المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌طالب العلم بين أمانة التحمل ومسؤولية الأداء - مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة - جـ ٤٧

[مجموعة من المؤلفين]

الفصل: ‌طالب العلم بين أمانة التحمل ومسؤولية الأداء

‌طالب العلم بين أمانة التحمل ومسؤولية الأداء

إعداد: د. محمد بن خليفة التميمي

كلية الدعوة وأصول الدين - الجامعة الإسلامية

المقدَّمة

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . [آل عمران 02] .

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء 1] .

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب 70-71] .

أما بعد؛ فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

يقول الحق تبارك وتعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر 1-3] ويقول تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات 55] وإن من أعظم ما ينبغي التواصي به والتذكير فيه، فيما بين طلبة العلم هو تلك المسؤولية التي تحملناها على كواهلنا ونصبنا أنفسنا لها ألا وهي مسؤولية العلم الشرعي الذي شرفنا الله بحمله وسيسألنا عن أدائه.

ص: 121

ومن هنا أحببت أن أذكر نفسي وإخواني بعظم مسؤوليتنا وواجبنا تجاه هذا العلم الذي ننتسب إليه، من خلال هذا البحث الذي يحتوي على الإشارة إلى بعض المضامين التي احتواها قوله تعالى:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة 122] فقوله تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} إرشاد إلى أمانة التحمل؛ فمن واجب طالب العلم أن يتفقه في دين الله قبل أن يتصدر لتعليمه وإبلاغه لسائر الناس، وأما قوله:{وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} ففيه إشارة إلى مسؤولية الأداء التي يتحملها طالب العلم بعد تزوده بالعلم النافع المفيد.

قال ابن القيم: "ندب - تعالى - المؤمنين إلى التفقه في الدين وهو تعلمه، وإنذار قومهم إذا رجعوا إليهم"(1) .

ولا شك أن طالب العلم الذي من لم تكن هذه الآية نصب عينيه، فإنه يخشى عليه الهلاك، ولبيان عظم هذا التوجيه الكريم من الله - تعالى - وما فيه من المعاني والفوائد، كتبت هذا البحث اللطيف وجعلت عنوانه " طالب العلم بين أمانة التحمل ومسؤولية الأداء " فأقول وبالله التوفيق ومنه أستمد العون والتسديد، ملخصاً كلامي في ثلاثة مباحث رئيسة وخاتمة:

المبحث الأول: شرف العلم وفضل أهله، وفيه ثلاثة مطالب:

المطلب الأول: الأدلة من القرآن الكريم.

المطلب الثاني: الأدلة من السنة.

المطلب الثالث: أقوال بعض العلماء.

المبحث الثاني: السبيل إلى تحمل العلم الشرعي، وفيه أربعة مطالب

المطلب الأول: حاجة طالب العلم إلى الذكاء والزكاء.

المطلب الثاني: مراتب نيل العلم.

المطلب الثالث: آداب طالب العلم.

المطلب الرابع: موانع حمل العلم.

المبحث الثالث: مسؤولية أداء العلم وفيه مطلبان:

المطلب الأول: مسؤولية أدائه عملاً.

(1) مفتاح دار السعادة 1/56.

ص: 122

المطلب الثاني: مسؤولية أدائه تعليماً.

الخاتمة.

وقد حرصت عند جمع مادة هذا البحث على الاستشهاد بكلام الله - تعالى - وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والآثار الواردة عن السلف الصالح، مع الإيجاز وعدم الإطالة.

فأرجو من الله أن يتحقق النفع بما جمعت، وأن يحصل به الخير والفائدة.

والله الموفق

المبحث الأوّل

شرف العلم وفضل أهله

المطلب الأوّل: الأدلّة من القرآن الكريم

إن على طالب العلم أن يتذكر نعمة الله عليه بأن هداه للإسلام أولاً، وجعله من حملته والدعاة إليه ثانياً، فتلك نعمة منَّ الله بها على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من قبلنا فقد قال تعالى:{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء 113] نعم والله إن فضل الله علينا عظيم.

ولو تأملت قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر 9] وتأملت نفسك قبل أن تطلب العلم وبعد أن منَّ الله عليك بطلب العلم هل الحال مستو، فالجواب "لا" ولو تأملت نفسك وأقرانك الذين في سنك ممن لم يطلبوا العلم هل تستوون فالجواب "لا" ولو تأملت نفسك وعوام الناس لوجدت الفارق العظيم، فهذه واحدة.

وأما الثانية ففي قوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [الحجرات 11] إن هذه الرفعة التي وعد الله بها أهل الإيمان والعلم، منها ما هو في الحياة الدنيا ومنها ما هو في الآخرة، فطالب العلم له بين الناس منزلةٌ ومكانة واحترام وتقدير ولا يتسع الوقت لضرب الأمثلة على تلك الرفعة وهو أمرٌ ملموسٌ مشاهد.

ص: 123

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى: "إن العلم يرفع صاحبه في الدنيا والآخرة ما لا يرفعه المُلْك ولا المال ولا غيرهما، فالعلم يزيد الشريف شرفاً ويرفع العبد المملوك حتى يجلسه مجالس الملوك كما ثبت في الصحيح من حديث الزهري عن أبي الطفيل أن نافع بن عبد الحارث أتى عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على أهل مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، فقال من ابن أبزى؟ فقال: رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى. فقال: إنه قارئ لكتاب الله عالم بالفرائض، فقال عمر: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين" (1) . وقال أبو العالية: "كنت آتي ابن عباس وهو على سريره وحوله قريش فيأخذ بيدي فيجلسني معه على السرير فتغامز بي قريش، ففطن لهم ابن عباس، فقال: كذا هذا العلم يزيد الشريف شرفاً ويجلس المملوك على الأسرة" (2) .

وأما الثالثة فإن أهل العلم وطلبته هم أهل الخشية كما شهد الله بذلك في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر 28] .

وأما الرابعة ففي قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران 18] .

قال ابن القيم: " استشهد - سبحانه - بأولي العلم على أجل مشهود عليه وهو توحيده، فقال:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه:

أحدها: استشهادهم دون غيرهم من البشر.

والثاني: اقتران شهادتهم بشهادته.

والثالث: اقترانها بشهادة الملائكة.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين 269.

(2)

مفتاح دار السعادة 1/164.

ص: 124

والرابع: أن في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم، فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول.

والخامس: أنه وصفهم بكونهم أولي العلم وهذا يدل على اختصاصهم به وأنهم أهله وأصحابه ليس بمستعار لهم.

والسادس: أنه - سبحانه - استشهد بنفسه وهو أجل شاهد ثم بخيار خلقه وهم الملائكة والعلماء من عباده ويكفيهم بهذا فضلاً وشرفاً" (1) .

وأما الخامسة: ففي قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} .

قال ابن القيم: "وكفى بهذا شرفاً للعلم أن أمر نبيه أن يسأله المزيد منه"(2) .

المطلب الثّاني: الأدلّة من السّنّة

1-

أهل العلم هم ورثة الأنبياء كما قال صلى الله عليه وسلم: " العلماء ورثة الأنبياء "(3) فالله - سبحانه - جعل العلماء وكلاءَ وأمناءَ على دينه ووحيه وارتضاهم لحفظه والقيام به والذبِّ عنه، وناهيك بها منزلة شريفة ومنقبة عظيمة.

قال ابن القيم: "قوله: "إن العلماء ورثة الأنبياء" هذا من أعظم المناقب لأهل العلم فإن الأنبياء خير خلق الله، فورثتهم خير الخلق بعدهم، ولما كان كل موروث ينتقل ميراثه إلى ورثته إذ هم الذين يقومون مقامه من بعده، ولم يكن بعد الرسل من يقوم مقامهم في تبليغ ما أرسلوا به إلا العلماء كانوا أحق الناس بميراثهم، وفي هذا تنبيه على أنهم أقرب الناس إليهم فإن الميراث إنما يكون لأقرب الناس إلى الموروث، وهذا كما أنه ثابت في ميراث الدينار والدرهم فكذلك هو في ميراث النبوة والله يختص برحمته من يشاء"(4) .

(1) مفتاح دار السعادة 1/48- 49.

(2)

نفس المصدر 1/50.

(3)

سيأتي تخريجه في ص 12.

(4)

مفتاح دار السعادة 1/66.

ص: 125

2-

ثم إن طلب العلم مصدر الخير والسعادة في الدنيا والآخرة قال صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"(1) وقال صلى الله عليه وسلم: "من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله به طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم لرضى الله عنه، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافٍ"(2) .

قال بدر الدين بن جماعة: "اعلم أنه لا رتبة فوق رتبة من تشتغل الملائكة وغيرهم بالاستغفار والدعاء له، وتضع له أجنحتها، وإنه لينافس في دعاء الرجل الصالح أو من يظن صلاحه فكيف بدعاء الملائكة، وقد اختلف في معنى وضع أجنحتها، فقيل: التواضع له، وقيل: النزول عنده والحضور معه، وقيل: التوقير والتعظيم له"(3) .

3-

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها"(4) .

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (رقم 71) ، ومسلم في صحيحه (رقم 1037) .

(2)

أخرجه أبو داود (رقم 3641 و 3642) ، وابن ماجه (رقم 223) ، والدارمي (1/98) ، وابن عبد البر (ص 37، 38، 39، 41)، وأحمد في المسند (1965) والحديث حسن بشواهده. انظر: الفتح (1/160) .

(3)

تذكرة السامع والمتكلم ص 8.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه 13/502 (مع الفتح) برقم 7529. ومسلم في صحيحه برقم 815.

ص: 126

قال ابن القيم: "فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا ينبغي لأحد أن يحسد أحداً يعني: حسد غبطة، ويتمنى مثل حاله من غير أن يتمنى زوال نعمة الله عنه إلا في واحدة من هاتين الخصلتين، وهي الإحسان إلى الناس بعلمه أو ماله، وما عدا هذين فلا ينبغي غبطته ولا تمني مثل حاله لقلة منفعة الناس به"(1) .

4-

وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا" قالوا يا رسول الله: وما رياض الجنة؟ قال: "حلق الذكر"(2) .

5-

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتقع به أو ولد صالح يدعو له"(3) .

قال ابن القيم رحمه الله: "وهذا من أعظم الأدلة على شرف العلم وفضله وعظم ثمرته، وإن ثوابه يصل إلى الرجل بعد موته ما دام ينتفع به، فكأنه حي لم ينقطع علمه، مع ما له من حياة الذكر والثناء، فجريان أجره عليه إذا انقطع عن الناس ثواب أعمالهم حياة ثانية"(4) .

المطلب الثّالث: أقول بعض العلماء

(1) مفتاح دار السعادة 1/62.

(2)

أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/150، والترمذي في سننه كتاب الدعوات، باب 83، 5/532 ح3510. وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ثابت عن أنس.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه 1631.

(4)

مفتاح دار السعادة 1/175.

ص: 127

1-

هذا الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول في فضل العلم: "تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يحسنه صدقة، وبذله لأهله قربة، به يُعرف الله ويُعبد، وبه يُوحد، وبه يُعرف الحلال من الحرام، وتوصل الأرحام، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة، والقريب عند الغرباء، ومنار سبيل الجنة، يرفع الله به أقواماً فيجعلهم في الخير قادة وسادة يقتدى بهم، أدلة في الخير تقتص آثارهم، وترمق أفعالهم، وترغب الملائكة في خُلتهم وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس، حتى حيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه والسماء ونجومها، والعلم حياة القلوب من العمى، ونور الأبصار من الظلم، وقوة للأبدان من الضعف يبلغ به العبد منازل الأبرار والدرجات العلى، التفكر فيه يُعدل بالصيام ومدارسته بالقيام، وهو إمام للعمل والعمل تابعه يُلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء (1) .

هذا الأثر معروف عن معاذ بن جبل رضي الله عنه الذي هو أعلم الناس بالحلال والحرام.

2-

وعن علي رضي الله عنه قال: "الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رَعَاعٌ أتباع كُل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيؤوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق.

العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال.

العلم يزكو على الإنفاق، والمال تنقصه النفقة.

العلم حاكم والمال محكوم عليه.

ومحبة العلم دين يدان بها.

العلم يكسب العالم طاعة في حياته، وجميل الأُحْدُوثَة بعد وفاته.

(1) أثر معاذ أخرجه ابن نعيم في الحلية 1/239.

وقال ابن القيم: "رواه الخطيب وأبو نعيم وغيرهما عن معاذ بن جبل ورواه أبو نعيم في المعجم من حديث معاذ مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يثبت وحسبه أن يصل إلى معاذ" انتهى. انظر: مفتاح دار السعادة 1/120.

ص: 128

وصنيعة المال تزول بزواله، مات خُزَّانُ المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة" (1) .

قال ابن القيم: "وقوله: "إن الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع" هذا تقسيم خاص للناس وهو الواقع، فإن العبد إما أن يكون قد حصَّل كماله من العلم والعمل أو لا. فالأول العالم الرباني، والثاني إما أن تكون نفسه متحركة في طلب ذلك الكمال ساعية في إدراكه أو لا والثاني هو المتعلم على سبيل النجاة، والثالث وهو الهمج الرعاع.

فالأول هو الواصل، والثاني هو الطالب، والثالث هو المحروم المُعْرِض فلا عالم ولا متعلم بل همج رعاع، والهمج من الناس حمقاؤهم وجهلتهم، وأصله من الهمج جمع همجة وهو ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم والدواب وأعينها (2) ، فشبه همج الناس به والرعاع من الناس الحمقى الذين لا يعتد بهم. وقوله أتباع كل ناعق أي من صاح بهم ودعاهم تبعوه سواء دعاهم إلى هدى أو إلى ضلال، فإنهم لا علم لهم بالذي يُدْعَوْنَ إليه أحق هو أم باطل" (3) .

3-

وعن علي رضي الله عنه قال: "كفى بالعلم شرفاً أن يدعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذماً أن يتبرأ منه من هو فيه"(4) .

4-

وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول إذا رأى الشباب يطلبون العلم: "مرحباً بينابيع الحكمة ومصابيح الظُّلَم جدد القلوب حلس البيوت ريحان كل قبيلة"(5) .

(1) ذكره أبو نعيم في الحلية وغيره، وقال أبو بكر الخطيب: هذا حديث حسن من أحسن الأحاديث معنى وأشرفها لفظاً. انظر: مفتاح دار السعادة 1/123.

(2)

انظر: لسان العرب مادة (همج)(2/392) .

(3)

انظر: مفتاح دار السعادة (1/125-126) .

(4)

تذكرة السامع ص 10.

(5)

جامع بيان العلم وفضله (1/232 رقم257) .

ص: 129

5-

وقال وهب بن منبه: "يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنياً، والعز وإن كان مهيناً، والقرب وإن كان قصياً، والغنى وإن كان فقيراً، والمهابة وإن كان وضيعاً"(1) .

6-

وقال سفيان بن عيينة: "أرفع الناس عند الله منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء".

7-

وقال أيضاً: "لم يعط أحد في الدنيا شيئاً أفضل من النبوة، وما بعد النبوة شيء أفضل من العلم والفقه" فقيل: عمن هذا؟ قال: "عن الفقهاء كلهم"(2) .

8-

وعن سفيان الثوري والشافعي قالا: "ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم"(3) .

9-

وقال بدر الدين بن جماعة: "إن الاشتغال بالعلم لله أفضل من نوافل العبادات البدنية من صلاة وصيام وتسبيح ودعاء ونحو ذلك، لأن نفع العلم يعم صاحبه والناس، والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها، ولأن العلم مصحح لغيره من العبادات فهي تفتقر إليه وتتوقف عليه ولا يتوقف هو عليها، ولأن العلماء ورثة الأنبياء - عليهم الصلاة والتسليم - وليس ذلك للمتعبدين، ولأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه، ولأن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه، وغيره من النوافل تنقطع بموت صاحبها، ولأن في بقاء العلم إحياء الشريعة وحفظ معالم الملة"(4) .

10-

وقال ابن القيم: "السعادة الحقيقية هي سعادة العلم النًّافِعِ ثَمَرَتُهُ، فإنها هي الباقية على تقلب الأحوال، والمصاحبة للعبد في جميع أسفاره وفي دوره الثلاثة - أعني: دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار، وبها يرتقي معارج الفضل ودرجات الكمال.

وإنما رغب أكثر الخلق عن اكتساب هذه السعادة وتحصيلها وعورة طريقها ومرارة مباديها وتعب تحصيلها، وأنها لا تنال إلا عن جد من التعب، فإنها لا تحصل إلا بالجد المحض" (5) .

المبحث الثّاني

السّبيل إلى تحمّل العلم

(1) تذكرة السامع ص10.

(2)

نفس المصدر ص 11.

(3)

جامع بيان العلم وفضله (1/123-124 رقم118،119،120) .

(4)

تذكرة السامع ص 13.

ص: 130

المطلب الأوّل: حاجة طالب العلم إلى الذّكاء والزّكاء

لو نظرت في أصناف طلبة العلم لوجدتهم لا يخرجون عن أحد أصناف ثلاثة:

صنف أوتي ذكاء وفهماً، مع زكاء نفس وحسن سريرة، فحَمَلَهُ ذكاؤه على الجد في طلب العلم والسعي في تحصيله، وحَمَلَهُ زَكَاءُ نفسه وطُهْرُها على العمل بهذا العلم وتطبيقه.

وصنف ثاني: أوتي ذكاء ولم يؤت زكاء، فحمله ذكاؤه على حفظ العلم وتحصيله، ومنعه زكاؤه من العمل به وتطبيقه وهذا علمه حجّة عليه لا حجّة له يوم القيامة.

وصنف ثالث: حرم الأمرين معاً، فليس عنده ذكاءٌ يحصل به العلم وليس عنده زكاءٌ يطبق به العلم.

وهذه الأصناف الثلاثة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت عنه في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:

"إن مثل ما بعثني الله به عز وجل من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله منها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله به فعَلِمَ وعلّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"(1) .

وفي هذا الحديث شبّه النبي صلى الله عليه وسلم العلم الذي جاء به بالغيث لأن كُلاًّ من العلم والغيث سبب الحياة، فالغيث سبب حياة الأبدان والعلم سبب حياة القلوب، وشبه القلوب بالأودية وكما أن الأرضين ثلاثة بالنسبة إلى قبول الغيث:

إحداها: أرض زكية قابلة للشراب والنبات، فإذا أصابها الغيث ارتوت ومنه يثمر النبت من كل زوج بهيج.

فذلك مثل القلب الزكي الذكي، فهو يقبل العلم بذكائه فيثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه، فهو قابل للعلم مثمر لموجبه وفقهه وأسرار معادنه.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (رقم 79) ، ومسلم في صحيحيه (رقم 228) .

ص: 131

والثانية: أرض صلبة قابلة لثبوت ما فيها وحفظه، فهذه تنفع الناس لورودها والسقي منها والازدراع.

وهو مثل القلب الحافظ للعلم الذي يحفظه كما سمعه، فهو يحفظه للحفظ المجرد فهو يؤدي كما سمع وهو من القسم الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:"فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه"(1) .

والأرض الثالثة: أرض قاع وهو المستوي الذي لا يقبل النبات ولا يمسك ماء، فلو أصابها من المطر ما أصابها لم تنتفع منه شيئاً، فهذا مثل القلب الذي لا يقبل العلم والفقه والدراية، وإنما هو بمنزلة الأرض البور التي لا تنبت ولا تحفظ.

فالصنف الأول من الناس: عالم معلم، وداع إلى الله على بصيرة، فهذا من ورثة الرسل وهذا الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم:"من فقه في دين الله ونفعه الله به فعلم وعلم".

والصنف الثاني: من أوتي الذكاء وحرم الزكاء فهو بذكائه حفظ ونقله لغيره.

والصنف الثالث: لا هذا ولا هذا، فهو قد حُرِمَ الذكاء والزكاء، فهو لذلك لم يقبل هدى الله، ولم يرفع به رأساً.

فاسْتَوْعَبَ الحديثُ أصناف الناس في مواقفهم من العلم الشرعي؛ فيعلم من الحديث السابق أن طالب العلم لابد له من أمرين متلازمين لأجل تحصيل العلم وهما الذكاء والزكاء.

فلابد له من زكاء نفس وصلاح سريرة واستقامة دين من أجل أن يحمله ذلك على:

1-

إخلاص القصد وإصلاح النية في طلب العلم.

2-

كبح جماح الشهوة والغفلة المانعتين من طلب العلم.

3-

دفع الشبهات التي تصد عن طلب الحق.

4-

القيام بحق هذا العلم تعلّماً وعملاً وتعليماً.

ولابد له من ذكاء يعينه على تحصيل العلم والجد في طلبه وعندما سأل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما دغفل بن حنظلة فقال: "يا دغفل من أين حفظت هذا؟ " قال: "حفظت هذا بقلب عقول ولسان سؤول"(2) .

(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 3/225. وابن ماجه في السنن 236.

(2)

جامع بيان العلم وفضله 1/378 برقم 531.

ص: 132

فلابد من عقل يحسن معه صاحبه أخذ العلم بأحسن طريق وأيسره ليعينه ذلك على فهم النصوص ومعرفة المسائل حين استيعابها، ويؤكد حاجة العبد إلى الذكاء والزكاء أن الإنسان بطبعه له قوتان:

أولاً: قوة الإدراك والنظر وما يتبعها من العلم والمعرفة وهذه هي القوة العلمية النظرية التي أسميناها هنا الذكاء.

ثانياً: قوة الإرادة والحب وما يتبعه من النية والعزم والعمل وهذه هي القوة العملية التطبيقية.

ولذلك كان مدار الإيمان على أصلين هما:

الأصل الأول: تصديق الخبر والذي يكون في القوة العلمية النظرية.

الأصل الثاني: طاعة الأمر والذي يكون في القوة الإرادية العملية.

ويتبعهما أمران آخران:

الأمر الأول: دفع شبهات الباطل التي تمنع من كمال التصديق.

الأمر الثاني: دفع شهوات الغي المانعة من كمال الامتثال.

لأن الشبهة تؤثر فساداً في القوة العلمية النظرية ما لم يداوها الإنسان بدفعها، ودفعها إنما يكون بالعلم الصحيح.

والشهوة تؤثر فساداً في القوة الإرادية العملية ما لم يداوها الإنسان بتزكية النفس.

ولذلك قال الله في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم 2] .

فقوله: {مَا ضَلَّ} دليل على كمال علمه ومعرفته وأنه على الحق المبين.

وقوله: {وَمَا غَوَى} دليل على كمال رشده وأنه أبر العالمين.

وقد وصف صلى الله عليه وسلم بذلك خلفاءه من بعده فقال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي"(1) ، فالراشد ضد الغاوي، والمهدي ضد الضال.

ولذلك جاءت النصوص بالحث على العلم وطلبه وتحصيله، والحث على زكاء النفس وسلامة القلب ومما ورد في ضرورة زكاء القلب قوله تعالى:{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج 46] .

(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/126-127، وأبو داود في السنن برقم 4607، والترمذي في السنن برقم 2676، والدارمي في المسند 1/44.

ص: 133

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد كله وإذا فسدت فسد سائر الجسد كله ألا وهي القلب"(1) .

فعلى طالب العلم أن يحرص على سلامة قلبه فذلك الذي ينفعه عند الله قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء 89] والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك، وسلم من البدع، وسلم من الغي، وسلم من الباطل، فهو القلب الذي سلم لعبودية ربه حياءً وخوفاً وطمعاً ورجاءً، فقدم حب الله على حب من سواه، وخوفه على خوف من سواه، ورجاءه على رجاء من سواه، وسلَّم لأمره ولرسوله صلى الله عليه وسلم تصديقاً وطاعة، واستسلم لقضاء الله وقدره، وبالتالي سلَّم جميع أحواله وأقواله وأعماله ظاهراً وباطناً لله وحده (2) .

"فلا بد أن يطهر طالب العلم قلبه من كل غش ودنس وغل وحسد وسوء عقيدة وخلق، ليصلح بذلك لقبول العلم وحفظه والاطلاع على دقائق معانيه وحقائق غوامضه، فإن العلم - كما قال بعضهم -: صلاة السر وعبادة القلب وقربة الباطن، وكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث، فكذلك لا يصلح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته عن خبث الصفات وحدث مساوئ الأخلاق ورديئها.

وإذا طيب القلب للعلم ظهرت بركته ونما، كالأرض إذا طيبت للزرع نما زرعها وزكا.

وقال سهل التستري: حرام على قلب أن يدخله النور وفيه شيء مما يكره الله عز وجل" (3) .

وقال الإمام الشافعي:

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأعلمني أن العلم نور

ونور الله لا يؤتى لعاصي (4)

المطلب الثّاني: مراتب نيل العلم

(1) أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه رقم52، ومسلم في صحيحه، مساقاة رقم 107.

(2)

مفتاح دار السعادة 1/41-42.

(3)

تذكرة السامع والمتكلم ص 67.

(4)

ديوان الشافعي ص 54، جمع محمد عفيف الزعبي.

ص: 134

لنيل العلم مراتب ينبغي لطالب العلم مراعاتها حتى يحصل له عن طريقها نيل العلم بأقرب طريق وأيسر سبيل، وقد ذكر العلماء تلك المراتب وأوضحوها لطلاب العلم حتى يأخذوا بها.

قال ابن المبارك: "أول العلم النية، ثم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر"(1) .

قال ابن القيم: "وللعلم ست مراتب:

أولها: حسن السؤال.

الثانية: حسن الإنصات والاستماع.

الثالثة: حسن الفهم.

الرابعة: الحفظ.

الخامسة: التعليم.

السادسة: وهي ثمرته وهي العمل به ومراعاة حدوده.

أما المرتبة الأولى: فهي حسن السؤال، فمن الناس من يحرم العلم لعدم حسن سؤاله، إما لأنه لا يسأل بحال، أو يسأل عن شيء وغيره أهم إليه منه كمن يسأل عن فضوله التي لا يضر جهله بها ويدع ما لا غنى له عن معرفته، وهذه حال كثير من الجهال المتعلمين.

قالت عائشة رضي الله عنها: "رحم الله نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يسألن عن أمر دينهن"(2) .

وسأل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما دغفل بن حنظلة فقال: "يا دغفل من أين حفظت هذا؟ " قال: "حفظت هذا بقلب عقول ولسان سؤول"(3) .

(1) جامع بيان العلم وفضله 1/476 رقم759.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم 332.

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 135

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "ذللت طالباً فعززت مطلوباً"(1)، وقال:"وجدت عامة علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هذا الحي من الأنصار إن كنت لأَقِيْل عند باب أحدهم ولو شئت أذن لي ولكن أبتغي بذلك طيب نفسه"(2)، وقال أبو إسحاق:"قال علي كلمات لو رحلتم المطي فيهن لأفنيتموهن قبل أن تدركوا مثلهن: "لا يَرْجُوَنَّ عَبْدٌ إلا ربه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه، ولا يستحي من لا يعلم أن يتعلم، ولا يستحي إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، واعلموا أن منزلة الصبر من الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد: وإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان" (3) ، ومن كلام بعض العلماء: "لا ينال العلم مستحٍ ولا متكبر، هذا يمنعه حياؤه من التعلم وهذا يمنعه كبره" (4) ، وإنما حمدت هذه الأخلاق في طلب العلم لأنها طريق إلى تحصيله فكانت من كمال الرجل ومفضية إلى كماله. ومن كلام الحسن: "من استتر عن طلب العلم بالحياء لبس للجهل سرباله، فاقطعوا سرابيل الجهل عنكم بدفع الحياء في العلم، فإنه من رق وجهه رق علمه" (5) ، وقال الخليل: "منزلة الجهل بين الحياء والأنفة" (6) ومن كلام علي رضي الله عنه: "قرنت الهيبة بالخيبة والحياء بالحرمان" (7) ، وقال إبراهيم للمنصور: "سل مسألة الحمقى واحفظ حفظ الأكياس" (8) ، وكذلك سؤال الناس هو عيب ونقص في الرجل وذلة تنافي المروءة إلا في العلم فإنه عين كماله ومروءته وعزه كما قال بعض أهل العلم: "خير خصال الرجل السؤال عن العلم" (9) ، وقال علي رضي الله عنه: "سلوني

" فقام ابن الكواء فسأل عن

(1) جامع بيان العلم وفضله 1/474 رقم756.

(2)

أخرجه الدارمي في سننه 1/141، وأبو خيثمة في "العلم"133.

(3)

جامع بيان العلم وفضله 1/383 رقم547-548.

(4)

مفتاح دار السعادة 1/168.

(5)

جامع بيان العلم وفضله 1/383 رقم550.

(6)

نفس المصدر 1/384 رقم551.

(7)

نفس المصدر 1/383 رقم549.

(8)

نفس المصدر 1/387 رقم560.

(9)

مفتاح دار السعادة 168.

ص: 136

أشياء فقال علي: "ويلك سل تفقها ولا تسل تعنتا

" (1) .

وأنشد ابن الأعرابي

فسل الفقيه تكن فقيها مثله

من يسع في علم بذلٍ يَمْهَرُ (2)

أما المرتبة الثانية: فهي حسن الإنصات، فمن الناس من يحرم العلم لسوء إنصاته، فيكون الكلام والممارات آثر عنده وأحب إليه من الإنصات وهذه آفة كامنة في أكثر النفوس الطالبة للعلم وهي تمنعهم علما كثيراً ولو كان حَسَنَ الفهم. ذكر ابن عبد البر عن بعض السلف أنه قال:"من كان حسن الفهم رديء الاستماع لم يقم خيره بشره"(3) .

وقال الزهري: "كان أبو سلمة يسأل ابن عباس فكان يعرض عنه وكان عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يلاطفه فيغره غراً، وقال أبو سلمة: لو رفقت بابن عباس لاستخرجت منه علماً كثيراً"(4) . وقال ابن جريج: " م أستخرج العلم الذي استخرجت من عطاء إلا برفقي به"(5)، وقال بعض السلف:"إذا جالست العالم فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول"(6) .

والمرتبة الثالثة: حسن الفهم، فقد قال الله تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق 37] فتأمل ما تحت هذه الألفاظ من كنوز العلم وكيف تفتح مراعاتها للعبد أبواب العلم والهدى وكيف ينغلق باب العلم من إهمالها وعدم مراعاتها، فإنه سبحانه أمر عباده أن يتدبروا آياته المتلوة المسموعة والمرئية المشهودة بما تكون تذكرة لمن كان له قلب فإن من عدم القلب الواعي عن الله لم ينتفع بكل آية تمر عليه ولو مرت به كل آية ومرور الآيات عليه كطلوع الشمس والقمر والنجوم وكمرورها على من لا بصر له، فإذا كان له قلب كان بمنزلة البصير إذا مرت به المرئيات، فإنه يراها.

(1) جامع بيان العلم وفضله 1/464 رقم 726.

(2)

نفس المصدر 1/381، وانظر مفتاح دار السعادة 1/168-169.

(3)

جامع بيان العلم وفضله 1/448 رقم699.

(4)

الجامع للخطيب 1/317 رقم 384-385.

(5)

جامع بيان العلم وفضله 1/423 رقم625.

(6)

نفس المصدر 1/521 رقم845.

ص: 137

ولكن صاحب القلب لا ينتفع بقلبه إلا بأمرين:

أحدهما: أن يحضره ويشهده لما يلقى إليه فإن كان غائباً عنه مسافراً في الأماني والشهوات والخيالات لا ينتفع به فإذا أحضره وأشهده لم ينتفع إلا بأن يلقي سمعه ويصغى بكليته إلى ما يوعظ به ويرشد إليه.

وههنا ثلاثة أمور: أحدها سلامة القلب وصحته وقبوله.

الثاني: إحضاره وجمعه ومنعه من الشرود والتفرق، الثالث: إلقاء السمع وإصغاؤه والإقبال على الذكر. فذكر - الله تعالى - الأمور الثلاثة في هذه الآية " (1) .

والمرتبة الرابعة: هي الحفظ، قال الخليل بن أحمد:"ما سمعت شيئاً إلا كتبتهُ، ولا كتبته إلا حفظته، ولا حفظته إلا نفعني"(2) .

وعن الشعبي أنه قال: "كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به"(3) .

وأما المرتبة الخامسة: فهي العمل به، قال بعض السلف:"كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به". وقال بعض السلف أيضاً: "العلم يهتف بالعمل فإن أجابه حل وإلا ارتحل"(4) . فالعمل به من أعظم أسباب حفظه، وثباته، وترك العمل به إضاعة له فما استدر العلم ولا استجلب بمثل العمل. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد 28] " (5) .

وأما المرتبة السادسة: وهي نشره وتعليمه.

وقد قيل: "ما صينَ العلم بمثل العمل به وبذله لأهله"(6) .

وقال ابن القاسم: "كنا إذا ودَّعنا مالكاً يقول لنا: اتقوا الله وانشروا هذا العلم وعلموه ولا تكتموه"(7) .

(1) مفتاح دار السعادة (1/169-170) .

(2)

جامع بيان العلم وفضله 1/335 رقم447.

(3)

نفس المصدر 1/709 رقم1284.

(4)

جامع بيان العلم وفضله 1/707 رقم1274.

(5)

مفتاح دار السعادة (1/172) .

(6)

جامع بيان العلم وفضله 1/496 رقم789.

(7)

نفس المصدر 1/492 رقم781.

ص: 138

وعن أبي حاتم الرازي قال: "نَشْرُ العلم حياته، والبلاغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة، يعتصم به كل مؤمن، ويكون حجة على كل مقر به وملحد"(1) .

"وحرمان العلم من هذه الوجوه الستة:

أحدها: ترك السؤال

الثاني: سوء الإنصات وعدم إلقاء السمع.

الثالث: سوء الفهم.

الرابع: عدم الحفظ.

الخامس: عدم نشره وتعليمه، فإن من خزن علمه، ولم ينشره، ولم يعلِّمْه ابتلاه الله بنسيانه وذهابه منه جزاء من جنس عمله، وهذا أمر يشهد به الحس والوجود.

السادس: عدم العمل به فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه، فإذا أهمل العمل به نسيه.

المطلب الثّالث: آداب طالب العلم

على طالب العلم أن يراعي جملة من الأمور يتحلى بها في سلوكه سبيل العلم ومن بينها:

أولاً: حسن النية في طلب العلم: بأن يقصد به وجه الله - تعالى - والعمل به وإحياء الشريعة وتنوير قلبه وتحلية باطنه، والقرب من الله - تعالى - يوم القيامة، والتعرض لما أعد لأهله من رضوانه وعظيم فضله.

قال سفيان الثوري: "ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي"(2) .

ولا يقصد به الأغراض الدنيوية من تحصيل الرياسة والجاه والمال ومباهاة الأقران وتعظيم الناس له وتصديره في المجالس ونحو ذلك فيستبدل الأدنى بالذي هو خير.

فإن العلم إن خلصت فيه النية قبل وزكا ونمت بركته، وإن قصد به غير وجه الله - تعالى - حبط وضاع وخسرت صفقته، وربما تفوته تلك المقاصد ولا ينالها فيخيب قصده ويضيع سعيه (3) .

(1) شرف أصحاب الحديث ص 17.

(2)

الجامع للخطيب 1/494 رقم 699.

(3)

تذكرة السامع والمتكلم ص 68-70، بتصرف.

ص: 139

ثانياً: أن يبادر شبابه وأوقات عمره إلى التحصيل، ولا يغتر بخدع التسويف والتأميل، فإن كل ساعة تمضي من عمره لا بدل لها ولا عوض عنها، ويغتنم وقت فراغه ونشاطه وزمن عافيته وشرخ شبابه ونباهة خاطره وقلة شواغله قبل عوارض البطالة أو موانع الرياسة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"تفقهوا قبل أن تسودوا "(1) وقال الشافعي: "تفقه قبل أن ترأس فإذا رأست فلا سبيل إلى التفقه"(2) .

ويقطع ما يقدر عليه من العلائق الشاغلة والعوائق المانعة عن تمام الطلب وبذل الاجتهاد وقوة الجد في التحصيل فإنها كقواطع الطريق، ولذلك استحب السلف التغرب عن الأهل والبعد عن الوطن لأن الفكرة إذا توزعت قصرت عن درك الحقائق وغموض الدقائق، وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وكذلك يقال: العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك.

ومما يقال عن الشافعي أنه قال: "لو كلفت شراء بصلة لما فهمت مسألة"(3) .

ثالثاً: أن يقسم أوقات ليله ونهاره ويغتنم ما بقي من عمره فإن بقية العمر لا قيمة له.

وأجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل.

وقال الخطيب: "أجود أوقات الحفظ الأسحار ثم وسط النهار ثم الغداة".

قال: "وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع"(4) .

رابعاً: أن يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة على ثمان ساعات وهو ثلث الزمان، فإن احتمل حاله أقل منها فعل.

ولا بأس أن يريح نفسه وقلبه وذهنه وبصره إذا كلّ شيء من ذلك أو ضعف بتنزه وتفرج في المستنزهات بحيث يعود إلى حاله ولا يضيع عليه زمانه (5) .

(1) علقه البخاري في صحيحه 1/166، وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 8/540، والدارمي في سننه 1/79، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/366 رقم 508.

(2)

تذكرة السامع والمتكلم ص 134.

(3)

نفس المصدر ص 70-71.

(4)

نفس المصدر ص 72-73.

(5)

نفس المصدر ص 77-80، بتصرف.

ص: 140

خامساً: أن يترك مصاحبه من كثر لعبه وقلت فكرته، فإن الطباع سراقة وآفة العشرة ضياع العمر بغير فائدة، والذي ينبغي لطالب العلم أن لا يخالط إلا من يفيده أو يستفيد منه.

وإذا احتاج إلى من يصحبه فليكن صاحباً صالحاً، ديناً، تقياً، ورعاً، ذكياً، كثير الخير، قليل الشر، حسن المداراة، قليل المماراة، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن احتاج واساه، وإن ضجر صبره (1) .

سادساً: أن يأخذ نفسه بالورع في جميع شأنه ويتحرى الحلال في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه وفي جميع ما يحتاج إليه هو وعياله، ليستنير قلبه، ويصلح لقبول العلم ونوره والنفع به. وعليه أن يقنع من القوت بما تيسر وإن كان يسيراً، ومن اللباس بما يستر مثله وإن كان خَلقاً، فبالصبر على ضيق العيش ينال سعة العلم، ويجمع شمل القلب على مفترقات الآمال فتفجر فيه ينابيع الحكم (2) .

المطلب الرّابع: موانع حمل العلم

ليس كل الناس أهل لتحمل العلم فهناك من لا يصلح لحمل العلم وقد ذكر علي بن أبي طالب - رضي الله - عنه أصناف حملة العلم الذين لا يصلحون لحمله وهم أربعة:

أحدهم: من ليس هو بمأمون عليه وهو الذي أوتي ذكاءً وحفظاً، ولكن مع ذلك لم يؤت زكاءً، فهو يتخذ العلم الذي هو آلة الدين آلة للدنيا يستجلبها بها، ويتوصل بالعلم إليها، ويجعل البضاعة التي هي متجرُ الآخرة متجرَ الدنيا، وهذا غير أمين على ما حمله من العلم ولا يجعله الله إماماً فيه قط، فإن الأمين هو الذي لا غرضَ له ولا إرادة لنفسه إلا اتباع الحق وموافقته.

وهذا الصنف الذي قد اتخذ بضاعة الآخرة ومتجرها متجراً للدنيا قد خان الله وخان عباده وخان دينه، فلهذا هو غير مأمون عليه وليس من حملته.

(1) نفس المصدر ص 83-84، بتصرف.

(2)

نفس المصدر ص 71، 75، بتصرف.

ص: 141

والصنف الثاني: رجل همته في نيل لذته فهو منقاد لداعي الشهوة أين كان ولا ينال درجة وراثة النبوة مع ذلك، ولا يُنال العلمُ إلا بهجر اللذات وتطليق الراحة، قال مسلم في صحيحه:"قال يحيى بن أبي كثير: لا يُنال العلم براحة الجسم"(1) وقال إبراهيم الحربي: "أجمع عقلاء كل أمة أن النعيم لا يدرك بالنعم ومن آثر الراحة فاتته الراحة، فما لصاحب اللذات وما لدرجة وراثة الأنبياء"(2) .

فدع عنك الكتابة لست منها

ولو سودت وجهك بالمداد (3)

فإن العلم صناعة القلب وشغله، فمن لم يتفرغ لصناعته وشغله لم تنله. فالقلب له وجهة واحدة فإذا وجهت وجهته إلى اللذات والشهوات انصرفت عن العلم.

ومن لم يُغلِّبْ لذة إدراكه للعلم على لذة جسمه وشهوة نفسه لم ينل درجة العلم أبداً.

الصنف الثالث: المنقاد الذي لم يَثْلُج صدره بالعلم ولم يطمئن به قلبه بل هو ضعيف البصيرة فيه، لكنه منقاد لأهله، وهذه حال أتباع الحق من مقلديهم، وهؤلاء وإن كانوا على سبيل نجاة فليسوا من دعاة الدين وإنما هم من مكثري سواد الجيش لا من أمرائه وفرسانه.

الصنف الرابع: من حِرْصُهُ وهِمَّتُهُ في جمع الأموال وتثميرها وادخارها، فقد صارت لذته في ذلك وفنى بها عما سواها فلا يرى شيئاً أطيب له مما هو فيه فمن أين هذا ودرجة العلم.

فهؤلاء الأصناف الأربعة ليسوا من دعاة الدين ولا من أئمة العلم ولا من طلبته الصادقين في طلبه.

ومن تعلق منهم بشيء منه فهو من المتسلقين عليه المتشبهين بحملته وأهله المدعين لوصاله المبتوتين من حباله.

(1) أخرجه مسلم في صحيحه كتاب المساجد باب أوقات الصلوات الخمس.

(2)

مفتاح دار السعادة 1/142.

(3)

نفس المصدر 1/142.

ص: 142

وفتنة هؤلاء فتنة لكل مفتون، فإن الناس يتشبهون بهم لما يظنون عندهم من العلم ويقولون لسنا خيراً منهم، ولا نرغب بأنفسنا عنهم، فهم حجة لكل مفتون ولهذا قال بعض الصحابة الكرام:"احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون"(1) .

المبحث الثّالث

مسؤوليّة أداء العلم

المطلب الأوّل: مسؤوليّة أدائه عملاً

المسؤولية التي يتحملها طالب العلم تجاه العلم ذات شقين:

الأول: مسؤولية أدائه عملاً.

والثاني: مسؤولية أدائه تعليماً.

فأما عن مسؤولية أدائه عملاً فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: "من تعلَّم علماً لا يعمل به لم يزده العلم إلا كِبْراً"(2) .

وقال رضي الله عنه: "تعلَّموا، تعْلموا، فإذا علمتم فاعملوا"(3) .

وقال الحسن: "العالم الذي وافق علمه عمله"(4) .

وعنه قال: "عقوبة العالم موت قلبه. قيل له: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بعمل الآخرة"(5) .

وقال هلال بن العلاء: "طلب العلم شديد، وحفظه أشدُّ من طلبه، والعمل به أشدُّ من حفظه، والسلامة منه أشدُّ من العمل به، ثم أنشد يقول:

يموتُ قومٌ ويُحيي العِلْمُ ذِكْرَهٌمُ

والجَهْلُ يُلْحِقُ أَمْوَاتاً بأَمْوَاتِ (6)

وقال الشافعي: "ليس العلم ما حُفِظَ، العلم ما نَفَع"(7) .

المطلب الثّاني: مسؤوليّة أدائه تعليماً

وأما عن مسؤولية أدائه تعليماً: فقال عبد الله بن المبارك: "من بخل بالعلم ابتلي بثلاث: إما بموت يُذهب علمه، وإما يُنسى، وإما يلزم السلطان فيذهب علمه سلطاناً"(8) .

(1) انظر: نفس المصدر 1/139-143.

(2)

الترغيب والترهيب لأبي القاسم الأصبهاني 2/875.

(3)

جامع بيان العلم وفضله 1/705 رقم1266. وأخرجه الدارمي1/103، والخطيب في الاقتضاء 10.

(4)

جامع بيان العلم وفضله 1/698 رقم1241

(5)

جامع بيان العلم وفضله 1/667 رقم1156.

(6)

الترغيب والترهيب لأبي القاسم الأصبهاني 2/874.

(7)

تذكرة السامع والمتكلم ص 15.

(8)

سير أعلام النبلاء 8/398.

ص: 143

وعن أبي قلابة قال: "العلماء ثلاثة: رجل عاش بعلمه، ولم يعش الناس به معه، ورجل عاش الناس بعلمه ولم يعش هو به، ورجل عاش بعلمه وعاش الناس به معه"(1) .

"قال بعض السلف صنفان إذا صلحا صلح سائر الناس وإذا فسدا فسد سائر الناس: العلماء والأمراء.

قال عبد الله بن المبارك:

وهل أفسد الدين إلا الملوك

وأحبار سوء ورهبانها " (2)

وقال محمد بن الفضل: "ذهاب الإسلام على يدي أربعة أصناف من الناس:

1-

صنف لا يعملون بما يعلمون.

2-

وصنف يعملون بما لا يعلمون.

3-

وصنف لا يعلمون ولا يعملون.

4-

وصنف يمنعون الناس من العلم" (3) .

قال ابن القيم: "الصنف الأول: من له علم بلا عمل فهو أضر شيء على العامة، فإنه حجة لهم في كل نقيصة ومنحسة.

والصنف الثاني: العابد الجاهل، فإن الناس يحسنون الظن به لعبادته وصلاحه، فيقتدون به على جهله.

وهذان الصنفان هما اللذان ذكرهما بعض السلف في قوله:

"احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون"(4) ، فإن الناس إنما يقتدون بعلمائهم وعبادهم، فإن كان العلماء فجرة والعباد جهلة عمت المصيبة وعظمت الفتنة على الخاصة والعامة.

والصنف الثالث: من لا علم لهم ولا عمل وإنما هم كالأنعام السائمة.

والصنف الرابع: نواب إبليس في الأرض وهم الذين يُثبِّطون الناس عن طلب العلم والتفقه في الدين فهؤلاء أضر عليهم من شياطين الجن، فإنهم يحولون بين القلوب وبين هدى الله وطريقه" (5) .

قال الشعبي: "كل أمة علماؤها شرارها إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم"(6) .

(1) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه 11/254. وأبو نعيم في الحلية 2/283. وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 1/823 رقم 1546.

(2)

مفتاح دار السعادة 1/105.

(3)

مفتاح دار السعادة 1/160.

(4)

جامع بيان العلم وفضله 1/666 رقم1161.

(5)

مفتاح دار السعادة 1/160.

(6)

مفتاح دار السعادة 1/160.

ص: 144

قال ابن تيمية: "أهل السنة في الإسلام، كأهل الإسلام في الملل، وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يُضلهم علماؤهم، فعلماؤهم شرارهم، والمسلمون على هدى، وإنما يتبين الهدى بعلمائهم، فعلماؤهم خيارهم. وكذلك أهل السنة أئمتهم خيار الأمة، وأئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب".

وقال بدر الدين بن جماعة: "واعلم أن جميع ما ذكر من فضيلة العلم والعلماء إنما هو في حق العلماء العاملين الأبرار المتقين الذين قصدوا به وجه الله الكريم، والزلفى لديه في جنات النعيم لا من طلبه بسوء نية أو خبث طوية أو لأغراض دنيوية من جاه أو مال أو مكاثرة في الاتباع والطلاب"(1) .

الخاتمة

ومن هذه النقول يتضح لك يا طالب العلم عظم المسؤولية الملقاة على عاتقك، فأنت تحمل ثلاث مسؤوليات:

المسؤولية الأولى: مسؤولية نفسك.

المسؤولية الثانية: مسؤولية هذا الدين الذي حملته وأصبحت أميناً عليه.

المسؤولية الثالثة: مسؤولية هذه الأمة التي من مسؤوليتك تعليمها وإرشادها، وألا تبخل عليها بالتوجيه والنصح.

ولا يخفى على طالب العلم أن ما عليه حال كثير من الناس اليوم من ضلال وانحراف هو سبب بعدهم عن شرع ربهم ومعلوم أن صلاح أحوال الناس مرهون بعودتهم إلى دينهم والتمسك بشرع ربهم.

وهذه حقيقة متقررة لا جدال فيها ولا مراء، وطلبة العلم هم حملة لواء الشريعة والأمناء على ميراث النبوة، وعندهم طب الناس ودواؤهم، فلو أنهم قاموا بواجبهم حق القيام لتغير - بإذن الله - حال الناس ولاستقامت أمورهم، ولأصلح الله من شأنهم.

(1) تذكرة السامع والمتكلم ص13.

ص: 145

وإنه لمن العجيب أن ترى أصحاب الباطل ينشطون في باطلهم ويبذلون له كل غال ونفيس ويتفانون ويتفننون في خدمة ذلك الباطل سواء كان ديناً محرفاً أم فكراً فاسداً أو لهواً محرماً، وبينما ترى بعض أصحاب الحق وطلبة العلم الشرعي الصحيح لا يبذلون من الوقت والجهد كما يبذل أولئك مع ما هم عليه من الحق والفضل والأجر، وما عليه أولئك من الإثم والخزي والخسران المبين في الدنيا والآخرة.

وأعجب من ذلك أن يركن طالب العلم للدنيا وحطامها الفاني وزخرفها الزائل ولا يسعى لتحصيل العلم الذي هو السبيل إلى جنة الخلد الباقية، فلا يليق بطلاب العلم أن يركنوا إلى الدعة والراحة والاشتغال بملاذ العيش ووسائل الراحة والرفاهية التي شاعت في عصرنا الحاضر.

وليعلم طالب العلم أنه إن فوت تحصيل العلم وضيع الأيام والليالي وسَوَّفَ في ساعات الشباب ولم يبادر نفسه ويلزمها مجالس التحصيل والدرس ويغتنم أوقات الفراغ والقوة والنشاط، فإن ذلك إذا مضى لن يعود، فإذا هو فرط في أمانة التحمل ولم يحصل العلم، فإنه من باب أولى أن يكون مفرطاً في مسؤولية الأداء وتبليغ شرع الله، لأن فاقد الشيء لا يعطيه.

فحري بطالب العلم أن يستشعر مسؤوليته ويقوم بواجبه تجاه العلم الشرعي تعلماً وعملاً وتعليماً.

وذلك "بسلوك هدي الأنبياء وطريقتهم في التبليغ من الصبر والاحتمال ومقابلة إساءة الناس إليهم بالإحسان والرفق بهم، واستجلابهم إلى الله بأحسن الطرق وبذل ما يمكن من النصيحة لهم"(1) .

هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

ثبت المصادر والمراجع

تذكرة السامع والمتكلم في أداب العالم والمتعلم لبدر الدين ابن جماعة الكناني الناشر: دار الكتب العلمية.

الترغيب والترهيب لأبي القاسم الأصبهاني الناشر مكتبة النهضة الحديثة.

جامع بيان العلم وفضله لأبي عمر يوسف بن عبد البر تحقيق أبي الأشبال الزهيري ط: دار ابن الجوزي، ط1.

(1) مفتاح دار السعادة 1/66.

ص: 146

الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع لأبي بكر الخطيب البغدادي، تحقيق محمد عجاج الخطيب.

حلية الأولياء - لأبي نعيم، أحمد بن عبد الله الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، ط2، 1387هـ.

السنن - أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي- تعليق عزت عبيد الدعاس وعادل السيد، نشر وتوزيع محمد علي السيد، حمص، ط1، 1388هـ.

السنن - أبو عبد الله، محمد بن يزيد بن ماجة القزويني- تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.

السنن - أبي عيسى، محمد بن عيسى بن سورة الترمذي- تحقيق أحمد شاكر، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان.

السنن - عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي- دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.

سير أعلام النبلاء للذهبي ط. مؤسسة الرسالة.

شرف أصحاب الحديث لأبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي تحقيق د. محمد سعيد خطيب أوغلي الناشر: دار إحياء السنة النبوية.

الجامع الصحيح - محمد بن إسماعيل البخاري- طبعة دار السلام، الرياض، المملكة العربية السعودية.

صحيح مسلم - مسلم بن الحجاج القشري - دار المعرفة، بيروت، لبنان.

فتح الباري شرح صحيح البخاري - الناشر المكتبة الإسلامية

المسند - الإمام أحمد بن حنبل الشيباني - دار صادر، بيروت، لبنان.

مصنف عبد الرزاق - تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي - المكتب الإسلامي،ط 2، 1403 هـ

مفتاح دار السعادة لأبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية الناشر دار الكتب العلمية.

ص: 147

المقدَّمة

إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون.

وبعد؛ فإنّ الدعوة إلى الله تعالى هي سبيل الأنبياء والمرسلين، وطريق صفوة الخلق أجمعين، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وطريق أتباعه إلى يوم الدين.

قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (1) .

وقال عز وجل: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} (2) .فدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وأتباعه تقوم على العلم والبصيرة في الدين، ودعوة الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن. وذلك لا خراجهم من ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظلمات البدع إلى نور السنة، ومن المعاصي إلى الطاعة، ومن النار إلى الجنة.

والدعاة إلى الله تعالى المقتفون لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لهم المكانة العالية والمنزلة السامية في كل عصر، قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (3) .

ولأهمية الدعوة إلى الله تعالى على المنهج الصحيح قد جعلت هذا البحث بعنوان "المنهج الصحيح وأثره في الدعوة إلى الله تعالى" وذلك لا سباب، من أهمها:

(1) سورة يوسف، الآية (108) .

(2)

سورة النحل، الآية (125) .

(3)

سورة فصلت، الآية (33) .

ص: 148

أولاً: ما يلاحظ على أكثر الجماعات العاملة في الساحة الإسلامية من إغفال أو إهمال للجانب الأساسي والأهم، وهو دعوة الناس إلى "التوحيد " وتصحيح عقائدهم، فكثير من هؤلاء الدعاة يسلكون مسالك شتى، لا تتوافق مع منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المنهج الذي يجب على كل داعية إلى الله تعالى أن يسلكه ويسير عليه، عملاً بقوله تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ً} (1) .

(1) سورة الأحزاب، الآية (21) .

ص: 149

والدعوة إلى التوحيد هى أول دعوة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - إلى أقوامهم، وكل الكتب المنزلة إنما نزلت لبيان عقيدة التوحيد، وبيان مايبطلها ويناقضها أو ينقصها، فعقيدة التوحيد هي التي يقوم عليها كيان المجتمع الإسلامي، ومنها يستلهمون طريق وحدتهم وعزتهم، إلا أن أكثر الأساليب والوسائل المتعددة التي تنادي بوحدة المسلمين، وجمع كلمتهم، ولمّ شملهم لم تحقق الأهداف المنشودة، مع مابذل فيها من الجهد والوقت والمال، بل الذي نتج عن هذه الدعوات وتلك المناهج إنما هو التعصب، والاختلاف، والتطرف، والغلوّ، والابتداع والتكفير

وماذلك إلا لا نَّ هذه المناهج وتلك الدعوات لم تقم على المنهج الصحيح الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام ومن تبعهم بإحسان، حيث نجد أنَّ جماعة من هؤلاء تهتم بالسياسة والجهاد، وجماعة تدعو إلى الترغيب والترهيب والزهد والورع، وأخرى تهتم بالأخلاق، وهكذا قلَّ أن تجد من بين هذه الجماعات من يهتم بالركن الأساسي والأهم وهو الدعوة إلى التوحيد، الذي هو المنطلق المتين لوحدة المسلمين ولمَّ شملهم. (1)

ثانياً: إني لم أقف على من أفرد هذا البحث بهذا الاسم - على حد علمي القاصر.

ومن هنا فإن الحاجة ماسة إلى بيان المنهج الصحيح القائم على كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح - رضوان الله تعالى عليهم - لذا فقد رغبتُ في الكتابة في هذا الموضوع للمشاركة في توضيح الحق، وبيانه للناس، لا ن هذا هو المنهج الذي يجب اتباعه دون ماسواه من المناهج المخالفة.

(1) انظر مقدمة فضيلة الدكتور صالح الفوزان على كتاب منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل للدكتور ربيع المدخلي 6-7، منهج السلف في العقيدة وأثره في وحدة المسلمين للشيخ صالح بن سعد السحيمي، 4-5.

ص: 150

قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) .

وقال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (2) .

وقال رسول الهدىصلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ماتمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي"(3) .

ويقول الإمام مالك بن أنس رحمه الله! "لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"(4) .

وعندما أقول بوجوب الاهتمام بالدعوة إلى التوحيد، والبدء به أولاً، لا يعني إهمال الجوانب الأخرى التي يحتاج إليها المسلم، وتتفق مع عقيدته، وإنما المقصود أن نبدأ بالدعوة إلى التوحيد، ثم الأهم فالأهم مع جعل أعمالنا كلها تقوم على أساس العقيدة الصحيحة.

خطة البحث

وقد جعلت البحث في مقدمة، وأربعة فصول، وخاتمة.

اشتملت المقدمة على أهمية الموضوع، وسبب الاختيار، والخطة ومنهجي في البحث.

والفصل الأول: أهمية العقيدة الصحيحة ووجوب التمسك بها، وفيه ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: وجوب التمسك بالعقيدة الصحيحة.

المبحث الأول: وجوب التمسك بالعقيدة الصحيحة.

المبحث الثاني: أهمية التوحيد وفضله.

المبحث الثالث: البدء بالدعوة إلى التوحيد أولاً.

(1) سورة الأنعام، الآية 153.

(2)

سورة آل عمران، الآية 103.

(3)

حديث حسن. أخرجه مالك في الموطأ، 2/899، كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر، رقم3، والحاكم في المستدرك، (1/93) ، والبيهقي في السنن (10/11) ، وانظر تحقيق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني على مشكاة المصابيح للإمام التبريزي، 1/66، رقم 186، وانظر الأربعين حديثاً في الدعوة والدعاة، لعلي بن حسن الحلبي الأثري، الحديث رقم 7، عن ابن عباس رضي الله عنهما.

(4)

انظر الشفاء للقاضي عياض، (2/676) ، دار الكتاب العربي تحقيق البجاوي، وموارد الأمان، 265.

ص: 151

والفصل الثاني: الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى، ويشتمل على مايلي:

أولاً: العلم.

ثانياً: الإخلاص.

ثالثاً: المتابعة.

رابعاً: الحكمة.

خامساً: الرفق والحلم.

سادساً: الصبر.

سابعاً: التحلي بالأخلاق الفاضلة.

والفصل الثالث: أسباب انحراف الأمة عن المنهج الصحيح، وفيه ستة مباحث:

المبحث الأول: الغلو في الدين.

المبحث الثاني: الجهل.

المبحث الثالث: الابتداع في الدين.

المبحث الرابع: اتباع الهوى.

المبحث الخامس: تقديم العقل على النقل.

المبحث السادس: التفرق والتحزب.

والفصل الرابع: أثر المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى.

وأما الخاتمة: فقد أوجزتُ فيها أهم نتائج البحث.

وقد عزوت الآيات الكريمة إلى مواضعها من السور، وخرجتُ الأحاديث النبوية الواردة في البحث، كما وثقت النصوص التي نقلتها عن بعض العلماء من مصادرها الأصلية، ثم ألحقت به قائمة بأهم المصادر والمراجع مرتبة حسب حروف الهجاء، وقائمة أخرى للموضوعات.

ولا يفوتني أن أقول: إن هذا جهد المقلَّ، فما كان فيه من صواب فهو من فضل الله تعالى وتوفيقه لي، وأشكره سبحانه على ذلك، وماكان فيه من خطأ ونقص فأستغفر الله منه وأتوب إليه، وأرجو ممن قرأه ووجد فيه خللاً أن ينبهني إليه امتثالاً لقوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (1) .

وسأكون شاكراً لنصحه وتوجيهه، وله من الله الأجر والمثوبة.

وأسأل الله ـ جلّت قدرته ـ أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به من يراه من الدعاة المخلصين، وأن يجعله في موازين حسناتي يوم الدين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وكتب:

د. حمود بن أحمدالرحيلي

الفصل الأول

أهمية العقيدة الصحيحة ووجوب التمسك بها، ويشتمل على ثلاثة مباحث:

المبحث الأول

وجوب التمسك بالعقيدة الصحيحة

(1) سورة المائدة، من الآية (2) .

ص: 152

إنَّ العقيدة الصحيحة هي الأساس المتين، والركن العظيم لدين الإسلام، ولذا فإنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أول ماقاموا به في دعوة أقوامهم هو دعوتهم إلى تصحيح الاعتقاد، وإلى توحيد الله جلَّ وعلا، فصلاح الأمم مرهون بسلامة عقيدتها، وصحة أفكارها، وكل بناءٍ لا تكون العقيدة أساسه، إنما هو بناء متهدم الأركان، وليس له بقاء ولا قرار، وبدون تصحيح العقيدة لا فائدة من الأعمال أياً كان نوعها.

قال الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (1) .

وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (2) .

وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ـ بعد بعثته ـ ثلاث عشرة سنة، يدعو إلى تصحيح العقيدة، وإلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، ولم تنزل عليه الفرائض إلا في المدينة ماعدا الصلاة، أما بقية الشرائع ففرضت في المدينة، مما يدُّل دلالة واضحة على أنه لا يُطالب أحد بالأعمال إلا بعد تصحيح العقيدة، وتصفيتها من كل شائبة، وإذا صلحت العقيدة صلحت أعمال المسلم، وذلك لا ن العقيدة الصحيحة تحمل المسلم على الأعمال الصالحة، وتوجهه إلى الأفعال الحميدة.

فالواجب على الداعية إلى الله تعالى أن يهتم بعقيدة السلف الصالح - رضوان الله عليهم - علماً وعملاً بها، ودعوة إليها، لا نها العقيدة التي أُمرنا بالتمسك بها، والمحافظة عليها، والتي لا يجوز لا ي داعية أن يعدل عنها أو أن يتخذ أي عقيدة سواها.

قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (3) .

(1) سورة المائدة، الآية (72) .

(2)

سورة الزمر، الآية (65) .

(3)

سورة الأنعام، من الآية (153) .

ص: 153

وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (1) وقال تعالى في فضل المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (2) .

يقول الحافظ أبو القاسم اللالكائي في كتابه القيّم "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة": "فإنَّ أوجب ماعلى المرء معرفة اعتقاد الدين، وما كلف الله به عباده من فهم توحيده، وصفاته، وتصديق رسله بالدلائل واليقين، والتوصل إلى طرقها، والاستدلال عليها بالحجج والبراهين، وكان من أعظم منقول، وأوضح حجة ومعقول: كتاب الله الحق المبين، ثم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأخيار المتقين، ثم ماأجمع عليه السلف الصالحون، ثم التمسك بمجموعها، والمقام عليها إلى يوم الدين، ثم الاجتناب عن البدع والاستماع إليها مما أحدثها المضلون، فهذه الوصايا الموروثة المتبوعة، والآثار المحفوظة المنقولة، وطرائق الحق المسلوكة، والدلائل اللائحة المشهورة، والحجج الباهرة المنصورة، التي عمل عليها الصحابة والتابعون ومن بعدهم خاصة الناس وعامتهم من المسلمين، واعتقدوها حجة فيما بينهم وبين الله رب العالمين"(3) .

(1) سورة الشورى، الآية (13) .

(2)

سورة التوبة، الآية (100) .

(3)

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة،2/9.

ص: 154

ويقول أبو نصر الوايلي السجزي في وصف أهل السنة والجماعة: "أهل السنة هم الثابتون على اعتقاد مانقله إليهم السلف الصالح رحمهم الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو عن أصحابه رضي الله عنهم فيمالم يثبت فيه نص في الكتاب، ولا عن الرسولصلى الله عليه وسلم، لا نهم رضي الله عنهم أئمة ـ، وقد أمرنا باقتفاء آثارهم، واتباع سنتهم، وهذا أظهر من أن يحتاج إلى إقامة برهان"(1) .

وجماعة المسلمين: الصحابة، والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، وهم الطائفة المنصورة، والفرقة الناجية، المنتسبون لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وطريقته، الراغبون فيها دون ماسواها من الأهواء والبدع، وهم السلف الصالح، ومن هنا لما ظهرت البدع والأهواء المضلة، قيل لمعتقدهم السلفي، أو العقيدة السلفية، وهم الذين يمثلون الصراط المستقيم، سيراً على منهاج النبوة وسلفهم الصالح، ولم يحصل تمام البروز والظهور لهذه الألقاب الشريفة لجماعة المسلمين، إلا حين دبت في المسلمين الفرقة، وتعددت على جنبتي الصراط الفرق، وتكاثرت الأهواء، وخلفت الخلوف، فبرزت هذه الألقاب الشريفة للتميز عن معالم الفرق الضالة، وهي مع ذلك ألقاب لا تختص برسم يخالف الكتاب والسنة، زيادة أو نقصاً، وإنما يمثلون في الحقيقة والحال الامتداد الطبعي لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم في الشكل والمضمون والمادة والصورة (2) .

(1) الرد على من أنكر الحرف والصوت، 99.

(2)

حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية، للشيخ بكر أبو زيد، 90، بتصرف.

ص: 155

وتتلخص عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فهذه الأمور الستة هي أصول العقيدة الصحيحة التي نزل بها كتاب الله العزيز، وبعث الله بها رسوله محمداً عليه الصلاة والسلام، ويتفرع عن هذه الأصول كل مايجب الإيمان به من أمور الغيب (1) .

قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} (2) .

وقال سبحانه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (3) .

فعلى الدعاة إلى الله تعالى أن يتمسكوا بعقيدة أهل السنة والجماعة وأصولهم، في الاعتقاد والعمل والسلوك، وأن يتركوا كل ماخالف هذا المنهج القويم والصراط المستقيم، من البدع المضلة، والمناهج الفاسدة، والأفكار السيئة، التي ضللت المسلمين، وجعلتهم فرقاً وأحزاباً، كلٌ يدعي العصمة لمنهجه وطريقته، زاعماً أنَّ الحق معه، على حد قول القائل:

وكلٌ يدعي وصلاً لليلى

وليلى لا تُقرُّ لهم بذاكاوإن المنهج الحق الذي يجب اتباعه هو منهج أهل السنة والجماعة الذين جاءت الأدلة بفضلهم، والثناء عليهم، فإنه طريق الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.

المبحث الثاني

أهمية التوحيد وفضله

(1) انظر العقيدة الصحيحة ونواقض الإسلام، لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز،3-4، وللاستزادة في معرفة أصول أهل السنة والجماعة، انظر: عقيدة السلف أصحاب الحديث، لأبي عثمان إسماعيل الصابوني، ومجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية 3/129، وما بعدها، وشرح الطحاوية، لابن أبي العز الحنفي، وعقيدة أهل السنة والجماعة، للشيخ محمد بن عثيمين، ومحاضرات في العقيدة والدعوة، للشيخ صالح الفوزان، 2/143-160.

(2)

سورة البقرة، الآية (177) .

(3)

سورة القمر، الآية (49) .

ص: 156

إن التوحيد هو الأمر الذي بعث الله من أجله الرسل، وأنزل من أجله الكتب، وخلق من أجله الثقلين - الإنس والجن - وبقية الأحكام تابعة لذلك.

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) والمعنى لتخصوه ـ سبحانه ـ بالعبادة وتفردوه جلَّ وعلا بها، ولم تُخْلَقُوا عبثاً ولاسُدىً.

وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (2) .

والتوحيد هو: أول دعوة جميع الأنبياء والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وما من أمة إلا بعث الله فيهم رسولاً يدعوهم إلى التوحيد ويحذرهم من الشرك.

قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} (3) .

والتوحيد هو: إفراد الله تعالى بالعبادة، وترك عبادة ما سواه.

وقد تكرر موضوع التوحيد في كتاب الله، ولا تكاد تخلو سورة من سور القرآن العظيم إلا وفيها ذكر للتوحيد، وأمر به، وحث عليه.

(1) سورة الذاريات، الآية (56) .

(2)

سورة الفاتحة، الآية (5) .

(3)

سورة النحل، من الآية (36) .

ص: 157

فالقرآن كله في التوحيد، لا نه إما خبر عن الله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته وأمر بعبادته وحده لا شريك له ونهى عن الشرك به، وإما بيان لجزاء الموحدين الذين أخلصوا العبادة لله عز وجل في الدنيا والآخرة، وبيان لجزاء المشركين الذين أعرضوا عن التوحيد وما حلَّ بهم من العقوبات في الدنيا وما ينتظرهم في الآخرة. وإما إخبارهم عن الموحدين من الرسل وأتباعهم. أو إخبار عن المكذبين من المشركين وأتباعهم من الأمم السابقة: كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وقوم إبراهيم، وأصحاب مدين، والمؤتفكات، وغيرهم من الأمم لما أعرضوا عن التوحيد وعصوا الرسل ماذا حل بهم؟ وإما بيان للحلال والحرام وهذا من حقوق التوحيد، فكون الإنسان يحل الحلال ويكتسب الحلال، ويستعمل الحلال، ويحرم الحرام ويبتعد عن الحرام وعن كسب الحرام هذا من حقوق التوحيد أيضاً.

فالقرآن كله توحيد، لا نه إما لبيان التوحيد وبيان مناقضاته ومنقصاته. وإما إخبار عن أهل التوحيد، وماأكرمهم الله به، أو أخبار عن المشركين وما انتقم الله تعالى منهم في الدنيا وما أعدَّ لهم في الآخرة، وإما أحكام وبيان للحلال والحرام وهذا من حقوق التوحيد (1) .

(1) انظر مدارج السالكين، 3/468-469، ومحاضرات في العقيدة والدعوة، للدكتور صالح الفوزان، 2/9-10.

ص: 158

ومما يدل على أهمية التوحيد، وأنه أساس العمل، تكفيره للذنوب والكبائر، يدل على ذلك ماجاء عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله، ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ماكان من العمل"(1) .

وعن عتبان بن مالك الأنصاري رضي الله عنه: "فإن الله حرَّم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"(2) .

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما من حديث صاحب البطاقة حيث ينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، ثم يؤتى ببطاقة فيها:"أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فتوضع السجلات في كفه، والبطاقة في كفة فتطيش السجلات وتثقل البطاقة"(3) .

(1) صحيح البخاري مع الفتح 6/474، كتب الأنبياء، باب قوله تعالى:. {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم} ، رقم 3435، وصحيح مسلم 1/57، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً، رقم 46.

(2)

صحيح البخاري مع الفتح، 1/519، كتاب الصلاة، باب المساجد في البيوت، رقم 425، وصحيح مسلم 1/456، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، رقم263.

(3)

الترمذي 5/24-25، كتاب الإيمان باب ما جاء في من يموت وهو شهيد أن لا إله إلا الله، رقم 2639، وابن ماجه، 2/1437، كتاب الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة، رقم 4300، وأحمد 2/213، والحاكم 1/6/529، وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/262.

ص: 159

وللترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: "يابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لا تيتك بقرابها مغفرة" (1) .

المبحث الثالث

البدء بالدعوة إلى التوحيد أولاً

إن البدء في الدعوة إلى الله تعالى بالأهم قبل المهم والتدرج في الدعوة حسب الأوليات لهو من أهم الضروريات التي يجب على الداعية إلى الله تعالى معرفتها والعمل على تحقيقها.

وقد دلَّ على ثبوت هذا المبدأ الكتاب والسنة وعمل سلف هذه الأمة الصالح رضوان الله عليهم.

إذ قص الله تعالى علينا في كتابه الكريم قصص الأنبياء وأخبارهم مع أقوامهم، فكان كل واحد منهم يبدأ بدعوة قومه إلى توحيد الله تعالى واخلاص العبادة له وحده ونبذ الشرك وأهله.

قال تعالى عن نوح عليه السلام: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (2) .

وقال سبحانه عن هود عليه السلام: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (3) .

وقال جلَّ ذكره عن صالحعليه السلام: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (4) .

(1) أخرجه الترمذي، 5/548، كتاب الدعوات، باب فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده، رقم 3540، وقال هذا حديث حسن غريب، وأحمد في المسند، 5/154،172، والحاكم في المستدرك 4/241، ووافقه الذهبي مختصراً، من حديثه، وله شاهد عند مسلم، 4/2068، كتاب الذكر والدعاء..، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى، رقم 2687.

(2)

سورة الأعراف، من الآية (59) .

(3)

سورة الأعراف، من الآية (65) ، وسورة هود، الآية (50) .

(4)

سورة الأعراف، من الآية (73) ، وسورة هود، من الآية (61) .

ص: 160

وقال عن إبراهيم عليه السلام: {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (1)

وقال تعالى عن يعقوب عليه السلام: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (2) .

وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (3) .

وقال تعالى عن شعيب عليه السلام: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (4) .

وقال عن موسى عليه السلام: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (5) .

وقال عن عيسىعليه السلام: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (6) .

(1) سورة العنكبوت، الآية (16) .

(2)

سورة البقرة، الآية (133) .

(3)

سورة يوسف، الآيات (38-40) .

(4)

سورة الأعراف، من الآية (85) ، وسورة هود، من الآية (84) .

(5)

سورة الأعراف، الآية (14) .

(6)

سورة آل عمران، الآية (51) .

ص: 161

وهذا المنهج هو الذي سار عليه خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله رحمة للعالمين، بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا، فقد بدأ صلى الله عليه وسلم بما بدأ به كل الأنبياء، وانطلق من حيث انطلقوا بدعوتهم من عقيدة التوحيد والدعوة إلى إخلاص العبادة لله وحده.

وقد أمره ربه تبارك وتعالى أن يدعو الناس جميعاً إلى التوحيد، فقال تعالى:{قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (1) .

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (2) .

وقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم طيلة ثلاث عشرة سنة في مكة لا يكلُّ ولا يَمَلُّ صابراً على كل ألوان الأذى، وهو يدعو الناس إلى التوحيد، وينهاهم عن الشرك قبل أن يا مرهم بالصلاة، والزكاة، والصوم والحج، وقبل أن ينهاهم عن الربا، والزنا، والسرقة، وقتل النفوس بغير حق (3) .

اللهم إلاّ ماكان يا مر به قومه من معالي الأخلاق كصلة الرحم، والصدق، والعفاف، وأداء الأمانة، وحسن الجوار ونحو ذلك، ولكن الموضوع الأساسي، ومحور الدعوة إنما هو عن التوحيد وتحقيقه.

(1) سورة الأعراف، الآية (158) .

(2)

سورة الأنعام، الآية (161-162) .

(3)

انظر مقدمة فضيلة الدكتور صالح الفوزان على كتاب منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل، للدكتور ربيع المدخلي، ص5.

ص: 162

وبعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام إلى المدينة، وقامت دولة الإسلام على أساس التوحيد ظل الاهتمام بهذا الأمر على أشده والآيات القرآنية تنزل به، والتوجيهات النبوية تدور حوله.

ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا بل كان يبايع على عقيدة التوحيد عظماء الصحابة فضلاً عن غيرهم بين الفينة والفينة، كلما تسنح له فرصة للبيعة عليها.

قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يا تِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .

وهذه الآية وإن كانت في بيعة النساء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبايع على مضمونها الرجال (2) .

فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس، فقال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم" والآية التي أخذت على النساء {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ} فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه" (3) .

(1) سورة الممتحنة، الآية (12) .

(2)

انظر منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل، للدكتور ربيع المدخلي، 57-58.

(3)

صحيح البخاري مع الفتح، 1/64، كتاب الإيمان، باب 11، حديث 18، وصحيح مسلم 3/1333، كتاب الحدود، باب الحدود والكفارات لأهلها، حديث 1709، والنسائي، 7/142، كتاب البيعة على الجهاد.

ص: 163

أما السنة ففيها الشيء الكثير الدال على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح دعوته بالتوحيد ويختتمها بذلك، واستمراره على ذلك طيلة حياته صلى الله عليه وسلم بلا كلل أو ملل.

1-

عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال: "كنت وأنا في الجاهلية، أظن أن الناس على ضلالة، وأنهم ليسوا على شيء، وهم يعبدون الأوثان، فسمعت برجل بمكة يخبر أخباراً فقعدت على راحلتي فقدمت عليه، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً جُرءَاءُ عليه قومه فتلطفت، حتى دخلت عليه بمكة، فقلت له: ما أنت؟ فقال: "أنا نبي" فقلت: وما نبي؟ قال: "أرسلني الله" فقلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: "أرسلني بصلة الأرحام، وكسر الأوثان، وأن يوحدوا الله لا يُشْرَكُ به شيء" فقلت: ومن معك على هذا؟ قال: "حر وعبد"، قال: ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به

" الحديث (1) .

2-

قول جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة: "أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يا كل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ماكنّا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة، والأوثان

" الحديث (2) .

(1) صحيح مسلم، 1/569، كتاب صلاة المسافرين، باب إسلام عمرو بن عبسة، رقم 294، وأحمد في المسند، 4/112.

(2)

انظر الإمام أحمد في المسند، 1/202، والسير والمغازي، لابن إسحاق، 213-217، وسيرة ابن هشام، 1/289-293، بإسناد حسن إلى أم سلمة رضي الله عنها، وانظر السيرة النبوية، لابن كثير 2/11، وفتح الباري، لابن حجر، 7/189، وانظر السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم العمري، 1/173-174.

ص: 164

3-

وفي أسئلة هرقل لا بي سفيان في مدة صلح الحديبية عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا بي سفيان: ماذا يا مركم؟ قال أبو سفيان قلت: يقول: "اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا مايقول آباؤكم، ويأمر بالصلاة، والصدق والعفاف، والصلة"(1) .

فهذه الأحاديث الشريفة تبين لنا أن الدعوة إلى التوحيد هي أول ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا المنهج الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يا مر به رسله إذا بعثهم للقيام بالدعوة.

4-

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوماً أهل كتاب، فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم

" الحديث (2) .

(1) صحيح البخاري مع الفتح، 1/32، كتاب بدء الوحي، حديث 6.

(2)

صحيح البخاري مع الفتح، 3/357، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا، حديث 1496، ومسلم 1/50، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، حديث 19.

ص: 165

وإذا أراد الداعية إلى الله تعالى دعوة الناس، فليبدأ بالدعوة إلى التوحيد، الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، إذ لا تصح الأعمال إلا به، فهو أصلها الذي تبنى عليه، ومتى لم يوجد لم ينفع العمل، بل هو حابط، إذ لا تصح العبادة مع الشرك، كما قال تعالى:{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} (1) ، ولأن معرفة معنى هذه الشهادة هو أول واجب على العباد، فكان أول ما يُبدأ به في الدعوة (2) .

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وقد عُلم بالاضطرار من دين الرسول، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدو ولياً

وفيه البداءة في الدعوة والتعليم بالأهم فالأهم" (3) .

تلك هي دعوة الأنبياء جميعاً وعلى رأسهم أولو العزم من الرسل عليهم السلام يبدأون دعوتهم بالتوحيد في كل زمان ومكان مما يدل على أن هذا هو الطريق الوحيد الذي يجب أن يسلك في دعوة الناس إلى الله تعالى وسنة من سننه التي رسمها لا نبيائه وأتباعهم الصادقين، لا يجوز تبديلها ولا العدول عنها (4) .

الفصل الثاني

الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله

تتلخص الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى - كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة فيما يلي (5) :

أولاً: العلم:

(1) سورة التوبة، الآية (19) .

(2)

تيسير العزيز الحميد، 123.

(3)

تيسير العزيز الحميد، 127.

(4)

انظر منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل، للدكتور ربيع بن هادي المدخلي، 26-27.

(5)

انظر مقدمة الدكتور صالح الفوزان على منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل للدكتور ربيع بن هادي المدخلي، ص3.

ص: 166

فلابدّ للداعي إلى الله تعالى أن يكون عالماً بحكم الشرع فيما يدعو إليه، فالجاهل لا يصلح أن يكون داعية.

قال تعالى مخاطباً نبيه محمدا ًصلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (1) .

وبوّب الإمام البخاري رحمه الله لهذه الآية بقوله: "باب العلم قبل القول والعمل"(2) .

قال الإمام ابن حجر رحمه الله في الفتح: قال ابن المنير: أراد به أن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما؛ لا نه مصحح للنية المصححة للعمل، فنبه المصنف على ذلك حتى لا يسبق إلى الذهن من قولهم:(إن العلم لا ينفع إلا بالعمل) تهوين أمرالعلم والتساهل في طلبه (3) .

والعلم الحقيقي هو معرفة كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (4) .

ولا يكون الداعية إلى الله ناجحاً في دعوته، حكيماً في أمره ونهيه إلا بالعلم الشرعي، وإن لم يصحب الداعية من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه فسلوكه على غير الطريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، ومسدود عليه سبيل الهدى والفلاح، وهذا إجماع من العارفين، ولا شك أنه لا ينهى عن العلم إلا قطاع الطريق، ونواب إبليس وشُرَطُه (5) .

(1) سورة محمد، الآية (19) .

(2)

انظر صحيح البخاري مع الفتح، 1/159، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.

(3)

انظر فتح الباري لابن حجر، 1/160، كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل.

(4)

سورة النحل، الآية (44) .

(5)

انظر مدارج السالكين، لابن القيم، 2/483.

ص: 167

ومن الأدلة الواردة في فضل العلم والحث عليه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} (1) .

وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (2) .

وقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (3) .

ومن الأحاديث: ماجاء عن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"(4) .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها"(5) .

(1) سورة الزمر، الآية (9) .

(2)

سورة المجادلة، من الآية (11) .

(3)

سورة فاطر، الآية (28) .

(4)

صحيح البخاري مع الفتح، 1/164، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، رقم 71، وصحيح مسلم، 2/718، كتب الزكاة، باب النهي عن المسألة، رقم 1037، والترمذي، 4/137، أبواب العلم، باب إذا أراد الله بعبده خيراً فقهه في الدين، رقم 2783.

(5)

صحيح البخاري مع الفتح، 1/165، كتاب العلم، باب الإغتباط في العلم والحكمة، رقم 73، وصحيح مسلم، 1/559، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، رقم 816.

ص: 168

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل مابعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسَقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هى قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً فذلك مثلُ من فقه دين الله، ونفعه مابعثني الله به فعلم وعلّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"(1) .

إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة التي تدل على فضل العلم والحث عليه والعمل به.

وليس القصد هنا سرد الأدلة في هذا الأمر، فهذا شيء معروف، ولكن أحب أن أُوكد على أنه يجب على من أراد أن ينصب نفسه للدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قياماً بما أوجب الله عليه، والنصح لعباده، وطمعاً فيما وعد الله به أهل تلك الأعمال من الأجر العظيم والنعيم المقيم، فليتفقه في دينه وليأخذ العلم عن أهله الراسخين فيه، السائرين في طريقه القويم، طريق السلف الصالح المتمثل في منهج أهل السنة والجماعة. فالذي يريد أن يدعو الناس لا بدَّ له أن يتعلم على أيدي العلماء الربانيين قبل أن يتصدى للدعوة إلى الله تعالى، حتى يقوم بذلك بحجة ودليل ويعرف كيف يسير في ذلك الطريق، على هدى ونور.

يوضح شيخنا فضيلة الدكتور محمد أمان بن علي الجامي رحمه الله أهمية البصيرة للدعاة إلى الله، ووجوب الرجوع لسيرة السلف الصالح، وطريقة دعوتهم، وأنَّ أي طريقة أو جماعة لا تنتهج نهج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، فمصيرها الفشل لا محالة، فيقول:

(1) صحيح البخاري مع الفتح، 1/175، كتاب العلم، باب فضل من علم وعلم، رقم 79، وصحيح مسلم، 4/1787، كتاب الفضائل، باب بيان مثل ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم من الهدي والعلم، رقم 2282.

ص: 169

"تُوجد في العصر الحديث جماعات تدعو إلى الله، ولكنها في الغالب تتخبط على غير بصيرة، فالواجب على دعاة الحق أن يكونوا على بصيرة فاهمين ما يدعون إليه ومتصورين له ومؤمنين به {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (1) .

هاتان صفتان لا تباع محمد عليه الصلاة والسلام:

1-

القيام بواجب الدعوة.

2-

أن يكسبوا البصيرة قبل أن يشرعوا في الدعوة.

البصيرة هي: العلم الذي مصدره الوحي، والفقه الدقيق، الذي يستفيد منه الداعية الحكمة، وحسن الأسلوب، وكسب القلوب، والتحبب إلى الناس.

وهذه الجماعات أشبهها بالأحزاب السياسية المتنافسة لمصالحها الشخصية وأغراضها الذاتية، وهي ذاتها محنة من المحن ومشكلة من المشكلات للدعوة والدعاة معاً، إذا بقيت على وضعها ولم تعد النظر في سلوكها ومنهج عملها وبرامجها، وأساليب دعوتها وسياستها، فخطرها على الدعوة يفوق كل خطر يهدد الدعوة من خارجها.

فعلى هذه الجماعات أن تدرس تاريخ الدعاة الأولين من الصحابة والتابعين الذين نطق بهم القرآن، وبه نطقوا، والذين انتشر الإسلام بدعوتهم، بل عليهم أن يفهموا الدين كما فهم أولئك السادة، ويسيروا سيرتهم، وينسجوا على منوالهم، مع ملاحظة الأساليب المناسبة في العصرالحديث، والملابسات والظروف وأحوال الناس، وإن لم يسلكوا هذا المسلك فسوف لا يكتب للدعوة أي نجاح أو أي تقدم لا نه عمل لم يستوف الشروط، وهو عمل غير صالح (2) .

ثانياً: الإخلاص:

(1) سورة يوسف، من الآية (108) .

(2)

أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام، 218-219.

ص: 170

إن من أهم مايجب على الداعية إلى الله تعالى أن يكون مخلصاً لله في دعوته، وأمره ونهيه، بحيث لا يرجو إلا الجزاء من الله تعالى وحده، فلا يكون هدفه طمعاً مادياً أو غرضاً دنيوياً، ولا يكون هدفه من ذلك الرياء أو السمعة وطلب الشهرة أو شيء من حطام الدنيا، أو أن يظهر فضله في دينه أو علمه أو عمله أو عقله على من يدعوه أو يا مره وينهاه، مما يزينه الشيطان، ويكيد به الإنسان ليبطل عمله ويفسد سعيه.

وقد أمر الله سبحانه المؤمنين بإخلاص نياتهم وأعمالهم وعباداتهم لله تعالى وحده، قال تعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وآمراً له أن يخاطب أمته بذلك:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} (1) .

وقال عز وجل: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} (2) .

وقال جل شأنه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (3) .

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"(4) .

قال الإمام ابن حجر رحمه الله: "ومعناه كل عمل بنية، فلا يقبل عمل بدون نية"(5) .

(1) سورة الزمر، الآية (11) .

(2)

سورة الزمر، الآية (14) .

(3)

سورة هود، الآيتان (15-16) .

(4)

صحيح البخاري مع الفتح، 1/9، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وصحيح مسلم، 3/1515، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنية"، وأحمد في المسند، 1/25.

(5)

فتح الباري، 1/11.

ص: 171

وعن جابر رضي الله عنه قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: "إنَّ بالمدينة لرجالاً ماسرتم مسيراً ولا قطعتم واديا إلاكانوا معكم حبسهم المرض" (1) فهؤلاء كتب الله لهم من الأجر ماكتب لا خوانهم المجاهدين في سبيل الله وذلك بسبب صلاح نياتهم واخلاصهم لله وحده.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه" (2) .

وقد وردت بعض الآثار عن بعض السلف تبين أهمية النية ودورها في قبول العمل منها ماورد عن مطرف بن عبد الله قال: "صلاح القلب بصلاح العمل، وصلاح العمل بصلاح النية"(3) .

وعن ابن المبارك قال: "رُبَّ عمل صغير تُعظمه النية، ورُب عمل كبير تصغره النية"(4) .

وعن أبي سليمان: "طوبى لمن صحت له خطوة لا يريد بها إلا الله تعالى"(5) .

فعلى الداعية إلى الله تعالى أن يخلص نيته لله تعالى، وأن يتجرد من حظوظ النفس ومن نزغات الشيطان، وأن يكون قصده وهدفه ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، وفي أنبياء الله ورسله عليهم السلام القدوة الحسنة، فإن القصد من دعوتهم إصلاحهم، وابتغاء الأجر والمثوبة من الله وحده.

قال تعالى عن نوح عليه السلام: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (6) وهكذا بقية الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ لا يريدون من دعوتهم إلا مرضاة الله تعالى.

(1) صحيح مسلم، 3/1518، كتاب الإمارة، باب ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر.

(2)

صحيح مسلم،4/2289، كتاب الزهد، باب من أشرك في عمله غير الله، رقم 2985.

(3)

انظر جامع العلوم والحكم، 10/71.

(4)

المرجع السابق، نفس الصفحة.

(5)

انظر مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة، 370-371.

(6)

سورة الشعراء، الآية (109) .

ص: 172

لذا فإن على الداعية إلى الله تعالى على بصيرة أن يهتم بالإخلاص، ويحذر على نفسه من الرياء والسمعة، فإن الشيطان حريص على أن يفسد عليه عمله، وقد تدعوه النفس الأمارة بالسوء إلى حب الظهور أو الشهرة أو ماشابههما من أغراض الدنيا الفانية، ومن ثم يقع في المحذور والعياذ بالله.

نسأل الله تعالى لنا ولجميع الدعاة إلى الله تعالى الإخلاص في القول والعمل.

ثالثاً: المتابعة:

لما كانت الدعوة إلى الله تعالى من أجل العبادات فإنه لا بد فيها من توفر الشرطين الأساسيين لصحتها وهما: الإخلاص، والمتابعة.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في حديثه عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر:"وإذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين: أن يُراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة، فهذا في الأقوال والأفعال، في الكلم الطيب والعمل الصالح، في الأمور العلمية، والأمور العملية العبادية"(1) .

فالمتابعة شرط في قبول الأعمال، ومنها الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقوله تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً} (2) .

والعمل الصالح هو العمل الموافق لهديه صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان أئمة السلف رحمهم الله يجمعون هذين الأصلين - أي الإخلاص والمتابعة - كقول الفضيل بن عياض في قوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (3)، قال: أخلصه وأصوبه، فقيل له: يا أبا عليّ ما أخلَصُه وأصوبه؟ فقال: إنَّ العمل إذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يُقبل، وإذا كان خالصاًولم يكن صواباً لم يُقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص: أن يكون لله والصواب: أن يكون على السُّنة (4) .

(1) انظر الاستقامة، 1/297، 2/297.

(2)

سورة الكهف، الآية (110) .

(3)

سورة الملك، الآية (2) .

(4)

الاستقامة، لابن تيمية، 2/308-309.

ص: 173

وقد روى ابن شاهين واللالكائي، عن سعيد بن جبير قال:"لا يُقبل قول إلا بعمل، ولا يُقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يُقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة"(1) .

فعلى الداعية إلى الله تعالى على بصيرة أن يكون مقتدياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأن يسلك مسلكه في الدعوة، فإن الله تعالى أمرنا بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم في قوله:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (2) .

وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) .

ولقد بدأ - صلوات الله وسلامه عليه - كغيره من الأنبياء قبله بإصلاح عقائد الناس وجمعهم على عقيدة التوحيد، وأمرهم بالتأسي به في جميع الأقوال والأفعال.

فإذا بدأ الداعية إلى الله تعالى أو المحتسب بعكس ما بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لو بدأ بالجهاد أو إقامة الدولة مثلاً فإنه لا يفلح في دعوته، لمخالفته متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، فكل دعوة إلى الإصلاح لا تنتهج نهج الرسول صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح فإن مصيرها الفشل الذريع لا محالة.

يقول شيخنا فضيلة الدكتور ربيع بن هادي المدخلي: "هل يجوز للدعاة إلى الله في أي عصر من العصور العدول عن منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله؟.

الجواب: في ضوء ماسبق وما سيأتي، لا يجوز شرعاً ولا عقلاً العدول عن هذا المنهج واختيار سواه.

أولاً: أن هذا هو الطريق الأقوم الذي رسمه الله لجميع الأنبياء من أولهم إلى آخرهم.

(1) المرجع السابق، 2/309.

(2)

سورة الأحزاب، الآية (21) .

(3)

سورة آل عمران، الآية (31) .

ص: 174

والله واضع هذا المنهج هو خالق الإنسان والعالم بطبائع البشر ومايصلح أرواحهم وقلوبهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (1) .

وهو الحكيم العليم في خلقه وشرعه، وقد شرع لا فضل خلقه هذا المنهج.

ثانياً: إن الأنبياء قد التزموه وطبقوه مما يدل دلالة واضحة أنه ليس من ميادين الاجتهاد، فلم نجد:

1-

نبياً افتتح دعوته بالتصوف.

2-

وآخر بالفلسفة والكلام.

3-

وآخرين بالسياسة.

بل وجدناهم يسلكون منهجاً واحداً، واهتمامهم واحد بتوحيد الله أولاً، وفي الدرجة الأولى.

ثالثاً: إن الله قد أوجب على رسولنا الكريم الذي فرض الله علينا اتباعه أن يقتدي بهم، ويسلك منهجهم، فقال بعد أن ذكر ثمانية عشر نبياً منهم {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (2) وقد اقتدى بهداهم في البدء بالتوحيد، والاهتمام الشديد به.

رابعاً: ولما كانت دعوتهم في أكمل صورها تتمثل في دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، زاد الله الأمر تأكيداً، فأمر نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم باتباع منهجه فقال:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (3) .

والأمر باتباعه يشمل الأخذ بملته التي هي التوحيد ومحاربة الشرك ويشمل سلوك منهجه في البدء بالدعوة إلى التوحيد، وزاد الله تعالى الأمر تأكيداً – أيضاً - فأمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، باتباع ملة هذا النبي الحنيف، فقال تعالى:{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (4) .

إذن، فالأمة الإسلامية مأمورة باتباع ملته، فكما لا يجوز مخالفة ملته، لا يجوز العدول عن منهجه في الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك ومظاهره ووسائله.

(1) سورة الملك، الآية (14) .

(2)

سورة الأنعام، من الآية (90) .

(3)

سورة النحل، الآية (123) .

(4)

سورة آل عمران، الآية (95) .

ص: 175

خامساً: قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (1) .

فإذا رجعنا إلى القرآن أخبرنا أن كل الرسل كانت عقيدتهم عقيدة التوحيد وأن دعوتهم كانت تبدأ بالتوحيد وأن التوحيد أهم وأعظم ماجاءوا به.

ووجدنا أن الله قد أمر نبينا باتباعهم وسلوك مناهجهم، وإذا رجعنا إلى الرسول نجد أن دعوته من بدايتها إلى نهايتهاكانت اهتماماً بالتوحيد ومحاربة للشرك ومظاهره وأسبابه

" (2) .

رابعاً: الحكمة:

إن الحكمة من أهم الدعائم التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة

إلى الله تعالى، ومن أهم مقومات الداعية الناجح، ومن نظر في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وجد أنه كان ملازماً للحكمة في أموره كلها، وخاصة في دعوته إلى الله جلَّ وعلا، وقد أمره ربه تبارك وتعالى بالدعوة إلى الله بالحكمة في قوله:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (3) .

وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} (4) .

(1) سورة النساء، الآية (59) .

(2)

منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل، 91-92.

(3)

سورة النحل، الآية (125) .

(4)

سورة العنكبوت، من الآية (46) .

ص: 176

إن الحكمة إتقان الأمور وإحكامها، بأن تُنزل الأمور منازلها، وتوضع في مواضعها. وليس من الحكمة التعجل في الدعوة إلى الله تعالى، وأن ينقلب الناس عن حالهم التي هم عليها إلى الحال التي كان عليها الصحابة بين عشية وضحاها، ومن أراد ذلك فهو سفيه في عقله، بعيد عن الحكمة، لا ن حكمة الله عز وجل تأبى أن يكون هذا الأمر. ويدلل لهذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الذي ينزل عليه الكتاب - نزل عليه الشرع متدرجاً حتى استقر في النفوس وكمل.

فالدعوة إلى الله تعالى تكون على أربع مراتب:

1-

بالحكمة.

2-

ثم بالموعظة الحسنة.

3-

ثم بالجدال بالتي هى أحسن لغير الظالم.

4-

ثم بالفعل الرادع للظلم (1) .

ومن الأمثلة التي ضربها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوة الناس بالحكمة موقفه مع الأعرابي الذي بال في المسجد.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول اللهصلى الله عليه وسلم: مه مه (2) ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه (3) دعوه" فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعاه فقال له: "إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنَّه عليه" (4) .

(1) انظر الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات، للشيخ محمد بن عثيمين، 35.

(2)

مه: كلمة زجر، لسان العرب، لابن منظور، 13 /542.

(3)

لا تزرموه أي لا تقطعوا عليه بوله، والازرام: القطع. انظر شرح النووي على صحيح مسلم، 3/190.

(4)

صحيح مسلم، 1/237، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، رقم 286، ومعنى شنه عليه: أي صبه عليه.

ص: 177

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة وقمنا معه فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: "لقد حجرت واسعا" يريد: رحمة الله (1) .

وفي رواية أخرى قال: "يقول الأعرابي بعد أن فقه، فقام النبي صلى الله عليه وسلم إليَّ بأبي وأمي فلم يسب ولم يؤنب ولم يضرب"(2) .

ومن الأدلة كذلك ماجاء عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: "بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكْلَ أمَّياه (3) ! ماشأنكم تنظرون إلىَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمّتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي، مارأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ماكهرني (4) ولا ضربني ولا شتمني، قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

"الحديث (5) .

(1) صحيح البخاري مع الفتح، 10/438، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم 6010.

(2)

هذه الرواية عند أحمد في المسند بترتيب أحمد شاكر، برقم 10540، 20/134.

(3)

واثكْلَ أُمياه: معناه فقدان المرأة لولدها، ويجوز أن يكون من الألفاظ التي تجري على ألسنة العرب ولا يراد بها الدعاء، كقولهم: تربت يداك. انظر النهاية، لابن الأثير، 1/216.

(4)

ماكهرني: يعني ما نهرني.

(5)

صحيح مسلم، 1/381، كتب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة، رقم 537.

ص: 178

إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة التي تبين لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل الناس في دعوته بالحكمة واللين، لذلك فإنه لا بد للداعية إلى الله تعالى أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وفي أمره ونهيه، وفي تعامله مع الناس، ولابد له من الصبر وطول النفس، والتدرج مع المدعو شيئاً فشيئاً حتى يمكن إعادته للحق والصواب.

خامسا: الرفق والحلم:

إنَّ من الواجب على الداعية إلى الله تعالى أن يكون رفيقاً رحيماً، حليماً ليناً، مشفقاً على الناس، فإنَّ ذلك مدعاة لقبول الناس منه، وانتفاعهم بدعوته، وهذا هو خلق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته للناس، ولهذا امتن الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لا نْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} (1) .

وامتن الله تبارك وتعالى على عباده المؤمنين ببعثة رسوله الكريم إليهم، وبما هو عليه من الخلق العظيم، فقال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (2) .

ولقد أمضى النبي صلى الله عليه وسلم حياته بمكة والمدينة وغيرهما، يدعو ويذكر وينذر في غاية من اللطف واللين، ويقصد نواديهم، يدعوهم إلى الهدى، ويتحمل منهم ألوان الأذى، ويزيد على ذلك فيقول:"رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"(3) .

(1) سورة آل عمران، من الآية (159) .

(2)

سورة التوبة، الآية (128) .

(3)

صحيح البخاري مع الفتح، 12/282، كتاب استتابة المرتدين، باب إذا عرض الذمي أو غيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصرح، رقم 6929، وصحيح مسلم، 3/1417، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة أحد، رقم 1792، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 179

فهذا دَيْدنُهُ صلى الله عليه وسلم في دعوته، وأمره ونهيه، يا خذ بالرفق واللين، ولم يستعمل الغلظة والشدة، إلا حين لم يجد ذلك مع المخاطبين - مع تحقيق القدرة وانتفاء المفسدة - كما هو واضح من سيرته، وقد قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (1) .

فمن قرأ سيرته صلى الله عليه وسلم ولزم طريقته في دعوة أمته، كان أكمل الناس في متابعته، وأولاهم بوراثته، وأسعدهم بشفاعته، وأنصحهم لا مته، ولهذا لما كان صاحبه أبو بكر الصديق في ذلك كذلك أسلم على يديه من لا يحصون، وانتفع به من الخلق كثيرون (2) .

ولما أرسل الله سبحانه وتعالى موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون - طاغية مصر وجبارها - أمرهما أن يخاطباه باللين واللطف.

قال تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (3) .

قال الإمام ابن كثير رحمه الله !: "هذه الآية فيها عبرة عظيمة وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه، إذ ذاك ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين"(4) .

وقد ورد في هذا المعنى استدلال المأمون عندما وعظه رجل وعنّف له في القول، فقال: يا رجل ارفُقْ فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، وأمره بالرفق، قال تعالى:{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} (5)(6) .

ومن الأحاديث النبوية التي تبين فضل الرفق واللين وتحثُّ عليه مايلي:

(1) سورة الأحزاب، الآية (21) .

(2)

انظر تذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للشيخ عبد الله القصّير، 31-34.

(3)

سورة طه، الآيتان (43-44) .

(4)

تفسير ابن كثير، 3/163.

(5)

سورة طه، الآية (43) .

(6)

انظر إحياء علوم الدين، للغزالي، 2/334.

ص: 180

1-

عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"(1) .

2-

وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يحرم الرفق، يحرم الخير"(2) .

3-

وقال صلى الله عليه وسلم لا شج عبد القيس: "إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناه"(3) .

لذا فإنه ينبغي للداعية إلى الله تعالى، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتقي الله في عباد الله، وأن يلزم الرفق بهم واللين معهم والحلم والعفو عنهم، فيما يدعوهم إليه، ويأمرهم به، وينهاهم عنه، حتى لا يصدهم عن الهدى أو يوردهم الردى.

ولا ينبغي للداعية إلى الله تعالى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يتسم بالشدة، ويأخذ بالغلظة، ما وجد مندوحة عن ذلك، فإذا اشتبه عليه الأمر، فعليه بمراجعة نصوص الكتاب والسنة وقواعد الشريعة، وكلام أهل العلم المعتبرين، إن كانت لديه الأهلية لذلك، لمعرفة الراجح بالدليل، وإلا فعليه بما وجه الله تعالى إليه أمثاله بقوله سبحانه:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (4)(5) .

سادساً: الصبر:

إن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الواردة في الصبر لا تكاد تُحصى لكثرتها.

وقد أخبر الله تعالى عن لقمان الحكيم بأنه أوصى ابنه بقوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (6) .

(1) صحيح مسلم، 4/2004، كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، رقم 2594.

(2)

صحيح مسلم، 4/2003، كتاب البر والصلة، باب فضل الرفق، رقم 2592.

(3)

صحيح مسلم، 1/48، كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وشرائع الدين والدعاء إليه والسؤال عنه

، رقم 18.

(4)

سورة النحل، الآية (43) .

(5)

انظر تذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للشيخ عبد الله القصير، 36.

(6)

سورة لقمان، الآية (17) .

ص: 181

فأتبع حثه له بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالصبر، وما ذلك إلا لأن القيام بهذا يتطلب الكثير من المجاهدة، ولحوق الأذى بالمحتسب، وهذا لا يثبت معه إلا من كان متحلياً بالصبر.

ولهذا نجد أن الله تعالى أمر رسله - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - وهم أئمة الدعوة إلى الله تعالى بالصبر، كما قال تعالى لخاتمهم صلى الله عليه وسلم:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} (1) .

وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} (2) .

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (3) .

ومن الأدلة من السنة التي ترغب في الصبر وتحث عليه مايلي:

1-

ماورد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاءً؟ قال: "الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، يبتلي الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زِيدَ في بلائه، وإن كان في دينه رقة خُفِّفَ عنه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة"(4) .

(1) سورة الأحقاف، من الآية (35) .

(2)

سورة البقرة، من الآية (45) .

(3)

سورة آل عمران، من الآية (200) .

(4)

أخرجه الترمذي، 4/601، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، رقم 2398، وقال هذا حديث حسن صحيح، وسن ابن ماجه، 2/1334، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم 4023، والإمام أحمد في المسند، 1 /172،174،180،185، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم 143.

ص: 182

2-

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعاً: "إنَّ عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط"(1) .

3-

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم ثم سألوه فأعطاهم حتى نَفِدَ ما عنده قال: "مايكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى الله أحداً عطاءً هو خير وأوسع من الصبر"(2)

ومما تقدم من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية وغيرها التي تدل على فضل الصبر وتحث عليه، يتبين أن المؤمن معرض للابتلاء، ولكن على حسب قوة إيمانه أو ضعفه، وإذا صبر المؤمن واحتسب أجره عند الله كفر الله من ذنوبه وسيئاته، وعظم له الأجر، وإذا كان عامة الناس معرضين لهذا الابتلاء والامتحان، فإنَّ أشدهم بلاء الدعاة إلى الله، الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، وهم أَوْلَى بالصبر والاحتساب، وخاصة ما يصيبهم بسبب دعوتهم من الأذى.

وفي صبر النبي صلى الله عليه وسلم على أذى المشركين أمثلة رائعة يجدر بالدعاة إلى الله تعالى أن يقفوا عندها ويتأملوها، ليتأسَّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن هذه الأمثلة:

1-

ماكان مشركو مكة يلقون على عتبته صلى الله عليه وسلم من الأنتان والأقذار، ومع ذلك كان يصبر ويحتسب، ويقول:"أي جوار هذا"(3) ؟ .

(1) أخرجه الترمذي، 4/601، كتاب الزهد، باب ما جاء في الصبر على البلاء، رقم 2396، وقال حسن غريب، وسنن ابن ماجه، 2/1334، كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم 4023، وحسنه الشيخ الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 146.

(2)

صحيح البخاري مع الفتح، 3/335، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، رقم 1469، وصحيح مسلم، 2/729، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، رقم 1053.

(3)

انظر سيرة ابن هشام، 1/416 وتاريخ الطبري، 2/343.

ص: 183

2-

بعد أن اشتد أذى قريش للنبي صلى الله عليه وسلم عقب وفاة عمه أبي طالب، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، للدعوة وطلب النصرة من ثقيف، ولكنها لم تستجب له، وأمروا صبيانهم وسفهاءهم أن يصطفوا على الطريق صفين، وأن يرجموه بالحجارة، فرجموه صلى الله عليه وسلم بالحجارة حتى أدموا عقبه (1) .

فهذه الأمثلة وغيرها كثير تبين لنا شدة صبر النبي صلى الله عليه وسلم واحتسابه على مالاقاه أثناء دعوته من أذى المشركين، فعلى الداعية إلى الله أن يتحلى بالصبر، ويتحمل المشاق في سبيل الدعوة إلى الله.

سابعاً: التحلي بالأخلاق الفاضلة:

إن من الأمور المهمة في حياة الداعية إلى الله تعالى أو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون متمسكاً بأخلاق الداعية، بحيث يظهر عليه أثر العلم في معتقده وفي عباداته من صلاة وصيام وتلاوة قرآن وفي هيئته وجميع مسلكه مبتعداً عن الأخلاق الذميمة حتى يُمثّل دور الداعية إلى الله تعالى.

وقد شنّع الله تعالى على الذين يدعون الناس إلى الصلاح وينسون أنفسهم بقوله: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} (2) .

وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (3)

وإن كان القول الراجح من أقوال العلماء رحمهم الله أن للإنسان أن يأمر بالمعروف ولو لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن كان يفعله.

(1) انظر سيرة ابن هشام، 1/419-420، والطبقات الكبرى، لابن سعد، 1/212، والدلائل للبيهقي، 2/414، ومختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، 83، والسيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، د. مهدي رزق الله، 227.

(2)

سورة البقرة، الآية (44) .

(3)

سورة الصف، الآيتان، (2-3) .

ص: 184

إلَاّ أنَّ هناك أمراً مهماً يجب التنبه إليه. ألا وهو قبول دعوة الداعي أو أمر الآمر بالمعروف ونهي الناهي عن المنكر. وتأثير ذلك في الناس.

لذلك فإن الداعي إلى الله تعالى أو الآمر الناهي إذا كان قدوة صالحة في عقيدته وفي عباداته ومنهج حياته فحريٌ أن يُقبَلَ قوله، وتسمع كلمته، ويكون له تأثير طيب على المجتمع. (1)

وقد مثلت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أعمالاً كثيرة متنوعة، بحيث تكون فيها الأسوة الصالحة، والمنهج الأعلى للحياة الإنسانية في جميع أطوارها، لأنها جمعت بين الأخلاق العالية والعادات الحسنة، والعواطف النبيلة المعتدلة

وقد كان صلى الله عليه وسلم، معلماً مخلصاً، وواعظاً ناصحاً، ومرشداً أميناً، وكان مبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.

وكان صلى الله عليه وسلم عابداً شاكراً لربه، وقد غفر له ماتقدم من ذنبه وما تأخر.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لِمَ تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر لكماتقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال:"أفلا أكون عبداً شكورا" (2) .

(1) انظر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، د. عبد العزيز المسعود، 1/223، وحاجة البشر إلى الأمر بالمعروف ووالنهي عن المنكر، للشيخ عبد الله الجبرين، 67-68.

(2)

صحيح البخاري، 3/14، كتاب التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل، رقم 1130، وصحيح مسلم، 4/2172، كتاب صفات المنافقين، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، رقم 2820.

ص: 185

لذا فإنه ينبغي للداعية إلى الله تعالى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يلتزم بأوامر الإسلام ويتخذها زاداً يستعين به في دعوته وأمره ونهيه، وأن يتخذ من الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرته القدوة الحسنة، قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (1) .

إلى غير ذلك من الدعائم والمقومات التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى كالصدق، والعدل، والتواضع، والجود، والكرم، والتثبت وعدم العجلة وغيرها مما هي من لوازم الداعية الناجح.

(1) سورة الأحزاب، الآية (21) .

ص: 186

الفصل الثالث: أسباب انحراف الأمة عن المنهج الصحيح

المبحث الأول: الغلو في الدين

لقد بدأت البشرية على التوحيد لله تعالى منذ أن أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض، قال ابن عباس رضي الله عنهما:"كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام"(1) .

إلا أن الناس بعد ذلك تعلقوا بالصالحين، وغَلَواْ فيهم، وبدأ الانحراف في العقيدة، في أولئك القوم الذين بعث الله فيهم نوحاً عليه السلام، بعد أن زين لهم الشيطان عبادة الأصنام، بسبب الغلو في الصالحين.

فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} (2) . قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم ففعلوا، ولم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم فعبدت (3) .

إن الغلو داء عضال وسرطان فتاك، يفسد العقيدة، ويهلك الشعوب، وما ذاك إلا لأنه تعدٍّ لما أمر الله به، وتجاوز للمشروع الذي شرعه الله، ولهذا حذر الله عباده من الغلو في الدين، والإفراط بالتعظيم، سواء بالاعتقاد أو القول أو الفعل، قال تعالى:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (4) .

(1) أخرجه الحاكم في المستدرك، 2/546، كتاب التاريخ، وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في البداية والنهاية، 1/101، وعزاه إلى البخاري، وانظر تفسير ابن كثير، 1/259، وفتح الباري، 6/372، وتفسير ابن جرير الطبري، 3/334.

(2)

سورة نوح، الآية (23) .

(3)

صحيح البخاري مع الفتح، 8/667، كتاب التفسير، سورة نوح، رقم 4920.

(4)

سورة النساء، من الآية (171) .

ص: 187

أي لَا تَتَعَدَّوْا ما حد الله لكم، وأهل الكتاب هنا: اليهود والنصارى، فنهاهم عن الغلو في الدين، وهذه الأمة كذلك، كما قال تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (1) .

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين"(2) .

وحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ المساجد على القبور، لأن عبادة الله عند قبور الصالحين وسيلة إلى عبادتهم، ولهذا لما ذكرت أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة في الحبشة فيها تصاوير قال:"إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصّور، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة"(3) .

كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم عن الإطراء فقال: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"(4) .

(1) سورة هود، الآية (112) .

(2)

أخرجه النسائي، 5/286، كتاب مناسك الحج، باب التقاط الحصى، وابن ما جه، 2/1008، كتاب المناسك، باب قدر حصى الرمي، والحاكم 1/466، والبيهقي 5/127، وأحمد 1/215،347، وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الشيخ ناصر الدين الألباني، انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/278، رقم 1283.

(3)

صحيح البخاري مع الفتح، 1/523، كتاب الصلاة، باب هل نبش قبور مشركي الجاهلية..، ومسلم 1/375، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور.

(4)

صحيح البخاري مع الفتح، 6/478، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} . رقم الحدث 3445، عن عمر رضي الله عنه.

ص: 188

والإطراء مجاوزة الحد بالباطل في المدح، والكذب فيه، ومعنى لا تطروني أي: لا تمدحوني بالباطل، أو لا تجاوزوا الحد في مدحي (1) .

والغلو كثير في النصارى فإنهم غَلَواْ في عيسى عليه السلام فنقلوه من حيّز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله، يعبدونه كما يعبدون الله، بل غلوا فيمن زعم أنه على دينه من أتباعه، فادعوا لهم العصمة، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً، وناقضتهم اليهود في أمر عيسى عليه السلام فحطوا من منزلته، حتى جعلوه وَلَدَ بغيَّ (2) .

وقد وقعت الأمة فيما حذرها منه النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو، حيث غلا كثير من الناس في دين الله، وتجاوزا الحد المشروع لهم، وتشبهوا بمن قبلهم من اليهود والنصارى وغيرهم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن تشبه من هذه الأمة باليهود والنصارى، وغلا في الدين بإفراط أو تفريط، وضاهاهم في ذلك فقد شابههم، كالخوارج المارقين من الإسلام الذين خرجوا في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقاتلهم حين خرجوا على المسلمين، وكان قتالهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك من عشرة أوجه في الصحاح والمسانيد وغير ذلك، وكذلك من غلا في دينه من الرافضة والقدرية والجهمية والمعتزلة" وقال أيضاً: "فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من انتسب إلى الإسلام وقد مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان، قد يمرق أيضاً من الإسلام، وذلك بأسباب: منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (3)(4) .

(1) تيسير العزيز الحميد، 314.

(2)

تيسير العزيز الحميد، 306-307.

(3)

سورة النساء، من الآية (171) .

(4)

انظر تيسير العزيز الحميد، 307.

ص: 189

ومن هذا يتبين لنا أن أعظم فتنة ابتُليت بها البشرية إنما هي فتنة الغلو، وأن من أسباب انحراف الأمة عن المنهج الصحيح، والفطرة السليمة، إنما هو مجاوزة الحد الذي أدى ببعض الناس إلى صرف العبادة إلى غير الله تعالى، وذلك بالتقرب والتوسل إلى ما يسمونه بالأولياء والصالحين، والعكوف عند قبورهم بالصلاة أو الدعاء أو الذبح أو النذر أو الطواف أو التبرك بها ونحو ذلك مما هو من الشرك الذي حذرنا الله ورسوله منه، أشد التحذير.

المبحث الثاني: الجهل

إن الجهل داء عظيم، يوصل للضلالة، ويورد المهالك، وهو من أعظم أسباب انحراف الأمة عن المنهج الصحيح، وفي الحديث عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله لا يقبض العلم اننزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساً جُهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا"(1) .

قال النووي رحمه الله:"هذا الحديث يبيّن أن المراد بقبض العلم في الأحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور حفاظه، ولكن معناه: أن يموت حملته، ويتخذ الناس جهالاً يحكمون بجهالاتهم فيضلون ويُضلون"(2) .

(1) صحيح البخاري مع الفتح، 1/194، كتاب العلم، باب كيف يُقبض العلم، رقم 100، وصحيح مسلم 4/2058، كتاب العلم باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان / رقم 2671.

(2)

شرح النووي على صحيح مسلم، 16/223-224.

ص: 190

والمراد بالعلم هنا: علم الكتاب والسنة، وهو العلم الموروث عن الأنبياء عليهم السلام، فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، وبذهابهم يذهب العلم، وتموت السنن، وتظهر البدع، ويعم الجهل، وأما علم الدنيا، فإنه في زيادة، وليس هو المراد في الأحاديث، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا" والضلال إنما يكون عند الجهل بالدين، والعلماء الحقيقون هم الذين يعملون بعلمهم، ويوجهون الأمة، ويدلونها على طريق الحق والهدى" (1) .

ومن أعظم الجهل القول على الله بغير علم، وتحليل ما حرم الله، أو تحريم ما أحل الله، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (2) .

وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ على الله كذباً ليضلّ الناس بغير علم} (3) .

ومن أفتى أحداً بدون علم، فإنه يبوء بإثمه، وإثم من استفتاه، قال تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (4) .

وخطورة الجهل تكمن في أن الجاهل يستكبر عن سماع الحق، ويستثقله، ويصور العلم والتعلم بأنه شبح رهيب وأنه بعيد المنال بحيث لا يمكن الوصول إليه، ومن ثم يبقى على جهله إلى أن يموت.

(1) أشراط الساعة، للشيخ يوسف الوابل، 133.

(2)

سورة الأعراف، الآية (33) .

(3)

سورة الأنعام، من الآية (144) .

(4)

سورة النحل، الآية (25) .

ص: 191

فانظر إلى حال كثير من المسلمين اليوم وخصوصاً ممن ينتمي إلى كثير من الجماعات الحزبية في هذا العصر، والتي اختطت لنفسها طابعاً حزبياً وصبت جل اهتمامها في مسائل محدودة من مسائل الشرع، أو ما توهموها من مسائل الشرع، وخُيّل إليهم عبثاً أنها وحدها توصلهم إلى بر النجاة، وإيجاد المجتمع الإسلامي المنشود في الوقت الذي لو سئلوا عن فرع سهل من فروع مسائل العلم لأجابوا بملء أفواههم، بأننا لا نعرف هذه المسائل، وإنما عليكم بسؤال العلماء، لأننا مشغولون عن ذلك بالدعوة إلى الله! فيا عجباً!! كيف يدعو إلى الله بغير علم، وكيف يكون أهلاً للدعوة من لا يحسن أداء الصلاة على الوجه الذي صلاه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ (1) .

والدواء الناجع للجهل، وطريق السلامة إنما هو بالعلم الشرعي، وقد وردت النصوص من الكتاب والسنة في الحث عليه، والثناء على أهله، وقد سبق بيانه.

المبحث الثالث: الابتداع في الدين

البدعة في اللغة: مأخوذة من البدع وهو: الاختراع على غير مثال سابق، ومنه قوله تعالى:{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (2) .

ويُقال لمن أتى بأمر لم يسبقه إليه أحد، أبدع، وابتدع، وتبدّع. أي أتى ببدعة (3) .

أما البدعة في الاصطلاح: فقد عرفها الشاطبي رحمه الله بقوله: "طريق في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه"(4) .

(1) تنبيه أولي الأبصار، للشيخ صالح بن سعد السحيمي، 123.

(2)

سورة البقرة، من الآية (113) .

(3)

انظر لسان العرب 8/7، القاموس المحيط 3/3-4 فصل الباء، باب العين.

(4)

الاعتصام، 1/36.

ص: 192

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الابتداع في الدين، وحذر منه، وبيّن لأمته، أنّ كل بدعة في دين الله فهي محرمة وضلالة، فعن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال:"وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع، فأوصنا، قال:"أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضَّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحْدَثَاثِ الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" (1) .

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(2) .

وفي رواية: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(3) .

ولا شك أن الايتداع في الدين كان - ولا يزال - من أعظم الأسباب التي حادت بالأمة الإسلامية عن المنهج الصحيح، وكان من أهم العوامل التي قضت على وحدة المسلمين، وشتتت شملهم، حتى تفرق الناس شيعاً وأحزاباً.

(1) سن أبي داود، 5/13، كتاب السنة، باب في لزوم السنة، رقم 4607، والترمذي، 5/44، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، رقم 2676، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه، 1/16، المقدمة باب إتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، رقم 4342، وأحمد في المسند، 4/126-127، وابن حبان في صحيحه 1/4، وقد صححه الشيخ الألباني في إرواء الغليل، 8/107، وصحيح سنن الترمذي، 2/341، وصحيح سنن ابن ماجه 1/138، وفي ظلال الجنة 1/17-20.

(2)

صحيح البخاري مع الفتح، 5/301، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، رقم 2697، وصحيح مسلم، 3/1343، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم 1718.

(3)

صحيح مسلم، 3/1343-1344، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، رقم 1718.

ص: 193

يقول الشاطبي رحمه الله: "ثم استمر تزايد الإسلام، واستقام طريقه على مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعد موته، وأكثر قَرْن الصحابة رضي الله عنهم، إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج عن السنة، وأصغوا إلى البدع المضلة"(1) .

وعن ظهور البدع ونشأتها يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "واعلم أن عامة البدع المتعلق بالعلوم والعبادات إنما وقع في الأمة في أواخر خلافة الخلفاء الراشدين، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي" (2) .

وأول بدعة ظهرت بدعة القدر، وبدعة الإرجاء، وبدعة التشيع والخوارج، هذه البدع ظهرت في القرن الثاني والصحابة موجودون، وقد أنكروا على أهلها، ثم ظهرت بدعة الاعتزال، وحدثت الفتن بين المسلمين، وظهر اختلاف الآراء والميل إلى البدع والأهواء، وظهرت بدعة التصوف، وبدعة البناء على القبور بعد القرون المفضلة، وهكذا كلما تأخر الوقت زادت البدع وتنوعت (3) .

ومن البدع المعاصرة الاحتفال بالمولد النبوي، والتبرك بالأماكن والآثار والأشخاص أحياءً وأمواتاً.

(1) الاعتصام، 1/22.

(2)

سبق تخريجه، 60.

(3)

مجموع الفتاوى، 10/354.

ص: 194

ومنها البدع في مجال العبادات والتقرب إلى الله، وهي كثير ومنها الجهر بالنية للصلاة، والذكر الجماعي بعد الصلاة، وطلب قراءة الفاتحة في المناسبات بعد الدعاء، وللأموات، وإقامة المآتم على الأموات، وصناعة الأطعمة، واستئجار المقرئين..، وكالاحتفال بالمناسبات الدينية كمناسبة الإسراء والمعراج، ومناسبة الهجرة النبوية، ومن ذلك الأذكار الصوفية، كلها بدع ومحدثات لأنها مخالفة للأذكار المشروعة في صيغها وهيئاتها وأوقاتها، ومن ذلك البناء على القبور واتخاذها مساجد، وزيارتها لأجل التبرك بها، والتوسل بالموتى وغير ذلك من الأغراض الشركية.. (1) .

وأختتم قولي هنا بقول ابن الماجشون: "سمعت مالكاً يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله تعالى يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} (2) فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً"(3) .

المبحث الرابع: اتباع الهوى

إنَّ اتباع الهوى من أعظم الأسباب التي أدت إلى انحراف هذه الأمة عن منهجها الصحيح، فنشأت بسببه الأحزاب الضالة، والفرق المنحرفة، وهو من أعظم دواعي الضلال، وأسباب الهلاك، فإنه يهوي بصاحبه إلى الردى والمهالك، حتى يورده إلى النار والعياذ بالله.

وكل مخالف لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من العبادات والطاعات والأوامر والنواهي، إنما يكون متبعاً لهواه، ولا يكون متبعاً لدين شرعه الله تبارك وتعالى (4) .

وقد ذم الله سبحانه وتعالى اتباع الهوى في آيات كثيرة، منها قوله تعالى:{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} (5) .

(1) انظر محاضرات في العقيدة والدعوة للدكتور صالح الفوزان، 1/113-123 باختصار.

(2)

سورة المائدة، الآية (3) .

(3)

الاعتصام للشاطبي، 1/49.

(4)

انظر مجموع الفتاوى، لشيخ الإسلام ابن تيمية، 10/170-171.

(5)

سورة الفرقان، الآية (43) .

ص: 195

قال ابن كثير رحمه الله: "أي مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه كان دينه ومذهبه"(1) .

وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} (2) .

ونهى المؤمنين عن اتباع الهوى فقال تعالى: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى} (3)، وقال تعالى:{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (4) ، إلى غير ذلك من الآيات.

واتباع الهوى هو أصل كل شر، وأساس كل بلوى، ومعتمد كل بدعة، ولذلك فهو أشد وطأة من الجهل، لأن الجهل ميسور علاجه، وفي استطاعة من يتلبس به، وذلك بطلب العلم والتفقه في الدين، أما الهوى في أثناء طلب العلم أو بعد تحصيله فهو الآفة الخطيرة التي تحتاج إلى مجاهدة النفس وعلاج الداء.

ولخطورة الهوى وما يسببه من وقوع المرء في الشهوات والشبهات، حذر السلف الصالح رضوان الله عليهم من أهل الأهواء، ومن ذلك:

قول ابن عباس رضي الله عنه:" لاتجالس أهل الأهواء، فإن مجالستهم ممرضة للقلوب"(5) .

وقال أبو قلابة: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن من أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون"(6) .

وقال إبراهيم النخعي: "لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث الغلظة في قلوب المؤمنين"(7) ، إلى غير ذلك من أقوال السلف الصالح رضي الله عنهم.

(1) تفسير ابن كثير، 3/335.

(2)

سورة الجاثية، الآية (23) .

(3)

سورة النساء، من الآية (135) .

(4)

سورة الجاثية، الآية (18) .

(5)

الإبانة لابن بطة، 2/438، رقم 371.

(6)

سنن الدارمي، 1/120، رقم 391، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، للالكائي، 1/134.

(7)

الإبانة لابن بطة، 2/439، رقم 375

ص: 196

وباتباع الهوى خرجت الخوارج، ورفضت الروافض، ونبتت الجهمية، وظهرت المعتزلة، وألحدت المرجئة، ونفت القدرية، وضلت الجبرية، وتفرقت الأمة حتى صارت شيعاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم يفرحون، فكم حرّف الهوى من شرائع، وبدّل من ديانات، وأوقع الإنسان في ضلال مبين (1) .

المبحث الخامس: تقديم العقل على النقل

ومن أسباب الانحراف في هذه الأمة تقديم العقل واعتماده مصدراً تشريعياً أعلى من كلام الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا كحال بعض المنتسبين إلى الإسلام من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم من الفرق الضالة الذين تأثروا بكتب اليونان وعلومهم، وتبنوا أكثر أفكارهم، فما وافق العقل عندهم قبلوه، وما خالفه ردوه وطعنوا فيه، فابتعدوا بذلك عن العقيدة الصحيحة، وحادوا عن الصراط المستقيم، ولو أنهم تمسكوا بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلوهما المصدر الوحيد للتلقي، وردوا التنازع إليهما، وسلكوا منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، وابتعدوا عن كل ما يخالف المنهج الصحيح، لما حصل لهم ماحصل من التخبط والضلال، ولما وقعت الأمة في الزيغ والانحراف.

(1) انظر تنبيه أولي الأبصار، للشيخ صالح السحيمي، 134-135.

ص: 197

ولا يخفى أن العقل نعمة عظيمة أودعها الله في الإنسان ليميز الخير من الشر، والحق من الباطل، ولكنّ للعقول حداً تنتهي في الإدراك إليه، ولم يجعل الله لها سبيلاً إلى إدراك كل شيء، فمن الأشياء مالا يصل العقل إليه بحال، ومنها مايصل إلى ظاهر منه دون اكتناه (1) وهي مع هذا القصور الذاتي لا تكاد تتفق في فهم الحقائق التي أمكن لها إدراكها، فإن قوى الإدراك ووسائله تختلف عند النظار اختلافاً كثيراً، ولهذا كان لابد فيما لاسبيل للعقول إلى إدراكه، وفيما تختلف فيه الأنظار من الرجوع إلى مخبر صادق، يضطرُّ العقل أمام معجزته إلى تصديقه، وليس ذلك سوى الرسول المؤيد من عند الله العليم بكل شيء، الخبير بما خلق" (2) .

فمن الضلال المبين أن نوجه عقولنا لأمور قد كفانا الله شأنها، وندع المنهج الصحيح الذي أمرنا الله به من التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح، فإنَّ المسلمين لو تمسكوا بالمنهج الصحيح، وأعرضوا عن كل ما يُخالفه، لما وقعوا في تحكيم العقل في مجالات لم يخلق لها، ولما وقعوا في التخبط والحيرة، كما ذكر ذلك بعض أهل الكلام (3) .

وإذا صح الخبر عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم فليس للعقل مجال للأخذ أو الرد، بل يجب الإذعان والتسليم، حتى وإن لم تدرك العقول كنه تلك الأمور، لأن العقول أعجز من أن تحيط بكل شيء، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه. (4)

(1) اكتنَّ الشيء: استتر، ويقال: اكتنت المرأة: غطت وجهها وسترته حياءً من الناس، انظر المعجم الوسيط، 2/801.

(2)

انظر البدعة أسبابها ومضارها لشلتوت، 28.

(3)

ومنهم الجويني والغزالي والرازي وغيرهم، انظر الصفات الإلهية، للشيخ محمد أمان رحمه الله، 157-171.

(4)

تنبيه أولي الأبصار، 141.

ص: 198

قال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) .

وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} (2) . فهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء فليس لأحدٍ مخالفته، ولا اختيار لأحدٍ ههنا ولا رأي ولا قول (3) .

لذا فإنَّ الواجب على المسلم أن يُذعن ويسلم لما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل عقله تابعاً لهما، لا مُعارضاً لهما، أو مقدّما عليهما، حتى لا يزيغ عن الحق، ولا يحيد عن الصراط المستقيم.

المبحث السادس: التفرق والتحزب

لقد أصاب الأمة الإسلامية ما أصاب الأمم قبلها من التحزب والاختلاف، فأضحت الأمة شيعاً وأحزاباً، يُخَطِّئ بعضُها بعضاً، {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} ، وماذاك إلا لبعدها عن المنهج الصحيح، وهو التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والاعتصام بهما، والعمل بهما، ورد التنازع إليهما، فإنَّ السبيل الوحيد لجمع الشمل، وتوحيد الكلمة، هو الرجوع التام للمنهج الصحيح: كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، على فهم السلف الصالح، ففيه العصمة من التفرق والاختلاف، وفيه النجاة والسعادة في الدنيا والآخرة.

قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (4) .

(1) سورة النور، الآية (51) .

(2)

سورة الأحزاب، الآية (36) .

(3)

انظر تفسير ابن كثير، 3/511.

(4)

سورة آل عمرآن، من الآية (103) .

ص: 199

قال الإمام ابن القيم رحمه الله مبيناً معنى الاعتصام بكتاب الله: "وهو تحكيمه دون آراء الرجال ومقاييسهم، ومعقولاتهم، وأذواقهم، وكشوفاتهم، ومواجيدهم، فمن لم يكن كذلك فهو مُنسَّلٌ من هذا الاعتصام، فالدين كله في الاعتصام به وبحبله، علماً وعملاً، وإخلاصاً، واستعانة، ومتابعة، واستمراراً على ذلك إلى يوم القيامة"(1) .

قال قتادة رحمه الله عند قوله تعالى: {وَلا تَفَرَّقُوا} :"إن الله عز وجل قد كره لكم الفرقة وقدّم إليكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة، والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله"(2) .

وقال الإمام ابن كثير رحمه الله:"وقوله {وَلا تَفَرَّقُوا} أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة.. وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف.. إلى أن قال: وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضاً، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، فقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية إلى الجنة ومُسَلَّمَة من عذاب الله، وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه"(3) .

وقال تعالى في النهي عن التفرق والاختلاف {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4) .

(1) مدارج السالكين، 3/323.

(2)

انظر تفسير الطبري، 4/32.

(3)

تفسير ابن كثير، 1/405.

(4)

سورة الأنعام، الآية (159) .

ص: 200

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية: "يتوعد الله تعالى الذين فرقوا دينهم، أي شتتوه وتفرقوا فيه، وكل أخذ لنفسه نصيباً من الأسماء التي لا تفيد الإنسان في دينه شيئاً، كاليهودية، والنصرانية، والمجوسية، أو لا يكمل بها إيمانه، بأن يأخذ من الشريعة شيئاً، ويجعله دينه، ويدع مثله، أو ما هو أولى منه، كما هو حال أهل الفرقة، من أهل البدع والضلال، والمفرقين للأمة، ودلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق والاختلاف في أصل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية والفروعية"(1) .

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصاري على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل من هي يا رسول الله؟ قال:"من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (2) .

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "فأهل الأديان - قبلنا - اختلفوا فيما بينهم على آراء ومُثُل باطلة، وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء، وهذه الأمة أيضاً اختلفوا فيما بينهم على نحلٍ كلها ضلالة إلا واحدة، وهم أهل السنة والجماعة، المتمسكون بكتاب الله وسنة رسوله وبما كان عليه الصدر من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه"(3) .

(1) تيسير الكريم الرحمن، 2/91.

(2)

أخرجه أبو دواد، 5/4، أول كتاب السنة، رقم 4596، والترمذي، 5/25، كتاب الإيمان باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، رقم 2640، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه، 2/1321، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، رقم 3991، وأحمد، 2/332، والحاكم في المستدرك 1/128، وقال صحيح على شرط مسلم، وانظر السلسلة الصحيحة، للشيخ الألباني، 3/480رقم 1492.عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

تفسير ابن كثير، 3/452.

ص: 201

وقال ابن أبي العز الحنفي في تعليقه على الحديث السابق: "فبين أن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة"(1) .

وزادت الفرقة بالمسلمين - مع مرور الزمن - وكثر الاختلاف، واتسع الشقاق، وماجت الفتن بأصحاب الأهواء موج البحر، وصارت قلوبهم متنافرة، مظلمة سوداء مرباده لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً إلا ما أُشربت من الأهواء (2) .

وصار الاختلاف في أصل الدين، في إفراد الله في العبادة، وفي العبادة ذاتها، كما اختلف الذين من قبل اتباعاً للسنن كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"لتتبعنَّ سَنَنَ من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لسلكتموه" قالوا: يارسول الله من اليهود والنصارى؟ قال: "فمن إذن"(3) .

ولكن بفضل الله ورحمته لا تزال طائفة أهل السنة والجماعة: "الفرقةُ الناجيةُ" باقيةً إلى قيام الساعة كما روى البخاري من حديث معاوية رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لايزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لايضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك"(4) .

(1) شرح الطحاوية، 432

(2)

انظر حديث حذيفة في صحيح مسلم 1/128، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريباً

، رقم 144.

(3)

صحيح البخاري مع الفتح، 6/495، كتاب أحاديث الأنبياء باب ما ذكره عن بني إسرائيل، رقم 3456، وصحيح مسلم، 3/1291، كتاب القسامة، باب القسامة، رقم 1669، وأحمد في المسند، 3/84،89،94، وابن أبي عاصم في السنة، 1/36-37، عن أبي سعيد رضي الله عنه.

(4)

صحيح البخاري مع الفتح، كتاب المناقب، 6/632، رقم 3641، والفظ له، وصحيح مسلم، 3/1524، كتاب الإمارة، باب قوله صلى الله عليه وسلم 0" لا تزال طائفة من أمتي على الحق

"، رقم 1037.

ص: 202

ومن هؤلاء الذين أقام الله بهم السنة في الإخلاص والمتابعة في هذه الجزيرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب مجدد ما اندرس من معالم الإسلام في القرن الثاني عشر، فلقد تجرّد للدعوة إلى الله على بصيرة، وجاهد في رد الناس إلى ما كان عليه أهل السنة والجماعة من إفراد الله بالعبادة وترك التعلق بغير الله، والاعتقاد فيما دونه، متبعاً في ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيض الله من آل سعود أنصاراً لدين الله ورسوله عرفوا صدق موافقته للحق فنفّذوا نصرته بالسلطان والعزيمة، وعقدوا الاتفاق بين نص الوحي وحد السيف إذا لم ينفع اللين واستمر الظالم في ظلمه ولم يبال بالواعظ من الكتاب والسنة فأخذوا على يديه وأجروا عليه مايستحقه شرعاً من جهاد وقتال، وإقامة حدّ أو تعزير حتى ينزجِرَ عن باطله، وهذا هو سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته.

ونحن في هذه البلاد - ولله الحمد والمنة - ننعم بالإسلام، وبجماعة المسلمين، تحت ولاية إسلامية تحكّم فينا شرع الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد من المسلمين في هذه البلاد السعودية المسلمة أن يوجد حزباً إسلامياً أو ينتمي إليه

لأن ذلك شق لعصا الطاعة، وتفريق للجماعة وهو بمثابة خرق في سفينة نجاتهم يسبب غرقها أو يهددها بالخطر والغرق (1) .

الفصل الرابع: أثر المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى

للمنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى آثار طيبة، ونتائج حميدة: على الداعي إلى الله تعالى وعلى المدعوين، وأهم هذه الآثار مايلي:

(1) انظر مقدمة الدكتور صالح العبود على حقيقة الدعوة إلى الله تعالى وما اختصت به جزيرة العرب، للشيخ سعد الحصين، 8-16، باختصار وتصرف. وانظر نص فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعدم شرعية وجود هذه الجماعات مالم يستند وجودها إلى قرار من ولي الأمر، رقم 1674.

ص: 203

أولاً: إن في الدعوة إلى الله تعالى على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، امتثالاً لأمر الله تعالى الذي أمر بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هى أحسن، كما في قوله عز وجل:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (1) .

وقوله سبحانه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} (2) والأمر للرسول صلى الله عليه وسلم، أمر لأمته، مالم يدل دليل على اختصاصه به. فكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بالدعوة إلى الله تعالى فأمته مأمورة بذلك. بل قد أمرها الله تعالى بذلك في قوله:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (3) .

ثانياً: إن تحقيق المنهج الصحيح في الدعوة إلى لله فيه الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما أمره ربه تبارك وتعالى بذلك في قوله سبحانه:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (4) فأتباع الرسول صلى الله عليه وسلم يدعون إلى الله على بصيرة كما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم على بصيرة، ومن لم يدع على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم كان اتباعه ناقصاً (5) .

(1) سورة النحل، من الآية (125) .

(2)

سورة الشورى، من الآية (15) .

(3)

سورة آل عمران، الآية (104) .

(4)

سورة يوسف، الآية (108) .

(5)

انظر محاضرات في العقيدة والدعوة للدكتور صالح الفوزان (1/141) .

ص: 204

قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (1) .

قال ابن كثير رحمه الله: "هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر، حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله"(2) .

ثالثاً: إنَّ من آثار المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى العمل بالكتاب والسنة والاعتصام بهما، كما ينتج عنه تآلف المسلمين واجتماعهم وترابطهم وتماسك مجتمعهم، وعدم التفرق والتحزب، والاختلاف والتطرف.

قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} (3) .

وقال عز وجل: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (4) إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة.

رابعاً: وإن في الدعوة إلى الله تعالى على المنهج الصحيح تبليغ دين الله تعالى إلى الناس كما أراد الله تعالى.

قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} . (5)

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بلغوا عني ولو آية"(6) .

(1) سورة آل عمران، من الآية (31) .

(2)

تفسير ابن كثير (1/372) .

(3)

سورة آل عمران، من الآية (103) .

(4)

سورة الأنعام، الآية (159) .

(5)

سورة آل عمران، من الآية (187) .

(6)

صحيح البخاري بشرح الفتح (6/496) كتاب أحاديث الأنبياء باب ماذكر عن بني إسرائيل رقم (3461) .

ص: 205

خامساً: وإن من آثار اتباع المنهج الصحيح تصحيح عقائد الناس من الشرك والبدع والشعوذة، وجميع ما يخالف العقيدة الإسلامية.

وكما يحصل الأمن والاستقرار والطمأنينة في الدنيا يكون الأمن من عذاب الله يوم القيامة.

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (1) .

سادساً: إن في الدعوة إلى الله تعالى على المنهج الصحيح تكون هداية من أراد الله هدايته من الناس، ويكون الأجر العظيم والثواب الجزيل، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا يَنْقُصُ ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً"(2) .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر - لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:"انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم"(3) .

فهذه الأدلة تبين لنا فضل الدعوة إلى الله تعالى، وذلك لما يترتب

عليها من تبليغ شرع الله وحفظه، وحصول المصالح العظيمة للخلق في معاشهم ومعادهم، ودينهم ودنياهم، واندفاع الشرور عنهم إذا هم قبلوها وعملوا بها على الوجه المطلوب.

(1) سورة الأنعام، الآية (82) .

(2)

صحيح مسلم (4/2060) كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة، ومن دعا إلى هدى أو ضلالة رقم (2674) .

(3)

صحيح البخاري بشرح الفتح (7/476) كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، حديث رقم (4210) ، وصحيح مسلم (4/1872) كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه رقم (2406) .

ص: 206

سابعاً: وإنَّ من آثار الدعوة القائمة على الكتاب والسنة والعمل بهما على فهم السلف الصالح - رضوان الله عليهم - حصول التمكين في الأرض، ورغد العيش، وحياة الأمن والاستقرار. وخير شاهد على ذلك ما قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من الدعوة إلى التوحيد، ونبذ الشرك والبدع وغيرها من المنكرات، التي كانت متفشية في الجزيرة العربية.

ومنذ أن قام الإمام محمد بن سعود رحمه الله مؤسس الدولة السعودية المباركة بتبني هذه الدعوة الطيبة، قامت دولة التوحيد، وكتب الله لها النصر والبقاء، واتفقت كلمة أهلها، وتوحدت صفوفهم، ونبذوا الفرقة والاختلاف، وعاشوا في أمن ورخاء، وزالت مظاهر الشرك في مدة وجيزة، وهي لم تكن لتزول لولا فضل الله وتوفيقه ثم انطلاق هذه الدعوة من روح العقيدة الإسلامية الخالصة.

قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (1)

الخاتمة

بعد حمد الله تعالى على عونه وتوفيقه لي بانجاز هذا البحث أحبُّ أن أثبت أهم النتائج التالية:

1-

إن اتباع منهج أهل السنة والجماعة، الذين جاءت الأدلة بفضلهم والثناء عليهم، هو طريق الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. وهو المنهج الحق الذي يجب اتباعه.

2-

إن أهل السنة والجماعة يسيرون على أصول ثابتة وواضحة، في الاعتقاد والقول والعمل والسلوك، وهذه الأصول مستمدة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما كان عليه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان رضي الله عنهم أجمعين.

(1) سورة النور، الآية (55) .

ص: 207

3-

إن التوحيد وعبادة الله تعالى وحده دون سواه هو الأمر الذي بعث الله من أجله الرسل وأنزل من أجله الكتب، وخلق من أجله الإنس والجن، وهو أول مادعت الرسل أممهم إليه، وبقية الأحكام إنما هي تابعة له. وأنه لم يدع أحد من الأنبياء إلى السياسة أو يبدأ بالزهد والورع أو بالأخلاق. وأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قد استمر طيلة ثلاث عشرة سنة في مكة في سبيل تحقيق هذا المبدأ العظيم.. لذا فإن هذا المنهج هو الذي يجب على الدعاة أن يسلكوه، ولا يحيدوا عنه.

4-

إن من أهم الدعائم والمقومات التي يقوم عليها المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى: العلم النافع، والإخلاص لله وحده، والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وترتيب الأولويات، والحكمة، والرفق والحلم، والصبر والاحتساب، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، والصدق في القول والعمل، والعدل، والتواضع، والجود والكرم، والتأني والتثبت وعدم الطيش والعجلة.

5-

بيان أن البشرية كانت على التوحيد، وكانت على الحق، وأن الانحراف عن الحق وعن الطريق المستقيم، إنما كان بسبب الغلو في الدين، والابتداع فيه، والجهل، واتباع الهوى، وتقديم العقل على النقل، والتفرق والتحزب والاختلاف.

6-

بيان أن في الدعوة إلى الله تعالى على المنهج الصحيح القائم على الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح فيه امتثال لأمر الله تعالى الذي أمر بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.. وفيه اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم على علم وبصيرة.

7-

إن من آثار المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله تعالى العمل بالكتاب والسنة والاعتصام بهما، كما ينتج عن ذلك التآلف والترابط، وعدم التفرق والتحزب والتنابذ.

8-

إن الدعوة إلى الله على المنهج الصحيح فيه تصحيح لعقائد الناس من الشرك والبدع والشعوذة، وجميع ما يخالف العقيدة الصحيحة، ويكون فيه الأمن والاستقرار والطمأنينة في الدنيا، كما يحصل الأمن من عذاب الله في الآخرة لمن أطاعه واتبع هديه.

ص: 208

9-

إن في الدعوة إلى الله تعالى على المنهج الصحيح ما يحصل به تبليغ دين الله تعالى إلى الناس كما أراد الله، وتكون هداية من أراد الله هدايته، ويكون الأجر العظيم والثواب الجزيل.

10-

إننا في هذه البلاد السعودية ننعم - ولله الحمد والمنة - بالإسلام والدعوة إليه والعمل به على هدي الكتاب والسنة، ومنهج السلف الصالح، وننعم بجماعة المسلمين، تحت ولاية إسلامية راشدة تحكم فينا شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فلا يجوز لأحدٍ من المسلمين في هذه البلاد أو من خارجها أن يوجد حزباً، أو ينشئ جماعة، فيشق بذلك الطاعة، ويخالف الجماعة.

فهذه أهم المعالم الرئيسة في هذا البحث، وإني في الختام لأستغفر الله من كل ذنب زلت به القدم، أو زلل طغى به القلم.

وأسأل الله تعالى أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به من يطلع عليه من المسلمين، إنه جواد كريم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قائمة بأهم المصادر والمراجع

1 – القرآن الكريم.

2 – الإبانة عن شريعة الفرق الناجية ومجانبة الفرق المذمومة: لأبي عبد الله عبيد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي "ت387هـ"، دار الراية للنشر والتوزيع، ط1، 1409هـ.

3 – الأجوبة المفيدة عن أسئلة المناهج الجديدة من إجابات فضيلة الدكتور صالح بن فوزان الفوزان: ط2، 1418هـ، دار السلف، الرياض.

4 – الاستقامة لابن تيمية: أبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم، "ت728هـ"، ط2، 1409هـ، مكتبة السنة، تحقيق الدكتور محمد رشاد سالم.

5 – الأصول الثلاثة وأدلتها: للشيخ محمد بن سليمان التميمي، مكتبة الخضيري، 1416هـ، المدينة المنورة.

6-

أضواء على طريق الدعوة إلى الإسلام: للدكتور محمد أمان بن علي الجامي، طبع الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، 1404هـ.

ص: 209

7-

الاعتصام: للعلامة أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي، "ت790هـ"، دار المعرفة، بيروت.

8-

البدع أسبابها ومضارها: للشيخ محمود شلتوت "ت1383هـ" تحقيق علي حسن عبد الحميد، مكتبة ابن الجوزي.

9 – البدع والنهي عنها: لمحمد بن وضاح القرطبي، تحقيق محمد أحمد دهمان، دار البصائر، دمشق.

10-

تذكرة أولي الغير بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: للشيخ عبد الله بن صالح القصير، ط1، 1411هـ، دار العاصمة، الرياض.

11 – تفسير القرآن العظيم: للحافظ ابن كثير "ت774هـ" مطبعة الفجالة، القاهرة، ط1، 1384هـ، نشر مكتبة النهضة الحديثة.

12 – تنبيه أولي الأبصار إلى كمال الدين وما في البدع من الأخطار: للدكتور صالح بن سعد السحيمي، ط1، 1410هـ، دار بن حزم للنشر والتوزيع، الرياض.

13 – تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد: للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، "ت1233هـ"، الطبعة 3، 1410 هـ، نشر مكتبة العلوم والحكم.

14 – تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: للشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي، "ت1376هـ" مطبعة المدني، 1408هـ، القاهرة.

15 – جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: للإمام مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن الأثير الجزري "ت606هـ" نشر مكتبة الحلواني، دار البيان، توزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية.

16 – جامع البيان عن تأويل آي القرآن المعروف بتفسير الطبري: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري "ت310هـ" شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، ط3، 1388هـ.

17 – الجامع الصحيح للترمذي: للحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي "ت279هـ" دار إحياء التراث العربي.

ص: 210

18 – جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثاً من جوامع الكلم: للإمام الحافظ زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين البغدادي الدمشقي الشهير بابن رجب "ت795هـ" ط5، 1414هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.

19 – حقيقة الدعوة إلى الله تعالى وما اختصت به جزيرة العرب: بقلم سعد بن عبد الرحمن الحصين، ط1، 1411هـ، الفرقان، الرياض.

20 – حكم الانتماء إلى الفرق والأحزاب والجماعات الإسلامية: للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، ط الأولى، 1410 هـ.

21 – الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى: لسعيد بن علي القحطاني، ط1، 1412هـ.

22 – درء تعارض العقل والنقل: لأبي العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية "ت728هـ" تحقيق د. رشاد سالم، ط1، 1400هـ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

23 – الرد على من أنكر الحرف والصوت: لأبي نصر عبيد الله بن سعيد الوائلي السجزي، تحقيق ودراسة د. محمد با كريم، طبع المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، ط1، 1413هـ.

24 – سلسلة الأحاديث الصحيحة: للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي.

25 – سنن ابن ماجه: للحافظ أبي عبد الله القزويني،"ت275هـ"، دار الفكر، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

26 – السنن الكبرى: للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي "ت458هـ" دار الفكر.

27 – سنن أبي دواد: للإمام الحافظ أبي دواد سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي "ت275هـ" دار الحديث للطباعة، بيروت، ط1، 1388هـ.

28 – سنن الدارمي: للإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي "ت255هـ" دار الكتب العلمية، بيروت.

29 – سنن النسائي: للحافظ أبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي النسائي "ت303هـ" المكتبة العلمية، بيروت.

30 – السيرة النبوية: لأبي محمد عبد الملك بن هشام "218هـ" دار الكنوز الأدبية، تحقيق مصطفى السقا، إبراهيم الإبياري، وعبد الحفيظ شلبي.

ص: 211

31 – شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم: للإمام الحافظ أبي القاسم هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي "ت418هـ" تحقيق د. حمد سعد حمدان، دار طيبة، الرياض.

32 – شرح العقيدة الطحاوية: للإمام علي بن محمد بن أبي العز الحنفي "ت321هـ" المكتب الإسلامي، ط4، 1391هـ.

33 – شرح النووي على صحيح مسلم: للإمام الحافظ محيي الدين أبي زكريا يحى بن شرف الشافعي النووي، "ت676هـ" دار الفكر، بيروت.

34 – الصحوة الإسلامية ضوابط وتوجيهات: للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ط1، 1414هـ، دار المجد، الرياض.

35 – صحيح البخاري مع فتح الباري: للإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري "ت256هـ" طبع المكتبة السلفية.

36 – صحيح مسلم: للإمام الحافظ أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري "ت261هـ" دار إحياء التراث العربي، بيروت، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي.

37 – الطبقات الكبرى: لابن سعد محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري المكنى بأبي عبد الله "ت230هـ" دار صادر، بيروت.

38 – عقيدة أهل السنة والجماعة: لفضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين، من مطبوعات الجتمعة الإسلامية بالمدينة المنورة، 1407هـ.

39 – العقيدة الصحيحة ونواقض الإسلام: لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار العصيمي، الرياض.

40 – فتح الباري شرح صحيح البخاري: للإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني "ت852هـ" طبع المكتبة السلفية.

41 – القاموس المحيط: لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي "ت817هـ" مؤسسة الحلبي وشركاه، القاهرة.

42 – لسان العرب: لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور "711هـ" دار صادر، بيروت.

43 – مجمل اعتقاد أئمة السلف: للدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط2، 1417هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.

ص: 212

44 – مجموع الفتاوى: لشيخ الإسلام ابن تيمية، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، وابنه محمد، الطبعة السعودية، 1398هـ.

45 – محاضرات في العقيدة والدعوة: للشيخ صالح بن فوزان الفوزان، دار العاصمة، النشرة الأولى، 1415هـ.

46 – مختصر منهاج القاصدين: للإمام أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي، "ت742هـ" تقديم د. وهبة الزحيلي، ط1، 1414هـ، دار الخير، بيروت، توزيع مكتبة الوراق، الرياض.

47 – مدارج السالكين: للإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر القيم الجوزية "751هـ" دار صادر الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1403هـ.

48 – المستدرك على الصحيحين:

للإمام الحافظ أبي عبد الله الحاكم النيسابوري "ت405هـ" دار الكتاب العربي، بيروت.

49 – المسند: للإمام أحمد بن حنبل الشيباني "ت241هـ" دار صادر، بيروت.

50 – المصباح المنير في غريب الشرح الكبير: للعلامة أحمد بن محمد بن علي المقرىء الفيومي "ت770هـ" مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، تصحيح مصطفى السقا.

51 – المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: ترتيب وتنظيم أ. ى ونسناه، مطبعة بريل، ليدن.

52 – المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة.

53 – معجم مقاييس اللغة: لأبي الحسن أحمد بن فارس "ت395هـ" على القول الراجح، دار الكتب العلمية، إيران.

54 – المعجم الوسيط: للدكتور إبراهيم أنيس وآخرين.

55 – المفردات في غريب القرآن: لأبي القاسم الحسين بن الفضل الراغب الأصفهاني "ت502هـ" دار المعرفة، بيروت.

56 – مقومات الداعية الناجح في ضوء الكتاب والسنة: سعيد بن علي القحطاني، ط1، 1415هـ، مطبعة سفير، الرياض.

57 – منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله فيه الحكمة والعقل: للدكتور ربيع بن هادي المدخلي، الدار السلفية، ط1، 1406هـ، الكويت.

58 – منهج السلف في العقيدة وأثره في وحدة المسلمين: د. صالح بن سعد السحيمي.

ص: 213

59 – الموطأ: للإمام مالك بن أنس، "ت179هـ" دار إحياء الكتب العربية.

60 – النهاية في غريب الحديث والأثر: للإمام مجد الدين أبي السعادات المعروف بابن الأثير "ت606هـ" المكتبة الإسلامية لصاحبها الحاج رياض الشيخ.

ص: 214

المقدَّمة

الحمد لله خالق الخلق، وباسط الرزق، فتنة وابتلاءً منه لعباده ليميز الطائعين الشاكرين من العاصين الجاحدين. والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

وبعد؛ فقد جعل الله سبحانه وتعالى رزقه يسع كل حيٍّ من مخلوقاته فضلاً منه ورحمة، فقدَّر رزق الإنسان، وكتبه والإنسان في بطن أمه، كما جاء عند مسلم (1) : "إنَّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه،

ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله وعمله، وشقي أو سعيد

".

وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي الدرداء أنه قال: "إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله". عند كل من ابن أبي عاصم (2) والدراج (3) والبزار (4) وابن حبان (5) ، والطبراني في الكبير (6) ، والبيهقي (7) ، بهذا اللفظ إلا أنه فيه عند الطبراني "أكثر مما يطلبه أجله" صححه البزار، وابن حبان، وقال الهيثمي رجاله ثقات (8)، وقال المنذري عقبه: رواه الطبراني بإسناد جيد.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله قَسَمَ بينكم أخلاقكم كما قَسَمَ بينكم أرزاقكم

" من حديث ابن مسعود رواه أحمد (9) والحاكم (10)، وهو مطول عندهما وهذا جزء منه. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

(1) الصحيح، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه

(4/2037-2038) .

(2)

السنة (1/117) .

(3)

جزء الدراج (مخطوط) حديث رقم (8) .

(4)

كشف الأستار (2/82) .

(5)

الإحسان إلى تقريب صحيح ابن حبان (5/8) .

(6)

كما في الترغيب والترهيب (4/12) ، ومجمع الزوائد (4/72) ولعله في الجزء المفقود من المعجم، لأنني طلبته فيه فلم أجده.

(7)

شعب الإيمان (2/71) .

(8)

مجمع الزوائد (4/72) .

(9)

المسند (1/387) .

(10)

المستدرك (2/447) .

ص: 215

وذكره الهيثمي في (مجمع الزوائد) في ثلاثة مواطن من حديث ابن مسعود فقال في مرة: رواه أحمد ورجال إسناده بعضهم مستور وأكثرهم ثقات (1)، وقال في موطن: رواه الطبراني موقوفًا، ورجاله رجال الصحيح (2)، وقال في الموطن الأخير (3) : رواه أحمد ورجاله وثقوا وفي بعضهم خلاف.

ولحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى جعل هذا التقدير، والتقسيم للأرزاق خافيًا على العباد مغيبًا عنهم، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} (4) .

كما شاءت إرادته جل وعلا أن جعل المال محببًا إلى النفوس مرغوبًا فيه سجية وطبعًا فقال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

} (5)، وقال:{وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} (6) .

وما من شك في أن المال فيه خير للإنسان إن أحسن استعماله في محاله وقد سماه تعالى خيرًا إذ قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} (7) .

(1)

المجمع (1/53) .

(2)

المجمع (10/90) .

(3)

المجمع (10/228) .

(4)

سورة لقمان: آية 34.

(5)

سورة الكهف: آية 46.

(6)

سورة الفجر: آية 20.

(7)

سورة البقرة: آية 180.

ص: 216

وقال صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح" طرف من حديث طويل لعمرو بن العاص رضي الله عنه عند أحمد (1) ، والطبراني (2) ، وأبي يعلى (3) ، هذا لفظ أحمد والطبراني، وعند أبي يعلى:"يا عمرو نعمَّا بالمال الصالح للرجل الصالح"، وقال الهيثمي (4) : رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح، وقال العراقي: سنده جيد (5) .

فالمال خير، وهو محبوب وصالح لازم لقضاء مصالح الإنسان في معاشه ومعاده إذ هو وسيلة لأداء كثير من العبادات من حج وعمرة، وزكاة، وصدقات، وكفارات ونذور، وصلة أرحام، وطلب علم وغيرها من المصالح.

والرزق وإن كان مكتوبًا بقضاء الله عز وجل كما سلف إلا أنه - سبحانه - يقضي ما يشاء بأسباب جعلها موجبة لمسبباتها مقتضية لها؛ ولهذا جاء الحض والأمر بالسَّعي في طلب الرزق أخذًا بالأسباب للازدياد من الخير وحصول البركة في المال، لكي تستمر الحياة عى وجه الأرض، فيكف الإنسان وجهه عن سؤال الآخرين ويتجنب ذلَّ الحاجة والعوز في معيشته.

وحتى يكون سعي الإنسان في طلب الرزق حسنًا مباركًا فيه رابحًا مشكورًا عليه، لا خسارة ووبالاً مردودًا عليه فقد أرشده الإسلام إلى دخول بيوت الرزق وحصول البركة والنماء فيه من أبوابها، وسلوك الأسباب الجالبة للخيرات والبركات دون غيرها.

(1) المسند (4/197) .

(2)

المعجم الأوسط (4/130) ، (10/8) ، وعزاه الهيثمي (4/64) أيضًا للطبراني في الكبير، لكنه من الجزء المفقود، والله أعلم.

(3)

المسند (13/320-322) رقم (7336) .

(4)

مجمع الزوائد (4/64) .

(5)

المغني عن حمل الأسفار في الأسفار (هامش إحياء علوم الدين)(4/98) .

ص: 217

ولما كان كثير من الناس - منذ زمن ليس بالقليل - قد ملك حب المال قلوبهم، واستولت شهوته تمامًا على نفوسهم، وكأنهم لأجل ذلك وحده خلقوا، فشمَّروا عن ساعد الجد، راكبين الصعب والذلول في الحصول على الأرزاق وتكثير الأموال، غير مكتفين في هذا الطلب والسعي بدخول بيوتات الرزق من أبوابها، بل مقتحمين من كل نافذة وطاقة بكل حرص وشراهة، غير متقيدين بالطرق المشروعة، ولا مبالين بالنتائج المقبوحة، وهم - مع هذا - أو أكثرهم يكثر الشكاية من القلة في الرزق، ومحق البركة من الرواتب والأموال، وعدم التوفيق في شؤون الحياة ومصالحها.

لهذا فقد رأيت أن أسهم بتذكير نفسي أولاً ثم بتذكير إخواني ثانيًا بكتابة هذا البحث "البركة في الرزق، والأسباب الجالبة لها"، الذي أرجو أن يكون نافعًا في بابه، وسببًا من الأسباب التي يشاء الله عز وجل إجراءها وسوقها لنفع عباده، وتذكيرهم ببعض مالهم وما عليهم فيما يخصهم في أرزاقهم.

وقد جعلت هذا البحث منتظمًا في مقدمة، ومبحثين، وخاتمة، وفهرسين، وذلك على النحو الآتي:

1 – المقدمة:

وفيها الإشارة إلى أهمية الموضوع، وسببه، وخطته.

2 -

المبحث الأول:

وفيه مطلبان. الأول: فيه شرح بعض الألفاظ الواردة في عنوان البحث، مع الإشارة إلى حدود البحث. الثاني: فيه المنهج الذي سرت عليه في أثناء البحث.

3 -

المبحث الثاني:

ويشتمل على أهم الأسباب الجالبة للبركة، وفيه عشرة مطالب هي:

المطلب الأول: تقوى الله عز وجل والتقرب إليه بالطاعات: (الصلاة، الحج والعمرة، الزكاة وما يتبعها من صدقات، وصلة أرحام) .

المطلب الثاني: التوكل على الله سبحانه وتعالى مع الأخذ بالأسباب.

المطلب الثالث: التسمية في كل الأحوال.

المطلب الرابع: الذكر والدعاء.

المطلب الخامس: شكر الله تعالى وحمده.

المطلب السادس: التوبة والاستغفار.

ص: 218

.. المطلب السابع: السعي في الكسب وطلب الرزق أخذًا بالأسباب: (الكسب الحلال المباح، الصدق والأمانة في التعامل، البكور في طلب الرزق) .

المطلب الثامن: القناعة والعفاف والإجمال في الطلب.

المطلب التاسع: الاقتصاد في المعيشة: (حسن التدبير والاقتصاد في المعيشة، كيل الطعام) .

المطلب العاشر: اتباع السنة.

4 -

الخاتمة:

وفيها أهم النتائج.

5 – فهرس المصادر والمراجع.

وختامًا أحمد الله - تعالى - وأشكره على أن وفقني لمثل هذا الموضوع، وأعانني على إتمامه، فإن وافقني في هذا العمل الرشد والصواب فذلك من فضل الله وتوفيقه وتمام إنعامه، وإن حصل فيه شئ من خطأ أو مجانبة للصواب، فذلك من تقصيري ومن الشيطان، وأستغفر الله منه، وعزائي أنني عملت ما بوسعي أن أعمله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين لا شريك له.

المبحث الأول

وفيه مطلبان:

المطلب الأول:

شرح بعض الألفاظ الواردة في

عنوان البحث مع الإشارة إلى حدود البحث

1-

البركة: محركة، هي النماء والزيادة والسعادة (1) . وبنحو هذا اللفظ قال ابن منظور (2)، وقال الزجاج:" (تبارك) : تفاعل من البركة، ومعنى البركة: الكثرة في كل ذي خير (3) . وقال ابن كثير: تبارك، تفاعل من البركة المستقرة الثابتة الدائمة (4) ".

(1) القاموس المحيط (ب ر ك)(3/293) .

(2)

لسان العرب (ب ر ك)(10/395-396) ، وانظر أيضًا الجامع لأحكام القرآن (4/147) .

(3)

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (13/1) تفسير الآية الأولى من سورة الفرقان.

(4)

تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/411) .

ص: 219

وقال ابن الأثير: قوله صلى الله عليه وسلم: "وبارك على محمد وعلى آل محمد"(1) ، أي أثبت له وأدم ما أعطيته من التشريف والكرامة، وهو من (بَرَك البعير) إذا أناخ في موضع فلزمه. قال: وتطلق البركة - أيضًا - على الزيادة والأصل الأول (2) .

وقال النووي: عند قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (3)، قيل: معناه ثبت الخير عنده، وقيل: تعالى إلى، والبركة العلو والنماء

وأصله من البروك وهو الثبوت. ومنه بِركة الماء، وبَرْكة البعير (4) .

وقد أكَّد الحافظ ابن حجر ما ذكره ابن الأثير والنووي فقال عند قوله "وبارك على محمد": المراد بالبركة هنا: الزيادة من الخير، والكرامة

وقيل المراد: إثبات ذلك واستمراره من قولهم بركت الإبل أي ثبتت على الأرض، وبه سميت بركة الماء، بكسر أوله لإقامة الماء فيها، والحاصل أن المطلوب أن يعطوا من الخير أوفاه، وأن يثبت ذلك ويستمر دائمًا (5) .

مما سبق يتضح أن البركة هي النماء والزيادة من الخير، مع ثبوت هذا الخير واستقراره ودوامه واستمراره عند صاحبه، والله أعلم.

(1) يشير هنا إلى الحديث الذي رواه غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم في سؤالهم النبي صلى الله عليه وسلم كيف يصلون عليه؟ فقال: "قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد

"، أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب 10 (6/407-408) . وكتاب الدعوات، باب الصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم (11/152) . ومسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي (1/305-306) .

(2)

النهاية في غريب الحديث (1/120) .

(3)

سورة المؤمنون: من الآية رقم (14) .

(4)

تهذيب الأسماء واللغات، (القسم الثاني ص 26) .

(5)

فتح الباري (11/162-163) .

ص: 220

ومن الجدير بالذكر - هنا - أن البركة ليس بالضرورة أن تكون دائمًا مقصورة على الشيء الكثير فقط، بل قد تكون في الشيء القليل كما تكون في الشيء الكثير. وهذا ما أشار إليه الحافظ ابن حجر عند حديث حكيم بن حزام (1) الذي جاء فيه: "ومن أخذه - يعني المال - بإشراف نفس لم يبارك فيه، كالذي يأكل ولا يشبع

".

قال الحافظ: فيه ضرب المثل لما لا يعقله السامع من الأمثلة، لأن الغالب من الناس لا يعرف البركة إلا في الشيء الكثير فبين بالمثال المذكور أن البركة هي خلق من خلق الله تعالى، وضرب لهم المثل بما يعهدون (2) .

ومن المهم أن يعلم أيضًا أن البركة قد تكون جلية، وقد تكون خفية، كما قد تكون مثوبة أخروية. فالبركة الجلية: هو ما يشاهد كثيرًا بالعادة من كثرة الخير وسوق الرزق للإنسان، ونمائه عند صاحبه وما يرافق ذلك من توفيق، وتيسير في الحصول على الرزق، ونحوه.

والبركة الخفية: قد تكون بدفع المضرات والجوائح والآفات عن الرزق، وعدم تعرض الإنسان للحوادث المرورية مثلاً أو الأمراض الخطيرة، ونحوه مما يأتي على جانب كبير من رزقه، وقد ذكروا بأن الغنم أو الأنعام إذا أنتجت الإناث فهذا من البركة الخفية لأنها تنمو وتتضاعف، وإذا أنتجت الخراف أو الذكور فهذا من المحق الخفي. والله أعلم (3) .

وأما البركة الأخروية وهو النماء ومضاعفة الأجر في الأعمال الصالحة فهذا واضح ويلحظ ذلك في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. لكن مقصود البحث هو إظهار البركة بقسميها الجلي والخفي دون البركة الأخروية مما اقتضى ذكر التنبيه المثبت في آخر هذا البحث، في (ص83) .

(1) يأتي تخريجه.

(2)

فتح الباري (3/337) .

(3)

قد ألمح لشيءمن هذا المعنى كل من النووي في (شرح مسلم) 16/141، والمباركفوري في (تحفة الأحوذي) 6/177، والمناوي في (فيض القدير) 5/503.

ص: 221

2 -

الرزق: الرزق بالكسر، ما ينتفع به كالمرتَزق، والمطر، والجمع أرزاق، وبالفتح، المصدر الحقيقي (1) .

وقال ابن منظور: الرَّزق بفتح الراء هو المصدر الحقيقي، والرِّزق بالكسر هو الاسم، ويجوز أن يوضع موضع المصدر، قال: والرزق معروف، والأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان كالأقوات، وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم (2) .

وقال الجرجاني: "الرزق اسم لما يسوقه الله إلى الحيوان فيأكله، فيكون متناولاً للحلال والحرام. وعند المعتزلة: عبارة عن مملوك يأكله المالك، فعلى هذا لا يكون الحرام رزقًا (3) ".

لكن قال القرطبي: "الرزق، حقيقته ما يتغذى به الحي، ويكون فيه بقاء روحه ونماء جسده، ولا يجوز أن يكون الرزق بمعنى الملك، لأن البهائم ترزق وليست يصح وصفها بأنها مالكة لعلفها (4) ".

وقال في موضع آخر - عند قوله تعالى -: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (5) : رزقناهم: أي أعطيناهم، والرزق، العطاء، وهو - عند أهل السنة - ما صح الانتفاع به حلالاً كان أو حرامًا (6) .

(1) القاموس المحيط (ر ز ق) 3/235.

(2)

لسان العرب (ر ز ق) 10/115 بتصرف، وانظر أيضًا: النهاية في غريب الحديث (2/219) .

(3)

التعريفات (ص 147) .

(4)

الجامع لأحكام القرآن (9/10) .

(5)

سورة البقرة: من الآية رقم (3) .

(6)

لجامع لأحكام القرآن (1/177) .

ص: 222

قلت: والرِّزق المعنون به هذا البحث، والمستعمل في كل جزئياته إنما هو الرزق الحلال، إذ لا يمكن تصور حصول البركة في الرزق الحرام، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فلئن كان الرزق يشمل - أيضًا - العطايا والمنافع الظاهرة والعطايا الباطنة كما مر، فإن المعوَّل عليه - هنا في هذا البحث - إنما هو الرزق الظاهر، وهو ما يكون بمعنى المال، إذ بين الرزق والمال عموم وخصوص من وجه فكل مال رزق، وليس كل رزق مالاً، لكن يستعمل أحدهما محل الآخر كثيرًا، ولا إشكال في ذلك، وباستقراء الأحاديث الواردة في هذا البحث وما جاء فيها من ذكر البركة، فهي تستعمل مقرونة باللفظين، بل هي مستعملة مقرونة بالرزق أكثر من غيرها، وغالبًا ما يكون الرزق هنا بمعنى المال، وهذا ما دفعني إلى ذكر الرزق في العنوان بدلاً من المال، وإن كان الأمران جائزين، وإذا كان ذلك كذلك فالمال هو: ما ملكته من جميع الأشياء، والجمع أموال، كما قال ابن منظور (1) .

وقال ابن الأثير: "المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم، ثم قال: وقد تكرر ذكر المال على اختلاف مسمياته في الحديث ويفرق فيها بالقرائن (2) ".

وقال عبد السلام العبادي: "المال ما كان له قيمة مادية بين الناس وجاز شرعًا الانتفاع به في حال السعة والاختيار "(3) .

(1) سان العرب (م ول) 11/635.

(2)

لنهاية في غريب الحديث (4/373) .

(3)

الملكية في الشريعة الإسلامية - القسم الأول (ص 179) .

ص: 223

3 -

في ضوء الكتاب والسنة: أي من خلال هدايتهما وما تضمنته نصوصهما من معانٍ يسترشد بها، وما تضفيه تلك النصوص من ظلال عامة، إذ ليس المقصود في هذا البحث استقصاء جميع النصوص المتعلقة بهذا الموضوع، كما أنه لم يكن بالإمكان حصر جميع الأسباب الجالبة للبركة في الرزق واستيعابها على وجه الدقة في مثل هذا البحث، وإن كنت قد أتيت على ذكر معظم الأحاديث التي ذكرت البركة وأسبابها، كما أنني قد حاولت التأصيل لمعظم الأسباب التي تستجلب بها البركة في الأرزاق، وذلك من خلال نصوص الأصلين الأصيلين: القرآن، والسنة، وهدايتها، والله الهادي إلى سواء السبيل.

المطلب الثّاني:

المنهج الّذي سرت عليه في أثناء البحث

إن منهج أي بحث وإن لم يُبرز ويذكر صراحة إلا أنه ليس مثل هذا مما يخفى على أهل الاختصاص، الذين يقرؤون البحث ويعايشونه، بيد أنني سأشير هنا إلى بعض النقاط التي تبرز منهجي في هذا البحث، تاركًا الأمور الأخرى لمن يقرأ هذا البحث ويتتبع جزئياته، فمن الأمور التي سرت عليها في بحثي ما يلي:

1-

قمت بانتقاء الآيات الكريمة، والأحاديث والآثار التي تخدم البحث بشكل واضح ومباشر، وقد أتخطى- أحيانًا - إلى النصوص التي فيها نوع خدمة غير مباشرة لكنها تصلح لتعضيد ودعم ما قصدته من تأصيل بعض المسائل.

2-

قمت في ضوء هذه النصوص بالتأصيل لمسائل البحث العامة وبيان الجزئيات المندرجة تحت كل منها.

3-

وعلى الرغم من قبول الأحاديث الضعيفة القريبة الضعف في مثل هذه الموضوعات بشكل عام إلا أنني حاولت - جاهدًا - اختيار وانتقاء الأحاديث المقبولة من صحيحة وحسنة بقسمي كل منهما، محاولاً البحث عن أقوال العلماء في الحكم على الحديث وبيان درجته خاصة إذا لم يكن الحديث من أحاديث الصحيحين أو أحدهما.

4-

قمت بعزو الآيات القرآنية وذلك ببيان موضع الآية من السورة.

5-

كما قمت بتخريج الأحاديث وبيان مواضعها من كتب السنة الأصلية المعتمدة.

ص: 224

6-

قمت بتتبع أقوال العلماء من مفسرين وشراح للحديث لاختيار ما أراه مناسبًا من أقوالهم لتوظيفها في فهم النصوص وتوجيهها، محاولاً توجيه هذه الأقوال، وبيان ما يستخلص أو يستنتج منها.

7-

قمت بشرح الغريب بالرجوع إلى كتب اللغة أو كتب الغريب.

8-

اكتفيت في أثناء العزو في الهامش بذكر اسم المرجع مختصرًا، وذلك لأنني ذكرت اسم الكتاب كاملاً في (فهرس المراجع) في آخره.

9-

ذكرت الأحاديث الواردة في البحث في فهرس مرتبة على أحرف الهجاء ليسهل الوقوف عليها في البحث، وذلك لأنها أحاديث كثيرة ومختارة، هذا والله أعلم.

المبحث الثّاني:

الأسباب الجالبة للبركة في الرّزق

وهو في عشرة مطالب:

المطلب الأوّل

تقوى الله عز وجل والتّقرّب إليه بالطّاعات

لقد أمر الله سبحانه عباده أن يتقوه حق التقوى، فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1)، ثم بيَّن سبحانه في آية أخرى أن التقوى تكون بحسب الاستطاعة ومقدور الإنسان فقال:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} (2) .

كما تكفَّل سبحانه وتعالى لمن يتقي الله فيما أمره واجتناب ما نهاه عنه بأن ينجيه من كل كرب مما ضاق على الناس، ويرزقه من حيث لا يرجو ولا يخطر بباله، ويقنعه بما رزقه، ويبارك له في رزقه، وتمثَّل هذا بقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (3) .

(1) سورة آل عمران: الآية رقم (102) .

(2)

سورة التغابن: من الآية رقم (16) .

(3)

سورة الطلاق: من الآيتين رقم (2-3) .

ص: 225

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ليس به إلا مخافة الله إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك". علقه كل من ابن جرير (1) ، وابن أبي حاتم (2) عن ابن عباس رضي الله عنهما وعزاه السيوطي (3) إلى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، ولم أقف على من وصله، لكن جاء عند أحمد في غير موضع وبأسانيد عن أبي قتادة وأبي الدهماء رضي الله عنهما قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقال البدوي: أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل يعلمني مما علمه الله تبارك وتعالى وقال: "إنك لن تدع شيئًا اتقاء الله جل وعز إلا أعطاك الله خيرًا منه"(4)، وقال الهيثمي:"رواه أحمد بأسانيد ورجاله رجال الصحيح"(5) .

(1) جامع البيان عن تأويل القرآن (9/85) .

(2)

تفسير القرآن العظيم (7/2330) .

(3)

الدر المنثور في التفسير بالمأثور (4/182) .

(4)

المسند (5/78، 79، 363) ، هذا اللفظ في الموضع الأول، ولفظه في بقية المواضع قريب منه.

(5)

مجمع الزوائد (10/296) .

ص: 226

قلت: والواقع العملي خير شاهد لمثل هذا، ومن هذا ما جاء في قصة يوسف عليه السلام مع امرأة العزيز وامتناعه عن الوقوع في الحرام مع تهيئة جميع أسباب السلامة له، مخافة لله تعالى، وفي قصة الثلاثة الذين أووا إلى غار فانطبق عليهم، وأخذ كل واحد منهم يدعو الله بصالح عمله، وكان واحد منهم يحب ابنة عم له حباً شديدًا ويراودها عن نفسها مرارًا فتمتنع، ثم ألجأتها الحاجة إلى إجابته فلما أمكنته من نفسها وقعد بين رجليها، قالت له: اتق الله

فانصرف عنها وهي أحب الناس إليه

مخافة لله، ولا يخفى ما آل إليه أمر يوسف عليه السلام في الدنيا والآخرة من النعيم والكرامة والتمكين كما لا يخفى ما حصل لهذا المنصرف عن الفاحشة مع قدرته عليها مخافة لله تعالى من الفرج في الدنيا وانكشاف الشدة عنه وعن أصحابه الذين كانت لهم أعمال صالحة أيضًا (1) ، والله أعلم.

كما جاء عند مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه يرفعه: "إن الكافر إذا عمل حسنة أطعم بها طعمة من الدنيا، وأما المؤمن فإن الله يدَّخر حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقًا في الدنيا على طاعته"(2) .

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (3) .

(1) انظر قصة هؤلاء الثلاثة في صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب إذا اشترى شيئًا لغيره (4/408) ، وباب من استأجر أجيرًا (4/449) ، وكتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار (6/505-506) .

(2)

الصحيح، كتاب المنافقين، باب جزاء المؤمن بحسناته في الدنيا والآخرة (4/2162) .

(3)

سورة المائدة: الآية رقم (66) .

ص: 227

.. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (1)، وقال أيضًا:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} (2) .

في هذه الآيات الكريمات الإشارة بأن التقوى لله عز وجل واتباع كل ما جاء على ألسنة الأنبياء والمرسلين من عمل بالأوامر واجتناب للنواهي، ومنها الأمر لأهل الكتاب باتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لأن كتبهم قاضية بذلك، آمرة به، كل ذلك سبب في نزول بركات السماء من الأمطار الغزيرة وإخراج بركات الأرض، وسعة الرزق والأكل المتواصل منه مع وجود البركات فيه (3) .

قال القرطبي: "ونظير هذا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (4) .

(1) سورة الأعراف: من الآية رقم (96) .

(2)

سورة الجن: الآية رقم (16) .

(3)

جامع البيان عن تفسير القرآن (10/462-463) ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير (2/105) .

(4)

الجامع لأحكام القرآن (6/229) .

ص: 228

ولما كانت الفرائض التي فرضها الله - تعالى - على عباده هي أحب الأعمال إليه تعالى، فلذلك كان أداؤها أحب شئ إليه تعالى وأشد تقربًا منه، كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري (1) وحديث عائشة رضي الله عنها عند أحمد (2) من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وما تقرَّب إليَّ عبدي بشئ أحبَّ إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه" الحديث. اللفظ للبخاري، ولفظ أحمد بنحوه، وقال الهيثمي بعد عزو الحديث لأحمد: فيه عبد الواحد بن قيس بن عروة، وثقه أبو زرعة والعجلي وابن معين في إحدى الروايتين،

وبقية رجاله رجال الصحيح (3) .

ومن أبرز الفرائض والعبادات التي تقرب العبد بعد إيمانه وتقواه إلى مولاه، ويستجلب بها خيري الدنيا والآخرة، البركة في الرزق والسعادة والحبور في الحياة وبعد الممات، على سبيل المثال:(الصلاة، الحج والعمرة، الزكاة، والصدقات، وصلة الأرحام) .

1 -

الصلاة:

قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (4) . وقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} (5) .

(1) الجامع الصحيح، كتاب الرقاق، باب التواضع (11/340-341) .

(2)

المسند (6/256) .

(3)

مجمع الزوائد (2/247) .

(4)

سورة البقرة: الآية رقم (153) .

(5)

سورة العنكبوت: من الآية رقم (45) .

ص: 229

وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُون، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (1) . وقال تعالى أيضًا: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (2) .

قال الحافظ ابن كثير: " قوله: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ} يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} (3) ، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُون} (4) " أه.

(1) سورة الذاريات: من الآيات رقم (56-58) .

(2)

سورة طه: الآية رقم (132) .

(3)

سورة الطلاق: من الآيتين رقم (2-3) .

(4)

سورة الذاريات: آية رقم 56، وانظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/230) .

ص: 230

وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه (1) أمر صلَّى كما جاء عند أبي داود (2) ، وأحمد (3)، ومن طريق أحمد رواه أبو نعيم (4) من حديث حذيفة رضي الله عنه سكت عليه أبو داود. وقال المنذري (5) : وذكر بعضهم أنه مرسل. وقد ذكر المزي (6) الروايات المسندة والروايات المرسلة ولم يرجح، لكن أفاد ابن حجر (7) أن بعضهم ذكر عبد العزيز ابن أخي حذيفة في الصحابة على أنه أخو حذيفة بن اليمان فروى حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم وصوب أبو نعيم وتبعه ابن حجر بأنه ابن أخي حذيفة كما جاء عند أحمد وأبي داود. وقد اكتفى ابن القيم بعزو الحديث إلى المسند فقط ساكتًا عليه (8) .

قلت: والحديث قابل للتحسين، وقد حسنه الألباني (9) .

وقد جاء عند الترمذي (10) ، وابن ماجه (11)، وأحمد (12) في الحديث القدسي المرفوع:"إن الله سبحانه يقول: يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنىً وأسدُّ فقرك، وإن لا تفعل ملأت يديك شغلاً ولم أسُدَّ فقرك" وحسنه الترمذي، واللفظ له، وقريب منه لفظ أحمد وابن ماجه فجاء فيهما لفظ "ملأت صدرك" بدلاً من "يديك"، وقال الألباني: صحيح (13) .

(1) حزبه أمر: أي نزل به مهم أو أصابه غم. النهاية في غريب الحديث (1/377) .

(2)

السنن، كتاب الصلاة، باب أي الليل أفضل (2/35) .

(3)

المسند (5/388) .

(4)

معرفة الصحابة (4/1881) .

(5)

مختصر سنن أبي داود (2/94) .

(6)

تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف (3/50) .

(7)

الإصابة (3/157) .

(8)

زاد المعاد (4/199) .

(9)

صحيح سنن أبي داود (1/245) .

(10)

الجامع، كتاب صفة القيامة، باب منه (7/166) .

(11)

السنن، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا (2/1376) .

(12)

المسند (2/358) .

(13)

صحيح سنن ابن ماجه (2/393) .

ص: 231

وعند الترمذي (1) أيضًا من حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلَاّ ما قدر له"، وقال الألباني صحيح (2) .

وعند ابن ماجة (3) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعًا بنحو حديث أنس السابق. وقال البوصيري (4) : إسناده صحيح رجاله ثقات، وقال الألباني - أيضًا -: صحيح (5) .

وأحسن ابن قيم الجوزية إذ قال: "الصلاة من أكبر العون على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة، وهي منهاة عن الإثم، ودافعة لأدواء القلوب، ومطردة للداء عن الجسد، ومنوِّرة للقلب، ومبيِّضة للوجه، ومنشطة للجوارح والنفس، وجالبة للرزق، ودافعة للظلم، وناصرة للمظلوم، وقامعة لأخلاط الشهوات، وحافظة للنعمة، ودافعة للنقمة، ومنزلة للرحمة، وكاشفة للغمة"(6) أه.

وقال المناوي: "الصلاة معينة على دفع جميع النوائب بإعانة الخالق الذي قصد بها الإقبال عليه والتقرب إليه فمن أقبل بها على مولاه حاطه وكفاه لإعراضه عن كل ما سواه، وذلك شأن كل كبير في حق من أقبل بكليته عليه"(7) .

2 -

الحج والعمرة:

(1) الجامع، كتاب صفة القيامة، باب منه، (7/165) .

(2)

صحيح سنن الترمذي (2/300) .

(3)

السنن، كتاب الزهد، باب الهم بالدنيا (2/1375) .

(4)

مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة (3/271) .

(5)

صحيح سنن ابن ماجه (2/393) .

(6)

زاد المعاد في هدي خير العباد (4/209) .

(7)

فيض القدير (5/120) .

ص: 232

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن المتابعة بين الحج والعمرة يسبب الغنى، ويطرد الفقر، فقد جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه وغيره عند كل من الترمذي (1) ، والنسائي (2) وابن ماجه (3)(لكن عند هذا الأخير من حديث عمر رضي الله عنه) ، وأحمد (4)، أنه قال صلى الله عليه وسلم:"تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، كما ينفي الكير خبث الحديد، والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب من حديث عبد الله بن مسعود، وفي الباب عن عمر وعامر بن ربيعة وأبي هريرة وعبد الله بن حبشي وأم سلمة، قلت: وهذا اللفظ للترمذي وأحمد في الموضع الأول، وعند النسائي قريبًا من هذا اللفظ، وعند ابن ماجه نحوه.

قال المباركفوري قوله: "ينفيان الفقر" يحتمل الفقر الظاهر بحصول غنى اليد، والفقر الباطن بحصول غنى القلب (5) .

3 -

الزكاة وما يتبعها من صدقات وصلة أرحام:

أما الزكاة فقد جعلها سبحانه وتعالى طهرة للمال ولصاحبه وقيد النعمة بها على الأغنياء الموسرين فما زالت النعمة بالمال على من أدى زكاة ماله، فيحفظه الله عليه وينميه له، ويدفع عنه بها الآفات والمهلكات، ويجعلها سورًا عليه وحصنًا منيعًا وحارسًا أمينًا له.

(1) الجامع، كتاب الحج، باب ما جاء في ثواب الحج (3/538) .

(2)

السنن، كتاب الحج، باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة (5/115) .

(3)

السنن، كتاب المناسك، باب فضل الحج والعمرة (2/964) .

(4)

المسند (1/387) ، (3/446) ، (3/447) .

(5)

تحفة الأحوذي (3/539) .

ص: 233

ولهذا قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (1) . وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما المرفوع عند كل من أبي داود (2) ، والحاكم (3)، والبيهقي (4) : لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (5)، قال: كبر ذلك على المسلمين، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم". هذا لفظ أبي داود، وهو عند الحاكم، والبيهقي بنحوه، وقال الحاكم عقبه: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

قلت: والحديث عند أبي داود بسند متصل، رجاله ثقات لا مطعن في واحد منهم، ما خلا جعفر بن إياس (أبو بِشْر) فإنه وإن وثقه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، والعجلي، والنسائي، والبرديجي، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وقد احتج به الجماعة، إلا أن شعبة قال حديثه عن مجاهد من صحيفة - يعني أنه لم يسمع منه - وحديثه هنا هو من روايته عن مجاهد عن ابن عباس (6) ، فالله أعلم.

وقال تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} (7) .

قال القرطبي: "في معناه قولان: أحدهما: أنه تضاعف لهم الحسنات، والآخر: أنهم قد أضعف لهم الخير والنعيم أي هم أصحاب أضعاف"(8) .

(1) سورة التوبة: الآية رقم (103) .

(2)

السنن، كتاب الزكاة، باب في حقوق المال (2/126) .

(3)

المستدرك (1/409) .

(4)

السنن الكبرى (4/83) .

(5)

سورة التوبة: الآية رقم (34) .

(6)

تهذيب التهذيب (2/83-84) ، هدي الساري (ص 395) .

(7)

سورة الروم: الآية رقم (39) .

(8)

الجامع لأحكام القرآن (14/41) .

ص: 234

وأما صدقات التطوع والإنفاق وصلة الأرحام: - وقد يدخل (أحيانًا) في مفهومها الصدقة الواجبة - فقد اهتم الإسلام بها اهتمامًا كبيرًا، وقد كان سيد البشر صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة بما يملك، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وكان سروره بما يعطيه أعظم من سرور من يأخذ منه بما أخذ، وكان يؤثر على نفسه، هذا كله مع تنويع أساليب العطاء بحسب الحالات، وظروف من يعطيهم، وهكذا علَّم أصحابه وبهذا أمرهم وكان يدعو للمتصدق منهم، فتحصل لهم البركة بما أنفقوا وبما أصابهم من بركات دعائه صلى الله عليه وسلم.

والآيات والأحاديث التي تبين أن الصدقة والإنفاق سبب في جلب الرزق وحصول البركة ودوام النعمة كثيرة، ومن ذلك قوله تعالى:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (1) . قوله: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} : أي ينميها في الدنيا بالبركة، ويكثر ثوابها بالتضعيف في الآخرة (2) .

وقال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (3) . أي أن الشيطان يعد الإنسان ويمنيه بالفقر وفقد الأموال، وذلك بتأدية الزكاة ويأمره بالمعاصي وترك الطاعات.

بينما الله- عز وجل يعد المؤمنين بغفران ذنوبهم وسترها بتأدية الصدقة، كما يعدهم أن يخلف عليهم فيتفضل عليهم من عطاياه ويسبغ عليهم في أرزاقهم (4) .

وقال ابن عطية في معنى قوله: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} المغفرة، هي الستر على عباده في الدنيا والآخرة، والفضل، هو الرزق في الدنيا والتوسعة فيه والنعيم في الآخرة (5) .

(1) سورة البقرة: الآية رقم (276) .

(2)

الجامع لأحكام القرآن (3/362) .

(3)

سورة البقرة: الآية رقم (268) .

(4)

جامع البيان عن تأويل القرآن (5/571) بتصرف.

(5)

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/454) .

ص: 235

وقال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (1) . قال القرطبي: "هذه إشارة إلى أن الخلف في الدنيا بمثل المنفق فيها إذا كانت النفقة في طاعة الله، والله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى ولا تتناهى"(2) .

وقال ابن كثير: "يخلفه عليكم بالبدل، وفي الآخرة بالجزاء والثواب (3) . ومن الأحاديث التي بهذا المعنى ما جاء عند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم أنفق أُنفق عليك" (4) ، وفي الحديث الآخر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قال لي: أنفق أُنفقُ عليك" (5) .

وروى البخاري (6) ، ومسلم (7)، وأحمد (8) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكًا تلفًا"، هذا لفظ البخاري ومسلم، وهو عند أحمد بنحوه.

ذكر ابن حجر أن الحديث فيه الترغيب في الإنفاق في وجوه البر، وأن ذلك موعود عليه بالخلف في العاجل بالزيادة وفي الآجل بالثواب (9) .

وقال النووي: "الإنفاق الممدوح هنا ما كان في الطاعات وعلى العيال والضيفان والتطوعات"(10) .

وقال القرطبي: "وهو يعم الواجبات والمندوبات"(11) .

(1) سورة سبأ: الآية رقم (39) .

(2)

الجامع لأحكام القرآن (14/295) .

(3)

تفسير القرآن العظيم (3/715) .

(4)

الصحيح، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف (2/690-691) .

(5)

المصدر السابق.

(6)

الصحيح، كتاب الزكاة باب قول الله تعالى: (فأما من أعطى واتقى

) (3/304) .

(7)

الصحيح، كتاب الزكاة، باب في المنفق والممسك (2/700) .

(8)

المسند (2/305-306) .

(9)

فتح الباري (3/304-305) بتصرف.

(10)

فتح الباري (3/305) .

(11)

فتح الباري (3/305) .

ص: 236

وعن أبي هريرة رضي الله عنه وغيره مرفوعًا، وفيه لفظ:"أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً" عند كل من البزار (1) ، والطبراني (2) ، وأبي نعيم (3) ، والبيهقي في الشعب (4) ، وعند بعضهم من حديث بلال وابن مسعود بنحوه أيضا.

وقال البزار عقب حديث أبي هريرة: لا نعلم أحداً رواه عن يونس إلا مبارك، وقال عقب حديث بلال: مرسل. وقال الهيثمي: "إسناد البزار والطبراني حسن"(5) .

وقد أطلق العراقي (6) أن الحديث ضعيف من جميع طرقه، لكن قال ابن حجر عقب حديث أبي هريرة: إسناده حسن (7) .

(1) البحر الزخار، الأحاديث (1366، 1978) ، وانظر كشف الأستار عن زوائد البزار (4/250-251) .

(2)

المعجم الكبير، الأحاديث (1020، 1021، 1025، 1026) .

(3)

الحلية (1/149) ، (6/274) .

(4)

شعب الإيمان (2/118) .

(5)

مجمع الزوائد (10/241) .

(6)

المغني عن حمل الأسفار حديث (4092)، وانظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير (3/61) .

(7)

مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد (2/494) .

ص: 237

وحديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما عند كل من البخاري (1) ، ومسلم (2) ، وأبي داود (3) ، والترمذي (4) ، والنسائي (5) ، وأحمد (6) ، وعبد الرزاق (7)، والبيهقي (8) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها:"أنفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك". هذا لفظ عند البخاري ومسلم وأحمد إلا أنه قال عند مسلم "انفحي أو انضحي أو أنفقي ولا تحصي

" وعند هؤلاء - أيضًا - وعند الآخرين بنحوه، وقد اقتصر بعضهم على الشطر الأول فقط أو الشطر الثاني من الحديث.

قال النووي: "ولا تحصي

" معناه: يمنعك كما منعت ويقتر عليك كما قترت، ويمسك فضله عنك كما أمسكته، وقيل معنى لا تحصي: أي لا تعديه فتستكثريه فيكون سببًا لانقطاع إنفاقك (9) .

وقال ابن حجر: "النهي عن منع الصدقة خشية النفاد، فإن ذلك أعظم الأسباب لقطع مادة البركة، لأن الله يثيب على العطاء بغير حساب، ومن لا يحاسب عند الجزاء لا يحسب عليه عند العطاء، ومن علم أن الله يرزقه من حيث لا يحتسب فحقه أن يعطي ولا يحسب، والإحصاء عد الشيء لأن يدخر ولا ينفق منه، وأحصاه الله قطع البركة عنه، أو حبس مادة الرزق أو المحاسبة عليه في الآخرة (10) ".

وقال السندي: لا تمنعي ما في يدك فيشدد الله عليك أبواب الرزق، وفيه أن السخاء يفتح أبواب الرزق والبخل بخلافه (11) .

(1) الصحيح كتاب الزكاة، باب التحريض على الصدقة (3/299-300) ، وباب الصدقة فيما استطاع (3/301) ، وكتاب الهبة، باب هبة المرأة لغير زوجها (5/217) .

(2)

الصحيح، كتاب الزكاة، باب الحث على الإنفاق وكراهة الإحصاء (2/713) .

(3)

السنن، كتاب الزكاة، باب في الشح (2/134) .

(4)

الجامع، كتاب البر، باب ما جاء في السخاء (6/94) .

(5)

السنن، كتاب الزكاة، باب الإحصاء في الصدقة (5/74) .

(6)

المسند (6/344، 345، 346) .

(7)

المصنف (11/108) .

(8)

السنن الكبرى (4/187) .

(9)

شرح صحيح مسلم (7/119) .

(10)

فتح الباري (3/301) .

(11)

حاشية السندي على سنن النسائي (5/74-75) .

ص: 238

وقال المباركفوري: "دل الحديث على أن الصدقة تنمي المال وتكون سببًا إلى البركة والزيادة فيه، وأن من شح ولم يتصدق فإن الله يوكي عليه ويمنعه من البركة في ماله والنماء فيه"(1) .

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا عند كل من مسلم (2) ، والترمذي (3) ، والدارمي (4)، وأحمد (5) بلفظ:"ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". قال الترمذي: حديث حسن صحيح.

قلت: هذا لفظ مسلم، والترمذي والدارمي، ولفظ أحمد بنحوه.

معنى "ما نقصت صدقة من مال" أي ما نقصت صدقة مالاً، أو بعض مال، أو شيئًا من مال، بل تزيد أضعاف ما يعطي منه بأن ينجبر بالبركة الخفية وذلك بدفع المضرات، أو بالعطية الجلية، أو بالمثوبة العلية (6) .

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا عند كل من البخاري (7)، ومسلم (8) وغيرهما:"مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جُبتان، (وفي لفظ جُنتان) من حديد من ثُدَيِّهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت - أو وفرت - على جلده حتى تخفي بنانه، وتعفو أثره، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كل حلقه مكانها، فهو يوسِّعها ولا تتسع". هذا لفظ البخاري، وهو عند مسلم بنحوه.

(1) تحفة الأحوذي شرح جامع الترمذي (6/94) .

(2)

الصحيح، كتاب البر والصلة، باب استحباب العفو والتواضع (4/2001) .

(3)

الجامع، كتاب البر، باب ما جاء في التواضع (6/177) .

(4)

السنن (1/333) .

(5)

المسند (2/235) .

(6)

انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (6/177) .

(7)

الصحيح، كتاب الزكاة، باب مثل المتصدق والبخيل (3/305) ، وكتاب الجهاد، باب ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم (6/99) ، وكتاب الطلاق، باب الإشارة في الطلاق (9/437) ، وكتاب اللباس، باب جيب القميص (10/267) .

(8)

الصحيح، كتاب الزكاة، باب مثل المنفق والبخيل (2/708-709) .

ص: 239

فبين الحديث أن المنفق يستره الله تعالى بنفقته ويستر عوراته في الدنيا والآخرة، وينمي ماله بالصدقة والإنفاق، كستر هذه الجبة وضفائها على لابسها، وأما البخيل فهو كمن لبس جبة إلى ثدييه فقط فيبقى مكشوفًا بادي العورة مفتضحًا في الدنيا والآخرة وذلك بمحق ماله في الدنيا وحسناته في الآخرة (1) .

ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن الدعاء للمتصدق وباذل المال له أهمية كبيرة في حصول النماء والبركة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لمن يدفع الزكاة، أو الصدقات ويأمر عماله بأن يدعوا لمن يبذل المال كذلك، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة.

فقد قال عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم، قال:"اللهم صلِّ عليهم". فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته فقال: "اللهم صلِّ على آل أبي أوفى"(2) . يريد هنا الدعاء له. ويقول أحيانًا: "اللهم بارك فيه وفي إبله"(3) إذا كانت الصدقة إبلاً، وهكذا.

وأما صلة الرحم: فقد أمر الله تعالى بصلة الأرحام وهي الإحسان إلى الأقارب في المقال والأفعال وبذل الأموال، وأكد على ذلك الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وبين أن في صلة الأرحام خيرات كثيرات، من زيادة في العمر، وفي الرزق، والذكر الجميل، والدرجات الرفيعة في الآخرة بفضل الله تعالى ومنِّه وكرمه. ودليل ذلك قوله تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (4) .

(1) شرح صحيح مسلم (7/109) بتصرف.

(2)

انظر: صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة (3/286) . وصحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بصدقته (2/756-757) .

(3)

سنن النسائي، كتاب الزكاة، باب الجمع بين المتفرق (5/30) .

(4)

سورة محمد: الآيتان رقم (22-23) .

ص: 240

.. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري (1) ومسلم (2) وغيرهما مرفوعًا بطرق وألفاظ عديدة: "خلق الله الخلق فلما فرغ منه، قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن، فقال له: مه، قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك? قالت: بلى يا رب، قال: فذاك". قال أبو هريرة: فاقرأوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} . هذا لفظ البخاري، وعند مسلم بنحوه مختصر.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري (3)، وحديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم (4) مرفوعًا ولفظه:"إن الرحم شجنة من الرحمن فقال الله: من وصلك وصلته ومن قطعك قطعته". هذا لفظ البخاري، وعند مسلم بنحوه.

وحديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عند الترمذي (5)، مرفوعا قال الله تبارك وتعالى:"أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتتُّه". وقال الترمذي: حديث صحيح.

(1) الصحيح، كتاب التفسير باب (وتقطعوا أرحامكم)(8/579) ، وكتاب الأدب، باب من وصل وصله الله (10/417) ، وكتاب التوحيد، باب قول الله تعالى (يريدون أن يبدلوا كلام الله)(13/465) .

(2)

الصحيح، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (4/1981) .

(3)

الصحيح، كتاب الأدب، باب من وصل وصله الله (10/417) .

(4)

الصحيح، كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (4/1981) .

(5)

الجامع، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في قطيعة الرحم (6/33) .

ص: 241

وحديث عبد الله بن عمرو عند كل من البخاري (1) والترمذي (2)، مرفوعًا بلفظ:"ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قُطِعَتْ رحمُه وصلها"، هذا لفظ البخاري، والترمذي مثله إلا أنه قال:"انقطعت رحمه" بدلاً من "قطعت رحمه". وقال الترمذي عقبه: حديث حسن صحيح، وفي الباب عن سلمان وعائشة.

ومن الأحاديث التي جاء فيها أن صلة الرحم من الأسباب الجالبة للرزق والبركة ما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من سرَّه أن يبسط له في رزقه أو ينسأ له في أثره فليصل رحمه". وفي لفظ: "من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه". عند كل من البخاري (3) ، ومسلم (4) ، وهو عند أبي داود (5) بنحوه.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع عند كل من الترمذي (6) ، وأحمد (7) ، والحاكم (8)، وغيرهم وفيه:"تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر". وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه، وقال الحاكم: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وقد أخرجه الطبراني (9) بنحوه من حديث العلاء بن خارجة مرفوعًا. وقال الهيثمي (10) بعد أن عزاه للطبراني في الكبير: رجاله موثقون.

(1) الصحيح، كتاب الأدب، باب ليس الواصل بالمكافئ (10/423) .

(2)

الجامع، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في صلة الرحم (6/35) .

(3)

الصحيح، كتاب البيوع، باب من أحب البسط في الرزق (4/301) ، وفي كتاب الأدب، باب من بسط له في الرزق بصلة الرحم (10/415) .

(4)

الصحيح، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم (4/1983) .

(5)

السنن، كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم (2/132-133) .

(6)

الجامع، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في تعليم النسب (6/113) .

(7)

المسند (2/374) .

(8)

المستدرك (4/161) .

(9)

المعجم الكبير (18/98) .

(10)

مجمع الزوائد (1/193) ، و (8/152) .

ص: 242

.. مما سبق - ومن خلال إمعان النظر في أقوال العلماء شراح الأحاديث - يمكن الخروج بما يأتي:

1 - تأكيد صلة الرحم وأن الله تعالى اشتق اسمها من اسمه عز وجل وأنه أنزلها في جواره، وفي حمايته، وجار الله عز وجل غير مخذول.

2 - تحريم قطيعة الرحم، وأن القاطع لها مقطوع من رحمة الله سبحانه وعظيم إحسانه، مخذول دنيا وآخرة.

3 - الرحم التي أمر الله بوصلها رحم عامة وخاصة، فالعامة رحم الدين وتجب مواصلتها بالتوادد والتناصح والعدل والإنصاف والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة.

وأما الرحم الخاصة فتزيد على الرحم العامة، النفقة على الأقرباء وتفقد أحوالهم، والتغافل عن زلاتهم، وقضاء حوائجهم، ودفع الضرر عنهم والبشاشة والدعاء لهم، إذا كانوا من أهل الاستقامة والصلاح، فإن كانوا عصاة فساقًا، فمقاطعتهم بعد بذل الوسع في نصحهم هو صلتهم، مع الدعاء لهم بالهداية بظهر الغيب.

4 - أما فائدة صلة الرحم وهذا هو بيت القصيد هنا، فهي أن الواصل، لا يزال موصولاً بالإحسان العظيم من الرحمن الرحيم، وبحصول الرزق ودفع الضر، وتوالي البركات، والتوفيق في الحياة، والسرور والحبور بعد الممات. وهذا يدرك كثيرًا بالحس والمشاهدة، ويتحدث الناس به ويعرفونه. وقد سبق حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما بأن الواصل، يبسط له في رزقه.

قال النووي: "بسط الرزق: توسيعه وكثرته، وقيل: البركة فيه (1) ". وقال الحافظ ابن حجر: قال العلماء: معنى البسط في الرزق البركة فيه، لأن صلة أقاربه صدقة، والصدقة تربي المال وتزيد فيه فينمو بها ويزكو (2) .

هذا فيما يتعلق بحصول البركة في الرزق وأما الفوائد الأخرى فهي كثيرة وليس هنا محل ذكرها.

(1) شرح صحيح مسلم (16/114) .

(2)

فتح الباري (4/303) .

ص: 243

المطلب الثّاني:

التّوكُّل على الله سبحانه وتعالى مع الأخذ بالأسباب

حقيقة التوكّل هو اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولابد - مع هذا الاعتماد واليقين - من مباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرًا وشرعًا، وتعطيل هذه الأسباب يعد قادحًا في نفس التوكل معطلاً للحكمة والشرع (1) .

ويأتي التوكل بعد حصول التقوى كأثر من آثارها ولازم من لوازمها، ولذا قال تعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (2)، وقال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (3) .

فهكذا جعل الله تعالى - في هاتين الآيتين - التوكل بعد التقوى الذي هو قيام الأسباب المأمور بها، فحينئذ إن توكل على الله فهو حسبه وكافيه.

قال القرطبي: "التوكل هو: الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من مطعم ومشرب، وتحرز من عدو وإعداد

" (4) أه. وقال الإمام القشيري: "اعلم أن التوكل محله القلب، وأما الحركة بالظاهر فلا تنافي التوكل بالقلب، بعدما يحقق العبد أن الرزق من قبل الله تعالى، فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن تيسًّر شيء فبتيسيره" (5) .

(1) زاد المعاد (4/15) بتصرف.

(2)

سورة المائدة: الآية رقم (11) .

(3)

سورة الطلاق: الآيتان رقم (2-3) .

(4)

الجامع لأحكام القرآن (4/200) .

(5)

الجامع لأحكام القرآن (7/9) .

ص: 244

وقد ذكر الله تعالى موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه عندما خوفهم بعض الناس - كيدًا بهم - عدوَّهم قريشًا ومن معهم بأنهم قد جمعوا لهم إذ قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (1) . فهكذا خوفهم بعض الناس من عدوهم مشركي مكة ومن معهم فما كان من المؤمنين إلا أن قالوا: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ، توكلوا على الله بعد الأخذ بالأسباب فكفاهم الله ما أهمهم ورد عنهم بأس من أراد كيدهم من المشركين عقب أحُد فانقلبوا بنعمة السلامة، وزيادة من فضل الله مما شروا وتجروا من السوق فربحوا (2) .

(1) سورة آل عمران: الآيتان رقم (173-174) .

(2)

انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/572) باختصار شديد.

ص: 245

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين على ربه، يأمر بالتوكل على الله والانقطاع إليه بعد الأخذ بالأسباب في كل الأحوال، وتصديق ذلك من سنته صلى الله عليه وسلم ما جاء في حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤونة، ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها". أخرجه الطبراني في الأوسط (1) والصغير (2) ومن طريقه أبو بكر الخطيب (3) ، وأخرجه أيضًا البيهقي (4) ، وابن أبي حاتم (5)، بهذا اللفظ وقال الطبراني عقبه في الصغير: لم يروه عن هشام بن حسان إلا الفضيل بن عياض، تفرد به إبراهيم بن الأشعث الخراساني. وقال الهيثمي (6) بعد أن عزاه للطبراني في الأوسط: فيه إبراهيم بن الأشعث صاحب الفضيل، وهو ضعيف، وقد ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يُغرب ويخطئ ويخالف، وبقية رجاله ثقات.

قلت: ويشهد لهذا الحديث ما ذكر بعده من أحاديث كما يشهد له ظاهر القرآن، والله أعلم.

(1) المعجم الأوسط (4/215-216) .

(2)

المعجم الصغير (1/116) .

(3)

تاريخ بغداد (7/196) .

(4)

شعب الإيمان (2/28، 120) .

(5)

تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (10/3660) .

(6)

مجمع الزوائد (10/303-304) .

ص: 246

وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا عند كل من: أبي داود (1) ، والترمذي (2) ، وأحمد (3) ، والطبراني (4)، والحاكم (5) بلفظ:"من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل"، وفي لفظ آخر:"من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنًا من أن لا تسهل حاجته، ومن أنزلها بالله آتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل". اللفظ الأول للترمذي، واللفظ الآخر لأحمد، والباقون بنحوه عندهما. وقال الترمذي بعده:"حديث حسن صحيح غريب". وقال الحاكم عقبه: "حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.

فبين في هذا الحديث أن من حصل له حاجة شديدة من فقر أو ضيق معيشة فعرضها على الناس وأظهرها بطريق الشكاية لهم، وطلب إزالة فاقته منهم لم تسدَّ فاقته ولم تقض حاجته، وهكذا كلما سد حاجة أصابته أخرى أشد منها. لكن إذا أنزلها بالله واعتمد على مولاه فإن الله يعجل له ويسرع برزق عاجل أي يسار وغنى، أو بموت قريب له غني فيرثه (6) .

(1) السنن، كتاب الزكاة، باب في الاستعفاف (2/122) .

(2)

الجامع. كتاب الفتن،، باب ما جاء في هم الدنيا (6/617-618) .

(3)

المسند (1/389، 442) .

(4)

المعجم الكبير (10/15) .

(5)

المستدرك (1/408) .

(6)

انظر: تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي (6/618-619) بتصرف.

ص: 247

.. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يومًا، فقال: يا غلام إني أعلِّمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فأسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أنَّ الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفَّت الصحف" أخرجه الترمذي (1) وأحمد (2) وهذا اللفظ للترمذي، ولفظ أحمد قريب منه، وقال الترمذي بعده: حديث حسن صحيح.

كما ذكر الترمذي بعده بنفس الباب حديث أنس رضي الله عنه: أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: "اعقلها وتوكل" يريد ناقته. وقال الترمذي عقبه: "حديث غريب من حديث، أنس لا نعرفه إلا من هذا الوجه".

وعن حبة وسواء ابني خالد رضي الله عنهما قالا: دخلنا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعالج شيئا، فأعناه عليه، فقال:"لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما، فإن الإنسان تلده أمه أحمر، ليس عليه قشر، ثم يرزقه الله عز وجل" عند كل من: إبن ماجه (3) ، وابن حبان (4) ، وأحمد (5) ، والطبراني (6)، واللفظ عندهم إلا ابن حبان فهو عنده بنحوه. وقال البوصيري (7) :"إسناد حديثهما صحيح رجاله ثقات"، لكن قال ابن حجر (8) :"روى الحديث ابن ماجه بإسناد حسن".

(1) الجامع، كتاب القيامة، باب منه (7/219-220) .

(2)

المسند (1/293، 307) .

(3)

السنن، كتاب الزهد، باب التوكل واليقين (2/1394) .

(4)

الصحيح (الإحسان)(8/34) رقم (3242) ولفظ ابن حبان: (لا تنافسا في الرزق ما هزت رؤوسكما

) .

(5)

المسند (3/469) .

(6)

المعجم الكبير (4/7-8) .

(7)

مصباح الزجاجة (3/284) .

(8)

الإصابة (1/304) ترجمة حبة بن خالد.

ص: 248

قلت: والقلب إلى تحسينه أميل، وذلك لأن سلَاّم (1) بن شرحبيل أحد رواته مقبول عند الحافظ ابن حجر، ولم يوثقه سوى ابن حبان، لكنه من التابعين الذين لم يعرفوا بكبير رواية ولم يشتهروا فتقادم العهد بهم، وصعب الاطلاع على حالهم فأجاز العلماء روايتهم واحتملوها.

وروى الترمذي (2) ، وابن ماجه (3) ، وأحمد (4)، والحاكم (5) حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: "لو أنكم توكلتم على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو (6) خماصا (7) ، وتروح (8) بطانا (9) ". هذا لفظ ابن ماجه وأحمد في الموضع الثاني، وكذا الحاكم، وعند الترمذي وأحمد في الموضع الأول "لو أنكم كنتم توكلون" والباقي بنحوه. وقال الترمذي عقبه:"هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وقال الحاكم:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ولم يتعقبه الذهبي.

وهكذا يتضح مما سبق أن التوكل والانقطاع إلى الله سبب في حصول الرزق والبركة فيه وقضاء الحاجات، ورفع الحرج والضيق بإذن الله تعالى.

المطلب الثّالث: التّسمية في كلّ الأحوال

(1) انظر ترجمة سلام هذا في التهذيب (4/285) ، تقريب التهذيب (ص 261) .

(2)

الجامع، كتاب الزهد، باب ما جاء في الزهادة في الدنيا (7/8) .

(3)

السنن، كتاب الزهد، باب التوكل واليقين (2/1394) .

(4)

المسند (1/30، 52) .

(5)

المستدرك (4/318) .

(6)

الغدو: هو: السير أول النهار نقيض الرواح. النهاية في غريب الحديث (3/346) .

(7)

خماصًا: أي ضامرة البطون جياعًا. النهاية في غريب الحديث (2/80) .

(8)

تروح: من الرواح آخر النهار. النهاية في غريب الحديث (2/272) بتصرف.

(9)

بطانًا: أي ممتلئة البطون. النهاية في غريب الحديث (1/136) .

ص: 249

التسمية، والذكر والدعاء، والشكر، والتوبة، والاستغفار، وإن كانت هذه العبادات تبدو متداخلة من حيث الظاهر ويمكن أن تندرج جميعها تحت مسمَّى الذكر، إلا أنها في الحقيقة تجتمع وتفترق، وفي كلٍّ منها معنىً زائد على باقيها فيما يتعلق بموضوع البحث، لذا رأيت أن أفرد كل نوع منها على حدة.

فأما التسمية: فقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يذكر اسم الله تعالى ويسمي في كثير من الأحيان، ويأمر أصحابه بذلك وذلك لما يحصل من ذكر اسم الله تعالى من البركة، وطرد الشيطان ومنع مشاركته الإنسان إلا فيما لم يذكر اسم الله تعالى عليه.

قال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَاّ غُرُوراً} (1) .

فسَّر بعض العلماء المشاركة هنا بأشياء كثيرة: منها مشاركة الشيطان للمجامع زوجته إذا لم يذكر اسم الله تعالى فقد جاء عند البخاري (2) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أما إن أحدكم إذا أتى أهله وقال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فرزقا ولدًا، لم يضره الشيطان".

(1) سورة الإسراء: الآية رقم (64) .

(2)

الصحيح، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده (6/335)، وانظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/70-71) .

ص: 250

وأصرح حديث بالأمر بالتسمية وبخاصة عند الطعام، هو ما جاء عند أبي داود (1) ، والترمذي (2) ، والحاكم (3)، وغيرهم من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى، فإن نسي أن يذكر اسم الله تعالى في أوله، فليقل: بسم الله أوله وآخره". هذا لفظ أبي داود، وعند الترمذي والحاكم بنحوه. وقال الحاكم عقبه: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه أيضًا ابن قيم الجوزية (4) .

وقد جاء عند البخاري (5)، ومسلم (6) وغيرهما أيضًا حديث عمر بن أبي سلمة وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا غلام سمِّ الله وكل بيمينك، وكل مما يليك

".

وتظهر فائدة التسمية بشكل جلي من خلال الأحاديث التالية:

(1) السنن، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام (3/347) .

(2)

الجامع، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في التسمية على الطعام (5/594-595) .

(3)

المستدرك (4/108) .

(4)

زاد المعاد (2/397) .

(5)

الصحيح، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام، والأكل باليمين (9/521) .

(6)

الصحيح، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب، وأحكامهما (3/1599) .

ص: 251

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر" وفي لفظ: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع" وفي رواية: "فهو أجذم" أخرجه كل من ابن ماجه (1) ، وأبي داود (2) ، وابن حبان (3) ، والدارقطني (4) ، والنسائي (5) ، واللفظ الثاني هو الأكثر، والأشهر، وقد ذكر طرقه السبكي وصححه (6)، وقال النووي (7) : "هذا الحديث حسن

روي موصولاً ومرسلاً، ورواية الموصول إسنادها جيد، ومعنى أقطع: قليل البركة، وكذلك أجذم". أه.

وقال المحشي على سنن ابن ماجه: قال السندي: "الحديث حسنه ابن الصلاح والنووي"(8) .

قال الحافظ ابن حجر عند الكلام على كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل: "فإذا فيه بسم الله الرحمن الرحيم": قال النووي: "فيه استحباب تصدير الكتب ببسم الله الرحمن الرحيم ويحمل قوله في حديث أبي هريرة: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع" أي بذكر الله كما جاء في رواية أخرى فإنه روي على أوجه بذكر الله، ببسم الله، بحمد الله، قال: وهذا الكتاب كان ذا بال من المهمات العظام ولم يبدأ فيه بلفظ الحمد بل بالبسملة"(9) .

(1) السنن، كتاب النكاح، باب خطبة النكاح (1/610) .

(2)

السنن، كتاب الأدب، باب الهدي في الكلام (4/261) .

(3)

الصحيح (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان)(1/173-175) حديثا (1، 2) .

(4)

السنن (1/229) .

(5)

عمل اليوم والليلة (ص 345-346) .

(6)

طبقات الشافعية الكبرى (1/5-21) .

(7)

شرح مسلم (1/43) .

(8)

وانظر: شرح صحيح مسلم للنووي (13/185) .

(9)

فتح الباري (8/220) .

ص: 252

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عند كل من مسلم (1) ، وأبي داود (2) ، وابن ماجه (3) ، وأحمد (4)، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء"، هذا لفظ مسلم، والباقون بنحوه وعندهم في أوله زيادة.

وعن عائشة رضي الله عنها عند كل من الترمذي (5)، وابن ماجه (6) قالت:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعامًا في ستة من أصحابه فجاء أعرابي فأكله بلقمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنه لو سمَّى لكفاكم". هذا لفظ الترمذي، ولفظ ابن ماجه بنحوه، وفيه عنده زيادة، وقال الترمذي عقبه: هذا حديث حسن صحيح، وصححه - أيضًا - الألباني (7) .

وقد ثبت عند البخاري (8) ومن حديث غير واحد من الصحابة رضي الله عنهم مرفوعًا: "أن المؤمن يأكل في معىً واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء".

مما سبق، ومن خلال النظر في كتب شروح الحديث يتبين ما يلي:

1 -

أهمية التسمية على كل أمر ذي بال، وأنها جالبة للخير والبركة، طاردة للشيطان الملعون المطرود الذي يمحق البركة ويسر للمعصية. ومما يدل على أهمية التسمية أيضًا أن كثيرًا ممن خرج الأحاديث السابقة عقدوا تراجم أبوابهم بذكر التسمية كما هو ملاحظ.

(1) الصحيح، كتاب الأشربة، باب آداب الطعام والشراب (3/1598) .

(2)

السنن، كتاب الأطعمة، باب التسمية على الطعام (3/346-347) .

(3)

السنن، كتاب الدعاء، باب ما يدعو به إذا دخل بيته (2/1279) .

(4)

المسند (3/346، 383) .

(5)

الجامع، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في التسمية على الطعام (5/595) .

(6)

السنن، كتاب الأطعمة، باب التسمية عند الطعام (2/1086-1087) .

(7)

صحح سنن ابن ماجه (2/224) .

(8)

الصحيح، كتاب الأطعمة، باب المؤمن يأكل في معىً واحد (9/536) .

ص: 253

2 -

يستحب التسمية في أوَّل كل أمر ذي بال كالدخول، والخروج، والأكل، والشراب، والوزن، والكيل، وعدَّ النقود، واللباس، والجماع، ويلحق بها ما في معناها، وحمد الله تعالى في آخره. وقد نقل النووي الإجماع على استحباب التسمية وقال: فإن الشيطان يتمكن من أكل الطعام إذا شرع فيه إنسان بغير ذكر الله تعالى، وأكل الشيطان محمول على ظاهره وأنه يأكل حقيقة إذ العقل لا يحيله، والشرع لم ينكره، بل أثبته، فوجب قبوله واعتقاده (1) .

3 -

وقد قيل: إن معنى ذلك هو استحسان الشيطان رفع البركة من ذلك الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه (2) .

4 -

أن الشيطان لم يسلَّط بإذن الله تعالى على من يسمي من أجل بركة التسمية، لأن في ذكر الله تعالى ودعائه اعتصاماً من الشيطان وأعوانه، فلا يشركهم الشيطان ولا يقربهم، وبذلك تحصل البركة (3) .

المطلب الرّابع: الذّكر والدّعاء

يعد الذكر من أفضل الطاعات، إذ هو سِرُّها وروحها، وهو أكبر من كل شيء، وأفضل من كل شيء، {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر} (4) . ولذا فقد كان صلى الله عليه وسلم:"يذكر الله على كل أحيانه" كما جاء عند البخاري (5) ، ومسلم (6) ، وغيرهما.

(1) شرح صحيح مسلم (13/88-90) بتصرف، وانظر الأذكار للنووي (ص305-307) .

(2)

انظر: فتح الباري (9/522) .

(3)

فتح الباري (9/229) ببعض التصرف.

(4)

سورة العنكبوت: من الآية رقم (45) .

(5)

الصحيح، كتاب الحيض باب تقضي الحائض المناسك كلها

(1/407) . وكتاب الأذان، باب هل يتبع المؤذن فاه ها هنا (2/114) وهو في الموضعين معلق.

(6)

الصحيح، كتاب الحيض، باب ذكر الله تعالى في حال الجنابة وغيرها (1/282) .

ص: 254

وملازمة الذكر والدعاء فيه استجلاب كل خير وبركة، ودفع كل بلاء وضر، وقرب من الرحمن ونيل رضاه وبعدٌ عن الشيطان وطرد له ولأعوانه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا - يرشد إلى ملازمة الذكر والدعاء، كما أنه يذكر الله على كل أحيانه فإنه يدعو ربه في كل الأحيان بكل خير من خيري الدنيا والآخرة، ويدعو كذلك لأصحابه بما ينفعهم في دينهم ودنياهم وأخراهم.

فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم (1) أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي.." كما كان صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم اغفر لي ذنبي ووسِّع لي في داري، وبارك لي فيما رزقتني" عند الترمذي (2) ، وأحمد (3) ، والنسائي (4) ، وابن السني (5)، اللفظ للترمذي والباقون بنحوه. وقال الترمذي: غريب وصححه النووي (6) .

وقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث سعد بن أبي وقاص عند مسلم (7) فقال: علمني كلامًا أقوله، قال:"قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، سبحان الله رب العالمين، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم". قال: فهؤلاء لربي، فما لي؟. قال:"قل اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وارزقني".

(1) الصحيح، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب التعوذ من شر ما عمل (4/2087) .

(2)

الجامع، كتاب الدعوات، باب منه،82 (9/474) .

(3)

المسند (4/399) .

(4)

عمل اليوم والليلة (ص 172) .

(5)

عمل اليوم والليلة (ص 2) .

(6)

الأذكار (ص 21) .

(7)

الصحيح، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء (4/2072) .

ص: 255

وجاء عند أحمد (1) والترمذي (2) والحاكم (3) من حديث أبي وائل قال أتى عليًا رضي الله عنه رجل فقال يا أمير المؤمنين إني عجزت عن مكاتبتي فأعني، فقال علي رضي الله عنه ألا أعلمك كلمات علمنيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان عليك مثل جبل ثبير (4) دنانير لأدَّاه الله عنك، قلت: بلى، قال:"قل اللهم اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك" اللفظ لأحمد، ولفظ الترمذي بنحوه، وحسنه الترمذي، وكذا الألباني (5) وقال الحاكم عقبه: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وقد ثبت في الصحيح عند البخاري (6) من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له فقال: "اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته".

(1) المسند (1/153) .

(2)

الجامع، كتاب الدعوات، أحاديث شتى من أبواب الدعوات (10/8) .

(3)

المستدرك (1/538) .

(4)

في معظم المصادر بما في ذلك تحفة الأحوذي (صير)، وما أثبته هو الصواب وهو المثبت في نسخة الترمذي تحقيق: أحمد شاكر (5/523) ، وقد أخطأ المباركفوري إذ شرح اللفظة صير، قال: ويروى صبير. وعزا ذلك إلى النهاية. والذي في النهاية (1/207) وفي معجم ما استعجم (1/335) ثبير، بفتح أوله وكسر ثانيه بعده ياء وراء مهملة، جبل بمكة.

(5)

صحيح الجامع الصغير وزيادته (1/512) .

(6)

الصحيح، كتاب الدعوات، باب قول الله تعالى: وصلِّ عليهم (11/36) ، وباب دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه بطول العمر وبكثرة المال (11/144) .

ص: 256

وجاء عند الإمام أحمد (1) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما المرفوع وفيه ذكر وصية نوح عليه السلام لابنيه عندما حضرته الوفاة ومما جاء فيه: "آمركما بلا إله إلا الله.. وآمركما بسبحان الله، وبحمده، فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء". قال العراقي: إسناده صحيح (2)، وقال الهيثمي: رجال أحمد ثقات (3) .

وهكذا يظهر جليًا ما للذكر والدعاء من أهمية بالغة في استجلاب الخير والبركة وطرد للمكروه والعوز وإبعاد للشيطان وإرغام له ولجنده. ولهذا لزم الإنسان ملازمة الذكر والدعاء للفوز بالسعادة الأخروية والدنيوية على حد سواء، والله أعلم.

المطلب الخامس: شكر الله تعالى وحمده

الشكر: هو استعمال نعم الله تعالى في محابه، كما قال الغزالي (4)، وقال في موضع آخر:"وجود الزيادة في المال نعمة وشكرها أن تصرف إلى الخيرات أو أن لا تستعمل في المعصية"(5) . وقال ابن القيم: "الشكر، هو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده، ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة"(6) . وقال القرطبي نحو هذا (7) .

وقد فرق بعض العلماء جزئيًا بين الحمد والشكر، فجعلوا بينهما عمومًا وخصوصًا من وجه، لكن رجح أبو جعفر الطبري أن الحمد قد يُنطق به في موضع الشكر، وأن الشكر قد يوضع موضع الحمد، لأن ذلك لو لم يكن كذلك لما جاز أن يقال:"الحمد لله شكرًا"(8) .

(1) المسند (2/225) .

(2)

المغني عن حمل الأسفار في الأسفار (1/64) حديث رقم 952.

(3)

مجمع الزوائد (4/220) .

(4)

إحياء علوم الدين (4/85) .

(5)

إحياء علوم الدين (4/131) .

(6)

مدارج السالكين (2/254) .

(7)

الجامع لأحكام القرآن (14/264) ، وانظر - أيضاً - فتح الباري (3/15) .

(8)

جامع البيان عن تأويل القرآن (1/138) .

ص: 257

ولذا فسَّر الطبري {الْحَمْدُ لِلَّه} في سورة الفاتحة بالشكر الخالص لله تعالى بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد (1) .

قلت: وهذه النعم الكثيرة التي لا تحصى ولا تستقصى ومن جملتها نعمة المال تستوجب الشكر من الخلق للخالق الرازق المتفضل، وهذا الشكر والحمد له سبحانه سبب من أسباب استجلاب الزيادة، وحصول البركة في المال، تفضلاً منه سبحانه وتعالى ونعمة.

قال ابن القيم: "جعل الله الشكر سببًا للمزيد من فضله وحارسًا وحافظًا لنعمته، وموصلاً الشاكر إلى مشكوره بل يعيد الشاكر مشكورًا"(2) .

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أنه يضيق معنى الشكر عند بعض الخلق فيظن أن غايته أن يقول بلسانه الحمد لله، أو الشكر لله، ونحوهما، مع عدم استعانته بالنعمة على المعصية، وإن لم يصرف هذه النعمة إلى الطاعة، وهذا مما لا شك فيه قصور في الفهم، وعن اتباع السلف الصالح.

والشكر- في حقيقة الأمر دائرته - أوسع من ذلك، ومجاله أرحب فالصلاة مثلاً شكر، والصيام شكر، وكل خير يعمله الإنسان لله تعالى شكر، واستحياء العبد من تتابع النعم عليه شكر، واعترافه بالتقصير على شكر المنعم عليه، واعتذاره عن تقصيره أيضا شكر، وتحدثه بنعمة الله شكر، واعترافه بأن النعمة موهبة من الله تعالى مع أنه لا يستحقها شكر، وتواضعه للنعم والتذلل فيها للمنعم شكر، وقلة اعتراضه وحسن أدبه مع المنعم، وتلقي النعمة بحسن القبول، وإن كانت بسيطة أو قليلة، واستعظامها وعدم احتقارها أو استصغارها شكر، والتيقن بأن الشكر بحد ذاته هو نعمة من الله تعالى وتوفيقه شكر، وأفضل الشكر هو حمد الله تعالى (3) .

(1) جامع البيان عن تأويل القرآن (1/135) .

(2)

مدارج السالكين (2/252) بتصرف يسير.

(3)

أشار إلى بعض هذه المعاني ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (3/698) .

ص: 258

وقد أمر سبحانه وتعالى عباده بالشكر، بل إنه قرن سبحانه وتعالى الشكر بالذكر إذ قال:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (1) . كما وعد بالجزاء على الشكر، بل قطع سبحانه بالمزيد مع الشكر فقال:{وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} (2) . وقال أيضًا: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (3) . وقال أيضًا: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (4) . وقال أيضًا: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (5) .

وأقوال العلماء المفسرين حول هذه الآيات تؤيد المعاني السابقة في شكر الله سبحانه وتعالى، وتؤكدها، فقد قال أبو جعفر الطبري عند قوله تعالى:{وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} أي لا تجحدوا إحساني إليكم فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم، ولكن اشكروا لي عليها، وأزيدكم فأتمم نعمتي عليكم، وأهديكم لما هديت له من رضيت عنه من عبادي، فإني وعدت خلقي أن من شكر لي زدته، ومن كفرني حرمته، وسلبته ما أعطيته (6) .

قلت: وقول أبي جعفر هنا "ومن كفرني" ليس بالضرورة أن يكون هو (الكافر) حقيقة وهو مقابل (المسلم) ، ولكن يريد ما هو أعم من هذا، فيدخل فيه من جحد النعمة فلم يظهرها ويؤدي حقها وشكرها على المعاني السابقة، والله أعلم.

وقال القرطبي معلقًا على الآية الأخرى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} أي لئن شكرتم إنعامي عليكم لأزيدنكم من فضلي، والآية نص في أن الشكر سبب المزيد (7) .

(1) سورة البقرة: الآية رقم (152) .

(2)

سورة آل عمران: الآية رقم (145) .

(3)

سورة إبراهيم: الآية رقم (7) .

(4)

سورة الضحى: من الآية رقم (11) .

(5)

سورة سبأ: من الآية رقم (13) .

(6)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن (3/212) .

(7)

الجامع لأحكام القرآن (9/353) .

ص: 259

وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي أنشر ما أنعم الله عليك بالشكر والثناء، والتحدث بنعم الله، والاعتراف بها شكر، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والحكم عام له ولغيره (1) . وأما قوله تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فقد قال القرطبي في معناها: "أي قليل من يفعل ذلك لأن الخير أقل من الشر، والطاعة أقل من المعصية"(2) .

قلت: والظاهر - والله أعلم - أن نعم الله كثيرة لا حصر لها، وهي لا تزال متجددة متكاثرة على العباد بفضل الله عز وجل، والشكر بأنواعه وأشكاله يحتاج إلى عزيمة ويقين، فيضعف كثير من الناس، ويقصِّرون في شكر المنعم وحمده حق شكره وحمده، ولذلك كان الشاكرون قليلين، وهم الخاصة، وفي مقدمة هؤلاء الشاكرين إمامهم سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه أتقى الخلق، وأعرفهم بحق خالقه وأشكرهم له، يظهر ذلك جليًا من خلال النظر في حاله وسيرته مع أصحابه رضوان الله عليهم، ويبرز ذلك بأمور منها:

1-

كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العبادة بشتى أنواعها مع أنه مغفور له المتقدم والمتأخر من ذنبه، فلقد جاء عند البخاري (3) ، ومسلم (4) من حديث المغيرة بن شعبة وحديث عائشة رضي الله عنهما أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: "أفلا أكون عبدًا شكورًا". هذا لفظ حديث عائشة عند البخاري، وعندهما نحو هذا اللفظ أيضًا.

(1) الجامع لأحكام القرآن (20/102-103) .

(2)

الجامع لأحكام القرآن (14/264-265) .

(3)

الصحيح، كتاب التهجد، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل (3/14) وكتاب التفسير، باب ليغفر الله لك

(8/584) ، وكتاب الرقاق، باب الصبر على محارم الله (11/303) .

(4)

الصحيح، كتاب صفات المنافقين، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (4/2171-2172) .

ص: 260

2-

وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه سجود الشكر عند تجدد نعمة تسُرُّ، أو اندفاع نقمة، كما جاء عند كل من أبي داود (1) ، والترمذي (2) ، وابن ماجه (3) ، وأحمد (4) ، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتاه أمر يسرُّه أو يُسَرُّ به خرَّ ساجدًا شكرًا لله تبارك وتعالى. واللفظ لابن ماجه، والباقون بنحوه، وعند أحمد فيه قصة، وقال الترمذي في آخره: حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، من حديث بكار بن عبد العزيز، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، رأوا سجدة الشكر. وعن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال: لما تاب الله عليه خرَّ ساجدًا. عند ابن ماجه (5)، وقال البوصيري (6) : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وهو موقوف، قال ابن حزم: لا مغمز في خبر كعب ألبتة، ثم روي عن أبي بكر الصديق "في الأصل أبي الصديق" وعلي بن أبي طالب نحوه. أ. هـ.

(1) السنن، كتاب الجهاد، باب سجود الشكر (3/89) .

(2)

الجامع، كتاب السير، باب ما جاء في سجدة الشكر (5/200) .

(3)

السنن، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الصلاة والسجود عند الشكر (1/446) .

(4)

المسند (5/45) .

(5)

السنن، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الصلاة والسجدة عند الشكر (1/446) .

(6)

مصباح الزجاجة (1/449) .

ص: 261

3-

توجيهاته لأصحابه وأقواله في الشكر وبيان فضله. فقد قال صلى الله عليه وسلم لمن رآه رثَّ الثياب: "ألك مال"؟، قال: نعم، قال:"من أي المال"؟، قال: قد آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق، قال:"فإذا أتاك الله مالاً فلير أثر نِعمة الله عليك وكرامته" رواه أبو داود (1) ، والنسائي (2) ، والحاكم (3) هذا لفظ أبي داود والحاكم مثله إلا أنه عنده مطول، وعند النسائي بنحوه عند أبي داود، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وصححه- أيضًا- الألباني (4) .

وعند الترمذي (5)، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا:"إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، وقال الترمذي: حديث حسن، ثم قال: وفي الباب عن أبي الأحوص عن أبيه وعمران بن حصين وابن مسعود، وحسنه - أيضا - الألباني (6) .

وقال صلى الله عليه وسلم: "من قال حين يصبح: اللهم ما أصبح بي من نعمة فمنك وحدك، لا شريك لك، فلك الحمد، ولك الشكر، فقد أدَّى شكر يومه، ومن قال: مثل ذلك حين يمسي فقد أدى شكر ليلته".

رواه كل من أبي داود (7) ، وابن حبان (8) ، واللفظ لأبي داود، وهو عند ابن حبان بنحوه مع شيء من الاختصار، وقد حسَّنَه ابن القيم (9) ، والنووي (10) ، والحافظ ابن حجر (11) .

(1)

السنن، كتاب اللباس، باب في غسل الثوب وفي الخلقان (4/51) .

(2)

السنن، كتاب الزينة، باب الجلاجل (8/181) .

(3)

المستدرك (4/181) .

(4)

غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام (ص 63) ، وصحيح سنن أبي داود (2/767) .

(5)

الجامع، كتاب الأدب، باب ما جاء إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (8/106) .

(6)

صحيح الجامع الصغير وزيادته (2/146) رقم (1884) .

(7)

السنن، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح (4/318) .

(8)

الصحيح (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان)(3/142-143) رقم (861) .

(9)

زاد المعاد (2/373) .

(10)

الأذكار (ص 74) .

(11)

انظر: التعليق على صحيح ابن حبان (3/143) .

ص: 262

وفي حديث أنس رضي الله عنه عند ابن ماجه (1) أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله، إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذه". يعني الذي أداه وفعله من الحمد، أفضل مما أخذ من النعمة، وحسنه البوصيري (2)، وقال النووي: إسناده جيد (3) . وفي الفتوحات الربانية على الأذكار النووية (4) : وفي الحرز، رواه أبو داود والنسائي عن عبد الله بن غنام، وابن حبان والنسائي عن ابن عباس، وقال الحافظ بعد تخريجه: "

حديث حسن".

المطلب السّادس: التّوبة والاستغفار

التوبة: هي الرجوع إلى الله تعالى بالتزام فعل ما يجب، وترك ما يكره، أي هي: الرجوع لما يكرهه الله ظاهرًا وباطنا، إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنا.

والاستغفار: هو محو الذنب، وإزالة أثره ووقاية شره، وستره. والاستغفار يتضمن التوبة، والتوبة تتضمنه، وكل منهما يدخل في مسمَّى الآخر، عند الإطلاق والإفراد، وأما عند الاقتران أي اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (5) ، فيكون الاستغفار هنا طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله (6) .

(1)

السنن، كتاب الأدب، باب فضل الحامدين (2/1250) .

(2)

مصباح الزجاجة (3/192) .

(3)

الأذكار (ص 74) .

(4)

الفتوحات الربانية على الأذكار النووية (3/107) .

(5)

سورة هود: من الآية رقم (3) .

(6)

انظر: مدارج السالكين (1/332-335) بتصرف.

ص: 263

قلت: ومن المهم هنا أن يُعلم أن التوبة والاستغفار عبادة تَعَبَّدَنا الله تعالى بها باستمرار وعلى الدوام، سواء أوقعت ذنوب أو معاصي أم لم تقع، لكن إن حصلت - وما أكثرها! - إذ الإنسان خطاء، فيجب الإسراع إلى التوبة والندم وكثرة الاستغفار. وهذه العبادة لها أهمية بالغة يصعب استقصاء فضلها وفوائدها هنا لكن مما لا شك فيه، فيها رضى الرب عز وجل وقربٌ منه، وبعدٌ عن الشيطان، واستجلابٌ الخيرات وحصول البركات، ودفعٌ للشرور والمكروهات، ونصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ناطقة حافلة بهذا، ومن ذلك قول هود عليه السلام لقومه:{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (1) .

ذكر القرطبي: أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار، وأن عادًا كانوا أهل بساتين وزروع وعمارة فحبس عنهم المطر فقال لهم هود إن آمنتم وأكثرتم الاستغفار يحيي الله بلادكم ويرزقكم، الأموال والأولاد، ويزيدكم قوة إلى قوتكم (2) .

وقال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} (3) .

(1)

سورة هود: الآية رقم (52) .

(2)

الجامع لأحكام القرآن (9/53-54) بتصرف.

(3)

سورة نوح: الآيات رقم (10-12) .

ص: 264

واضح - في هذه الآيات - أن التوبة والطاعة وكثرة الاستغفار سبب في بسط الرزق وحصول المال والبركة فيه، وهكذا أرشد نوح عليه السلام قومه إلى الطاعة وكثرة الاستغفار، أي إذا تبتم إلى الله واستغفرتموه، وأطعتموه، كثر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأنبت لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع وأدرَّ لكم الضرع وأمدكم بأموال وبنين، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها (1) .

قال ابن كثير: "يستحب قراءة هذه السورة في صلاة الاستسقاء لأجل هذه الآية: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} "(2) . وقال الشعبي: خرج عمر- رضي الله عنه يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فأمطروا. فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟. فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر. ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} أخرجه كل من عبد الرزاق (3) ، وابن أبي شيبة (4) ، وابن أبي حاتم (5) ، والبيهقي (6) . والشعبي وإن أدرك جماعة من الصحابة وروى عنهم إلا أنه لم يسمع من عمر رضي الله عنه كما ذكر غير واحد منهم ابن أبي حاتم (7)، وقد قال العجلي: لا يكاد الشعبي يرسل إلا صحيحًا، وقال الآجري عن أبي داود: مرسل الشعبي أحب إليَّ من مرسل النخعي (8) .

(1)

الجامع لأحكام القرآن الكريم (18/289) ، تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/547) .

(2)

تفسير القرآن العظيم (4/546) .

(3)

المصنف لعبد الرزاق (3/87) رقم (4902)، وانظر: الجامع لأحكام القرآن (18/290) .

(4)

المصنف (2/474) .

(5)

تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (6/2045) .

(6)

السنن الكبرى (3/351-352) ، ومعرفة السنن والآثار (5/174) .

(7)

المراسيل (ص 160) .

(8)

تهذيب التهذيب (5/67-68) ، ولم أقف عليه في (سؤالات أبي عبيد الآجري لأبي داود) ، فالله أعلم.

ص: 265

وقد روى الأثر عن عمر غير واحد - أيضًا - منهم عطاء عند عبد الرزاق (1) ، وابن المسيب عند البيهقي (2) ، وأبو وجزة يزيد بن عبيد السعدي عن أبيه عند البيقهي (3) أيضًا، وفيه قال عبيد السعدي ألا يتكلَّم لما خرج له، ولا أعلم أن الاستسقاء هو الاستغفار فمطرنا.

وقد جاء الأثر أيضًا مسندًا مختصرًا عند ابن أبي شيبة قال: ثنا وكيع عن عيسى بن حفص بن عاصم عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي عن أبيه قال خرجنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه نستسقي فما زاد على الاستسقاء (4) .

قلت: وإسناده متصل ورجاله كلهم ثقات بلا استثناء. وبهذا يصح الأثر عن عمر رضي الله عنه والله أعلم.

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم سيِّد الاستغفار كما جاء عند البخاري (5) فقال: "سيد الاستغفار أن يقول: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنتن خلقتني وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت

".

(1)

المصنف (3/86-87) .

(2)

معرفة السنن والآثار (5/173-174) .

(3)

السنن الكبرى (3/351) .

(4)

المصنف (2/474) .

(5)

الصحيح، كتاب الدعوات، باب أفضل الاستغفار (11/97-98) .

ص: 266

وقد جاء عند البخاري (1) أنه صلى الله عليه وسلم قال: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة". وعند مسلم (2) قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" وفي رواية "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة". كل هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناًلِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّر} (3)، وقد تقدم في الشكر أنه كان صلى الله عليه وسلم يقوم حتى تتفطَّر قدماه. فلما سئل قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا.

وواضح مما سبق أن التوبة والاستغفار سبب لكل خير دنيوي وأخروي.

ومن جملة ذلك حصول الخير والبركة في المال، ودفع كل سوء ومكروه. وقد وجد كذلك نصوص صريحة في هذا.

(1)

الصحيح، كتاب الدعوات، باب استغفار النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم والليلة (11/101) .

(2)

الصحيح، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب الاستغفار والاستكثار منه (4/2075-2076) .

(3)

سورة الفتح: الآيتان رقم (1-2) .

ص: 267

منها: ما رواه أبوداود (1) ، وابن ماجه (2) ، والنسائي (3) ، وأحمد (4) ، والطبراني (5) ، والحاكم (6)، والبيهقي (7) من حديث ابن عباس - رضي الله - عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من لزم الاستغفار - وفي لفظ (أكثر) - جعل الله له من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب". وصححه الحاكم، لكن تعقبه الذهبي قائلا:"أحد رواته فيه جهالة"، وقال المنذري:"في إسناده الحَكَم بن مصعب، ولا يحتج به"(8) ، كما ضعفه الألباني بسبب الحكم بن مصعب أيضًا (9) .

قلت: وقد رمز السيوطي له بالصحة (10)، وقال صاحب التاج:"سنده صحيح"(11) ، كما قال أحمد شاكر-أيضًا - إسناده صحيح، وقد ذكر الاختلاف في الحكم بن مصعب ورجح تعديله، كما رد على المنذري فقال:"وهذا غلو منه شديد"(12) .

(1)

السنن، كتاب الصلاة، باب في الاستغفار (2/85) .

(2)

السنن، كتاب الأدب، باب الاستغفار (2/1254) .

(3)

عمل اليوم والليلة، حديث رقم (456) .

(4)

المسند (1/284) .

(5)

المعجم الكبير (10/342) حديث رقم (10665) .

(6)

المستدرك (4/262) .

(7)

السنن الكبرى (3/351) .

(8)

مختصر سنن أبي داود (2/152) .

(9)

سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم (705) .

(10)

الجامع الصغير (2/166) .

(11)

التاج الجامع للأصول (5/150) .

(12)

المسند، حديث رقم (2234) .

ص: 268

وقد روى الربيع بن صبيح أن رجلاً أتى الحسن فشكا إليه الجدوبة، فقال له الحسن:"استغفر الله"، فأتاه آخر فشكا إليه الفقر، فقال له:"استغفر الله"، وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه، فقال له:"استغفر الله"، وأتاه آخر فقال له:"ادع الله أن يرزقني ابنا"، فقال له:"استغفر الله". فقلنا له: "أتاك رجال يشكون إليك أبوابًا، ويسألونك أنواعًا، فأمرتهم كلهم بالاستغفار"، فقال:"ما قلت من ذات نفسي في ذلك شيئًا، إنما اعتبرت فيه قول الله تعالى إخبارًا من نبيه نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} "(1) .

وقد ذكر الحافظ ابن حجر (2) هذا الأثر عن الحسن البصري مع شيء من الاختلاف في الألفاظ، ثم قال:"وكأنَّ المُصَنِّف - يريد البخاري - ألمح بذكر هذه الآية إلى أثر الحسن البصري"أه.

قلت: والربيع بن صبيح هذا سمع الحسن البصري، وثقه جماعة وضعفه آخرون، لكنه لم يتعمد الكذب، ولا يدلس وقد لخص الحافظ ابن حجر حاله قائلاً:"صدوق سيء الحفظ، وكان عابدًا مجاهدًا، وقد روى له الترمذي وابن ماجه والبخاري تعليقًا"(3) .

المطلب السّابع: السَّعْي في الكسب أخذًا بالأسباب

مما لا شك فيه أن الحصول على المال يحتاج إلى سعي، واتخاذ الأسباب الجالبة للرزق، والبركة فيه، وقد وجه الشارع العباد إلى العمل، وعدم التواكل أخذًا بالأسباب، فإن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، ولم يرض الإسلام للإنسان المسلم أن يكون عالة على غيره، واقعا في ذل السؤال، والعوز.

(1)

تفسير الحسن البصري (5/199-200) .

(2)

فتح الباري (11/98) .

(3)

تهذيب التهذيب (3/247-248) ، التقريب (ص 206) .

ص: 269

ونصوص القرآن الكريم والسنة المشرفة مليئة بالتوجيهات بهذا الخصوص، فمن ذلك قوله تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (1) . أي انتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم وابتغوا من رزق الله (2) .

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (3) . أي فسافروا حيث شيءتم من أقطارها وترددوا في أرجائها وأطرافها وأقاليمها وفجاجها في أنواع المكاسب والتجارات، والسعي هنا لا ينافي التوكل حالكم كحال الطير لها غدو ورواح لطلب الرزق مع توكلها على خالقها (4) . ونحو هذا المعنى في قوله تعالى:{وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (5) .

(1)

سورة الجمعة: الآية رقم (10) .

(2)

انظر: الجامع لأحكام القرآن (18/105) .

(3)

سورة الملك: الآية رقم (15) .

(4)

انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (4/511) بتصرف.

(5)

سورة المزمل: من الآية رقم (20) .

ص: 270

ومن السنة المشرفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإنَّ نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده" أخرجه البخاري (1) وآخرون. وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكسب أطيب أو أفضل فقال: "عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور" أخرجه بهذا اللفظ كل من أحمد (2) ، والبزار (3) ، والطبراني في (الأوسط (4) ، والحاكم (5) من حديث رافع ابن خديج، وقال الطبراني:"لم يرو هذا الحديث عن وائل بن داود إلا المسعودي" وبنحو هذا قال البزار عقبه، وممن أخرجه أيضا الحاكم (6) من حديث سعيد بن عمير عن عمه (البراء بن عازب) بنحوه، وقال الحاكم:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووائل بن داود وابنه بكر ثقتان وقد ذكر يحيى بن معين أن عم سعيد بن عمير البراء بن عازب وإذا اختلف الثوري وشريك فالحكم للثوري". أهـ. ووافقه على ذلك الذهبي.

وحصول الرزق، والبركة فيه وإن كان واضحًا من النصوص السابقة إذ إن السعي أو الكسب سبب في حصول الخيرات والبركات إلا أن ثمة أمورًا لابد من مراعاتها ليتم استجلاب البركة والنماء من الكسب وإلا لربما يشوب المرء رزقه وماله بشيء من الحرام فتذهب هذه البركة أدراج الرياح.

ومن هذه الأمور التي لابد من مراعاتها وهي التي يستجلب النماء والبركة بسببها بإذن الله تعالى:

1-

أن يكون الكسب مباحًا حلالاً لا يدخله الحرام مهما قلَّ أو دقَّ:

(1)

الصحيح، كتاب البيوع، باب كسب الرجل وعمله بيده (4/302) .

(2)

المسند (4/141) .

(3)

المسند (كشف الأستار عن زوائد البزار)(2/83) .

(4)

المعجم الأوسط (8/446) رقم (7914) .

(5)

المستدرك (2/10) .

(6)

المستدرك (2/10) .

ص: 271

وذلك لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، والحرام خبيث ارتكب بسببه المعصية، فلا يبارك الله فيه بل يمحق الرزق، ويمنع تجدد وصوله، وقد جاء عند مسلم (1) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال:"أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" وفيه "ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث، أغبر، يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟ ".

وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة المال، وعدم توخي الحلال والتحري في الكسب كما جاء عند البخاري (2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:"يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام".

2 -

الصدق والأمانة:

ومما يستجلب به البركة في المال، الصدق والأمانة في التعامل، فقد روى البخاري (3) حديث حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا - أو قال: حتى يتفرقا - فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما".

(1)

الصحيح، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (2/703) .

(2)

الصحيح، كتاب البيوع، باب من لم يبال من حيث كسب المال (4/296) .

قلت: والممارسات المحرمة القاضية بذهاب بركة المال وزواله كثيرة لا مجال لذكرها هنا، منها: الربا، والاحتكار، والحلف الكاذب، وجميع البيوع المحرمة، ونحو هذا، والله أعلم.

(3)

الصحيح، كتاب البيوع، باب إذا بيَّن البيعان، ولم يكتما ونصحا (4/309) .

ص: 272

قال الحافظ ابن حجر: "قوله صدقا، أي من جانب البائع في السوم ومن جانب المشتري في الوفاء، وقوله بيَّنا: أي لما في الثمن والمثمن من عيب فهو من جانبيهما وكذا نقصه. قال: وفي الحديث حصول البركة لهما إن حصل منهما الشرط، وهو الصدق والتبيين، ومحقها إن وجد ضدهما وهو الكذب والكتم. وفي الحديث أن الدنيا لا يتم حصولها إلا بالعمل الصالح وأن شؤم المعاصي يذهب بخيري الدنيا والآخرة"(1) .

3 -

البكور في طلب الرزق وكسبه:

وهذا شيء ثابت في الشرع، متعارف عليه عند الخاصة والعامة، مجرَّب بالحس والمشاهدة فلعلَّ الله سبحانه وتعالى جعل في هذا الوقت من اليوم (الصباح) من البركة، والتيسير ما لم يجعل في باقي الأوقات فيما يتعلق بالسعي وطلب الأرزاق وقضاء الحاجات، لأنه وقت النشاط، والقوة.

وهنا ينقدح في الذهن شيء لم أسمعه ولم أقرأه، وهو أن الله سبحانه وتعالى جعل مدة ما بين صلاتي الفجر وصلاة الظهر أطول مدة بين صلاتين من صلوات النهار وذلك حتى يتمكن الإنسان من السعي والذهاب لقضاء حاجاته والله أعلم.

(1)

فتح الباري (4/311) .

ص: 273

ومما يؤيد بركة الطلب والسعي في الصباح الباكر، هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم بارك لأمتي في بكورها"، قال:"وكان - يعني الرسول صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية أو جيشًا بعثهم أول النهار، وكان صخر - راوي الحديث - رجلاً تاجرًا، وكان إذا بعث تجارةً بعثهم أول النهار فأثرى وكثر ماله". أخرجه أبو داود (1) ، والترمذي (2) ، وابن ماجه (3) ، وأحمد (4) ، والطبراني (5) ، وابن حبان (6) وغيرهم من حديث صخر ابن وداعة، وصحابة آخرين، هذا لفظ الترمذي، والباقون بمثله وبعضهم باختلاف يسير في بعض الألفاظ.

وقال الترمذي عقبه: "حسن"، وصححه ابن حبان، كما صححه - أيضًا - الألباني (7)، وقال المنذري: قد رواه جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قلت: سمَّى المنذري منهم (15) صحابيًا، ثم قال:"وغيرهم"، وقال مرة:"بعض أسانيدها جيد"، وقال مرة أخرى:"بعضها حسن". ثم قال: "وقد جمعتها في جزء، وبسطت الكلام عليها"(8) .

قلت: ولعل الحافظ ابن حجر عنى المنذريَّ بقوله إذ قال عند ذكر حديث "بورك لأمتي في بكورها": "قد اعتنى به بعض الحفاظ بجمع طرقه فبلغ عدد من جاء عنه من الصحابة نحو عشرين نفسًا"(9) ، والله أعلم.

(1)

السنن، كتاب الجهاد، باب في الابتكار في السفر (3/35) .

(2)

الجامع، كتاب البيوع، باب التبكير في التجارة (4/402) .

(3)

السنن، كتاب التجارات، باب ما يرجى من البركة في البكور (2/752) .

(4)

المسند (1/154، 155، 156) ، (3/416، 417، 433) ، (4/384، 390، 391) .

(5)

المعجم الأوسط، الأحاديث ذات الأرقام (1000،2999، 3336، 40826، 5747، 6879) .

(6)

الصحيح، (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان)(11/62-63) حديثا (4754-4755) .

(7)

صحيح سنن أبي داود (2/494) ، وصحيح سنن ابن ماجه (2/21) .

(8)

الترغيب والترهيب (4/6-7) .

(9)

فتح الباري (6/114) .

ص: 274

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "باكروا طلب الرزق، فإن الغدو بركة ونجاح" عند كل من الطبراني (1) والبزار (2) ، هذا لفظ البزار، ومثله الطبراني إلا أنه زاد لفظ:"والحوائج" بعد لفظ "الرزق".

وقال البزار عقبه: "هذا غريب لم نسمعه إلا من إبراهيم بن سعيد، وإسماعيل ابن قيس صالح الحديث"أه. لكن قال الحافظ ابن حجر: "بل ضعفه جماعة"(3) . وقال الهيثمي بعد أن عزاه للبزار والطبراني في (الأوسط) : "فيه إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت وهو ضعيف"(4) .

قلت: وهناك أحاديث كثيرة بهذا المعنى، وفي النهي عن نوم الصبحة وأنه يمنع الرزق لكن كلها ضعيفة ومنكرة، وحديث عائشة المتقدم أمثلها، ويشهد له حديث صخر السابق، كما يشهد له ما ذكر بعده وبخاصة أنه في الفضائل وليس في الحلال والحرام، والله أعلم.

(1)

الطبراني في الأوسط حديث (7246) .

(2)

مسند البزار (كشف الأستار) رقم (1247) .

(3)

مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد (1/503) .

(4)

مجمع الزوائد (4/61) .

ص: 275

وقد بوَّب البخاري بالحديث المعلَّق كان النبي صلى الله عليه وسلم "إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس"(1)، وذكره البخاري أيضًا (2) بأتم من هذا معلقًا من حديث النعمان بن مقرن قال: شهدت القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان إذا لم يقاتل في أول النهار، انتظر حتى تهب الأرواح، وتحضر الصلوات"، والحديث وصله كل من أبي داود (3) ، والترمذي (4)، وأحمد (5) وفيه عندهم لفظ:"حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر"، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وقد ذكر العلماء من أسباب وجود البركة في البكور، فقال الحافظ ابن حجر:"خصَّ البكور بالبركة لكونه وقت النشاط"(6) ..

وقال العجلوني: "العقل بكرة النهار يكون أكمل منه وأحسن تصرفًا منه في آخره، ومن ثم ينبغي التبكير لطلب العلم ونحوه من المهمات"(7) ..

المطلب الثّامن: القناعة والعفاف، والإجمال في الطّلب

(1)

الصحيح، كتاب الجهاد، باب كان النبي – صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل (6/120) .

(2)

الصحيح، كتاب الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب (6/258) .

(3)

السنن، كتاب الجهاد، باب في أي وقت يستحب اللقاء (3/49) .

(4)

الجامع، كتاب السير، باب ما جاء في الساعة التي يستحب فيها القتال (5/238) .

(5)

المسند (5/445) .

(6)

فتح الباري (6/114) .

(7)

كشف الخفاء ومزيل الإلباس (ص 187) .

ص: 276

قد تقدم في مقدمة البحث الإشارة إلى أن الله تعالى بمنه وكرمه تكفل بأرزاق العباد بل وجميع الدواب، وأن الرزق مقسوم، وأنه يطلب صاحبه كما يطلبه أجله، وهنا سيُقتصر على بيان أن القناعة والتعفف، والإجمال في الطلب، وعدم إشراف النفس للمال، وسؤال الناس كل ذلك سبب في حصول البركة في المال، وقد امتدح الله سبحانه وتعالى المتعففين من المساكين إذ قال:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} (1) .

أي متعففون في لباسهم، وفي حالهم، ومقالهم، بحيث يحسبهم من لا يعرفهم أغنياء، وبخاصة أنهم لا يسألون أحدًا ولا يلحون في المسألة لئلا يكلفوا الناس ما لا يحتاجون، ولذا فلا يفطن الناس إليهم لجهلهم بحال فقرهم.

والآية وإن كان فيها مدح لهؤلاء الفقراء، ففيها أيضًا من جانب آخر حض وتنبيه وتذكير بهؤلاء وأمثالهم حتى لا يغفل عنهم ويُظن أن المساكين فقط هم الذين يَسألون ويُعطون، والله أعلم (2) .

(1)

سورة البقرة: الآية رقم (273) .

(2)

انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (1/434-435) بتصرف.

ص: 277

وقد حض رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه على الإجمال في الطلب، وعدم التشوف والحرص، فقال في الحديث الذي رواه ابن ماجه (1) من حديث جابر رضي الله عنه:"يا أيها الناس! اتقوا الله وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها، وإن أبطأ عنها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم"، وصححه الألباني (2) . وعند البزار (3) من حديث حذيفة رضي الله عنه بنحوه. وقال البزار عقبه: لا نعلمه عن حذيفة إلا بهذا الإسناد.

قلت: وما قبله وما بعده يشهد له.

وقد روى الترمذي (4) حديث خولة بنت قيس قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا المال خَضِرَة حلوة، من أصابه بحقه بورك له فيه، ورُبَّ متخوِّضٍ (5) فيما شاءت به نفسه من مال الله ورسوله ليس له يوم القيامة إلا النار". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وكذا صححه الألباني (6) .

وجاء عند البخاري (7) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن أناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نَفِدَ ما عنده فقال:"ما يكون عندي من خير فلن أدَّخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبَّر يصبِّره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر".

(1)

السنن، كتاب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة (2/724) .

(2)

صحيح سنن ابن ماجه (2/6) .

(3)

مسند البزار (كشف الأستار)(2/81-82) .

(4)

الجامع، كتاب الزهد، باب أخذ المال بحقه (7/43-44) .

(5)

أي: ربَّ متصرف في مال الله تعالى بما لا يرضاه الله، وقيل: هو التخليط في تحصيل المال من غير وجهه كيف أمكن. النهاية في غريب الحديث (2/88) .

(6)

صحيح سنن الترمذي (2/280) .

(7)

الصحيح، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (3/335) .

ص: 278

وجاء أيضًا في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات وكل مرة يعطيه ثم قال: "يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه كالذي يأكل ولا يشبع".

وجاء في هذا الحديث أيضًا أن حكيمًا قال: "يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا أرزأ (1) أحدًا بعدك شيئًا، حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر- رضي الله عنه يدعو حكيماً إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثم إن عمر- رضي الله عنه – دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه شيئًا، فقال عمر: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، إني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدًا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي"، أخرجه البخاري (2) ومسلم (3) وآخرون.

وزاد إسحاق بن راهويه في مسنده في آخر خبر حكيم المتقدم لفظ: "فمات حين مات وإنه لمن أكثر قريش مالاً"(4) .

ومما يؤخذ من الأحاديث السابقة:

1 -

الحض على التعفف عن المسألة والتنزه عنها والصبر حتى يأتي الرزق بغير مسألة.

(1)

لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا: أي لا آخذ من أحد بعدك شيئًا، فأنقص بهذا الأخذ ماله، كما في النهاية في غريب الحديث (2/218) بتصرف.

(2)

الصحيح، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة (3/335) . وكتاب الجهاد، باب فضل النفقة في سبيل الله (6/48-49) . وكتاب فرض الخمس، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة قلوبهم (6/248) . وكتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا (11/244) . وباب قول النبي صلى الله عليه وسلم هذا المال خضرة حُلوة (11/258) .

(3)

الصحيح، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا (2/727-729) ، وباب فضل التعفف والصبر (2/729) .

(4)

فتح الباري (3/337) ، ولم أقف على هذه الزيادة في (إتحاف الخيرة المهرة) للبوصيري، ولا في (المطالب العالية) لابن حجر. فالله أعلم.

ص: 279

2 -

قد يقع الزهد مع الأخذ فإن سخاوة النفس هو زهدها.

3 -

أن الأخذ مع سخاوة النفس يحصل أجر الزهد والبركة في الرزق.

4 -

أن الإجمال في الطلب مقرون بالبركة.

5 - البركة تكون في الشيء الكثير وفي الشيء القليل أو اليسير وليست مقصورة فقط على ما هو كثير كما يفهمه بعض الناس وذلك لأنها خلق من خلق الله تعالى (1) .

(1)

انظر: فتح الباري (3/337) بتصرف.

ص: 280

المطلب التّاسع: الاقتصاد في المعيشة وعدم التّبذير

يعد المال أمانة بيد الإنسان، يُسأل عنها يوم القيامة من أين أتى به؟ وفيم أنفقه؟ لذا وجب التصرف فيه بالعدل، فيحفظ حيث يجب الحفظ، ويبذل حيث يجب البذل، فالإمساك في محل البذل بخل، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير، وسلوك الوسطية هو المحمود، مع مراعاة البذل والجود ما أمكن، والخير كل الخير، والبركة والنماء باتباع الشرع، ومن توجيهات القرآن الكريم والسنة المشرفة بهذا الخصوص:

أوّلاً: حسن التّدبير والاقتصاد في المعيشة:

قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (1) .

وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} (2) .

وقال: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} (3) .

وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} (4) .

ومما ينبغي ملاحظته من خلال النظر في هذه الآيات الكريمات ما يلي:

1 -

الأمر بالاقتصاد في العيش وهو التوسط، من غير بخل أو تقتير أو تقصير بالحقوق والواجبات، ومن غير سرف أو تبذير في الإنفاق، فيعطي فوق طاقته، أو يصرف فوق دخله.

2-

أن الذي يسرف ويبذر في النفقة من مأكل ومشرب وملبس وغيرها يقع في الحسرة والندامة والحرج الشديد لذهاب البركة من رزقه ونفاد ما بيده.

(1) سورة الأعراف: الآية رقم (31) .

(2)

سورة الأعراف: الآيتان رقم (26 - 27) .

(3)

سورة الإسراء: الآية رقم (29) .

(4)

سورة الفرقان: الآية رقم (67) .

ص: 281

3-

النهي عن بسط اليد وكثرة الإعطاء فوق الطاقة إنما يكون ذلك في حق من لا يستطيع الصبر على الكفاف، فيقع بهذا البذل في الحسرة على ما خرج من يده مع حاجته إليه، وأما من وثق بموعود الله عز وجل وجزيل ثوابه فيما أنفقه مع صبره واحتماله فغير مراد بالآية (1) .

4-

أفاد بعض العلماء أن التبذير الذي جاء في الآية هو الإنفاق في غير حق. قاله ابن مسعود، وابن عباس (2) رضي الله عنهما وقد روى ابن أبي حاتم بإسناده إلى مجاهد قال: وأنفقت مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله لم يكن إسرافًا، ولو أنفقت صاعًا في معصية الله كان إسرافًا (3) .

(1) انظر: الجامع لأحكام القرآن (10/255) بتصرف.

(2)

انظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير (3/53) .

(3)

تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (5/1465) .

ص: 282

وقد علق البخاري بصيغة الجزم واللفظ له (1) قوله صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة"(2) . وصله كل من الترمذي (3) ، والنسائي (4) ، وابن ماجه (5) ، والطيالسي (6) ، وابن أبي الدنيا (7) ، والحاكم (8) ، كلهم وصلوه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا، وزاد بعضهم لفظ:"إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"، واقتصر بعضهم على هذا اللفظ الأخير فحسب. والحديث صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، كما حسنه الترمذي. كما علق البخاري بصيغة الجزم أثر ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة"(9) ، وصله كل من عبد الرزاق (10) ، وابن أبي شيبة (11) ، والدينوري (12) ، والطبري (13) ، وابن أبي حاتم (14) من طريق معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن

(1) الصحيح، كتاب اللباس، باب قول الله تعالى: قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده (10/252) .

(2)

المخيلة: بوزن عظيمة، وهي بمعنى الخيلاء وهو التكبر، وقيل: بوزن مفعلة من اختال إذا تكبر، والخيلاء، التكبر ينشأ عن فضيلة يتراءاها الإنسان من نفسه أي يتصورها ويتوهمها. انظر: فتح الباري (10/253) بشئ من التصرف.

(3)

الجامع، كتاب الأدب، باب ما جاء إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده (8/106) .

(4)

السنن، كتاب الزكاة، باب الاختيال في الصدقة (5/79) .

(5)

السنن، كتاب اللباس، باب البس ما شئت ما أخطأك سرف أو مخيلة (2/1192) .

(6)

المسند، حديث (2375) .

(7)

الشكر، حديث (51) ، وفي التواضع والخمول، حديث (157) .

(8)

المستدرك (4/135) .

(9)

الصحيح، كتاب اللباس، باب قول الله تعالى: قل من حرم زينة الله (10/252) .

(10)

المصنف (11/270) .

(11)

المصنف (8/405) و (9/95-96) بنفس اللفظ.

(12)

عزاه له الحافظ ابن حجر في الفتح (10/253) ولم أقف عليه في المجالسة له.

(13)

جامع البيان (12/394) .

(14)

تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (5/1465) .

ص: 283

عباس وهو عند عبد الرزاق والطبري وابن أبي حاتم بلفظ: "أحل الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة"، وهذا الأثر صحيح (1) .

قال الموفق عبد اللطيف البغدادي: "هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة، فإن السرف في كل شيء يضر بالجسد، ويضر بالمعيشة فيؤدي إلى الإتلاف، ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال"(2) .

ومما يؤيد أن حسن التدبير والاقتصاد في المعيشة - يمنع بإذن الله - الفقر ويجلب الرزق وتحصل معه البركة، هو ما جاء في حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما عال من اقتصد" عند كل من ابن أبي شيبة (3) ، وأحمد (4) ، والطبراني في (الكبير (5) ، والأوسط (6) ، والشاشي (7) ، قال الهيثمي في أسانيدهم إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف (8) .

قلت: هو ليِّن يكتب حديثه للاعتبار، وقد حسن الحديث السيوطي (9)، لكن تعقبه الألباني فضعفه (10) . قلت: لكن الحديث يشهد له ما قبله كما أن له شواهد منها حديث - ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا: "ما عال مقتصد قطُّ" عند الطبراني في (الكبير (11)، والأوسط (12) . قال الطبراني عقبه في (الأوسط) :"لم يرو هذا الحديث عن أبي روق إلا خالد بن يزيد تفرد به هشام بن خالد"، وقال الهيثمي بعد أن عزاه للطبراني في الكتابين:"ورجاله وثقوا وفي بعضهم خلاف"(13) ، لكن أشار محقق (المعجم الكبير) أن الحديث منقطع.

(1) انظر: تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير (1/420) .

(2)

فتح الباري (10/253) .

(3)

المصنف (9/96) .

(4)

المسند (1/447) .

(5)

المعجم الكبير (10/133) .

(6)

المعجم الأوسط (6/44) .

(7)

المسند (2/162) .

(8)

مجمع الزوائد (10/252) .

(9)

الجامع الصغير (2/146) .

(10)

ضعيف الجامع (ص 736) .

(11)

12/123) .

(12)

9/114-115) .

(13)

مجمع الزوائد (10/252) .

ص: 284

قلت: ومحل الانقطاع هو أن الضحاك بن مزاحم راويه عن ابن عباس مختلف في سماعه من ابن عباس والراجح عدم سماعه منه إلا أنه ثقة مأمون ولم يكن متهمًا، وعندما سئل هل سمعت من ابن عباس قال: لا. فقيل له فهذا الذي تحدثه عمن أخذته؟ قال: "عن ذا وعن ذا"(1) .

ومن شواهد الحديث كذلك حديث طلحة بن عبيد الله بمعناه عند البزار (2) وقال عقبه: "لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، ولم نسمعه إلا من عمران، وكانوا يكتبونه عنه قبل أن نولد. وقال الهيثمي: "وفيه ممن أعرفه اثنان" (3) .

قلت: هكذا قال، وللحديث شواهد أخرى قد ذكرها السخاوي (4) ، ومن بعده العجلوني (5)، وقال هذا الأخير: فهذه الشواهد تقتضي حسن الحديث.

قال المناوي (6) : "أي ما افتقر من أنفق قصدًا، ولم يتجاوز إلى الإسراف، والمعنى إذا لم يبذر بالصرف في معصية الله ولم يقتر فيضيق على عياله ويمنع حقا وجب عليه شحا وقنوطا من خلف الله الذي كفاه المؤمن".

ثانيًا: كيل الطعام:

ومما يساعد على الاقتصاد في المعيشة وحصول البركة في المال كيل الطعام، فقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري (7) ، وابن ماجه (8) ، وأحمد (9)، والطبراني (10) أنه قال:"كيلوا طعامكم يُبَارَكْ لكم فيه". هذا لفظهم، وليس فيه عند البخاري لفظ "فيه"، وقال البوصيري (11) : إسناد ابن ماجه صحيح.

(1)

تهذيب التهذيب (4/453-454) .

(2)

انظر كشف الأستار عن زوائد البزار (4/233) .

(3)

مجمع الزوائد (10/252-253) .

(4)

المقاصد الحسنة (ص 70 - 71) .

(5)

كشف الخفاء ومزيل الإلباس (1/158-159) .

(6)

فيض القدير (5/454) .

(7)

الصحيح، كتاب البيوع، باب ما يستحب من الكيل (4/345) .

(8)

السنن، كتاب التجارات، باب ما يرجى في كيل الطعام من البركة (2/750) .

(9)

المسند (4/131) ، (5/414) .

(10)

المعجم الكبير (4/121) ، (20/273) .

(11)

مصباح الزجاجة (2/185) .

ص: 285

وقد بين العلماء معنى هذا الحديث وكيف يكون الكيل فيه بركة بما يلي:

1-

قال ابن بطال: الكيل مندوب إليه فيما ينفقه المرء على عياله، والمعنى أخرجوا بكيل معلوم يبلغكم إلى المدة التي قدَّرتم.

2-

قال ابن الجوزي: يشبه أن تكون هذه البركة للتسمية عليه عند الكيل.

3-

إن الكيل - غالبًا - يرافقه طلب البركة والدعاء بذلك.

4-

الكيل محمول على الطعام الذي يشترى فالبركة تحصل فيه بالكيل لامتثال أمر الشارع، وإذا لم يمتثل الأمر فيه نزعت البركة منه لشؤم العصيان، وبناءً على هذا فالكيل بمجرده، لا تحصل به البركة ما لم ينضم إليه أمر آخر وهو امتثال الأمر فيما يشرع فيه الكيل، كما لا تنزع البركة من المكيل بمجرد الكيل ما لم ينضم إليه أمر آخر كالمعارضة أو المخالفة، ونحوهما.

5-

ويحتمل أن المراد بالكيل هنا هو عند الادخار طالبين من الله البركة، واثقين بالإجابة، أما من يكيل بعد ذلك ليتعرف مقداره فيكون ذلك شكًا في الإجابة فيعاقب بسرعة نفاده.

6 -

البركة التي تحصل بالكيل بسبب السلامة من سوء الظن بالخادم لأنه إذا أخرج بغير حساب قد يفرغ ما يخرجه وهو لا يشعر فيتهم من يتولى أمره بالأخذ منه، وقد يكون بريئا، وإذا كاله أمن من ذلك (1) .

المطلب العاشر: اتّباع السُّنّة

إن الأخذ أو العمل بكل سبب من الأسباب الجالبة للبركة السابقة الذكر فيه اتباع للسنة بلا شك، والمراد ذكره هنا هو: أن اتباع السنة في كل الأمور الواجبة منها والمستحبة اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم محبةً له واتباعًا لكل ما جاء عنه، وذلك طلبًا لحصول بركة هذا الاتباع في الدنيا والآخرة فإن هذا بحد ذاته يعد سببًا من أسباب استجلاب الخير والبركة في الدنيا والآخرة ويمكن إلحاقه بالأسباب الجالبة للبركة استقلالاً.

(1)

انظر في كل هذا: فتح الباري (4/346) بشئ من التصرف.

ص: 286

على أنه صلى الله عليه وسلم قد أرشد وألفت الأنظار إلى بعض الأعمال والممارسات التي تكون مظنة البركة في المال لا على سبيل الإلزام ولكن على سبيل الاستحباب والندب، ومن أمثلة ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"البركة في نواصي الخيل". وفي حديث آخر: "الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة"، كلاهما عند البخاري (1) ومسلم (2) . وقال أيضًا:"جعل رزقي تحت ظل رمحي" عند كل من البخاري (3)، وأحمد (4) وآخرين. وقال العراقي:"إسناد أحمد صحيح"(5) .

ومن هذا يظهر أن اقتناء الخيل، وارتباطها وتعلم ركوبها، وكذا تعلم الرماية وأدوات الحرب وإتقانها بنية الإعداد، والتهيؤ للجهاد في سبيل الله يكون فيه مغنم وبركة وخير في الدنيا والآخرة، وأن المال الحاصل بسبب الجهاد والإعداد له هو أفضل الرزق وأبركه (6) .

وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم هانئ: "اتخذي غنمًا فإن فيها بركة"، كما جاء عند ابن ماجه (7) . قال البوصيري:"إسناده صحيح ورجاله ثقات"(8) .

كما روى ابن ماجه (9) حديث عروة البارقي مرفوعًا وفيه لفظ "الإبل عز لأهلها والغنم بركة، والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة".

وقال البوصيري: "إسناده صحيح على شرط الشيخين وبعضه في الصحيحين، وإنما انفرد ابن ماجه بذكر الإبل والغنم"(10) .

(1)

الصحيح، كتاب الجهاد، باب الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (6/54) .

(2)

الصحيح، كتاب الإمارة، باب الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (3/1492-1494) .

(3)

الصحيح، كتاب الجهاد، باب ما قيل في الرماح (6/98) .

(4)

المسند (2/50، 92) .

(5)

المغني عن حمل الأسفار في الأسفار (1593) .

(6)

فتح الباري (6/98-99) بتصرف.

(7)

السنن، كتاب التجارات، باب اتخاذ الماشية (2/773) .

(8)

مصباح الزجاج (2/206) .

(9)

السنن، كتاب التجارات، باب اتخاذ الماشية (2/773) .

(10)

مصباح الزجاجة (2/206) .

ص: 287

كما جاء عند البخاري (1)، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن".

كما أرشد صلى الله عليه وسلم الآكل إلى لعق أصابعه والصحفة قائلاً: "إنكم لا تدرون في أيه البركة"(2) . كما أرشد إلى الأكل من أسفل أو حوالي الصحفة لا من أعلاها أو ذروتها فقال: "إن البركة تنزل وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه" عند أبي داود (3) ، والترمذي (4)، وعند أبي داود لفظ:"كلوا من حواليها ودعوا ذروتها يُبَارِكْ فيها". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

قلت: والمراد هنا البدء بالجوانب أولاً قبل الذروة لا النهي عن الأكل من الذروة أو الوسط مطلقا، وقد ورد لعق الأصابع والصحفة آنفا.

كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم قوله: "تسحَّروا فإن في السحور بركة" عند البخاري (5) . قال ابن حجر: "إن البركة في السحور تحصل بجهات متعددة وهي اتباع السنة، ومخالفة أهل الكتاب.."(6) وذكر أن ابن دقيق العيد أشار إلى أن البركة تعود إلى أمور دينية، وأمور دنيوية.

ومما يؤيد أيضا أن اتباع الشرع فيما جاء عنه صلى الله عليه وسلم يحصل به البركة أن الحافظ ابن حجر قال عند الكلام على حديث كيل الطعام المتقدم في السبب التاسع قال: "فالبركة تحصل فيه بالكيل لامتثال أمر الشارع، وإذا لم يمتثل الأمر فيه بالاكتيال نزعت منه لشؤم العصيان"(7) .

(1)

الصحيح، كتاب بدء الخلق، باب خير مال المسلم غنم (6/350) .

(2)

صحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب استحباب لعق الأصابع (3/1606) .

(3)

السنن، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الأكل من أعلى الصحفة (3/348-349) .

(4)

الجامع، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في كراهية الأكل من وسط الطعام (5/524) .

(5)

الصحيح، كتاب الصوم، باب بركة السحور (4/139) .

(6)

فتح الباري (4/140) .

(7)

فتح الباري (4/364) .

ص: 288

كما تقدم في آخر المطلب الثامن أن حكيم بن حزام رضي الله عنه عندما أخذ بنصيحة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يسأل أحدًا بعده ولم يقبل العطاء ولا نصيبه من أبي بكر ولا من عمر بعده رضي الله عنهما. بارك الله لحكيم بهذه النية في اتباع السنة النبوية، وعوضه خيرًا فمات وإنه لمن أكثر قريش مالاً، والله أعلم.

تنبيه

لئن اقتضت طبيعة هذا البحث أن يكون الكلام في أكثره منصبا على الأسباب الجالبة للبركة في الرزق في حياة الإنسان المعيشية الدنيوية، فليس معناه أن هذه البركة لا تنسحب بتلك الأسباب على البركة في حياته الأخروية فتحصل له البركة في الأعمال الصالحة ومضاعفة الأجر فيها بل إن الأجر والثواب الأخروي حاصل بتلك الأسباب أو أكثرها من باب أولى، إذ لا يمكن تصور حصول البركة في الرزق وازدياد المال بتلك الأسباب الجالبة لذلك من غير حصول البركة في ثواب تلك الأعمال.

ومن خلال استقراء ما جاء في البحث من نصوص حول البركة في الرزق وأسبابها، يلحظ أن البركة في الأجر ومضاعفة الحسنات داخل في ذلك دخولاً أوليًا، وكثيرًا ما نبه العلماء على هذه البركة. وزيادة على ما مر في هذا البحث من ذكر للأجر الأخروي ومضاعفته فهناك نصوص كثيرة ناطقة بذلك صراحة منها قوله تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1) .

(1)

سورة البقرة: الآية رقم (261) .

ص: 289

وقد جاء عند كل من البخاري (1) ، ومسلم (2) ، والترمذي (3) ، والدارمي (4) وغيرهم، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه واللفظ للبخاري والباقون بنحوه أنه صلى الله عليه وسلم قال:"من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا الطيب - فإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربِّيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوَّه (5) ، حتى تكون مثل الجبل". وقد جاء عند مسلم (6)، والنسائي (7) من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مخطومة فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة" هذا لفظ مسلم، والنسائي بنحوه.

وقال صلى الله عليه وسلم: "سبق درهمٌ مائةَ ألف درهم"، قالوا: وكيف؟. قال: "كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما وانطلق رجل إلى عُرْض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها". كما جاء عند النسائي (8) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقد حسنه الألباني (9) .

الخاتمة

وفيها أهم النتائج:

أحمد الله سبحانه وأشكره على كبير لطفه، وعظيم إنعامه، ومن ذلك توفيقي لاختيار هذا البحث وإتمامه، ومن النتائج التي توصلت إليها من خلاله ما يلي:

(1)

الصحيح، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب (3/278) . وكتاب التوحيد، باب قوله تعالى:(تعرج الملائكة والروح إليه)(13/415) .

(2)

الصحيح، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيته (2/703) .

(3)

الجامع، كتاب الزكاة، باب ما جاء في فضل الصدقة (3/327) .

(4)

السنن (1/333) .

(5)

الفلو: المهر الصغير، وقيل:هو الفطيم من أولاد ذوات الحوافر. النهاية (3/474) .

(6)

الصحيح، كتاب الإمارة، باب فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها (3/1505) .

(7)

السنن، كتاب الجهاد، باب فضل الصدقة في سبيل الله عز وجل (6/49) .

(8)

السنن، كتاب الزكاة، باب جهد المقل (5/59) .

(9)

صحيح سنن النسائي (2/532) ، التعليق على ابن خزيمة حديث رقم (2443) .

ص: 290

1 -

كرم الله سبحانه وتعالى وسعة رحمته بعباده، إذ خلقهم ورزقهم، ووعد من أحسن وبذل المال على حبه، بالمزيد من خزائن، لا تحصى ولا تنفد.

2 -

أهمية الرزق (المال) في حياة الناس أفرادًا وجماعات، إذ يتوقف عليه كثير من مصالحهم الدينية والدنيوية.

3 -

البركة في الرزق خلق من خلق الله، تكون في القليل، كما تكون في الكثير، وتكون بزيادة ونماء الموجود، كما تكون بوصول المفقود والحصول عليه.

4 -

البركة في الرزق قد تكون زيادة جلية، وقد تكون خفية بالإضافة إلى كونها مستقرة مستمرة عند من تحصل له بالأسباب الجالبة لها.

5 -

من سنة الله في الكون والإنسان أن جعل أسبابًا لابد للإنسان من سلوكها للحصول على رزقه واستجلاب البركة والنماء فيه، وهذه الأسباب بعضها متعلق بالإنسان نفسه، وبعضها متعلق به وبعلاقته مع خالقه وبعضها متعلق به وبعلاقته مع إخوانه من أبناء جنسه ممن يخالطهم ويعايشهم، وبعضها يتعلق بالرزق أو المال نفسه.

ومن أبرز هذه الأسباب الجالبة للبركة في الرزق بشكل عام:

أ - تقوى الله عز وجل بفعل الطاعات، وتجنب المعاصي والمحرمات.

ب - حسن التوكل على الخالق، والانقطاع إليه دون غيره، مع ملازمة الذكر، والشكر، والدعاء والاستغفار.

ج - السعي في طلب الرزق واستجلاب البركة فيه، مع توخي الحلال والابتعاد عن الحرام بجميع صوره وأشكاله.

د - بذل الأموال، والقيام بالواجبات المتعلقة به من عبادات، وصدقات، وصلة أرحام، بسخاوة نفس وجود وبذل للمعروف.

هـ - الاقتصاد في المعيشة، مع حسن التدبير، والابتعاد عن الترف والتبذير.

6 -

إن عدم اتباع الشرع، أو الإخلال بشئ من هذه الأسباب يؤدي إلى زوال البركة، ومحق الرزق، وحرمان الإنسان من تجدد النعم واستقرارها.

هذا والله أعلم.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

فهرس المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

إحياء علوم الدين. الغزالي، أبو حامد محمد، دار إحياء الكتب العلمية، البابي الحلبي.

ص: 291

الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار. النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف، مكتبة الرياض.

الإصابة في تمييز الصحابة. ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، مطبعة السعادة، مصر، ط1، 1328هـ.

بذل المجهود في حل أبي داود. السهارنفوري خليل أحمد، تعليق: الكاندهلوي، دار الكتب العلمية.

التاج الجامع للأصول. منصور علي ناصيف، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ

تاريخ بغداد. أبو بكر الخطيب، المكتبة السلفية، المدينة المنورة.

تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي. المباركفوري، محمد عبد الرحمن، مراجعة: عبد الوهاب عبد اللطيف، نشر: محمد عبد المحسن الكتبي، مطبعة المدني، ط2، 1383هـ / 1963.

تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف. المزي، أبو الحجاج يوسف، تعليق: عبد الصمد شرف الدين، الدار القيمة، الهند، ط 1، 1389هـ/ 1969م.

الترغيب والترهيب من الحديث الشريف. المنذري، زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة دار الفكر، بيروت، ط 2، سنة 1392هـ/ 1973م.

التعريفات، الجرجاني، علي بن محمد، تحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، ط 2، سنة 1413هـ / 1992م.

تفسير الحسن البصري، جمع وتحقيق ودراسة: د. شير علي شاه، نشر الجامعة العربية أحسن العلوم، كراتشي، ط1، 1413هـ / 1993م.

تفسير ابن عباس ومروياته في كتب السنة، عبد العزيز الحميدي، مطبوعات جامعة أم القرى، مكة المكرمة، بدون تاريخ.

تفسير القرآن العظيم. ابن كثير، عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن كثير، مكتبة دار السلام، ط1، سنة 1414هـ / 1994م.

تفسير القرآن العظيم. الرازي عبد الرحمن بن أبي حاتم، تحقيق: أسعد محمد الطيب، مكتبة الباز، مكة المكرمة، ط1، 1417هـ / 1997م.

تهذيب الأسماء واللغات، النووي أبو زكريا محيي الدين، دار الكتب العلمية، بيروت.

تهذيب التهذيب. ابن حجر العسقلاني أحمد بن علي، دائرة المعارف، حيدر آباد، الهند، ط1، 1325هـ.

ص: 292

التواضع والخمول. ابن أبي الدنيا أبو بكر عبد الله بن محمد، تحقيق: لطفي محمد الصغير، دار الاعتصام، القاهرة، بدون تاريخ.

الجامع. الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى (مع شرح تحفة الأحوذي) ، مطبعة المدني، 1383هـ.

الجامع، أبو عيسى الترمذي، تحقيق: أحمد شاكر، ط1، سنة 1356هـ/ 1937م.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن. الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، تحقيق: محمود محمد شاكر، وأحمد محمد شاكر، مكتبة ابن تيمية.

الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، السيوطي جلال الدين عبد الرحمن، دار الكتب العلمية.

الجامع لأحكام القرآن. القرطبي، محمد بن أحمد، تحقيق: محمد إبراهيم الحفناوي، دار الحديث، ط1، سنة 1414هـ / 1994م.

جزء الدراج. الدراج أبو عمرو عثمان بن عمر، مخطوط مصور عن الأصل في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.

حاشية على سنن النسائي (بهامش السنن) . السندي، أبو الحسن نور الدين، عناية: عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، ط 3، سنة 1409هـ / 1988م.

حلية الأولياء. أبو نعيم الأصبهاني، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 2، سنة 1387هـ.

الدر المنثور في التفسير بالمأثور. السيوطي جلال الدين، دار المعرفة.

زاد المعاد في هدي خير العباد. ابن قيم الجوزية، تحقيق: شعيب وعبد القادر الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ومكتبة المنار الإسلامية، ط14، سنة 1410هـ / 1990م.

سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة. الألباني محمد ناصر الدين، المكتب الإسلامي، ط1، 1399هـ.

السنن. السجستاني، أبو داود سليمان بن الأشعث، تعليق: محمد محيي الدين، نشر دار إحياء التراث.

السنن. القزويني ابن ماجه، أبو عبد الله محمد بن يزيد (ت: 275) ، تحقيق وترقيم: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، سنة 1395هـ/ 1975م.

السنن. النسائي، أحمد بن شعيب، بعناية وترقيم: عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية، بيروت، ط 2، سنة 1409هـ / 1988م.

ص: 293

سنن الدارقطني. الدارقطني، علي بن عمر، تحقيق: عبد الله هاشم يماني، سنة 1386هـ / 1966م.

سنن الدارمي. الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن، تحقيق: السيد عبد الله هاشم، نشر: حديث أكادمي، باكستان، سنة 1404هـ / 1984م.

السنن الكبرى. البيهقي، أحمد بن الحسين، دار المعرفة، ط1، سنة 1346هـ.

شرح صحيح مسلم (المنهاج) . النووي، محيي الدين أبو زكريا، المطبعة المصرية.

شعب الإيمان. البيهقي، أبو بكر أحمد بن الحسين، تحقيق: زغلول، دار الكتب العلمية، ط1، 1410هـ / 1990م.

الشكر لله عز وجل. ابن أبي الدنيا، أبو بكر عبد الله بن محمد، تحقيق: ياسين محمد السواس، دار ابن كثير، بيروت، ط2، 1407هـ / 1987م.

الصحيح. البخاري، محمد بن إسماعيل (مع فتح الباري) ، المطبعة السلفية، القاهرة، سنة 1380هـ.

الصحيح. النيسابوري، مسلم بن الحجاج، ترتيب: محمد فؤاد عبد الباقي.

صحيح ابن حبان (الإحسان) . البستي، محمد بن حبان، ترتيب: الفارسي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، سنة 1407هـ/ 1987م.

صحيح ابن خزيمة. ابن خزيمة أبو بكر محمد بن إسحاق، تحقيق: محمد مصطفى الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط1، 1390هـ.

صحيح الجامع الصغير وزيادته. الألباني ناصر الدين، المكتب الإسلامي، بدون تاريخ.

صحيح سنن الترمذي. الألباني محمد ناصر الدين، تعليق: زهير الشاويش، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط1، 1408هـ / 1988م.

صحيح سنن ابن ماجه. الألباني محمد ناصر الدين، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط1، 1407هـ / 1986م.

صحيح سنن النسائي. الألباني محمد ناصر الدين، تعليق: زهير الشاويش، نشر مكتب التربية العربي لدول الخليج، ط1، 1409هـ / 1988م.

ضعيف الجامع الصغير وزيادته (الفتح الكبير) . الألباني محمد ناصر الدين، المكتب الإسلامي، بيروت، ط1، 1410هـ / 1990م.

ص: 294

طبقات الشافعية الكبرى. السبكي عبد الوهاب بن علي، تحقيق: محمود الطناحي وعبد الفتاح الحلو، دار إحياء الكتب العربية، بدون تاريخ.

العلل المتناهية في الأحاديث الواهية. ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن ابن علي، تحقيق: إرشاد الحق الأثري، نشر: إدارة العلوم الأثرية، فيصل آباد، باكستان، ط1، سنة 1401هـ / 1981م.

عمل اليوم والليلة. ابن السني أبو بكر، مكتبة الكليات الأزهرية، ط1، سنة 1389هـ / 1969م.

عمل اليوم والليلة. النسائي، أحمد بن شعيب، تحقيق: د. فاروق حماده، مكتبة المعارف بالرياض، ط1، سنة 1401هـ / 1981م.

فتح الباري بشرح صحيح البخاري. ابن حجر العسقلاني، أحمد بن علي، المكتبة السلفية، القاهرة، سنة 1380هـ.

الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية. الصديقي، محمد بن علان، نشر المكتبة الإسلامية.

فيض القدير شرح الجامع الصغير. المناوي، محمد عبد الرؤوف، دار المعرفة، بيروت، ط2، سنة 1391هـ / 1972م.

غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام. الألباني، ناصر الدين، المكتب الإسلامي، ط2، 1402هـ / 1982م.

القاموس المحيط. الفيروز أبادي، محمد بن يعقوب. المطبعة الحسينية المصرية، ط2، سنة 1344هـ.

كشف الأستار عن زوائد البزار. الهيثمي، نور الدين، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، سنة 1399هـ.

كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس. العجلوني، إسماعيل بن محمد، دار إحياء التراث، ط3، سنة 1351هـ.

لسان العرب. ابن منظور، محمد بن مكرم، دار صادر، بيروت، ط1، سنة 1300هـ.

مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. الهيثمي، نور الدين، دار الكتاب العربي، ط2، سنة 1387هـ.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. ابن عطية أبو محمد عبد الحق، تحقيق: الرحالي الفاروق وآخرين، الدوحة، ط1، 1398هـ / 1977م.

ص: 295

مختصر زوائد مسند البزار على الكتب الستة ومسند أحمد. ابن حجر العسقلاني، تحقيق: صبري أبو ذر، مؤسسة الكتب الثقافية، ط1، 1412هـ / 1992م.

مدارج السالكين. ابن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، ط2، سنة 1408هـ/ 1988م.

مختصر سنن أبي داود. المنذري، زكي الدين عبد العظيم، تحقيق: محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية، القاهرة، (بدون تاريخ) .

المراسيل. الرازي عبد الرحمن بن أبي حاتم، عناية: شكر الله نعمة الله، مؤسسة الرسالة، ط 2، 1402هـ / 1982م.

المستدرك على الصحيحين. الحاكم النيسابوري، أبو عبد الله محمد بن عبد الله، دار الفكر، بيروت، سنة 1398هـ/ 1978م.

المسند. ابن حنبل، أحمد بن محمد، المكتب الإسلامي، دار صادر، بيروت.

المسند. ابن حنبل أحمد بن محمد، شرح: أحمد شاكر، دار المعارف بمصر، 1374هـ/ 1955م.

المسند. الطيالسي أبو داود سليمان بن داود، تحقيق: محمد عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر، ط1، 1420هـ / 1999م.

المسند. الشاشي، الهيثم بن كليب، تحقيق: محفوظ الرحمن زين الله، نشر: مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، ط1، 1410هـ.

مسند أبي يعلى الموصلي، أحمد بن علي، تحقيق: حسن سليم أسد، دار المأمون للتراث، دمشق، ط1، 1404هـ / 1984م.

مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه. البوصيري، أحمد بن أبي بكر، تحقيق: موسى محمد علي، وعزت علي عطية، دار الكتب الحديثة.

المصنف. الصنعاني، عبد الرزاق بن همام، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، ط2، سنة 1403هـ/ 1983م.

المصنف في الحديث والآثار. ابن أبي شيبة، أبو بكر عبد الله بن محمد (ت:235) ، تحقيق: الشيخ عامر العمري الأعظمي، نشر: مختار أحمد الندوي، الدار السلفية بالهند.

المعجم الأوسط. الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد (ت:360) ، تحقيق: د. محمود الطحان، مكتبة المعارف بالرياض، ط1، سنة 1415هـ / 1995م.

ص: 296

المعجم الصغير. الطبراني، أبو القاسم سليمان بن أحمد، دار الكتب العلمية، بيروت، سنة 1403هـ.

المعجم الكبير. الطبراني، أبو القاسم سليمان أحمد، تحقيق: حمدي السلفي، مطبعة الأمة، بغداد، سنة 1978م.

معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع. البكري الأندلسي، عبد الله بن عبد العزيز، تحقيق: مصطفى السقا، عالم الكتب، بيروت، ط1، سنة 1364هـ – 1945م.

معرفة السنن والآثار، البيهقي أبو بكر أحمد بن الحسين، عناية: عبد المعطي أمين قلعجي، دار الوعي، حلب، ط1، 1411هـ / 1991م.

معرفة الصحابة. الأصبهاني أبو نعيم، أحمد بن عبد الله، تحقيق: عادل العزازي، دار الوطن، الرياض، ط1، 1419هـ/ 1998م.

المغني عن حمل الأسفار في الأسفار (تخريج أحاديث إحياء علوم الدين) . العراقي، أبو الفضل زين الدين، اعتنى به: أبو محمد أشرف بن عبد المقصود، مكتبة طبرية، ط1، سنة 1415هـ / 1995م.

المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة. السخاوي محمد بن عبد الرحمن، تصحيح: عبد الله محمد الصديق، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1399هـ / 1979م.

الملكية في الشريعة الإسلامية. العبادي عبد السلام، مكتبة الأقصى، الأردن، ط1، سنة 1394هـ - 1974م.

النهاية في غريب الحديث والأثر. الجزري، مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد، تحقيق: محمود الطناحي، وطاهر الزاوي، نشر: المكتبة الإسلامية، ط1، سنة 1383هـ / 1963م.

هدي الساري مقدمة فتح الباري. ابن حجر العسقلاني أحمد بن علي، المطبعة السلفية، بدون تاريخ.

ص: 297

المقدَّمة

الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وفضله على كثير من المخلوقات بالعقل والتفكير، والصلاة والسلام على الهادي البشير، وآله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد؛ فإن الله تبارك وتعالى خلق الإنسان، ونفخ فيه الروح وسجد له الملائكة، وجعله خليفته في الأرض، وفضله على كثير مما خلق تفضيلا، قال تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (1) وتجلت في خلقه عظمته حيث قال: عز وجل: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (2) ، وتولاه بحفظه فشرع احترامه وحرم قتله بغير حق، قال تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} (3)، وقال تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أول ما يقضى بين الناس، يوم القيامة، في الدماء "(4) .وقد عظمت العقوبة في الاعتداء على النفس المؤمنة في الدنيا بالقود في النفس والقصاص في الطرف، وفي الآخرة بما توعد الله به القاتل من غضبه ولعنته، وأن مصيره إلى جهنم وبئس المصير، قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ

(1) آية (70) من سورة الإسراء.

(2)

آية (14) من سورة المؤمنون.

(3)

آية (29) من سورة النساء.

(4)

أخرجه البخاري 8/35 في كتاب الديات، باب قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} ، ومسلم 2/1304 في القسامة، باب المجازاة في الآخرة، من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه.

ص: 298

وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (1)، وقوله تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (2)، وقوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأَذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (3) . وفي إقامة القصاص على الجاني حياة للناس، قال تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (4) ، كيف لا والقاصد للاعتداء على الإنسان إذا علم أنه مقتول أو معاقب على فعلته فكر كثيراً، ونظر في العاقبة، وثاب إلى رشده، وكف عن فعلته، فكان في ذلك حقنٌ لدمه ودم غيره وحياة له ولغيره من الناس، أجل بتطبيق القصاص في النفس وما دونها تحقن الدماء، وينتشر الأمن، ويطمئن الإنسان على نفسه وماله وعرضه. ومن أمعن النظر في بلادنا المباركة التي حرص ولاة الأمر فيها على تطبيق شرع الله يجد أنها تنعم بالأمن والطمأنينة والعدل والاستقرار بفضل التزامها بتطبيق شرع الله مما جعلها مضرب المثل.

ولما كانت مسائل القصاص في النفس والطرف كثيرة ومتشعبة أحببت أن أسهم ببيان شيء من أحكامه، فنظرت في مسألة الاشتراك في الجناية بقتل النفس المحترمة أو جرحها ظلما وعدوانا، فوجدت الاختلاف في القود بها والقصاص في الأطراف فيها حاصلا فأحببت أن أجلي الحق فيها وأكشف غموضها بأسلوب علمي قريب إلى الإفهام في مؤلف سميته "الاشتراك المتعمد في الجناية على النفس بالقتل أو الجرح ".

وقسمت هذا البحث إلى مقدمة وخمسة مباحث وخاتمة.

(1) آية (93) من سورة النساء.

(2)

آية (33) من سورة الإسراء.

(3)

آية (45) من سورة المائدة.

(4)

آية (179) من سورة البقرة.

ص: 299

المقدمة: وتشتمل على الافتتاحية وخطة البحث ومنهجه.

المبحث الأول:

في تعريف الجناية لغة واصطلاحا وبيان أقسامها.

المبحث الثاني:

في حكم القتل بغير حق.

المبحث الثالث:

مشروعية القصاص في النفس وما دون النفس.

وفيه مطلبان:

المطلب الأول: في مشروعية القصاص في الجناية على النفس.

المطلب الثاني: في مشروعية القصاص في الجناية على ما دون النفس.

المبحث الرابع: وفيه ثلاثة مطالب.

المطلب الأول:

في الاشتراك في الجناية على الواحد بالقتل.

المطلب الثاني:

في اشتراك الأب والأجنبي في قتل الولد.

المطلب الثالث:

في اشتراك الصبي والمجنون والبالغ في القتل.

المبحث الخامس:

في الاشتراك المتعمد في الجناية على الواحد بالجرح أو القطع.

الخاتمة: ذكرت فيها أهم نتائج البحث.

وسلكت في إعداد هذا البحث المنهج الآتي:

1-

جمعت المادة العلمية المتعلقة بالاشتراك المعتمد في الجناية على النفس بالقتل أو الجرح.

2-

درست المسألة الواردة في البحث دراسة موازنة وحرصت على بيان المذاهب الأربعة في المسألة، وقد أذكر أقوال بعض الصحابة والتابعين وغيرهم من الفقهاء.

3-

حرصا مني على إخراج المسألة بأسلوب مبسط، يسهل معه معرفة الحكم في المسألة صدرتها بالإجماع أو الاتفاق إن كانت من المسائل المتفق أو المجمع عليها، كما أنني إن رأيت الخلاف ليس قويا في المسألة صدرت المسألة بقول أكثر أهل العلم، وبعد ذلك أشير إلى القول المخالف ثم أذكر أدلة كل قول، وما قد يرد عليه من اعتراض إن وجد، ثم أختم المسألة بالقول الراجح، وقد أؤخر الاعتراضات مع الترجيح.

4-

حرصت على نقل أقوال الفقهاء من مصادرها الأصلية.

5-

ذكرت أرقام الآيات الواردة في البحث مع بيان أسماء سورها.

ص: 300

6-

خرجت الأحاديث الواردة في البحث مبينا الكتاب والباب والجزء والصفحة. فإن كان الحديث في الصحيحين أو في أحدهما اكتفيت بتخريجه منهما أو من أحدهما، وإن لم يكن فيهما أو في أحدهما اجتهدت في تخريجه من كتب السنة الأخرى مع ذكر درجة الحديث صحة أو ضعفا معتمدا على الكتب التي تعنى بذلك.

7-

بينت معاني الكلمات التي تحتاج إلى بيانها معتمدا على الكتب التي تعنى بذلك.

8-

لم أترجم للأعلام الواردة في البحث خشية الإطالة.

9-

بينت في نهاية البحث في الخاتمة أهم النتائج التي توصلت إليها.

10-

وضعت فهرسا للمصادر التي اعتمدت عليها مرتبا حسب الحروف الهجائية، وآخر للموضوعات.

المبحث الأول: تعريف الجناية وبيان أقسامها

تعريف الجناية:

الجناية لغة: مصدر جنى جناية، وجمعه جنايات، وجمعت – وإن كانت مصدرا – لتنوعها إلى عمد وشبه عمد وخطأ. والجناية؛ الذنب والجرم وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه القصاص والعقاب في الدنيا والآخرة. يقال: جنى جناية إذا جر جريرة على نفسه أو على قومه. (1)

واصطلاحا: هي التعدي على البدن بما يوجب عليه قصاصا أو مالا (2) .

أقسام الجناية: تقدم في تعريف الجناية اصطلاحا أنها التعدي على البدن.

وهذا التعدي لا يخلو الحال فيه من أمرين:

1-

أن يكون بإزهاق الروح، وهو القتل.

2-

أن يكون واقعا على عضو من الأعضاء، ولا يؤدي لإزهاق الروح كقطع يد أو قلع عين أو قطع أذن أو أنف

الخ.

وبهذا يتبين أن الجناية إما أن تكون:

1-

على النفس.

2-

أو ما دون النفس.

(1) انظر: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1/309، المصباح المنير 1/136، 137، لسان العرب 14/154، التفريعات ص/79، القاموس المحيط 4/212.

(2)

انظر: حاشية ابن عابدين 6/527، مواهب الجليل 6/277، المجموع 18/344، المغني 11/443.

ص: 301

وهذا التقسيم مجمع عليه بين العلماء (1) .

ثم اخلتف العلماء – رحمهم الله تعالى – في أنواع الجناية على النفس وعلى ما دون النفس على النحو التالي:

أولا: أنواع الجناية على النفس:

إذا نُظِرَ إلى أقوال الفقهاء – رحمهم الله تعالى - في تقسيماتهم لأنواع الجناية على النفس يتضح أن آراءهم تنحصر في تقسيمها بين ثنائي وخماسي، وبذلك انحصرت أقوالهم في أربعة:

التقسيم الخماسي:

قسم جماعة من الحنفية كالجصاص (2) والقدوري (3) والنسفي (4) الحناية على النفس إلىخمسةأقسام:

1-

العمد: وهو تعمد الضرب بسلاح أو ما يجرى مجراه في تفريق الأجزاء كالمحدد من الخشب والحجر والنار (5) .

2-

شبه العمد: وهو تعمد الضرب بما ليس بسلاح ولا ما يجري مجراه (6) .

3-

الخطأ: وهو ضرب الشخص بدون تعمد. وهو على نوعين:

أ- خطأ في القصد: وهو أن يرمي شخصا يظنه صيدا، فإذا هو آدمي أو يظنه حربيا فإذا هو مسلم. ب- خطأ في الفعل: وهو أن يرمي عرضا فيصيب آدميا (7) .

4-

الجاري مجرى الخطأ: وهو حصول الموت بما لا يصدر عن إرادة وقصد كأن ينقلب نائم على آخر فيقتله. (8)

5-

القتل بالسبب: وهو التسبب في موت آخر دون قصد ومباشرة كمن يحفر بئرا في الطريق فيقع فيها عابر السبيل فيموت (9) .

التقسيم الرباعي:

(1) انظر: مختصر الطحاوي ص/234، حاشية ابن عابدين 6/527، الكافي 2/383، مواهب الجليل 6/276، روضة الطالبين 9/122، المجموع 18/398، المغني 11/530، المبدع 8/306.

(2)

انظر: المبسوط 26/59.

(3)

انظر: مختصر القدوري 3/141.

(4)

انظر: كنز الدقائق 6/97.

(5)

انظر: مختصر الطحاوي ص/232، الاختيار 5/31.

(6)

انظر: الاختيار 5/34، حاشية ابن عابدين 6/529.

(7)

انظر: المبسوط 26/66، بدائع الصنائع 7/234.

(8)

انظر: المبسوط 26/66، حاشية ابن عابدين 6/531.

(9)

انظر: الاختيار 5/35، المبسوط 26/68.

ص: 302

قسم جماعة من الحنابلة كأبي الخطاب، وصاحب المذهب، ومسبوك الذهب، والمستوعب، والخلاصة، والرعايتين، والحاوي والرعايتين، وغيرهم (1) القتل إلى أربعة:

1-

العمد.

2-

شبه العمد.

3-

الخطأ.

4-

ما جرى مجرى الخطأ.

ولم يقولوا بقتل السبب؛ لأنهم يدخلونه في ما جرى مجرى الخطأ.

التقسيم الثلاثي:

قسم الحنفية في ظاهر الرواية عندهم (2) ، وهو قول لمالك حكاه العراقيون وغيرهم عنه (3)، وبه قال الشافعية (4) والحنابلة في المعتمد عندهم (5) القتل إلى ثلاثة أقسام:

1-

العمد: وهو أن يضربه بما يغلب على الظن موته به من سلاح أو ما جرى مجراه (6) من حديد أو خشب أو حجر أو نحوه مما يقتل غالبا (7) .

2-

شبه العمد: هو أن يضربه بما لا يقتل غالبا كأن يضربه في غير مقتل بسوط أو عصىً صغيرة أو يفعل فعلا الأغلب من ذلك الفعل أنه لا يقتل مثله (8) .

3-

الخطأ: وهو ضرب الشخص بدون قصد. وهو ضربان:

أ- خطأ في الفعل: بأن يرمي صيدا أو هدفا، أو شخصا فيصيب إنسانا لم يقصده، أو يكون نائما ونحوه فينقلب على إنسان فيقتله.

ب- خطأ في القصد كأن يرمي من يظنه حربيا فإذا هو مسلم (9) .

(1) انظر: المغني 11/445، الإنصاف 9/433، المبدع 8/240.

(2)

انظر: المبسوط 26/59، مختصر الطحاوي ص/232.

(3)

انظر: المعونة 3/1306، المنتقى 7/100.

(4)

انظر: الأم 7/299، 300، المنهاج 4/3، غاية الاختصار ص/451.

(5)

انظر: المغني 11/442، الشرح الكبير 25/8، الإنصاف 9/433، الفروع 5/622.

(6)

خلافا لأبي حنيفة فإنه يرى أن القتل بالمثقل ليس من العمد.

انظر: بدائع الصنائع 7/233، حاشية ابن عابدين 6/527، 528.

(7)

انظر: الكافي 2/382، مغني المحتاج 4/3، المبدع 8/241.

(8)

انظر: الاختيار 5/34، المنهاج 4/4، المغني 11/462.

(9)

انظر: المبسوط 26/68، الكافي 2/391، المنهاج 4/4، المحرر 2/124، كشاف القناع 5/513.

ص: 303

ولم يقولوا بقتل السبب وما جرى مجرى الخطأ انفرادا؛ لأنهم أدخلوهما في قتل الخطأ.

التقسيم الثنائي:

قسم المالكية في المعتمد عندهم القتل إلى قسمين:

1-

العمد.

2-

الخطأ (1) .

وهذا التقسيم سواء الخماسي أو الرباعي أو الثلاثي هو في الواقع من باب اختلاف تنوع صور القتل لاتفاقهم على تقسيمها باعتبار الحكم الشرعي على ثلاثة أنواع:

1-

العمد.

2-

شبه العمد.

3-

الخطأ.

خلافا للمالكية في المعتمد عندهم حيث إنهم يسقطون شبه العمد. وهم محجوجون بحديث عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها "(2) .

ثانيا: الجناية على ما دون النفس.

يراد بالجناية على ما دون النفس: كل أذى يقع على الإنسان من الغير مما لا يوجب موته، سواء كانت الجناية عمدا أو غير عمد.

وهذه الجناية تنقسم إلى قسمين:

1-

الجناية الواقعة على الوجه والرأس.

2-

الجناية الواقعة على سائر البدن (3) .

المبحث الثّاني: القتل بغير حقّ

القتل بغير حق حرام وكبيرة من كبائر الذنوب (4) .

دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع.

(1) انظر: المعونة 3/1307، الكافي 2/382.

(2)

أخرجه أبو داود 4/682-683 في كتاب الديات، باب في دية الخطأ شبه العمد، والنسائي 8/40، في القسامة، باب كم دية شبه العمد، وابن ماجة 2/877 في الديات، باب دية شبه العمد، والبيهقي 8/68 في كتاب الديات، باب أسنان الإبل المغلظة في شبه العمد، وابن حبان حديث رقم (1526) وصححه الألباني في إرواء الغليل 7/256.

(3)

انظر: الهداية 2/569، تبيين الحقائق 6/111، بداية المجتهد 2/405، قوانين الأحكام الشرعية ص/368، المهذب 2/178، روضة الطالبين 9/179، 181، المغني 11/530 وما بعدها، الشرح الكبير 25/284.

(4)

انظر: المبسوط 26/58، 59، المهذب 2/172، المغني 11/443.

ص: 304

.. أما الكتاب فآيات كثيرة، منها:

1-

قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} (1) .

2-

وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَاّ خَطَأً} (2) .

3-

وقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} (3) .

4-

وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} (4) .

5-

وقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} (5) .

وأما السنة فأحاديث كثيرة، منها:

(1) آية (33) من سورة الإسراء.

(2)

آية (92) من سورة النساء.

(3)

آية (93) من سورة النساء.

(4)

آية (31) من سورة الإسراء.

(5)

آية (32) من سورة المائدة.

ص: 305

1-

حديث عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الكبائر (1) الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس (2) "(3) .

2-

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث (4) الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة "(5) .

(1) ذكر في الحديث هنا أربع كبائر، وفي حديث آخر ذكر سبع كبائر، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري 12/183 الحكمة في الاقتصار على ذلك مع أن الكبائر لا يقتصر على ما ذكر: أن مفهوم العدد ليس بحجة، وهو جواب ضعيف، وبأنه أعلم أولا بالمذكورات ثم أعلم بما زاد، فيجب الأخذ بالزائد أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل أو من وقعت له واقعة.

(2)

الغموس: بفتح المعجمة وضم الميم. سميت بذلك؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار، فهي فعول بمعنى فاعل. انظر: فتح الباري 11/555.

(3)

أخرجه البخاري 7/228 في كتاب الأيمان والنذور، باب اليمين الغموس.

(4)

قال الشوكاني في نيل الأوطار 7/6: " قوله " إلا بإحدى ثلاث " مفهوم هذا يدل على أنه لا يحل بغير هذه الثلاث، وسيأتي ما يدل على أنه يحل بغيرها فيكون عموم هذا المفهوم مخصصا بما ورد من الأدلة الدالة على أنه يحل دم المسلم بغير هذه الأمور المذكورة ".

(5)

أخرجه البخاري 8/38 في كتاب الديات، باب قول الله تعالى:{أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، ومسلم 3/1302 في كتاب القسامة، باب ما يباح به دم مسلم.

ص: 306

3-

حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: "إني من النقباء (1) الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئا، ولا نزني، ولا نسرق، ولا نقتل النّفس التي حرم الله "(2) .

4-

حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما "(3) .

5-

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء (4) "(5) .

وأما الإجماع:

فقد نقل ابن قدامة – رحمه الله تعالى – أنه لا خلاف بين الأئمة في تحريم القتل بغير حق (6) .

المبحث الثّالث:

مشروعية القصاص في النّفس وما دون النّفس

وفيه مطلبان:

المطلب الأوّل: في مشروعية القصاص في النفس

أجمع العلماء على أن القود واجب بالقتل العمد إذا اجتمعت شروطه (7)

(1) النقباء؛ أي العرفاء. انظر: المصباح المنير 2/620.

(2)

أخرجه البخاري 8/35 في كتاب الديات، باب قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا

} .

(3)

أخرجه البخاري 8/35 في كتاب الديات، باب قوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم} .

(4)

استشكل هذا الحديث مع حديث "أول ما يحاسب العبد عليه صلاته " الذي أخرجه أهل السنن.

وأجيب: أن الحديث الأول يتعلق بمعاملات العباد والثاني بمعاملات الله.

انظر: نيل الأوطار 7/45.

(5)

تقدم إخراجه.

(6)

انظر: المغني 11/443.

(7)

انظر: البناية 12/100، حاشية ابن عابدين 6/529، الذخيرة 12/279، قوانين الأحكام الشرعية ص/226، المهذب 2/172، الحاوي 12/6، المغني 11/457، شرح الزركشي 6/53.

شروط وجوب القصاص:

أن يكون القاتل مكلفا، أي بالغا عاقلا.

أن يكون متعمدا القتل.

أن يكون تعمد القتل محضا، أي لا شبهة في عدم إرادة القتل.

زاد الحنفية أن يكون القاتل مختارا، فلا قصاص على المكره عندهم. والجمهور يوجبون عليه القصاص. انظر: صفحات المصادر السابقة وما بعدها.

ص: 307

وقد دلت الآيات والأحاديث بعمومها على ذلك:

من القرآن الكريم:

1-

قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} (1) .

2-

وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (2) .

3-

وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (3) .

قال ابن كثير – رحمه الله تعالى -: "يقول تعالى: وفي شرع القصاص لكم - وهو قتل القاتل - حكمة عظيمة، وهي بقاء المهج وصونها؛ لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنعه، فكان في ذلك حياة للنفوس. وفي الكتب المتقدمة: القتل أنفى للقتل، فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز (4) ". انتهى

ونحوه ذكر القرطبي والبغوي (5) .

وقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (6) .

فدلت الآيات بعمومها على مشروعية القصاص في الجناية على النفس.

من السنة.

1-

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفدى وإما أن يقتل "(7) .

(1) آية (178) من سورة البقرة.

(2)

آية (33) من سورة الإسراء.

(3)

آية (179) من سورة البقرة.

(4)

انظر: تفسير القرآن العظيم 1/301.

(5)

انظر: الحامع لأحكام القرآن 2/256، معالم التنزيل 1/146.

(6)

آية (45) من سورة المائدة.

(7)

أخرجه البخاري 6/94 في كتاب اللقطة، باب كيف تعرف اللقطة أهل مكة، ومسلم 1/988 في الحج، باب تحريم مكة.

ص: 308

2-

حديث أبي شريح الكعبي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفكن فيها دما ولا يعضدن (1) فيها شجرا، فإن ترخص مترخص فقال: أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله أحلها لي ولم يحلها للناس، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة. ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقله، فمن قتل له قتيل بعد اليوم، فأهله بين خيرتين: إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل (2) "(3) .ففي هذين الحديثين دلالة على مشروعية القصاص في الجناية على النفس (4) .

(1) يعضدن؛ أي يقطعن. انظر: المصباح المنير 2/494.

(2)

العقل: الدية. وأصله أن القاتل إذا قتل قتيلا جمع الدية من الإبل، فعلقها بفناء أولياء المقتول؛ أي يشدها في عُقلها يسلمها إليهم ويقبضوها منه، فسميت الدية عقلا بالمصدر. وكان أصل الدية الإبل، ثم قومت بعد ذلك بالذهب والفضة والبقر والغنم.

انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/278، المصباح المنير 2/504. وراجع: المغني 14/6.

(3)

أخرجه الإمام أحمد في المسند 6/385، والترمذي 4/21 في كتاب الديات، باب ما جاء في حكم ولي القتيل في القصاص والعفو، وقال:" حديث حسن صحيح ". وصححه الألباني في إرواء الغليل 7/276.

(4)

انظر: شرح السنة 10/159.

ص: 309

3-

حديث وائل بن حجر رضي الله عنه قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جيء برجل في عنقه النسعة (1)، قال: فدعا ولي المقتول فقال: " أتعفو؟ "، قال: لا، قال:"أفتأخذ الدية؟ "، قال: قال: لا، قال:" أفتقتل؟ "، قال: نعم، قال:" اذهب به! " فلما ولى قال: " أتعفو؟ "، قال: لا، قال:" أفتأخذ الدية؟ "، قال: لا، قال:" أفتقتل؟ " قال: نعم، قال:" اذهب به! "، فلما كان في الرابعة، قال:" أما إنك إن عفوت عنه يبوء بإثمه وإثم صاحبه "، قال: فعفا عنه، قال: فأنا رأيته يجر النسعة (2) .

قال البغوي – رحمه الله تعالى -: فيه دليل على أن ولي الدم مخير بين القصاص، وبين أن يعفو عن القصاص على الدية، وبين أن يعفو مجانا (3) .

4-

حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة "(4) .

ومن جهة المعنى: أنه لو لم يجب القصاص في هذه الحالة لأدى ذلك إلى سفك الدماء وهلاك الناس (5) .

المطلب الثّاني:

مشروعية القصاص في الجناية على ما دون النّفس

أجمع العلماء على تحريم الاعتداء على ما دون النفس وأن القصاص جار فيها إذا أمكن (6) .

وقد دل على ذلك:

(1) النسعة – بنون مكسورة ثم سين ساكنة ثم عين مهملة – هي حبل من جلد مظفورة. انظر: شرح صحيح مسلم 11/172.

(2)

أخرجه مسلم 2/1307 في القسامة، باب صحة الإقرار بالقتل وتمكين ولي الدم القتيل من القصاص، واستحباب طلب العفو منه، وأبو داود 4/638 في الديات، باب الإمام يأمر بالعفو في الدم.

(3)

انظر: شرح السنة 10/161.

(4)

سبق تخريجه في صفحة (15) .

(5)

انظر: الاختيار 5/30-31، المهذب 2/172.

(6)

انظر: المغني 11/530.

ص: 310

قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاص} (1) .

وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن الربيع بنت النضر كسرت ثنية جارية فطلبوا الأرش وطلبوا العفو، فأبوا. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله؟، لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها (2) . فقال:" يا أنس، كتاب الله القصاص! "، فرضي القوم وعفوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره "(3) .

(1) آية (45) من سورة المائدة.

(2)

قوله: " والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها " قيل: لم يرد بهذا القول رد حكم الشرع، وإنما أراد التعريض بطلب الشفاعة. وقيل: إنه وقع منه ذلك قبل علمه بوجوب القصاص إلا أن يختار المجني عليه أو ورثته الدية أو العفو. وقيل: غير ذلك. انظر: نيل الأوطار 7/24.

(3)

أخرجه البخاري 3/169 في كتاب الصلح، باب الصلح في الدية، واللفظ له، ومسلم 2/1302 في كتاب القسامة، باب إثبات القصاص في الأسنان وما معناها.

ص: 311

المبحث الرّابع:

في الاشتراك المتعمّد في الجناية على الواحد بالقتل

وفيه ثلاثة مطالب

إذا اشترك جماعة أو اثنان في قتل نفس لم يخل حالهم من ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يكون كل واحد منهم لو انفرد بقتله قتل به كأحرار قتلوا حرا، أو العببد قتلوا عبدا، أو كفار قتلوا كافرا.

والثاني: أن يكون كل واحد منهم لو انفرد بقتله لم يجب عليه القود، كأحرار قتلوا عبدا، مسلمين قتلوا كافرا.

والثالث: أن يجب القود على أحدهم لو انفرد ولا يجب على الباقين إذا انفرد، فهذا على ضربين:

أحدهما: أن يكون سقوط القود عنه لو انفرد لمعنى في نفسه، كالأب إذا شارك أجنبيا في قتل ولده وكالحر إذا شارك عبدا في قتل عبده وكالمسلم إذا شارك كافرا في قتل كافر.

والثاني: أن يكون سقوط القود عنه لو انفرد لمعنى في فعله، كالخاطئ إذا شارك عامدا في القتل أو تعمد الخطأ إذا شارك عمدا محضا. (1)

وسيأتي أحكام هذه الأقسام في المطالب الآتية إن شاء الله.

المطلب الأوّل:

اشتراك الجماعة في الجناية على الواحد بالقتل إذا كان كل واحد منهم لو انفرد بقتله قتل به

اختلف العلماء في حكم قتل الجماعة للواحد عمدا وعدوانا إذا توفرت فيهم شروط القصاص أيقتلون به أم لا؟ على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أنهم يقتلون به.

(1) انظر: الحاوي 12/127-128، المغني 11/490 وما بعدها.

ص: 312

.. وهو مروي عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب والمغيرة بن شعبة وابن عباس – رضي الله عنهم.وهو قول سعيد بن المسيب والحسن البصري وأبي سلمة بن عبد الرحمن وعطاء وقتادة والأوزاعي وإسحاق (1) .وبه قال أبو حنيفة (2) ومالك (3) والشافعي (4) وأحمد في المذهب (5) واتفق أصحاب هذا القول على أن قتل الجماعة بالواحد بشرط أن يكون كل واحد منهم قد جنى جناية لو انفرد بها لمات المجني عليه وأضيف القتل إليه، ووجب القصاص عليه (6) .

القول الثاني: أنهم لا يقتلون به بحال، وإنما تؤخذ منهم الدية بالسوية.

وهو قول الزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعبد الملك وربيعة وابن المنذر (7) .وبه قال الإمام أحمد في رواية (8) والظاهرية (9) .

القول الثالث: أنه يقتل واحد منهم، يرجع فيه لاختيار ولي الدم ويؤخذ من الباقين قسطهم من الدية.وهذا مروي عن معاذ بن جبل وعبد الله بن الزبير وجابر–رضي الله عنهم–ومروي عن ابن سيرين والزهري (10) .

الأدلة:

أدلة أصحاب القول الأول:

(1) انظر: مصنف ابن أبي شيبة 5/428 وما بعدها، الاستذكار 25/235، شرح السنة 10/184، الحاوي 12/27، المغني 11/490.

(2)

انظر: بدائع الصنائع 7/238، الفتاوى الهندية 6/5، البحر الرائق 8/358.

(3)

انظر: الإشراف 2/182، قوانين الأحكام الشرعية ص/227، حاشية الدسوقي 4/245.

(4)

انظر: المهذب 2/174، الحاوي 12/27، مغني المحتاج 4/20.

(5)

انظر: المغني 11/490، الإنصاف 9/331، المبدع 8/253.

(6)

انظر: حاشية ابن عابدين 6/556 وما بعدها، المهذب 2/174، الحاوي 12/27، الإنصاف 9/332، شرح الزركشي 6/77.

(7)

انظر: شرح السنة 10/184، الحاوي 12/27، المغني 11/490.

(8)

انظر: المغني 11/490، الإنصاف 9/332.

(9)

انظر: المحلى 10/607، المغني 11/490.

(10)

انظر: مصنف ابن أبي شيبة 5/429، شرح السنة 10/184، بداية المجتهد 2/400، الاستذكار 25/235 وما بعدها، الحاوي 12/27، المغني 11/490.

ص: 313

.. استدل أصحاب هذا القول بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول.

أما الكتاب:

فقول الله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} (1) .

وجه الدلالة من الآية: أن سبب الحياة في ذلك يكمن في أنه متى علم القاتل أنه إذا قتل وجب القصاص عليه كف عن القتل، فحيي القاتل والمقتول فلو لم يقتص من الجماعة بالواحد لما كان في القصاص حياة، ولكان القاتل إذا أراد القتل شارك غيره فيه ليسقط القصاص عنه وعن غيره، ولكان ذلك رافعاً لحكم الآية (2) .

اعترض على هذا الاستدلال:

أن هذا إنما يلزم فيما إذا لم يقتل أحد من الجماعة الذي قتلوا الواحد بخلاف ما إذا قتل منهم واحد، فلا يلزم إذًا أن يبطل الحد حتى يكون سببا للتسليط على إذهاب النفوس (3) .

وأما السنة:

فحديث أبي شريح الكعبي رضي الله عنه وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل، وإني عاقله، فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين، إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل "(4) .

وجه الدلالة:

دل قوله صلى الله عليه وسلم: " ثم إنكم معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل " على أن هذا الخبر ورد في قتل الجماعة لواحد، فالحكم إذا ورد على سبب، لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجا من ذلك الحكم (5) .

والإجماع: وقد دل عليه:

(1) آية 179 من سورة البقرة.

(2)

انظر: الحاوي 12/27.

(3)

انظر: بداية المجتهد 2/400.

(4)

تقدم تخريجه في صفحة 19-20.

(5)

انظر: الحاوي 12/27.

ص: 314

ما روى سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل نفرًا خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه قتل غيلة (1) . وقال عمر: "لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا"(2) .

وما رواه المغيرة بن حكيم عن أبيه أن أربعة قتلوا صبيا، فقال عمر مثله (3) .

وما جاء عن سعد بن وهب قال: "خرج رجال سفر فصحبهم رجل، فقدموا وليس معهم، قال: فاتهمهم أهله، فقال شريح: "شهودكم أنهم قتلوا صاحبكم وإلاّ حلفوا ما قتلوه"، فأتوا بهم عليا رضي الله عنه وأنا عنده، ففرق بينهم فاعترفوا، فسمعت عليًّا يقول: "أنا أبو الحسن القوم، فأمر بهم فقتلوا" (4) .

وما جاء عن الشعبي في رجلين شهدا على رجل أنه سرق فقطعه علي، ثم جاءا بآخر وقالا: أخطأنا فأبطل شهادتهما وأخذ بدية الأول، وقال:"لو علمت أنكم تعمدتما لقطعتكما"(5) .ومعلوم أنه لا فرق بين القصاص في الأطراف وبين القصاص في النفس (6) .

وما جاء عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنه قتل سبعة برجل (7) .

(1) الغيلة؛ فعلة من الاغتيال، وهو أن يخدع، ويقتل في موضع لا يراه فيه أحد. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/403.

(2)

أخرجه مالك في الموطأ 2/871 في العقول، باب ما جاء في الغيلة والسحر واللفظ به، وابن أبي شيبة 5/428 في الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أو يقتص منهم كلهم.

(3)

أخرجه البخاري معلقا 8/42 في الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/428 في الديات، باب الرجل يقتله النفر، والبيهقي 8/41 في كتاب الجنايات، باب النفر، باب النفر يقتلون الرجل.

(5)

أخرجه الدارقطني 3/182 في الحدود والديات وغيره، والبيهقي 8/41 في الجنايات، باب النفر يقتلون الرجل، والبخاري معلقا 8/242 في الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب.

(6)

انظر: سبل السلام 3/243.

(7)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/429 في الديات، باب الرجل يقتله النفر.

ص: 315

وعن ابن عباس–رضي الله عنهما– أنه قال:"لو أن مائة قتلوا واحدا

قتلوا به" (1) .فهذا ما ثبت عن هؤلاء الصحابة ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان

إجماعا (2) .

واعترض على هذا:

بأن حكم عمر وغيره من الصحابة – رضي الله عنهم – لا يعدو كونه فعل صحابي فلا تقوم به حجة ودعوى الإجماع غير مقبولة (3) .

ولما ثبت أن معاذا قال لعمر – رضي الله عنهما –:" ليس لك أن تقتل نفسين بنفس"(4) .

وما جاء عن عمرو بن دينار حيث قال: "كان عبد الملك وابن الزبير لا يقتلون منهم إلا واحدا"(5) .

فيتضح مما سبق أن الصحابة لم يجمعوا على حكم المسألة. والمقرر في الأصول أن الصحابة إذا اختلفوا لم يجز العمل بقول من أقوالهم إلا بترجيح (6) .

وأما المعقول:

1-

أننا لو لم نوجب القصاص عليهم لجعل الاشتراك ذريعة لسفك الدماء ولأدى ذلك إلى إسقاط حكمة الردع والزجر (7) .

2-

أنها عقوبة تجب للواحد على الواحد، فوجبت للواحد على الجماعة كحد القذف (8) .

3-

أن قتل النفس أغلظ من هتك العرض والقذف، فإذا حد الجماعة بقذف الواحد كان قتلهم بقتل الواحد أولى (9) .

4-

أنه منطلق على كل واحد من الجماعة اسم القاتل للنفس، فوجب أن يجري عليه حكمه كالواحد (10) .

5-

أن ما وجب في قتل الواحد لا يسقط في قتل الجماعة كالدية (11) .

(1) أخرجه عبد الرزاق 9/479، وذكره ابن عبد البر ي الاستذكار 25/235.

(2)

انظر: الاختيار 5/240، الذخيرة 12/319 وما بعدها، المغني 11/491.

(3)

انظر: سبل السلام 3/243.

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة 5/429 في الديات، باب الرجل يقتل بالنفر.

(5)

أخرجه عبد الرزاق 9/479، وابن أبي شيبة 5/429 في الديات، باب الرجل يقتل بالنفر.

(6)

انظر: أضواء البيان 2/95.

(7)

انظر: الذخيرة 2/320، المغني 11/491.

(8)

انظر: المصدرين السابقين.

(9)

انظر: الحاوي 12/28.

(10)

انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/178، الحاوي 12/28.

(11)

انظر: الحاوي 12/28.

ص: 316

6-

أن القتل بغير حق لا يكون في العادة إلا بالتغالب والاجتماع، والقصاص شرع حكمة للزجر، فيجعل كل واحد منهم كالمنفرد بالقتل، فيجري القصاص عليهم تحقيقا لمعنى الإحياء وإلا سد باب القصاص وفتح باب التغالب (1) .

أدلة أصحاب القول الثاني على عدم القتل.

استدل أصحاب هذا القول بالكتاب والمعقول.

أما الكتاب:

1-

فقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (2) .

2-

وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (3) .

وجه الدلالة:

وظاهر الآيتين يقتضي أن لا يقتل أكثر من نفس واحدة ولا يقتل بالحر أكثر من حر (4) .

واعترض عليه:

أن المراد بالنفس والحر في الآيتين الجنس، فالنفس تنطلق على النفوس كما أن الحر ينطلق على الأحرار (5) .

3-

وقوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (6) .

وجه الدلالة:

أن من السرف قتل الجماعة بالواحد وهو منهي عنه إذًا (7) .

واعترض عليه:

أن المراد بالسرف في الآية هو أن يقتل غير قاتله، بل إن قوله تعالى:{فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} (8) ، يدل بالاقتضاء على أن سلطان الولي في الجماعة كسلطانه في الواحد، فلم يكن فيها دليل على منع قتل الجماعة بالواحد (9) .

أما المعقول:

1-

أن الواحد لا يكافئ الجماعة، ولا يقتل بهم إذا قتلهم، وإنما يقتل بأحدهم، ويؤخذ من ماله ديات الباقين، كذلك إذا قتله جماعة لا يقتلون به (10) .

واعترض عليه:

(1) انظر: البناية 12/158، البحر الرائق 8/354.

(2)

آية 45 من سورة المائدة.

(3)

آية 178 من سورة البقرة.

(4)

انظر: الحاوي 12/27.

(5)

انظر: الحاوي 12/28.

(6)

آية 33 من سورة الإسراء.

(7)

انظر: الحاوي 12/27.

(8)

آية 33 من سورة الإسراء.

(9)

انظر: الحاوي 12/29.

(10)

انظر: المصدر السابق.

ص: 317

.. بأن حرمة الواحد كحرمة الجماعة بدليل قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا} (1) . فعليه يجب أن يكون القصاص فيهم واحدا (2) .

2-

أن زيادة الوصف تمنع من القصاص فلم يقتل حر بعبد ولا مسلم بكافر فزيادة العدد أولى أن تمنع (3) .

واعترض عليه:

بوجود الفرق بين زيادة الوصف وزيادة العدد، إذ تمنع زيادة الوصف من وجود المماثلة في الواحد ولا تمنع في الجماعة، يؤكد ذلك منع زيادة الوصف في القاذف من إقامة الحد عليه في حين أن زيادة العدد لا تمنع من إقامة الحد على الجماعة القاذفين (4) .

أن للنفس بدلين قودا ودية، فلما لم يجب على الاثنين بقتل الواحد ديتان لم يجب عليهما قودان كذلك (5) .

اعترض عليه من وجهين:

أ- الفرق بين الدية والقود، وذلك أن الدية تتبعض فلم يجب أكثر منها، والقود لا يتبعض فعم حكمه قياسا على سرقة الجماعة، فإنها توجب غرما يبتعض وقطعا لا يتبعض، لذا اشتركوا في غرم واحد وقطع كل واحد منهم (6) .

ب- وهو عبارة عن فرق آخر بين الدية والقصاص، وهو: أن القصاص موضوع للزجر والردع فلزم في الجماعة مثل لزومه في الواحد، والدية بدل من النفس فلم يلزم فيها إلا بدل واحد فافترقا (7) .

أدلة القول الثالث على أنه يقتل واحد منهم ويؤخذ من الباقين قسطهم من الدية.

استدل أصحاب هذا القول بالكتاب والمعقول:

أما الكتاب:

1-

قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (8) .

(1) آية 32 من سورة المائدة.

(2)

انظر: الحاوي 12/29.

(3)

انظر: المصدر السابق.

(4)

انظر: الحاوي 12/29.

(5)

انظر: المصدر السابق.

(6)

انظر: الذخيرة 12/320، المغني 11/491.

(7)

انظر: الحاوي 12/29.

(8)

آية 45 من سورة المائدة.

ص: 318

2-

وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} (1) .

وجه الدلالة:

دلت الآيتان على أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة (2) .

واعترض على هذا:

بأن المراد بالنفس في الآيتين الجنس، فالنفس تنطلق على النفوس، كما أن الحر ينطلق على الأحرار (3) .

أما المعقول:

1-

أن التفاوت في الأوصاف ما نع من القصاص بدليل أن الحر لا يؤخذ بالعبد فيكون التفاوت في العدد أولى أن يمنع منه (4) .

اعترض عليه:

بأنهم لم يقتلوا لصفة زائدة في المقتول، بل لكون كل واحد منهم قاتلا (5) .

2-

أن كل واحد منهم مكافئ له، فلا تستوفى أبدال بمبدل واحد، قياسا على عدم وجوب ديات لمقتول واحد (6) .

اعترض عليه:

بالفرق بين الدية والقصاص، فالدية تتبعض، والقصاص لا يتبعض (7) .

الراجح:

بعد عرض الأقوال في المسألة وأدلتها وما ورد عليها من اعتراضات تبين من أدلة أصحاب القول الأول أنه لا يوجد دليل صريح على قتل الجماعة بالواحد، وغاية ما في الآية التي تمسكوا بها أن مصلحة حفظ النفس تتحقق في القصاص، والقول بأن تلك المصلحة لا تتحقق إلا بقتل الجماعة بالواحد وقتل أحد الجماعة في تحقيق مصلحة حفظ النفس به، وإن كان تحقق ذلك في قتلهم به أقوى من الآخر، وهذا خارج عن المسألة.

(1) آية 178من سورة البقرة.

(2)

انظر: المغني 11/490.

(3)

انظر: الحاوي 12/28.

(4)

انظر: المغني 11/490.

(5)

انظر: سبل السلام 3/243.

(6)

انظر: المغني 11/490.

(7)

انظر: المغني 11/490.

ص: 319

.. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث شريح الكعبي رضي الله عنه المتقدم: "ومن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين: إما أن يقتلوا أو يأخذوا العقل "(1) فدلالته على قتل الواحد بالواحد صريحة، بخلاف قتل الجماعة بالواحد وهو محل النزاع. فلو كانت دلالته على ذلك أمرا مسلما به كما في حالة الانفراد لما ساغ لأحد المخالفة في ذلك.وأما حكايتهم الإجماع على ذلك بناء على عدم العلم بالمخالف لمن حكم به من الصحابة كعمر وعلي وابن عباس – رضي الله عنهم – فلا ينهض بذلك حجة على المدعى؛ إذ تقرر في الأصول أن عدم العلم ليس دليلا على العدم، يؤكد ذلك ما ثبت من مخالفة كل من معاذ وجابر وابن الزبير – رضي الله عنهم – لهذا الحكم، فكيف تصح إذا دعوى الإجماع.

ثم أنه على فرض التسليم بصحة دعوى الإجماع فإنه في هذه الحالة لا يكون إلا إجماعا سكوتيا وهو ظني، فلا يقوى على معارضة الأدلة الصريحة الواضحة، مع أن الخلاف ثابت في المسألة من الصدر الأول. إذا تقرر ما سبق يظهر للمتأمل مدى وجاهة قول ابن المنذر – رحمه الله تعالى – حيث قال:" لا حجة مع من أوجب قتل الجماعة بالواحد ". اهـ.

إلا أنه ينبغي تقييده بعدم وجود دليل صريح من جهة النقل؛ لأن ما ذكره أصحاب هذا القول من الأقيسة وجيهة، ومعلوم أن القياس دليل من الأدلة الشرعية عند جمهور العلماء خلافا لمن شذّ، فعليه لا يسلم القول بنفي وجود مستمسك لهم على قولهم هذا من نظر. والله أعلم.

(1) سبق تخريجه في صفحة 19-20.

ص: 320

.. أما أدلة كل من أصحاب القول الثاني والثالث فلا تدل دلالة صريحة على منع قتل الجماعة بالواحد، وإنما غاية ما فيها أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من مثلها. وهذا على التسليم بأن أل الموجودة في لفظ النفس والحر في قوله تعالى:{النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (1) و {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} (2) ليس للجنس، وهو ما يرفضه المعارض، إضافة إلى أن القول بأن المراد بالسرف في قوله تعالى:{فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} (3) هو أن لا يقتل جماعة بواحد يحتاج إلى دليل.

وإذا تقرر ما سبق فلم يبق إلا أدلتهم العقلية وهي أيضا لا تسلم من قادح يبطل بها الحجة.

وبناء على ما تقدم يترجح لي القول بأن الجماعة تقتل بالواحد لما يلي:

عموم قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} (4) ذلك أن ما يتحقق بقتل الجماعة بالواحد من حكمة القصاص التي منها الزجر والردع عن القتل ما لا يتحقق في عدم قتلهم بحال، ولا في قتل واحد منهم فقط.

أنه يصدق على كل واحد من الجماعة المتمالئين على القتل أنه قاتل فيقتل لذلك (5) .

أنه إذا تقرر أن الحد يقام على الجماعة بقذف الواحد كان قتلهم بقتل الواحد أولى؛ لأن حفظ النفس أشد ضرورة من حفظ العرض، وإن اشتركا في عناية الشريعة بحفظهما.

أن قياس القصاص على القذف في هذه المسالة أولى من قياسه على الدية؛ لاشتمال قياسه على هذا الأخير على الفارق، وسلامته من ذلك في قياسه على الأول.

ومعلوم أن اشتمال القياس على الفارق قادح من القوادح المانعة من صحة الاحتجاج به. والله تعالى أعلم.

المطلب الثاني

في اشتراك الجماعة في قتل النفس إذا كان كل واحد منهم لو انفرد بقتله لم يقتل به

(1) آية 45 من سورة المائدة.

(2)

آية 178 من سورة البقرة.

(3)

أية 33 من سورة الإسراء.

(4)

أية 179 من سورة البقرة.

(5)

انظر: أضواء البيان 2/96.

ص: 321

.. إذا اشترك جماعة أو اثنان في الجناية على واحد بالقتل ويكون كل واحد منهم أو منهما لو انفرد لم يجب عليه القود كأحرار قتلوا عبدا أو مسلمين قتلوا ذميا ففيه خلاف كالخلاف في قتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي، وفيهما قولان:

القول الأول: أنه يقتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي.وهو قول الحنفية (1) .

القول الثاني: أنه لا يقتل الحر بالعبد ولا المسلم بالذمي.

وهو قول أكثر أهل العلم منهم المالكية (2) والشافعية (3) والحنابلة (4) .

الأدلة:

استدل أصحاب القول الأول بالمنقول والمعقول:

1-

عموم الآيات والأخبار في القصاص.

2-

قوله صلى الله عليه وسلم: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم "(5) .

(1) انظر: مختصر الطحاوي ص/230، المغني 11/465، 473.

(2)

انظر: الكافي لابن عبد البر ص/587، بلغة السالك لأقرب المسالك 4/161، الذخيرة 12/320، 332.

(3)

انظر: الحاوي 12/128.

(4)

انظر: المغني 11/465،473.

(5)

أخرجه أبو داود في سننه رقم 4530 كتاب الديات، باب أيقاذ المسلم بالكافر، وابن ماجة في سننه رقم 2683 و 2684، كتاب الديات، باب المسلمون تتكافأ دماؤهم من حديث ابن عباس مرفوعا. واللفظ لأبي داود.

وضعفه البوصيري في زوائد ابن ماجة – بهامش ابن ماجة 3/294-295 طبعة دار الحديث 1418 هـ.

وأخرجه بنحوه البخاري في صحيحه، رقم 1870 كتاب فضائل المدينة، باب حرم المدينة، ومسلم في صحيحه، رقم 1370 في كتاب الحج، باب فضل المدينة من حديث علي رضي الله عنه.

ص: 322

3-

ما روى ابن البيلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلما بذمي، وقال:" أنا أحق من وفى بذمته "(1)

4-

ولأن العبد آدمي معصوم، فأشبه الحر (2) .

5-

ولأن الذمي معصوم عصمة مؤبدة، فيقتل به قاتله كالمسلم (3) .

واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:

1-

قوله صلى الله عليه وسلم: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواه، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر "(4) .

2-

عن علي رضي الله عنه أنه قال: "من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر"(5) .

3-

عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقتل حرٌّ بعبد» (6) .

4-

ولأنه لا يقطع طرف الحر بطرف العبد مع التساوي في السلامة، فلا يقتل به، كالأب مع ابنه.الراجح:

(1) أخرجه الشافعي في ترتيب المسند 2/105، كتاب الديات، وعبد الرزاق في المصنف 10/101 كتاب العقول، باب قود المسلم بالذمي، والدارقطني في سننه 3/135 كتاب الحدود والديات وغيره، والبيهقي في السنن الكبرى 8/30، 31، كتاب الجنايات، باب بيان ضعف الخبر الذي روي في قتل المؤمن بالكافر، وما روي عن الصحابة في ذلك.

والحديث ضعفه الإمام أحمد - كما في المغني 11/467 - والبيهقي، وقال الدارقطني:" يرويه ابن البيلماني، وهو ضعيف إذا أسند، فكيف إذا أرسل؟ ".

(2)

انظر: المغني 11/473.

(3)

انظر: المغني 11/466.

(4)

تقدم تخريجه في الصفحة السابقة.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 9/295 كتاب الديات، باب من قال: لا يقتل مسلم بكافر، والدارقطني في سننه 3/134، كتاب الحدود والديات وغيرها. انظر: إرواء الغليل 7/267.

(6)

أخرجه الدارقطني في سننه 3/133، كتاب الحدود والديات وغيره.

ص: 323

.. هو القول بأن الحر لا يقتل بالعبد وكذا المسلم لا يقتل بالذمي، لأن العبد منقوض بالرق، فلم يقتل به الحر، كالمكاتب إذا ملك ما يؤدي، ولأن الذمي منقوض بالكفر فلا يقتل به المسلم كالمستأمن. والعمومات مخصوصات بالأحاديث. وحديث ابن البيملاني في قتل المسلم بالذمي ليس له إسناد، قاله الإمام أحمد (1) .

المطلب الثّاني: اشتراك الاثنين في قتل النّفس إذا وجب القود على أحدهما لو انفرد دون الآخر لمعنى في نفسه لا في فعله

إذا اشترك اثنان في الجناية على الواحد في قتل النفس ويجب القصاص على أحدهما إذا انفرد بقتله، ولم يجب على الآخر إذا انفرد لمعنى في نفسه لا في فعله، كاشتراك الأب والأجنبي في قتل الولد، فهل يجب القصاص على الأجنبي؟ ففيه خلاف على قولين:

القول الأول: أنه لا قصاص عليه.

وكان عليهما ديتها على الذي لو تفرد بها منهما كان عليه القصاص في ماله وعلى الآخر على عاقلته.

وهو قول الحنفية (2) ورواية عن أحمد (3) .

القول الثاني: أن عليه القصاص.

وهو قول المالكية (4) ، والشافعية (5) ، وأحمد في رواية هي المذهب (6) .

الأدلة:

استدل أصحاب القول الأول بالمعقول وهو:

1-

أنه قتل تركب من موجب وغير موجب، فلم يجب القصاص كقتل العامد والمخطئ، والصبي والبالغ، والمجنون والعاقل (7) .

واعترض عليه:

(1) فيما نقله ابن قدامة في المغني 11/467.

(2)

انظر: المبسوط 26/93-94، الجوهرة النيرة 2/159، مختصر الطحاوي ص/231.

(3)

انظر: المغني 11/496.

(4)

انظر: الإشراف 2/181، قوانين الأحكام ص/363.

(5)

انظر: الحاوي 12/128، حلية العلماء 7/457، فتح العزيز 10/179، روضة الطالبين 7/39 طبعة دار الكتب العلمية.

(6)

انظر: مختصر الخرقي مع المغني 11/496، المغني 11/496.

(7)

انظر: المبسوط 26/94-95، المغني 11/496.

ص: 324

.. بعدم التسليم بأن فعل الأب غير موجب، فإنه يقتضي الإيجاب لكونه تمحض عمدا عدوانا، والجناية به أعظم إثما وأكثر جرما، ولذلك خصه الله تعالى بالنهي عنه، فقال تعالى:{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ} ثم قال: {إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} (1) ، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أعظم الذنب، قال:" أن تجعل لله ندا وهو خلَقك، ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك "(2) ، فجعله أعظم الذنوب بعد الشرك. (3)

واعترض أيضا:

بعدم التسليم بسقوط القصاص عن شريك الخاطئ، وعلى التسليم بذلك فامتناع الوجوب فيه لقصور السبب عن الإيجاب فإن فعل الخاطئ غير موجب للقصاص ولا صالح له، والقتل منه ومن شريكه غير متمحض عمدا، لوقوع الخطأ في الفعل الذي حصل به زهوق النفس، بخلاف مسألتنا.

2-

أن هذا القتل ثَمَّ موجب للدية فلا يكون موجبا للقصاص كالخاطئ مع العامد إذا اشتركا. وبيان الوصف: أن الواجب على الأب بهذا الفعل الدية لا غير

فإذا كان لا يستوفى منه إلا الدية عرفنا أنه موجب للدية. والدليل على أن وجوب الدية هو الحكم الأصلي في قتل الأب دون القصاص. (4)

واعترض عليه:

(1) آية 31 من سورة الإسراء.

(2)

أخرجه البخاري 6/22 في كتاب التفسير، باب قول الله تعالى:{فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} ، وفي كتاب الأدب 8/9، 204، باب قتل الولد خشية أن يأكل معه، ومسلم 1/90، 91 في كتاب الإيمان، باب كون الشرك أقبح الذنب وبيان أعظمها بعده.

(3)

انظر: المغني 11/497.

(4)

انظر: المبسوط 26/95.

ص: 325

بعدم تسليم قياس شريك الأب على شريك الخاطئ؛ فإن سقوط القصاص عن الخاطئ لمعنى في فعله، وقد امتزج الفعلان في السراية فلم يتميزا. وسقوطه عن الأب لمعنى في نفسه، وقد تميز القاتلان فلم يستويا (1) . وفارق أيضا شريك الأب شريك المخطئ بأن الخطأ شبهة في فعل الخاطئ، والفعلان مضافان إلى محل واحد، فأورث شبهة في القصاص، كما لو صدرا من واحد. وشبهة الأبوة في ذات الأب لا في الفعل. وذات الأب متميزة عن ذات الأجنبي فلا تورث شبهة في حقه (2) .

واعترض أيضا:

بعدم التسليم أن وجوب الدية هو الحكم الأصلي في قتل الأب دون القصاص، بل الحكم الأصلي هو القصاص، بل الجناية فيه أعظم إثما، وأكثر جرما، وهو أعظم الذنوب بعد الشرك – كما سبق – وإنما امتنع وجوب القصاص في حق الأب لمعنى مختص بالمحل (3) .

واستدل أصحاب القول الثاني بالمعقول:

1-

أنه شارك في القتل العمد العدوان من يقتل به لو انفرد بقتله فوجب عليه القصاص كما لو كانا عامدين فعفا الولي عن أحدهما (4) .

2-

وأيضا فإن الزهوق حصل بجنايتين عمدين مضمونين، فامتناع وجوب القصاص على أحدهما، لا يمنع الوجوب على الآخر، كما لو رمى اثنان سهما إلى واحد، ومات أحد الراميين قبل الإصابة، يجب القصاص على الآخر (5) .

3-

ولأنه لما لم يتغير حكم الأب بمشاركة الأجنبي في وجوب القود عليه لم يتغير حكم الأجنبي بمشاركة الأب في سقوط القود عنه (6) .

(1) انظر: الحاوي 12/129، فتح العزيز 10/180.

(2)

انظر: فتح العزيز 10/180، مغني المحتاج 4/20.

(3)

انظر: المغني 11/497.

(4)

انظر: الحاوي 12/129، فتح العزيز 10/179، المغني 11/496.

(5)

انظر: فتح العزيز 10/179-180، مغني المحتاج 4/21.

(6)

انظر: الحاوي 12/129.

ص: 326

4-

أن فعل الأب موجب للقود ثم سقط عنه القود بعفو الشرع منه عن الأب فلا يسقط عن الآخر؛ لأن عند أوان السقوط أحد القاتلين متميز عن الآخر. والدليل على ذلك أن سبب القود شرعا هو العمد، وثبوت الحكم بثبوت السبب. فإذا كانت الأبوة لا توجب نقصانا في السبب لا يمنع ثبوت الحكم أيضا، وإنما لا يستوفى لئلا يكون الولد سببا في إفناء الوالد بعد أن كان الوالد سبب إيجاده (1) .

الراجح:

هو القول الثاني، وهو وجوب القصاص؛ لأن فعل الأب قطع الرحم التي أمر الله عز وجل بصلتها، ووضع الإساءة موضع الإحسان، فكان إيجاب القصاص عليه أولى والزجر عنه أهم إلا أنه امتنع من حقه لمعنى مختص بالمحل لا لقصور في السبب الموجب (2) . فلم يسقط عن شريكه.

ولأنها نفس مضمونة خرجت بعمد محض، فلم يكن سقوط القود عن أحد القاتلين موجبا لسقوطه عن الآخر، كالعفو عن أحدهما لا يوجب سقوط القود عنهما (3) .

والضابط الفقهي في هذا الباب، هو:

أن كل شريكين امتنع القصاص في حق أحدهما لمعنى فيه من غير قصور في السبب فهو في وجوب القصاص على شريكه، كالأب وشريكه (4) .

ويدخل تحته ما يلي:

أن يشترك مسلم وذمي في قتل ذمي، أو حر وعبد في قتل عبد – عمدا وعدوانا – فإن القصاص لا يجب على المسلم والحر، ويجب على الذمي والعبد إذا قلنا بوجوبه على شريك الأب؛ لأن امتناع القصاص عن المسلم لإسلامه وعن الحر لحريته، وانتفاء مكافأة المقتول له. وهذا المعنى لا يتعدى إلى فعله ولا إلى شريكه، فلم يسقط القصاص عنه (5) .

المطلب الثّالث:

اشتراك اثنين أو جماعة في الجناية على الواحد بالقتل إذا شارك فيها من لا قصاص عليه لمعنى في فعله

(1) انظر: المبسوط 26/94.

(2)

انظر: المغني 11/496.

(3)

انظر: الحاوي 12/129.

(4)

انظر: الحاوي 12/128، المغني 11/497-498، الشرح الكبير 25/70.

(5)

انظر: المصادر السابقة، وفتح العزيز 10/179، روضة الطالبين 7/39-40.

ص: 327

.. إذا اشترك في القتل من يجب القود على أحدهما لو انفرد، ولا يجب على الآخر إذا انفرد لمعنى في فعله، كالخاطئ أو الصبي أو المجنون إذا شارك كل واحد منهم عامدا في القتل أو تعمد الخطأ إذا شارك عمدا محضا، فيسقط القود عنه لمعنى في فعله لا في نفسه. واختلف الفقهاء في شريك من سقط عنه القود على النحو التالي:

1-

إذا اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ، هل يجب القصاص على البالغ؟ على قولين:

القول الأول: أنه لا يجب القصاص عليه.

وهو قول الحسن والأوزاعي وإسحاق (1) .وإليه ذهب الحنفية (2) ،والشافعية في أحد القولين (3) وأحمد في رواية هي المذهب (4) . وهو أيضا قول المالكية في اشتراك المجنون والبالغ (5)

القول الثاني: يجب القصاص عليه.

وهو قول قتادة والزهري وحماد (6) .وهو القول الثاني للشافعي (7) ،وأحمد في رواية (8) .وإليه ذهب المالكية (9) في اشتراك الصبي والبالغ.

واستدل أصحاب القول الأول بالمعقول من وجهين:

1-

أنه شارك من لا مأثم عليه في فعله، فلم يلزمه قصاص كشريك الخاطئ (10) .

2-

أن الصبي والمجنون لا قصد لهما صحيح، ولذا لا يصح إقرارهما، فكان حكم فعلهما حكم الخطأ (11) ،فلا يلزم شريكهما القصاص للشبهة.

(1) انظر: المغني 11/498.

(2)

انظر: المبسوط 26/94، الجوهرة النيرة 2/159.

(3)

انظر: الحاوي 12/130، حلية العلماء 7/458، فتح العزيز 10/181-182، روضة الطالبين 7/41.

(4)

انظر: المغني 11/498.

(5)

انظر: مختصر خليل 2/258، الشرح الصغير لأحمد الدردير 4/170، جواهر الإكليل 2/258، بلغة السالك لأقرب المسالك 4/170.

(6)

انظر: المرجع السابق.

(7)

انظر: الحاوي 12/130، حلية العلماء 7/458، فتح العزيز 10/181، روضة الطالبين 7/41.

(8)

انظر: المغني 11/498.

(9)

انظر: الإشراف 2/185، قوانين الأحكام ص/363، بلغة السالك لأقرب المسالك 4/170، جواهر الإكليل 2/257-258.

(10)

انظر: الحاوي 12/130، المغني 11/499.

(11)

انظر: المغني 11/499.

ص: 328

واستدل أصحاب القول الثاني بالمعقول:

أنها شركة في قتل فلم يؤثر في إسقاط الجنس الذي يجب به حال الانفراد (1) .

الراجح:

هو القول الثاني، وهو وجوب القصاص؛ لأن كل من انفرد بالقتل لزمه القود، فإذا شاركه فيه من لا قود عليه لم يسقط القود عنه (2) . ولأن القاتل البالغ تعمد الفعل فلزمه القود أشبه المنفرد (3) .

2-

إذا اشترك العامد والمخطئ في الجناية، فهل يجب على شريك المخطئ قصاص؟.

أما المخطئ فلا قصاص عليه للكتاب والسنة والإجماع (4) . وأما شريكه فقد وقع فيه خلاف على قولين:

القول الأول: ليس على شريك المخطئ قصاص.

وهو قول أكثر أهل العلم. (5) وبه قال النخعي والحنفية (6) والشافعية (7) والحنابلة (8) .

القول الثاني: أن عليه القصاص.

وهو قول مالك (9) وأحمد في رواية (10) .

الأدلة:

استدل أصحاب القول الأول بما يلي:

1-

أنه قتل لم يتمحض عمدا فلم يوجب القصاص كشبه العمد، وكما لو قتله واحد بجرحين عمدا وخطأ. (11)

2-

ولأن كل واحد من الشريكين مباشر ومتسبب، فإذا كانا عامدين، فكل واحد متسبب إلى فعل موجب للقصاص فقام فعل شريكه مقام فعله لتسببه إليه، وههنا إذا أقمنا فعل المخطئ مقام فعل العامد صار كأنه قتله بعمد وخطأ، وهذا غير موجب. (12)

(1) انظر: الإشراف 2/185.

(2)

انظر: الإشراف 2/185.

(3)

انظر: الإشراف 2/185.

(4)

انظر: المغني 11/502، الشرح الكبير 25/72.

(5)

انظر: المبسوط 26/93، الحاوي 12/128، تكملة المجموع 20/291، المغني 11/502.

(6)

انظر: المبسوط 26/93، مختصر الطحاوي ص/231.

(7)

انظر: الحاوي 12/128، تكملة المجموع 20/291.

(8)

انظر: المغني 11/502، المقنع 25/68، الشرح الكبير 25/72، الإنصاف 25/68.

(9)

انظر: بلغة السالك لأقرب المسالك 4/170، جواهر الإكليل 2/258، الحاوي 12/128، تكملة المجموع 20/291.

(10)

انظر: المصادر السابقة بهامش 7.

(11)

انظر: الحاوي 11/129.

(12)

انظر: الشرح الكبير 25/72.

ص: 329

3-

ولأنه إذا اجتمع في النفس موجب ومسقط يغلب حكم المسقط على حكم الموجب، كالحر إذا قتل من نصفه مملوك ونصفه حر. (1)

4-

ولأن سقوط القود في الخطأ يجري في حق القاتل مجرى عفو بعض الأولياء. (2)

والقاعدة عندهم: " لا يقتص من شريك مخطئ أو شبه عمد، ويقتص من شريك من امتنع قوده لمعنى فيه إذا تعمدا جميعا ". (3)

واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:

1-

أن كل من وجب عليه القود إذا انفرد وجب عليه القود إذا شارك فيه من لا يجب عليه القود كشريك الأب (4) .

2-

ولأنه لو جاز أن يتعدى حكم الخاطئ إلى العامد في سقوط القود لجاز أن يتعدى حكم العامد إلى الخاطئ في وجوب القود. (5)

3-

ولأنه لما لم يتغير حكم الدية بمشاركة الخاطئ، لم يتغير بها حكم القود. (6)

الراجح:

هو القول الثاني: وهو وجوب القصاص؛ لأن شريك الخاطئ شارك في القتل عمدا وعدوانا فوجب عليه القصاص كشريك العامد، ولأن مؤاخذته بفعله، وفعله عمد وعدوان، لا عذر له فيه. (7)

المبحث الخامس:

الاشتراك المتعمّد في الجناية على الواحد بالجرح أو القطع

اتفق الفقهاء على جريان القصاص فيما دون النفس ما أمكن ذلك (8) لما يلي:

قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (9) .

(1) انظر: الحاوي 12/129، مغني المحتاج 4/20.

(2)

انظر: الحاوي 12/129.

(3)

انظر: مغني المحتاج 4/20.

(4)

انظر: الحاوي 12/128.

(5)

انظر: المصدر السابق.

(6)

انظر: الحاوي 12 /128.

(7)

انظر: المغني 11/503، الشرح الكبير 25/72.

(8)

انظر: البحر الرائق 8/345، قوانين الأحكام الشرعية ص/230، المهذب 2/178، المغني 11/531.

(9)

آية 45 من سورة المائدة.

ص: 330

وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (1) .

ولحديث أنس رضي الله عنه: أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية فطلبوا إليها العفو، فأبوا فعرضوا الأرش، فأبوا، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص، فقال أنس بن النضر: يا رسول الله، أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا أنس كتاب الله القصاص " فرضي القوم وعفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره "(2) .

ومن القياس:

أن ما دون النفس كالنفس في حاجته لحفظه بالقصاص، فكان مثل النفس في وجوبه (3) .

واختلفوا في حكم القصاص من الجماعة ممن توفرت فيهم شروط القصاص إذا اشتركوا في الجناية على شخص واحد بجرح أو قطع عضو ونحو ذلك على قولين:

القول الأول: أنه يقتص منهم جميعا.

وبه قال المالكية (4) ، والشافعية (5) ، والحنابلة في المذهب (6) .

واتفق أصحاب هذا القول على أن شرط وجوب القصاص عليهم في هذه الحالة هو اشتراكهم في اقتراف هذه الجناية دفعة واحدة على وجه لا يتميز فعل أحدهم عن فعل صاحبه، كأن يشهدوا بما يوجب قطع يده ثم يرجعوا عن شهادتهم، ويقولوا تعمدنا ذلك، أو يلقوا صخرة على شخص فتقطع طرفه، ونحو ذلك، بخلاف ما لو قطع كل واحد منهم عضو المجني عليه من جانب فلا يجب القصاص حينئذ؛ لأن جناية كل واحد منهم في بعض العضو، فلا يجوز أن يقتص منه في جميع العضو (7) .

(1) آية 194 من سورة البقرة.

(2)

تقدم تخريجه في صفحة 22.

(3)

انظر: المهذب 2/177، المغني 11/531.

(4)

انظر: الاستذكار 25/236، الذخيرة 12/321.

(5)

انظر: الحاوي 12/32، المهذب 2/178.

(6)

انظر: المغني 11/493 وما بعدها، شرح الزركشي 6/77.

(7)

انظر: البيان والتحصيل 16/127، المهذب 2/178، شرح الزركشي 6/78.

ص: 331

القول الثاني: أنه لا يقتص من أحدهم، وإنما عليهم دية الجناية بالسوية.

وبه قال الحسن البصري والزهري والثوري (1) . وهو قول الحنفية (2) ، وأحمد في رواية (3) .

الأدلة:

استدل أصحاب القول الأول بما يأتي:

أ- ما جاء عن الشعبي في رجلين شهدا على رجل أنه سرق، فقطعه عليّ، ثم جاءا بآخر، وقالا: أخطأنا فأبطل شهادتهما وأخذ بدية الأول، وقال:" لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما".

فقد أخبر أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه أن القصاص على كل منهما قطع يده لو تعمدا، فهذا يدل على جواز قطع اليدين باليد الواحدة (4) .

ب- ومن جهة المعنى:

1-

أنه أحد نوعي القصاص فجاز أن يجب على الجماعة بالجناية ما يجب على الواحد كالقصاص على الأنفس (5) .

2-

أن كل جناية لو انفرد بها الواحد أقيد، فوجب أن يقاد فيها الجماعة إذا اشتركوا فيها كالجناية على النفوس (6) 3 - أنه قصاص يستحق في النفس فوجب أن يستحق في الطرف قياسا على ما لو كان الجاني شخصا واحدا (7)

4-

أن حرمة النفس أشد من حرمة الطرف، فلما أقيدت النفوس بنفس فأولى أن تقاد الأطراف بطرف (8) .

وقد أجيب عن قياس ما دون النفس على النفس من عدة أوجه، منها:

(1) انظر: البناية 12/160، الحاوي 12/32، المغني 11/494.

(2)

انظر: البناية 12/160، البحر الرائق 8/355، حاشية ابن عابدين 6/557.

(3)

انظر: المغني 11/494، شرح الزركشي 6/78.

(4)

انظر: الحاوي 12/32، المغني 11/495.

(5)

انظر: المهذب 2/178، المغني 11/495، شرح الزركشي 6/77.

(6)

انظر: الحاوي 12/32.

(7)

انظر: المصدر السابق.

(8)

انظر: الحاوي 12/32.

ص: 332

أ- أن الأطراف يشترط فيها المساواة في النفع والقيمة، لهذا لا تقطع الصحيحة بالشلاء، ولا يد الحر بيد العبد، ولا يد الرجل بيد المرأة، بخلاف النفس، فإنها لا يشترط فيها غير المساواة في العصمة، لذا تقتل النفس السالمة من العيوب بقتل المعيبة، وكذا الاثنان بالواحد (1) .

ب- أن زهوق الروح لا يتجزأ فأضيف إلى كل واحد من الجماعة المشتركين في ذلك، وقطع العضو يتجزأ بدليل أنه يمكن أن يقطع البعض ويترك الباقي بخلاف القتل (2) .

أدلة القول الثاني:

استدل أصحاب هذا القول بما يلي:

1-

أن النفس أشرف من الطرف، فلا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد، المحافظة على ما دونها (3)

2-

أن الأطراف يعتبر التساوي فيها، بدليل أنا لا نأخذ الصحيحة بالشلاء ولا كاملة الأصابع بناقصتها، ولا أصيلة بزائدة، ولا يمينا بيسار ولا يسارا بيمين، ولا تساوي بين الطرف والأطراف فوجب امتناع القصاص بينهما، ولا يعتبر التساوي في النفس إذ يجوز فيها أخذ الصحيح بالمريض، وصحيح الأطراف بمقطوعها وأشلها (4) .

3-

أن كل واحد منهم قاطع لبعض العضو المقطوع؛ لأن ما انقطع بقوة أحدهم لم ينقطع بقوة الآخر، فلا يجوز قطع الكل بالبعض، ولا الاثنين بالواحد لانعدام المساواة، فصار كما إذا أمر كل واحد من جانب (5) .

4-

أنه يعتبر في القصاص في الأطراف التساوي في نفس القطع بحيث لو قطع كل منهم من جانب لم يجب القصاص بخلاف النفس (6) .

وأجيب عن اعتبار التساوي:

بأنه معتبر في الطرف كما في النفس لذا لم نأخذ مسلما بكافر ولا حرًا بعبد (7) .

وأجيب عن أخذ صحيح الأطراف بمقطوعها:

(1) انظر: البحر الرائق 8/356، حاشية ابن عابدين 6/557.

(2)

انظر: البناية 12/161، البحر الرائق 8/356.

(3)

انظر: المغني 11/495، شرح الزركشي 6/78.

(4)

انظر: المغني 11/494.

(5)

انظر: البناية 12/161، البحر الرائق 8/355.

(6)

انظر: المغني 11/494.

(7)

انظر: المغني 11/495.

ص: 333

بأن الطرف ليس من النفس المقتص منها، وإنما يفوت تبعا، ولذلك كانت ديتها واحدة، بخلاف اليد الشلاء والناقصة مع الصحيحة فإن ديتها تختلف (1) .

5-

أن الاشتراك الموجب للقصاص في النفس يقع كثيرا فوجب قطع الجماعة بالواحد زجرا عنه مخافة أن يتخذ ذلك وسيلة إلى كثرة القتل، والاشتراك المختلف فيه لا يقع إلا في غاية الندرة، فلا حاجة إلى الزجر عنه (2) .

6-

أن إيجاب القصاص على المشتركين في النفس يحصل به الزجر عن كل اشتراك أو عن الاشتراك المعتاد، وإيجابه على المشتركين في العضو لا يحصل به الزجر عن ذلك ولا عن شيء من الاشتراك إلا عن صورة نادرة الوقوع، بعيدة الوجود، يحتاج في وجودها إلى تكلف، فإيجاب القصاص للزجر عنها يكون منعا لشيء ممتنع بنفسه لصعوبته، وهذا لا فائدة فيه، بخلاف الاشتراك في النفس (3) .

الراجح:

بعد عرض أقوال العلماء وأدلتهم في حكم القصاص من الجماعة عند اشتراكهم في قطع طرف أحد فإنه يظهر لي من أدلة أصحاب القول الأول والثاني: أنه لم يثبت في المسألة نص من الكتاب أو السنة، بل غاية ما تمسك به القائلون بمشروعية القصاص من الجماعة والحالة ما ذكر هو الأثر المروي عن علي رضي الله عنه، وهذا قول صحابي لم يعرف له مخالف في عصره فيكون إجماعا سكوتيا، إلا أن يقال أن لازم قول من قال بعدم جواز قتل الجماعة من الصحابة – رضي الله عنهم – يقتضي ألا يجيز أولئك الصحابة – رضي الله عنهم – القصاص من الجماعة للواحد فيما دون النفس، وإن كان لازم القول ليس قولا.

أما ما استدل به كل من أصحاب القولين من المعقول، فله حظ من النظر لوجاهته وقوته، وإن كان بعضه أولى في الاعتبار من بعض. وبناء على ذلك فإنه يترجح لي القول: بأن يقتص من الجماعة للواحد فيما دون النفس، لما يلي:

(1) انظر: المصدر السابق.

(2)

انظر: البناية 12/162، البحر الرائق 8/356، المغني 11/394.

(3)

انظر: المغني 11/494.

ص: 334

1-

ثبوت ذلك عن علي رضي الله عنه من غير العلم بمخالف له من الصحابة، وقد تقرر في الأصول أن قول الصحابي حجة إذا لم يعلم له مخالف.

2-

أن إيجاب القصاص على الجماعة المشتركين في الجناية على الواحد في العضو أو في الجرح يحصل به الزجر عن الاعتداء على الغير.

3-

أن حفظ النفس مقصد شرعي، فكما حافظت الشريعة على النفس فإنها حافظت على ما دونها من الجرح أو العضو. والقول بعدم القصاص على الجماعة في هذه الحالة يفضي إلى تفويت مقصد الشرع في الأمر، وقد يفتح باب جعل ذلك ذريعة إلى انتشار الفساد في الأرض.

4-

أن كل واحد من المشتركين في الجناية يصدق عليه أنه متعد على الغير فيحكم عليه حكمه. والله أعلم.

الخاتمة

بعد تمام هذا البحث أشكر الله تبارك وتعالى على ما منَّ به عليَّ من نعمه التي لا تعد ولا تحصى، ومنها ما يسر لي من إنهاء هذا البحث، والذي أحب أن أختمه بذكر أهم ما توصلت إليه من نتائج وتتلخص في الآتي:

1-

أن الشريعة الإسلامية حفظت نفس الإنسان من أن تقتل بغير حق، لذا أوجب القصاص على من اقترف جريمة القتل العمد إذا توفرت شروط القصاص، وهذا كفيل بأن يوفر للناس الأمن والاطمئنان؛ لأن من أراد القتل إذا عرف أنه يقتص منه فإنه يمتنع من هذا الفعل.

2-

أن الجماعة المشتركين في قتل الواحد يقتلون به على القول الراجح زجرا لهم ولغيرهم إذ يترتب على القول بعدم القصاص منهم كثرة القتل في المجتمع من ثم استفحاله فيه مما يؤدي إلى أن من أراد قتل آخر اشترك مع غيره ليسقط القصاص عنه.

3-

أنه إذا اشترك أب وأجنبي في قتل الولد يجب القصاص على الأجنبي.

4-

وجوب القصاص على البالغ إذا اشترك مع مجنون وصبي.

5-

أن الجماعة إذا اشتركوا في الجناية بجرح إنسان أو قطع عضو من أعضائه فإنه يقتص منهم كذلك منعا للاعتداء وزجرا عن الفساد في الأرض وتحقيقا للأمن.

ص: 335

والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

فهرس المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

- الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان: بترتيب الأمير علاء الدين بلبان.

- أحكام القرآن: لأبي بكر أحمد بن علي الجصاص المتوفى 370 هـ.

- الاختيار لتعليل المختار: لعبد الله بن محمود بن مودود الموصلي المتوفى 683 هـ.

تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد. الناشر: مكتبة محمد علي صبيح وأولاده – القاهرة.

- إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل: لمحمد ناصر الدين الألباني. إشراف زهير الشاويش. الطبعة الأولى 1399 هـ. الناشر: المكتب الإسلامي.

- الاستذكار: لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر المتوفى 463 هـ.

الطبعة الأولى 1414 هـ. الناشر: دار قتيبة للطباعة النشر، دمشق، ودار الوغى – حلب، القاهرة.

- الأشراف على مسائل الخلاف: للقاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المتوفى 422 هـ. الناشر: مطبعة الإدارة – الطبعة الأولى.

- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: لمحمد الأمين محمد المختار الشنقيطي.

الطبعة الثانية عام 1400 هـ على نفقة محمد بن عوض بن لادن.

- الأم: للإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى 204 هـ.

طبعة الشعب، القاهرة.

- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد: لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي المتوفى 885 هـ.

تحقيق: محمد حامد الفقي. الطبعة الأولى 1376 هـ بمطبعة السنة المحمدية، القاهرة.

- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: لملاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني المتوفى 587 هـ.

الطبعة الثانية. الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت، 1402 هـ.

- بداية المجتهد ونهاية المقتصد: لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المتوفى 595 هـ.

الناشر: دار المعرفة – بيروت.

ص: 336

- البناية في شرح الهداية: لأبي محمد محمود بن أحمد العيني المتوفى 855 هـ.

الطبعة الثانية 1411 هـ. دار الفكر – بيروت.

- البيان والتحصيل: لأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المتوفى 520 هـ.

تحقيق: د / محمد حجي. الناشر: دار الغرب الإسلامي – بيروت، 1404 هـ.

- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: لفخر الدين عثمان بن علي الزيلعي المتوفى 743 هـ.

الطبعة الثانية بالأوفست، دار المعرفة – بيروت.

- التعريفات: للشريف علي بن محمد الجرجاني. دار الكتب العلمية.

- تفسير القرآن العظيم: لعماد الدين إسماعيل بن كثير المتوفى 774 هـ.

الناشر: دار إحياء الكتاب، عيسى البابي الحلبي وشركاه.

- الجامع لأحكام القرآن: لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي المتوفى 671 هـ.

الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت – طبعة معاده بالأوفست.

- الجوهرة النيرة شرح مختصر القدوري: لأبي بكر بن علي العروف بالحداد المتوفى 800 هـ.

الناشر: مير محمد كتب خانة – كرتشي.

- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: للعلامة محمد بن عرفة الدسوقي.

الطبعة الثالثة – المطبعة الأميرية ببولاق – مصر.

- حاشية رد المحتار على المختار، المعروفة بحاشية ابن عابدين.لمحمد أمين بن عمر الدمشقي – الشهير بابن عابدين – المتوفى 1252 هـ.

مع التكلمة لنجل المؤلف. الطبعة الثانية. دار الفكر – بيروت.

- الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي: لأبي الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي.

تحقيق: علي محمد معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود. الطبعة الأولى 1414 هـ، دار الكتب العلمية – بيروت.

- حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء: لسيف الدين أبي بكر بن أحمد الشاشي القفال.

تحقيق: د / ياسين أحمد دراكه. الناشر: مكتبة الرحالة الحديثة – عمان.

- الذخيرة: لشهاب الدين أبي العباس أحمد إدريس الصنهاجي الشهير بالقرافي.

ص: 337

تحقيق: د / محمد حجي. الطبعة الأولى، دار الغرب الإسلامي – بيروت.

- روضة الطالبين وعمدة المفتين: لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى 676 هـ.

الطبعة الثانية 1405 هـ. إشراف زهير الشاويس. المكتب الإسلامي.

- سبل السلام شرح بلوغ المرام: لمحمد بن إسماعيل الصنعاني المتوفى 1182 هـ.

الطبعة الرابعة 1379 هـ. الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت.

- سنن أبي داود: لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني المتوفى 275 هـ.

تحقيق: عزت الدعاس، طبع محمد علي السيد – حمص.

- سنن ابن ماجه: لأبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني المتوفى 275 هـ.

تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي. الناشر: عيسى البابي.

- سنن الترمذي «الجامع الصحيح» : لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي المتوفى 279 هـ.

- سنن الدارقطني: للحافظ علي بن عمر الدارقطني المتوفى 385 هـ.

الطبعة الرابعة 1406 هـ. عالم الكتب – بيروت.

- السنن الكبرى: لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي المتوفى 458 هـ. الناشر: دار الفكر.

- سنن النسائي: لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي المتوفى 303 هـ.

بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي وحاشية السندي. الناشر: دار الفكر – بيروت.

- شرح الزركشي على مختصر الخرقي: لشمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي المتوفى 772 هـ.

تحقيق: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين. الناشر: مطابع العبيكان – الرياض.

- شرح السنة: لأبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البيهقي المتوفى 516 هـ.

تحقيق: شعيب الأرناؤوط وزهير الشاويش. الطبعة الأولى 1390 هـ. المكتب الإسلامي.

- الشرح الكبير: لشمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن قدامة المتوفى 682 هـ.

الطبعة الأولى 1417 هـ. هجر للطباعة والنشر. مطبوع مع المقنع والإنصاف.

- شرح النووي على صحيح مسلم: لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى 676 هـ.

الناشر: دار الفكر – بيروت.

ص: 338

- صحيح البخاري: لمحمد بن إسماعيل البخاري المتوفى 256 هـ.

بتصحيح محمد ذهني. طبعة بولاق عام 1315 هـ.

- صحيح مسلم: لمسلم بن حجاج القشيري المتوفى 261 هـ. تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي.

الناشر: عيسى البابي الحلبي عام 1375 هـ.

- غاية الاختصار: لأبي شجاع الحسين بن أحمد الأصفهاني الشافعي.

الطبعة الأولى عام 1412 هـ. دار الخير، وهو مطبوع مع شرحه كفاية الأخيار.

- الفتاوى الهندية: للشيخ نظام وجماعة من علماء الهند.الطبعة الثالثة 1393 هـ. المكتبة الإسلامية تركيا.

- فتح الباري شرح صحيح البخاري: لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني المتوفى 852 هـ.

ترتيب محمد فؤاد عبد الباقي. الناشر: دار الفكر.

- الفروع: لأبي عبد الله محمد بن مفلح المقدسي الحنبلي المتوفى 762 هـ.

الطبعة الثانية. الناشر: عالم الكتب.

- القاموس المحيط: لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي المتوفى 817 هـ.

الناشر: دار الجيل – بيروت.

- قوانين الأحكام الشرعية: لأبي القاسم محمد بن جزيء المتوفى 741 هـ.

الناشر: دار العلم – بيروت.

- الكافي في فقه أهل المدينة: لأبي عمر يوسف بن عبد الله بن عبد البر النمري القرطبي المتوفى 463 هـ.

تحقيق: محمد بن محمد بن أحمد ولد ماديك الموريتاني. الناشر: المحقق عام

1399 هـ.

- كشاف القناع على متن الإقناع: لمنصور بن يونس البهوتي المتوفى 1052 هـ.

الناشر: عالم الكتب – بيروت، 1403 هـ.

- كنز الدقائق: لأبي البركات عبد الله بن أحمد بن حافظ الدين النسفي.

المطبعة الأميرية ببولاق لعام 1363 هـ. مطبوع مع شرحه تبيين الحقائق.

- لسان العرب: لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور المتوفى 711 هـ.

الناشر: دار صادر – بيروت.

- المبدع في شرح المقنع: لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن مفلح الحنبلي المتوفى 884 هـ.

الناشر: المكتب الإسلامي 1402 هـ.

- المبسوط: لشمس الدين محمد بن أحمد السرخسي المتوفى 483 هـ.

ص: 339

دار المعرفة – بيروت، 1406 هـ.

- المجموع شرح المهذب: لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى 676 هـ. مع تكملته للسبكي والمطيعي. الناشر: دار الفكر.

- المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل: لأبي البركات عبد السلام بن عبد الله الحراني المتوفى 652 هـ. الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت.

- المحلى: لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم المتوفى 456 هـ.

تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي. الناشر: دار الآفاق الجديدة – بيروت.

- مختصر الطحاوي: لأبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي المتوفى 321 هـ.

حققه أبو الوفاء الأفغاني. الطبعة الأولى 1406 هـ. دار إحياء العلوم – بيروت.

- مختصر القدوري: لأبي الحسن أحمد بن محمد البغدادي القدوري المتوفى 428 هـ.

- مسند الإمام أحمد بن حنبل: وضعه الإمام أحمد بن حنبل الشيباني المتوفى 241 هـ.

الطبعة الرابعة سنة 1403 هـ. الناشر: المكتبة الإسلامي – بيروت.

- المصباح المنير: لأحمد بن محمد بن علي المقرئ الفيومي المتوفى 770 هـ.

الطبعة الأولى. الناشر: المطبعة الأميرية ببولاق.

- المصنف: لأبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى 211 هـ.

تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي. الطبعة الأولى 1392 هـ. الناشر: المكتب الإسلامي.

- المصنف: لعبد الله بن محمد بن أبي شيبة المتوفى 235 هـ.

تحقيق: الأستاذ عامر العمري الأعظمي. الطبعة الثاني 1399 هـ. الدار السلفية – الهند.

- معالم التنزيل: لأبي محمد بن الحسين بن مسعود الفراء البغوي المتوفى 516 هـ.

تحقيق: خالد عبد الرحمن – مروان سواد. الطبعة الأولى. دار المعرفة 1406 هـ.

- المعونة: للقاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المتوفى 516 هـ.

تحقيق: حميش خميس. الناشر: المكتبة التجارية للباز مكة المكرمة.

- المغني: لأبي محمد موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة المتوفى 620 هـ.

ص: 340

تحقيق: د / عبد الله بن عبد المحسن التركي ود/ عبد الفتاح الحلو. الطبعة الثانية 1412 هـ. هجر للطباعة والنشر – القاهرة.

- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: لشمس الدين محمد بن أحمد الشربيني الخطيب المتوفى 977 هـ. مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1377 هـ.

- المنتقى شرح موطأ الإمام مالك: لأبي الوليد سليمان بن خلف الباجي 494 هـ.

الطبعة الثانية طبعة معادة بالأوفست 1403 هـ. الناشر: دار الكتاب العربي.

- المهذب في فقه الإمام الشافعي: لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي المتوفى 476 هـ.

الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي وأولاده، عام 1396 هـ.

- مواهب الجليل شرح مختصر خليل: لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الحطاب المتوفى 954 هـ.

الطبعة الثالثة عام 1412 هـ، دار الفكر.

- الموطأ: وضعه إمام دار الهجرة مالك بن أنس المتوفى 179 هـ.

ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي. الناشر: عيسى البابي الحلبي 1370 هـ.

- المنهاج: لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي المتوفى 676 هـ.

مطبوع مع معني المحتاج. مطبعة مصطفى البابي الحلبي القاهرة 1377 هـ.

- النهاية في غريب الحديث والأثر: لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن الأثير الجزري المتوفى 606 هـ. تحقيق: محمود بن محمد الطناحي. الناشر: المكتبة الإسلامية.

- الهداية شرح بداية المبتدي: لبرهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني المتوفى 593 هـ.

الناشر: دار المعرفة – بيروت 1399 هـ.

ص: 341

مقدَّمة

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده.

وبعد؛ فقد كان من جملة ما اعتنى به علماء العربية دراسة النحو العربي عامة، وأدوات المعاني خاصة، فقد تتبعوا أحوال الأدوات ودرسوها من مختلف جوانبها:

أصلها، عملها، شروط عملها، إهمالها، زيادتها، حذفها، أقسامها، معانيها، لغاتها، اسميتها، حرفيتها، اتصالها بغيرها، بساطتها أو تركيبها، ....

وقد سلك النحويون في دراستهم أدوات المعاني ثلاثة مناهج:

المنهج الأول: درس النحاة الأدوات ضمن أبواب النحو ومباحثه ومسائله، كأمثال سيبويه في "الكتاب"، والمبرد في "المقتضب"، والفراء في "معاني القرآن"، وابن السراج في "الأصول في النحو"، والزّجاجيّ في "الجُمل"، والفارسيّ في "الإيضاح العضدي، وكتب المسائل"، وابن جنّى في "اللمع" والزمخشريّ في "المفصّل"، وابن الحاجب في "الكافية"، وابن مالك في "التسهيل" وغيرهم ممن تناول الكتب السابقة بالشرح.

المنهج الثاني: درس بعض النحاة أدوات المعاني دراسة مستقلة، إذْ أفردوها بكتب متخصصة تتناولها بالدراسة والاستقصاء من مختلف جوانبها، من هذه المؤلفات: حروف المعاني" للّزجاجيّ، و"معاني الحروف" للرّماني، و"الأُزهيّة" للهرويّ، و"رصف المباني" للمالقيّ، و "الجنى الداني" للمراديّ، و"جواهر الأدب" للإربلّيّ، و"مغني اللبيب" لابن هشام الأنصاريّ، وغيرها.

المنهج الثالث: سلك بعض النحاة مسلكاً آخر في دراسة أدوات المعاني، هذا المسلك يتمثل في دراسة أداةٍ واحدةٍ، إذْ تُدْرَسُ من مختلف جوانبها، وممّن سلك هذا المنهج الزّجاجيّ في "كتاب اللامات"، وأحمد بن فارس في "مقالة كلاّ"، وأبو جعفر الطبريّ في "رسالة كلاّ في الكلام والقرآن"، وابن هشام الأنصاريّ في رسالته "المباحث المَرْضِيّة المتعلقة بمَنْ الشرطيّة" وعثمان النجديّ في رسالة "أيّ المشددة" وغَيرهم من النحويين.

ص: 342

لذلك أردت أن أقوم بدراسة "إِذَنْ" من مختلف جوانبها، والذي شجعني لدراستها، أنّني كنت أقرأ (باب إِذَنْ) في كتاب (المقتضب) للمبرد (2/12)، واستوقفني قوله:(فهذه حال "إذَنْ" إلى أَنْ نُفرِدَ باباً لمسائلها إن شاء الله)، علّق عضيمة على المسألة بقوله:(لم يُفرد باباً لمسائل "إِذَنْ"، وإنّما استعرض النواصب في الجزء الرابع) .

عندئذ شمرت عن ساعد الجدّ، وعقدت العزم على تتبع مسائلها في بطون أمّات الكتب النحوية، وكتب أدوات المعاني، والمعاجم، والتفسير، وعلوم القرآن، والقراءات.

وبعد جمع المسائل، ودراستها، تمّ تقسيمها على ثلاث عشرة مسألةً، يسبقها مقدمةٌ، ويتلوها الخاتمة، ثم فهرس المصادر والمراجع، ثم فهرس الموضوعات.

وقد جعلت هذه الدراسة بعنوان: (مسائل "إِذَنْ") .

أمّا المسائل التي درستها فهي على النحو التالي:

المسألة الأولى: أصل "إِذَنْ".

المسألة الثانية: عملها.

المسألة الثالثة: شروط عمل "إِذَنْ".

المسألة الرابعة: معناها.

المسألة الخامسة: حكم "إِذَنْ" إِن وقعت بين شيئين متلازمين.

المسألة السادسة: حكم "إِذَنْ" إذا فُصل بينها وبين الفعل بفاصلٍ.

المسألة السابعة: حكم" إِذَنْ "الواقعة بين حرف العطف والفعل المستقبل.

المسألة الثامنة: حكم إلغاء عمل "إِذَنْ" مع استيفاء شروط العمل.

المسألة التاسعة: حكم "إِذَنْ" إذا وقع بعدها الماضي مصحوباً باللام.

المسألة العاشرة: إعراب الفعل المنصوب بعد "إِذَنْ".

المسألة الحادية عشرة: تشبيه"إِذَنْ"في عوامل الأفعال بـ"ظَنّ"في عوامل الأسماء

المسألة الثانية عشرة: الوقف على "إِذَنْ".

المسألة الثالثة عشرة: كتابتها.

أرجو أن أكون ما قدمته نافعاً، ولمسائل "إِذَنْ" جامعاً، والله أسأل أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وصلّى الله وسلّم على نبيّنا محمد وآله وصحبه.

ص: 343

المسألة الأولى: أصل "إِذَنْ": (1)

اختلف النحويون في أصل (إِذَنْ) ، هل هي حرفٌ أو اسمٌ؟ وهل هي بسيطةٌ أو مركبةٌ؟ ذهب الجمهور إلى أنّها حرفٌ، وذهب بعض الكوفيين إلى أنّها اسمُ ظرفٍ، وأصلها "إذا" الظرفية لحقها التنوين عوضاً من الجملة المحذوفة، إذ الأصل في (إِذَنْ أكرمَك) أن تقول:(إذا جئتني أكرمُك) ، حُذف ماتضاف إليه "إذا"، وعُوّض منه التنوين كما عَوّضوا في (حينئذٍ) ، وحُذفت الألف لالتقاء الساكنين، ونُقلت إلى الجزائية فبقى فيها معنى الربط والسبب.

وذهب رضيّ الدين إلى ماذهب إليه بعض الكوفيين، فقال:"الذي يلوح لي في "إِذَنْ" ويغلب في ظنّي أنّ أصله "إذْ" حذفت الجملة المضاف إليها، وعُوّض منها التنوين لمّا قُصد جعله صالحاً لجميع الأزمنة الثلاثة بعدما كان مختصاً بالماضي، وذلك أنّهم أرادوا الإشارة إلى زمان فعلٍ مذكورٍ فقصدوا إلى لفظ "إذْ" الذي هو بمعنى مطلق الوقت لخفة لفظه، وجرّدوه عن معنى الماضي وجعلوه صالحاً للأزمنة الثلاثة، وحذفوا منه الجملة المضاف هو إليها، لأنّهم لمّا قصدوا أن يشيروا به إلى زمان الفعل المذكور، دلّ ذلك الفعل السابق على الجملة المضاف إليها، كما يقول لك شخصّ مثلاً: "أنا أزورك"، فتقول: "إِذَنْ أكرمَك"، أي: "إذْ تزورني أكرمك"، أي: وقت زيارتك لي أكرمك، وعُوّض التنوين من المضاف إليه؛ لأنّه وُضع في الأصل لازم الإضافة، فهو كـ"كلٍّ وبعضٍ"، إلاّ أنّهما معربان و"إذْ" مبنيّ

" (2) .

(1) ينظر نتائج الفكر 134، وشرح التسهيل 4/20، وشرح الكافية للرضي 2/235،238، ورصف المباني 157، والارتشاف 4/1650، والجنى الداني 363، وتوضيح المقاصد 4/190، وجواهر الأدب 339، ومغني اللبيب 15، والمساعد 3/74، والتصريح 2/234، والهمع 2/6، والأشموني 3/290، والنحو الوافي 4/308.

(2)

شرح الئكافية 2/235.

ص: 344

ويؤكد على اسميتها في أكثر من موضعٍ بقوله: "وإذا جاز لك إضمار "أَنْ" بعد الحروف التي هي: الواو، والفاء، وأو، وحتى، فهلاّ جاز إضمارها بعد الاسم – يعني إِذَنْ - وإنّما لم يجز إظهار "أَنْ" بعد "إِذَنْ" لاستبشاعهم للتلفظ بها بعدها"(1) .

وقال في موضعٍ آخر: "و"إِذَنْ" كنواصب الفعل التي لا يُفصل بينها وبين الفعل، إلاّ أنّ "إِذَنْ" لمّا كان اسماً بخلاف أخواته جاز أن يُفصل بينه وبين الفعل"(2) .

بل إِنّه رجّح اسميتها بقوله: "وقَلْبُ نونها في الوقف ألفاً يُرجّح جانب اسميّتها"(3) .

واختلف النحويون أيضاً في بساطتها وتركّبها، فذهب الجمهور إلى أنّها بسيطة لامركبة من (إذْ وأنْ) أو (إذا وأنْ) .

وذهب الخليل في أحد أقواله فيما حكى عنه غير سيبويه إلى أنّها حرفٌ مركبٌ من "إذْ" و"أَنْ"، وغَلب عليها حكم الحرفية، ونُقلت حركة الهمزة إلى الذّال، ثمّ حُذفت والتُزم هذا النقل.

وممن ذهب إلى هذا الرأي بعض الكوفيين، وابن مالك، فقال: "

وليس في هذا نصٌّ على أنّ انتصاب المضارع بعد "إِذَنْ" عند الخليل بـ"أَنْ" مضمرة، لجواز أن تكون مركبةً مع "إذْ" التي للتعليل، و"أَنْ" محذوفا همزتها

بعد النقل، والقولُ به على ضعفه أقربُ من القول بأنّ "إِذَنْ" غيرُ مركبة".

ويؤكّد ابن مالك تركّبها بقوله: "والقولُ بأنّ "إِذَنْ" مركبةٌ من "إذْ" و"أَنْ" أسهلُ منه"(4) .

وذهب أبو عليّ الرُّنديّ تلميذ السهيليّ إلى أنّها مركبةٌ من "إذا" و"أَنْ"، حُذفت همزة "أَنْ"، ثم حُذفت ألف "إذا" لالتقاء الساكنين، ثمّ تُعطى ما تُعطى كلّ واحدة منهما، فتعطى الرّبط كـ (إذا) ، والنّصب كـ (أنْ)(5) .

وقد ردّ المالقيّ على من زعم أنّ "إِذَنْ" مركبةٌ، بقوله: "وهذا فاسدٌ من وجهين:

(1) شرح الكافية 2/237.

(2)

شرح الكافية 2/237.

(3)

شرح الكافية 2/238.

(4)

شرح التسهيل 4/20، وانظر شرح الكافية للرضيّ 2/238، ورصف المباني 157.

(5)

الارتشاف 4/1650، والهمع 2/6.

ص: 345

أحدهما: أنّ الأصل في الحروف البساطة، ولا يُدّعى التركيب إلاّ بدليلٍ قاطعٍ.

والثاني: أنّها لو كانت مركبةً من "إذْ" و"أَنْ" لكانت ناصبةً على كلّ حالٍ، تقدمت أو تأخرت، وعدمُ العمل في المواضع المذكورة قبلُ دليلٌ على عدم التركيب" (1) .

المسألة الثانية: عملها:

اختلف النحويون أيضاً في عمل "إِذَنْ" إذا جاء الفعل المضارع منصوباً بعدها، ما النّاصب له؟ هل النّاصب له "إِذَنْ" أو "أَنْ" مضمرة بعدها؟.

ذهب سيبويه وأكثر النحويين إلى أنّها تنصب بنفسها، وهو ماسمعه عن الخليل، قال سيبويه:"اعلم أنّ "إِذَنْ" إذا كانت جواباً، وكانت مبتدأةً عملت في الفعل عمل "أُرى" في الاسم إذا كانت مبتدأةً، وذلك قولك:

"إِذَنْ أجيئَك" و"إِذَنْ آتيَك"(2) .

وذهب الخليل بن أحمد في أحد قوليه إلى أنّها ليست ناصبةً بنفسها، بل الفعل بعد "إِذَنْ" منصوب بـ"أَنْ" مضمرة، وهو مارواه عنه أبو عبيدة.

قال سيبويه: "وقد ذكر لي بعضهم أنّ الخليل قال: "أَنْ" مضمرة بعد "إِذَنْ"، ولو كانت مما يُضمر بعده "أَنْ" فكانت بمنزلة اللاّم وحتّى لأضمرتها إذا قلت: "عبدُ الله إِذَنْ يأتيك"، فكان ينبغي أن تَنصب "إِذَنْ يأتيَك"؛ لأنّ المعنى واحد، ولم يُغيَّر فيه المعنى الذي كان في قوله: "إِذَنْ يأتيَك عبدُ الله"، كما يَتغيّر المعنى في حتّى في الرفع والنصب، فهذا مارَووا، وأمّا ماسمعتُ منه فالأوّلُ"(3) .

وممن ذهب إلى مذهب الخليل الزّجاج، والفارسيّ (4) ، ورضيّ الدين الاستراباذيّ.

قال الزّجاج بعد أن حكى رأيَ سيبويه ورأيَ الخليل: "وكلا القولين حسنٌ جميلٌ إلاّ أنّ العامل – عندي – النصبَ في سائر الأفعال "أَنْ"، وذلك أجود، إمّا أن تقع ظاهرة أو مضمرة".

(1) رصف المباني 157.

(2)

الكتاب 3/12.

(3)

الكتاب 3/16، والنكت في تفسير الكتاب 1/698.

(4)

ينظر رأيهما في الارتشاف 4/1650، والجنى الداني 364، وتوضيح المقاصد 4/190، والهمع 2/6.

ص: 346

وقال في تأويل "إِذَنْ أكرمَه": "تأويله إنْ كان الأمرُ على ما تصِفُ وَقَعَ إِكْرامُه، فـ"أَنْ" مع "أُكرمُه" مقدرةٌ بعد "إِذَنْ" "(1) .

أَمّا الفارسيّ فذهب إلى أنّها العاملةُ بنفسها، وهو مخالفٌ لما نُسب إليه، فقال:"وممّا ينتصب الفعل بعده من الحروف التي لاتضمر "إِذَنْ"، وإنّما تعمل في الفعل إذا كانت جواباً،

" (2) ، وربّما قال به في كتاب آخر، أو أنّه يقول بهما.

أَمّا الرضيّ فقد دافع عن مذهب الخليل وردّ على سيبويه بقوله: "ويمكن توجيه هذا القول على ماذكرنا" ثمّ قال: "وإذا جاز لك إضمار "أَنْ" بعد الحروف التي هي: الواو، والفاء، وأو، وحتّى، فهلاّ جاز إضمارها بعد الاسم، وإنّما لم يجز إظهار "أَنْ" بعد "إِذَنْ" لاستبشاعهم للتلّفظ بها بعدها"

ويؤكّد ذلك أيضاً بقوله: "فلما احتمل "إِذَنْ" التي يليها المضارع معنى الجزاء، فالمضارع بمعنى الاستقبال، واحتمل معنى مطلق الزمان، فالمضارع بمعنى الحال، وقصد التنصيص على معنى الجزاء في "إِذَنْ"، نصب المضارع بـ"أَنْ" المقدرة؛ لأنّها تُخلّص المضارع للاستقبال،

".

ويُبرهن بأنّها غيرُ عاملة بنفسها بقوله: "وتجويز الفصل بينها وبين منصوبها بالقسم، والنِّداء، والدعاء، يُقوِّى كونها غيرَ ناصبة بنفسها، كـ"أَنْ"، و"لَنْ"، إذْ لايُفصل بين الحرف ومعموله بما ليس من معموله"(3) .

(1) معاني القرآن 2/63.

(2)

الإيضاح 320، والمقتصد 1054.

(3)

شرح الكافية 2/237، 238.

ص: 347

أمّا ابن مالك فيرى أنّه لايوجد نصٌّ على أنّ الخليل يذهب إلى أنّ الفعل المضارع منصوبٌ بـ"أَنْ" مضمرة بعد "إِذَنْ"، وما رواه عنه أبو عبيدة لانصَّ فيه على مذهب الخليل، إذْ قال:"وما عزاه إلى الخليل من أنّ الفعل بعد "إِذَنْ" منصوبٌ بـ"أَنْ" مضمرة، إِنّما مستنده فيه قول السيرافيّ في أوّل شرح الكتاب: (1) "روى أبو عبيدة عن الخليل أنّه قال: "لاينصب شيء من الأفعال إلاّ بـ"أَنْ" مظهرة أو مضمرة في: كي، ولَنْ، وإِذَنْ، وغير ذلك"، وليس في هذا نصّ على أنّ انتصاب المضارع بعد "إِذَنْ" عند الخليل بـ"أَنْ" مضمرة، لجواز أن تكون مركبةً مع "إذْ" التي للتعليل، و"أَنْ" محذوفاً همزتها بعد النقل، على نحو مايراه في انتصابه بعد "لَنْ"، والقول به على ضعفه أقرب من القول بأنّ "إِذَنْ" غيرُ مركبةٍ، وانتصاب المضارع بعدها بـ"أَنْ" مضمرة؛ لأنّه لايستقيم إلاّ على أنْ يكون مابعد "إِذَنْ" في تأويل مبتدأٍ لازمٍ حُذف خبره، أو "إِذَنْ" قبله ليست حرفاً بل ظرفاً مخبراً به عن المبتدأ، وأصلها "إذا" فقُطعت عن الإضافة وعُوّض عنها التنوين، وكلاهما في غايةٍ من التكلف، والقول بأنّ "إِذَنْ" مركبة من "إذْ وأَنْ" أسهل منه " (2) .

هذه آراء وأدلة القائلين بأنّ "إِذَنْ" ليست ناصبة بنفسها، وأَنّ "أَنْ" بعدها مقدّرةٌ، ماعدا ابن مالك فقد دافع عن مذهب الخليل وبيّن وجهة نظره.

(1) شرح الكتاب للسيرافي 1/84.

(2)

شرح التسهيل 4/20.

ص: 348

أَمّا جمهور النحويين فيرون أنّها الناصبة للمضارع بنفسها، لا "أَنْ" مضمرة بعدها، وقد انتصر المالقيّ لمذهب الجمهور مدلّلا على فساد المذهب الآخر بقوله:"وكأنّ من نصب بإضمار "أَنْ" قاسها على "حتى، وكي، ولامها، ولام الجحود"، ولا يصحُّ القياس على ذلك؛ لأنّ حتى، وكي، ولامَها، ولامَ الجحود إنّما تنصب بإضمار "أَنْ"؛ لجواز دخولها على المصادر، وربما ظهرت "أَنْ" مع بعضها في بعض المواضع على ما يُبيّن بعد، ولما كانت "إِذَنْ" لايصحُّ دخولها على مصدرٍ ملفوظٍ به ولا مقدّرٍ، ولايصحُّ إظهار "أَنْ" بعدها في موضعٍ من المواضع، لم يجز القياس في نصب مابعدها على ماذُكر"(1) .

المسألة الثالثة: شروط عمل "إِذَنْ"(2) :

ذهب أكثر النحويين إلى أنّ "إِذَنْ" حرف ينصب المضارع بثلاثة شروط، وبعض النحاة جعلها أربعة، وبعضهم فصّل الشروط فجعلها خمسة، ومن النحاة من اشترط في نصبها المضارعَ ستةَ شروطٍ:

الأول: أن تكون "إِذَنْ" واقعةً في صدر الكلام:

أي: في أوّل الكلام؛ لأنّها حينئذٍ في أشرف محالها، فإن تأخرت أُلغيت حتماً نحو:"أكرمُك إِذَنْ" بلا خلاف؛ لأنّ الفعل المنصوب لايجوز تقديمه علىناصبه، أَمّا إذا توسطت، أي: وقعت حشواً في الكلام وذلك بأن اعتمد مابعدها على ماقبلها، مثل أن تتوسط بين الشرط وجزائه، وبين القسم وجوابه، وبين المبتدأ وخبره، وجب إلغاؤها في الصور كلّها.

(1) رصف المباني 157.

(2)

ينظر الأصول 2/148، وشرح الكتاب للسيرافي 1/84، والإيضاح 320، والمقتصد 2/1054، وشرح الملحة للحريري 342، وكشف المشكل 1/540، وابن يعيش 9/14، والملخّص 138، وشرح الكافية للرضيّ 2/237، وتوضيح المقاصد 4/187، والجنى الداني 361، وجواهر الأدب 339، وشرح قطر الندى 62، والمغني 16، والتصريح 2/234، والهمع 2/6، والأشباه والنظائر 2/135.

ص: 349

فإن تقدمها كلام وتمّ دونها جاز أن تستأنف بها، وتنصب ويكون جواباً، كما لو لم يتقدمها شيء، وذلك نحو قول عبد الله بن عَنَمة الضبيّ:

اُرْدُدْ حِمَارَكَ لاتُنْزَعْ سَوِيَّتُهُ

إِذَن يُرَدَّ وقَيْدُ العَيرِ مَكْروبُ (1)

قال ابن السراج: "فهذا نصْبٌ؛ لأنّ ماقبله من الكلام قد استغنى وتمَّ، ألا ترى أنّ قوله: "اُرْدُدْ حمارك لاتُنزعْ سَوِيَّتُهُ" كلامٌ قد تمَّ، ثمّ استأنف كأنّه أجاب من قال: لا أفعلُ ذاك، فقال: "إِذَنْ يُردَّ وقَيدُ العَيرِ مكروبُ" "(2) .

الثاني: أن يكون الفعل المضارع بعدها مستقبلاً:

فإن كان حالاً فلا يُنصب، كقولك لمن يُحدّثك:"إِذَنْ أظنُّكَ صادقاً" فترفع؛ لأنّه حالٌ، والفعل المنصوب لايكون إلاّ مستقبلاً.

قال أبو عليّ الشلوبين: "وهو ألاّ تدخل إلاّ على مستقبل، فإذا أدخلناها على فعل حالٍ لم تعمل أصلاً وإن كانت متقدمة؛ لأنّه ليس في الدُّنيا ناصب يدخل على فعل حالٍ، فوجب لها هنالك الإلغاء"(3) .

الثالث: ألاّ يُفصل بين "إِذَنْ" والفعل بفاصل:

أي: أن يكون المضارع متصلاً بها لضعفها مع الفصل عن العمل فيما بعدها، فإنْ فُصلت بفاصل بطل عملها، إلاّ أن تُفصل بواحدٍ من اثنين، فإنّ الفصل بذلك كَلا فصلٍ، وهما:"القسم" و"لا"، وأجاز بعض النحويين الفصل بغير ماسبق ذكره، وهو ماسنوضحه بالتفصيل في موضعه.

وإلى الشروط الثلاثة التي سبق ذكرها أشار ابن مالك بقوله (4) :

(1) البيت في المفضليات 383، وهو من شواهد الكتاب 3/14، والمقتضب 2/10، والأصول 2/148، وشرح الكتاب للسيرافي 1/84، والتعليقة 2/132، وشرح أبيات سيبويه 2/100، والصّاحبي 198، والنكت 1/699، وابن يعيش 7/16، وشرح التسهيل 4/21، وشرح الكافية 2/238، وشرح الجزولية 2/478، ورصف المباني 152.

(2)

الأصول 2/148، وينظر التبصرة والتذكرة 1/396.

(3)

شرح الجزولية 2/477.

(4)

ألفية ابن مالك 60، وشرح الألفية لابن الناظم 665، وتوضيح المقاصد 4/187.

ص: 350

وَنَصَبُوا بـ"إِذَنِ" الْمُسْتَقْبلَا

إِنْ صُدِّرَتْ، والْفِعْلُ بَعْدُ مُوصَلَا

الرابع: أن تكون جواباً أو في تقدير الجواب:

قال الزمخشريّ: " و"إِذَنْ" جوابٌ وجزاءٌ، يقول الرجل: "أنا آتيك"، فتقول: "إِذَنْ أُكرمَك"، فهذا الكلام قد أجبته به وصيرت إكرامَك جزاءً له على إتيانه؛ وقال الزّجاج: (تأويلها إنْ كان الأمر كما ذكرت فإنّي أكرمُك"(1) .

وقال السيرافيّ: "وإنّما أردت إكراماً تُوقِعُه في المستقبل، فصارت بمنزلة "أَنْ" في وقوعها للمستقبل من الأفعال"(2) .

وقال ابن هشام: "والأكثر أن تكون جواباً لـ"إنْ أو لَوْ" ظاهرتين أو مقدرتين"(3) .

الخامس: ألاّ يكون الفعل الذي بعدها معتمداً على ما قبلها (4) :

قال الفارسيّ: "فإنِ اعتمَدْتَ بالفعل على شيءٍ قبلها رفعْتَ، وذلك قولك: "أنا إِذَنْ أكرمُك"، تُرفع؛ لأنّ الفعل معتمد على الابتداء الذي هو "أنا"، وكذلك: "إنْ تكرِمْني إِذَنْ أُكرمْك" "(5) .

السادس: ألاّ تقع "إِذَنْ" بعد حرف عطف (6) :

فإن وقعت بعد حرف عطف كالواو أو الفاء، نحو:"وإِذَنْ آتيك" أو "فإِذَنْ آتيك"، جاز فيها الوجهان: الإلغاء، والإعمال، والإلغاء أجود وأكثر، وبه قرأ القُرّاء.

المسألة الرابعة: معناها (7) :

(1) المفصل 323، وابن يعيش 9/12، وانظر الأصول 2/148، والإيضاح 320، والمقتصد 2/1054، وشرح الملحة للحريري 342، وجواهر الأدب 339.

(2)

شرح الكتاب 1/84.

(3)

مغني اللبيب 15.

(4)

القائلون بهذا الشرط هم القائلون بالشرط الذي قبله.

(5)

الإيضاح 320.

(6)

اشترط هذا الشرط الحيدرة اليمني في كشف المشكل 1/540، والأندلسيّ في شرح المفصل، ينظر الأشباه والنظائر 2/135.

(7)

ينظر الكتاب 4/234، وابن يعيش 9/13، وشرح الجمل لابن عصفور 2/170،171، وشرح الجزولية 2/477، وشرح الكافية 2/236، والارتشاف 4/1654، ورصف المباني 151، والجنى الداني 364، والمغني 15، والتصريح 2/234، والهمع 2/6، ودراسات لأسلوب القرآن 1/64.

ص: 351

قال سيبويه: "وأمّا "إِذَنْ" فجوابٌ وجزاءٌ"(1) .

قال أبو حيّان: "وتحرير معنى "إِذَنْ" صعبٌ، وقد اضطرب النّاس في معناها، وقد نصَّ سيبويه على أنّ معناها: "الجوَابُ والجزاءُ"، واختلف النحويون في فهم كلام سيبويه"(2) .

نعم اختلف النحويون في فهم معناها، والذي يظهر من لفظه أنّها حيثما توجد يكون معناها الجواب والجزاء معاً، وهذا ما فهمه الأستاذ أبو عليّ الشلوبين (3) ، حيث حمل كلام سيبويه على ظاهره، وتكلّف في كلّ مكان وقعت فيه أنّها جوابٌ وجزاءٌ.

أمّا أبو عليّ الفارسيّ فإنّه فهم من كلام سيبويه أنّها قد تَرِدُ لهما، وهو الأكثر، وقد تتمحض للجواب فقط، نحو: أن يقول لك القائل: "أحبُّك"، فتقول:"إِذَنْ أَظُنُّكَ صادقاً" فلا يتصوّر هنا الجزاء (4) .

قال المالقيّ: "والصحيح أنّها شرط في موضعٍ، وجواب في موضعٍ، وإذا كانت شرطاً فلا تكون إلاّ جواباً، وهذا هو المفهوم من كلام سيبويه، لأنّه لم ينصّ على أنّهما معاً في موضعٍ واحدٍ".

وقد ردَّ ابن عصفور على شيخه الأستاذ أبي عليّ الشلوبين في تكلّفه لمعنى "إِذَنْ"، بقوله:"ففهم الأستاذ أبو علي الشلوبين هذا على أنّه شرط وجواب، وأخذ الجزاء بمعنى الشرط، والجواب جوابه فحيثما جاءت قدرها بفعلي الشرط والجزاء؛ فإذا قلت لمن قال لك: "أنا أزورُك"، "إِذَنْ أُكرمَك"، فمعناه: إِنْ تَزُرْني أكرمْك.

(1) الكتاب 4/234، وينظر الصّاحبي 198.

(2)

البحر المحيط 1/434.

(3)

شرح الجزولية 2/477.

(4)

التكملة 563، وينظر رصف المباني 151.

ص: 352

فلمّا أخذها هذا المأخذ اضطر إلى هذا التقدير في قوله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} (1)، فلما قدّر: إن كنتُ فعلتُها فأنا ضالٌّ، جاءه إثبات الضلال لموسى عليه السلام؛ قال: ولم يرد إثبات الضلال لنفسه، فأثار إشكالاً على فهمه، فكان انفصاله عن هذا بأنْ قال: معنى قوله: {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (2)، أي: بأنعمي، فقال له موسى عليه السلام: إنْ كنتُ فعلتُها كافراً بنعمتك فأنا من الضالين، أي: من الجاهلين بأنّ الوكزة تقضي على القبطيّ".

ثم قال ابن عصفور: "وكلامه معترَضٌ في هذا بيِّنُ الاعتراض؛ لأنّه بنى الأمر على أنّ " إِذَنْ" شرط وجواب، وليس كذلك، بل إنّما هي جوابٌ بمعنى أنّها لاتقال مبتدأة، ولابدّ أن يتقدمها كلام، فلا تقول أبداً:"إِذَنْ أزورَك" ابتداء، فهي جواب وتكون جزاءً، ولا يلزم أن يكون ذلك فيها مجموعاً"(3) .

وقد بيّن ابن هشام الأنصاريّ متى تكون "إِذَنْ" جواباً؟ بقوله: "والأكثر أن تكون جواباً لـ"إِنْ" أو "لو" ظاهرتين أو مقدرتين"(4) .

وخلاصة القول إنّ "إِذَنْ" تكون جواباً وجزاءً، فقد يجتمع فيها هذان، وقد ينفرد أحدهما، فإذا قلت لمن قال لك:"أنا أزورُك"، "إِذَنْ أُكرمَك"، فهذا جوابٌ وجزاءٌ؛ وإذا قال لك:"أُحبُّك"، فتقول له:"إِذَنْ أظنُّك صادقاً"، فهذا جواب لاجزاء معه، فعلى هذا لاتخلو من الجوابِ، وتكون في بعض المواضع جزاءً.

المسألة الخامسة:

حكم"إِذَنْ"إِن وقعت بين شيئين متلازمين (5) :

(1) سورة الشعراء، آية "20".

(2)

سورة الشعرا، آية "19".

(3)

شرح الجمل لابن عصفور 2/170، 171.

(4)

المغني 15، 16.

(5)

ينظر الكتاب 3/14، والمقتضب 2/11، والتبصرة والتذكرة 1/396، وابن يعيش 7/16، وشرح الجزولية 2/479، وشرح الكافية 2/238، ورصف المباني 154، والارتشاف 4/1652، والتذكرة 559، والجنى الداني 361، والتصريح 2/234، والهمع 2/7.

ص: 353

اشترط النحاة في عمل "إِذَنْ" أن تكون في صدر الكلام، فإن وقعت حشواً في الكلام بأَنِ اعتمد مابعدها على ماقبلها أُهملت، قال سيبويه:"واعلم أنّ "إِذَنْ" إذا كانت بين الفعل وبين شيءٍ الفعلُ معتمدٌ عليه فإنّها مُلغاةٌ لاتَنصب البتة، كما لاتَنصب "أُرى" إذا كانت بين الفعل والاسم في قولك: "كان أُرى زيدٌ ذاهباً"، وكما لاتعمل في قولك: "إنّي أُرى ذاهبٌ"، فـ"إِذَنْ" لاتصل في ذا الموضع إلى أن تنصب كما لاتصل "أُرى" هنا إلى أن تنصب، فهذا تفسير الخليل، وذلك قولك: "أنا إِذَنْ آتيك"، فهي ههنا بمنزلة "أُرى" حيث لاتكون إلاّ ملغاةً، ومن ذلك أيضاً قولك: "إنْ تأتني إِذَنْ آتِك"؛ لأنّ الفعل ههنا معتمدٌ على ماقبل "إِذَنْ" "(1) .

وقد حدد النحاة إهمالها في ثلاثة مواضع:

الأول: أن يكون مابعدها جواباً للشرط الذي قبل "إِذَنْ"، نحو:"إنْ تأتِني إِذَنْ أكرمْك"، فتجزم "أكرمْك" لأنّه جواب الشرط، ولا تأثير لـ"إِذَنْ".

ومن ذلك أيضاً جعل الرّضيّ البيت السابق: (اُرْدُدْ حِمَارَكَ.. إِذَنْ يُرَدّْ..) ؛ إِذْ قال: "يجوز على مذهب الكسائيّ أن يكون "لايرتعْ" مجزوماً بكون "لا" فيه للنهي لا أنّه جواب الأمر، و "يُردّْ" مجزوماً لا منصوباً بكونه جواباً للنهي كما هو مذهبه في نحو قولك: "لا تكفرْ تدخلِ النّار" أي: إنْ تكفرْ تدخلِ النّار، فيكون المعنى: لايرتعْ إِنْ يرتعْ يُردّْ"(2) .

الثاني: أن يكون مابعدها جواباً للقسم الذي قبلها، إمّا مذكور، نحو:"والله إِذَنْ لا أفعلُ"، قال سيبويه:"ومن ذلك أيضاً: "والله إِذَنْ لا أفعلُ"، من قِبَلِ أنّ "أفعلُ" معتمدٌ على اليمين، و"إِذَنْ" لغوٌ "(3) .

وإمّا مقدر، كقول كُثَيِّر عَزَّةَ:

(1) الكتاب 3/14.

(2)

شرح الكافية 2/238-239.

(3)

الكتاب 3/14.

ص: 354

لَئِنْ عَادَ لي عبدُ العزيز بمثْلِها

وأمْكَنَنِي منها إِذَنْ لا أَقِيلُها (1)

فـ (لا أقيلُها) مرفوع؛ لأنّ "إِذَنْ" لم تتصدر لكونها جواب القسم المقدر الموطأ عليه باللام الداخلة على "أَنْ" في أول البيت، والتقدير: والله لَئِنْ.

الثالث: أن يكون مابعدها خبراً للمبتدأ الذي قبلها، نحو:"أنا إِذَنْ أكرمُك"

قال المالقيّ: "وتقول في المبتدأ: "زيدٌ إِذَنْ يكرمُك"، فـ"يكرمُك"، مرفوع؛ لأنّه خبر عن "زيد"، وكذلك حكمه في خبر مايدخل على المبتدأ والخبر، من "كان" أو "إِنّ" وشبههما، كقولك: "كان زيدٌ إِذَنْ يكرمُك" و"إنّ زيداً إِذَنْ يكرمُك"، و"ظننت زيداً إِذَنْ يكرمُك"؛ لأنّ المفعول الثاني في "باب ظننت" حكمه أن يكون خبراً للمبتدأ في الأصل، فهو كخبر "كان" و"إنّ" "(2) .

وهذه الصورة موضِعُ خِلافٍ بين البصريين والكوفيين، فمذهب البصريين أنّه لايجوز الإعمال، وفصّل الكوفيون فأجاز هشام النصب والرفع بعد المبتدأ، وأجازهما الكسائيّ بعد اسم "إنّ"، وبعد اسم "كان"، ووافقه الفراء في "إنّ"، وخالفه في "كان" فأوجب الرفع، ونصّ الفراء على وجوب الرفع بعد "ظنّ"، قال أبو حيان:" وقياس قول الكسائيّ جواز الوجهين "(3)، لذلك اختلف الفريقان في قول الشاعر:

(1) في ديوانه305،وهو من شواهد الكتاب3/15،وابن يعيش9/13،ورصف المباني 154، وشرح أبيات سيبويه 2/144، والجُمل 195،وشرح الألفية لابن الناظم 669 والمغني15، والتصريح2/234،والهمع2/7،وشواهد المغني للسيوطي1/63،والأشموني 3/288،.

(2)

رصف المباني 154.

(3)

الارتشاف 4/1652، وينظر التذكرة 559، والهمع 2/7.

ص: 355

لاتَترُكَنِّي فِيهُمُ شَطِيرا

إِنّي إِذَنْ أَهْلِكَ أو أَطِيرا (1)

فتأوّله البصريون على أنّه شاذٌّ، أو إِنْ صحت الرواية فإنّه على أحد وجهين:

إمّا أن يجعل "إِذَنْ أَهْلِكَ" جملة في موضع خبر "إنّ"، وإمّا أن يكون خبر "إنّي" محذوفاً، أي: إنّي لاأستطيع، أو لا أقدر عليه، أو إنّي أُذلّ، ثم استأنف بـ"إِذَنْ" فنصب الفعل بعد تمام الأول بخبره؛ أَمّا الكوفيون فبنوا على هذا البيت مسائلهم.

قال رضيّ الدين في نهاية هذه المواضع الثلاثة التي تقع فيها "إِذَنْ" حشواً: "ولا يقع المضارع بعد "إِذَنْ" في غير هذه المواضع الثلاثة معتمداً على ما قبلها بالاستقراء، بل تقع متوسطة في غير هذه المواضع، نحو: "يقتلُ إِذَنْ زيدٌ عمراً"، و"لِبئْسَ الرجلُ إِذَنْ زيدٌ" ونحوه"(2) .

المسألة السادسة:

حكم "إِذَنْ" إذا فُصل بينها والفعل بفاصلٍ (3) :

ذهب النحاة إلى أنّه لايجوز الفصل بين "إِذَنْ" ومنصوبها؛ لضعفها مع الفصل عن العمل فيما بعدها، إلاّ أنّهم اغتفروا الفصل بالقسم، نحو:"إِذَنْ والله أجيئَك"، ومنه قول حسان بن ثابت:

(1) البيت بلا نسبة وهو في معاني القرآن للفراء 2/338، وشرح الكتاب للسيرافي 1/86، وشرح الجزولية 2/479، وابن يعيش 7/17، والمقرب 1/261، وشرح الكافية 2/238، وشرح التسهيل4/21، ورصف المباني 154، والارتشاف 4/1653، والجنى الداني 362، والمساعد 3/76، والمغني 16، وشرح الكافية الشافية 3/1537، والهمع 2/7، وشواهد المغني للسيوطي 1/70.

(2)

شرح الكافية 2/239.

(3)

ينظر شرح التسهيل 4/22، وشرح الكافية 2/237، والمقرب 1/262، ورصف المباني 153، والارتشاف 4/1653، والتذكرة 559، والجنى الداني 362، والمغني 16، والمساعد 3/74، والتصريح 2/235، والهمع 2/6، والملخّص 138.

ص: 356

إِذَنْ واللهِ نرميَهُمْ بحربٍ

تُشيبُ الطّفلَ من قبْلِ المَشيبِ (1)

أو الفصل بـ"لا" النافية، نحو:"إِذَنْ لاأكرمَك"، ومنه قراءة عبد الله بن مسعود:{ِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً} (2) .

وما عدا ذلك اختلف النحاة فيه، فأجاز ابن بابشاذ (3) الفصلَ بالدّعاء، والنِّداء، ووافقه الرضيّ (4)، نحو:"إِذَنْ – يَغفِرُ اللهُ لكَ – يُدخِلَك الجنّة"، ونحو:"إِذَنْ – يازيدُ – أحسنَ إليك"، ووافقهما ابن أبي الربيع القرشيّ في النِّداء فقط (5) .

وأجاز بعض النحويين منهم ابن عصفور (6) ، والمالقيّ (7) ، والأبّديّ (8) الفصل بالظرف، أو المجرور، نحو:"إِذَنْ - يومَ الجمعة - أُكرمَك"، ونحو:"إِذَنْ - في الدار - آتيَك".

وأجاز الكسائيّ، والفراء، وهشام، الفصل بين "إِذَنْ" والفعل بمعمول الفعل، نحو:"إِذَنْ زيداً أُكرمَُ"، و"إِذَنْ فيك أرغبَُ"، ففي الفعل حينئذٍ وجهان: الرفع واختاره الفراء وهشامٌ، والنصب واختاره الكسائيّ (9) .

وجمهور النحويين لايرون في هذا ونحوه إلاّ الرفعَ لوجود الفصل، واغتفروا الفصل بالقسم، وبـ"لا" النافية كما سبق ذكره.

(1) في ديوانه 371، وهو من شواهد الارتشاف 4/1653، وشرح شذور الذهب 291، وشرح قطر الندى 62، وشواهد المغني للسيوطيّ 2/970، والتصريح 2/235، والأشموني 3/289.

(2)

سورة النساء آية 53، وانظر مختصر شواذ القرآن 29.

(3)

ينظر الارتشاف 4/1653، والجنى الداني 362.

(4)

شرح الكافية 2/237.

(5)

الملخّص 138.

(6)

المقرب 1/262.

(7)

رصف المباني 153.

(8)

ينظر الارتشاف 4/1653، والمساعد 3/74.

(9)

ينظر الارتشاف 4/1654، والجنى الداني 363، والمغني 16، والتصريح 2/235، والهمع 2/7.

ص: 357

تنبيه: قال أبو حيّان: "لو قدمت معمول الفعل على "إِذَنْ" نحو: "زيداً إِذَنْ أُكرمَُ" جاز ذلك عند الكسائيّ والفراء، إلاّ أنّ الفراء يُبطل عملها، والكسائيَّ يجيز الإبطال والإعمال، ولا نصَّ عند البصريين أحفظه في ذلك، والذي تقتضيه قواعدهم المنع"(1) .

المسألة السابعة:

حكم"إِذَنْ"الواقعة بين حرف العطف والفعل المستقبل (2) :

اعلم أنّ "إِذَنْ" إن وقعت بين حرف العطف والفعل المستقبل، كنت فيها بالخيار، إن شئت أعملتها، وإن شئت ألغيتها، وهو الأكثر والأجود، وفي المسألة صورتان:

الأولى: نحو قولك: "فإِذَنْ أُحسنُ إليك" جواباً لمن قال: "أزورُكَ"، جاز فيها الوجهان، قال سيبويه:"واعلم أنّ "إِذَنْ" إذا كانت بين "الفاء والواو" وبين الفعل، فإنّك فيها بالخيار، إن شئت أعملتها

، وإن شئت ألغيت "إِذَنْ"

، فأمّا الاستعمال فقولك:"فإِذَنْ آتيَك، وإِذَنْ أُكرمَك"

، وأمّا الإلغاء فقولك:"فإِذَنْ لا أجيئُك" " (3) .

فالإلغاء بالرفع على اعتبار كون مابعد العاطف من تمام ماقبله بسبب ربطِ حرفِ العطفِ الكلام بعضه ببعضٍ، فصارت "إِذَنْ" بذلك متوسطةً.

(1) الارتشاف 4/1654.

(2)

ينظر الكتاب 3/13، والمقتضب 2/11، ومعاني القرآن للفراء 1/273، والكشاف 2/371، والتبصرة والتذكرة 1/397، والإيضاح في شرح المفصل 2/264، وابن يعيش 7/16، وشرح التسهيل 4/21، وشرح الكافية 2/237، 239، وشرح الجزولية 2/480، وجواهر الأدب 340، ورصف المباني 155، والارتشاف 4/1651، والتصريح 2/235، ودراسات لأسلوب القرآن 1/55، 56.

(3)

الكتاب 3/13.

ص: 358

والإعمال وهو نصب الفعل باعتبار كون مابعد العاطف جملة مستقلة، والفعل فيها بعد "إِذَنْ" غير معتمد على ماقبلها، وعلى هذا الوجه خرّج النحاة القراءة الشّاذة في قوله:{فإذاً لايُؤتُوا النَّاسَ نَقِيراً} (1)، وقولِهِ:{وَإذاً لايَلْبثُوا خَلْفَكَ إِلاّ قَليلاً} (2) .

وإلى هذه الصورة أشار ابن مالك بقوله:

، وَانْصِبْ وَارْفَعا إِذا "إِذَنْ" مِنْ بعْدِ عَطْفٍ وَقَعَا (3)

الصورة الثانية: وقوعها مع حرف العطف بعد جواب الشرط، نحو قولك:"إنْ تأتِني آتِك وإِذَنْ أُكرمُْك" جاز فيها ثلاثة أوجهٍ، قال المبرد:"واعلم أنّها إذا وقعت بعد واوٍ أوفاءٍ، صَلُحَ الإعمال فيها والإلغاءُ، لِمَا أذكره لك، وذلك قولك: "إنْ تأتِني آتِك وإِذَنْ أُكرمَُْك"، إِنْ شئت رفعت، وإِنْ شئت نصبت، وإِنْ شئت جزمت؛ أمّا الجزم فعلى العطف على "آتك" وإلغاء "إِذَنْ"؛ والنّصب على إعمال "إِذَنْ"؛ والرفع على قولك: "وأنا أُكرمُك"، ثمّ أُدخلت "إِذَنْ" بين الابتداء والفعل فلم تعمل شيئاً"(4) .

المسألة الثامنة:

حكم إلغاء عمل "إِذَنْ" مع استيفاء شروط العمل (5) :

(1) سورة النساء آية "53"، وهي قراءة ابن مسعود، ينظر مختصر شواذ القرآن 29، ومعاني القرآن للفراء 1/273، والكشاف 1/274، والبحر المحيط 3/273.

(2)

سورة الإسراء آية 76 وهي قراءة أبيّ بن كعب، كما نُسبت لابن مسعود، ينظر: مختصر شواذ القرآن 27، 77، والكشاف 2/371، والجامع لأحكام القرآن 5/162، والبحر المحيط 6/66.

(3)

ألفية ابن مالك 60.

(4)

المقتضب 2/11.

(5)

ينظر الكتاب 3/16، وابن يعيش 7/16، وشرح الجمل لابن عصفور 2/172، وشرح التسهيل 4/21، وشرح الألفية لابن الناظم 671، والارتشاف 4/1651، والتذكرة 559، والجنى الداني 363، والمساعد 3/72، ورصف المباني 153، والتصريح 2/235، والهمع 2/7.

ص: 359

المشهور من لسان العرب إذا وجدت الشروط المذكورة سابقاً أن تنصب "إِذَنْ" الفعل بعدها، إلاّ أنّ بعض العرب يُلغى "إِذَنْ" مع استيفاء الشروط.

قال سيبويه: "وزعم عيسى بن عمر أنّ ناساً من العرب يقولون: "إِذَنْ أفعلُ ذلك" في الجواب، فأخبرت يونس بذلك، فقال: لا تُبْعِدنّ ذا، ولم يكن ليرويَ إلاّ ماسمع، جعلوها بمنزلة "هَلْ وبَلْ" "(1) .

وبناءً على ماحكاه سيبويه، اختلف النحويون في إلغاء عملها مع استيفاء الشروط: فذهب البصريون إلى إثبات إلغاء عملها رجوعاً إلى نقل عيسى، ووافقهم ثعلب، وخالفهم سائر الكوفيين فلم يُجز أحدٌ الرفع بعدها (2) .

وذهب ابن يعيش إلى أنّه يجب إعمالها لاغير إن دخلت في الفعل في ابتداء الجواب، و - أيضاً - ذهب إليه ابن عصفور، فقال:"وإن وقعت صدراً فالإعمال ليس إلاّ، وقد حُكي إلغاؤها، وذلك قليل جداً"(3) .

وذهب ابن مالك إلى أنّها تنصب الفعل غالباً، وذلك بناءً على مارواه عيسى ابن عمر (4) .

أَمّا ابن الناظم فذهب إلى أنّ إلغاء عملها هو القياس؛ لأنّها غير مختصة، فقال:"وإنّما أعملها الأكثرون حملاً على "ظنّ"؛ لأنّها مثلُها في جواز تقدمها على الجملة، وتأخرِها عنها، وتوسطِها بين جزأيها، كما حُملت "ما"على"ليس"؛لأنها مثلُها في نفي الحال"(5) .

وذهب بعض النحاة إلى أنّ مارواه عيسى لغةٌ نادرةٌ (6) ، وذهب المالقيّ إلى أنّ ذلك شاذٌّ لايُعتبر (7) .

المسألة التاسعة:

(1) الكتاب 3/16.

(2)

الارتشاف 4/1651، والهمع 2/7.

(3)

ينظر ابن يعيش 7/16، وكذا شرح الجمل 2/172.

(4)

شرح التسهيل 4/19، 21.

(5)

شرح الألفية لابن الناظم 671، وينظر التصريح 2/235.

(6)

ينظر الارتشاف 4/1651، والجنى الداني 363، وتوضيح المقاصد 4/190، والمساعد 3/72.

(7)

رصف المباني 153.

ص: 360

حكم"إِذَنْ"إذا وقع بعدها الماضي مصحوباً باللاّم (1) :

ذهب النحويون إلى أنّه إذا أتى بعد "إِذَنْ" الماضي مصحوباً باللام، نحو قوله تعالى:{إِذاً لأَذَقْنَاك} (2) فالظاهر أنّ الفعل جوابُ قسمٍ مقدرٍ قبل "إِذَنْ"، فلذلك دخلت اللام على الماضي.

قال الفراء: (وإذا رأيت في جواب"إِذَنْ"اللام فقد أضمرت لها"لَئِنْ"أو يميناً، أو "لو"، من ذلك قوله عز وجل: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} (3)، والمعنى – والله أعلم-: لو كان معه فيهما إلهٌ لذهب كلُّ إلهٍ بما خلق، ومثله قال تعالى:{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لأتَّخَذُوكَ خَلِيلا} (4)، ومعناه: لو فعلت لاتخذوك، وكذلك قوله:{كِدْتَ تَرْكَنُ} ثم قال: {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ} معناه: لو ركنت لأذقناك إذاً" (5) .

فنلحظ أنّ الفراء يرى أنّ اللام جواب قسم مقدر، أو جواب "لو" مقدرة.

(1) ينظر معاني القرآن للفراء 1/274، وشرح التسهيل 4/19، وشرح الكافية 2/236، والارتشاف 4/1655، والجنى الداني 365، والبرهان 4/187، 188، والإتقان 1/405، ودراسات لأسلوب القرآن 1/62.

(2)

سورة الإسراء آية "75".

(3)

سورة المؤمنون آية "91".

(4)

سورة الإسراء آية "73".

(5)

معاني القرآن للفراء 1/274.

ص: 361

أمّا رضيّ الدين الاستراباذيّ فلا يرى أنّ "اللام" واقعةٌ في جوابٍ لقسم مقدرٍ، إذ قال:"وإذا كان للشرط جاز أن يكون للشرط في الماضي، نحو: "لو جئتني إِذَنْ لأكرمتك"، وفي المستقبل نحو: "إِذَنْ أُكرمَك" بنصب الفعل، وإذا كان بمعنى الشرط في الماضي جاز إجراؤه مجرى "لو" في إدخال "اللام" في جوابه، كقوله تعالى: {إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ} ، أي: لو ركنت إليهم شيئاً قليلاً لأذقناك، .... وليس "اللام" جوابَ القسم المقدر كما قال بعضهم، وإذا كان بمعنى الشرط في المستقبل جاز دخول الفاء في جزائها كما في جزاء "إِنْ" "(1) .

وحكى الزركشيّ عن بعض المتأخرين أنّ "إِذَنْ" التي يقع بعدها الماضي مصحوباً باللام، مركبةٌ من "إذا" التي هي ظرف زمان ماضٍ، ومن جملة بعدها تحقيقاً أو تقديراً، لكنّها حُذفت تخفيفاً وأُبدل منها التنوين، وليست هذه الناصبة للمضارع؛ لأنّ تلك تختص به ولذا عملت فيه، ولا يعمل إلاّ مايختص، وهذه لاتختص به بل تدخل على الماضي، ثمّ استشهد بالآيات السابقة (2) .

المسألة العاشرة: إعراب الفعل المنصوب بعد "إِذَنْ":

هذه المسألة تناولها رضيّ الدين بقوله: "ثم اعلم أنّ الفعل المنصوب المقدر بالمصدر مبتدأٌ، خبرُه محذوف وجوباً، فمعنى "إِذَنْ أكرمَك": إِذَنْ إكرامُك حاصلٌ، أو واجبٌ، وإنّما وجب حَذْفُ خبر المبتدأ؛ لأنّ الفعل لمّا التُزم فيه حَذْفُ "أَنْ" التي بسببها تهيأ أن يَصْلُح للابتدائية، لم يظهر فيه معنى الابتداء حقّ الظهور، فلو أُبرز الخبر لكان كأنّه أخبر عن الفعل"(3) .

المسألة الحادية عشرة:

(1) شرح الكافية 2/236.

(2)

ينظر البرهان 4/187، والإتقان 1/405.

(3)

شرح الكافية 2/238.

ص: 362

تشبيه "إِذَنْ" في عوامل الأفعال بـ"ظَنّ" في عوامل الأسماء (1) :

شبَّه النحاة "إِذَنْ" في عوامل الأفعال بـ"ظننت" في عوامل الأسماء في الابتداء، والتوسط، والتأخير؛ لأنّ كلاً منهما يعمل ويُلغى، فإذا تقدما عملا، وإذا تأخرا أو توسطا لم تعمل "إِذَنْ" في حالة التأخر، أو إذا توسطت بين كلامين أحدهما محتاج إلى الآخر لم يجز أن تعمل؛ لأنها حرف والحروف أضعف في العمل من الأفعال.

أَمّا أفعال الشك واليقين "ظنّ وأخواتها" إذا توسطت أو تأخرت فيجوز فيها الإعمال والإلغاء، ولم تقو "إِذَنْ" قوتها؛ لأنّ المشبّه بالشيء لايقوى قوة المشبّه به، فحطت عنها بأنْ ألغيت ليس إلاّ.

قال سيبويه (2) : "اعلم أنّ "إِذَنْ" إذا كانت جواباً وكانت مبتدأةً، عملت في الفعل عمل "أُرى" في الاسم إذا كانت مبتدأةً". وقال: "ولا تَفصلُ بين شيءٍ مما يَنصب الفعلَ وبين الفعل سوى "إِذَنْ"؛ لأنّ "إِذَنْ" أشبهت "أُرى"، فهي في الأفعال بمنزلة "أُرى" في الأسماء، وهي تُلغى وتُقدّم وتُؤخَّر".

وقال: "واعلم أنّ "إِذَنْ" إذا كانت بين الفاء والواو وبين الفعل فإنّك فيها بالخيار، إن شئت أعملتها كإعمالك "أُرى وحسبت"، إذا كانت واحدةٌ منهما بين اسمين،

وإن شئت أَلغيتَ "إِذَنْ" كإلغائك" "حسبت" ". وقال: "واعلم أنّ "إِذَنْ" إذا كانت بين الفعل وبين شيءٍ الفعلُ معتمدٌ عليه، فإنّها مُلغاةٌ لاتَنصب البتة، كما لاتنصب "أُرى" إذا كانت بين الفعل والاسم".

(1) ينظر الكتاب 3/12، 13، 14، والمقتضب 2/10، والأصول 2/148، 149، وشرح الكتاب للسيرافي 1/85، وابن يعيش 7/17، وشرح الجزولية 2/476، 477، ورصف المباني 154، 155، وجواهر الأدب 339.

(2)

الكتاب 3/ 12، 13، 14.

ص: 363

وقال المبرد: "اعلم أنّ " إِذَنْ " في عوامل الأفعال كـ" ظننت " في عوامل الأسماء؛ لأنهّا تعمل وتُلغى كـ"ظننت"،ألا ترى أنّك تقول:"ظننت زيداً قائماً "و" زيدٌ ظننت قائمٌ"،إذا أردت زيدٌ قائمٌ في ظنّي، وكذلك "إِذَنْ" إذا اعتمد الكلام عليها نُصب بها، وإن كانت بين كلامين أحدهما في الآخر عاملٌ أُلغيت، ولا يجوز أن تعمل في هذا الموضع كما تعمل"ظننت"، إذا قلت: "زيداً ظننت قائماً"؛ لأنّ عوامل الأفعال لا يجوز فيها التقديم والتأخير، لأنّها لاتتصرّف"(1) .

المسألة الثانية عشرة: الوقف على "إِذَنْ"(2) :

اختلف النحويون في الوقف على "إِذَنْ": فذهب الجمهور – وهو الصحيح – وعليه إجماع القُرّاء، أنّ "إِذَنْ" يُوقف عليها بالألف المبدلة من النون، تشبيهاً لها بتنوين المنصوب.

وذهب المازنّي إلى أنّه يُوقف عليها بالنون؛ لأنّها حرف، كـ"أَنْ"، ولم يُجز الوقف عليها بالألف، لئلا تلتبس بـ"إذا".وذهب المبرد إلى جواز الوجهين.

قال السيوطيّ: "الجمهور أنّ "إِذَنْ" يُوقف عليها بالألف المبدلة من النون، وعليه إجماع القُرّاء، وجوّز قومٌ منهم المبرد والمازنيّ في غير القرآن الوقوف عليها بالنون كـ"لَنْ" و"أَنْ" "(3) .

المسألة الثالثة عشرة: كتابتها (4) :

قال ابن هشام:"وينبني على الخلاف في الوقف عليها خلافٌ في كتابتها"(5) .

لذلك اختلف النحويون في كتابتها على ثلاثة مذاهب:

(1) المقتضب 2/10.

(2)

ينظر شرح الأبيات المشكلة 83، والتكملة 563، ونتائج الفكر 134، وشرح الملوكي في التصريف 237، وشرح الكافية 2/238، والارتشاف 2/801، والجنى الداني 365، وجواهر الأدب 339، والمغني 16، والإتقان 1/406، والأشباه والنظائر 2/201.

(3)

الإتقان 1/406.

(4)

ينظر شرح الكافية 2/238، وشرح الجمل لابن عصفور 2/170، والجنى الداني 366، ورصف المباني 155، 156، والمغني 16، والجامع لأحكام القرآن 5/162، والكواكب الدريّة 467، والنحو الوافي 4/312.

(5)

المغني 16.

ص: 364

الأول: ذهب الجمهور إلى أنّها تُكتب بالألف، وكذلك رُسمت في المصحف، ونُسب هذا القول إلى المازنيّ، قال المراديّ:"وفيه نظرٌ؛ لأنّه إذا كان يرى الوقف عليها بالنون كما نُقل عنه، فلا ينبغي أن يكتبها بالألف"(1) .

قال المالقيّ: "وعلّةُ من كتبها بالألف في الحالتين – أي من الوصل والوقف – شَبَهُها بالأسماء المنقوصة، لكونها على ثلاثة أحرف بها، فصارت كالتنوين في مثل "دَماً ويداً" في حال النصب"(2) .

الثاني: ذهب المازنيّ والمبرد وأكثر النحويين إلى أنّها تكتب بالنون، وقد رُوي عن المبرد أنّه قال:"أشتهي أنْ أكويَ يدَ مَنْ يكتب "إِذَنْ" بالألف، إنّها مِثْلُ "لَنْ وأَنْ"، ولا يدخل التنوين في الحروف"(3) .

قال المالقيّ: "فعلّةُ من كتبها بالنون في الحالتين - من الوصل والوقف - أنّها حرف، ونونها أصليّة، فهي كـ"أنْ، وعَنْ، ولَنْ" "(4) .

الثالث: ذهب الفراء إلى التفصيل، وهو أنّها إِنْ كانت مُلغاةً كُتبت بالألف؛ لأنّها قد ضَعُفت، وإن كانت عاملةً كُتبت بالنون؛ لأنّها قد قويت.

وقد نَسب له رضيّ الدين وابن هشام الأنصاريّ عكس ماذُكر (5) .

قال المالقيّ: "وعلّةُ من فرّق بين كونها عاملةً فتُكتب بالنون تشبيهاً بـ"عَنْ" و"أَنْ"، وكونها غيرَ عاملة فتُكتب بالألف تشبيهاً بالأسماء المذكورة كـ"دَماً" و"يداً" "(6) . ورجَّح ابن عصفور كتابتها بالنون، فقال: "والصحيح أنّها تكتب بالنون لأمرين:

أحدهما: أنَّ كلَّ نون يوقف عليها بالألف تُكتب بالألف، وما يوقف عليه من غير تغييرٍ يُكتب على صورته، وهذه يوقف عليها من غير تغيير، فينبغي أن تُكتب على صورتها بالنون.

(1) الجنى الداني 366.

(2)

رصف المباني 156.

(3)

ينظر الجامع لأحكام القرآن 5/162، والجنى الداني 366.

(4)

رصف المباني 155.

(5)

ينظر تفصيل الرأيين في شرح الجمل لابن عصفور 2/170، وشرح الكافية 2/238، ورصف المباني 155، والجنى الداني 366، والمغني 16.

(6)

رصف المباني 156.

ص: 365

وأيضاً: فإنّها ينبغي أَنْ تُكتبَ بالنون فرقاً بينها وبين "إذا" " (1) .

أمّا المالقيّ فقد بيّن وجهة نظره في كتابتها بالنون تارة، وبالألف تارة، بقوله:"والذي عندي فيها: الاختيار أن ينظر: فإن وُصلت في الكلام كُتبت بالنون، عملت أو لم تعمل، كما يُفعل بأمثالها من الحروف؛ لأنّ ذلك لفظها مع كونها حرفا لااشتقاق لها، وإذا وُقف عليها كُتبت بالألف؛ لأنّها إذْ ذاك مشبَّهةٌ بالأسماء المنقوصة المذكورة في عدد حروفها، وأنّ النون فيها كالتنوين، وأنّها لاتعمل مع الوقف مثل الأسماء مطلقاً"(2) .

والله الموفق للصّواب، وإليه المرجع والمآب، والله أسأل سبحانه وتعالى أن يجعلنا ممن إذا دُعِيَ فأجاب، وإذا كتب أو تحدث فأصاب، وأن يرزقنا فَهْمَ الحكمة وفَصْلَ الخطاب، وأن يصلي على سيدنا وقدوتنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله والأصحاب، وتابعيهم إلى يوم المآب، وآخِرُ دعوانا أَنِ الحمد لله رب العالمين، آمين.

الخاتمة

الحمد لله على آلائه التي لاتُحصى، ومنها إنعامه عليّ بإتمام هذا البحث، وفي ختامه يُمكنني أن أُقدّم خلاصة موجزة لأهمّ النتائج التي توصلت إليها، فأقول:

أولاً: الرّاجح – وهو مذهب الجمهور – أنّ (إِذَنْ) حرفٌ، لا اسم ظرف لحقها التنوين عوضاً من الجملة المحذوفة، وهو ماذهب إليه بعض الكوفيين، ورجّحه رضيّ الدين الاستراباذيّ.

ثانياً: الرَّاجح – وهو مذهب الجمهور – أنّها بسيطة، لاحرف مركب من (إذْ وأَنْ) ، وهو مذهب الخليل، وبعض الكوفيين، ورجّحه ابن مالك؛ ولاهي حرف مركب من (إذا وأنْ) ، وهو مذهب الرُّنديّ، وقد ردّ المالقيّ على الزاعمين بتركيبها.

ثالثاً: الرّاجح – وهو مذهب سيبويه والجمهور – أنّها تنصب المضارع بنفسها، وذهب الخليل إلى أنّ الفعل يُنصب بـ"أنْ" مضمرة بعد "إِذَنْ"،وتابعه الزجاج والفارسيّ، وانتصر له رضيّ الدين الاستراباذيّ، وأنكر ابن مالك نسبة هذا الرأي للخليل.

(1) شرح الجمل 2/170.

(2)

رصف المباني 156.

ص: 366

رابعاً: "إِذَنْ" تنصب المضارع بشروط ستة: إذا كانت مبتدأة، وجواباً، والفعل مستقبلاً، ولم يفصل بينها والفعل بفاصل، والفعل بعدها لم يكن معتمداً على ماقبلها، وألاّ تقع بعد عاطفٍ.

خامساً: ذهب سيبويه إلى أنّ معناها: الجواب والجزاء، واختلف النحويّون في فهم كلامه، ففهم الشلوبين أنّها لهما معاً حيثما وُجدت، وقد ردّ ابن عصفور على شيخه، وبيّن أنّ كلامه معتَرضٌ بيِّنُ الاعتراض.

أمّا الفارسيّ ففهم أنّها تَرِدُ لهما، وقد تتمحض للجواب فقط، وهو الرّاجح.

سادساً: "إِذَنْ" إن وقعت بين شيئين متلازمين أُهملت، كوقوعها بين الشرط أو القسم وجوابهما، أو بين المبتدأ والخبر أو مافي حكمهما، والصورة الأخيرة اختلف الفريقان فيها بين الإعمال والإهمال.

سابعاً: لايجوز الفصل بين "إِذَنْ" ومنصوبها، واغتُفِر الفصل بالقسم، أو بـ"لا" النافية، وماعدا ذلك اختلف النحاة في الفصل بالدعاء، أو النداء، أو الظرف، أو المجرور، أو معمول الفعل، فجمهور النحويين يوجبون رفع الفعل؛ لوجود الفصل.

ثامناً: "إِذَنْ" إن وقعت بين حرف العطف والفعل المستقبل، فأنت بالخيار، إن شئت أعملتها، وإن شئت ألغيتها، وهو الأكثر والأجود.

تاسعاً: حكى سيبويه أنّ ناساً من العرب يُلغون عمل "إِذَنْ" مع استيفاء الشروط، فأثبت لها معظم النحاة جواز الإلغاء، وخالفهم آخرون فأوجبوا إعمالها، وحكموا على اللغة بأنّها نادرةٌ، أو شاذّةٌ لايُعتبر بها.

عاشراً: إذا أتى بعد "إِذَنْ" الفعل الماضي مصحوباً باللام، فالظاهر أنّ الفعل جوابُ قسمٍ مقدرٍ، أو جواب "لو" مقدرةٍ قبل "إِذَنْ"، وهو مذهب الفراء. أمّا الرضيّ فيرى أنّها جواب "لو" مقدرة فقط.

حادي عشر: ذهب الرّضيّ إلى أنّ الفعل المنصوب بعد "إِذَنْ" يُقدّر بالمصدر، ويُعرب مبتدأً، خبره محذوف وجوباً.

ص: 367

ثاني عشر: شبّه النحاة "إِذَنْ" في عوامل الأفعال بـ"ظَنَنَتُ" في عوامل الأسماء، في الابتداء، والتوسط، والتأخير؛ لأنّ كلاًّ منهما يعمل ويُلغى، فإذا تقدما عملا، وإذا تأخرا أو توسطا ففي المسألة تفصيل.

ثالث عشر: الرّاجح – وهو مذهب الجمهور وعليه إجماع القُرّاء – أنّ "إِذَنْ" يوقف عليها بالألف المبدلة من النون، وذهب المازنيّ والمبرد إلى أنّه يوقف عليها بالنون في غير القرآن.

رابع عشر: ذهب الجمهور إلى أنّها تكتب بالألف، وكذلك رُسمت في المصحف، وذهب المازنيّ والمبرد وأكثر النحويين، ورجّحه ابن عصفور، إلى أنّها تكتب بالنون، وقال الفراء: إن كانت ملغاة كُتبت بالألف؛ لأنّها قد ضعفت، وإن كانت عاملة كُتبت بالنون؛ لأنّها قد قويت، ونَسب له الرضيّ وابن هشام العكس.

وآخِرُ دعوانا أَنِ الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على سيدنا ونبيّنا محمد وعلى أزواجه، وذرّيته، وصحبه أجمعين، وسلَّمَ تسليماً كثيرا.

فهرس المصادر والمراجع

الإتقان في علوم القرآن للسيوطيّ، تقديم محمد شريف سكر، ومراجعة مصطفى القصاص، ط1، 1407هـ، مكتبة المعارف، الرياض.

ارتشاف الضرب من لسان العرب لأبي حيّان الأندلسيّ، تحقيق ودراسة رجب عثمان محمد، ط1، 1418هـ، مكتبة الخانجي، القاهرة.

الأشباه والنظائر في النحو للسيوطيّ، مراجعة فايز ترحيني، ط1، 1404هـ، دار الكتاب العربي، بيروت.

الأصول في النحو لابن السراج، تحقيق عبد الحسين الفتلي، ط1، 1405هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.

ألفية ابن مالك في النحو والصرف، 1410هـ، مكتبة طيبة للنشر والتوزيع، المدينة المنورة.

الإيضاح العضدي لأبي عليّ الفارسيّ، تحقيق د. حسن شاذلي فرهود، ط2، 1408هـ، دار العلوم.

الإيضاح في شرح المفصل لابن الحاجب، تحقيق د. موسى العليلي، مطبعة العاني، بغداد.

البحر المحيط لأبي حيّان الأندلسيّ، ط2، 1398هـ، دار الفكر، بيروت.

ص: 368

البرهان في علوم القرآن لبدر الدين الزركشيّ، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط2، دار المعرفة، بيروت.

التبصرة والتذكرة لأبي محمد الصيمريّ، تحقيق د. فتحي أحمد مصطفى عليّ الدين، ط1، 1402هـ، دار الفكر، دمشق.

تذكرة النحاة لأبي حيّان الأندلسيّ، تحقيق د. عفيف عبد الرحمن، ط1، 1406هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.

تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك، تحقيق محمد كامل بركات، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، 1387هـ.

التصريح على التوضيح لخالد الأزهريّ، دار الفكر، دمشق.

التعليقة على كتاب سيبويه لأبي عليّ الفارسيّ، تحقيق د. عوض القوزي، ط1، 1412هـ، جامعة الملك سعود، الرياض.

التكملة لأبي عليّ الفارسيّ، تحقيق د. كاظم المرجان، 1401هـ، دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل.

توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك للمراديّ، تحقيق د. عبد الرحمن علي سليمان، ط1، 1396هـ، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبيّ، ط1، 1408هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.

الجمل في النحو لأبي القاسم الزجاجيّ، تحقيق د. علي توفيق الحمد، ط1، 1407هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.

الجنى الداني في حروف المعاني للمراديّ، تحقيق د. فخر الدين قباوة ومحمد نديم، ط1، 1413هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.

جواهر الأدب في معرفة كلام العرب لعلاء الدين الإربليّ، صنعة د. إميل بديع يعقوب، ط1، 1412هـ، دار النفائس، بيروت.

دراسات لأسلوب القرآن الكريم تأليف محمد عبد الخالق عضيمة، دار الحديث، القاهرة.

ديوان حسان بن ثابت، تحقيق د. سيد حنفي حسنين، دار المعارف، القاهرة.

ديوان كُثّيرّ عزّة، تحقيق إحسان عباس، ط1، 1971م، دار الثقافة، بيروت.

رصف المباني في شرح حروف المعاني للمالقيّ، تحقيق د. أحمد محمد الخراط، ط2، 1405هـ، دار القلم، دمشق.

شرح أبيات سيبويه لابن السيرافيّ، تحقيق د. محمد علي سلطاني، 1979م، دار المأمون للتراث، دمشق.

ص: 369

شرح الأبيات المشكلة الإعراب لأبي عليّ الفارسيّ، المسمى (إيضاح الشعر) ،تحقيق د. حسن هنداوي، ط1، 1407هـ، دار القلم، دمشق.

شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، مطبعة الحلبي، القاهرة.

شرح ألفية ابن مالك لابن الناظم، تحقيق د. عبد الحميد السيد محمد عبد الحميد، دار الجيل، بيروت.

شرح التسهيل لابن مالك، تحقيق د. عبد الرحمن السيد ود. محمد بدوي المختون، ط1، 1410هـ، هجر للطباعة والنشر.

شرح جمل الزجاجيّ لابن عصفور، تحقيق صاحب أبو جناح.

شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب لابن هشام الأنصاريّ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت.

شرح شواهد المغنى للسيوطي، دار مكتبة الحياة، بيروت.

شرح قطر الندى وبل الصدى لابن هشام الأنصاريّ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، 1411هـ، المكتبة العصرية، بيروت.

شرح الكافية لرضيّ الدين الاستراباذيّ، ط3، 1402هـ دار الكتب العلمية، بيروت.

شرح الكافية الشافية لابن مالك الأندلسيّ، تحقيق د. عبد المنعم هريدي، دار المأمون للتراث.

شرح كتاب سيبويه لأبي سعيد السيرافيّ، تحقيق د. رمضان عبد التواب، ود. محمود فهمي حجازي، ود. محمد هاشم عبد الدايم، الهيئة المصرية العامة للكتب، 1986م.

شرح المفصل لابن يعيش النّحويّ، عالم الكتب، بيروت.

شرح المقدمة الجزوليّة الكبير لأبي عليّ الشلوبين، تحقيق د. تركي بن سهو العتيبي، ط1، 1413هـ، مكتبة الرشد، الرياض.

شرح ملحة الإعراب لأبي محمد القاسم الحريريّ، تحقيق د. أحمد محمد قاسم، ط2، 1412هـ، مكتبة دار التراث، المدينة.

شرح الملوكي في التصريف لابن يعيش، تحقيق د. فخر الدين قباوة، ط1، 1393هـ، المكتبة العربية، حلب.

الصّاحبي لأبي الحسين ابن فارس، تحقيق السيّد أحمد صقر، مطبعة عيسى الحلبي، القاهرة.

فهارس كتاب سيبويه صنع محمد عبد الخالق عضيمة، ط1، 1395هـ، دار الحديث، القاهرة.

فهارس معاني القرآن للفراء، إعداد د. فائزة المؤيد، ط1، 1414هـ، الخبر.

ص: 370

الكتاب لسيبويه، تحقيق عبد السلام هارون، ط2، 1403هـ، مكتبة الخانجي، القاهرة.

الكشاف لأبي القاسم الزمخشريّ، دار المعرفة، بيروت.

كشف المشكل في النحو لعلي بن سليمان الحيدرة اليمنيّ، تحقيق د. هادي عطية مطر، ط1، 1404هـ، مطبعة الإرشاد، بغداد.

الكواكب الدّريّة على متممة الآجُرّوميّة لمحمد بن محمد الرُّعينّي، الشهير بالحطاب، ط1، 1410هـ، دار الكتب، بيروت.

مختصرٌ في شواذّ القرآن لابن خالويه، عني بنشره برجشتراسر، المطبعة الرحمانيّة بمصر، 1934م.

المساعد على تسهيل الفوائد لابن عقيل، تحقيق محمد كامل بركات، 1400هـ، دار الفكر، دمشق.

معاني القرآن للفراء، ط3، 1403هـ، عالم الكتب، بيروت.

معاني القرآن وإعرابه للزجاج، تحقيق د. عبد الجليل عبده شلبي، ط1، عالم الكتب، بيروت.

المعجم المفصل في شواهد النحو الشعرية، إعداد إميل بديع يعقوب، ط1، 1413هـ، دار الكتب العلمية، بيروت.

المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وضعه محمد فؤاد عبد الباقي، ط2، 1408هـ، دار الحديث، القاهرة.

مغني اللبيب لجمال الدين ابن هشام الأنصاريّ، تحقيق مازن المبارك، ومحمد علي حمدالله، ط1، 1399هـ، دار نشر الكتب الإسلامية، لاهور.

المفصل لأبي القاسم الزمخشريّ، ط2، دار الجيل، بيروت.

المفضليات، تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون، ط7، دار المعارف، القاهرة.

المقتصد في شرح الإيضاح لعبد القاهر الجرحانيّ، تحقيق د. كاظم بحر المرجان، دار الرشيد، 1982م، العراق.

المقتضب لأبي العباس المبرد، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، ط2، 1399هـ، مطابع الأهرام التجارية، القاهرة.

المقرب لابن عصفور، تحقيق أحمد عبد الستار الجواري، وعبد الله الجبوري، ط1، 1391هـ، مطبعة العاني، بغداد.

الملخص لابن أبي الربيع القرشيّ، تحقيق د. علي بن سلطان الحكمي، ط1، 1405هـ.

نتائج الفكر في النحو لأبي القاسم السُهيليّ، تحقيق د. محمد إبراهيم البنا، دار الرياض للنشر والتوزيع، الرياض.

ص: 371

النحو الوافي، تأليف عباس حسن، ط8، دار المعارف، القاهرة.

النكت في تفسير كتاب سيبويه، للأعلم الشّنتمريّ، تحقيق زهير عبد المحسن سلطان، ط1، 1407هـ، الكويت.

همع الهوامع شرح جمع الجوامع، للسيوطيّ عُني بتصحيحه محمد بدر الدين النعساني، ط1، 1327هـ، مكتبة الكليات الأزهرية، القاهرة.

فهرس الموضوعات

مقدَّمة

409

المسألة الأولى: أصل "إِذَنْ":

411

المسألة الثانية: عملها:

412

المسألة الثالثة: شروط عمل "إِذَنْ":

415

المسألة الرابعة: معناها:

417

المسألة الخامسة: حكم"إِذَنْ"إِن وقعت بين شيئين متلازمين:

419

المسألة السادسة: حكم "إِذَنْ" إذا فُصل بينها والفعل بفاصلٍ:

421

المسألة السابعة: حكم"إِذَنْ"الواقعة بين حرف العطف والفعل المستقبل:

422

المسألة الثامنة: حكم إلغاء عمل "إِذَنْ" مع استيفاء شروط العمل:

423

المسألة التاسعة: حكم"إِذَنْ"إذا وقع بعدها الماضي مصحوباً باللاّم:

424

المسألة العاشرة: إعراب الفعل المنصوب بعد "إِذَنْ":

425

المسألة الحادية عشرة: تشبيه "إِذَنْ" في عوامل الأفعال بـ"ظَنّ" في عوامل الأسماء:

426

المسألة الثانية عشرة: الوقف على "إِذَنْ":

427

المسألة الثالثة عشرة: كتابتها:

427

الخاتمة

429

فهرس المصادر والمراجع

430

فهرس الموضوعات

438

ص: 372

المقدَّمة

الحمد لله والصَّلاة والسَّلامُ على رَسولِ اللهِ.

وَبَعْد؛ فقد اهتمَّ علماء العربيّة بلغتهم، ووضعوا نحوها وصرفها ولغتها على نحوٍ منضبط، بهر من جاء بعدهم لدقّتهم البالغة، وسرعة استواء هذه العلوم على سوقها.

وكان في جملة اهتماماتهم الكلمة المفردة، إذ تناولوها من جهة نوعها، وبنيتها، ومدلولها.

فأمَّا نوعها فقسموها إلى ثلاثة أقسام: اسم، وفعل، وحرف. وأمّا بنيتها فصنفوا جميع أبنية العربيّة على اختلاف هيئاتها وأحوالها.

وأمّا مدلولها: فصنّفوا في ذلك الموسوعات الحاوية لمعاني ألفاظ العربيّة.

وكان في جملة بيانهم انقسامَ الكلمة إلى اسم وفعل وحرف انقسامُ الفعل إلى ثلاثة أيضًا: ماضٍ ومضارع وأمر. فإن قال قائل: لم كانت الأفعال ثلاثة: ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً؟ قيل: لأنّ الأزمنة ثلاثة، ولمّا كانت ثلاثة وجب أن تكون الأفعال ثلاثة: ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً (1) .

ولكلِّ نوعٍ منها علاماته التي يعرف بها، وميزاته التي ينفرد بها عن نظيريه.

فالفعل المضارع قسم من أقسام الفعل، ونوع من أنواعه، شُغِلَ به النّحويّون والصّرفيّون واللّغويّون.

فالنحويون تناولوا المضارع بالدراسة من حيث علامته المميزة له، وإعرابه أو بناؤه، وانتهوا إلى أمور، منها:

علامته المميزة له نوعان:

1-

نوع يرجع إلى ما يدخل عليه من عوامل، وهي صلاحيته لأن يلي لم نحو: لم يقم زيد ولم يشم (2) .

2-

وآخر يرجع إلى صيغة أوزان المضارع، وهي افتتاحه بحرف من حروف نأيت. قال الزمخشري في تعريفه: "وهو ما يعقب في صدره الهمزة والنون والتاء والياء

"2.

وليس هذه العلامة في قوة السابقة لها؛ لأنها ليست علامةً قاطعةً، وإنما هي مساعدة.

إعرابه:

يقرر النحويون أن حق الفعل المضارع الإعراب لمشابهته للاسم، وبهذا أعرب، واستحق التقديم على أخويه (3) .

(1) انظر شرح المفصّل 7 / 4.

(2)

أوضح المسالك: 1/27.

(3)

أوضح المسالك: 1/27. والمقصود بأخويه الماضي والأمر..

ص: 373

واستثنوا من ذلك حالتين هما:

1-

إذا اتصلت به نون التوكيد، فإنه يبنى معها على الفتح بشرط أن تكون مباشرة للفعل، لم يفصل بينها وبينه فاصلٌ، ظاهراً كان ـ كألف الاثنين ـ أو مقدراً ـ كواو الجماعة وياء المخاطبة ـ وإلا كان معرباً.

2-

إذا اتصلت به نون النسوة، فإنه يبنى معها على السكون، كما في قوله جل وعلا: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ

} (1) .

أمَّا الصرفيُّون فقد شغلتهم حركة عين المضارع؛ ذلك لاختلافها باختلاف الماضي ونوعه من حيث التجرُّد والزِّيادة، ومن حيث نوعيّة حروفه في بعض الأحيان.

فالمعروف أنَّ أبواب الماضي الثّلاثي المجرّد ثلاثة: فَعَل وفعِل وفعُل وهذا التَّقسيم ناتج من تغيّر حركة العين، ذلك أنَّ الفعل ـ كما ترى ـ ثلاثة أحرف. فالأوَّل منها متحرّك دائمًا إذ لايُبْدَأ بساكن [وحركته الفتحة] واختيرت من بين الحركات لخفَّتِها، وآخره مبنيٌّ على الفتح لفظًا أو تقديرًا، ولم يكن ساكنًا؛ لأنَّه يتَّصل به الضَّمائر، وبعضها ملازم للسُّكون كواو الجماعة، وألف الاثنين. والعين لا تكون إلَاّ متحرّكة لئلَاّ يلزم التقاء السَّاكنين إذا سكن آخر الفعل لاتِّصاله بضمير رفع متحرِّك. والحركات ثلاث: فتحة وكسرة وضمَّة؛ لذلك انحصرت أوزانه في هذه الصِّيغ الثَّلاث (2) .

أمَّا الرُّباعي المجرَّد فله وزن واحد هو فَعْلَل نحو: دحرج لأن الرُّباعي أثقل من الثُّلاثي، فوجب أن يكون فيه سكون ليُخَفِّفَ ثقَله؛ ولأنَّه لو كانت حروفه كلُّها متحرِّكة كالثُّلاثي لزم اجتماع أربعة متحرِّكات متوالية في الكلمة الواحدة، وهذا مما رفض في كلام العرب للاستثقال.

وأما اللغويون فكان من جملة الأحكام التي يطالعها دارس العربيَّة في دراساتهم حركة حرف المضارعة، فاشتُهِر أنَّ حكمها دائر بين حالتين:

(1) سورة البقرة: 228.

(2)

المغني في تصريف الأفعال ص 98.

ص: 374

الأولى: حالة الفتح، وذلك إذا كان ماضي الفعل ثلاثيًّا أو خماسيًّا أو سداسيًّا.

والأخرى: حالة الضَّم، وتختصّ بما كان ماضيه على أربعة أحرف.

ولا يذكر مع هاتين الحالتين حالة ثالثة. ولكنَّا نجد في كتاب سيبويه مبحثًا مستقلاًّ عنوانه كسر حروف المضارعة (1) وذلك يشعر بخروج هذه الحالة عن القاعدة العامَّة، ذلك أنَّ النُّحاة بنوا قواعدهم على ما اطَّرد من قواعد العربيَّة، مستندًا إلى قياس صحيح، أو رَكَنَ إلى سماعٍ فصيح.

وكسر حروف المضارعة ليس مطردًا في لغة العرب، غير أنَّها وجدت لهجات عربية تكسرها.

ولما كان الأمر كذلك أردت أن أقف عندها، جامعًا كلام العلماء فيها ليسهل النَّظر في هذه الحالة، وليطلع دارسو العربيَّة على آراء العلماء فيها.

وذكرت معها نبذة عن حروف المضارعة من حيث، عددها، ومكان زيادتها، ولماذا كانت دون غيرها، وهل زيادتها في أوائل الفعل المضارع دون غيره من الأسماء والأفعال؟

أرجو أن أكون قد حقَّقت المقصود، ووصلت إلى المراد، والله الهادي إلى سواء السَّبيل.

حروف المضارعة

(1) انظر الكتاب: 4/110.

ص: 375

حروف المضارعة هي الهمزة والنون والتاء والياء التي تكون في صدر الفعل المضارع، وزيادتها في أوله لازمة، بل هي جزء من تعريفه. قال الزّمخشري في تعريفه:"وهو ما يعقب في صدره الهمزة والنّون والتّاء والياء. وذلك في قولك للمخاطب أو الغائبة: تفعل. وللغائب: يفعل. وللمتكلّم: أفعل. وله إذا كان معه غيره واحدًا أو جماعة: نفعل. وتسمّى الزّوائد الأربع، ويشترك فيه الحاضر والمستقبل...."(1) . فإن سألت عن أصل هذه الحروف ومن أين جاءت؟ أجابك السّهيلي في نتائجه بقوله: "وإن كان المعنى الزّائد أولاً كانت الزّيادة المنبئة عنه أولاً، مسبقة على حروف الكلمة، كهذه الزّوائد الأربع، فإنّما تنبئ أنّ الفعل لم يحصل بعد لفاعله، وأن بينه وبين تحصيله جزءًا من الزّمان، فكان الحرف الزَّائد السَّابق للفظ الفعل مشيرًا في اللِّسان إلى ذلك الجزء من الزَّمان، مرتَّبًا في البيان على حسب ترتُّب المعنى في الجنان "(2) .

فإن سألت: لم كانت هذه الأحرف الأربعة دون غيرها من حروف الهجاء؟ أجابك بقوله: " إنَّ الأصل في هذه الزّوائد الياء، بدليل كونها في الموضع الذي لا يحتاج فيه إلى الفرق بين مذكّر ومؤنّث، وهو فعل جماعة النِّساء.

(1) المفصّل في علم العربيّة ص 244.

(2)

نتائج الفكر ص 117.

ص: 376

دليل آخر: وهو أنَّ أصل الزِّيادة لحروف المدّ واللِّين، والواو لا تزاد أولاً كيلا تشبه واو العطف، ولعلّة أخرى تذكر في باب التّصريف (1) ، والألف لا تزاد أولاً لسكونها، فلم يبق إلَاّ الياء فهي أصل هذا الباب. فلمَّا أرادوا الفرق كانت الهمزة بفعل المتكلّم أولى، لإشعارها بالضَّمير المستتر في الفعل، إذ هي أول حروف ذلك الضَّمير إذا برز، فلتكن مشيرةً إليه إذا أرز. وكانت النّون بفعل المتكلّمين أولى بوجودها في أول لفظ الضَّمير الكامن في الفعل إذا ظهر، فلتكن دالّة عليه إذا خفي واستتر، وكانت التّاء من تفعل للمخاطب؛ لوجودها في ضميره المستتر فيه، وإن لم تكن في أوّل لفظ الضَّمير ـ أعني أنت ـ ولكنَّها في آخره، ولم يخصّوا بالدّلالة عليه ما هو في أوّل لفظه ـ أعني الهمزة ـ لمشاركته للمتكلّم فيها وفي النّون، فلم يبق من لفظ الضَّمير إلَاّ التَّاء، فجعلوها في أوَّل الفعل علمًا عليه، وإيماءً إليه.

فإن قيل: فكان يلزم على هذا أن تكون الزِّيادة في فعل الغائب هاءً، لوجودها في لفظ الضَّمير الغائب إذا برز؟

(1) قال ابن جني في سر صناعة الإعراب 2/595: "ولم تزد الواو أولاً ألبتة، وذلك أنها لو زيدت لم تخل من أن تكون مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة، فلو زيدت أولاً مضمومة لاطّرد فيها الهمز كما همز نحو (أّقتت) و (أُعِد زيد) ولو زيدت مكسورة لكان قلبها أيضاً جائزاً وإن لم يكن في كثرة همز المضمومة وذلك نحو (إسادة)

ولو زيدت أولاً مفتوحة لم تحل من أن تزاد في أول اسم أو فعل

فلو زيدت في أول الاسم مفتوحة لكنت متى صغرت ذلك الاسم فضممتها مُمَكَّناً من همزها.. ولو كانت في أول فعل لكنت متى بنيته للمفعول ولم تسم فاعله وجب أن تضمها لجاز أيضاً همزها

".

ص: 377

فالجواب: أنَّه لا ضمير في فعل الغائب في أصل الكلام وأكثر موضوعه؛ لأنَّ الاسم الظَّاهر يغني عنه، ولا يستتر ضمير الغائب حتَّى يتقدّمه مذكور يعود عليه، وليس كذلك فعل المتكلّم والمخاطب والمخبرين عن أنفسهم

(1) .

ويقول الكيشيُّ عن هذه الأحرف: "وإنَّما اختصّت الحروف الأربع بالمضارع لأنَّ حروف المدّ هي التي تزاد للمعاني، لكونها ناشئة من الحركات الدَّالَّة على المعاني الإعرابيّة، وحرك الألف للابتداء به فصارت همزة؛ لقرب المخرج، فأبدل من الواو تاءً كتراث وتجاه وتقًى؛ لأنَّ الواو لا تزاد أولاً بمقتضى التَّصريف، واضطروا إلى حرف رابع فتعيَّن النّون، لما فيه من الغنّة الشَّبيهة بالمدّ "(2) .

فيرى الكيشي أنَّهم لمَّا احتاجوا إلى أحرف تدلُّ على المعاني الزَّائدة في الفعل كان الأولى بذلك حروف المدّ الثَّلاثة: الألف والواو والياء، فأبدل من الألف الهمزة للعلّة التي ذكر، ومن الواو التَّاء؛ لأنَّه لا تزاد أولاً، والياء بقيت على طبيعتها، فلمَّا اضطروا إلى حرف رابع كان النّون.

(1) نتائج الفكر ص117.

(2)

الإرشاد إلى علم الإعراب ص 439.

ص: 378

وزيادة هذه الأحرف ليست خاصة بالفعل المضارع، ولذلك لا يذكرها النحويون لتعريفه بها؛ لأنَّها ليست علامة قاطعة، وإنَّما هي مساعدة. ولذلك قال ابن هشام فيها:"وإنَّما ذكرت هذه الأحرف بساطًا وتمهيدًا للحكم الذي يأتي بعدها، لا لأُعرِّف بها الفعل المضارع؛ لأنَّا وجدناها تدخل في أوَّل الفعل الماضي، نحو: أكرمت زيدًا وتعلّمت المسألة ونرجست الدَّواء إذا جعلت فيه نرجسًا، ويرنأت الشَّيب إذا خضبته باليُرَنَّاً، وهو الحنّاء، وإنَّما العمدة في تعريف المضارع دخول لم عليه"(1) . ونجد أنَّ هذه الأحرف تدخل أيضًا على الأسماء، وتجيء في أوَّلها، ويفسِّر ابن جنِّي ذلك بقوله: "فإن قلت: فهلا قُصِرَت حروف المضارعة على الأفعال كما قصرت الميم على الأسماء، وقد سمعناهم يقولون: أفْكَلٌ، وأَيْدَعٌ، وتَنْضُبٌ، وتَتْفلٌ (2) وغير ذلك ممَّا في أوَّله الهمزة والنّون والتَّاء والياء؟

(1) شرح قطر النَّدى وبلّ الصَّدى ص 37.

(2)

الأفكل، على أفعل: الرعدة: ولا يبنى منه فعل. والأيدع: صبغ أحمر، وقيل: هو خشب البقم، وقيل غير ذلك. والتنضب: شجر ينبت بالحجاز، واحدته تنضبة. والتتفل: الثعلب، ونبات أخضر، وقيل شجر. انظر ذلك في اللسان (فكل، يدع، نضب، تفل) . .

ص: 379

قيل: إنَّما زيدتْ هذه الحروف التي بابها الأفعال في أوائل الأسماء، لقوَّة الأسماء وتمكّنها، وغلبتها للأفعال فشاركت الأسماءُ في هذا الموضع الأفعالَ، لقوّتها

ويدلّك على أنَّ أصل هذه الزِّيادات ـ أعني: الحروف المضارعة ـ أن تكون في أوَّل الأفعال أنَّ الأسماء التي جاءت على أفعل أكثرها صفات نحو: أحمر، وأصفر، وأخضر، وأسود، وأبيض، والأسماء التي في أوَّلها الهمزة على هذا البناء من غير الصِّفات قليلة. ألا ترى أنَّ باب: أحمر، وأصفر، وأسود، وأبيض أكثر من باب أَيْدَعٍ، وَأَزْمَلٍ، وَأَفْكَلٍ، فلمَّا أرادوا أن يكثر هذا المثال الذي في أوّله الهمز جعلوه صفات؛ لقرب مابين الصّفة والفعل. ألا ترى أنَّ كلَّ واحدٍ منهما ثانٍ للاسم، وأنَّ الصِّفة تحتاج إلى الموصوف كما أنَّ الفعل لابدَّ له من فاعلٍ " (1) .

ولذلك يقرر النحويون أنَّ علامة الفعل المضارع صحة دخول لم الجازمة على الفعل دون اختلال في التّركيب. أمَّا أحرف المضارعة فهي قابلة للدّخول على الماضي والأسماء.

الفتح والضم في أحرف المضارعة:

شغل اللغويون بالمضارع من حيث حركة حرف المضارعة. فقد اشتهر في لغة أهل الحجاز أنَّه إذا بني المضارع من ماضٍ رباعي ـ سواء أكان رباعي الأصول أم رباعيًّا بالزِّيادة ـ كانت حركة حرف المضارعة منه الضَّم. فتقول: أكرم يُكرم، قطَّع يقطِّع، دحرج يُدحرج.

(1) المنصف 1 / 272.

ص: 380

وإذا جاء ما يشعر بمخالفته ذلك فعلى اعتبار آخر، وعليه يمكن تفسير قراءة أبي رجاء العطاردي (1) {فَاتَّبِعُونِي يحَْبِبْكُمُ اللَّهُ} (2) بفتح الياء.قال الكسائي:" يقال يَحِبُّ وتَحِبُّ وأَحِبُّ

والفتح لغة تميم وأسد وقيس. وهي على لغة من قال: حَبَّ وهي لغة قد ماتت " (3) .

فنلحظ هنا أنَّ الفتح على اعتبار أنَّ الفعل ثلاثي الماضي، وليس أحبَّ الرّباعي. وهو رأي وجيه ارتضاه النَّحاس. إذ قال:"فأمَّا فتحها فمعروف يدل عليه محبوب"(4) . وهذا إشارة إلى اسم المفعول من الثّلاثي الذي يأتي على وزن مفعول؛ كما تقتضيه القواعد الصَّرفيَّة.

وإذا بني المضارع من ثلاثي أو خماسي أو سداسي كانت حركة حرف المضارعة الفتح. فإن قيل: فلم فتحوا حرف المضارعة في الثّلاثي، وضمُّوه من الرُّباعي؟ قيل: لأنَّ الثَّلاثي أكثر من الرُّباعي، والفتحة أخفُّ من الضَّمة، فأعطوا الأكثر الأخف، والأثقل الأقل ليعادلوا بينهما.

فإن قيل: فالخماسي والسُّداسي أقلُّ من الرُّباعي فهلا وجب ضَمُّهُ؟ قيل: إنَّما وجب فتحه لوجهين:

الأوَّل: أنَّ النَّقل من الثّلاثي أكثر من الرّباعي، فلمَّا وجب الحمل على أحدهما كان الحمل على الأكثر أولى من الحمل على الأقلّ.

والآخر: أنَّ الخماسي والسُّداسي ثقيلان لكثرة حروفهما، فلو بنوهما على الضَّمِّ لأدَّى ذلك إلى أن يجمعوا بين كثرة الحروف، وثقل الضَّم، وذلك لايجوز فأعطوها أخفّ الحركات وهو الفتح (5) .

(1) عمران بن تيم البصري أخذ القراءة عرضًا على ابن عبَّاس رضي الله عنهما وتَلَقَّنَ القرآن على أبي موسى، ولقي أبا بكر رضي الله عنهما. قال ابن معين:" مات سنة خمس ومائة وله مائة وسبع وعشرون سنة ". معرفة القراء الكبار 58 - 59.

(2)

آل عمران: 31.

(3)

إعراب القرآن للنَّحاس 1 / 367.

(4)

إعراب القرآن للنَّحاس 1 / 367.

(5)

أسرار العربية للأنباري ص 404 - 405.

ص: 381

وهذا ما اشتهر في المسألة، وعليه الاعتماد في التعليم والتقعيد. غير أنَّه قد جاءت لغات تخالف هذا المشهور، من ذلك كسر حروف المضارعة.

وهذه المسألة ـ أعني: كسر حروف المضارعة ـ هي التي شغلت اللغويين؛ لأنَّ العرب تباينت في النّطق بها، وإليك تفصيل ذلك:

ما يكسر من حروف المضارعة وما يمتنع كسره:

سبق أن بيَّنَّا أن حروف المضارعة أربعة: الهمزة، والنّون، والتَّاء، والياء، فهل يصح لنا أن نكسر شيئًا منها؟

يقول سيبويه:" هذا باب ما تكسر فيه أوائل الأفعال المضارعة للأسماء كما كسرت ثاني الحرف حين قلت: فَعِل، وذلك في لغة جميع العرب إلا أهل الحجاز، وذلك قولهم: أنت تِعْلم ذاك، وأنا إعلم، وهي تِعْلم، ونحن نعلم ذلك، وكذلك كل شيء فيه فَعِل من بنات الياء والواو التي الياء والواو فيهن لام أو عين، والمضاعف، وذلك قولهم: شقيت فأنت تِشْقَى، وخشيتُ فأنا إخشى، وخلنا فنحن نِخال، وعَضضْتُنَّ فأنتنَّ تِعْضَضْنَ وأنت تِعَضِّين "(1) .

وبتأمّل هذا النَّصِّ نلحظ أنَّ الحروف التي تكسر من حروف المضارعة ثلاثة: الهمزة، والتَّاء، والنّون، وكسر هذه الحروف لايكون في صيغ الأفعال كلّها، وإنَّما يكون في مضارع فَعِل مكسور العين. وهذا معنى قوله:"كما كَسَرْتَ ثاني الحرف حين قلت: فَعِل ".

والمراد بذلك ما جاء على فَعِل يفعَل بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع.

و"ما ورد من فَعِل يفْعِل بكسر العين في الماضي والمضارع لا يكسر منه حرف المضارعة عند أحد من العرب. وأمَّا ما سمع بالوجهين فيكسر فيه حرف المضارعة على لغة الفتح لا على لغة الكسر "(2) .

(1) الكتاب 4 / 110.

(2)

المغني في تصريف الأفعال ص 145.

ص: 382

وبهذا يتبين أنَّ ما كان على فعِل يفعِل لا يكسر منه حرف المضارعة. وعلة ذلك ثقل الكسر بعد الكسر؛ ولأنَّ العلَّة في كسر حرف المضارعة فيما كان ماضيه على فعِل التنبيه على كسر العين منه، قال سيبويه:"وإنَّما كسروا هذه الأوائل؛ لأنَّهم أرادوا أن تكون أوائلها كثواني فَعِل كما ألزموا الفتح ما كان ثانيه مفتوحًا في فَعَل وكان البناء عندهم على هذا أن يجروا أوائلها على ثواني فعِل منها "(1) .

ولما كانت العلّة هذه لم يُكْسَرْ في الباب شيء كان ثانيه مفتوحًا نحو ضرب وذهب وأشباههما (2) .

أمَّا الياء الدَّالة على الغائب من حروف المضارعة فإنَّا نجدها تخرج من هذا، وتسلم من الكسر. يقول الرّضي:"وتركوا الكسر؛ لأنَّ الياء من حروف المضارعة يُستثقل عليها، وكسر حروف المضارعة ـ إلَاّ الياء ـ لغة غير الحجازيين إذا كان الماضي مكسور العين "(3) . وقال أيضًا: "واعلم أنَّ جميع العرب ـ إلَاّ أهل الحجاز ـ يجوزون كسر حروف المضارعة سوى الياء في الثلاثي المبني للفاعل، إذا كان الماضي على فعِل بكسر العين فيقولون: أنا إعلم، ونحن نِعلم وأنت تِعلم

" (4) .

وبهذا يتبيّن أنَّ الياء ليست ممَّا يكسر من حروف المضارعة إلَاّ في حالات نادرة، كأن تكون بعدها ياء أخرى. قال الرَّضي:"ويكسرون الياء أيضًا إذا كانت بعدها ياءٌ أخرى"(5) .

(1) الكتاب 4 / 110.

(2)

المصدر السَّابق.

(3)

شرح الكافية: 2 / 228.

(4)

المصدر السابق: 1 / 141.

(5)

المصدر السابق: 2 / 228.

ص: 383

أمَّا تعليل إخراجها من دائرة الكسر عن مثيلاتها فهو الثّقل النَّاشئ عن ذلك؛ لأنَّ الياء ثقيلة والكسرة ثقيلة، ولذلك لم ترد مكسورة في أوَّل الأسماء إلَاّ في كلمات معدودة، ذكرها ابن جنِّي في منصفه وعلَّل ذلك بالثّقل إذ قال:"وليس في كلام العرب اسم في أوَّله ياء مكسورة إلَاّ قولهم في اليد اليسرى: يِسار بكسر الياء والأفصح يَسار بفتحها. وقالوا أيضًا في جمع يقظان: يِقاظ وفي جمع يَعْرٍ وهو الجدي يِعَرَة وفي جمع يابس: يِباس. وإنَّما تنكَّبوا ذلكَ عنديَ استثقالاً للكسرة في الياء، وليست كالواو التي إذا انضمَّت هُمِزَتْ هربًا من الضَّمَّة فيها. فلمَّا لم يكن فيها القلب لم يستجيزوا كسرها أولاً "(1) .

ولأجل هذه العلَّة تركت بعض القبائل التي تكسر حروف المضارعة الكسر في الياء. قال سيبويه: "وجميع هذا إذا قلت فيه يفعل فأدخلت الياء فتحت؛ وذلك أنَّهم كرهوا الكسرة في الياء حيث لم يخافوا انتقاض معنًى فيحتمل ذلك

" (2) .

وقال ابن جنِّي: "وتَقِلُّ الكسرة في الياء نحو يِعلم، ويِركب استثقالاً للكسرة في الياء

" (3) .

وتعبير ابن جنِّي بالقلَّة احتراز ممَّا وقع في لغة بعض القبائل من الكسر حتَّى في الياء، كبعض كلب إذ تكسر فيها وفي غيرها.ذكر ذلك أبوحيَّان فقال:" وغيرهم من العرب [أي: الحجازيين] قيس وتميم وربيعة ومن جاورهم تكسر إلَاّ في الياء فتفتح، إلَاّ بعض كلب فتكسر فيها وفي غيرها من الثَّلاثة"(4) . على أنَّه وجد غير كلب يكسر في الجميع في بعض الأفعال خاصَّة، كما تفعل تميم في مثل وجل إذ تكسر مطلقًا. وسيأتي بيان ذلك ـ إن شاء الله.

(1) المنصف: 1 / 117.

(2)

الكتاب 4 / 110.

(3)

المحتسب 1 / 330.

(4)

ارتشاف الضرب 1 / 88.

ص: 384

ويرى بعض الباحثين المعاصرين أنَّه " لا يستبعد أن تلحق الكسرة الياء كما لحقت غيرها من حروف المضارعة؛ لأنَّ الكسرة أنسب للياء من الفتحة أو الضَّمَّة فهما من مخرج واحد"(1) . وهذا ناتج عن تعليل سبب الكسر بأنَّه من قبيل ميل القبائل البدويَّة إلى الكسر، بسبب طبيعة التعجل عندهم (2) .

الأفعال التي تكسر فيها حروف المضارعة:

حدد علماء العربية القدماء نوع الأفعال التي تكسر فيها حروف المضارعة فجعلوه من الثلاثي ما جاء على فِعل يفعَل ومن غيره ما كان مبدوءاً بهمزة وصل أو تاء زائدة. وجعلوا علة ذلك الإشارة إلى كسر العين في فَعِل (3) ثم شبهوا ما كان في ماضيه ألف وصل بما كان الماضي منه على فَعِل لاجتماعهما في كسرة ألف الوصل أولاً، وكسرة عين فِعل ثانياً، وكرهواً كسر الحرف الثاني من مستقبل فعِل لأن صفته السكون، وكرهوا كسر الثالث لئلا يلتبس يفعَل بـ يفعِل فوجب كسر الأول. ثم شبهوا مستقبل ما ماضيه ألف الوصل بمستقبل فعِل فكسروا أوله (4) ثم حملوا عليه ما بدئ بتاءٍ زائدة لأنه كان في الأصل مما ينبغي أن يكون أوله ألف موصولة، لأن معناه معنى الانفعال، وهو بمنزلة انفتح وانطلق، ولكنهم لم يستعملوه استخفافاً (5) هذه تعليلات القدماء، وهي تعليلات مقبولة، استنتجوها من طبيعة اللغة والنظر في قوانينها وإن لم تقصدها العرب حين تكلمت بهذه الأفعال.

وحين تحدث علماء العربية المحدثون عن هذه القضية جعلها بعضهم من قبيل ميل القبائل البدوية إلى الكسر بسبب طبيعة التعجل عندهم (6) .

(1) اللهجات في الكتاب لسيبويه 161.

(2)

انظر المرجع السَّابق.

(3)

شرح الشافية 1/141.

(4)

المخصص 14/218.

(5)

المصدر السابق.

(6)

اللهجات في الكتاب 163.

ص: 385

وذهب الدكتور غالب المطلبي إلى أن تعليل القدماء ليس صحيحاً بسبب وجود أمثلة من غير باب فعِل يفعَل من نحو أبي، وركن، وخال (1) وصنع. ومال إلى أن كسر حروف المضارعة في الأصل متعلق بصيغة يفعَل المفتوحة العين بغض النظر عن حركة العين في الماضي، وجعل ذلك ظاهرة لغوية سامية قديمة، إذ إنه اطرد في لغتين ساميتين غربيتين هما العبرية والسريانية (2) .

ونلحظ هنا أن تعليل المحدثين أغفل المبدوء بهمزة الوصل والتاء الزائدة، مما يجعل الأمر يحتاج إلى نظر، على أن كل ما ذكروه لا يمكن الجزم به لافتقاره إلى الأدلة القاطعة التي تبرهن على صحته، وفساد ما ذهب إليه القدماء ـ في نظرهم ـ ومن ثم أرى تعليل القدماء يبقى الأصل، ولا يقبل الحكم بعدم صحته إلا إذا توصل الباحثون إلى تعليل تعضده الأدلة، وتُعَيِّنُ القول به البراهينُ، وقد أشار الدكتور المطلبي إلى عدم توافر هذا فقال:"ولكننا لا نستطيع أن نذهب مذهباً يُطمأنُ إليه لاندثار هذه اللغات، وعدم وجود أدلة جازمة فيه "(3) .

أما الأفعال التي تجري فيها هذه الظاهر فيمكن تناولها على النحو التالي:

1-

ما كان الكسر فيه تنبيهًا على كسر عين الفعل الماضي منه، وذلك في كل فعل ماضيه على فَعِل سالمًا كان، أو مضاعفًا، أو أجوف أو ناقصًا (4) ، أو مهموزًا، أو مثالاً أو لفيفًا، وكان مبنيًّا للفاعل.

2-

ما كان مبدوءًا بهمزة وصل مكسورة.

3-

ما كان مبدوءًا بتاءٍ معتادة ممَّا يكون على وزن تفعّل أو تفاعل أو تفعلل وإليك بيان هذه الأحكام بالتَّفصيل:

ما كان الكسر فيه تنبيهًا على كسر عين الفعل الماضي منه، ويكون ذلك في الفعل الصَّحيح والمعتلّ على السَّواء وفق التَّفصيل التَّالي:

أالصَّحيح السَّالم:

(1) سيأتي الحديث عن هذه الأفعال وما رآه القدماء بشأنها.

(2)

في الأصوات اللغوية دراسة في أصوات المد العربية 190.

(3)

المرجع السابق.

(4)

اللهجات في الكتاب ص 156.

ص: 386

من المعلوم أنَّ الصَّحيح هو ما خلت حروفه الأصول من أحرف العلَّة الألف والياء والواو. والسَّالم ما سلم من الهمز والتَّضعيف، وهذا النَّوع من الأفعال ممَّا يكسر فيه حرف المضارعة إذا كان ماضيه على فَعِل ومضارعه على يفعَل.

وقد مرَّ بنا آنفًا تمثيل سيبويه بالفعل عَلِم الذي توافرت فيه شروط كسر حرف المضارعة منه. وجاء عند ابن جنِّي قوله: "هذه لغة تميم أن تكسر أوَّل مضارع ما ثاني ماضيه مكسور نحو: علمت تِعْلم، وأنا إعلم، وهي تِعْلم ونحن نِرْكَب "(1) .

وقد وردت شواهد في القراءات الشَّاذَّة والشّعر والنَّثر على هذا. منها: ما نقله أبو حيَّان أنَّ أبا عمرو قرأ: {وَلا تِِرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} (2) بكسر التَّاء على لغة تميم (3) . والفعل ركن يأتي على فعِل وفَعَل فيقال: رَكِن إلى الشَّيء ورَكَن يَرْكَنُ ويَرْكُنُ (4) . فكسر التَّاء هنا على أنَّه من رَكِنَ يَرْكَنُ.

ومثل ذلك عهد إذ ورد في ذلك كسر حرف المضارعة في قراءة يحيى بن وثاب (5) في قوله تعالى: {أَلَمْ إِعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ

} (6) .

قال الزَّمخشري: "وقرئ إعهد بكسر الهمزة، وباب فَعِل كلّه يجوز في حروف مضارعته الكسر إلَاّ في الياء، وأعهد بكسر الهاء.."(7) .

(1) المحتسب 1 / 330.

(2)

هود: 113.

(3)

البحر المحيط 5 / 269.

(4)

لسان العرب (ركن) .

(5)

يحيى بن وثَّاب الأسدي الكوفي القارئ العابد، تابعيّ ثقة مقرئ الكوفة. توفي سنة ثلاث ومائة. معرفة القراء الكبار 1 / 64، 65.

(6)

يس: 6.

(7)

الكشَّاف 3 / 327.

ص: 387

ومن ذلك في النَّثر ماذكره أبو حاتم السّجستاني من أنَّه سمع حترش بن ثمال ـ وهو عربي فصيح ـ يقول في خطبته: "الحمد لله إحمده وإستعينه وإتوكل عليه" فيكسر الألفات كلّها (1) . وكذلك ما ذكره ابن خالويه من قولهم: "ربِّ اغفر وارحم، واعف عمَّا تِعلم إنَّك أنت الأعزُّ الأكرم"(2) ، فاتَّضح ممَّا سبق أنَّ كسر حرف المضارعة من الصَّحيح السَّالم وارد في لهجات العرب إذا كان الماضي على فعِل بكسر العين.

ومثلها قراءة من قرأ {تِعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا إِعْلَمُ مَا فِي نَفْسِك} (3) بكسر حرفي المضارعة (4) و {تِقْرَبَا} بكسر التَّاء أيضًا (5) ؛ لأنَّه من قَرِبْتُ أقْرَبُ.

ب المضاعف [مضاعف الثلاثي] :

المضاعف يقصد به ما كانت عينه ولامه من جنس، مثل شدَّ ومدَّ؛ إذ أصلهما شَدَد ومَدَدَ، جرى فيهما وفي أمثالهما إدغام لكون الحرفين من مخرج واحد بلا فصل بينهما.

وهذا النَّوع من الأفعال هو ما عناه سيبويه في الكتاب بقوله: "وعَضِضْتُن فأنتن تِعْضضن وأنت تِعَضِّين "(6) .

(1) انظر اللهجات العربية في التراث 1 / 389.

(2)

ليس في كلام العرب ص 102 - 103 وبغية الآمال ص152.

(3)

المائدة: 114.

(4)

نسبها ابن خالويه في المختصر ص 42 إلى الأعمش.

(5)

من قول الله تعالى: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} . سورة البقرة: 35. وقراءة الكسر لابن وثاب. انظر مختصر ابن خالويه ص 12، وإعراب القراءات الشَّواذ 1 /149.

(6)

الكتاب 4 / 110.

ص: 388

فالفعل عَضَّ من باب فَعِل يَفْعَل تقول: قد عَضِضْتُه أَعَضُّهُ. جرى فيه كسر حرف المضارعة، ومن ذلك قراءة يحيى (1) والأعمش (2) وطلحة (3) بخلاف. ورواه إسحاق الأزرق (4) عن حمزة (5) :{فَتِمَسَّكُمُ النَّارُ} (6) . وذلك من قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتِمَسَّكُمُ النَّارُ} (7) .

والفعل مَسَّ على فَعِل ومضارعه على يفعل. تقول: مَسِسْتُه بالكسر أَمَسُّه مَسًّا ومَسِيسًا: لَمَسْتُه، هذه اللّغة الفصيحة. ومَسَسْتُه بالفتح أمُسُّه بالضَّم لغة (8) . فكسر حرف المضارعة في القراءة المذكورة على اللغة الفصيحة، وبهذا يتّفق مع داعي الكسر المذكور في كلام أهل اللّغة.

ومثلها قراءةَ {تمِسَّنَا النَّارُ} (9) بكسر التَّاء (10) .

(1) ابن وثاب وتقدمت ترجمته.

(2)

الأعمش سليمان بن مهران أبومحمّدالكوفي، مولى بني أسد ت 148هـ. انظر معرفة القراء الكبار للذّهبي 1/96.

(3)

طلحة بن مصرف أبو محمّد الهمذاني الكوفي، تابعيّ كبير، له اختيار في القراءة ينسب إليه، توفي سنة 112هـ، انظر سير أعلام النّبلاء 5 / 191 - 193.

(4)

ابن يوسف الواسطي، كان فيمن أخذوا القراءةعن حمزة. توفي 195هـ. انظرطبقات القراءلابن الجزري1/158.

(5)

ابن حبيب الزّيات، أحد القرّاء السّبعة توفّي 156هـ. انظر معرفة القراء الكبار 1/ 118.

(6)

المحتسب 1 / 330.

(7)

هود: 113.

(8)

اللسان (مسس) .

(9)

سورة البقرة: 80.

(10)

إعراب القراءات الشَّواذ 1 / 181.

ص: 389

ضَلَّ اللغة الفصيحة في هذا الفعل فَعَل يفعِل وعلى هذا ليس جاريًا على قاعدة كسر حرف المضارعة، وفي قول الله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي

} (1) قُرئ: {إضَلُّ} بكسر الهمزة وفتح الضَّاد (2)، وهذا على أنَّ الفعل من قولهم: ضَلِلت أَضَلُّ وذلك على لغة أهل الحجاز (3) .

ومثل ذلك ما جاء في اللِّسان: " وكان ينشد [أي: ابن دريد] هذا البيت:

كان لنا وهو فُلُوٌّ نِربَبُه

كَسَرَ حرف المضارعة ليعلم أنّ ثاني الفعل الماضي مكسور (4) .

وذكر الجندي أنه قرئ {وَنِقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ} . بكسر النون (5) ولم يعزه إلى مصدر معين، ولم أقف عليه فيما رجعت إليه من مصادر، فإن صح ما ذكر فذلك غير ممتنع ـ لغةً ـ ويدخل في باب المضاعف.

جـ الصَّحيح المهموز:

أَمِنَ فعل صحيح مهموز، ورد كسر حرف المضارعة منه في قراءة ابن وثاب (6) وأبي رزين (7) في قول الله تعالى:{مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا} (8) إذ قرآ "مالك لاتيمنا" بكسر التَّاء مع الإدغام. وفي مصحف ابن مسعود: {تِيمنه. وكذلك في مصحف أبيّ بن كعب: {تِئمنه} (9) .

(1) سبأ: 50.

(2)

نسب ابن خالويه هذه القراءة لعبد الرّحمن المقرئ، وكذا أبوحيَّان في البحر.انظر مختصر ابن خالويه 123، والبحر المحيط 7 / 292. وذكرها الزّمخشري في الكشَّاف 3 / 295 بدون نسبة.

(3)

انظر اللّسان (ضلل) .

(4)

اللِّسان: ربب.

(5)

اللهجات العربية في التراث: 1/393. والآية من سورة الحج (5) .

(6)

تقدّمت ترجمته.

(7)

مسعود بن مالك، ويقال ابن عبد الله أبوزيد الكوفي، لم يحفظ ابن الجزري سنة وفاته. غاية النّهاية في طبقات القرّاء لابن الجزري 2 / 296.

(8)

سورة يوسف: 11.

(9)

اللهجات العربية في التراث 1 / 389.

ص: 390

ألم أَلِمَ يأْلَمُ على فَعِل يفعَل. ولذا جاء كسر حرف المضارعة فيه في قراءة يحيى بن وثاب: {فإنَّهم ييلمون كما تيلمون} وذلك من قول الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ

} (1) بكسر حرفي المضارعة الياء والتَّاء.

وقد استوقفت هذه القراءة ابن جنِّي من حيث إنَّ أحد الحرفين الياء. يقول ابن جنِّي في هذه القراءة: "العرف في نحو هذا أن من قال: أنت تِئمن وتِئلف وإيلف، فكسر حرف المضارعة في نحو هذا إذا صار إلى الياء فتحها ألبتة، فقال: يألف، ولايقول: هو ييلف، استثقالاً للكسرة في الياء "(2) . أمَّا كسر التَّاء فهو جارٍ على نظائره، وذكر النَّحاس أنَّها قراءة عبد الرَّحمن الأعرج، وقال:"ولايجوز عند البصريين في تألمون كسر التاء لثقل الكسر فيها "(3) . ومراده أنَّ الثقل نشأ من تتابع الكسرة والياء، لا أن الكسرة مستثقلة على التاء.

أذن الفعل أذن صحيح مهموز وهو من باب فعِل يفعَل وقد ورد كسر حرف المضارعة منه في قراءةٍ شاذَّة في قول الله تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} (4) إذ قرئت إيذن بكسر الهمزة وياءٍ بعدها ووجهه أنَّه كسر حرف المضارعة فصارت الألف ياءً (5) .

ومن ذلك ماجاء في قول منصور بن مرثد (6) الأسدي:

قلتُ لبوابٍ لديه دارُها

تِئذن فإني حَمْؤُها وجارُها

(1) النِّساء: 104. وقرأ ذلك بالكسر ابن وثاب وابن المعتمر. انظر المحتسب 1 / 198، وشرح التسهيل 3 / 448، والبحر 3 / 343.

(2)

المحتسب 1 / 198.

(3)

إعراب القرن 1 / 486.

(4)

الأعراف: 123.

(5)

إعراب القراءات الشواذ 1 / 554.

(6)

إصلاح المنطق ص 340، والمغني ص 298.

ص: 391

بكسر التَاء. وإن كان جُعِل كسر حرف المضارعة هنا بسبب حذف لام الأمر، إذ الأصل: لتئذن، إلَاّ أنِّي أرى أنَّه من باب كسر حرف المضارعة لأنَّ الفعل أذِن يأذن على فعِل يفعَل فقد توافرت فيه شرائط كسر حرف المضارعة. وممَّا يقوّي القول بأنَّه من قبيل كسر حرف المضارعة قول ابن مالك: وليس الحذف بضرورة لتمكنه من أن يقول: ايذن (1) .

كما أنَّ كون الشَّاعر من بني أسد التي تُسْلَكُ في القبائل التي تكسر حرف المضارعة يؤيد ذلك والله أعلم.

أثممن الصّحيح المهموز وهو من باب فعِل يفعَل، تقول: أَثِمَ يأثم. ومن ثم جاء كسر حرف المضارعة فيه وذلك في قول الراجز:

لو قُلتَ مافي قومها لم تِيثم

يفضلها في حسب وميسم (2)

فنجد أنَّه كسر حرف المضارعة في الفعل تأثم وأبدل الهمزة ياءً لمناسبة الكسر لها، وبهذا يتبيّن أنَّ أقسام الصَّحيح في كسر حرف المضارعة سواء إذا توافرت أسباب ذلك.

أمَّا المعتلّ فهو أقسام أربعة: مثال، وأجوف، وناقص، ولفيف. فالمثال ما اعْتَلَّتْ فاؤه، والأجوف ما اعتلت عينه، والنَّاقص ما اعتلت لامه، واللفيف ما كان فيه حرفا علة سواء كانا متتابعين أو فرق بينهما حرف صحيح.

د المثال:

الفعل وجل فعل مثال لأنَّ فاءه حرف عِلَّةٍ، وقد ورد كسر حرف المضارعة منه في كلام العرب. يقول سيبويه: "وأمَّا وجِل يوجَل ونحوه فإنَّ أهل الحجاز يقولون: يوجَل فيجرونه مُجْرَى علمت. وغيرهم من العرب سوى أهل الحجاز يقولون في تَوْجل: هي تِيجلُ، وأنا إيجل، ونحن نِيجل. وإذا قلت: يفعَل فبعض العرب يقولون يَيْجل كراهية الواو مع الياء، شبهوا ذلك بأيام ونحوها.

(1) انظر شرح الكافية الشَّافية 3 / 1570، والمغنى 298.

(2)

الكتاب 2/345، والخصائص 2/370 بدون نسبة، ونسبه ابن يعيش إلى أبي الأسود الحماني، انظر شرح المفصل 3/61، ونسبه البغدادي إلى حكيم بن مُعَيَّة انظر الخزانة 2/311.

ص: 392

وقال بعضهم: ياجَل، فأبدلوا مكانها ألفًا كراهية الواو مع الياء كما يبدلونها من الهمزة السَّاكنة.

وقال بعضهم: يِيجل، كأنَّه لمَّا كره الياء مع الواو كسر الياء ليقلب الواو ياءً؛ لأنَّه قد علم أنَّ الواو السَّاكنة إذا كانت قبلها كسرة صارت ياءً، ولم تكن عنده الواو التي تقلب مع الياء حيث كانت الياء التي قبلها متحرّكة، فأرادوا أن يقلبوها إلى هذا الحد، وكره أن يقلبها على ذلك الوجه الآخر " (1) .

فتجد أنَّ سيبويه نصَّ على أنَّ من العرب من يكسر حروف المضارعة الثَّلاثة ـ الهمزة والتاء والنون ـ أمَّا مع الياء فورد عن بعضهم، ولكنَّه التمس له تعليلاً غير ماكان لغيرها.

وصرَّح الأخفش بأنَّ كسر الياء في باب وجل لأنَّ الواو قد تحوَّلت إلى الياء مع التاء والنُّون والألف، فلو فتحوها استنكروا الواو، ولو فتحوا الياء لجاءت الواو، فكسروا الياء فقالوا: يِيجل ليكون الذي بعدها ياء، وكانت الياء أخفَّ مع الياء من الواو مع الياء؛ لأنَّه يُفَرُّ إلى الياء من الواو، ولا يُفرُّ إلى الواو من الياء (2) .

وكسر حروف المضارعة الثَّلاثة في وجل جعله ابن مالك مطلقًا إذ قال: "

ويكسره غير الحجازيين مالم يكن ياءً إن كسر ثاني الماضي أو زيد أوله ياء معتادة أو همزة وصل؛ ويكسرونه مطلقًا في مضارع أبى ووجل ونحوه " (3) .

وقال أبوحيان: "فإن كان مثل وجل مما هو مكسور العين وفاؤه واو فمضارعه على يَفعَلُ بفتحِ العين، وهي لغةُ قريشٍ وكنانة. فأهل الكسر مختلفون، فمنهم من يكسر مطلقًا، وهي لغة تميم، فتنقلب تلك الواو ياءً، ومنهم من يكسر إلَاّ في الياء فيفتح وهي لغة بني عامر

" (4) .

وبهذا يتضح لنا حكم كسر حروف المضارعة في الفعل المثال.

هـ الأجوف:

جاء في قول عمر بن أبي ربيعة (5) :

(1) الكتاب 4 / 111 - 112.

(2)

معاني القرآن 2 / 412.

(3)

التسهيل 197.

(4)

ارتشاف الضرب 1/ 88، 89.

(5)

ديوان الحماسة: 2 / 429، وشرحها للمرزوقي 4 / 1845.

ص: 393

مالقلبي كأنَّه ليس مني

وعظامي إخال فيهن فترا

كَسَرَ حرفَ المضارعة من إخال وهو فعل أجوف.

ومثله قول العباس بن مرداس السّلمي:

قد كان قومك يحسبونك سَيِّدًا

وإخال أنَّك سيد معيون (1)

وكذلك قول بعض بني جَرْم من طيِّئ:

إخالك مُوعِدي ببني حُفيفٍ

وهالةَ إنَّني أنهاك هالا (2)

وإخال جاء فيها كسر الهمزة كما روي هنا، وجاء فيها الفتح. قال ابن منظور:"وفي الحديث ماإخالك سرقت، أي: ما أظنّك. وتقول في مستقبله: إخال، بكسر الألف وهو الأفصح، وبنو أسد يقولون: أخال بالفتح وهو القياس، والكسر أكثر استعمالاً"(3) . ويقول المرزوقيُّ: "ويقال: خِلت أخالُ. وإخالُ طائيَّةٌ، فكثر استعمالها في ألسنة غيرها، حتى صار أخال كالمرفوض"(4) .

وبهذا يتبيَّن أنَّ همزة إخال تكسرها جَرْم [بطن من طيِّئ] ونسب التبريزيُّ الكسر إلى طيئ (5)، ونسبه المرزوقيُّ إلى هذيل إذ قال:"وإخال كسر الهمز منه لغة هذيل، ثمَّ فشت في غيرها"(6) .

أما الفتح في هذا الفعل فنسب إلى بني أسد، نسبه إليهم ابنُ منظور والفيوميُّ وخالدُ الأزهريُّ، وذكر أنَّه مَحْكِيُّ عن أسدٍ خاصَّةً، وكذا البغدادي (7) ولغة أسدٍ هي القياس. وبهذا تكون بنو أسد قد خالفت المشهور عنها في هذا الفعل خاصَّة دون غيره، وهذا مراد ابن هشام بالعكس في قوله:"وكسر همزة إخال فصيح استعمالاً شاذُّ قياسًا، وفتحُها لغةُ أسدٍ وهو بالعكس"(8) أي بعكس ما اشتهر عنها في كسر حروف المضارعة من غير هذا الفعل.

(1) أمالي ابن الشّجري 1 / 111، والمقتضب 1 / 102، وليس في كلام العرب (115) .

(2)

ديوان الحماسة 1 / 141، والرواية بفتح الهمزة، وجعلها المرزوقي في الشرح بالكسر.

(3)

اللسان (خيل) .

(4)

شرح الحماسة 1 / 248.

(5)

شرح الحماسة 1 / 242.

(6)

شرح الحماسة 4 / 1845.

(7)

اللسان والمصباح المنير (خيل) وشرح التَّصريح على التَّوضيح 1/258. والخزانة 4/11.

(8)

شرح قصيدة (بانت سعاد) ص 170.

ص: 394

وقد شكَّ الدُّكتور أحمد الجندي في هذا، ولم يرتض الفتحَ من بني أسد في إخال لأنَّ بني أسد من القبائل التي اشتهر عنها كسر حروف المضارعة، ونسب إلى ابن فارس خلطًا في هذه المسألة إذ ذكر أنَّه نسب إلى أسد فتح النُّون من {نَسْتَعِينُ} وفي موضع آخر نسب إليهم الكسر في مثل تعلمون (1) ومن ثمَّ رجَّح أن أسد مصحفة من الأزد. وتابعته في ذلك صالحة آل غنيم (2) .

وعند تأمّل ما نقله الدُّكتور الجندي يتَّضح أنَّ ابن فارس لم يخلط، ولم يخلط غيره من الرُّواة، وإنَّما نقل عن الفرَّاء أنَّ النون من {نستعين} مفتوحة في لغة قريشٍ، وأسدٌ وغيرهم يقولونها بكسر النُّون. فجعل الجندي أسدًا معطوفة على قريش والحق غير ذلك. وبهذا يعلم أنَّ بني أسد خالفت المشهور عنها في هذا الفعل خاصَّة ففتحت، والتَّصحيف الذي ذكره الدّكتور الجندي مستبعد؛ لأنَّ الرّواة قالوا بنو أسد ثمّ إنَّ الأزد لغاتهم مختلفة باختلاف قبائلهم، إذ بعضها لايحتج بلغاتهم كالغساسنة وأزد شنوءة.

والنَّاقص:

قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وطلحة بن مصرف: {فكيف إيسى على قومٍ كافرين} (3) . وهذه لغة تميم يقولون: أنا إضرب (4) .

وإيسى من أسيت عليه أسًى. حزنت، وأسِيَ على مصيبته بالكسر يأسَى أسًى مقصورٌ: إذا حزن (5) فكسر حرف المضارعة منه جارٍ على مايجري في غيره مما هو على فعِل يفعَل. ومثل ذلك قراءة الأعمش: {ولاتعِثوا} من قول الله تعالى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (6) . إذ قرأ بكسر التاء، قال العكبري:"ويقرأ كذلك إلَاّ أنَّه بكسر التاء، وهي لغة كنانة يكسرون حرف المضارعة"(7) ، والفعل عثى من باب فَعِل يفعَل كـ رضي يرضى. وذلك جاء موافقًا للقاعدة.

ز اللفيف:

(1) اللهجات العربية في التراث 1 / 391، 392.

(2)

اللهجات في الكتاب 159.

(3)

الأعراف 971.

(4)

إعراب القرآن 2 / 139.

(5)

اللسان (أسا) .

(6)

سورة البقرة: 60.

(7)

إعراب القراءات الشواذ 1 / 165.

ص: 395

يطلق الصرفيون هذا المصطلح على الفعل الذي يكون من أصوله حرفا علة، فإن فرق بينهما حرف صحيح سمي مفروقًا، وإن كانا عين الفعل ولامه سمي مقرونًا. والفعل وني من هذا النّوع وهو من باب فعِل وفعَل. قال ابن القطَّاع:" ووَنِي ونًى ووناءً ووُنِيّاً وونَى وَنْيًا: فتر وضعف "(1) وفي قول الله تعالى: {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} (2) قرأ يحيى بن وثاب: {تِنيا} بكسر التاء (3) .

وبهذا يتبين مايتعلق بالفعل الثلاثي من أحكام من حيث كسر حرف المضارعة منه.

2 المبدوء بهمزة وصل:

ذكرت سابقًا أن من جملة مايكسر حرف المضارعة منه ماكان مبدوءًا بهمزة وصل، وهذا مأخوذ من نص سيبويه؛ إذ قال في كتابه:"واعلم أنَّ كلَّ شيءٍ كانت ألفه موصولة ممَّا جاوز ثلاثة أحرف في فَعَل فإنَّك تكسر أوائل الأفعال المضارعة للأسماء، وذلك لأنَّهم أرادوا أن يكسروا أوائلها كما كسروا أوائل فعَل فلما أرادوا الأفعال المضارعة على هذا المعنى كسروا أوائلها كأنَّهم شبهوا هذا بذلك، وإنَّما منعهم أن يكسروا الثواني في باب فعل أنَّها لم تكن تحرك، فوضعوا ذلك في الأوائل، ولم يكونوا ليكسروا الثالث فيلتبس يفعِل بيفعَل، وذلك قولك: استعفر فأنت تِستغفر، واحرنجم فأنت تِحرنجم، واغدودن فأنت تِغدودِن، واقعنسس فأنا إقعنسس "(4) .

وقال ابن جنِّي ـ بعد ذكر كسر ما ثاني الماضي منه مكسور ـ:"وكذلك ما في أول ماضيه همزة وصل مكسورة، نحو: تِنْطَلِق، ويوم تِسْوَدُّ وجوهٌ وتِبْيَضُّ وجوهٌ

" (5) . وحكى الكسائي: أنت تستطيع (6) .

وقد وردت نصوص على هذا منها:

(1) الأفعال 3 / 334.

(2)

طه: 42.

(3)

انظر مختصر ابن خالويه 90 والبحر المحيط 6 / 245.

(4)

الكتاب 4 / 112.

(5)

المحتسب 1 / 330.

(6)

إعراب القرآن للنحاس 2 / 474.

ص: 396

- قراءة يحيى بن وثاب وأبي رزين في قول الله تعالى: {يوم تِبْيَضُّ وجوهُُ وتِسْوَدُّ وجوهُُ} (1) إذ قرآ بكسر التاء فيهما (2) .

- قراءة ابن وثاب أيضًا {اِضْطَرُّهُ} بكسر حرف المضارعة سواء كانت همزة أو نونًا، وذلك من قول الله تعالى: {قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ

} (3) .

إذ ذكرت المصادر أنَّها قرئت بكسر حرف المضارعة (4) .

- قال الفارسي (5) : "فأما ما حكي من قولهم: ماإسطيع عليه، بكسر الألف، وأن المعنى: لاأستطيعه، فإنَّ همزة المضارعة إنَّما كسرت لأنَّ همزة الوصل تلحق الماضي، ومالحقته الهمزة الموصولة، أو كان في حكم ماتلحقه، فإنَّهم يكسرون أوله كما كسروا نعلم ونحوه ".

- ذكر أبوحاتم السجستاني أنَّه سمع حترش بن ثمال ـ وهو عربي فصيح ـ يقول في خطبته: "الحمد لله إحمده وإستعينه وإتوكل عليه" فيكسر الألفات كلّها (6) .

وعلى هذا قراءة من قرأ: {وإيَّاك نستعين} (7) بكسر النّون.

يقول الرضي: "وكسروا أيضًا غير الياء من حروف المضارعة فيما أوله همزة وصل مكسورة نحو: أنت تِحرَنْجِم، تنبيهًا على كون الماضي مكسور الأول، وهو همزة "(8) .

وبهذا يتضح أنَّ من جملة الأفعال التي يكسر فيها حرف المضارعة ماكان مبدوءًا بهمزة وصل مما جاوز ثلاثة أحرف كما في النّصوص المتقدّمة، تنبيهًا بذلك على كسرة همزة الوصل في الماضي.

3 المبدوء بتاءٍ زائدة معتادة:

يقصد بالتاء المعتادة الاحتراز من التاء المزيدة في أول الماضي شذوذًا ـ كتَرْمَسَ الشيء من رمسه بمعنى ستره.

(1) آل عمران: 106.

(2)

تفسير القرطبي 4 / 167، والبحر المحيط 3 / 22، وإعراب القراءات الشواذ 1 /339.

(3)

سورة البقرة: 126.

(4)

معاني القرآن 1/ 87، وإعراب القرآن 1/260، وإعراب القراءات الشواذ 1/205.

(5)

كتاب الشعر 1 / 194.

(6)

سبق ص 16.

(7)

شرح الشافية 1 / 143.

(8)

المصدر السَّابق.

ص: 397

وهذا النَّوع من الأفعال ممَّا ورد فيه كسر المضارع. قال سيبويه ـ بعد بيان كسر حرف المضارعة فيما أوله همزة وصل: "وكذلك كل شيء من تفعّلت أو تفاعلت أو تَفَعْلَلْت يجري هذا المجرى، لأنَّه كان عندهم في الأصل ممَّا ينبغي أن تكون أوّلَهُ ألفٌ موصولة؛ لأنَّ معناه معنى الانفعال، وهو بمنزلة انفتح وانطلق، ولكنّهم لم يستعملوه استخفافًا في هذا القبيل

" (1) .

وقال الرَّضيُّ: "ثمَّ شبَّهوا مافي أوّله تاء زائدة من ذوات الزّوائد، نحو تَكَلَّمَ وَتَغافَلَ وتَدَحْرَجَ بباب انفعل، لكون ذي التاء مطاوعًا في الأغلب كما أنَّ انفعل كذلك، فتفعَّلَ وتَفاعَلَ وتَفَعْلَلَ مطاوع فعَّلَ وفَاعَلَ وفَعْلَلَ، فكسروا غير الياء من حروف مضارعاتها، فكلُّ ماأوّل ماضيه همزة وصل مكسورة أو تاء زائدة يجوز فيه ذلك"(2) .

ومن هنا يتضح أنَّ ما كان مبدوءًا بتاء زائدة معتادة صحَّ فيه كسر حرف المضارعة، مع أنَّ التاء غير مكسورة تشبيهًا لتلك الأفعال بما في أوّله همزة وصل من حيث إنَّها في الأغلب تكون مطاوعة.

4 ما جاء على وجه شاذ:

وردت بعض النّصوص مشيرة إلى كسر حرف المضارعة في أفعال لا تندرج تحت القواعد المتقدمة. من ذلك:

جاء في أبى تِئْبَى قال سيبويه: "وقالوا: أبى فأنت تِئْبَى، وهو يِئْبَى، وذلك أنَّه من الحروف التي يستعمل يفعل فيها مفتوحًا وأخواتها، وليس القياس أن تفتح، وإنَّما هو حرف شاذ، فلمَّا جاء مجيء ما فَعَلَ منه مكسور فعلوا به مافعلوا بذلك، وكسروا في الياء فقالوا: يئْبَى، وخالفوا به في هذا الباب فعِل كما خالفوا به بابه حين فتحوا

" (3) .

(1) الكتاب 4 / 112.

(2)

شرح الشَّافية 1 / 143.

(3)

الكتاب 4 / 110، 111.

ص: 398

فالفعل أبى من باب فَعَلَ يفعَل مفتوح العين في الماضي والمضارع، وكل ماكانت عينه مفتوحة في الماضي والمضارع، فهو حلقي العين أو اللام. وماجاء منه بدون حرف حلقي فشاذ، ومنه أبى يأبى والأصل كسر العين في الماضي، ولكنَّهم قلبوه فتحة تخفيفًا. وهذا معنى كلام سيبويه المتقدّم.

ويقول ابن جنِّي: " فأمَّا قولهم: أبيت تِئْبى فإنَّما كسر أوّل مضارعه وعين ماضيه مفتوحة من قبل أنَّ المضارع لما أتى على يفعَل بفتح العين صار كأنَّ ماضيه مكسور العين حتَّى كأنَّه أَبِيَ

" (1) .

وفسر ذلك أبوحيان بأنَّه " يمكن أن يكون من باب الاستغناء بمضارعه عن مضارع المفتوح العين في الماضي "(2) .

ومن هذا نلحظ أمرين:

أوّلهما: كسر حرف المضارعة فيه مع أنَّه ليس من باب فعِل يفعَل وذلك لمجيء مضارعه مجيءَ ما ماضيه مكسور.

والآخر: أنَّه بتقدير ان يكون من باب فعِل فحقُّه ألَاّ تكسر الياء فيه، إلَاّ أنَّهم لما خالفوا به في كونه مفتوحًا وكان حقُّه أن يكسر لأجل فتح مضارعه خالفوا به في كسر يائه أيضًا؛ تشبيهًا له بـ وَجِل ييجل.

ولم يذكر العلماء الأقدمون غير هذا الفعل إلى أن جاء اللبلي فذكر فعلاً آخر معه، هو اِحب يقول مشيراً إلى الفعل أبي:" هذا الحرف استثناه النحويون من الباب فقط، ولم أر أحداً استثنى شيئاً سواه، مع طول بحثي عن ذلك، ووجدت أنا آخر، وهو: حَبَبت الرجل إِحبُّهُ ـ بكسر الهمزة ـ حكاه الإمام أبو عبد الله محمد بن أبان بن سَيِّد القرطبيُّ في كتابه المسمى بالسماء والعالم"(3) .

ومن الأشياء الشَّاذَّة أفعال ورد فيها كسر حرف المضارعة وليست منطبقة عليها قواعد الكسر مثل: تِذْهب، تلحن، وإضرب.

(1) المحتسب 1 / 330 وانظر المخصص 14/216.

(2)

ارتشاف الضرب 1 / 89.

(3)

بغية الآمال ص151.

ص: 399

فالمشهور أنَّ مثل هذه الأفعال لايكسر فيها حرف المضارعة مطلقًا، نصَّ على ذلك سيبويه فقال:"ولايكسر في هذا الباب شيءٌ كان ثانيه مفتوحًا، نحو ضرب، وذهب وأشباههما "(1) .

إلَاّ أنَّ الكسائي حكى أنَّه سمع بعض بني دُبَيْرٍ يقول: أنت تِلحن وتِذهب (2) .

وهذا شيءٌ مخالف لما نقله العلماء من قواعد، فلا يتعدى به محلّه.

وحكى اللحياني عن الكسائي أن ذلك في التاء والنون والألف من كل فعلٍ كان على يفعَل بفتح الماضي والمستقبل معاً وأنشد:

ذروني إذهبْ في البلاد وريقتي

تسوغ وحلقي لين ولساني

لكسر الهمزة في إذهب (3) .

ويأتي من هذا الشذوذ نفرغ في قراءة عيسى الثقفي (4){سنفرغ لكم} (5) بكسر النون وفتح الراء. فالفعل فرغ يفرغ ويفرغ ومع ذلك كسرت النون.

ومثله {وإنصح} لكم بكسر الهمزة، وذلك ورد في قراءة يحيى بن وثاب وطلحة، لقول الله تعالى {أبلغكم رسالات ربي وإنصح لكم} (6) .

والفعل نصح ينصح بالفتح في الماضي والمضارع ومع ذلك كسر حرف المضارعة منه.

وشذ أيضا ما ورد في أفعال من باب فعل يفعل إذ ورد على ذلك قراءة زيد بن علي ويحيى بن وثاب وعبيد بن عمير الليثي: {نِعبد} بكسر النّون (7) وهذا من أشدّ أنواع الشّذوذ في هذا الباب إذ الماضي منه مفتوح العين والمضارع مضموم.

(1) الكتاب 4 / 110.

(2)

انظر ارتشاف الضرب 1 / 88، 89 وبغية الأمال ص152.

(3)

انظر بغية الأمال ص152.

(4)

أحد أئمة القراءة والعربية – توفي سنة 149هـ. إنباه الرواة 2/374.

(5)

سورة الرَّحمن: 31. والقراءة ذكرها ابن الجزري في غاية النِّهاية 2: 380.

(6)

الأعراف: 62 ونسب ابن خالويه في تختصره ص 50 هذه القراءة إلى

...

(7)

البحر المحيط 1 / 23، وانظر إعراب القراءات الشّواذ 1 / 96.

ص: 400

وأشذّ من ذلك كلّه قراءة من قرأ {نِعيده} بكسر النّون (1) . لأنَّ الفعل من أعاد وهو رباعي حقُّه ضمّ حرف المضارعة.

ما جاء على فَعِلَ ولم يكسر منه حرف المضارعة:

عرض سيبويه لـ يسع ويطأ فقال: "وأمَّا يسع ويطأ فإنَّما فتحوا؛ لأنَّه فَعِلَ يَفْعِل، مثل: حَسِبَ يَحْسِبُ، ففتحوا [للهمزة] (2) والعين كما فتحوا للهمزة والعين حين قالوا: يقرأ ويفزع، فلمَّا جاء على مثال ما فَعَل منه مفتوح لم يكسروا كما كسروا يأبى حيث جاء على مثال ما فَعَلَ منه مكسور. ويدلك على أنَّ الأصل في فَعِلْت أن يفتح منه على لغة أهل الحجاز سلامتها في الياء، وتركهم الضّمّ في يفعُل ولا يضم لضمة فعُل فإنَّما هو عارض"(3) .

فهذه إشارة منه إلى أنَّ الفتح في المضارع كان لأجل حرف الحلق، فلمَّا عومل المضارع معاملة ما ماضيه مفتوح لم يكسر حرف مضارعته.

حكم ضمّ حرف المضارعة في غير رباعي الماضي:

سبق البيان بأنَّ حكم حرف المضارعة إذا كان ماضيه على أربعة أحرف أن يضمّ، سواء كانت هذه الأربعة أصلية أم كان فيها مزيد. ولكن هل لنا أن نضم هذه الأحرف في الخماسي والسُّداسي؟

- ذكر الأنباري " أنَّ بعض العرب يضمّ حروف المضارعة منهما فيقول: يُنطلق ويُستخرج بضمِّ حرف المضارعة حملاً على الرباعي "(4)، وجعل أبوحيان ذلك من باب الشذوذ إذ قال:" وشذ ماروى اليماني من ضمِّ الياء في قولك: يُستخرج وهو مبني للفاعل "(5) .

وعلل الأنباري اختيار الفتح في الأفعال الخماسية والسّداسيّة بأنَّه بسبب كثرة حروفهما " فلو بنوهما على الضَّم لأدى ذلك إلى أن يجمعوا بين كثرة الحروف وثقل الضم، وذلك لايجوز فأعطوهما أخف الحركات وهو الفتح"(6) .

(1) ارتشاف الضرب 1/89.والمراد قول الله تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} الأنبياء.

(2)

في الأصل الهمزة.

(3)

الكتاب 4 / 111.

(4)

أسرار العربية ص 405.

(5)

ارتشاف الضرب 1 / 88.

(6)

أسرار العربية ص 404 ــ 405.

ص: 401

على أنَّه وجد من القبائل من يضمّ كما سبق بيانه.

تخطئة من يكسر حروف المضارعة أو يضم في غير رباعي الماضي:

يتحدث العلماء قديمًا وحديثًا عن العربية الفصحى، من حيث إنَّها تلك الصُّورة الشَّاملة التي كان العرب ينظمون بها الشّعر، ويلقون بها الخطب، ويصوغون بها سائر أنواع البيان.

وقد نزل القرآن الكريم بهذه اللغة في أروع صورها، وأرقى صيغها، وأبهى بيانها. ولم يكن اللسان العربي واحدًا، فقد كان لكلِّ قبيلة لسان ولحن يختلف قليلاً أو كثيرًا عن غيره، ومن ثمَّ تحدثت المعاجم العربية عن لغات القبائل، وتحدث علماء العربية عن الفروق بين تلك اللغات، ونسبوا شيئًا من تلك الظواهر لقبائل معينة، وتحدثوا عن نزول القرآن الكريم بلغة قريش، ومن ثمّ جعلت هذه اللغة هي اللغة العالية، والمثل المحتذى لغير القرشيين. يقول ثعلب: "ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجع قيس، وعجرفية ضبة، وتلتلة بهراء

" (1) .

ومن ثمَّ علمنا أنَّ القبائل العربية كانت تختلف في طريقة كلامها من حيث الأصوات وطبيعتها، وكيفية صدورها، ومن حيث المعنى، وأحيانًا من حيث التركيب.

وقد تحدث كثير من الدارسين المحدثين عن هذه اللهجات وخصوها بمؤلفات منهم الدّكتور: إبراهيم أنيس في كتابه في اللهجات العربية والدّكتور أحمد علم الدِّين الجندي في كتابه اللهجات العربية في التراث وغيرهما. وكسر حروف المضارعة أو ضمها في غير ماكان ماضيه على أربعة أحرف من تلك الظواهر التي عني بها علماء العربية.

فما الموقف من هذه الظاهرة؟

تحدث ابن جنِّي عن اختلاف اللغات وكلُّها حجة، وذكر أنَّ اللغتين إذا كانتا في القياس سواء فليس لك أن ترد إحداهما بصاحبتها؛ لأنَّها ليست أحقَّ بذلك من رسيلتها، أمَّا أن تقل إحداهما جدًا، وتكثر الأخرى جدًا فإنَّك تأخذ بأوسعهما رواية، وأقواهما قياسًا (2) .

(1) مجالس ثعلب 1 / 80.

(2)

الخصائص 2 / 10.

ص: 402

وعلى هذا فيجب أن يقل استعمالها، وأن يتخير ما هو أقوى وأشيع منها، إلَاّ أن إنسانًا لو استعملها لم يكن مخطئًا لكلام العرب، لكنه يكون مخطئًا لأجود اللغتين

(1) .

وبهذا نعلم أن تلك القبائل التي تكلمت بهذه اللهجات لاتخطأ، ولامَن سلك سبيلها في تلك الأفعال بعينها، وإن كان المختار والأعلى التحدث بأجود اللغتين، وأجود اللغتين ما اتفق مع تلك القواعد التي بنيت على الغالب والمطَّرد من كلام العرب.

الكسر في اللهجات المعاصرة

لا شكَّ أنَّ كسر حرف المضارعة ظاهرة فاشية في اللغات الدَّارجة في العصر الحاضر، لايكاد يسلم منها قطر أو قبيل.

وربَّما لو تأمَّله المتأمِّل لوجد أنَّه يمكن ضبطه بضوابط معيَّنة، فتجد مثلاً أنَّه لايكسر ما كان مضارعه على يفعُل بضمِّ العين، على حين تجد أنَّ كسر ماكان مضارعه على يفعَل أو يفعِل كثير، مثل: يِلْعَبُ، يِضرب، يِصلي، يِسافر

وغير ذلك.

وفي بعض الجهات تجد أنَّهم إذا كانوا يكسرون حروف المضارعة مما كان مضارعه على وزن يفعُل بضمِّ العين، فإنهم يكسرون حرف المضارعة ويكسرون العين إتباعًا له، فيقولون: يِكْتِب على حين نجد بعضًا يلتزم ضمَّ عين الفعل في المضارع ويضمّ معه حرف المضارعة فيقول: يُكتُب.

والتجوز في كلِّ ذلك ممَّا تقبله أصول اللغة؛ لأنَّه يركن إلى دليل من السَّماع قويّ ـ على نحو مامرَّ في ثنايا هذا البحث ـ ولكن القواعد تبقى ثابتة، وليس لنا أن نغيِّرها، أو أن ندعوَ إلى ماشذَّ وخرجَ عنها، ولكن المتكلم بما ثبت عن بعض القبائل الفصيحة التي يحتج بلغاتها ممَّا خالف المشهور الغالب لايخطَّأ فيما تابع فيه ما أثر، والدعوة إلى التزام أجود اللغتين التي تتفق مع ما قوي في الرواية ووافق القياس.

نتائج البحث

1-

كشف البحث عن جانب من طبيعة اللغة من حيث تنوُّع حركات هيئات مفرداتها تبعًا لتنوُّع المستعمل لها.

(1) المصدر السابق 2 / 10.

ص: 403

2-

الكسر في حروف المضارعة لهجة عربية أصيلة، نطقت به قبائل العرب، وأثر عنها في نصوص نثرية وشعرية.

3-

كسر حروف المضارعة جاء وفقًا لقواعد منضبطة، ففي الثُّلاثي كُسِرت حروف المضارعة تنبيهًا على كسر العين من ماضيه، ومن ثمَّ لم يكسروا إلَاّ ما كان على فعِل يفعَل، وامتنع الكسر فيما كان مضارعه على يفعِل منعًا للثِّقل النَّاشئ من تتابع الكسرات، ولا يعتدّ بالفاصل السَّاكن؛ لأنَّه حاجز غير حصين.

وكسر فيما كان أوَّله همزة وصل أو تاء زائدة لاعتبارات ألحقته بالأصل.

4-

لا يمكن تخطئة من يكسر حروف المضارعة، لأنَّ اللغتين إذا كثرت إحداهما، وقلَّت الأخرى أُخِذَ بأوسعهما رواية، وأقواهما قياسًا، دون ردِّ الأخرى أو تخطئتها.

5-

كسر حروف المضارعة ظاهرٌ فاشٍ في اللغات الدَّارجة، لا يكاد يسلم منها قطرٌ أو قبيل، والتجوُّز في ذلك مما تقبله أصول اللغة؛ لأنَّه يركن إلى دليلٍ من السَّماع قويّ.

6-

تبقى قواعد العربيَّة ثابتة لأنَّها بنيت على الأوسع رواية، والأقوى في القياس، فليس لنا أن نغيِّرها بما شذ وخرج عنها، وخالف الكثير الغالب.

وبالله التَّوفيق.

مصادر البحث

ارتشاف الضرب من لسان العرب

لأبي حيَّان الأندلسي. تحقيق وتعليق: د. مصطفى النماس، ط أولى1404 هـ ـ 1984م. مطبعة النّسر الذَّهبي ـ مصر.

- الإرشاد إلى علم الإعراب تصنيف الإمام شمس الدِّين محمَّد بن أحمد بن عبد اللطيف القرشي الكيشي 615 ـ 695هـ، تحقيق ودراسة د. عبد الله الحسيني ود. محسن العميري. ط. أولى. 1410هـ/1989م، معهد البحوث العلميَّة، جامعة أمِّ القرى.

- أسرار العربيَّة للإمام أبي البركات الأنباري 513 ـ 577 عني بتحقيقه محمَّد بهجة البيطار، مطبوعات المجمَّع العلمي العربي بدمشق 1377 هـ/ 1957 م.

- إصلاح المنطق لابن السكِّيت 186 ـ 244 هـ شرح وتحقيق: أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون. ط. رابعة. دار المعارف.

ص: 404

- إعراب القراءات الشَّواذ لأبي البقاء العكبري ت616هـ دراسة وتحقيق محمَّد السيِّد أحمد عزوز، ط أولى 1417هـ / 1996 م، عالم الكتب ـ بيروت ـ لبنان.

- إعراب القرآن لأبي جعفر النَّحَّاس ت 338 هـ تحقيق د. زهير غازي زاهد. ط ثانية 1405 هـ/1985م، مكتبة النَّهضة العربيَّة ـ عالم الكتب.

- الأفعال لابن القطاع 515 هـ ط. أولى 1403 هعالم الكتب ـ بيروت.

- أمالي ابن الشَّجري لأبي السعادات المعروف بابن الشَّجري ط. أولى، دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد 1349 هـ. صورة.

- إنباه الرّواة على أنباه النّحاة لجمال الدِّين القفطي ت624 هـ تحقيق: محمَّد أبو الفضل إبراهيم. ط أولى 1406 هـ/1986 م، دار الفكر العربي ـ القاهرة، مؤسّسة الكتب الثَّقافية ـ بيروت.

- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام ت761هـ ط الخامسة 1399 هـ/1979 م، دار الجيل ـ بيروت ـ لبنان.

- البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ت 745 هـ مطبعة السَّعادة ط أولى 1328 هـ.

- بغية الآمال في معرفة النطق بجميع مستقبلات الأفعال لأبي جعفر أحمد بن يوسف اللبلي الفهري 613 ـ 691 تحقيق د. سليمان العايد، مطبوعات جامعة أم القرى جامعة 1411هـ-1991م

- تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة 213 ـ 276 هـ شرحه ونشره السيِّد أحمد صقر. ط ثانية 1393 هـ / 1973م، دار التراث ـ القاهرة.

- تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد لابن مالك 600 ـ 672 هـ حقَّقه وقدَّم له: محمّد كامل بركات ـ دار الكتاب العربي1387هـ/1967م.

- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ ط أولى 1367هـ القاهرة.

- خزانة الأدب عبد القادر البغدادي 1093 صورة عن الطَّبعة الأولى.

- الخصائص لابن جنِّي 392 هـ تحقيق محمَّد علي النَّجار، صورة عن الطَّبعة الثَّانية. دار الهدى للطِّباعة والنَّشر ـ بيروت ـ لبنان.

- ديوان الحماسة لأبي تمَّام، تحقيق د. عبد الله عسيلان 1401هـ، جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلامية ـ الرياض.

ص: 405

- سير أعلام النُّبلاء للذَّهبي 748 هـ أشرف على تحقيقه شعيب الأرنؤوط، مؤسَّسة الرِّسالة. ط. ثانية 1402هـ/ 1982 م.

- شرح التَّسهيل لابن مالك وابنه، تحقيق: عبد الرَّحمن السيد وزميله. دار هجر للطباعة والنَّشر. ط. أولى 1410هـ.

- شرح الحماسة للمرزوقي 421 هـ نشره أحمد أمين وعبد السَّلام هارون. ط. ثانية 1387 هـ / 1967 م ـ القاهرة.

- شرح الشَّافية للرضي النَّحوي 686 هـ تحقيق محمَّد نور الحسن وزميليه. دار الكتب العلميَّة 1402 هـ / 1982 م، بيروت ـ لبنان.

- شرح قصيدة بانت سعاد لابن هشام الأنصاري، تحقيق: د / محمود حسن أبوناجي ـ مؤسَّسة علوم القرآن ط 20، 1402 هـ / 1982 م.

- شرح الكافية الشَّافية لابن مالك 672 هـ تحقيق: د. عبد المنعم هريدي، دار المأمون للتراث. ط. أولى 1402هـ/ 1982 م.

شرح المفصَّل لابن يعيش. عالم الكتب ـ بيروت.

- الشِّعر شرح الأبيات المشكلة الإعراب لأبي علي الفارسي 288 ـ 377 هـ تحقيق وشرح د. محمود محمَّد الطناحي. ط. أولى 1408هـ/1988م، مكتبة الخانجي ـ القاهرة.

- ضياء السَّالك إلى أوضح المسالك تأليف: محمَّد عبد العزيز النَّجَّار، صورة.

- غاية النِّهاية في طبقات القرَّاء لابن الجزري، اعتنى به برجستراسر. دار الكتب العلمية ـ بيروت.

- في الأصوات اللغوية دراسة في أصوات المد العربية للدكتور غالب فاضل المطلبي، الجمهورية العراقية منشورات وزارة الثقافة والإعلام، سلسلة دراسات 1984م

- قطر النَّدى وبل الصَّدى لابن هشام الأنصاري 761 هـ المكتبة العصريَّة 1411 هـ/ 1991 م، صيدا ـ بيروت.

- الكافية في النَّحو لابن الحاجب 570 ـ 646 هـ شرحه الشَّيخ رضي الدين النَّحوي 686 هـ، صورة عن طبعة الاستانة 1275، توزيع دار الباز ـ مكَّة المكرَّمة.

- الكتاب لسيبويه ت 180هـ على الأرجح، تحقيق وشرح: عبد السَّلام هارون. ط. ثالثة 1403 هـ/ 1983 م، عالم الكتب.

ص: 406

- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل للزَّمخشري 467 ـ 538 صورة لدار المعرفة، بيروت ـ لبنان.

- لسان العرب لابن منظور الأفريقي المصري 630 ـ 711هـ دار صادر ـ بيروت.

- اللهجات العربيَّة في التراث تأليف: د. أحمد علم الدِّين الجندي. الدَّار العربيَّة للكتاب، ليبيا ـ تونس 1398 هـ/1978م.

- اللهجات في الكتاب أصواتًا وبنية، تأليف: صالحة راشد آل غنيم. مطبوعات مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي، جامعة أمِّ القرى ـ مكَّة المكرّمة. ط. أولى 1405هـ/ 1985 م.

- ليس في كلام العرب لابن خالويه 370 هـ تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار. ط. ثانية 1399 هـ.

- مجالس ثعلب لثعلب 291هـ تحقيق: عبد السَّلام هارون. ط.ثانية ـ القاهرة.

- المحتسب لابن جنِّي 392هـ تحقيق: علي النَّجدي ناصف وزميله. المجلس الأعلى للشُّئون الإسلاميَّة ـ القاهرة 1386هـ.

- مختصر في شواذ القرآن لابن خالويه، أشرف على نشره: آثرجفري ـ مكتبة المتنبِّي. القاهرة

- المخصص لعلي بن إسماعيل بن سيده 458هـ المكتب التجاري للطباعة عن طبعة المطبعة الكبرى الأميرية بالقاهرة 1321هـ.

- معاني القرآن للأخفش الأوسط 215 هـ تحقيق الدُّكتورة: هدى محمود قراعة. مكتبة الخانجي ـ القاهرة. ط. أولى 1411 هـ/1990م.

- معرفة القراء الكبار على الطبقات والأعصار للذَّهبي 673 ـ 748 هـ حقَّقه: بشار عواد وزميله، مؤسَّسة الرِّسالة. ط. ثانية 1408 هـ.

- المغني في تصريف الأفعال تأليف الدُّكتور: محمَّد عبد الخالق عضيمة، دار الحديث.

- مغني اللبيب لابن هشام الأنصاري 761هـ، حقَّقه وعلَّق عليه: د. مازن المبارك وزميله. الطَّبعة الخامسة ـ بيروت1979م.

- المفصل في علم العربية للزَّمخشري 538هـ صورة عن الطَّبعة الثانية، دار الجيل، بيروت ـ لبنان.

- المقتضب للمبرّد 285هـ تحقيق: محمَّد عبد الخالق عضيمة، لجنة إحياء التراث الإسلامي ـ القاهرة.

ص: 407

- المنصف لابن جنِّي. تحقيق: إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين.صورة عن الطَّبعة الأولى.

- نتائج الفكر في النَّحو لأبي القاسم السّهيلي، تحقيق: الدُّكتور محمَّد إبراهيم البنا. دار الرِّياض للنَّشر والتَّوزيع.

ص: 408