الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جالينوس العرب
أو
أبو بكر الرازي
ألا لفتة منا إلى الزمن الخالي
…
فنغبط من أسلافنا كل مفضال
تلونا أناساً في الزمان تقدموا
…
وكم عبرة فيمن تقدم للتالي
ألا فاذكروا يا قوم أربع مجدكم
…
فقد درست ألا بقية أطلال
تتطلبتمو صفو الحياة وأنتمو
…
بجهل وهل تصفو الحياة لجهال
وما أنتمو إلا كسكران طافح
…
تحسى من الصهباء عشرة أرطال
مشى بارتعاش في الطريق فتارة
…
يقوم وأخرى ينهوي فوق أوحال
يمد إلى الجدران كف استناده
…
فتقذفه الجدران قذفة إذلال
ويفتح للطراق مقلة حانق
…
فيغمضها خزيان عن شتم عذال
رمى الدهر قومي بالخمول فلمتهم
…
وأوسعتهم عذلاً فلم يجد تعذالي
فهاج البكا يأسي فلما بكيتهم
…
بدمعي حتى بلَّ دمعي سربالي
نظرت إلى الماضي وفي العين حمرةٍ
…
كأن على آماقها نضج جريال
فشمت بروق الأولين منيرةً
…
على أفق من ذلك الزمن الخالي
تنورتها في أذرعات وأهلها
…
بيثرب أدنى دارها نظر عال
وقلبت طرفي في سماء رجالها
…
وهم فوق عرش للجلالة محلال
فآنست آثاراً وهم سلك درها
…
وأبصرت أعمالاً وهم جيدها الحالي
ولما طويت الدهر بيني وبينهم
…
على بعد أزمان هناك وأجيال
قعدت بأوساط القرون فجاءني
…
(أبو بكر الرازي) فقمت لإجلال
فتى عاش أعمالاً جساماً وإنما
…
تقدر أعمار الرجل بأعمال
حكيمٌ رياضيٌ طبيبٌ منجمٌ
…
أديب وفي الكمياء حلال إشكال
أتى فيلسوفاً للنفوس مهذباً
…
بأفضل أفعال وأحسن أقوال
لقد طبب الأرواح من داء جهلها
…
كما طبب الأجسام من كل إعلال
مولده
تولد عام الأربعين الذي انقضى
…
لثالث قرن ذي مآثر أزوال
إلى زكريا ينتمي أنه له
…
أب تاجر في الريّ صاحب أموال
على حين كانت بلدة الريّ غادةً
…
إلى العلم يعطو جيدها غير معطال
مدارس بالشبان تزهو ودونها
…
كتاتيب للتعليم تزهو بأطفال
بها جل درس القوم طب وحكمة
…
وفلسفة فيها لهم أي إيغال
وكانت نفيسات الصنائع عندهم
…
يحاولها ذو الفقر منهم وذو المال
وما كان هذا الحال في الريّ وحدها
…
بل الحال في البلدان طر كذا الحال
فإن هدى الإسلام أنهى فتوحه
…
وأوصلها للحد أحسن إيصال
وبدل أبطال الحرب من الورى
…
بأبطال علم للجهالة قتال
فدارت رحى تلك العلوم وقطبها
…
ببغداد مركوز بربوة إجلال
وكانت يد المأمون في ذاك أخجلت
…
لسنا العلى في شكره أي إخجال
منشؤه
تدرج في تلك المدارس ناشئاً
…
مترجمنا يسعى بجد وإقبال
تعلم فن الصوت بديء بدئه
…
ومارس تفضيلاً به بعد إجمال
فكانت بموسيقى اللحون دروسه
…
تغني بإهزاج وتشدو بإرمال
وقد جاوز العشرين سناً ولم يكن
…
لشيء سوى فن الغناء بميال
فرام أبوه منه تحويل عزمه
…
بجذب إلى شغل التجار وإدخال
غفال له دعني مع العلم إنني
…
إذا ما أمتُّ الجهل أحييت آمالي
وهل يستطيع المرءُ شغلاً إذا غدا
…
له شاغل بالعلم عن كل إشغال
هناك استقى الرازي من العلم شربة
…
فجاد بإعلال له بعد إنهال
سعى سعيه نحو التعلم بادئاً
…
بعلم لدى أهل التفلسف ذي بال
وقد كان مفتاح العلوم تفلسف
…
تفك به من جهلهم كل أغلال
فزاول أنواع العلوم تنقلاً
…
بابين أوضاح لها غير أقفال
نضا همة في العلم مشحوذة الشبا
…
جلت ما لحرب الجهل من ليل قسطال
وقد أكمل الطب المفيد قراءة
…
على الطبري الحبر أحسن إكمال
سياحته
ومذ جاوز الرازي الثلاثين واغتدى
…
مدلاً على أقرانه أي إدلال
رأى في تمام العلم للمرء أنه
…
يسيح بضري في البلاد وتجوال
ما العلم إلا بالسياحة إنها
…
لمن علموا في علمهم درس أعمال
فقام وشد الرحل والغرز وامتطى
…
لقطع الفيافي متن هوجاء شملال
فجاء بلاد الشام تواً وجازها
…
إلى مصر في وخد حثيث وأرقال
وخاض عباب البحر للغرب قاصداً
…
مواطن للإسلام لم يسلها السالي
ففيها اجتلاه العز مذ لاح طالعاً
…
لها كهلال يجتلى عند إهلال
وحل حلول البدر في السعد نائلاً
…
بقرطبة آماله ناعم البال
وهب هبوب الريح ثمة ذكره
…
يطير على صيت من العلم جوال
وودعها من بعد ذلك راجعاً
…
إلى مصر لا توديع مستكره قال
ومنها إلى بغداد سافر قاطعاً
…
إليها الفلا ما بين حل وترحال
فألقى عصا التسيار في عرصاتها
…
بمغرس عرفان ومنبت أفضال
وبغداد كانت وهي إذ ذاك جنة
…
بها العلم أجرى منه أنهار سلسال
كأن رجال العلم في غرفاتها
…
بلابل تشدو غدوة بين أدغال
فكم محفل للكتب فيه خزانة
…
وكم مرصد دان وكم مرقب عال
ولما غدا الرازي ببغداد باسطاً
…
من العلم أبواعاً له ذات أطوال
أقيم لمارستانها عن كفاءة
…
رئيساً بتطبيبي وتدبير أحوال
فرتب مرضاه وأصلح شأنه
…
بما كان لم يخطر لسابق أجيال
وظل به يسعى طبيباً ممرضاً
…
ويبذل جهداً لم يكن فيه بالآل
ويلقي السريريات وهي مسائل
…
لدى سُرر المرضى تقرر في الحال
قثد كان يلقيها على القوم ناطقاً
…
بأوضح تبيان وأحسن إملال
مآثره العلمية
لقد أشغل الرازي ببغداد شغله
…
عدا الطب فغي الكمياء أعظم أشغال
فقضى بها أيامه في تجارب
…
وواصل أبكاراً لهن بآصال
فلقب فيها بالمجرَّب حرمةً
…
تفرد مخصوصاً بها بين أمثال
وأصبح مشهوراً بأسنى مآثرٍ
…
من العلم لم يسبق إليها وأعمال
فإن أبا بكر لأول مفصح
…
إلى الناس بالدرس السريري مقوال
وأول من أبدى لهم كيف يبتني
…
ويفرش مارستانهم قصد إبلال
وألف في المستشفيات مؤلفاً
…
تقصى به وصفها دون إغفال
ولا تنسى للرازي الكحول فإنه
…
يجدد طول الدهر ذكراه في البال
ومن عمل الرازي انعقادٌ لسكر
…
وما كان في محصوله غير سيال
أخلاقه
أرى العلم كالمرآة يصدأ وجهه
…
وليس سوى حسن الخلائق من جال
أخو العلم لا يغلو على سوء خلقه
…
وذو الجهل أن أخلاقه حسنت غال
ولو وازن العلم الجبال ولم يكن
…
له حسن خلق لم يزن وزن مثقال
وإن المساوي وهي في خلق عالم
…
لا قبح منها وهي في خلق جهال
ولكنما الرازي قد ازدان علمه
…
بأحسن أخلاق وأشرف أفعال
خلائق غرّ إن أردت بيانها
…
بدأت بحرف الحاء والميم والدال
فتى كان مملوء الجوانح رحمة
…
بكل هزيل الجسم من سقم إقلال
يزور بيوت البائسين بنفسه
…
ويفتقد المرضى بفحص وتسآل
ويأتيهم بالمال والعلم مسعداً
…
لتطبيب أوجاع وتأمين أوجال
وما كان يقنو المال إلا لبذله
…
لتعليم علم أو لإعطاء سؤال
وكان حليف الجد لم يأل جهده
…
بدحض خصوم العلم من كل هزال
فكم راح مخذولاً به متطبب
…
سعى كاذباً في طبه سعي إضلال
وكان سليماً غي العقيدة ينسبونه
…
لزيغ فقد أغناك عنهن إجمالي
عوده إلى الري
ولما قضى الرازي ببغداد برهة
…
مضى قافلاً للريّ شوقاً إلى الآل
فلما أتى تلك البلاد غدا بها
…
طبيباً لدى المنصور صاحبها الوالي
وألف للمنصور إذ ذاك باسمه
…
كتاباً حوى في الطب أحسن أقوال
ولم تصف للرازي أواخر عمره
…
وعاد أخا همّ شديد وبلبال
فقد عميت عيناه من بعد واغتدى
…
يجول من الفقر بأسمال
وإن عداء الدهر شنشنة له
…
يصول بها قهراً على كل مفضال
ولما انتهى نحو الثمانين عمره
…
قضى نحبه من غير مال وأنسال
ولكنه في الناس خلف بعده
…
من العلم آثاراً قليلة أمثال
فكم كتب أبقى بها الذكر في الورى
…
وألفها نسجاً على خير منوال
وما ضرّ من أحيا له العلم بعده
…
على الدهر ذكراً أنه ميت بال
وإني إن أطنبت في بحر علمه
…
لمقتصرٌ منه على بعض أوشال
وها أنا أنهي القول لا لتمامه
…
ولكن لعجزي عن نهوض بأجبال
وأجعل هذا الشعر مسكاً ختامه
…
بما قال في بيتين معناهما حال
لعمري وما أدري وقد آذن البلى
…
بعاجل ترحال إلى أين ترحالي
وأين محل الروح بعد خروجه
…
من الهيكل المنحل والجسد البالي
بغداد
معروف الرصافي