

ينتسب الملك عبد العزيز إلى أسرة آل سعود، وهي أسرة معروفة وعريقة ومن أفضل قبائل جزيرة العرب.

فهو: عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود بن محمد بن مقرن بن مرخان بن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع المريدي [45] .

ص: 406

وكان مولد عبد العزيز في قصر الإمارة بالرياض سنة 1293هـ/ 1876 م [46] . وعهد به أبوه - الإمام عبد الرحمن - إلى القاضي عبد الله الخرجي من علماء الخرج، فتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ سوراً من القرآن الكريم، وقرأه كاملاً على الشيخ محمد بن مصيبيح، ثُمَّ تلقى بعض أصول الفقه والتوحيد على يد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف في كراسة صغيرة أعدها خصيصةً له [47] .

وفي الرياض علَّمه أبوه الإمام عبد الرحمن مبادئ الفروسية لإعداده للمشاركة في الأحداث التي تمر بها الأسرة، فأقبل عبد العزيز على ذلك بشغفٍ فتعلَّم استخدام البندقية والسيف وركوب الخيل والإبل [48] .

وعاش عبد العزيز في كنف أبيه في الرياض وهو يسمع ويشاهد الصراعات والخلافات تعصف بالبيت الأمر الذي أدى إلى رحيل أسرة الإمام عبد الرحمن إلى الكويت، وكان عمر عبد العزيز إذ ذاك إحدى عشرة أو اثنتى عشرة سنة.

وفي الطريق إلى الكويت مرَّت أسرة الإمام عبد الرحمن بمحن عدة، حيث خرجت وهي تهيم على وجهها في الصحراء حيث عاشت مع قبائل مرة والعجمان، ولكن الأسرة لم تحتمل حياة البادية وغلظتهم وجفاءهم، فأرسل الإمام عبد الرحمن ابنه عبد العزيز إلى البحرين يستأذن الشيخ عيسى بن خليفة حاكم البحرين في بقاء النساء والذرية في جواره، فوافق أمير البحرين، وعاد عبد العزيز بعد ذلك إلى مضارب أبيه في الصحراء [49] .

وكان الإمام عبد الرحمن قد قام بمحاولة لاسترداد الرياض بعد

رحيل الأسرة، وتجميع بعض الأنصار، وكان ذلك سنة 1309 هـ، فاستولى على الدّلم وطرد مَنْ كان فيها مِنْ أتباع ابن رشيد. ثُمَّ دخل الرياض مسالماً، ثُمَّ سار منها إلى المحمل، ونزل في حريملاء على مرحلتين من شمالي الرياض.

ص: 407

ووصلت أخباره إلى ابن رشيد وهو في حائل فأسرع بجيشه، فكانت المعركة في حريملاء، وانهزم جمع الإمام عبد الرحمن، وقتل عدد من رجاله وأنصاره، لعدم تكافؤ الجيشين أو الفريقين، وكذلك لعدم تمكُّن الإمام عبد الرحمن من الإحكام والسيطرة على مجريات الأمور.

ونتيجةً لذلك دخل ابن رشيد الرياض، وقفل الإمام عبد الرحمن عائداً إلى مخيَّمه في البادية، فأدركه ابنه عبد العزيز في أطراف منازل العجمان [50] .

ومن ثَمَّ أرسل الإمام عبد الرحمن ابنه عبد العزيز إلى الأحساء يطلب إيواءه هو ورجاله، ولكن لم يوافق الترك على ذلك، لأنَّ الأحساء كانت تابعة للدولة العثمانية.

ومكث الإمام عبد الرحمن مع ابنه عبد العزيز ومن معهما بين قبائل مرَّة والعجمان على أطراف الربع الخالي في صحراء الدهناء فترة قدرت بسبعة أشهر [51] .

وبدأ عبد العزيز يألف البادية، ويتحمَّل مشاقّها، ويتعرَّف على طباع أهلها، ويجاري أبناءها في احتمال مكاره العيش، واعتياد خشونة الحياة.

وفرج الكرب عن الأسرة بعد مكاتبة الإمام عبد الرحمن لشيخ قطر قاسم ابن ثاني وموافقته على استضافته، فانتقل الجمع إلى قطر، ولحقت بالإمام عبد الرحمن أسرته التي كانت في البحرين.

وبعد ذلك قصد الإمام عبد الرحمن الكويت بعد تسهيل الدولة العثمانية وقبول ابن صباح حاكم الكويت لذلك، فانتقلوا إليها من قطر سنة

1310 هـ[52] .

وفي الكويت تعلَّم عبد العزيز فنون السياسة، واختلط بأربابها، حيث كانت الكويت ميداناً للصراع السياسي، والتَّسابق الدولي إليها آنذاك.

وتابع عبد العزيز أخبار الصراع القائم في منطقة الخليج العربي

بين الإنجليز والألمان والروس والعثمانيين، وتتبع باهتمام مساعي الروس للوصول إلى مياه الخليج العربي، ومحاولات الألمان الوصول عن طريق

اتفاقهم مع العثمانيين إلى مدِّ سيطرتهم على البلاد العربية عن طريق إنشاء

ص: 408

خط حديدي يصل من برلين إلى بغداد، ومِنْ ثَمَّ تعطيل مصالح الإنجليز

في الخليج، والحد منها في الهند، حيث كان العثمانيون والألمان يتطلعون

إلى إنهائه في الكويت، بينما كان الإنجليز يعملون لتمكين سلطانهم في إمارات ومنطقة الخليج العربي، ويعارضون بشدَّة مدّ الخط الحديدي إلى الكويت [53] .

ومن ذلك ندرك مدى الأهمية الدولية التي كانت تتمتع بها الكويت والتي جعلت منها ميداناً للتصارع والتنافس الدولي إلى حين [54] .

وكان يحكم الكويت آنذاك أميرها الشيخ مبارك الصبَّاح، وكانت أيامه مليئة بالمناورات والمحاورات مع وفود الدول ومحاولته البعد ببلده عن صراع تلك الدول وأطماعها، بدهائه السياسي، والذي ما لبث أن انتهى بتوقيع معاهدة حماية سرية مع الإنجليز سنة 1316هـ/ 1899م وأعلنها بعد عامين [55] .

وكان عبد العزيز يرى كل ذلك ويرقبه ويتعلَّم منه، حيث كان الشيخ مبارك يرى في عبد العزيز علامات النجابة ويتوسم فيه الذكاء والألمعية وصفات العبقرية، فقرَّبه منه، وأجلسه بجواره، وتوقَّع له مستقبلاً كبيراً.

ومِمَّا سبق بيانه، وتأسيساً عليه يمكن القول أنَّ هنالك جملة من العوامل الهامَّة التي أثَّرت في شخصية الملك عبد العزيز ومجريات حياته وهي:

أولاً: العقيدة الإسلامية الصحيحة التي آمن بها، وتربَّى عليها وتخلَّق بها، فأثمرت فيه بوادر الخير والحرص على نفع الناس، ولمِّ شعث الأُمَّة وتوحيدها من جديد.

ثانياً: تلقيه بعض العلوم النافعة المفيدة، كدراسة القرآن الكريم، وبعض مبادئ الشريعة الإسلامية من توحيد وفقه.

ثالثاً: تربيته على معاني الرجولة، وتعليمه العادات العربية الأصيلة كركوب الخيل، واستعمال السلاح.

رابعاً: الظروف العصيبة التي مرَّت بها أسرته، وتنقلاته من الرياض إلى الدهناء، وعيشه بين القبائل، ثُمَّ سفره إلى البحرين فقطر، ومِنْ ثَمَّ استقراره في الكويت.

ص: 409

خامساً: عوَّدته الحياة على الصبر والتيقظ وعدم الغفلة والركون لأحد، ومُلِئ قلبه بأحاسيس العودة وتحرير الوطن.

سادساً: مشاركاته السياسية المبكرة، ويبدو أنَّ والده الإمام عبد الرحمن كان حريصاً على إعداد ابنه للمهمات السياسية بجانب المهمات العسكرية، ولهذا نجده يرسله مندوباً عنه مع آخرين لمفاوضة ابن رشيد إبان حصاره الرياض سنة 1307 هـ، مع أنَّ عمره لم يتجاوز الرابعة عشر، وكذلك نراه يرسله بعد سنوات قليلة إلى أمير البحرين ومتصرِّف الأحساء [56] برغبة الانتقال إليها.

ولا ريب أنَّ مثل هذه المهمات والمفاوضات السياسية جعلت منه رجل المهمات السياسية الكبرى في مقتبل أيامه [57] .

سابعاً: مدرسة الكويت السياسية، وقربه من الشيخ مبارك الصبَّاح، واطلاعه على خبايا الساسة، وسماعه لوفود الدول، وما كان بينها من صراعات على منطقة الخليج العربي، وبالذات الكويت، كُلّ ذلك أكسب عبد العزيز أفقاً سياسياً عالمياً، وأعطته دربة وتعليماً وحنكة في التعامل مع الناس، وتحقيق ما يصبو ويتطلَّع إليه.

ثامناً: حالة الهلع، والفزع، والخوف، والذعر، وعدم الأمن والطمأنينة التي كان يحسها ويشاهدها عبد العزيز على وجوه الناس، وفي قسماتهم، وما كانوا يتعرَّضون له من محن وظروف معيشية صعبة، واحتياجهم فعلاً لمن كان يلم شتاتهم، ويؤلِّف جمعهم، ويشد من أزرهم، ويقرب بينهم، كل ذلك أيقظ في نفس عبد العزيز معاني ودوافع كثيرة.

ص: 410

تاسعاً: وهذا أمرٌ هامّ، وهو أنَّ كُلَّ تلك الأسباب والمؤثرات ما كان لها أن تؤثِّر التأثير الإيجابي والمطلوب في شخصية الملك عبد العزيز لو لم يحالفها التوفيق من الله تعالى، ثُمَّ وجود وتوافر الاستعداد الفطري، والإحساس الذاتي، والتدفق العاطفي الصادق، المبني على الاقتناع العقلي المحض بأهمية وعظم المسؤولية الملقاة على عاتقه والتي كانت تنتظره وينتظرها، وكأن عبد العزيز كان على موعدٍ مع كل تلك الأحداث الجسام والتصاريف العظام وتدافعها بعضها مع بعض، ليحقق الله أمراً كان مفعولاً.

قال تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [58] .

المبحث الثاني: حالة الأمن في الجزيرة العربية قبل توحيد

الملك عبد العزيز لها

عاشت الجزيرة العربية قبيل توحيد الملك عبد العزيز لها حالات من الخوف وعدم الأمن والطمأنينة، وذلك لما ساد مجتمعات الجزيرة من انقسامات واختلافات كثيرة متنوعة آذنت باشتعال نار العداوة والفرقة والخلاف فيما بينها.

ويمكن لنا أن نوضِّح بعضاً من تلك الحالات غير الآمنة والتي سادت أقاليم الجزيرة العربية، في النقاط المختصرة التالية:

أولاً: الحجاز:

كان الحجاز يتبع الدولة العثمانية منذ مطلع القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، وكانت الإمارة فيه للأشراف، ولكنها لم تكن إمارة مطلقة، بل محدّدة وذات صلاحيات مقيَّدة من قبل العثمانيين.

ففي المدينة المنورة - مثلاً - كان هناك والٍ تركي، وكانت توجد معه حاميات تركية.

ص: 411

وأمَّا في مكَّة المكرَّمة فكانت الإمارة فيها للأشراف، والتي تنصرف غالباً للشؤون المحلية.

وهكذا استقل الأتراك بحكم المدن وأهملوا مناطق وبوادي الحجاز الداخلية.

وكان هذا الحكم الثنائي المزدوج الذي خضع له الحجاز من أهم عوامل تأخره واضطراب أحواله، واختلال الأمن في ربوعه؛ بل وانعدامه في بعض الأمكنة والأزمان [59] .

ونتيجةً لذلك عمَّت المشكلات الداخلية، وساد الاضطراب بين

القبائل، وأغارت بعضها على بعض، وأوجدت الأعراف القبلية فيما بينها والتي لم تستند على أصول شرعية أو قواعد فقهية معتبرة؛ بل استندت في مجملها إلى ما استحسنته عقولها البدوية القاصرة، فلم ترو عطش الناس إلى العدل، ولم تشبع نفوسهم المتطلعة إلى الحق، ولا قلوبهم المشرئبة إلى الأمن والطمأنينة.

كذلك كان الحال بالنسبة للحجاج الذين يفدون من كل حدب وصوب لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، كانوا لا يأمنون على أنفسهم ولا على أموالهم وأمتعتهم في كثيرٍ من الأحيان.

يقول حسين نصيف موضِّحاً حالة الأمن في الحجاز في عهد الشريف حسين المدعوم من الدولة العثمانية والحاكم باسمها:

"إنَّ الأمن في عهد الحسين لم يكن شيئاً إلَاّ في جهات قليلة من جدَّة بحراً، فالسواحل الحجازية، وبرّاً من جدَّة إلى مكَّة، فمنى، فعرفة، فمزدلفة إلى الطائف. أمَّا طرق المدينة فالكل يعلم أنَّه غير قادر على أن يقيم الأمن فيها وذلك بتعدِّي – بعض – القبائل على الطريق وأخذ الضرائب من الحجَّاج، ورجوع القوافل الزائرة مرَّات عديدة منكصة على أعقابها إلى مكَّة، وكان الأمن في أيام تركيا كما كان عليه أيام الحسين إن لم يكن أقل من ذلك"[60] .

ويزيد الأمر وضوحاً رابح لطفي جمعة بقوله:

ص: 412

"كان الحجاز تحت حكم هذا الشريف - أي الشريف حسين - مرتعاً خصباً للنهب والسلب والقتل وقطع الطريق والاحتيال والنصب بمختلف الطرق الملتوية وأساليب الدجل والشعوذة. وكان الحج في عهده سلسلة من المشقات، بل كان نوعاً من المغامرة والمجازفة، بعد أن انتشرت جرائم الحرامية [61] وعصابات قطع الطريق على حجاج بيت الله الحرام، وكان الناس يُحَذِّرون المسافرين من أخطار الطريق، وكان مَنْ يُريدُ الحجّ يودِّع أهله وداع مفارق لا عودة له بسبب سوء حالة الأمن واضطرابه، وكانوا يقولون: "الذاهب للحج مفقود، والعائد منه مولود" [62] .

ويقول حسن عبد الحي قزاز، موضِّحاً جوانب أخرى من حالات انعدام الأمن في الحجاز:

"باتت السرقة الفردية أمراً شائعاً وبخاصة في أراضي الحجاز، حيث كانت السرقات، وقطع الطرق، تمتد إلى البحر، فتضاف إليها القرصنة أيضاً.

ولا عجب في ذلك.. فسلطة الدولة العثمانية - وكذا الأشراف - ضعيفة إلى درجة العدم، والفقر يعض الناس بأنيابه الحادَّة، والمراكب المحمَّلة بالبضائع على شواطئ البحر الأحمر وقوافل حجاج بيت الله الحرام ما بين مكَّة المكرَّمة والمشاعر المقدَّسة والمدينة المنورة، كُلُّ ذلك كان سبباً

في انفلات حبل الأمن انفلاتاً تامّاً، وفي اتخاذ اللصوص أماكن آمنة في

مكَّة المكرمة ذاتها، فكان هناك جبل للصوص يلجأون إليه عندما يريدون تصفية حساباتهم.

وكانت القبائل - من جهتها - تحاول أن تحمي السارقين من أبنائها، بأن تجمع مالاً يعطى لصاحب الحق كي يتنازل عن حقه، أو تصالحه على التنازل عن بعضٍ منه..

إلى أن قال:

ويمكن إيجاز الوضع حتى عهد الملك عبد العزيز - يرحمه الله -

كما يلي:

ص: 413

- لا أمن في البوادي على الإطلاق، والمغازي متبادلة بين القبائل، وصارت البندقية غالباً بديلاً عن السيف، وكان هَمُّ كُل قبيلة أن تحمي نفسها وأبناءها بالقوة حيناً، وبالمصالحة حيناً آخر، وبالمهادنة في بعض الأحايين.

- وكانت القرى البعيدة عن المدن هدفاً دائماً للغزاة من بعض البدو، ولذا فقد كان القرويون يبذلون جهودهم لحماية أنفسهم بإمكاناتهم الذاتية، ولكن الغلبة تكون أكثر الأحيان للغزاة؛ فلا أمان في الريف أيضاً.

- أمَّا في المدن؛ فقد كان الحال أفضل قليلاً، ولكن ليس إلى الحد الذي يجعل الناس يشعرون بالأمان، فالأجهزة الأمنية محدودة، وقليلة الخبرة، وعديمة الاكتراث..

وبوجهٍ عام عادت كل تقاليد الجاهلية في العلاقات بين القبائل، والريف، والحضر، ولكن تطبيقها بات يخضع لمفاهيم أخرى في معظم الأحيان.. وكانت الفوضى تضرب أطنابها، والرعب يسيطر على الجميع، والخوف هو السائد" [63] .

هكذا كان حال الحجاز، وهكذا كان حال الأمن فيه: خوف، ورعب، وهلع، وعدم اطمئنان بين الناس، وانتشار لبعض العادات السيئة والمحرَّمة بينهم، كقطع الطريق، والسرقة، وغارة القبائل بعضها على بعض، وانتهاب الأموال، وعدم مراعاة حرمة الناس التي أمر الله تعالى بها.

كذلك ساد الخوف بين الحجَّاج، وخاصَّةً في الطرق المؤدِّية إلى مكَّة المكرَّمة؛ حيث كان بعض أبناء القبائل يمتهنون إيصال الحجَّاج إلى مكَّة، وتأمين الطريق لهم نظير مبلغ من المال، ولكن كان الأمن ينفلت من أيديهم لأسبابٍ كثيرة لعلَّ منها عدم قدرتهم على تأمين الطريق كاملاً، وكذا عدم إيفاء حقوقهم المالية المتفق عليها من قبل العثمانيين، أو الأشراف أو المطوفين في بعض الأحيان، أو من قبل الحجاج أنفسهم في أحيان أخرى.

ثانياً: نجد:

لم تكن نجد أحسن حالاً من الحجاز، فقد كانت تخضع لحكم

آل الرشيد بعد زوال حكم آل سعود فترة من الزمن عنها.

ص: 414

وكان عبد العزيز بن متعب آل الرشيد معروفاً بالظلم والقسوة والجور والشِّدَّة، فعانى الناس من حكمه الويلات، وخاصّةً كثرة الضرائب، ومع ذلك لم تأمن في عهده السبل؛ بل عانت من اضطرابات أمنها، وتدهور في اقتصادها، وضعف في دينها وعقيدتها، وانتشارٍ للجهل والخرافات.

يقول الدكتور محمد عبد الله السلمان، مصوراً الحالة التي كانت تعيشها منطقة نجد وما كانت تعاني منه من انقسامات وتأخر وانعدام للأمن فيها:

"لقد كانت نجد في فترة ظهور الملك عبد العزيز في حالة سيئة، منها انعدام الأمن والرخاء، وعدم استقرار الأحوال في البادية والحاضرة على السواء، فعلى الرغم من تلك الوحدة السياسية - المؤقتة - التي حصلت في نجد على يد محمد بن عبد الله بن رشيد - إثر انهيار حكم آل سعود فيها نتيجة تكالب عوامل عديدة عليهم - إلَاّ أنَّ سياسة عبد العزيز بن متعب بن رشيد خلخلت هذه الوحدة - المزعومة - والتي كانت قبل عِدَّة سنوات عبارة عن عِدَّة إمارات إقليمية في الحاضرة، حيث تشمل إمارة الجوف، وإمارة تيماء في شمال نجد، وإمارة حائل، وإمارة بريدة، وإمارة عنيزة، وإمارة الرياض وتوابعها. وفي البادية كانت توجد عِدَّة وحدات قبلية، تصل إلى حوالي عشرين وحدة قبلية، وكل واحدة من الوحدات الإقليمية والقبلية لها من النفوذ والسلطان، وبينها من النزاع والخلاف والحروب الشيء الكثير.

ص: 415

وكانت سياسة عبد العزيز بن متعب بن رشيد سبباً في عودة بعض هذه الوحدات إلى ما كانت عليه من نزاع واضطراب وثورات، وكانت القوافل التجارية بين مدن نجد وقراها تحمى بمجموعة من الرجال يحملون السلاح، كما كانوا أيضاً يصطحبون معهم رجلاً من كُلِّ قبيلة من القبائل التي يجتازون أرضها، ويُسَمَّى:"الرفيق"أو "رفق"، ويدفعون له مالاً يُرْضيه، ومع ذلك فإنَّ هذه الاحتياطات قد توفر لهم نوعاً من الوقاية والنجاة، ولكنها لم تكن ضامنة لسلامتهم ضماناً تامّاً، بل تظل أموالهم عرضة للنهب، وحياتهم مهدَّدة بالقتل، وذلك إذا اصطدموا بغزاة لا تفيد معهم الأسباب التي اتخذوها، إمَّا لقوَّتهم أو لكثرة عددهم، أو لأسباب أخرى عديدة. ووجد من بعض العشائر مَنْ يقوم بحماية القاتل علانيةً وتفتخر بهذا العمل.

وكانت عادة الغزو بين القبائل متأصلة في نفوس أفرادها حتى إنَّ الذي لا يشارك في الغزو والسلب والنهب لا يستحق الاحترام من أفراد القبيلة.

وهكذا كان لسوء الحالة الأمنية في نجد قبيل عهد الملك عبد العزيز - يرحمه الله - الأثر الكبير في تدهور الحالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية بسبب عدم توفر السلطة المركزية القوية العادلة المطبقة لشريعة الله تعالى بين الناس" [64] .

ثالثاً الأحساء:

كانت الأحساء قبيل ظهور الملك عبد العزيز تابعة للدولة العثمانية، وذلك منذ العام 1288هـ، وكانت حالتها الأمنية والسياسية والاجتماعية سيئة جداً، ولا تقل عن الحالة في الحجاز أو نجد. فقد كانت الحامية التركية في المنطقة تحكم حكماً يتَّسِم بالظلم والجَوْر وعدم مراعاة الحق والعدل بين الناس، مع زيادة الضرائب على الأهالي وإرهاقهم مع محدودية دخولهم، الأمر الذي جعل الناس يضيقون ويتبرَّمون ويشتكون من مظالم الولاة العثمانيين.

ص: 416

أضف إلى ذلك كله أنَّ هيبة الحامية التركية أخذت في الضعف والانحدار مِمَّا جعل الأمن غير مستتب في المنطقة، الأمر الذي أدَّى إلى عجز العثمانيين عن تأمين المنطقة ودروبها من اللصوص وقُطَّاع الطرق، كما عجزوا عن تأمين أرواح الناس وأموال المسافرين وتجاراتهم في الطُّرُق الصحراوية.

ونتيجةً لذلك كله فقد أصبح سلطان العثمانيين محدوداً في مدن منطقة الأحساء، وفقدوا السيطرة على بقية المنطقة، وانشغل العثمانيون بمشاكلهم العسكرية حينذاك في آسيا.

ومن خلال ذلك كله تتضح الحالة التي كانت تعاني منها منطقة الأحساء، ومدى كرههم للحكم التركي، وما جرَّه عليهم من مشكلات وويلات لا قبل لهم بها، مِمَّا حدا بالبادية إلى التمرُّد على السلطة العثمانية، وخاصة قبائل العجمان وآل مرّة، وكان رؤساء القوافل التجارية يضطرون إلى دفع الإتاوات إلى رؤساء هذه القبائل التي يمرون بمواطنها، وكانوا يصطحبون معهم قوة عسكرية - أحياناً - لتأمين القافلة ضد قُطَّاع الطرق، وفي أحيان أخرى كان التاجر يضطر إلى دفع - الإخاوة - وهي مثل الإتاوة للقبائل التي تمر بها تجارته أو قافلته [65] .

رابعاً: منطقة عسير وجيزان:

لم تكن عسير وجيزان وبقية مناطق جنوب الجزيرة العربية بأحسن حالاً من بقية المناطق الأخرى.

فمثلاً منطقة عسير كانت تحت حكم العثمانيين، ثُمَّ استقلَّ بها حسن آل عائض، ودارت بينه وبين الأدارسة معارك وصراعات عنيفة منذ عام 1337هـ، والذي انتهى بهزيمة الأدارسة.

وكانت عسير في كلا العهدين التركي وآل عائض، غير مستقرة

ولا آمنة، فالطرق مخوفة، والجهل سائد، والفتن والحروب قائمة بين القبائل.

ص: 417

كذلك الحال كان بالنسبة لجيزان وما جاورها من مناطق أخرى ترزح تحت نير الحروب بين الأتراك والأدارسة بقيادة محمد علي الإدريسي، والذي لم تستقر له الأمور إلَاّ في عام 1337 هـ. ونتيجةً لذلك كله فقد عمَّت الفتن والحروب بين قبائل المنطقة، وساءت الحالة الأمنية بين الناس، وتعرَّضت الطرق للقطع والنهب والسلب [66] .

وهكذا تتضح صورة الحالة الأمنية في الجزيرة العربية قبيل عهد الملك عبد العزيز، ومدى ما كانت تعانيه من خوف وهلع وعدم أمن، ونهب وسلب للأموال والممتلكات، الأمر الذي أدَّى إلى تأخر أحوال الناس الاجتماعية والاقتصادية والعلمية، وذلك راجعٌ إلى عدم وجود مَنْ يقوم على أمر الناس، ويلم شعثهم، ويوحِّد كلمتهم، ويطبِّق شريعة الله تعالى بينهم، حتى أذن الله تعالى ووفَّق عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود لتوحيد هذه البلاد، ولَمِّ شملها، ورأب صدعها، وتجميع قوتها في كيانٍ واحدٍ هو المملكة العربية السعودية، مضرب المثل في الأمن والأمان والاستقرار في هذا العالم.

فكيف تمَّ للملك عبد العزيز كُلّ ذلك؟

وكيف قام بتوحيد تلك المناطق والبلدان البعيدة والنائية بعضها عن بعض، والتي كانت مضرب المثل في الخوف وعدم الأمن؟

وكيف أسهمت تلك الوحدة في إرساء قواعد الأمن بين الناس وجعلته مطلباً هامّاً وضرورةً ملحّة لكلّ فرد من أبناء هذه البلاد يحافظ عليه ويدعمه ويدعو الله تعالى أن يديمه ويوفق القائمين عليه؟

هذا ما سوف نتعرَّف عليه في الصفحات التالية بإذن الله تعالى.

المبحث الثالث: أبرز جهود الملك عبد العزيز في توحيد المملكة العربية السعودية ونشر الأمن فيها

وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: فتح الرياض:

ص: 418

بعد استقرار الملك عبد العزيز في الكويت مع أبيه وأسرته، وضياع سلطانهما، وتشريدهما من قبل محمد بن رشيد، عمَّت الفوضى في نجد، وأغارت القبائل بعضها على بعض، ولم يأمن أحد الآخر. وكانت جزيرة العرب عبارة عن إمارات أو بمعنى أصح قبائل تتخذ صفات وأشكال الإمارة أو الدولة، وكانت كل إمارة تتطلع إلى ضم الأخرى إليها ولو بالقوّة، ولذا عمَّت المشكلات وازدادت الحروب في داخل الجزيرة العربية، وطمع فيها الطامعون.

وكان عبد العزيز يرقب كل هذا وهو في الكويت ويتحين الفرصة المواتية لتوحيد الجزيرة ولَمِّ شعثها وجبر كسرها من جديد.

وفي تلك الأثناء توفي محمد بن رشيد أمير حائل وما تبعها، وتولَّى الإمارة بعده ابن أخيه عبد العزيز بن متعب بن رشيد الذي كان يطمع في ضم الكويت إلى إمارته وتوسيعها إلى حدود البحر، وكانت الدولة العثمانية تدعمه في تحقيق هذا الحلم التوسعي وتمده بالمال والعتاد لِمَا رأت من تقارب أزعجها بين الشيخ مبارك الصبَّاح أمير الكويت وبين الحكومة البريطانية الذي ما لبث أنْ تأكَّد وتوج بمعاهدة حماية أصبحت بموجبها الكويت محمية بريطانية إلى حين [67] .

ونتيجةً لذلك كله عنَّ للشيخ مبارك الصبَّاح أن يغزو ابن رشيد في عقر داره، فجمع من أجل تحقيق هذا الهدف قوة بلغت عشرة آلاف مقاتل وسار بهم في سنة 1318هـ- 1900م وبرفقته الإمام عبد الرحمن وابنه عبد العزيز الذي اقترح عليه أن ينحاز بفرقة من الجيش ويذهب بها إلى الرياض لاقتحامها، وفتحها وتخليص أهلها، وفي ذلك أيضاً إشغال لابن رشيد وتشتيت ذهنه وقوته بين جبهتين، وفي هذا إضعافٌ له.

ص: 419

وفعلاً سار عبد العزيز على رأس قوة صغيرة ودخل الرياض، وحينما كان يحاول الاستيلاء على المصمك بلغه هزيمة الشيخ مبارك الصبَّاح في موقعة الصريف على يد ابن رشيد في القصيم يوم 17 ذي القعدة 1318 هـ، وحينئذٍ دعاه أبوه للعودة إلى الكويت، فأجابه لذلك، وانصرف إليها بمن معه بعد أن عرف الرياض وأحوال أهلها وترحيبهم له [68] .

وبعد رجوع عبد العزيز إلى الكويت لم يطب له المقام فيها بعد أن كان قاب قوسين من النصر أو أدنى، ففاتح أباه والشيخ مبارك برغبته في تكرار محاولته فتح الرياض مرَّة ثانية، فخاف الشيخ مبارك من مغبة هذا الأمر على بلده الكويت، ولم يجبه أبوه بغير الصدِّ والرفض [69] .

وفي العام التالي أعاد عبد العزيز على مسامع أبيه والشيخ مبارك طلبه وألحَّ في ذلك حتى حصل له ما أراد وأمدَّه الشيخ مبارك ببعض المال والسلاح [70] .

سار عبد العزيز من الكويت على رأس قوة صغيرة في نحو ستين راكباً من خلص آل سعود وأتباعهم ومواليهم، وكان ذلك في شعبان من سنة 1319هـ، وسلك بهم طريقاً غير مألوف إمعاناً في إخفاء أمرهم والتمويه على عدوهم.

وهنا يذكر بعض المؤرخين أنَّه التحق بعبد العزيز في طريقه إلى الرياض بعض أبناء القبائل وطالبي المغانم حتى وصل عددهم قرابة الألف رجل، وقام بالإغارة على بعض مضارب البادية من قحطان ومطير، الأمر الذي أقلق ابن رشيد المعسكر في الحفر وجعله يطلب نتيجةً لذلك الإمدادات المالية والعسكرية من الأتراك [71] .

وعندما سار عبد العزيز إلى الرياض وقارب على وصولها لم يبق معه سوى ستين رجلاً وهم الذين خرج بهم من الكويت.

تفقَّد عبد العزيز رجاله، ووضع خطة حربية محكمة لدخول الرياض، واقتحام حصن المصمك الذي يحتمي فيه عجلان عامل ابن رشيد [72] .

وفعلاً نفَّذ عبد العزيز خطته الجريئة التي تدلّ على عبقريته وحنكته وشجاعته وتقديره للأمور.

ص: 420

وكانت خطته تقضي بتقسيم مَنْ معه إلى ثلاثة أقسام:

قسم أبقاه خارج المدينة للاحتياط، وقسم رديف، وقسم سار به إلى داخل المدينة، حيث استطاع بهم دخول أحد بيوت عجلان بن محمد العجلان عامل ابن رشيد على الرياض عن طريق بيت مجاور له.

وتبين لعبد العزيز بعد ذلك أنَّ عجلان لا ينام في البيت وإنَّما في داخل الحصن، ولا يخرج إلى البيت إلَاّ بعد صلاة الفجر.

وهنا وضع عبد العزيز خطة لاغتيال عجلان حين خروجه من الحصن، وكانت هنالك بضع ساعات حتى يحين شروق الشمس ويخرج عجلان من الحصن، فأمضاها عبد العزيز وصحبه بأكل بعض ما يحملونه من تمر وبشرب القهوة وأداء صلاة الصبح والتداول في أمرهم.

وما أن فتح باب الحصن وخرج عجلان وعشرة من رجاله إلَاّ واندفع عبد العزيز مع بعض رجاله الأشاوس للفتك بعجلان ومَنْ معه، تاركين وراءهم أربعة منهم داخل البيت ليساعدوهم ويحموهم بنيرانهم.

ارتدَّ رجال عجلان إلى داخل الحصن حينما رأوا الصقور الجارحة تنقض عليهم، تاركين خلفهم عجلان وحده خارج بوابة الحصن. صوَّب عبد العزيز بندقيته وأطلقها تجاه عجلان، ولكنه أصابه في غير مقتل، فسقط السيف من يده، وانفتل [73] راجعاً يريد باب القصر. وعدا عبد العزيز وراءه فأدركه وهو يقفز داخلاً، فأمسك برجليه يجرهما، وتعلَّق عجلان بيديه في الداخل، ورماه فهد بن جلوي بحربة أخطأته واستقرَّت في الباب إلى اليوم. وتمكَّن عجلان من استجماع قوته ولبط [74] عبد العزيز في بطنه، مِمَّا ساعده على الفرار إلى داخل الحصن، وعندها لحق به عبد الله بن جلوي فقضى عليه.

ودارت معركة شرسة داخل الحصن انتهت بانتصار عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، والمناداة باسمه في أعلى برج في القلعة: أن الحكم لله ثُمَّ لعبد العزيز بن سعود.

ص: 421

وكان ذلك اليوم إيذاناً بفتح عظيم في جزيرة العرب تحقق فيه ما كان ينشده الناس من أمنٍ وأمان وطمأنينة واستقرار. وقد تمَّ ذلك في الخامس من شهر شوال سنة 1319هالموافق 12 كانون الثاني 1902 م [75] .

ومنذ ذلك اليوم ابتدأت انتصارات عبد العزيز تتلاحق، فاستمرَّت أكثر من ثلاثين عاماً حتى استطاع توحيد أقاليم جزيرة العرب ويقيم فيها المملكة العربية السعودية واحة الأمن والأمان، ويمكن لنا أن نجمل النتائج المهمة التي تمخَّضت عن استرداد الملك عبد العزيز للرياض فيما يلي:

أولاً: يمثل فتح الرياض البداية الحقيقية لانطلاقة عبد العزيز نحو توحيد المملكة العربية السعودية عامَّة.

ثانياً: بدأت تعود للرياض أهميتها وثقلها السياسي وأمنها واستقرارها.

ثالثاً: يعتبر استرداد الرياض بداية نهاية حكم آل الرشيد لعامَّة نجد والذي بدأ بعد موقعة حريملاء عام 1309 هـ، وقبلها بشهور موقعة المليدا عام 1308 هـ، وبذلك استمر عشر سنوات فقط.

رابعاً: ابتداء ظهور شخصية الملك عبد العزيز وأهميته وفاعليته السياسية في الداخل والخارج.

خامساً: استبشار الناس بفتح الرياض، سواء في داخل نجد، أو خارجها، وكذلك الشيخ مبارك الصبَّاح الذي رأى فيه ردّاً لاعتباره في موقعة الصريف.

سادساً: كما كان لاسترداد الرياض صداه الطيب داخل الجزيرة العربية وخارجها، ومن ذلك ما حصل عند الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله تعالى - الذي كتب محييا انتصار عبد العزيز آل سعود، على صفحات مجلته الشهيرة المنار التي كانت تصدر في القاهرة بمصر، وواصفاً إياه بأنَّه أعلم وأرحم، أمَّا ابن رشيد فهو أجهل وأظلم [76] .

وخلاصة القول:

ص: 422

أنَّ فتح الرياض واستردادها يمثل بداية صفحات جديدة من الجهاد والأمن والتوحيد المضني الذي قام به الملك عبد العزيز - رحمه الله تعالى - لأجزاء ومقاطعات جزيرة العرب المترامية الأطراف، والمتباعدة الأماكن، والمختلفة الانتماءات والتوجهات، حيث كان آل الرشيد في حائل ومعظم نجد، والأتراك في الأحساء، والأشراف في الحجاز، وآل عائض والأدارسة في عسير وتهامة. أضِف إلى ذلك تنامي أطماع الدول في المنطقة وتطلعها إليها: كبريطانيا، وألمانيا، وروسيا، وغيرها.

ولكن مع كُلِّ تلك الاعتبارات والمصاعب والتحديات، حمل الملك عبد العزيز - رحمه الله تعالى - على عاتقه أمانة توحيد تلك الأجزاء، ونشر الأمن فيها، وبذل في سبيل ذلك النفس والنفيس، حتى أفنى زهرة شبابه وسني كهولته في سبيل تحقيق ذلك الحلم، والتي كانت بدايته ومنطلقه فتح الرياض.

المطلب الثاني: توحيد نجد والأحساء:

أولاً: توحيد نجد والقصيم وحائل:

انطلق الملك عبد العزيز بعد استرداده للرياض في توحيد المقاطعات النجدية، حيث ضم مناطق جنوب نجد كالخرج والأفلاج والحوطة والحريق ووادي الدواسر، دون معاناة تذكر، لأنَّه وجد ميلاً وترحيباً من الناس هناك، وتَمَّ كُلّ ذلك في ظرف ستة شهور، وتوطَّد سلطان عبد العزيز في تلك المناطق [77] .

أمَّا عبد العزيز بن متعب بن رشيد فكان معسكراً في الحفر، وعلم بسقوط الرياض، ولكنه كان يمني نفسه بالاستيلاء على الكويت، لأنَّه كان يراها أصلاً والرياض فرعاً، فإذا قضى على الأصل المموِّن سقط الفرع المموَّن.

وهكذا صارت أحلام ابن رشيد هباءً منثوراً، ولم يستفق إلَاّ على الانتصارات المتوالية التي تؤكِّد سلطان عبد العزيز وتقويه في نجد.

ص: 423

حينئذٍ سار ابن رشيد على رأس جيشه متوجهاً إلى الرياض، والتقى مع عبد العزيز في معركة الدلم وبين أشجار النخيل في منتصف عام 1320 هـ، والتي انتهت بانسحاب ابن رشيد إلى حائل ورجوعه معسكراً في الحفر [78] .

وحصل أن طلب الشيخ مبارك الصبَّاح النجدة من عبد العزيز آل سعود في نجدته ضد هجمات ابن رشيد على عربان وبوادي الكويت، ولبَّى عبد العزيز تلك النجدة وسار إليه على رأس قوة يقودها بنفسه. ولكن ما أن وصل عبد العزيز إلى الكويت لنجدة آل الصبَّاح إلَاّ وتنامت الأخبار إليه بهجوم ابن رشيد على الرياض، ولكنه كان هجوماً فاشلاً، وذلك بسبب صمود الإمام عبد الرحمن مع قوة كبيرة داخل الرياض [79] .

ونتيجةً لذلك عقد عبد العزيز العزم على ضم القصيم، وتوطيد الأمن فيها بعد طول نزاع وخوف وتناحر، فسار لتحقيق هذا الهدف الهام، ولِمَا كان يمثله القصيم آنذاك من ثقل وترجيح لميزان القوى العسكري، والتأييد الشعبي.

استطاع عبد العزيز آل سعود من هزيمة سرية لابن رشيد في منطقة السِّر يقودها - حسين بن جراد - والذي قتل في المعركة سنة 1321 هـ[80] .

وهكذا وصلت حدود عبد العزيز إلى منطقة القصيم فقوي شأنه. وفي تلك الفترة وصل أمراء بريدة - آل مهنا، وأمراء عنيزة - آل السليم من الكويت، فقوى بهم عضده وبمن كان معه من أتباع، وسار بهم إلى عنيزة واستولى عليها بعد هزيمة قوات ابن رشيد فيها، وذلك في 5 محرم 1322هـ.

وواصل ابن سعود تقدمه في القصيم، فدخل بريدة بسهولة، ولكنها لم تسلَّم له كلياً إلَاّ في أوائل ربيع الأول 1322 هـ[81] .

وفي خضم تلك الأحداث استنجد ابن رشيد بالدولة العثمانية فأمدته بالمال والرجال، وزحف بجموعه والتقى مع عبد العزيز في معركة البكيرية المشهورة في ربيع الآخر عام 1322هوالتي انتهت بتفوق ابن رشيد وانحسار جيش عبد العزيز، وذلك راجعٌ لعدم تطبيق بعض فئات الجيش خطة عبد العزيز في المعركة [82] .

ص: 424

ولكن هكذا الحرب، وهكذا القتال والنزال، كرٌّ وفرّ، إلى أن تثبت الأقدام، وهذا ما حصل مع عبد العزيز آل سعود حينما لَمَّ شعثه، ورتَّب جنده، وتفقَّد أتباعه، ووثق منهم، فجاءت معركة الشنانة بينه وبين ابن رشيد في غرب الرس في 18 رجب 1322هلتمسح آثار هزيمة البكيرية، وتعيد النصر لابن سعود [83] .

بعد موقعة الشنانة، توقف القتال في نجد، وأخذت الدولة العثمانية تعيد النظر في موقفها من ابن سعود ومن دعمها اللامحدود لابن رشيد، فحاولت مفاوضة ابن سعود وعقد صلح بينه وبين ابن رشيد، يقضي بأن تبقى منطقة القصيم محايدة تحت سلطة الدولة العثمانية مباشرةً، وما كان شمالها تابعاً لابن رشيد، وما كان جنوبها تابعاً لعبد العزيز آل سعود، ولكن هذا العرض لم يرضِ ابن سعود فتوقَّفت المفاوضات.

وفي تلك الأثناء هَبَّ عبد العزيز آل سعود إلى نجدة حاكم قطر الشيخ قاسم آل ثاني لإخماد فتنة داخلية في بلاده.

استغل عبد العزيز بن متعب بن رشيد فرصة غياب ابن سعود عن نجد فأراد أن يهاجم منطقة القصيم وينكل بأهلها ويثأر منهم، وجاء بجيشه فعسكر في روضة مهنا شرق بريدة، وحينما عاد عبد العزيز آل سعود من قطر سمع بذلك التجمُّع فنظَّم قواته ووحَّد صفوفه، والتحم مع ابن رشيد في موقعة روضة مهنا الشهيرة، والتي انتهت بمصرع ابن رشيد وهو ينادي في ظلمة الليل على حامل رايته من هان يا لفريخ، من هان يا لفريخ، وكان له من العمر خمسون عاماً، وتدعى هذه الموقعة أيضاً عند بعض المؤرخين بذبحة ابن رشيد، وكان ذلك في ليلة 18 صفر 1324 هـ[84] .

وبعد مصرع ابن رشيد ضعف حكام حائل من آل الرشيد، ودبَّ الخلاف والنزاع بينهم، وقتل بعضهم لبعض، مع حدوث معارك بينهم وبين عبد العزيز آل سعود، حتى انتهى الأمر إلى تجريد ابن سعود بعض الجيوش لمحاصرتها، والتي انتهت بدخول حائل وضمها للدولة السعودية في 29صفر1340 هـ[85] .

ثانياً: ضم الأحساء:

ص: 425

في أوائل عام 1331هوجد عبد العزيز آل سعود أنَّ الوقت ملائمٌ جداً لضم الأحساء وإرجاعها إلى دائرة الدولة السعودية، حيث كانت الدولة العثمانية تغوص في مشاكل عِدَّة، والظروف الداخلية مناسبة، فسار متخفِّياً ومموهاً على قبائل العجمان وبني مرّة سيره حتى لا يعترضوه في طريقه حتى وصل إلى الهفوف قاعدة الأحساء بستمائة من رجاله، ووضع خطة حربية تقوم على اقتحام سور (الكوت)[86] وإعلان الحكم لابن سعود.

وحينئذٍ فوجئت الحامية التركية بذلك فسلَّمت في اليوم التالي. وهكذا سقطت الهفوف ومن بعدها القطيف، وغادر بذلك الجنود الأتراك الأحساء إلى العراق عن طريق البحر [87] .

وكان من نتائج توحيد الملك عبد العزيز لمناطق نجد والقصيم وحائل والأحساء استتباب الأمن فيها بعد أن كان شبه مفقود، وترك القبائل عادة النهب والسلب وشن الغارات بعضهم على بعض، وهذا من أهم المكاسب التي جنتها تلك المناطق في دخولها دائرة الدولة السعودية، الأمر الذي مكَّنها بعد ذلك من النهوض والارتقاء وتحسين مستوى المعيشة والدخل والتنمية في جميع المجالات.

المطلب الثالث: ضم الحجاز وعسير وتهامة:

أولاً: ضم الحجاز:

كان يحكم الحجاز قبل الملك عبد العزيز الشريف حسين من قبل الدولة العثمانية، وكانت للشريف حسين بعض المطامع والتطلعات والتحالفات مع بعض الدول لتقوية جانبه وتعزيز مركزه في البلاد العربية.

كذلك لم يهتم الشريف حسين بالأوضاع الداخلية في الحجاز حيث كان الجهل وانتشار بعض البدع وانصراف كثير من الناس عن فهم

الإسلام وعقيدته الصافية، وشيوع الخوف وعدم الأمن في مضارب وبوادي الحجاز.

ولم تكن العلاقة حسنة بين عبد العزيز آل سعود وبين الشريف حسين لتحرُّشات الشريف بالبلاد النجدية ومهاجمته أطرافها، وأسره لسعد بن عبد الرحمن آل سعود شقيق الملك عبد العزيز، وفداؤه بعد ذلك منه [88] .

ص: 426

وحينما قامت الحرب العالمية الأولى عملت بريطانيا دوراً كبيراً، وولَّدت وهماً عريضاً لدى الشريف حسين بأنَّه سيصبح وريث الدولة العثمانية في حكم العرب، وسوف يتوج ملكاً عليهم، وزاد من هذا الوهم عند الشريف ما تحصل عليه من عتاد عسكري من الحامية التركية في المدينة المنورة بعد أن أعلن عن ثورته على الأتراك [89] .

وبدأ الخلاف بين الشريف حسين وعبد العزيز آل سعود على ترسيم الحدود وتفاقم الخلاف بينهما حتى كانت موقعة تربة والتي انتصر فيها عبد العزيز على قوات الشريف حسين انتصاراً ساحقاً بقيادة خالد بن لؤي وسلطان بن بجاد، وكان ذلك ليلة 25 شعبان 1337 هـ، وسقط جيش الشريف بأكمله بقيادة ابنه عبد الله، ودكَّت قوته ولم تقم له بعد ذلك قائمة [90] .

وتنازل الشريف حسين لابنه علي عن الحكم بعد ذلك رغبةً في إيقاف عبد العزيز عن التقدم إلى الحجاز وطلب المدد من الخارج، ولكن كل ذلك لم يفد، حتى دخل الجيش السعودي مكة المكرمة ظافراً منتصراً دون قتال ومحرمين بالعمرة في 17 ربيع الأول 1343 هـ، ثُمَّ وصل السلطان عبد العزيز إلى مكة المكرمة في 7 جمادى الأولى 1343 هـ، وبعد ذلك حاصر عبد العزيز الشريف علي بن الحسين في جدة، وبعد عام طلب الصلح وسلَّمه المدينة ورحل عنها.

كما حاصرت القوات السعودية المدينة المنورة حتى سلمت الحامية العسكرية فيها للأمير محمد بن عبد العزيز آل سعود في 19 جمادى الأولى سنة 1344 هـ[91] .

وهكذا تمَّ للسلطان عبد العزيز ضم الحجاز إلى مملكته الفتيَّة، وكان من نتائج ذلك استتباب الأمن في تلك المناطق، وخلود الناس إلى السكينة والهدوء بعد أن كانت تموج بالفتن والاضطرابات.

كذلك كان من نتائج ضم الحجاز أن بايع أهله السلطان عبد العزيز فأصبح لقبه ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاته.

ص: 427

وفي 25 رجب 1345هغير لقب السلطان إلى ملك، فأصبح لقبه ملك الحجاز ونجد وملحقاته، وأبلغ الملك عبد العزيز ذلك التغيير إلى الدول الأجنبية فاعترفت به [92] .

كذلك كان من نتائج ضم الحجاز أن عقد الملك عبد العزيز أول مؤتمر إسلامي عام في مكة وحضره وفود عدة دول إسلامية سنة 1344 هـ، وفي ذلك تقوية لمركز الملك عبد العزيز وتأكيد الاعتراف به، ورفعة مكانته بين الدول الإسلامية [93] .

ثانياً: ضم عسير وبقية مناطق الجنوب:

كانت عسير ضمن حدود الدولة السعودية الأولى، ولكن بعد سقوطها على يد والي مصر محمد علي باشا أصبحت تابعة له، ثُمَّ تبعت الدولة العثمانية حتى استطاع - عائض بن مرعي - تكوين إمارة مستقلة وأخرج الأتراك منها، والذين ما لبثوا أن عادوا عام 1288 هـ، وصارت تابعة لهم. ولما هزمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى استقل حسن بن علي آل عائض بتلك المنطقة، وكان يميل إلى الشدَّة مع الناس الذين تطلعوا بعد ذلك إلى الملك عبد العزيز ليمنع الحسن من ظلمهم، فأرسل له الملك عبد العزيز وفداً من العلماء لتقديم النصح والإرشاد لما ينبغي أن يكون عليه في معاملة الناس، ولكن حسن آل عائض فسر ذلك على أنَّه تدخل من الملك عبد العزيز في شؤونه، بل وهدد باحتلال بيشة، كل ذلك أدى بالملك عبد العزيز إلى تجهيز جيش بقيادة ابن عمه عبد العزيز بن مساعد بن جلوي، الذي التقى بحسن آل عائض، وهزمه في معركة وأسر فيها [94] ، ودخل ابن جلوي عسير وقاعدتها أبها وأكمل احتلال إمارة آل عائض حتى حدودها مع الأدارسة وذلك في شعبان 1338 هـ[95] .

ص: 428

وعامل الملك عبد العزيز حسن آل عائض معاملةً طيبة وعرضَ عليه أن يبقى أميراً على منطقته تحت سلطة الدولة السعودية، ولكنه رفض وبقي مع أسرته برواتب سخيَّة. ولكن لم يلبث أن انتقض الحسن وقام بحركة عسكرية استولى بها على أبها من جديد وبتحريض من الشريف حسين آنذاك. وحينئذٍ أرسل عبد العزيز آل سعود ابنه فيصل على رأس قوة كبيرة هزمت حسن آل عائض في منطقة حصينة تُسَمَّى - حرملة - وأعادته إلى الطاعة من جديد، وبذلك دخلت عسير في إمرة الدولة السعودية، وكان ذلك سنة 1340 هـ[96] .

أمَّا عسير الجنوبية أو ما يطلق عليه المخلاف السليماني والذي يشمل عِدَّة مدن وقرى تابعة لها كصبيا وجيزان وأبو عريش، فقد كانت الإمارة فيها للأدارسة [97] .

وقبيل قيام الحرب العالمية الأولى تحالف محمد بن علي الإدريسي مع إيطاليا وأسَّس في المنطقة إمارة مستقلة يحكمها سنة 1332 هـ، ثُمَّ عقد معاهدة مع بريطانيا سنة 1333 هـ، ثُمَّ تعرَّضت إمارته لتهديدٍ من الإمام يحيي والشريف حسين مِمَّا دعاه إلى توقيع حماية مع الملك عبد العزيز، وذلك في عام1338هـ[98] .

ثُمَّ توفي محمد بن علي الإدريسي عام 1341 هـ، فتولَّى بعده ابنه علي، ولكنه كان ضعيفاً، فتولَّى مكانه عمه الحسن بن علي الإدريسي، الذي عقد معاهدة مع عبد العزيز عام 1345هليحفظ بها بلاده من هجوم الإمام يحيي إمام اليمن آنذاك، وأطماعه التوسعية، وترك الملك عبد العزيز للحسن الإدريسي إدارة الشؤون الداخلية لبلاده مع مندوب سعودي، ولكن لم يطل الأمر كثيرا لعدم نجاح الحسن في إدارته وضبط الأمن فيها، مِمَّا اضطره إلى أن يرسل للملك عبد العزيز في 17 جمادى الأولى عام 1349همتنازلاً له عن الإمارة، فقبل منه الملك ذلك في 29 جمادى الآخرة من عام 1349 هـ، ولكنه انتقض ثُمَّ رحل إلى اليمن مع أسرته بعد فشل محاولاته [99] .

ص: 429

وبذلك أصبحت عسير والمخلاف السليماني وما تبعها من مناطق، جزءاً لا يتجزَّأ من الدولة السعودية الفتيَّة. وبذا عَمَّ فيها الأمن وانتشرت السكينة وأمن الناس بعضهم بعضاً، وانقطعت أطماع الدول الأخرى التوسعية فيها.

وبعد توحيد الملك عبد العزيز لأجزاء ومناطق معظم جزيرة العرب، صدر مرسوم ملكي كريم بإطلاق اسم جديد على المملكة الفتية وإلغاء الألقاب والأسماء السابقة، وجعلها تحت مسمَّى واحد جديد هو - المملكة العربية السعودية - وكان ذلك في جمادى الأولى عام 1351هالموافق 23 سبتمبر 1932م، والمصادف لليوم الأول من برج الميزان من عام 1310 من السنة الهجرية الشمسية، ولله الحمد والمنة [100] .

ونتيجة لكُلِّ تلك الجهود الجبارة والمضنية من الملك عبد العزيز في سبيل توحيد المملكة العربية السعودية ولَمِّ شتاتها ورأب صدعها، استتب الأمن فيها وعمَّت الطمأنينة والهدوء، وأصبح التنقل ميسوراً بين المناطق بعد أن كان محفوفاً بالمخاطر والمكاره.

كذلك انتعشت الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وبدأت تظهر علامات الارتقاء والتحضر الاجتماعي.

أيضاً انتشرت العقيدة الإسلامية الصحيحة - بحمد الله تعالى - وعرف الناس العلم الصحيح المستفاد من مصادره الصحيحة من الكتاب الكريم والسنة المطهرة، وما أثر عن السَّلف الصَّالح وعلماء وفقهاء الإسلام في شتَّى أنواع العلوم والمعارف.

وهكذا حينما تكون الإرادة صحيحة والنوايا سليمة ويحملها رجال أكفاء أصحاء، تكون النتائج بإذن الله تعالى صحيحة ومثمرة وطيِّبة نافعة، كما قال تعالى:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَاّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُو} [101] .

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

آل عمران: 102

ص: 430

[2]

النساء: 1

[3]

الأحزاب: 70 - 71

[4]

هذه تُسَمَّى خطبة الحاجة، وهي تشرع بين يدي كُلِّ ذي أمرٍ هامٍّ.

انظر: سنن الترمذي 3/404 كتاب النكاح، باب: ما جاء في خطبة النكاح. وقال: صحيح.

[5]

معجم مقاييس اللغة، لابن فارس 1/133

[6]

الصِّحاح، لإسماعيل بن حماد الجوهري 5/2071

[7]

القاموس المحيط، للفيروزآبادي 4/197

[8]

أساس البلاغة، لجار الله الزمخشري ص 10

[9]

لسان العرب المحيط، لابن منظور 1/107

[10]

موسوعة السياسة، د. عبد الوهاب الكيالي وآخرون 1/331

[11]

الأمن القومي العربي واستراتيجية تحقيقه، لواء عدلي حسن سعيد ص 11

[12]

الأمن القومي العربي: دراسة في الأصول، د. علي الدين هلال، مجلة شؤون عربية، عدد 35 ص 12.

[13]

الأمن القومي، عبد الكريم نافع ص 65.

[14]

الأمن القومي والأمن الجماعي الدولي، د. ممدوح شوقي ص 34

[15]

انظر: الاستراتيجية الدولية وقضايا الأمن الوطني في المملكة العربية السعودية،

د. عبد الله القبَّاع، ص 354

[16]

سورة الأنعام، آية 82

[17]

سورة يونس، آية 9 – 10

[18]

انظر أكثر عن أنواع الأمن في كتاب: الأمن الذي نعيشه، لحسن عبد الحي قزاز 2/475 – 520 – 595 – 625 – 665 – 675 – 701 – 759 – 774- 862 - 892

[19]

سورة الروم، آية 30

[20]

سورة آل عمران، آية 97

[21]

سورة العنكبوت، آية 67

[22]

سورة البقرة، آية 126

[23]

سورة الأنعام، آية 80 - 81 - 82

[24]

سورة النور، آية 55

[25]

تفسير القرآن العظيم، للحافظ ابن كثير 3/300

[26]

سورة النحل، آية 112

[27]

سورة النساء، آية 59

ص: 431

[28]

سنن الترمذي 4/574 كتاب الزهد، باب 34 وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ غريب ورواه ابن ماجه في سننه 2/1387 كتاب الزهد، باب القناعة، رقم 4141 وقال الشيخ الألباني: حسن. انظر: صحيح سنن الترمذي، للألباني 2/274 رقم الحديث 2463.

[29]

ستحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، للمباركفوري 7/9 - 10

[30]

الأمن في حياة الناس، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي ص 24

[31]

سنن أبي داود 5/274 كتاب الأدب، باب مَنْ يأخذ الشيء على المزاح. وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع الصغير 2/1268 رقم 7658

[32]

صحيح البخاري 4/315 كتاب الفتن، باب من حمل علينا السلاح فليس منا، رقم 7072. وصحيح مسلم 4/2020 كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم، رقم 2617.

[33]

سنن أبي داود 5/273 كتاب الأدب، باب مَنْ يأخذ الشيء على المزاح. ورواه الترمذي في سننه 4/462 كتاب الفتن، باب ما جاء لا يحلّ لمسلمٍ أن يُرَوِّع مسلماً، رقم 2160، واللفظ لأبي داود وقال الألباني: حسن. انظر: صحيح الجامع الصغير 2/1257 رقم 7578

[34]

رواه الإمام أحمد في مسنده 2/25، وأبو داود في سننه 5/315 كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، رقم 5074، وابن ماجه في سننه 2/1273 كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل، رقم3871. وقال الشيخ الألباني: صحيح. انظر: صحيح سنن ابن ماجه 2/332 رقم 3121

[35]

سورة إبراهيم، آية 1

[36]

سورة المائدة، آية 16

[37]

سورة آل عمران، آية 103

[38]

انظر: تفسير الطبري 3/378 - 381 ملخصاً.

[39]

سورة قريش بكاملها.

[40]

للتوسع حول الموضوع انظر: روضة الأفكار والأفهام، لحسين بن غنام 1/137، وعنوان المجد في تاريخ نجد، لعثمان بن بشر 1/6

ص: 432

[41]

انظر حول ذلك: كتاب عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي، لمعالي الدكتور صالح بن عبد الله العبود ص21، وكذلك انظر الصفحات من 501 – 511.

[42]

سورة البقرة، آية 125 - 126

[43]

صحيح مسلم 2/991 كتاب الحج، باب فضل المدينة رقم1360، وصحيح البخاري 2/97 كتاب البيوع، باب بركة صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومُدِّه، رقم 2129، واللفظ لمسلم.

[44]

صحيح مسلم 2/1003 كتاب الحج، باب فضل المدينة رقم 1375، ورواه أحمد في مسنده 3/486 رقم 16019.

[45]

انظر: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 9

[46]

انظر: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 1/58

[47]

الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 17

[48]

خمسون عاماً في جزيرة العرب، لحافظ وهبة ص 27

[49]

الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 18

[50]

انظر: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 1/64

[51]

انظر: المصدر السابق 1/65

[52]

الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 20

[53]

انظر: معجزة فوق الرمال، لأحمد عَسَّه ص 45 - 46

[54]

راجع: صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 2/225

[55]

انظر: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 22، والجدير بالذكر أنَّ هذه المعاهدة ألغيت في 4 محرَّم 1381هالموافق 19/6/1961م حيث اعترفت بريطانيا باستقلال دولة الكويت. هامش الوجيز ص 22 رقم 1.

[56]

متصرِّف الأحساء: أي واليها من قبل السلطان العثماني.

انظر التعريف بالمصطلح الشريف للقاضي ابن فضل الله العمري، حيث ذكر أنَّ من

عُدد الملوك والسلاطين: الولاة والنواب والمتصرِّفين

ص 115

ص: 433

[57]

انظر: أثر قوة إرادة الملك عبد العزيز في تكوين المملكة، د. عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم، وذلك ضمن بحوث المؤتمر العالمي عن تاريخ الملك عبد العزيز سنة 1406هـ.

[58]

سورة الحج، آية 40

ومِمَّا قاله ابن كثير في تفسير الآية: "لولا أنَّه يدفع بقومٍ عن قوم، ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب، لفسدت الأرض ولأهلك القويُّ الضعيفَ" تفسيره 3/226

[59]

انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 211-212

[60]

ماضي الحجاز وحاضره، لحسين نصيف ص 100 ـ 101.

[61]

هكذا في الأصل. ولعلَّه يقصد اللصوص أو السرّاق.

[62]

حالة الأمن في عهد الملك عبد العزيز، لرابح لطفي جمعة ص 42

[63]

الأمن الذي نعيشه، لحسن عبد الحي قزاز 1/26-27

[64]

انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان، من ص 209- 210 بتصرف يسير.

[65]

انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان، من ص209 - 210 بتصرف يسير. وانظر كذلك: حالة الأمن في عهد الملك عبد العزيز لرابح لطفي جمعة ص49.

[66]

انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 216 بتصرف يسير.

[67]

انظر: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 22، وصقر الجزيرة لأحمد عبد الغفور عطار 2/231، وجزيرة العرب في القرن العشرين لحافظ وهبة ص 243، وشبه الجزيرة لخير الدين الزركلي 1/72.

[68]

انظر: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 1/76، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 20 -23

[69]

شبه الجزيرة لخير الدين الزركلي 1/77 - 80

[70]

تاريخ نجد الحديث، لأمين الريحاني ص 121 - 122، وشبه الجزيرة، لخير الدين الزركلي 1/80.

ص: 434

[71]

انظر: تاريخ نجد الحديث، لأمين الريحاني ص 121 - 122، وشبه الجزيرة، لخير الدين الزركلي 1/80، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 23

[72]

الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 25

[73]

انفتل: الفَتْلُ: اللَّيُّ، والانصراف، والدوران من وراء.

انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس 4/472، ولسان العرب لابن منظور 2/1048

[74]

لَبَطَ: سقط وصرع وضرب. انظر: معجم مقاييس اللغة لابن فارس 5/230، والصحاح للجوهري 3/1155، ولسان العرب لابن منظور 3/336

[75]

انظر القصة كاملة في الكتب التالية: تاريخ الدولة السعودية، لأمين سعيد 2/28، شبه الجزيرة، لخير الدين الزركلي 1/87، جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة ص243، وصقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 1/231.

[76]

انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 25

[77]

انظر: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 31، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 282.

[78]

تاريخ نجد الحديث، لأمين الريحاني ص 130.

[79]

انظر: شبه الجزيرة، لخير الدين الزركلي 1/140، وتوحيد المملكة العربية السعودية د. محمد عبد الله السلمان ص 30

[80]

الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 35

[81]

انظر: شبه الجزيرة، لخير الدين الزركلي 1/147 - 148، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 30

[82]

انظر: صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 1/361

[83]

الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 37

[84]

انظر: شبه الجزيرة، لخير الدين الزركلي 1/170، وصقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 1/375

[85]

توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 37

ص: 435

[86]

الكوت: القلعة كلمة برتغالية كثر استعمالها بعد دخول البرتغاليين الخليج واستيلائهم على بعض الأماكن فيه. انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة ص64 هامش رقم 1.

[87]

انظر: كتاب عبد العزيز آل سعود، لبنوا ميشان ص 112، والوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 56

[88]

انظر: صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 1/417

[89]

انظر: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 79

[90]

صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 1/437

[91]

انظر: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 1/333-341-343-346، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 45 - 47

[92]

قلب جزيرة العرب، لفؤاد حمزة ص 394

[93]

انظر: جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة ص 275

[94]

لم تذكر كتب التاريخ اسماً للمعركة، وإنَّما الذي ذكرت أنَّ التقاء الجيش السعودي مع قوة حسن آل عائض تمَّ في مكان يُسَمَّى - حجلة - وفي أرضها جرت المعركة.

انظر: صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 3/473، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 49

[95]

تاريخ الدولة السعودية، لأمين سعيد 2/95

[96]

انظر: صقر الجزيرة، لأحمد عطار 3/467

[97]

انظر: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 153، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 50

[98]

انظر: صقر الجزيرة، لأحمد عبد الغفور عطار 5/1095، وتوحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 51

[99]

انظر تفصيل ذلك في: شبه الجزيرة العربية، لخير الدين الزركلي 2/535، ودراسة في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، د. محمد عبد الرحمن برج ص 308

ص: 436

[100]

انظر: قلب جزيرة العرب، لفؤاد حمزة، ص 365، وشبه الجزيرة، لخير الدين الزركلي 2/561 – 566.

[101]

سورة الأعراف، آية 58.

ص: 437

تابع لجهود الملك عبد العزيز في بسط الأمن

المبحث الرابع: سبل تحقيق الأمن في عهد الملك عبد العزيز:

بعد أن وحَّد الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله تعالى - المملكة العربية السعودية، وتوطَّدت أركان الدولة، وانتشر الأمن، وعمَّت السكينة في أرجائها، وأصبح المجتمع السعودي مضرب المثل في أمنه وأمانه، يمكن لنا القول أنَّ هنالك عِدَّة سبل ووسائل وعوامل تضافرت في تحقيق ذلك الأمن، ولعلَّ من أهمها:

1 -

التمسُّك بالعقيدة الإسلامية.

2 -

تطبيق الشريعة الإسلامية.

3 -

إقامة الحدود الشرعية.

4 -

العدل بين الناس.

5 -

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

6 -

الاستقرار السياسي.

7 -

توطين البادية وإنشاء الهجر.

8 -

نشر العلم الصحيح بين الناس.

9 -

تحسُّن الأحوال المعيشية والاقتصادية.

10-

وجود الأجهزة الأمنية الحكومية المنظَّمة.

وفي الصفحات القادمة سوف نتناول - بإذن الله تعالى - وبشيءٍ من الإيجاز السُّبُل والوسائل الرئيسة السابقة التي عملت وتضافرت في تحقيق الأمن وبسطه في المجتمع السعودي.

أولاً: التمسُّك بالعقيدة الإسلامية:

لا شكَّ أنَّ للدين أثره العظيم والواضح في سلوك الإنسان وتهذيبه وتقويمه، وإرشاده إلى ما فيه الأصلح له في دينه ودنياه وآخرته. وحينما قام الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى بنشر العقيدة الإسلامية الصحيحة المستقاة من مصادرها الأصلية من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اجمعت عليه الأمَّة وسار عليه السلف الصالح - رحمهم الله تعالى - كان لتلك العقيدة أثرها العظيم في إرجاع الناس إلى جادَّة الحق والصواب، وترك الابتداع في الدين، وكذا ترك العادات والتقاليد المخالفة والمنافية للشريعة الإسلامية الغرَّاء.

ص: 438

أيضاً كان لنشر الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى العقيدة الإسلامية في مجتمع المملكة العربية السعودية أثره الواضح في استشعار الناس الخوف من الله تعالى، وعبادته، ومراقبته سبحانه وتعالى، ومعرفة أنَّه مطَّلِع على الإنسان أينما كان وحيثما حلَّ أو ارتحل، وأنَّ الله تعالى محصٍ عليه جميع أقواله وأعماله كما قال سبحانه {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [1] .

كُلُّ ذلك أدَّى إلى حفظ الأمن بمعناه الواسع والشامل في حياة المجتمع السعودي ولله الحمد والمنة.

ثانياً: تطبيق الشريعة الإسلامية:

إنَّ المتأمِّل في أحكام الشريعة الإسلامية وما اشتملت عليه من قواعد وأصول وعبادات وأحكام وأخلاق، يدرك أنَّها الشريعة الكاملة الخيِّرة النافعة للإنسان في هذه الحياة. ولذا أوجب الله تعالى التحاكم إلى هذه الشريعة وتطبيقها والعمل على اتباعها وعدم الإعراض عنها.

قال تعالى: {ِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [2] .

وقال سبحانه: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [3] .

وقال جلَّ شأنه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [4] .

وقال عزّ من قائل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [5] .

ولا ريب أنَّ أحكام الشريعة الإسلامية قد كفلت للمسلم: دينه ونفسه، وعقله، وماله، ونسله، وما يحتاج إليه وتستقيم وتتحسَّن به حياته وأحواله.

يقول الإمام ابن قيِّم الجوزية - رحمه الله تعالى -:

ص: 439

" إنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها "[6] .

وحينما قام الملك عبد العزيز - يرحمه الله - بتوحيد المملكة العربية السعودية وبسط الأمن فيها، ونشر الطمأنينة بين أرجائها، استشعر أنَّ أهمَّ عامل وسبيل يعينه - بعد الله تعالى - على إتمام هذا الأمر، إنَّما هو تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، وإلزام الناس بها في جميع تصرفاتهم وشؤونهم.

يقول رحمه الله عندما أراد دخول مكَّة المكرَّمة سنة 1343هـ:

" إني مسافر إلى مكَّة لا للتسلط عليها؛ بل لرفع المظالم والمغارم التي أرهقت كاهل عباد الله. إني مسافر إلى حرم الله لبسط أحكام الشريعة وتأييدها فلن يكون هناك سلطان إلَاّ للشرع "[7] .

ويقول رحمه الله في موضعٍ آخر، موصياً العلماء والقضاة بتطبيق الشريعة، وإقامتها وتحكيمها بين الناس:

" إنَّ كتاب الله - تعالى - ديننا ومرجعنا، وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلنا، وفيها كل ما نحتاجه من خيرٍ ورشاد، ونحن من جانبنا سنحرص - إن شاء الله - كل الحرص على إقامته، واتباعه، وتحكيمه في كُلِّ أمر من الأمور "[8] .

وقال رحمه الله مخاطباً الناس في المدينة المنورة:

" وإن خطتي التي سرت ولا أزال أسير عليها، هي إقامة الشريعة السمحة "[9] .

ونتيجةً لتطبيق الملك عبد العزيز - يرحمه الله - لأحكام الشريعة الإسلامية والعمل والقضاء بها، ساد الأمن وتوطَّد الأمان بين الناس، وشاعت السكينة، وعرف الناس معنى الحياة الآمنة.

ص: 440

ثالثاً: إقامة الحدود الشرعية:

لعلَّ من لوازم تطبيق الشريعة الإسلامية، والعمل بها إقامة ما تقتضيه من حدود شرعية على مَنْ يقوم بمخالفتها، أو من يرتكب جرماً معيّناً في حقِّ الآخرين.

ولا شكَّ أنَّ الجريمة قد انتشرت وعمَّت في أرجاء شبه جزيرة العرب قبل توحيد الملك عبد العزيز لها، وتنوعت أشكالها وتعددت بواعثها ودواعيها [10] .

ولا ريب أنَّ تلك الجرائم كالقتل، والسرقة، والحرابة وغيرها كانت من أعظم خوارم الأمن وترويع الناس وبثّ الرعب فيما بينهم، ولم يكن هنالك مَنْ يردع الظالم عن ظلمه، والباغي عن بغيه، والمعتدي عن عدوانه، فاستشرى الفساد وعمَّت البلوى وكثرت إلى الله الشكوى.

وحينما قام الملك عبد العزيز - يرحمه الله - بتوحيد المملكة العربية السعودية، استشعر أهمية تطبيق الحدود الشرعية وإقامتها بين الناس، وأنَّ ذلك من خصال الإيمان ومقتضيات العقيدة الصحيحة، وتأكيد لمعنى الحياة وأهميتها بين الناس كما قال سبحانه:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [11] .

فكان من نتائج تطبيق الحدود الشرعية أنْ صلحت أحوال الناس، واستقامت أمورهم، وشاع الأمن، وعمَّت السكينة فيما بينهم.

رابعاً: العدل بين الناس:

أمر الله تعالى بالعدل في كتابه الكريم، وحضَّ عليه بقوله سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [12] .

ص: 441

كما أمر سبحانه بإقامة العدل ولو كان مع الأعداء، وأنَّ ذلك من علامات التقوى، كما قال سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [13] .

وما من شك أنَّ أي مجتمع يسود فيه العدل سوف ينعم أفراده بالأمان والاستقرار وراحة البال، وهذا ما حدث لمجتمع المملكة العربية السعودية حينما وحَّده الملك عبد العزيز - يرحمه الله - وأشاع فيه العدل والمساواة، ولَمْ يفرّق بين الناس، وحارب الظلم بشتى أنواعه وأشكاله.

يقول رحمه الله في خطبةٍ له موضِّحاً تقريره للعدل والمساواة بين الناس:

" إنَّني اعتبر كبيركم بمنزلة الوالد، وأوسطكم أخاً، وصغيركم ابناً، فكونوا يداً واحدة، وألِّفوا بين قلوبكم لتساعدوني على القيام بالمهمة الملقاة على عاتقنا

إنَّني خادم في هذه البلاد العربية؛ لنصرة هذا الدين، وخادم للرعيَّة، الملك لله وحده، وما نحن إلَاّ خدمٌ لرعايانا، فإذا لم ننصف ضعيفهم، ونأخذ على يد ظالمهم، وننصح لهم، ونسهر على مصالحهم، فنكون قد خُنّا الأمانة المودعة إلينا

إنَّنا لا تهمنا الأسماء ولا الألقاب، وإنَّما يهمنا القيام بحق الواجب لكلمة التوحيد، والنظر في الأمور التي توفّر الراحة والاطمئنان لرعايانا " [14] .

خامساً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

يعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأصول العظيمة والأسس الرفيعة التي أمرت بها الدعوة الإسلامية وأكدتها، وأجمعت الأمة على أهمية القيام بهذا الواجب.

يقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [15] .

ص: 442

وقال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [16] .

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَنْ رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان "[17] .

ويقول الإمام النووي رحمه الله: " وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الكتاب، والسُنَّة، وإجماع الأُمَّة "[18] .

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " إنَّ جميع الولايات الإسلامية إنَّما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر "[19] .

وما من شك أنَّ الأمَّة الإسلامية قد قامت بتطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكان ذلك عنواناً لخيريتها، ودليلاً على صلاحها واستقامتها.

ومن الجوانب الهامَّة الدالة على تطبيق الأمة الإسلامية للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إيجاد هيئة أو وظيفة تختص بهذا الواجب الهام، وتنفيذه عملياً بين الناس، ألا وهي: الحِسْبة، وهي كما عرَّفها العلماء:" أمرٌ بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهيٌ عن المنكر إذا ظهر فعله "[20] .

وبذا يتَّضِح أنَّ الحكمة من تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإيجاد هيئات الحِسْبة في المجتمع، إنَّما هو من أجل إعلاء كلمة الله تعالى وتوحيده ونصرة دينه وإظهار شرعه وإبطال المنكرات والمبتدعات وكُلُّ ما يخل بأمن المجتمع واستقراره وطمأنينته.

ص: 443

وحينما قام الملك عبد العزيز - يرحمه الله - بتوحيد كيان المملكة العربية السعودية أوجد وأسَّسَ هيئة تُعْنَى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان ذلك سنة 1343 هـ؛ بل إنَّ كثيراً من المؤرِّخين يرجع بداية تنظيم الملك عبد العزيز لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حين دخوله الرياض سنة 1319هـ، وبعد استتباب واستقرار الأمور له، وإيكال أمر الهيئة والاحتساب على الناس إلى رجلٍ مهيب الجانب هو الشيخ عبد العزيز ابن عبد اللطيف آل الشيخ، وقام الملك عبد العزيز - يرحمه الله - بتزويد رجال الحِسْبة ببعض الأعوان والجنود، وما يحتاجون إليه في تأدية أعمالهم المنوطة بهم [21] .

واتَّسعت بعد ذلك هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتشمل معظم مدن المملكة وقراها، واتسع نطاقها لتشمل جوانب هامَّة عديدة في المجتمع، الأمر الذي ساعد على حصول الأمن والأمان وحراسة المجتمع من كُلِّ ما يعكره أو يكدر صفوه [22] .

سادساً: الاستقرار السياسي:

يقرر علماء الاجتماع أنَّ الإنسان مدني بطبعه [23] ، وأنَّه يألف بني جنسه، ويعيش معهم في مجتمعات وتكوينات بشرية.

كذلك لابدَّ لتلك المجتمعات والتكوينات البشرية من قائد وموجه لها، وولي أمر يهتم بشأنها وبما يصلحها ويدرأ عنها ما يسوؤها.

وحينما تتنازع المجتمع عِدَّةُ قيادات، فإنَّه بلا شك سوف يحتار ويختل نظامه، وينعدم أمنه، ويتحزَّب أفراده {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [24] .

ولذا أكَّد الإسلام على وجوب الاستقرار والطاعة لولي الأمر كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [25] . والتاريخ مليء بالشواهد والبراهين التي تؤكِّد صحة ذلك.

ص: 444

والمجتمع الذي وحَّده الملك عبد العزيز آل سعود - يرحمه الله - كان كغيره من المجتمعات يعج بالفتن والاضطرابات، والانقسامات السياسية التي كانت تكيد لبعضها كيداً عظيماً، وتشن الحروب والغارات على بعضها البعض مِمَّا أسفر عنه انعدام الأمن بين الناس [26] .

ولكن وحينما توحَّد معظم أرجاء جزيرة العرب تحت قيادة سياسية واحدة مستقرة، تحكم بشريعة الله، وتنفذ أحكامه سبحانه بين الناس، وتراعي الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع، مع السهر على ما يحقق مصالحهم ويجلب الخير والنفع لهم، ويدرأ الشر عنهم، حينئذٍ أدرك الناس فوائد وثمرات الاستقرار السياسي، وما يمكن أن يحققه لهم من أمن وأمان وطمأنينة في حياتهم ومعيشتهم، فجنوا الخير العميم من وراء ذلك، وازدهرت أحوالهم، وتحسَّنت ظروفهم الاجتماعية، وأَمِنَ الناس على أنفسهم وأهليهم وأموالهم.

سابعاً: توطين البادية وإنشاء الهجر:

تقوم حياة البادية على الولاء القبلي وتحكيم العادات، والتقاليد المتوارثة المتعارف عليها وعدم التهاون فيها، واعتقاد بعضهم جهلاً أنَّ الحياة تقوم على مبدأ القوة، وتنفيذه بوسائل عديدة كالغزو والنهب والسلب، وما إلى ذلك.

هذا ما أدركه الملك عبد العزيز آل سعود - يرحمه الله - عندما كان يعيش بين أبناء القبائل في البادية حينما خرج من الرياض مع والده الإمام عبد الرحمن متوجهين إلى الكويت.

ونظراً لما كانت تمثله حياة البادية آنذاك من عدم استقرار، ومن قوى متحرِّكة لها ثقلها ووزنها، قام الملك عبد العزيز - رحمه الله تعالى - بمشروعه الكبير بتوطين البادية، وذلك بإنشاء الهجر لهم، وتعويدهم على مفهوم التعاون والتكافل فيما بينهم وترك عادات الغزو والنهب والسلب والفوضى الأمنية والاجتماعية.

ص: 445

" وكان عام 1328 هـ - 1910 م هو بداية التفكير بهذا المشروع الهام وذلك عندما استشار الملك عبد العزيز والده الإمام عبد الرحمن، وأركان العائلة السعودية، وبعض العلماء، فلمَّا كان عام 1330 هـ - 1912 م بدأ بوضع برنامج مشروعه موضع التنفيذ "[27] .

وكان لمشروع إنشاء الهجر وتوطين البادية فيها أهداف عديدة: دينية، وسياسية، واجتماعية، وعسكرية [28] .

وقد سلك الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى عِدَّة مسالك، واتخذ مجموعة من الوسائل في سبيل إنجاح برنامجه الطموح بتوطين البادية، كإقامة القبيلة عند مورد للماء، وإنشاء مسجد فيها، وإقامة بعض البيوت وإرسال مرشد وواعظ ديني يعلمهم أحكام الإسلام، وغير ذلك من الوسائل [29] .

وأقام الملك عبد العزيز في حياته ما ينوف عن مائة واثنتين وعشرين هجرة، وكانت أولها هجرة الأرطاوية لقبيلة مطير، وهجرة الغطغط لقبيلة عتيبة [30] .

ولا شك أنَّه كان لذلك المشروع الحيوي الهام أداته ووظيفته في حفظ الأمن بين الناس، وتعميق مفهوم الأمان الاجتماعي وإبراز فوائده بين أبناء القبائل.

ثامناً: نشر العلم الصحيح بين الناس:

لا شكَّ أنَّ للعلم أثره الواضح في الارتقاء بسلوك الإنسان وتهذيبه، وإكسابه معارف وخبرات لم تكن متاحة لديه.

كذلك يمدّ العلم الإنسان بآفاق جديدة في حياته تعرِّفه بوظيفته، وحقوقه، وواجباته، وما ينبغي عليه القيام والالتزام به.

وأُمَّة الإسلام أُمَّة العلم والمعرفة الحقيقية، فمنذ بدء الدعوة الإسلامية والآيات تترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم مشيدة بالعلم وأهله، ومنوِّهة بفضله، ورفعة مكانتهم.

قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [31] .

ص: 446

وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات} [32] .

وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " طلب العلم فريضة على كُلِّ مسلم "[33] .

وجزيرة العرب هي منطلق الإسلام والدعوة إليه قد توالت عليها الأحداث حتى خيم عليها الجهل والخرافة في كثيرٍ من مواقعها وأجزائها.

وحينما وحَّد الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى هذه البلاد ورأى ما فيها من جهل، أدرك ببصيرته النفَّاذة أنَّ لكُلِّ داءٍ دواء، ولِكُلِّ عِلَّةٍ ترياق، وأنَّ دواءَ الجهل هو العلم الصحيح، فبدأ بنشره وتعميمه على كافَّة المدن والقرى والهجر.

وكان ابتداء التعليم الحديث بعد ضم الملك عبد العزيز الحجاز وأمره بإنشاء مديرية المعارف في رمضان 1344 هـ[34] .

ومنذ ذلك التاريخ ابتدأ التعليم في الانتشار، فأنشئت المدارس والمعاهد وبعض الكليات الشرعية في مكَّة المكرَّمة والرياض، إضافةً إلى حلق العلم في المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف [35] .

وحينما انتشر العلم في أرجاء المملكة عرف الناس، وتربَّت الناشئة على الفهم الصحيح للحياة، وما يجب عليهم تجاه ربهم وأنفسهم ومجتمعهم، فأثمر ذلك عن توطيد للأمن، واستشعار لأهميته وضرورته في الحياة، وقضاء على العادات والتقاليد الجاهلة والسيئة في المجتمع.

تاسعاً: تحسُّن الأحوال المعيشية والاقتصادية:

عانى المجتمع في المملكة العربية السعودية من حالة الفقر والعوز الشديدين؛ وذلك لمحدودية الإنتاج والإمكانات الاقتصادية المتاحة قبل توحيدها، واكتشاف البترول فيها.

ولذا تفشَّت في بعض أفراد المجتمع آنذاك عادات سيئة كثيرة تهدف في مجملها إلى تحصيل المال والأرزاق بأي شكلٍ كان.

ص: 447

ولكن عندما توحَّد المجتمع وآثر حياة الألفة والاستقرار والإخاء، فتح الله تعالى عليه أبواب الرزق والخير، فاكتشف البترول في المنطقة الشرقية من المملكة عام 1357 هـ - 1938 م [36] .

وترتب على اكتشاف البترول بداية نهضة اقتصادية وتحولات نوعية في أحوال الناس المعيشية؛ لِمَا صاحب ذلك من توفر للأموال وفرص العمل والوظائف المتعددة.

وكان من المشاريع البترولية العملاقة في عهد الملك عبد العزيز إنشاء خط أنابيب لنقل النفط ومنتجاته من "أبقيق "الواقعة على ساحل الخليج العربي غرب المملكة إلى ميناء الزهراني جنوب صيدا بلبنان، ماراً بالأردن وسوريا، وبلغ طوله 1721 كيلاً من الأمتار.

وتمَّ شحن أول ناقلة نفط منه في صفر عام1370 هـ، وهكذا زاد الدخل السعودي من إنتاج البترول إلى ملا يين الدولارات، وتدرَّج في الزيادة من 4ر10 ملايين دولار أمريكي عام 1366 هـ إلى 2ر212 مليون دولار عام 1372 هـ[37] .

والحقيقة أن تحسُّنَ الاقتصاد والناتج المحلي للبلاد، وظهور بواكير الخير قد أضفى على الإنسان في المملكة العربية السعودية صفات ومفاهيم عديدة، وجعله يتطلَّع إلى الأمن وضرورته في الحفاظ على مكاسبه ومدخراته، وهذا ما زاد من تعميق الشعور بأهمية الأمن بين أفراد المجتمع والنظر إليه كوسيلة، وضرورة من ضرورات الحياة لا غنى لأحد عنها.

عاشراً: وجود الأجهزة الأمنية الحكومية المنظمة:

بعد توحيد الملك عبد العزيز للمملكة العربية السعودية، اهتمَّ بالإصلاحات الداخلية في جميع مرافق ومؤسسات الدولة.

ومن جملة ذلك كان اهتمامه - رحمه الله تعالى - بالتنظيم الإداري للأجهزة الأمنية المتعدِّدة الأغراض والمهام في البلاد.

ص: 448

وقد بدأ هذا الاهتمام بعد ضم الحجاز عام 1344هـ لاشتماله على شيء من التنظيم الإداري والأمني، فأمر الملك عبد العزيز في ذلك العام بإنشاء مديرية للشرطة في مكَّة المكرَّمة، بالإضافة إلى إنشاء عدد آخر من مديريات الشرطة في مدن المملكة الرئيسة الأخرى، كالمدينة المنورة، والرياض، والطائف.

وفي عام 1349 هـ صدر أمر ملكي بتوحيد إدارات الشرطة في المملكة تحت رئاسة واحدة يكون مقرها مكَّة المكرَّمة، فأنشئت المديرية العامَّة للشرطة، ومقرَّها مكَّة المكرَّمة.

وفي عام 1359 هـ حوِّلَت مديرية الشرطة إلى مديرية عامَّة للأمن حيث أوجدت فيها بعض الأقسام الجديدة كمدرسة الشرطة، والمطافئ، واستقدم لها عدد من الخبراء من الدول العربية، كما أرسل عدد من الشباب السعودي للخارج، للتخصص في شؤون الشرطة، وعلوم الأمن.

وفي عام 1369 هـ صدر نظام جديد للأمن العام تضمَّن واجباته وتشكيلاته الجديدة، ومنها إنشاء إدارة خاصَّة للسجون باسم (إدارة مصلحة السجون) ، وكذلك ضم (إدارة المطافئ) التي أنشئت عام1366هـ إلى مديرية الأمن العام، فأصبحت من أقسامها الجديدة. كما شمل ذلك النظام إنشاء (قسم للمرور) ، كذلك أنشئت مصلحة (خفر السواحل) عام 1344 هـ لمراقبة سواحل المملكة الطويلة على البحر الأحمر، والخليج العربي، والتي تمتد لأكثر من ألف ميل.

وأخيراً أنشئت وزارة الدفاع عام 1365 هـ[38] ، التي تولَّت مهام أمنية عديدة. وبلا شك فإنَّ إنشاء وقيام تلك الأجهزة الأمنية المتعددة في المملكة العربية قد ساهم في دعم الأمن وتوطيده في ربوعها، وبسطه بين أفرادها ومجتمعها.

الفصل الثالث

آثار جهود الملك عبد العزيز الأمنية

في حفظ مقومات المجتمع السعودي وتنميته وازدهاره

وفيه مبحثان:

المبحث الأول: آثاره في حفظ مقوِّمات المجتمع.

المبحث الثاني: آثاره في تنمية وازدهار المجتمع.

ص: 449

المبحث الأول: آثاره في حفظ مقومات المجتمع

لقد كان لجهود الملك عبد العزيز الأمنية آثارها العظيمة والواضحة في حفظ مقومات المجتمع السعودي، والمحافظة عليه، ويمكن لنا أن نوضِّح ذلك في النقاط الرئيسة الهامة التالية:

أولاً: حفظ الدين:

كان مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل توحيد الملك عبد العزيز له، ولعوامل عديدة يغط في سباتٍ عميقٍ من الجهل، والخرافة، وعدم فهم الدين الفهم الصحيح، والقيام بما يقتضيه من التوحيد الخالص والعبادة الحقَّة، والمعاملات الصحيحة [39] ، ولكن وبعد أنْ مَنَّ الله تعالى بفضله على هذه الجزيرة بعبد العزيز آل سعود، الذي قام بتوحيدها ونشر الأمن والأمان بين أهلها وفي ربوعها، أثمر ذلك عن حفظ ورعاية أهم مقوم للمجتمع، ألا وهو الدين.

ولقد بذل الملك عبد العزيز - يرحمه الله - الجهد الوافر في سبيل الدعوة إلى الدين الصحيح، وكفالة الظروف المعينة على تحقيق ذلك، مع ما لاقاه من عنتٍ ومشقةٍ كبيرين.

يقول رحمه الله واصفاً ذلك: " لقد أوذينا في سبيل الدعوة إلى الله وقوتلنا قتالاً شديداً، ولكنا صبرنا وصمدنا "[40] .

ولم يكن الملك عبد العزيز - يرحمه الله - من الذين يتهاونون في الدين أو يساومون عليه، بل كان حارساً أميناً وخادماً وفياً له، وكان يرى أنَّ مهمته الكبرى تكمن في حفظ الدين نقياً صحيحاً.

يقول رحمه الله في ذلك: " عندي أمران لا أتهاون في شيءٍ منهما، ولا أتوانى في القضاء على مَنْ يحاول النيل منهما، ولو بشعرة:

الأول: كلمة التوحيد (لا إله إلَاّ الله محمد رسول الله) اللهم صَلِّ وسلِّم وبارك عليه، إني والله، وبالله، وتالله، أقدِّم دمي، ودم أولادي، وكُلّ آل سعود فداءً لهذه الكلمة، ولا أضن بها.

ص: 450

الثاني: هذا الملك الذي جمع الله به شمل العرب بعد الفرقة، وأعزَّهم به بعد الذلة، وكثَّرهم بعد القِلَّة، فإنِّي كذلك لا أدَّخر قطرة من دمي في سبيل الذود عن حوضه " [41] .

كما كان رحمه الله يوصي العلماء والقضاة والدعاة بالحرص على التمسك بالدين واتِّبَاعَهُ كما هو حاله وشأنه قائلاً لهم: " إنَّ كتاب الله ديننا ومرجعنا، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم دليلنا، وفيها كُلّ ما نحتاجه من خيرٍ ورشاد، ونحن من جانبنا سنحرص إن شاء الله كُلّ الحرص على إقامته واتباعه وتحكيمه في كُلِّ أمرٍ من الأمور "[42] .

وكان من حرص الملك عبد العزيز على حفظ الدين، أنَّه كان يوضِّح للناس في أي مناسبة تتاح له حقيقة العقيدة التي يؤمن بها، والدين الذي ينشره ويدعو إليه. ومن كلامه في ذلك:

" أنا مبشِّر أدعو إلى دين الإسلام، ولنشره بين الأقوام

أنا داعية لعقيدة السلف الصالح. وعقيدة السلف الصالح هي التمسك بكتاب الله، وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما جاء عن الخلفاء الأربعة

" [43] .

والحقيقة إنَّ المتتبِّع لسيرة وحياة الملك عبد العزيز يدرك أنَّه رحمه الله قد قام بحركة إحياء حقيقية لما اندرس من أصول الدين وأحكامه وشرائعه، وسلك في سبيل ذلك عِدَّة مسالك وطرق هامَّة، كتوضيح حقيقة الدين الإسلامي، والعقيدة الصحيحة، وتطبيق أحكام الشريعة، وإظهار العبادات الإسلامية صحيحة نقية خالية من البدع والخرافات، وكذلك بعث الدعاة والعلماء والوعاظ في كُلِّ مكان، ولكن ما كان ليتم للملك عبد العزيز كُلّ ذلك لولا توفيق الله تعالى له، ثُمَّ لِمَا قام به من بسطٍ للأمن، ونشرٍ للطمأنينة والهدوء بين الناس.

ثانياً: حفظ الأنفس:

ص: 451

لا شكَّ أنَّ للنفس البشرية حرمتها في ديننا الإسلامي الحنيف، ولقد تضافرت النصوص على تأكيد تلك الحرمة وبيانها، وعدم جواز التعدي عليها إلَاّ بوجهٍ مشروع، وفي حالات محدودة شرعاً وعن طريقٍ مشروع، كما قال تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [44] .

كما نهى الله تبارك وتعالى الإنسان من الاعتداء على نفسه، أو إيذاء جسده، كما قال سبحانه:{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [45] .

كما أكد النبيُّ صلى الله عليه وسلم على حرمة دم المسلم في الحديث الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه بقوله عليه الصلاة والسلام: " كُلُّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه "[46] .

إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث التي تبين أهمية هذا الأمر. وإنَّ المتصفِّح لحال مجتمع الجزيرة العربية قبل توحيد الملك عبد العزيز آل سعود له يدرك خطورة ما كان عليه المجتمع آنذاك من قتل للأنفس وإزهاق للأرواح دون وجه حق، وسيادة العرف القبلي على المنهج الشرعي.

وتبعاً لذلك فقد استشرت في المجتمع العادات الجاهلية المحرَّمة والفاسدة كالأخذ بالثأر، والقتل غيلة، والغارات على الناس، والحَمِيَّة القبلية، والتعصُّب لها والدعاء بدعواها، والانتصار لها ولو كانت على باطل.

ولكن حينما وحَّد الملك عبد العزيز رحمه الله المجتمع وبسط الأمن عليه، اقتلع تلك العادات الذميمة، وزرع مكانها الأُخُوَّةَ الإسلامية، التي تقوم على الاحترام المتبادل وعدم التعدي على أحد، وتحقيق الشرع وأحكامه بين الناس.

ثالثاً: حفظ الأموال:

يعتبر المال في نظر الاقتصاديين، عصب الحياة، لأنَّ عليه تقوم المبادلات والمنافع بين الناس.

ص: 452

والمال في نظر الإسلام هبة من عند الله تعالى، يهبها لمن يشاء من عباده، وفق حكمته ومشيئته، ثُمَّ لاجتهاد الإنسان واستثماره لوقته وعمله. كما قال تعالى:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [47] .

كما ندب الإسلامُ الناسَ إلى العمل المثمر النافع المشروع، والسعي في مناكب الأرض؛ طلباً للرزق الحلال، وعدم التواكل أو التكاسل. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [48] .

والتشريع الإسلامي قد وضَّح كُلَّ ما يهم المسلم معرفته في المال، من حيث اكتسابه، وإنفاقه، وادخاره، وما يترتب على سيره من حقوق وواجبات.

ومجتمع الجزيرة العربية عاش فترة عصيبة قبل توحيده على يد الملك عبد العزيز في العصور الحاضرة؛ وذلك لِمَا ساد في المجتمع آنذاك من مفاهيم وعادات وتقاليد خاطئة في جمع المال وتحصيله بأي وسيلة كانت [49] .

ولذا لَمْ يأمن الناس على ممتلكاتهم وأموالهم وزروعهم وتجاراتهم، فساد الخوف، وحلَّت البطالة، وقلَّ الانتاج.

ولكن بفضلٍ من الله تعالى، ثُمَّ بجهود الملك عبد العزيز الموفَّقة في توحيد الجزيرة العربية وبسطه الأمن فيها، التفت الناس إلى أعمالهم وتجاراتهم يغدون ويروحون، فعمَّ الخير، وزاد المال، وكثرت في المجتمع الأعمال المفيدة النافعة.

رابعاً: حفظ وحدة المجتمع وتماسكه:

ص: 453

عاش مجتمع الجزيرة العربية رَدْحاً من الزمن في حالةٍ يرثى لها من التفكُّك والانقسام والخلاف، وذلك لِمَا أصاب الناس من وهن في عقيدتهم وبعدهم عن التمسُّك بحبل الله المتين، وبصراطه المستقيم، وما شاع بينهم من فرقة وتمزُّق وعصبيَّة قبلية جاهلية، أو التكالب على الرئاسة، والتنازع على فُتَات الحياة الدنيا الفانية، الأمر الذي أدَّى في النهاية إلى عدم استتباب الأمن وشيوع الفوضى العارمة في أرجاء جزيرة العرب مِمَّا أخَّرها قروناً طويلة.

وحينما قَيَّض الله تعالى لهذه البلاد مَنْ يوحدها، ويلم شعثها، ويرأب صدعها، ويحفظ لها وحدتها، ويبسط لها أمنها، انصلح حالها، وتغيَّر وضعها من الجهالة إلى العلم، ومن التمزق إلى الوحدة، ومن الضعف إلى التماسك والقوة.

وحقَّق الملك عبد العزيز - رحمه الله تعالى - بذلك الوحدة الحقيقية بين أفراد المجتمع، وذلك بعد تقريره للأمن وتشييده لعُرَاه بين الناس.

يقول المانع: " لقد كان من أعظم مشكلات ابن سعود في بناء دولة مستقرة، تلك المشكلة التي واجهت كُلّ زعيم في الصحراء، وهي نزعة رجال القبائل الحادَّة إلى الاستقلال، وحبهم للحرب، وسرعة تغيير ولاءاتهم "[50] .

وأصبح المجتمع اليوم - بحمد الله تعالى - في المملكة العربية السعودية المجتمع الواحد الذي يعطف فيه الكبير على الصغير، والغني على الفقير، وكأنَّهم أخوة يشعر كُلُّ واحد بأخيه، ويهمه حاله، وهذا فضل من الله تعالى وإحسان وتوفيق منه وامتنان، ثُمَّ لِمَا قام به الملك عبد العزيز رحمه الله من جهودٍ عظيمة في توحيد هذه البلاد وإرساء قواعد الأمن فيها.

المبحث الثاني: آثاره في تنمية وازدهار المجتمع

ص: 454

لقد كان من آثار ونتائج جهود الملك عبد العزيز الأمنية تنمية مجتمع المملكة العربية السعودية وازدهاره في مختلف المجالات العلمية والعملية، والاقتصادية، والزراعية، والعمرانية والحضارية، والنهوض بالمجتمع السعودي في جوانب الحياة المختلفة، وتحقيق كُلّ ما من شأنه رفعة المجتمع والسمو به في مدارج التقدُّم والرقي.

ومن الأمثلة على ذلك:

أولاً: التعليم:

حيث نجد أنَّ الملك عبد العزيز قد اهتم به اهتماماً بالغاً، فقد بدأ عهده بالكتاتيب، ولم ينته حتى كان التعليم الجامعي قد ظهر في مكَّة المكرَّمة، والرياض، حيث تمَّ إنشاء كليات للشريعة وللمعلِّمين، وكانت الدراسة والكتب فيه مجَّانية، بل إنَّ الدولة قد خصَّصت رواتب لطلاب بعض المدارس كالمعاهد العلمية، ودار التوحيد، والكلِّيات، وذلك تشجيعاً للطلاب على مواصلة مسيرتهم العلمية. وقد بلغت ميزانية مديرية المعارف آنذاك عشرين مليوناً من الريالات، وكان ذلك في عام 1373 هـ[51] ، وهو مبلغ كبير يدل على اهتمام الملك عبد العزيز البالغ بالعلم وأهله، والسير بالمجتمع في طريقه الصحيح.

ثانياً: وأمَّا في مجال الصحة:

فقد كان المجتمع يعاني كثيراً من الأمراض والأوبئة لعدم وجود الرعاية الطبيّة وعدم توفر العناية الصحية المطلوبة كالمستشفيات والأطباء والأدوية، وذلك لما كانت عليه الحال في الجزيرة من انقسامات ومشكلات عديدة مختلفة، ولكن وبعد أنْ توحَّد المجتمع تحت راية واحدة، وقيادة واحدة، ابتدأ النهوض، وخاصَّة بعد ضم الملك عبد العزيز للحجاز الذي كان فيه بعض الاهتمام والرعاية الصحية المحدودة.

ولذا نرى الملك عبد العزيز يهتم بالجانب الصحي، ومن ذلك استدعاؤه للطبيب الأمريكي (لويس دامي) الذي جاء إلى نجد سنة 1342هـ وزار بعض مدنها الكبيرة، وعالج كثيراً من المرضى، كما أجرى بعض العمليات الجراحية، وخاصَّة في الرياض، وبريدة، وعنيزة، وشقراء [52] .

ص: 455

وفي عام 1344 هـ أنشأ الملك عبد العزيز مصلحة الصحة العامَّة في مكَّة المكرَّمة، وأعقبها بإقامة إدارة للصحة البحرية والمحجرية في جده، واستقدام الأطباء والصيادلة والممرضين وأنشئت المراكز الصحية في طرق الحج بين مكة المكرَّمة والمشاعر، وبين مكة وجده، وبين جده والمدينة المنورة. كما أنشئت مستشفيات أو مستوصفات في كبريات المدن، وقسمت البلاد إلى ست مناطق صحية في مكَّة، وجده، والمدينة، والرياض، والأحساء، وأبها، تتبعها مستشفيات ومستوصفات ومراكز صحية بلغت في أواخر عام 1368هـ 11 مستشفى و 25 مستوصفاً و 34 مركزاً صحياً.

وفي عام 1350 هـ انضمت المملكة إلى المكتب الصحي الدولي. وفي عام 1353 هـ أسست جمعية الإسعاف السعودية، وعندما تأسست منظمة الصحة العالمية عام 1367 هـ كانت المملكة من بين المنتسبين إليها. وكان علاج الناس في المملكة بالمجان، وصرف الدواء بدون مقابل - ولا زال كذلك - ثُمَّ توسَّع نشاط إدارة الصحة العامَّة حتى توج ذلك النشاط بتحويلها إلى وزارة للصحة في أواخر عهد الملك عبد العزيز وذلك سنة 1370 هـ[53] .

ثالثاً: وأمَّا في الجانب الزراعي:

فكان اهتمام الملك عبد العزيز رحمه الله كبيراً بهذا الجانب، وذلك لِمَا يمثله من أهمية وتأمين لغذاء وقوت الناس، وخاصَّة بعد استقرار الدولة وبسط الأمن والنظام فيها.

ومن الأمثلة الدالة على اهتمام الملك عبد العزيز بالجانب الزراعي أنَّه أمر معتمديه في العراق، وسوريه، ومصر باختيار عدد من المهندسين الزراعيين ومساعديهم، وإرسالهم للعمل في بعض المناطق الزراعية بالمملكة كالقصيم، والأحساء، والقطيف، والمدينة المنورة، والخرج، وعسير.

ص: 456

كما اهتم رحمه الله بتأمين الماء للناس على حسب الإمكانيات المتاحة والجهد المستطاع آنذاك، ولهذا نجده يطلب من الثري الأمريكي (كراين) إرسال بعثة للتنقيب عن الماء في الحجاز خاصَّة. وجاءت البعثة برئاسة المهندس الجيولوجي الأمريكي (تويتشل) عام 1349 هـ، وقدَّمت للملك عبد العزيز تقريراً بعد نهاية عملها.

وفي عام 1358 هـ ابتدأت عملية حفر الآبار الارتوازية؛ لتوفير المياه للمزارعين، وكان لها فوائد عظيمة، وقدَّمت الحكومة بأمر من الملك

عبد العزيز إعانة للمزارعين في جلب الماكينات لتلك الآبار، وتقسيط أثمانها عليهم.

وفي عام 1367 هـ أنشئت مديرية الزراعة وتوسَّعت في إقراض المزارعين، وتَمَّ إنشاء المزارع النموذجية بمناطق ومدن المملكة، واستيراد بعض أشجار الفواكه والخضروات وتوزيعها على المزارعين مجَّاناً [54] .

وقد بلغت ميزانية المديرية آنذاك في عام 1369هـ أكثر من 30 مليون ريال، وكانت تتبع لوزارة المالية، ثُمَّ بعد وفاة الملك عبد العزيز عام 1373هـ صار لها وزارة خاصة بها سُمِّيَت وزارة الزراعة، وكان الأمير سلطان بن عبد العزيز أوَّل وزير لها [55] .

رابعاً: وأمَّا في مجال المواصلات:

فقد كان للملك عبد العزيز رحمه الله اهتمام واضح بها وذلك لما تمثله المواصلات بأنواعها من حيوية وأهمية في النهوض بأي مجتمع.

ص: 457

وكانت طرق المواصلات في أول عهد الملك عبد العزيز هي الطرق البرية التي كانت تسلكها قوافل الإبل التجارية، أو قوافل الحج، ومضى رَدْح كبير من الزمن وهذه الطرق على حالها، وتعتبر شريان الدولة مع ما يصاحبها من متاعب مثل قلة المراكز الحضارية عليها، وطول المدة التي تستغرقها القافلة للسفر، وكذلك انعدام الأمن وكثرة قطاع الطرق في كثيرٍ من أجزائها، وذلك قبل توحيد البلاد على يد الملك عبد العزيز - يرحمه الله - وكانت وسائل النقل على هذه الطرق هي الإبل، ثُمَّ الخيل، ثُمَّ الحمير في بعض الأحيان للمسافات القصيرة.

وبعد توحيد المملكة وتقرير الأمن وبسطه بين ربوعها وأجزائها، ابتدأ عهد المواصلات الحديثة، وذلك بظهور السيارات في أراضيها وانتشارها بين أيدي الناس، ومن هنا بدأ الملك عبد العزيز بتعبيد الطرق البرية لحاجة الناس إليها، فتمَّ في عهده تعبيد طريق مكة جده وطوله 73 كيلاً، ومكة عرفات منى وطوله 20 كيلاً، والطائف الحوية وطوله 30 كيلاً، وطريق الهفوف عين دار، والبدء في تعبيد طريق مكة الطائف، وطريق جده المدينة، وطريق الرياض الطائف مكة، وطريق الرياض الهفوف الظهران القطيف الجبيل.

كما ظهرت في عهده - يرحمه الله - طرق حديثة قامت بتنفيذها شركة أرامكو، مثل تعبيد طريق الظهران الدمام الخبر بطول 40 كيلاً، وتعبيد طريق يربطها برأس تنورة 80 كيلاً، وتعبيد طرق تربط بين حقول الزيت المختلفة. وكذلك تمهيد طريق جده منجم الذهب، وقد أقامته شركة التعدين السعودية، كما عُبِّدت طرق داخلية في مكة، والمدينة، وجده، والرياض [56] .

كما أنشأ الملك عبد العزيز - يرحمه الله - سكة حديد تربط بين الرياض والهفوف والدمام، وافتتحت عام 1371 هـ.

ص: 458

كذلك اهتم الملك عبد العزيز - يرحمه الله - بالمواصلات البحرية، حيث قام بإنشاء موانئ على الخليج العربي، والبحر الأحمر، وبدأ في تكوين قوة بحرية سعودية تتكون من بعض السفن الصغيرة لخفر السواحل، ثُمَّ أُنْشِئَت مديرية مصلحة خفر السواحل عام 1350 هـ.

كما ظهرت المواصلات الجوية في عهد الملك عبد العزيز - يرحمه الله - ويتمثَّل ذلك بإنشائه لإدارة تعنى بالخطوط السعودية باسم مصلحة الطيران عام 1368 هـ، وتمَّ خلال ذلك شراء بعض الطائرات، وإقامة بعض المطارات في جده، والمدينة، والحوية، والرياض، والظهران [57] .

خامساً: البرق والبريد والهاتف:

وهو ما يطلق عليه أحياناً بالمواصلات السلكية واللاسلكية، وإن وجدت بعض المعارضة من ذوي الأفهام والعقول القاصرة، إلَاّ أنَّه سرعان ما أقنعهم الملك عبد العزيز بطريقته الخاصة وحنكته المعروفة.

وكان البرق (أو التلغراف) يعتبر أول وسيلة مواصلات حديثة تدخل المملكة؛ لقناعة الملك عبد العزيز بأهميتها في ربط البلاد المترامية الأطراف، فاستقدم الآلات اللازمة، وأنشأ المدارس لتعليمها في مناطق ومدن كثيرة كالرياض، ومكة، والمدينة، وجده.

ثُمَّ ظهر البريد في المملكة بعد ضم الحجاز في عام 1344 هـ، وانتشرت مكاتبه ومراكزه في العديد من المناطق حتى بلغت مائة مركز.

أمَّا الهاتف فقد كان موجوداً إبَّان دخول الملك عبد العزيز للحجاز، وقد وجد معارضة كالتي حصلت عند إدخال الخدمة البرقية من ذوي العقول القاصرة، والتي لم تقف أبداً في طريق الملك عبد العزيز الرامي إلى تحضير بلاده، وإلحاقها بركب التقدُّم والرقي الحضاري.

وكان عام 1351 هـ بداية تأسيس للهاتف في الرياض ومكة المكرَّمة، وشهد أول محادثة فيهما بين الملك عبد العزيز في مكة وولي عهده الأمير سعود في الرياض [58] .

سادساً: الدفاع:

ص: 459

كان الجيش السعودي في بدايته يتكون من فئات وقبائل متعددة، وينتظم في فرقتين كبيرتين هما:(جيش الجهاد) والذي يتكون من حاضرة نجد وقراها، و (جيش الإخوان) والذي يتكون من رجال القبائل البدوية.

ولكن ومنذ العام 1348 هـ ابتدأ تنظيم الجيش، وأمر الملك عبد العزيز بالاهتمام والعناية به، فظهر ما يُسَمَّى (إدارة الشؤون العسكرية) والتي أنيط بها كل ما يتصل بشؤون الدفاع.

وفي عام 1354 هـ طورت تلك الإدارة إلى (وكالة للدفاع وإدارة الأمور العسكرية) ، وأصبح الجيش على أساس كتائب وأَلْوِية، ووُزِّع على خمس مناطق في المملكة، في الوسط، والشمال الغربي، والشمال الشرقي، والجنوب الغربي، والجنوب الشرقي.

وفي عام 1359 هـ حولت مديرية الأمور العسكرية إلى رئاسة الأركان الحربية، ثُمَّ توجت أخيراً بإنشاء وزارة الدفاع في ربيع الآخر عام 1365هـ، وعين الأمير منصور بن عبد العزيز أول وزير للدفاع فيها، والذي قام بجهد كبير في سبيل الارتقاء بها من حيث التنظيم واستيراد السلاح وإنشاء المدارس العسكرية وإرسال البعثات للخارج، والتدريب. كما أنشأت الوزارة مصنعاً للذخيرة في مدينة الخرج، ومدرسة للطيران بالطائف، كما وضعت نواة كلية الملك عبد العزيز الحربية في الرياض.

وبعد أن تُوفِّىَ الأمير منصور تولَّى الوزارة أخوه الأمير مشعل، ثُمَّ فهد ابن سعود، ثُمَّ محمد بن سعود، وأخيراً الأمير سلطان بن عبد العزيز الذي تولاها من عام 1381 هـ وإلى الآن [59] .

سابعاً: الاقتصاد والنقد:

عاش مجتمع شبه الجزيرة العربية قبل توحيد الملك عبد العزيز لها، وبسطه الأمن فيها، على الكفاف وضيق ذات اليد، وذلك لفقر موارد المجتمع، ومحدودية الإنتاج، وانشغال الناس في الحروب والمنازعات.

ص: 460

ولكن حينما أراد الله تعالى لهذه البلاد الخير والنعمة والفضل، هيأ لها من يضم أجزائها، ويوحِّد كلمتها، ويؤلِّف فيما بينها، فعمَّ بذلك الخير، وفاضت النِّعَم على الناس.

وفي بداية الأمر، وقبل اكتشاف النفط (البترول) كانت الموارد محددة وتعتمد على: الزكاة الشرعية، وبعض الإعانات، والرسوم الجمركية، وغير ذلك مِمَّا يعتبر غير كافٍ للنهوض باقتصاد بلاد مترامية الأطراف كالمملكة العربية السعودية.

كذلك لم يكن للمالية إدارة أو صفة محدَّدة أو تشكيل معلوم، إلى أن بَدأ الملك عبد العزيز - يرحمه الله - بإنشاء إدارة للجباية في كُلِّ بلدٍ مرجعها لأمير البلد نفسه، ثُمَّ رُبِطَت هذه الإدارات في عام 1346 هـ بمديرية المالية العامَّة بمكَّة المكرَّمة، ثُمَّ جرى تحويل هذه المديرية إلى وكالة للمالية عام 1348 هـ. وبعد ذلك تطورت الوكالة، وتحسَّن وضعها الإداري إلى أن أصبحت (وزارة المالية) عام 1351 هـ، وكان الشيخ عبد الله بن سليمان الحمدان أول وزير لها، ويرتبط معه عِدَّة إدارات ومصالح حكومية أخرى قبل تنظيمها، مثل الحج، والزراعة، والأوقاف، والأشغال العامة، والخارجية.

وعندما اكتشفت المعادن في البلاد كالنفط، والذهب، أُنْشِئَت في الوزارة إدارة تُعْنَى بها هي (إدارة المعادن)[60] .

وأمَّا ما يتعلَّق (بالنقد) فلم يكن هنالك عملة موحدة في الجزيرة العربية قبل المملكة العربية السعودية، بل كانت هنالك عملات عديدة، تبعاً لنوعية اختلاف كُلّ إقليم واتجاهه السياسي، وإن كان الغالب على العملات آنئذ (العملة التركية النحاسية، والفضية، والذهبية، وكذلك الدولار النمساوي المسمَّى الريال الفرنساوي) .

وبعد أن أتمَّ الملك عبد العزيز - يرحمه الله - توحيد المملكة، ابتدأ في الاهتمام بالعملة النقدية وتوحيدها على حسب المراحل والخطوات التالية [61] :

ص: 461

1 -

العملة النحاسية - أو ما يطلق عليه (التفاريق) : وكانت تستعمل في ذلك عملة تركية، وبعد دخول الملك عبد العزيز الحجاز أمر بسك نقود نحاسية سعودية، وقامت بذلك بلدية مكَّة المكرَّمة، فظهر القرش السعودي، ونصفه، وربعه.

2 -

العملة الفضية: حيث كان المستعمل في أكثر أقاليم الجزيرة العربية قبل توحيدها هو الدولار النمساوي (ماريا تريزا) والذي كان يعرف بالريال الفرنساوي. وقد شاع استعمال هذه العملة في أكثر البلاد العربية منذ الحملة الفرنسية الصليبية على مصر عام 1313 هـ، ولكن الملك عبد العزيز أمر بسك ريال سعودي فضي بديلاً عنه عام1347هـ، وكان تقبل الناس له بالتدريج.

3 -

العملة الذهبية: كانت تستعمل في كثيرٍ من الأقاليم الجنيه الذهبي الإنجليزي، وكذلك الليرة العثمانية الذهبية، ولكن الملك عبد العزيز أمر بسك جنيه ذهبي سعودي وقيمته الرسمية 40 ريالاً سعودياً.

4 -

العملة الورقية: وذلك حينما شاعت الأوراق النقدية في العالم وكثر التداول بها، أمر الملك عبد العزيز بإصدار عملة ورقية سعودية، وكانت أولاً من فئة 10 ريالات، ثُمَّ توالى إصدار الفئات الورقية الأخرى.

وأمَّا ما يتعلَّق بميزانية الدولة فلم تتقرَّر وتتضح إلَاّ عام 1353 هـ ومنذ ذلك التاريخ وهي تمر بمراحل قوة وضعف حسب الواردات والمصروفات والأحداث العالمية إلى أن استقرَّت وتحسَّنت بعد الحرب العالمية الثانية، وتصدير البترول السعودي بكميات تجارية [62] .

ثامناً الإعلام:

لا شكَّ أنَّ للإعلام أهميةً كبرى في أي مجتمع، فهو الذي يعني بتزويد الناس بالحقائق والمعلومات الصادقة الصحيحة، والعمل على خدمة المجتمع وتثقيفه وتبصيره في مختلف المجالات والميادين [63] .

كذلك يسهم الإعلام في تقوية الرابطة الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد، وإبطال كُلّ المحاولات الرامية إلى توهين المجتمع، أو إضعافه والنيل منه.

ص: 462

أيضاً للإعلام وظيفة هامَّة جدّاً في توضيح العقيدة الإسلامية، وإبراز محاسن الدعوة الإسلامية، وما اشتملت عليه الشريعة من أحكام وتوجيهات نافعة قيمة للإنسان في دنياه وآخرته [64] .

ومن هنا كان للإعلام أهميته عند الملك عبد العزيز - يرحمه الله - حيث أدرك بثاقب نظره الوظائف والأدوار الاجتماعية الهامة التي يمكن أن يقدمها الإعلام في أي مجتمع، وخاصَّة في مجتمع المملكة المتعدد والمترامي الأطراف.

ومن صور اهتمام الملك عبد العزيز بوسائل الإعلام المتاحة في عهده مايلي:

أولاً: الصحافة:

لم تكن الصحافة معروفة في الجزيرة العربية إلَاّ في منطقة الحجاز إبان العهد العثماني أو الهاشمي. ولَمَّا توحَّدت المملكة صدرت أول صحيفة سعودية وهي (أم القرى) وكانت تسمَّى قبل ذلك (بالقبلة) . وصدر أول عدد من صحيفة أم القرى في 15 جمادى الأولى عام 1343 هـ حيث اعتبرت الجريدة الرسمية للمملكة ولا زالت.

وفي 27 ذي القعدة عام 1350 هـ صدرت الصحيفة الثانية في منطقة الحجاز باسم (صوت الحجاز) وتوقَّفت لمدَّة سبعة أعوام بسبب ارتفاع أسعار الورق، ثُمَّ عادت للصدور باسم (البلاد السعودية) .

وفي عام 1356 هـ صدرت الصحيفة الثالثة باسم (المدينة المنورة) وكانت تصدر في المدينة، ثُمَّ انتقلت إلى جده [65] .

أمَّا المجلَاّت، فقد كانت أكثر إصداراً من الصحف، ففي منطقة الحجاز مثلاً، ظهرت مجلة (المنهل) في المدينة المنورة، ثُمَّ انتقلت إلى مكة المكرَّمة، وذلك عام 1355 هـ. كما ظهر في مكَّة المكرَّمة (مجلة الحج) وتصدرها إدارة الحج، وذلك في عام 1366 هـ. ثُمَّ ظهرت في مكَّة المكرَّمة بعض المجلات (كالإصلاح) عام 1347 هـ، و (النداء الإسلامي) عام 1356 هـ. وفي جده ظهرت مجلة (الغرفة التجارية) عام 1367 هـ، ولكن تلك المجلات لم تستمر طويلاً حيث توقفت بعد ذلك.

ص: 463

وأمَّا في بلاد نجد فأول ما ظهر فيها من صحف (مجلة اليمامة) وذلك عام 1372هـ، وكانت شهرية.

وأمَّا في المنطقة الشرقية فكان أول إصدار صحفي فيها كان عام 1372هـ، حينما أصدرت شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) مجلة منوعة باسم (قافلة الزيت)[66] .

ثانياً: الإذاعة:

كان أوَّل يوم عرفت فيه المملكة العربية السعودية الإذاعة 9 ذي الحجة 1368 هـ، وذلك حينما افتتحت الإذاعة إرسالها في حج ذلك العام بكلمة من الملك عبد العزيز لحجَّاج بيت الله الحرام، ألقاها نيابةً عنه ابنه الأمير فيصل. وجعل مقر الإذاعة في جده، ثُمَّ أُنْشِئَت في مكة المكرمة عام 1371هـ محطة إذاعية أُخرى.

وقد جعل للإذاعة إدارة ترتبط بوزارة المالية، وقد شمل إرسال الإذاعة آنذاك بعض مناطق المملكة، وبعض الدول المجاورة، وكانت تركز على القرآن الكريم، والتوجيهات الإسلامية، وقراءة نشرات الأخبار [67] .

ثالثاً: طباعة ونشر الكتب والعلوم النافعة:

لقد بلغ اهتمام الملك عبد العزيز رحمه الله إفادة الناس وإعلامهم بما يحتاجون إليه مبلغاً عظيماً، ولم تثنه الخطوب العظيمة والأحداث الجسيمة عن هذا العمل الجليل. فقد أمر - يرحمه الله - بطباعة ونشر العديد من الكتب والرسائل العلمية الجامعة النافعة وتوزيعها على طُلَاّب العلم ومَنْ يحتاج إليها مجَّاناً. وكانت تلك الكتب تُطْبَع في خارج المملكة لعدم وجود مطابع جيّدة بالداخل. وقد اشتملت تلك الكتب على أنواع عديدة ككتب تفسير القرآن الكريم، والتوحيد، والفقه وأصوله، والفتاوى، وبعض كتب التاريخ والحديث والوعظ والأدب والشعر، حتى زاد عدد الكتب المطبوعة في عهده عن المائة. فكان لتلك الكتب أثرها العظيم في تعليم الناس وإرشادهم وتثقيفهم، وتزويدهم بالعقيدة الإسلامية الصحيحة، وما يهمهم معرفته والعلم به من أحكام دينهم الإسلامي الحنيف [68] .

الخاتمة

ص: 464

الحمد لله الذي تتمّ بنعمته الصالحات، وتزكو به الطيبات النافعات، والصلاة والسلام على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه ذوي الجود والمكرمات.

أمَّا بعد..

ففي ختام هذا البحث لا يسعني إلَاّ أنْ أشكُرَ الله تعالى وأحمده بما هو أهل له في الآخرة والأولى، وأسأله سبحانه المزيد من فضله وإنعامه وإحسانه وتقواه.

ثُمَّ أودّ أن أُسَجِّلَ بعض النتائج والتوصيات التالية:

أولاً: أنَّ للأمن أهمية كبرى في الإسلام، وآثاراً عظيمة في حياة الفرد والمجتمع المسلم، ويستبين ذلك من خلال العديد من النصوص والآثار والتطبيقات الدالَّة عليه، والتي من خلالها يتأكَّد لنا أنَّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي رعى الأمن وشرعه، وأكَّده، وحضَّ عليه، وجعله لازماً من لوازم الحياة لاغنى لأحد عنه.

ثانياً: أنَّ للمملكة العربية السعودية خصائص وضروراتٍ تجعل من الأمن مطلباً حقيقياً لها، ومن ذلك كونها حامية وراعية للديار المقدسة، قبلة الإسلام والمسلمين، ومقصدهم كل حين ووقت، وكونها أيضاً منطلق الدعوة ومبعث الرسالة إلى الخلق أجمعين.

ثالثاً: كشَفَ البحث عن الجهود العظيمة والمضنية التي قام بها الملك عبد العزيز - يرحمه الله - في سبيل توحيد هذا المجتمع وبسط الأمن في ربوع هذه البلاد، ونشره بين أجزائها المترامية الأطراف.

رابعاً: سَلَك الملك عبد العزيز سبلاً هامَّة، واستخدم وسائل مؤثرة وناجعة في تقريره للأمن بين الناس.

خامساً: كما أثبتَ البحث وأكد أنَّ هنالك نتائج عظيمة، وفوائد قيِّمة نافعة عادت على مجتمع المملكة العربية السعودية من خلال بسط الملك عبد العزيز للأمن، ودعوة الناس للالتزام به.

ص: 465

سادساً: وفي مجال التوصيات يوصي الباحث بضرورة الاهتمام بالجانب الأمني في حياة المجتمع بمعناه الواسع، سواء أكان الأمن العقدي، أو الفكري، أو الحسي، أو المعرفي والثقافي، أو الاقتصادي والاجتماعي، أو البيئي، أو المائي والزراعي، وغير ذلك مِمَّا يحتاجه الفرد والمجتمع، وذلك بعقد الندوات وإقامة المحاضرات، واستكتاب الباحثين فيه، وإعلام الناس وإقناعهم بأهمية ذلك، وضرورة مشاركة كل إنسان حسب جهده وطاقته.

سابعاً: يوصي الباحث بتخصيص أسبوع معين في السنة يسمَّى (الأسبوع الأمني) تجدد فيه أهمية الأمن، ويُذَكَّر فيه الناس بما يجب أن يكونوا عليه بعد أنْ مَنَّ الله تعالى عليهم بنعمة الأمن والاستقرار.

ثامناً: يوصي الباحث الجهات الأمنية المعنية وغيرها، كدارة الملك عبد العزيز بتخصيص جائزة سنوية لأفضل بحث مستكتب عن (الأمن في المملكة العربية السعودية) بمعناه الواسع والشامل.

تاسعاً: كما يوصي الباحث تضمين المناهج الدراسية في مراحل التعليم المختلفة موضوعات عن الأمن وأهميته وفوائده للفرد والأسرة والمجتمع ومخاطر التهاون في ذلك.

وفي الختام أضرع إلى الله تعالى أن يحفظ لنا ديننا الذي فيه عصمة أمرنا، وسعادتنا في دنيانا وأخرانا، كما أسأله تعالى أن يحفظ لنا وحدتنا وأمننا واستقرارنا، وأن يوفق ولاة أمرنا لما يحبه ويرضاه، ولِمَا فيه الخير للإسلام والمسلمين، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فهرس المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

1 -

الأحكام السلطانية والولايات الدينية: لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي (دار الكتب العلمية، بيروت، 1402 هـ) .

ص: 466

2 -

أثر قوة الملك عبد العزيز في تكوين المملكة: للدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم (وذلك ضمن بحوث المؤتمر العالمي عن تاريخ الملك عبد العزيز، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1406 هـ) .

3 -

أساس البلاغة: لأبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، تحقيق الأستاذ عبد الرحيم محمود (دار المعرفة، بيروت) .

4 -

الاستراتيجية الدولية، وقضايا الأمن الوطني في المملكة العربية السعودية: للدكتور عبد الله سعود القباع (ط 2، مطابع الفرزدق التجارية، الرياض 1410هـ) .

5 -

الإعلام الإسلامي (الأهداف والوظائف) : د. سيد محمد ساداتي الشنقيطي (ط 1، دار عالم الكتب، الرياض، 1411هـ) .

6 -

الإعلام في ضوء الإسلام: د. عمارة نجيب (ط 1، مكتبة المعارف الرياض، 1400هـ) .

7 -

إعلام الموقعين عن رَبِّ العالمين: للإمام ابن قَيِّم الجوزية، بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد (ط2، دار الفكر، بيروت، 1397هـ) .

8 -

الأمن الذي نعيشه: جزءان - لحسن عبد الحي قزاز (ط 1، مطابع شركة دار العلم للطباعة والنشر، جده، 1409 هـ) .

9 -

الأمن في حياة الناس وأهميته في الإسلام: لمعالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي (ملتزم الطبع والنشر: وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية) .

10 -

الأمن القومي: لعبد الكريم نافع (مطبوعات دار الشعب، القاهرة، 1975م) .

11 -

الأمن القومي العربي، واستراتيجية تحقيقه: للواء عدلي حسن سعيد (الدار القومية، القاهرة، 1977م) .

12-

الأمن القومي والأمن الجماعي الدولي: للدكتور ممدوح شوقي مصطفى كامل (دار النهضة العربية، القاهرة، 1985م) .

13-

تاريخ الدولة السعودية: لأمين سعيد (طبع دارة الملك عبد العزيز بالرياض) .

14-

تاريخ نجد الحديث: لأمين الريحاني (ط 1، بيروت، بدون) .

ص: 467

15-

تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي: للإمام الحافظ أبي العُلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري (دار الكتب العلمية، بيروت) .

16-

التعريف بالمصطلح الشريف: للقاضي ابن فضل الله العُمَري، بتحقيق محمد حسين شمس الدين (ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت 1408 هـ) .

17-

تفسير الطبري (المسمى جامع البيان في تأويل القرآن) : لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ط1، دار الكتب العلمية، بيروت 1412هـ) .

18-

تفسير القرآن العظيم: للحافظ إسماعيل بن كثير القرشي (دار المعرفة، بيروت، 1402 هـ) .

19-

توحيد المملكة العربية السعودية: لمحمد المانع (ط 1، بدون، 1402هـ) .

20-

توحيد المملكة العربية السعودية، وأثره في الاستقرار الفكري والسياسي والاجتماعي: للدكتور محمد عبد الله السلمان، باعتناء الأمانة العامة لجائزة المدينة المنورة (ط 1، مطابع مؤسسة المدينة للصحافة، جده، 1416هـ) .

21-

جزيرة العرب في القرن العشرين: لحافظ وهبة (ط5، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1387 هـ) .

22-

حالة الأمن في عهد الملك عبد العزيز: لرابح لطفي جمعة (مطبوعات دارة الملك عبد العزيز - 23 - الرياض، 1402 هـ) .

23-

الحِسْبة في الإسلام: لشيخ الإسلام ابن تيمية (دار الكتاب العربي، بدون) .

24-

الحياة العلمية والثقافية والفكرية في المملكة العربية السعودية: لعبد الله العثيمين (بحث أُعِدَّ بمناسبة الأسبوع الثقافي السعودي في الجزائر، 1404هـ) .

25-

خمسون عاماً في جزيرة العرب: لحافظ وهبة (ط 1، بدون 1380هـ) .

26-

دراسة في التاريخ العربي الحديث والمعاصر: للدكتور محمد عبد الرحمن برج (مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1974م) .

27-

الدعوة في عهد الملك عبد العزيز: للدكتور محمد ناصر الشثري (ط1، بدون، 1417 هـ) .

ص: 468

28-

روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام: للشيخ حسين بن غنام (ط1، على نفقة الشيخ عبد المحسن بن عثمان أبابطين، مطبعة الحلبي بمصر، 1368هـ) .

29-

سنن ابن ماجه: للحافظ محمد بن يزيد القزوينى، تحقيق وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي (دار الريان للتراث، القاهرة) .

30-

سنن أبي داود: للإمام الحافظ أبي سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي، إعداد وتعليق عزت عبيد الدعاس، وعادل السيد (ط 5، دار الحديث، بيروت، 1388 هـ) .

31-

سنن الترمذي: لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، بتحقيق وتعليق إبراهيم عطوة عوض (شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وشركاه القاهرة) .

32-

سنن النسائي (المجتبى) : للحافظ أبي عبد الرحمن بن شعيب النسائي (ط 1، شركة مصطفى الحلبي وأولاده، القاهرة، 1383هـ) .

33-

شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز: لخير الدين الزركلي (ط 5 دار العلم للملايين، بيروت، 1992م) .

34-

الصحاح: لإسماعيل بن حمَّاد الجوهري، بتحقيق أحمد عبد الغفور عطار (ط 3، دار العلم للملايين، بيروت، 1404هـ) .

35-

صحيح البخاري (المسمَّى الجامع الصحيح المسند من حديث رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه) : لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري بشرح محب الدين الخطيب، وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ونشر ومراجعة قصي محب الدين الخطيب (ط 1، المطبعة السلفية ومكتبتها، القاهرة، 1400 هـ) .

36-

صحيح جامع بيان العلم وفضله: للحافظ ابن عبد البر، أعدَّه واختصره: أبو الأشبال الزهيري (ط 1، مكتبة ابن تيمية، القاهرة، 1416هـ) .

37-

صحيح الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير) : للشيخ محمد ناصر الدين الألباني (ط 2، المكتب الإسلامي، بيروت، 1406هـ) .

ص: 469

38-

صحيح سنن ابن ماجه: للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، بتكليف من مكتب التربية العربي لدول الخليج بالرياض (ط 1، توزيع المكتب الإسلامي، بيروت، 1409هـ) .

39-

صحيح سنن الترمذي: للشيخ محمد ناصر الدين الألبانى، بتكليف من مكتب التربية العربي لدول الخليج بالرياض (ط1، المكتب الإسلامي بيروت، 1408هـ) .

40-

صحيح مسلم: للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري بتحقيق وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي (مطبعة دار إحياء الكتب العربية، القاهرة) .

41-

صقر الجزيرة: لأحمد عبد الغفور عطار (ط 4، توزيع وزارة الإعلام، 1397 هـ) .

42-

ظاهرة الأمن في عهد الملك عبد العزيز: لعبد العزيز الأحيدب (ط 1، بدون) .

43-

عبد العزيز آل سعود: سيرة بطل ومولد مملكة: لبنوا ميشان (دار الكاتب العربي، بيروت) .

44-

عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية وأثرها في العالم الإسلامي: لمعالي الدكتور صالح بن عبد الله العبود (ط1، إصدار المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وذلك ضمن سلسلة إحياء التراث الإسلامي، رقم - 17 - 1408 هـ) .

45-

عناية الملك عبد العزيز بنشر الكتب: لعبد العزيز الرفاعي (ضمن بحوث المؤتمر العالمي عن تاريخ الملك عبد العزيز، مطابع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1406 هـ) .

46-

عنوان المجد في تاريخ نجد: لعثمان بن عبد الله بن بشر، بتحقيق وتعليق عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن عبد الله آل الشيخ (ط 1، بعناية وزارة المعارف بالمملكة العربية السعودية، 1394 هـ) .

47-

القاموس المحيط: للفيروزآبادي (دار الفكر، بيروت، 1403هـ) .

48-

قلب جزيرة العرب: لفؤاد حمزة (ط 2، مكتبة النصر الحديثة، الرياض 1388 هـ) .

49-

لسان العرب المحيط: للعلَاّمة محمد بن مكرم بن منظور، إعداد وتصنيف يوسف خياط (دار لسان العرب، بيروت) .

ص: 470

50-

لمحات عن التعليم وبداياته في المملكة العربية السعودية: لعبد العزيز عبد الله آل الشيخ (ط 1، بدون، 1412 هـ) .

51-

ماضي الحجاز وحاضره: لحسين نصيف (ط 1، 1349هـ) .

52-

مسند الإمام أحمد بن حنبل: (مؤسسة قرطبة، القاهرة) .

53-

معجزة فوق الرمال: أحمد عَسَّه (ط 2، المطابع الأهليه اللبنانية، بيروت 1386 هـ) .

54-

معجم مقاييس اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، بتحقيق: عبد السلام محمد هارون (دار الكتب العلمية، إيران) .

55-

مقدمة ابن خلدون: (ط 4، نشر دار الباز، بمكة المكرمة، 1398هـ) .

56-

موسوعة السياسة: للدكتور عبد الوهاب الكيالي وآخرين (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1979 م) .

57-

نشأة الصحافة في المملكة العربية السعودية: د. محمد عبد الرحمن الشامخ (ط 1، بدون، 1402هـ) .

58-

نشأة وتطور الإذاعة في المجتمع السعودي: لبدر أحمد كريِّم (ط 1 دار عكاظ للطباعة والنشر، جده، 1402 هـ) .

59-

نظام الحِسْبة في الإسلام: لعبد العزيز بن محمد المرشد (اعتناء ونشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) .

60-

الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز: لخير الدين الزركلي (ط 4، دار العلم للملايين، بيروت، 1984م) .

مجلَاّت ودوريات:

61 – شؤون عربية: العدد 35، 1984 م، مقال بعنوان: الأمن القومي العربي دراسة في الأصول: للدكتور على الدين هلال.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

سورة ق، آية 18

[2]

سورة المائدة، آية 48

[3]

سورة الجاثية، آية 18

[4]

سورة المائدة، آية 50

[5]

سورة الأحزاب، آية 36

[6]

إعلام الموقعين، للإمام ابن قَيِّم الجوزية 3/14

[7]

حالة الأمن في عهد الملك عبد العزيز، لرابح لطفي جمعة ص 83

ص: 471

[8]

الدعوة في عهد الملك عبد العزيز، د. محمد بن ناصر الشثري 1/197

[9]

الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 215

[10]

انظر: الدعوة في عهد الملك عبد العزيز، د. محمد بن ناصر الشثري 1/209-213

[11]

سورة البقرة، آية 179.

[12]

سورة النحل، آية 90.

[13]

سورة المائدة، آية 8.

[14]

الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 215

[15]

سورة آل عمران، آية 104

[16]

سورة آل عمران، آية 110

[17]

صحيح مسلم 1/69 كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان، رقم 49، وسنن أبي داود 1/677 كتاب الصلاة، رقم 1140، وسنن الترمذي 4/469 كتاب الفتن، رقم 2172، وسنن النسائي 8/96 كتاب الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان، وسنن ابن ماجه 1/406 كتاب إقامة الصلاة، رقم 1275

[18]

شرح النووي على صحيح مسلم 2/22

[19]

الحسبة في الإسلام، للإمام ابن تيمية ص 6

[20]

الأحكام السلطانية والولايات الدينية، لأبي الحسن الماوردي ص 240

[21]

انظر الكتب التالية: نظام الحسبة في الإسلام، لعبد العزيز المرشد ص 15

والدعوة في عهد الملك عبد العزيز، د. محمد بن ناصر الشثري 1/323

[22]

انظر: حالة الأمن في عهد الملك عبد العزيز، لرابح لطفي جمعة ص 96

[23]

انظر: مقدمة ابن خلدون ص 41

[24]

سورة الروم، آية 32

[25]

سورة النساء، آية 59

[26]

انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 207

[27]

معجزة فوق الرمال، لأحمد عَسَّه ص 61

[28]

انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 271

[29]

انظر: معجزة فوق الرمال، لأحمد عَسَّه ص 62 - 65

[30]

انظر: قلب جزيرة العرب، لفؤاد حمزة ص 99

[31]

سورة الزمر، آية 9

[32]

سورة المجادلة، آية 11

ص: 472

[33]

سنن ابن ماجه 1/81 المقدمة.

وانظر: صحيح جامع بيان العلم وفضله، للحافظ ابن عبد البر ص 8 وقال الألباني: صحيح. انظر: صحيح الجامع الصغير 2/727 رقم 3913

[34]

انظر: لمحات عن التعليم وبداياته في المملكة، لعبد العزيز عبد الله آل الشيخ ص 15.

[35]

انظر: الحياة العلمية والثقافية والفكرية في المملكة العربية، لعبد الله العثيمين ص10-15.

[36]

جزيرة العرب في القرن العشرين، لحافظ وهبة ص 137

[37]

توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 91

[38]

انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 253.

وكذلك راجع: ظاهرة الأمن في عهد الملك عبد العزيز، لعبد العزيز الأحيدب ص140 وما بعدها.

[39]

انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 161

[40]

الدعوة في عهد الملك عبد العزيز، د. محمد ناصر الشثري 1/170

[41]

الدعوة في عهد الملك عبد العزيز، د. محمد ناصر الشثري 1/138

[42]

المصدر السابق 1/197

[43]

الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي ص 216

[44]

سورة الإسراء، آية 33

[45]

سورة النساء، آية 29

[46]

رواه مسلم في صحيحه 4/1986 كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، رقم 2564 واللفظ له.

ورواه الترمذي في سننه 4/325 كتاب البر والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم، رقم 1927

وابن ماجه في سننه 2/1298 كتاب الفتن، باب حرمة دم المؤمن وماله، رقم 3933

وأحمد في مسنده 2/277

[47]

سورة النور، آية 33

[48]

سورة الجمعة، آية 9 - 10

[49]

انظر: الدعوة في عهد الملك عبد العزيز، د. محمد بن ناصر الشثري 1/48

[50]

توحيد المملكة العربية السعودية، لمحمد المانع ص 71

ص: 473

[51]

انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 72

[52]

توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 81

[53]

انظر: الوجيز، لخير الدين الزركلي ص 97

[54]

انظر: عبد العزيز آل سعود، لبنوا ميشان ص 220

[55]

شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 3/1015

[56]

انظر: توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 75.

[57]

المصدر السابق ص 75-77.

[58]

انظر: شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 1/415، وتوحيد المملكة، لمحمد المانع ص 276

[59]

انظر: الوجيز، لخير الدين الزركلي ص 201، وتوحيد المملكة د. محمد السلمان ص78

[60]

توحيد المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الله السلمان ص 89.

[61]

انظر: المصدر السابق ص 93.

[62]

الوجيز، لخير الدين الزركلي ص 205

[63]

انظر عن مفاهيم الإعلام، كتاب: الإعلام في ضوء الإسلام، د. عمارة نجيب ص16

[64]

انظر أكثر عن وظائف الإعلام في كتاب: الإعلام الإسلامي (الأهداف والوظائف) د. سيد محمد ساداتي الشنقيطي ص7

[65]

نظر: نشأة الصحافة في المملكة العربية السعودية، د. محمد عبد الرحمن الشامخ ص100.

[66]

نظر: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 3/1024.

[67]

للتوسع في الموضوع انظر: نشأة وتطور الإذاعة في المجتمع السعودي، لبدر أحمد كريم ص 35 وما بعدها.

[68]

انظر: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي 3/1029، وعناية الملك عبد العزيز بنشر الكتب، لعبد العزيز الرفاعي. ضمن بحوث المؤتمر العالمي عن تاريخ الملك عبد العزيز.

ص: 474

الرعاية الصحية لحجاج بيت الله الحرام

في عهد الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله

الدكتور عبد العزيز محمد نورولي

كلية الدعوة وأصول الدين

قسم التاريخ

مقدّمة

إِنَّ اْلْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَاْلِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اْللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَاْدِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اْللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

وبعد:

تحتفل المملكة العربية السعودية في هذا العام بمرور مائة عام على قيام الدولة السعودية الثالثة التي أسسها الملك عبد العزيز رحمه الله، ورغبة مني في المشاركة بهذا الاحتفال بما يتناسب مع هذا الحدث العظيم أحببت أن تكون مشاركتي هذه بتسجيل أحد إنجازات مؤسس هذا الكيان العظيم.

ولما كان التاريخ الحضاري هو من الجوانب المهمة التي برزت من خلالها عبقرية الملك عبد العزيز رحمه الله أحببت أن أسجل جانبا من جهوده في هذا الجانب الذي لم يقتصر أثره على أهل هذا البلد الكريم بل تعداه ليشمل جميع الشعوب الإسلامية، وذلك من خلال حرصه على الوافدين من تلك الشعوب الإسلامية إلى الحرمين الشريفين لأداء فريضة الحج، فكان موضوع بحثي هذا هو:

" الرعاية الصحية لحجاج بيت الله الحرام في عهد الملك عبد العزيز

آل سعود رحمه الله "

وقد قسمت البحث إلى مباحث، فبعد هذه المقدمة يأتي:

التمهيد.

المبحث الأول: وضع العناية الصحية في مكة قبل الحكم السعودي.

المبحث الثاني: اهتمام الملك عبد العزيز بالحج.

المبحث الثالث: التنظيمات الصحية للعناية بالحجاج.

المبحث الرابع: إنشاء المحاجر الصحية.

ص: 475

المبحث الخامس: إنشاء المراكز الطبية على طرق الحج والاستفادة من الخبرات الأجنبية.

المبحث السادس: منظمة الصحة العالمية والحج والتعليم الصحي.

والخاتمة بالإضافة إلى فهرس المصادر والمراجع، ومحتويات البحث.

وقد حرصت في هذا البحث على إبراز معظم ماسطرته المصادر حول موضوعي هذا، ولقد كان لقلة المصادر التي تناولت هذا الجانب الهام من جوانب تاريخ المملكة العربية السعودية - وذلك لكون الدولة السعودية ما تزال في تلك الفترة الزمنية في طور الانشاء - أثره في صغر حجم البحث، ومع ذلك فقد ضمّ - والحمد لله - معلومات جيدة في موضوعه.

ولا يسعني في ختام هذه المقدمة إلا أن أشكر معالي الدكتور صالح بن عبد الله العبود مدير الجامعة الإسلامية الذي أتاح لي هذه الفرصة بالكتابة حول هذه المناسبة العظيمة، كما أشكر مجلة الجامعة على اختيارها موضوعي كأحد المواضيع المناسبة والصالحة للنشر، وأشكر كل من ساهم في إبراز موضوعي بالشكل المناسب، وأدعو الله للجميع بالتوفيق والسداد.

تمهيد

قال الله تعالى: {وأذّن في النَّاسِ بالحَجِّ يأْتوكَ رجَالاً وعلى كُلِّ ضامرٍ يأْتينَ من كُلِّ فجٍّ عميقٍ ليشهدُوا منافِعَ لهُمْ ويذكروا اسْمَ الله في أيامٍ معلوماتٍ على ما رزقهُمْ من بهيمَةِ الأنْعامِ فكُلُوا منها وأطْعِمُوا البآئسَ الفقِيرَ ثُمّ ليقْضُوا تفثهُمْ ولْيُوفوا نُذُورَهُم ولْيطَّوّفُوا بالبَيْتِ العَتِيقِ} [سورة الحج آية 27-29] .

أمر الله نبيه إبرهيم الخليل عليه الصلاة والسلام بأن ينادي في الناس بالحج إلى بيت الله الحرام [1] ، ومنذ ذلك الوقت، والناس يفدون إلى البيت العتيق للحج.

وقد فرض الحج في الإسلام في العام السادس الهجري، وجاءت الأقوال بأنه أختلف في سنته: فالجمهور على أنه في العام السادس وقيل: في الخامس الهجري [2] وقيل: التاسع الهجري [3] .

ص: 476

وحج الرسول صلى الله عليه وسلم في العام العاشر الهجري ودعا الناس لموافاته في الحج فاستجاب له أربعون ألفا [4] .

ومنذ ذلك الوقت والناس يفدون إلى الحج كل عام من مختلف بقاع الأرض، وقام ولاة الأمر منذ ذلك الوقت برعاية الحجيج والاهتمام بشؤونهم، وتفاوت هذا الاهتمام على مرّ السنين والأعوام بحسب طبيعة الدولة التي تقع مكة والمدينة تحت ظلها.

المبحث الأول

وضع العناية الصحية في مكة قبل الحكم السعودي

كانت مكة في أوائل القرن الرابع عشر الهجري تعاني من ضعف العناية الصحية، ولم يكن التداوي يعرف بين أهلها إلا بالطرق القديمة والعقاقير النباتية البسيطة، وكان أفراد من أهل الهند يمارسون هذه الصناعة بمكة، كما كان نفر من البدو يعالجون الكسور بالتجبير، ويعالجون بعض الأمراض بالكي، ولم يكن في مكة في ذلك الوقت إلا مستشفى واحد تأسس قديما على نفقة إحدى كريمات السلاطين العثمانيين، وكان فيه طبيب واحد، وصيدلي واحد، ومعاون لتضميد الجراحات الخفيفة [5] ، وكانت العناية بالمستشفيات غير كافية لأهل مكة أنفسهم فكيف غيرهم من الحجاج الوافدين على مكة؟

وفي ولاية عثمان نوري باشا [6] في أوائل ذلك القرن تأسست دائرة الصحة في أجياد [7] : مكونة من طبيب، وصيدلي، ومضمد للجراح، ولم تكن هذه الدائرة تستطيع أن تفعل شيئا إذا وقع أي وباء بين الحجيج حيث إنه لم تكن وسائل الاحتياطات والوقاية معروفة في ذلك الوقت - ولله الأمر من قبل ومن بعد - كما حصل في عام 1310هـ حيث اجتاح وباء الكوليرا مكة فمات من جراء ذلك خلق كثير يعدون بالآلاف، بل اضطر آلاف الحجيج أن ينقطعوا عن إتمام المناسك ويغادروا منى في أول أيام النحر، ولم تنفع جهود الدولة العثمانية في التخفيف عن الناس من ذلك الوباء بل زادت معاناتهم، واستمر الحال كما هو في عام 1319هـ حينما اجتاح وباء آخر مكة [8] .

ص: 477

وفي عام 1330هـ جلبت الدولة العثمانية عددا من الأطباء للعناية بشؤون الحج، ولم يكن لذلك كبير أثر، كما وسعت إدارة الصحة وافتتح خلفها مكان لتنويم المرضى ومعالجتهم [9] .

وفي عام 1334هـ قام الشريف حسين [10] بتزويد دائرة الصحة بأربعة أطباء من الشام إضافة إلى الطبيب المقيم فيها أصلا، وأضيف إلى مهمات مدير الصحة تحديد عدد الحجاج في الغرف التي يسكنونها، ومعاقبة المطوفين المخالفين للعدد المقرر [11] .

وأحيانا كان للسياسة أثرها في إضعاف العناية الصحية بالحجاج، كما حدث في عام1341هـ حيث أرفقت الحكومة المصرية مع حجاجها المصريين هيئة طبية للعناية بهم، وتبقى هذه الهيئة على نحو دائم في مكة، ولما لم يسبق استئذان الشريف حسين في أمرها أبى أن يسمح لها بالنزول إلى جدة، فما كان من الحكومة المصرية إلا أن أمرت بإرجاع الباخرة بما عليها [12] .

وعموما فإن مكة قبل الحكم السعودي كانت تعاني من ضعف الرعاية الصحية وكان لهذا أثر سلبي حتى على حجاج بيت الله الحرام.

المبحث الثاني

اهتمام الملك عبد العزيز بالحج

دخل الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود مكة في 8 جمادى الأولى [13] ، ودخل جدة في 8 جمادى الثانية عام 1344هـ الموافق 24 كانون الأول ديسمبر عام 1925م، وتم إقرار مبايعة الملك عبد العزيز ملكا على الحجاز في 25 جمادى الثانية من العام نفسه الموافق 8 كانون الثاني يناير [14] ، وفي 21 جمادى الأولى سنة 1351هـ الموافق 22 سبتمبر سنة 1932م صدر مرسوم ملكي بتوحيد أجزاء الدولة جميعها، فأصبحت مملكة واحدة باسم: المملكة العربية السعودية [15] .

ص: 478

أخذت المملكة العربية السعودية منذ تأسيسها على يد الملك عبد العزيز رحمه الله على عاتقها رعاية حجاج بيت الله الحرام، وقد أدت هذه الأمانة بكل أمانة وإخلاص، ومن بين الجوانب التي اهتمت ب-ها للقيام برعاية الحجيج، الجانب الصحي الذي أولته اهتماماً كبيراً جداً، وأنفقت عليه آلاف الملايين من الريالات [16] .

لقد كان الملك عبد العزيز رحمه الله من قبل دخوله الحجاز من أعرف الناس بما يشكوا منه المسلمون كلما أتوا لأداء فريضة الحج، وليس أدل على ذلك من انسحابه بجنده أثناء حصاره لجدة من جبهة القتال أيام الحج [17] ؛ ولذلك اهتم بنفسه منذ دخوله الحجاز في وضع النظام الجديد للحجيج الذي يضمن سلامتهم وأمنهم وطمأنينتهم وأموالهم، واتخذ التدابير اللازمة بما يمنع استغلالهم، واستمر الملك عبد العزيز طوال فترة ملكه حتى وفاته - يرحمه الله - في 2ربيع الأول 1373هـ الموافق 8 تشرين الثاني نوفمبر عام 1953م [18] قائما بكل مسؤولياته الملقاة على عاتقه في جانب رعاية الحجيج على أكمل وجه رغم ضعف الإمكانيات المادية والمعنوية التي كانت تواجهها الدولة في بداية عهدها، لأنه في تلك الفترة لم يكن جهاز الدولة قد شكل بعد، والوضع المالي للبلد لم يكن مسعفا [19] ، ووسائل النقل الآلي لم تنتشر في الحجاز [20] ، والاتصالات اللاسلكية لم تكن معروفة في هذا الجزء من العالم، والاتصالات السلكية الموروثة من العهد العثماني كانت بدائية للغاية، ورغم أن عدد الحجاج قد بلغ - في السنة الأولى التي تولى فيها الملك عبد العزيز ملك الحجاز - زهاء مائة ألف حاج، وكان هذا العدد يعدّ رقما قياسيا في تلك الفترة من التاريخ [21] .

ص: 479

ولا يخفى على كل من يهتم بشؤون الحجيج أهمية هذا الجانب، وبخاصة أن عدد الحجيج يتزايد في كل عام [22] ، حتى وصل إلى أكثر من مليون حاج، بل فاق المليوني حاج في بعض الأعوام، يأتون من مختلف بقاع الأرض، كما لا تخفى علينا الصعوبات الجمة التي تواجهها المملكة العربية السعودية في هذا الجانب بالذات.

ولإحساس مؤسس هذا الكيان العظيم الملك عبد العزيز رحمه الله بعظم المسؤولية الملقاة على عاتق دولته في هذا الجانب، أمر رحمه الله بعد توحيده لمنطقة الحجاز مباشرة بإنشاء "مصلحة الصحة العامة في مكة"وذلك عام 1344هـ[23] ، وكان أول مدير لها الدكتور محمود حمدي (طبيب جلالة الملك الخاص) ، كما صدر أمر ملكي بالتصديق على ميزانية دائرة الصحة العامة، لتقوم بتأسيس مستشفيات ومستوصفات في مكة والمدينة وجدة وينبع والطائف [24] .

لقد كانت هذه المصلحة منذ إنشائها تمثل واجهة حضارية تدل على عمق إدراك الملك عبد العزيز بضرورة الاستفادة من النظم الحضارية المتقدمة في هذا الجانب والجوانب الأخرى، رغم عدم تقبل المجتمع البدوي الذي كانت تعيشه المملكة آنذاك لهذه النظم، فقد قام بتعيين رئيس للمصلحة، ويتبع هذا الرئيس معاون له، ومفتش عام، ورئيس للصيادلة يساعده صيدليان قانونيان، ومساعدو صيادلة، وبضعة موظفين، يضاف إلى هذا ديوان يشتمل على رئيس وسكرتير ومترجم وكتّاب الخ، وترتبط بالإدارة العامة شعب المحاسبة والسجل والإحصاءات والمستودعات [25] .

ص: 480

وعلى إثر قيام هذه المصلحة صدر أمر ملكي رقم 425 وتاريخ 21 من ذي القعدة 1344هـ (2 يونيو 1926م) بالموافقة على الترتيبات الصحية لموسم ذلك العام، وقد تضمنت هذه الترتيبات تأسيس مراكز للإسعاف في منى وعرفات ومزدلفة، وتوفير المياه النظيفة، ووضع شروط للمساكن المخصصة للحجاج يراعى فيها ضمان سلامتهم وأمنهم وراحتهم، وحيث إنه لم تتوفر في تلك الفترة البرادات الضخمة التى يمكن من خلالها حفظ الأضاحي، حفرت الحفر من أجل دفن الأضاحي منعاً لتعفنها [26] .

المبحث الثالث

التنظيمات الصحية للعناية بالحجاج

صدر الأمر الملكي في 14 رجب 1345هـ (18 يناير 1927م) بالموافقة على نظام مصلحة الصحة العامة، الذي أوجب على رؤساء وأطباء الصحة مراقبة نظافة البيوت التي يسكنها الحجاج، ومنع الازدحام فيها، وعليهم نقل المصابين بالأمراض المعدية إلى المستشفى لمعالجتهم بما يلزم لهم، والانتباه على نظافة المياه، وإزالة كل ما من شأنه الإضرار بصحة الحجاج والأهالي، كما طالب رئيس أطباء مكة ضرورة تأمين كل الاحتياجات بمنى وعرفات ومزدلفة، وإرسال الأدوية وغيرها إليها قبل الخروج إلى الحج ببضعة أيام، وكلف النظام أطباء الصحة بتفتيش منازل الحجاج يومياً للتحقق من عدد الحجاج في تلك المنازل بالنسبة للمقدار المقرر، ومنع أي مخالفة في ذلك بتكليف الموظفين بضرورة مراعاة التعليمات الخاصة بذلك ورفع تقرير عن ذلك لمرجعهم [27] .

كما تضمن هذا النظام قيام الشرطة الصحية بمنع إسكان الحجاج في المنازل بأكثر مما تستوعبه، ومراقبة نظافة هذه المنازل، ومنع بيع المأكولات والمشروبات الضارة، والمحافظة على نظافة المياه من التلوث، وإرسال المرضى إلى المستشفيات، والإشعار عن الأمراض الوبائية إذا ظهرت، ودفن الأضاحي في منى لمنع التلوث، وعدم السماح للحجاج بالنوم في الطرقات، لما يترتب على ذلك من مشكلات مختلفة منها مايتعلق بالصحة العامة للحجاج [28] .

ص: 481

وكانت مسؤولية مصلحة الصحة العامة الإشراف على تنظيم الشؤون الصحية في داخل البلاد، والنظر في المسائل الصحية الدولية، وقد قامت المصلحة بافتتاح فروع لها في مدن المملكة الكبيرة حتى بلغ عدد المناطق الصحية التابعة لها ست مناطق، من بينها مكة والمدينة وجدة، كما طورت المستشفيات والمستوصفات الموجودة من قبل، وافتتحت عدة مستشفيات جديدة: منها مستشفى أجياد في مكة الذي تم توسيعه، ومستشفى باب شريف في جدة، وحوّل مستوصف المدينة إلى مستشفى.

ولقد جندت الدولة أكبر عدد ممكن من المتخصصين والإداريين كل موسم حج، ليقدموا مايستطيعون تقديمه من خدمة صحية لأولئك الحجاج، علاجاً، وإمدادا بالأدوية مجانا [29] ، وقامت بإرسال بعثة طبية إلى منى قبل الخروج إلى عرفات لمراقبة المياه واتخاذ اللازم لعدم تلوثها حرصا على صحة الحجاج [30] .

ومن الترتيبات الخاصة التي أقامتها الدولة بين مكة وعرفات لتوفير العناية الصحية للحجاج، أقامت الدولة مستشفى في منى، ومستشفى سياراً في عرفات، ومستوصفات في كل من: المنحنى [31] ، ومجر الكبش [32] ، والمجزرة [33] ، والأخشبين [34] ، ووادي النار [35] ، وبين الأخشبين، ومزدلفة، وبُرك عرفات، والبازان [36] ، وتقاطع الإسفلت، ومسجد نمرة، وأقيمت في كل مركز صحي مظلة مبنية بالاسمنت لاستراحة الحجاج، ومزودة بالماء [37] ،كما وُفِّر لكل مركز صحي طبيب وعدد كافٍ من الشرطة الصحية، وسائر الموظفين للقيام بالإجراءات الاحتياطية اللازمة، ويقوم كل مركز إلى جانب تقديم الإسعافات الأولية باتخاذ التدابير اللازمة لدفن الموتى بعد فحصهم وتسجيلهم، وإرسال المرضى إلى المستشفيات إذا تعذر علاجهم في المستوصف، كما يقوم موظفوا الصحة بمنى وعرفات بإبلاغ أقرب مركز من هذه المراكز عن أي حادثة يشتبه بأنها مرض وبائي [38] .

ص: 482

وتخصيص عرفات بالمستشفى لتسهيل الإقامة للحجيج المرضى الذين تقتضي حالتهم الصحية أن يكونوا تحت الرعاية الصحية، كما تقوم كل المراكز الصحية بإجراء الإسعافات بالإضافة إلى توفير العلاج اللازم للمرضى.

وتقوم سيارات الإسعاف الخيري وسيارات الصحة بنقل الحجاج إلى عرفات يوم التاسع من ذي الحجة ليشهدوا الحج ممن لاتساعدهم حالتهم الصحية من الانتقال بأنفسهم إلى عرفات، فتقوم تلك السيارات بنقلهم وإعادتهم إلى مكة [39] .

ولم تكتف الدولة السعودية في عهد الملك عبد العزيز رحمه الله بتلك الجهود رغم ضخامة العمل الذي قامت به، بل أمدَّت حجاج بيت الله الحرام بالنصائح والإرشادات الطبية التي تكفل وقايتهم من الأمراض والتعرض لضربات الشمس المباشرة، كما نصحتهم بضرورة مراجعة المراكز الصحية حال وجود أي مرض [40] .

كما وفرت مراكز صحية في الطرق بين مكة وجدة والمدينة، كمستوصف بحرة [41] ، ومستوصف رابغ [42] ومستوصف المسيجيد [43] .

هذا بالإضافة إلى الوحدات الصحية المتنقلة والتي ترابط في الأماكن والطرق التي يكثر فيها عدد الحجاج أو يمرون منها، لتقدم الإسعافات الأولية العاجلة لكل من يفاجئه المرض وهو يؤدي هذا المنسك العظيم [44] .

المبحث الرابع

إنشاء المحاجر الصحية

إن أحد أهم الجوانب التي تتركز عليها العناية الصحية هو محاربة الأوبئة التي تنتشر بين الحجاج، والتي كثيراً ما تؤدي إلى الفتك بأعداد هائلة من الحجيج قد يصل عددهم إلى الآلاف كما حدث في عام 1246هـ[45] ، وعام 1247هـ[46] .

ص: 483

ولما كان قدوم الحجيج من بقاع مختلفة في العالم يكثر في بعضها انتشار الأوبئة والأمراض المعدية، كان لابد من إنشاء المحاجر الصحية أو ما يسمى بالكورنتينات، وقد أنشأت الحكومة المصرية سنة 1858م أول محجرٍ صحيٍ للحجاج في طريق الحاج بين مصر والبقاع المقدسة، وقد أقيم هذا المحجر في عجرود غربي السويس وذلك إثر انتشار الكوليرا في الحجاز، ثم تلاه محجر آخر في الوجه لحجاج القوافل، وفي الطور أو عيون موسى لحجاج البحر [47] ، أما أول كورنتينة أنشئت في مكة فكانت سنة 1288هـ بمنطقة الزاهر [48] ، عندما انتشر وباء الكوليرا بالمدينة المنورة، ولكن هذه الكورنتينة كانت بصورة مؤقتة [49] .

اهتمت المملكة العربية السعودية بالمحاجر الصحية فأنشأت إدارة خاصة بالمحاجر الصحية مركزها جدة، ويتبعها محاجر متعددة، وأكثر من اثني عشر مركزا صحيا في بلدان ساحل البحر الأحمر وحده [50] ، كما حرصت المملكة على التعاون مع الهيئات العالمية والاستفادة من خبراتها وبخاصة في ميدان الوقاية من الأوبئة [51] .

كما وجه الملك عبد العزيز رحمه الله بضرورة العناية بالمحاجر الصحية وإصلاحها إصلاحا كاملا بأسرع وقت ممكن [52] .

وقد قامت إدارة الصحة العامة بمراقبة الطائرات والبواخر قبل السماح لركابها من الحجاج وغيرهم من النزول إلى جدة، وتقوم بفحصهم فحصا طبيا، وتلقيح من لا يحمل وثائق التلقيح الدولية، وفي حالة وجود مصابين بأحد الأمراض المعدية، أو مشتبه في إصابتهم، تنقل جميع الركاب إلى جزيرة "أبي سعد"قرب جدة، والتي أصلحت وجهزت بآلات تقطير وماكينة كهرباء، لتكون مستعدة لقبول الحجاج، ويحجزون في الجزيرة تحت الملاحظة [53] ، وينقل المرضى العاديون إلى المستشفيات لعلاجهم [54] .

ص: 484

وقد حرصت الدولة السعودية أن تكون هذه المحاجر وفق المعايير الدولية، لذلك قام الدكتور محمد بك صالح مندوب مصلحة الكرنتينات العامة للحكومة المصرية بزيارة للدولة السعودية في عام 1344هـ قدّم خلالها صورة للاتفاقات الدولية العائدة للكرنتينات، والتقى بجلالة الملك عبد العزيز رحمه الله، كما قام بزيارة كرنتينة جدة مع الدكتور محمود حمدي مدير دائرة الصحة العامة، وتشاورا معا فيما يلزم كرنتينة جدة ذلك العام [55] .

ثم عندما أُنشأ المحجر الصحي في جدة طلبت الدولة السعودية من خبراء منظمة الصحة العالمية بوضع مخطط هذا المحجر، ثم تحملت المملكة العربية السعودية تكاليف إنشائه [56] .

المبحث الخامس

إنشاء المراكز الطبية على طرق الحج والاستفادة من الخبرات الأجنبية

أنشأت المملكة العربية السعودية مراكز طبية في الجوف والقريات لمراقبة الواردين من الشمال، وفي قرية للواردين من الشرق، وفي ظهران الجنوب لمراقبة حجاج اليمن، وكذلك في جازان وفقا للأنظمة الصحية المحلية المستمدة من الأنظمة الدولية في هذا الشأن [57] .

ولم تقتصر الجهود المبذولة في ميدان الخدمات الصحية على المنشآت العلاجية، تطويرا وإنشاءً، بل شملت استقدام الأخصائيين والخبراء للعمل في البلاد، وابتعاث الأطباء الموجودين فيها إلى الدول المتقدمة علميا ليطّلعوا على ما هناك من تطور وتقدم، ويعمقوا معارفهم وخبراتهم [58] .

ص: 485

وقد أشرنا فيما سبق كيف أن الشريف حسين منع هيئة طبية قادمة من مصر بالنزول إلى جدة، ولكن الملك عبد العزيز - طيّب الله ثراه- حرص أشد الحرص على الاستفادة من الخبرات الأجنبية، لذلك سمح - من حين دخوله مكة وتوحيده للمملكة العربية السعودية - للدول الإسلامية بإرسال بعثات طبية مرافقة لحجاجها للاهتمام بهم وعلاجهم، وكان لهذا أثر في تخفيف الضغط على المستشفيات من جانب [59] ، ومساعدة الحجاج؛ بإيجاد صورة لتفاهم أكبر بينهم وبين المستشفيات السعودية من خلال تلك البعثات من جانب آخر.

وفي 2/9/1370هـ حُوِّلت "مصلحة الصحة العامة"إلى وزارة، وعُيّن الأمير عبد الله الفيصل وزيرا للصحة [60] ، فتقدمت الرعاية الصحية أكثر من قبل، وازدادت المستشفيات والمستوصفات ازديادا ملحوظا، وزودت بمعدات وأجهزة أكثر حداثة وتقدما.

ومن بين المستشفيات التي أنشئت بعد تحول مصلحة الصحة إلى وزارة: مستشفى في مكة، وهو مستشفى الملك عبد العزيز بالزاهر الذي أمر الملك عبد العزيز بإنشائه سنة 1373هـ، ويعدّ أول مستشفى عام بالمملكة تقيمه وزارة الصحة [61] .

كما أعادت وزارة الصحة إعداد مستشفى أجياد العام وتجهيزه بما يتلاءم مع موقعه القريب من المسجد الحرام [62] .

المبحث السادس

منظمة الصحة العالمية والحج والتعليم الصحي

لقد أدلى المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بشهادته قائلا في اجتماع عام عقدته المنظمة: "وإن الخدمات الصحية تمتد الآن إلى كل مكان، وإن منظمة الصحة العالمية لتذكر بصورة خاصة المجهودات الكبيرة التي تبذلها الحكومة السعودية في تأمين راحة الحجاج الذين يفدون إلى المملكة ويتمتعون فيها بأكبر الخدمات وأوفر التسهيلات، حتى أصبحت مواسم الحج مضرب المثل في العالم في النظافة الصحية"[63] .

ص: 486

إن منظمة الصحة أقرت رفع الرقابة الصحية الدولية عن الحج بعد أن دامت هذه الرقابة أكثر من مائة سنة بموجب اتفاقات دولية؛ لأن المنشآت الصحية السعودية غدت مؤهلة لحمل هذه المسؤولية كاملة [64] .

أما عن التعليم الصحي، فقد حرصت المملكة العربية السعودية منذ صدور نظام مصلحة الصحة والإسعاف في عام 1345هـ وتشكيل أول مجلس له بالتوصية بإيجاد الكوادر الوطنية الفنية للعمل في الخدمات الصحية [65] .

وقد نصت المادة (44) من نظام مصلحة الصحة العامة والإسعاف "على أن يقوم أطباء الصحة بإعطاء الدروس المقررة لطلاب مدرسة التمريض حسب أمر مدير الصحة [66] ".

وقد ارتبط التعليم الصحي بالحج في بداية الأمر حيث إنه عندما أنشئ مستشفى منى العام في عام 1356هـ، ولوحظ أن عمله يقتصر في فترة الحج أنشئ فيه أول معهد صحي في المملكة العربية السعودية، وقام هذا المعهد بإقامة دورات تأهيلية وبرامج منهجية ومحاضرات تعليمية وتدريب عملي، ومنح خريجوه شهادات الدبلوم في العلوم الصحية [67] .

الخاتمة

بعد هذا العرض الذي قدمناه عن الرعاية الصحية لحجاج بيت الله الحرام في عهد جلالة الملك عبد العزيز – طيب الله ثراه - يظهر لنا بكل وضوح أن الملك عبد العزيز كان رائدا من رواد هذا المجال، وتميّز رحمه الله ببعد النظر.

فالملك عبد العزيز آل سعود لم يقبل بأن تكون رعاية الحجيج الصحية تعتمد على جهود فردية، بل حرص على تنظيم تلك الجهود ووضع الخطط والمعايير التي تُقَوِّمها وترفع من مستواها لتتواكب مع متطلبات هذه الشعيرة العظيمة من جانب، وتساير أحدث ما وصل إليه العلم والعالم من جانب آخر.

ص: 487

ورغم أن الملك عبد العزيز لم يقطف كل ثمار تلك الجهود في حياته، فكثيرا من تلك الثمار ظهرت يانعة بعد وفاته رحمه الله إلا أنه قد وضع كل أسسها بحيث جاء من بعده من أبنائه الأخيار ليكملوا مسيرته بكل أمانة، ولا نملك اليوم إلا أن ندعو الله بأن يجزل المثوبة لذلك القائد الملهم، ولأبنائه البررة الذين ساروا على دربه، وأن نسطر ونسجل للتاريخ ما قام به مؤسس هذا الكيان العظيم من أعمال جليلة لتقرأها الأجيال التالية وتعرف من خلالها عِظَم هذا الكيان وعِظم رجاله.

المصادر والمراجع

1-

ابن حجر: فتح الباري شرح صحيح البخاري، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض.

2-

ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، 1400هـ 1980م، مكتبة الدعوة الإسلامية شباب الأزهر.

3-

ابن كثير: اختصار علوم الحديث، الطبعة الثالثة، 1399هـ 1979م، دار التراث، القاهرة.

4-

ابن كثير: البداية والنهاية، الطبعة الأولى، 1405هـ 1985م، دار الكتب العلمية، بيروت.

5-

أحمد السباعي: تأريخ مكة، الطبعة السابعة، 1414هـ، مطبوعات نادي مكة الثقافي.

6-

أحمد شلبي: موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، الطبعة الثانية، 1982م، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة.

7-

أحمد عسة: معجزة فوق الرمال، الطبعة الثالثة، 1392هـ 1972م، المطابع الأهلية اللبنانية.

8-

جيمس موريس: الملوك الهاشميون، المكتب العالمي للتأليف والترجمة، بيروت.

9-

حماه الله ولد السالم: مراجعات أولية حول أوضاع الحجاز في الرحلات الحجية الشنقيطية، مجلة الدارة، العدد الرابع - شوال 1417هـ السنة الثانية والعشرون، الرياض.

10-

خير الدين الزركلي: شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، الطبعة الخامسة، 1992م، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان.

11-

خير الدين الزركلي: الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، الطبعة الرابعة، 1984م، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان.

ص: 488

12-

عاتق بن غيث البلادي: معالم مكة التأريخية والأثرية، الطبعة الثانية، 1403هـ - 1983م، دار مكة.

13-

عاتق بن غيث البلادي: على طريق الهجرة رحلات في قلب الحجاز، الطبعة الأولى، دار مكة.

14-

سيد عبد المجيد بكر: الملامح الجغرافية لدروب الحجيج، الطبعة الأولى، 1401هـ، مكتبة تهامة، جدة.

15-

عادل محمد نور غباشي: نقش كتابي يؤرخ لعمارة بازان بمكة المكرمة في عصر الملك عبد العزيز، مجلة الدارة، العدد الأول، السنة الحادية والعشرون، شوال - ذوالقعدة - ذوالحجة 1415هـ.

16-

عبد الله الصالح العثيمين: تاريخ المملكة العربية السعودية، الطبعة السادسة، 1416هـ 1995م.

17-

فؤاد حمزة: قلب جزيرة العرب، الطبعة الثانية، 1388هـ 1968م، مكتبة النصر الحديثة، الرياض.

18-

لطيفة عبد العزيز السلوم: التطورات السياسية والحضارية في الدولة السعودية المعاصرة، الطبعة الأولى، 1416هـ.

19-

محمد عمر رفيع: مكة في القرن الرابع عشر الهجري، الطبعة الأولى، 1401هـ 1981م، نادي مكة الثقافي.

20-

محمد محمد حسن شراب: المعالم الأثيرة في السنة والسيرة، الطبعة الأولى، 1411هـ 1991م، دار القلم والدار الشامية، دمشق - بيروت.

21-

نهاد الغادري: التحدي الكبير، الطبعة الثانية، 1966م.

22-

هاني ماجد فيروزي: الخدمات الصحية بمكة المكرمة من العصر الإسلامي الأول إلى العهد السعودي الزاهر، مجلة العاصمة المقدسة، الإصدار الخامس 1418هـ، إصدار أمانة العاصمة المقدسة بمكة المكرمة.

23-

جريدة أم القرى: السنة الأولى، العدد 63، 27/8/1344هـ، والعدد 65، 12/9/1344هـ، السنة الثانية، العدد 74، 23/11/1344هـ، السنة الثالثة، العدد 113، 8/8/ 1345هـ.

--------------------------------------------------------------------------------

[1]

ابن كثير، تفسير القرآن العظيم: 3/216.

ص: 489

[2]

ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري: 3/378.

[3]

ابن كثير: البداية والنهاية: 5/99.

[4]

ابن كثير، اختصار علوم الحديث عن أبي زرعة الرازي:157.

[5]

مكة في القرن الرابع عشر الهجري، لمحمد عمر رفيع:227.

[6]

عثمان نوري باشا التركي تولى ولاية مكة في شعبان سنة 1299هـ من قبل الخلافة العثمانية، وبقي في الولاية حتى سنة 1304هـ. (انظر تاريخ مكة لأحمد السباعي: 549-550) .

[7]

جياد هكذا تقوله الناس والأصح أجياد كأنه جمع جواد وكان يطلق على شعبين كبيرين من شعاب مكة، ويلتقي الشعبان عند المسجد الحرام من الجنوب ويدفعان في وادي ابراهيم، وقد أصبحا اليوم مأهولين بأحياء عديدة منها حي جياد وهو المراد هنا وهو الذي يقع قرب المسجد الحرام. (معالم مكة التأريخية والأثرية، لعاتق بن غيث البلادي: 14) .

[8]

مكة في القرن الرابع عشر الهجري، لمحمد عمر رفيع:228.

[9]

نفسه: 228.

[10]

هو الشريف الحسين بن علي تولى إمارة مكة في ذي القعدة سنة 1326هـ، وأعلن الثورة ضد الأتراك سنة 1334هـ وانضم إلى الإنجليز. (انظر: تاريخ مكة لأحمد السباعي: 561-562، الملوك الهاشميون لجميس موريس: 23-35) .

[11]

مكة في القرن الرابع عشر الهجري، لمحمد عمر رفيع:229.

[12]

المصدر السابق: 229.

[13]

تاريخ المملكة العربية السعودية للعثيمين: 2/194.

[14]

معجزة فوق الرمال، لأحمد عسة:97.

[15]

موسوعة التاريخ الإسلامي للدكتور أحمد شلبي: 7/174، قلب جزيرة العرب، لفؤاد حمزة: 393، 394.

[16]

انظر معجزة فوق الرمال، لأحمد عسة: 838، 839.

[17]

الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز، خير الدين الزركلي:355.

[18]

شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي: 4/1437.

ص: 490

[19]

لم تتعد موارد الدولة السنوية بضعة ملايين من الجنيهات كل عام ولم ترتفع إلى 25 مليونا إلا في عام 1370هـ 1950م. (معجزة فوق الرمال: 136)

[20]

منع الشريف حسين استعمال السيارات بالحجاز رغم أنه أصبح معروفا في العالم، بدعوى أنه سيعطل وسائل النقل بالجمال وستتضرر البادية من ذلك، لأن مدار نقل الحجاج كان على جمالهم، ولم يتيسر التنقل بالسيارات لمكة إلا بعد دخول الحجاز في حكم الدولة السعودية عام 1345هـ. (مكة في القرن الرابع عشر الهجري: 117) .

[21]

معجزة فوق الرمال: 104-105.

[22]

شيه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي: 4/1337

[23]

تاريخ المملكة العربية السعودية للدكتور عبد الله العثيمين: 2/347.، ولا يخفى على القاريء أنه في تلك الفترة كان معظم الأطباء إن لم يكن كلهم، وكل الممرضات ومساعدي الأطباء والصيادلة من المتعاقدين، حيث إنه لم تفتتح في تلك الفترة كليات الطب التي توفر الأطباء السعوديين وهذا لاشك كان يكلف الدولة أموالا طائلة، ومع ذلك فقد وفرت العلاج المجاني للحجاج. (انظر معجزة فوق الرمال: 836، 837) .

[24]

جريدة أم القرى، السنة الأولى العدد 63، 27/8/1344هـ

[25]

شيه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز، لخير الدين الزركلي: 2/402.

[26]

التطورات السياسية والحضارية في الدولة السعودية المعاصرة، لطيفة عبد العزيز السلوم: 159-160.

[27]

المصدر السابق: 160-161.

[28]

المصدر السابق: 160-161.

[29]

تاريخ المملكة العربية السعودية للدكتور عبد الله العثيمين: 2/348.

[30]

التطورات السياسية والحضارية في الدولة السعودية المعاصرة، لطيفة عبد العزيز السلوم:161.

[31]

المنحنى: هو موضع يقع في منى (انظر معالم مكة التأريخية والأثرية: 30، 252) .

ص: 491

[32]

مجر الكبش: هو مابين جمرة العقبة الكبرى إلى حي الششة من جهة مكة. (معالم مكة التأريخية والأثرية للبلادي: 319) .

[33]

كانت المجزرة تقع في الجانب الغربي من جبل الحجون. (معالم مكة التأريخية والأثرية، للبلادي: 274) .

[34]

يطلق على عدة مواقع والظاهر أن المقصود هنا الجبلان المشرفان على المزدلفة من الشرق. (معالم مكة التأريخية والأثرية، للبلادي: 21) .

[35]

وادي النار أو محسِّر وهو الحد بين منى ومزدلفة. (معالم مكة التأريخية والأثرية، للبلادي: 248-249) .

[36]

يطلق أهل مكة البازان على الموضع الذي يأخذ ماءه من قنوات العيون ومنه يستقي الناس الماء، وهناك موضعين في مكة يطلق عليهما هذا الاسم أحدهما بالمزدلفة والآخر بالصفا، وقد بنى الملك عبد العزيز بازان بمكة في عام 1348هـ قرب المسجد الحرام، وأزيل مع ماأزيل في منطقة مشروع شركة مكة للإنشاء والتعمير. (انظر نقش كتابي يؤرخ لعمارة بازان بمكة المكرمة في عصر الملك عبد العزيز للدكتور عادل محمدنور غباشي، مجلة الدارة، العدد الأول 1415هـ: ص 116-117) ، ويظهر لي أن المقصود بالبازان هنا الأول الذي في المزدلفة، لأن الموضع الآخر يوجد بقربه مستشفى أجياد، والله أعلم.

[37]

شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز لخير الدين الزركلي: 1/405-406.

[38]

التطورات السياسية والحضارية في الدولة السعودية المعاصرة، لطيفة عبد العزيز السلوم:161.

[39]

شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز لخير الدين الزركلي: 1/406.

[40]

التطورات السياسية والحضارية في الدولة السعودية المعاصرة، لطيفة عبد العزيز السلوم:161.

[41]

بحرة قرية بين مكة وجدة وهي في منتصف المسافة بينهما تقريبا، وعلى بعد 36 كيلا من مكة. (على طريق الهجرة لعاتق بن غيث البلادي: 262) .

ص: 492

[42]

بلدة حجازية ساحلية بين جدة وينبع، على مسافة 155 كيلا شمال جدة، وعلى بعد 195 كي جنوب ينبع. المعالم الأثيرة في السنة والسيرة لمحمد محمد حسن شراب: 123) .

[43]

شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز لخير الدين الزركلي: 1/406.

والمسيجيد: تبعد ثمانين كيلا عن المدينة في طريق بدر، وكانت تعرف بالمنصرف. (المعالم الأثيرة في السنة والسيرة لمحمد محمد حسن شراب: 274) .

[44]

معجزة فوق الرمال، لأحمد عسة:842.

[45]

تاريخ مكة لأحمد السباعي: 519.

[46]

مراجعات أولية حول أوضاع الحجاز في الرحلات الحجّية الشنقيطية لحماه الله ولد السالم (مجلة الدارة، العدد 4 شوال 1417هـ: ص37.

[47]

الملامح الجغرافية لدروب الحجيج لسيد عبد المجيد بكر: 215-216.

[48]

حي الزاهر يقع شمال مكة ومن أوائل الأحياء التي يقابلها القادم من المدينة المنورة (راجع خريطة مكة المكرمة للمهندس زكي محمد علي فارسي)، وكان يعرف قديما بوادي فخ (معالم مكة التأريخية والأثرية للبلادي: 13) .

[49]

تاريخ مكة لأحمد السباعي: 538.

[50]

شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز لخير الدين الزركلي: 1/404.

[51]

تاريخ المملكة العربية السعودية للدكتور عبد الله العثيمين: 2/349

[52]

جريدة أم القرى، العدد 74، السنة الثانية، 23 ذي القعدة 1344هـ، ص 3.

[53]

شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز لخير الدين الزركلي: 1/404.

[54]

التطورات السياسية والحضارية في الدولة السعودية المعاصرة، لطيفة عبد العزيز السلوم:161.

[55]

جريدة أم القرى، السنة الأولى، العدد 65، 12/9/1344هـ.

[56]

معجزة فوق الرمال: 841.

[57]

شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز لخير الدين الزركلي: 1/404-405.

[58]

تاريخ المملكة العربية السعودية للعثيمين: 2/349.

ص: 493

[59]

الخدمات الصحية بمكة المكرمة من العصر الإسلامي الأول إلى العهد السعودي الزاهر، هاني ماجد فيروزي، مجلة العاصمة المقدسة، الإصدار الخامس 1418هـ:55.

[60]

شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبد العزيز، للزركلي: 3/999.

[61]

الخدمات الصحية بمكة المكرمة من العصر الإسلامي الأول إلى العهد السعودي الزاهر، هاني ماجد فيروزي:55.

[62]

نفسه.

[63]

معجزة فوق الرمال: 843-844.

[64]

المصدر السابق: 841.

[65]

الخدمات الصحية بمكة المكرمة من العصر الإسلامي الأول إلى العهد السعودي الزاهر، هاني ماجد فيروزي: 58-59.

[66]

جريدة أم القرى، العدد 113، السنة الثالثة، 8 شعبان 1345هـ ص 4.

[67]

الخدمات الصحية بمكة المكرمة من العصر الإسلامي الأول إلى العهد السعودي الزاهر، هاني ماجد فيروزي: 58-59.

ص: 494

الملك عبد العزيز آل سعود

وفقه الدعوة

للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي

وزير الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الملك عبد العزيز آل سعود، رحمه الله، يعتبر من الشخصيات البارزة في التاريخ الإسلامي كله، ومن أعظم ملوك المسلمين في العصر الحديث، فقد أقام ملكاً، وأسس دولة، ووحد شعباً في شبه الجزيرة العربية، وإذا كان الملوك والسلاطين والرؤساء يقودون بلادهم، فإن القلة النادرة منهم من يقيم الدول، ويؤسس الممالك، كما فعل الملك عبد العزيز، ولم يكن الأمر هيناً، أو يسيراً أمامه في العصر الحديث بالذات، وفي مواجهة قوىً دولية كبرى، ومذاهب وتيارات شتى في الحكم والسلطان، نشأت وظهرت في هذا العصر، وأثرت في القادة والشعوب، ولكن الملك عبد العزيز استطاع أن يحقق إنجازاته الكبيرة من أجل دينه وأمته وشعبه، بعيداً عن كل المؤثرات التي تبعده عن غاياته، أو تثير لديه الشك في قدرته على تحقيق أهدافه.

لقد كانت المؤثرات والأحداث في القرن الرابع عشر، شديدة الوَقْع والتأثير في كثير من الحكام المسلمين، ملوكاً وقادة، فغيرت من تفكير بعضهم، وزرعت اليأس في قلوب الكثيرين.

ففي هذا القرن كانت الهجمة الكبرى على البلاد الإسلامية في المشرق والمغرب، وهي محنة الاستعمار بما يحمله من خراب للعامر من ديار الإسلام، ومن إفساد للعقول والنفوس بين شعوب الأمة الإسلامية.

ص: 495

في هذا القرن كان أمير عربي من آل سعود، يشق طريقه إلى غاياته الكبرى في خدمة دينه وأمته، كان في بداية جهاده حين دخل عاصمة ملكه الرياض سنة 1319هـ، وبدأت مهمته الكبرى، وفاء لشعب الجزيرة العربية، ودفاعاً عن أرض الحرمين الشريفين، وحقها في الوحدة السياسية، وعن حقوق أمته الإسلامية وآمالها، وكان مهيأ لأداء هذه المهمة الكبرى، في شبه الجزيرة، بعد أن ران عليها التخلف الديني والدنيوي عشرات السنين، ولم تقم فيها سلطة سياسية موحدة، فاختلّ الأمن، وتبددت الآمال في عودة أرض الحرمين الشريفين إلى عهدها الزاهر، في نشر الدين، واستقبال المسلمين من الحجيج والمعتمرين، فقد قامت في العصر الحديث دول في المشرق والمغرب العربي، وظلت شبه الجزيرة بعيدة عن التطور السياسي، يتنازع السلطان في قبائلها ومناطقها أمراء يتقاتلون على المغانم.

وفي هذه الأجواء بذل أمراء آل سعود جهدهم في جمع القبائل، والمناطق عوضنا عن التشرذم، والتشتت الذي حرم شبه الجزيرة من سلطة موحدة، تخدم مصالح أهلها، وظهر من آل سعود أمراء كان لهم جهدهم وإسهامهم الكبير في طريق الوحدة السياسية، منهم الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود المتوفى سنة (1250هـ - 1834م) الذي دخل الرياض، وأدخل "في طاعته"معظم أنحاء نجد.

وكان قد سبق في هذا الجهد أحد أمراء آل سعود الكبار، وهو سعود الكبير، الذي امتدت بلاده من عُمان إلى اليمن، وإلى قرب دمشق، وقد توفي رحمه الله عام (1229هـ - 1814م) بعد جهاد ومعارك حالفه في أكثرها النصر، وهو يقف في مواجهة الدولة العثمانية، ومن يعمل باسمها من الولاة في مصر وغيرها.

ص: 496

إن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، سليل الأسرة العربية التي قوي شأنها في نجد، وعملت على توحيد شبه الجزيرة، وقاومت كل من أراد التسلط عليها من غير أهلها، عمل منذ شبابه الباكر على تحقيق الوحدة في شبه الجزيرة، وتزود بتجارب أجداده العظام، فكان مهيأ لتوحيد شعبه، وخدمة أمته الإسلامية، ولقد كتب الكثيرون من العرب والمسلمين، وغيرهم عن عبد العزيز آل سعود، وعن تاريخ حياته ومعاركه التي خاضها من أجل توحيد شبه الجزيرة، وإقامة ملكه، وإحياء الإسلام في ربوع دولته، كتب الكثيرون عن سيف عبد العزيز، وعن انتصاراته، وعن سياساته في مواجهة القوى الدولية الكبرى في عصره، وعن مواجهته لأهل الفرقة، والتشرذم في شبه الجزيرة، حتى أتم الله عليه نصره، فوحد شبه الجزيرة، وأقام ملكه، وأسس دولته على هدي القرآن، وبقوة السلطان.

لم يكن سيف الملك عبد العزيز رحمه الله على مضائه إلا آخر أدواته التي يلجأ إليها حين يعرض خصومه عن دعوة الحق أو صوت العقل، أما سلاحه الأعظم في كفاحه من أجل دينه وأمته، فهو كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولقد خاض الملك عبد العزيز رحمه الله أعظم معاركه، ونال انتصاراته بفضل هدي القرآن، قبل أن يكون ذلك بسيف القوة أو السلطان، هذا الجانب من شخصية الملك عبد العزيز، الغني بالميزات، والثري بالمواهب والخصائص، هو الذي نتناوله حينما نتحدث عن الملك وفقه الدعوة.

ص: 497

لقد أعاد الملك في القرن الهجري الرابع عشر، سيرة ملوك المسلمين الصالحين وسلاطينهم، فقد كان كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أساس ثقافته منذ بداية حياته، ووجه الأصلان "العظيمان"في الإسلام: القرآن الكريم والسنة النبوية، مقاصده وغاياته، وحكمت الشريعة أعماله وتصرفاته، ولا نجد ملكا أو قائدا لبلد إسلامي في العصر الحديث كله، يقترب من هذه المنزلة العظيمة التي بوّأه الله إياها طيلة حياته، بفضل وقوفه دائما تحت رايته وخضوعه دائما لحكمه.

يبدو الخطاب الديني والدعوي في حديث الإمام الملك عبد العزيز آل سعود العام، والخاص ظاهرا، ويبدو الالتزام بشرع الله في أعماله، وتصرفاته واضحاً، فقد تميز خطابه الديني والدعوي بالصدق والإخلاص لله، كما تميز بفهم دقيق للإسلام، وإدراك كبير لمقاصد الشريعة وأحكامها، فقد كان لديه من فقه الدعوة ما يغيب أحيانا عن بعض الدعاة.

والنظر إلى مجمل خطب الملك، وأحاديثه، ورسائله التي وجهها إلى عامة الناس، أو إلى الخاصة من أبنائه، وأتباعه، وعماله يكشف لنا عن الداعية المسلم الصالح في ثياب ملك، فقد اجتمع له هدي القرآن، وقوة السلطان، وحقق الله له ما أراد من هداية العباد، وتوحيد البلاد، والتمكين في الأرض، مصداقاً لقوله تعالى:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} . [النور 55] .

وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء 105] .

فقه الدّعوة والدّاعية عند الإمام الملك عبد العزيز

ص: 498

بين الله تعالى في كتابه الكريم: أن الغاية من وجود الإنسان، وخلقه، هي إفراد الله تعالى بالعبادة، وإخلاص الوجه، والعمل له، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات 56] .

وأن تلك الغاية الجليلة، هي جوهر الرسالات الإلهيّة، ولب دعوة كل الأنبياء قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء 25] .

وقال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل 36] .

وجميع الرسل والأنبياء الذين بعثهم الله - تعالى - إلى البشر، وفي كل الأمم جاهدوا في الله حق جهاده، حتى يُعبد الله وحده لا شريك له، وبلغّوا رسالات ربهم، وكانوا هداة معلمين، ولاقوا في سبيل ذلك العناد والكفر والشطط في القول، والتجاوز في الفعل، وغير ذلك، مما قصه الله علينا في القرآن الكريم في مختلف سوره وآياته، حتى إذا كانت رسالة الإسلام الخالدة، ظل الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - ثلاث عشرة سنة في مكة المكرمة يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ونبذ عبادة الأصنام والأوثان والأسلاف، ويزكي نفوس القلة التي آمنت معه، ولقي من الأذى، والعنت والظلم ما ورد ذكره في القرآن الكريم، وما تحفل به كتب السيرة، حتى إذا كتب الله له النصر بعد هجرته إلى المدينة النبوية، وقيام دولة الإسلام الأولى، بدأ الإسلام ينشر رايته في داخل شبه الجزيرة، ودخل الناس في دين الله أفواجا.

كانت المدينة النبوية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، هي منارة الدعوة، وحاضرة الدولة، وخلال عشر سنوات، وقبل انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى تأسست الدولة، ووضع الرسول صلى الله عليه وسلم بسنته القولية والفعلية والتقريرية أسس الدعوة إلى الله عز وجل.

ص: 499

ومن آيات القرآن الكريم التي تتعلق بالدعوة، وأهدافها، ومقاصدها وأساليبها، ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس إلى الحق، وهدايتهم إلى الرشد بالكلمة، والقدوة والأسوة الحسنة، تكوّن فقه الدعوة، وعلى قدر معرفة الداعي إلى الله بالهدي الإلهي، وحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة والبلاغ، يكون نجاحه في مهمته، وشدة تأثيره فيمن حوله.

قد ينجح في الدعوة إلى الله دعاة من غير العلماء المتخصصين في علوم الشريعة، أو في تعليمها للناس، وإن كان يلزم الداعي إلى الله أن يكون عالما بأركان الإسلام، وفرائضه، وعارفاً بمقاصده، ومتخلقا بأخلاقه بين الناس.

فالدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة، وبالقدوة الحسنة تؤتي ثمارها بين المدعوين، أكثر مما يؤتي كثير العلم إذا فاتت الحكمة، أو غابت الموعظة الحسنة، أو القدوة الماثلة أمام الناس.

إن الهدف الأول من الدعوة هو هداية المدعو إلى الحق، ويأتي بعد ذلك تزكية نفسه، حتى يصير في خلقه وسلوكه مسلما مكتمل الإيمان، وقد تضمن القرآن الكريم مع تعدد المقاصد، وتنوع الأساليب، إحاطةً كاملة بمضمون الدعوة إلى الله، إن المضمون يشمل إعداد المسلم على نحو متميز، والترقي به في نفسه، وفي خلقه بحيث تظهر فيه كرامة الإنسان التي منحه الله إياها.

وفي القرآن الكريم توجيه للإنسان إلى قواعد السلوك التي تضمن سعادته في دنياه، وفوزه في الآخرة؛ ولذلك فإن الخطاب الدعوي يجب أن يتضمن كل ما يؤثر في عقل الإنسان وثقافته، وفي نفسه وفي مشاعره، وفي ملكاته جميعاً، باعتباره كياناً واحداً.

ص: 500