المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سورة النورالكلام على قصة الإفك - التعليق على تفسير القرطبي - عبد الكريم الخضير - جـ ٦

[عبد الكريم الخضير]

الفصل: ‌سورة النورالكلام على قصة الإفك

تفسير القرطبي

‌سورة النور

الكلام على قصة الإفك

الشيخ / عبد الكريم الخضير

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. اللهم اغفر لشيخنا وللحاضرين أجمعين آمين.

قال المؤلف -رحمه الله تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} [(11) سورة النور] .. الآيات. فيه ثمان وعشرون مسألة:

الأولى: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} عصبة خبر (إن) ويجوز نصبها على الحال، ويكون الخبر، {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} [(11) سورة النور] وسبب نزولها: ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة -رضوان الله عليها- وهو خبر صحيح مشهور، أغنى اشتهاره عن ذكره، وسيأتي مختصراً، وأخرجه البخاري تعليقاً، وحديثه أتمّ، قال: وقال أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال؟ قال: وقال أبو أسامة.

قال: أسامة.

طالب: قال في الحاشية وقع في نسخ وقال أسامة ....

أبو أسامة حماد بن أسامة

طالب: الصحيح أسامة أحسن الله إليك؟

لكن على الأصل يصحح.

ص: 1

قال: وقال أبو أسامة، وأخرجه أيضاً عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان من حديث مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت: لما رميت عائشة خرت مغشياً عليها، وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبي وائل قال: حدثني مسروق بن الأجدع قال: حدثتني أم رومان، وهي أم عائشة، قالت: بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار، فقالت: فعل الله بفلان، وفعل بفلان! فقالت أم رومان: وما ذاك؟ قالت ابني فيمن حدث الحديث! قالت: وما ذاك؟ قالت: كذا وكذا قالت عائشة: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: نعم، قالت: وأبو بكر، قالت: نعم! فخرت مغشياً عليها، فما أفاقت إلا وعليها حمىً بنافض، فطرحت عليها ثيابها فغطيتها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما شأن هذه؟ فقلت: يا رسول الله أخذتها الحمى بنافض، قال: فلعل في حديث تحدث به، قالت: نعم، فقعدت عائشة، فقالت: والله لئن حلفت لا تصدقوني! ولئن قلت: لا تعذروني! مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه، والله المستعان على ما تصفون. قالت: وانصرف، ولم يقل شيئاً فأنزل الله عذرها، قالت: بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك. قال أبو عبد الله الحميدي: كان بعض من لقينا من الحفاظ البغداديين يقول: الإرسال في هذا الحديث أبين، واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسروق لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف، وللبخاري من حديث عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة كانت تقرأ:{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [(15) سورة النور] وتقول: الولق الكذب، قال ابن أبي مليكة: وكانت أعلم بذلك من غيرها، لأنه نزل فيها ..

يعني فتقدم قراءتها على قراءة غيرها، لأنها صاحبة الشأن، هذا رأيه.

ص: 2

قال البخاري: وقال معمر بن راشد عن الزهري: كان حديث الإفك في غزوة المريسيع، قال ابن إسحاق: وذلك سنة ست، وقال موسى بن عقبة: سنة أربع، وأخرجه البخاري من حديث معمر عن الزهري، قال: قال لي الوليد بن عبد الملك: أَبَلغك أن علياً كان فيمن قذف؟ قال: قلت: لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما: كان عليّ مسلماً في شأنها ..

ص: 3

مسلِّماً أو مسلَّماً، يعني ما خاض في الموضوع، يعني سلم منه، لم يقل فيه شيئاً، ومع ذلك لما استشاره النبي عليه الصلاة والسلام، قال:"النساء غيرها كثير" فوجد في نفسها عليه إلى أن مات رضي الله عنه وأرضاه- المقصود أن هذه القصة عظيمة، فيها من الدروس والعبر وهي مصيبة بالنسبة لعائشة رضي الله عنها، ترتّب عليها الخير الكثير في الدنيا والآخرة بالنسبة لها رضي الله عنها وأرضاها-، ولذلك مثل هذه المصائب من استعمل الأسلوب الشرعي في استقبالها، ومع ذلك صبر واحتسب لله -جل وعلا- فإنه يثاب ثواباً عظيماً، ولذا قال:{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [(11) سورة النور]، الآثار المترتبة عليه خير، بان بعض الأشخاص وانكشف بعض الأشخاص الذين يتسترون، ومع ذلك رفع الله درجة عائشة -رضي الله تعالى عنها وأرضاها- حيث أنزل فيها قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، وقد يتعرض بعض النساء لمثل هذه المصيبة، والنساء لضعفهن، وقلة صبرهن قد يحاولن كشف هذه المصيبة بأسلوبٍ غير مرضي، وهذا يتعرض له بعد وجود الآلات التي تنشر الصور على نطاقٍ واسع، فيهدد بها، حصل لبعض النساء وبعض الشباب من الصبية وغيرهم أنه يصور وجهه ثم يركب عليه صورة عارية، ثم يركب عليها صورة أخرى فيها ممارسة الفاحشة، أو شيء من هذا، ثم يهدد بها، تصير ورقة يساوم بها، فإن استجاب أو استجابت، وإلا نشرت، وأبلغ ولي الأمر بها والزوج إن كانت متزوجة، وما أشبه ذلك، فيحصل منه المصائب والكوارث الشيء العظيم، لا شك أن هذا بالنسبة لمن صنعه أمر خطير جداً، في غاية الخطورة –نسأل الله السلامة والعافية– ومثل هذا يبتلى في الدنيا قبل الآخرة، لكن من رمي بمثل هذه الأفعال ودبلجت صورته على مثل هذا التركيب عليه أن يصبر ويحتسب ولا يستسلم للضغوط، لا يعالج قذف أو إشاعة أو شيء من هذا بحقيقة، لأن بعض النساء تضعف عن الصبر والاحتمال لمثل هذه الأمور فتستجيب لهذه الضغوط، لأن هؤلاء الأشرار وهؤلاء الفسقة ما صوروها إلا لأجل أن يضغطوا عليها بهذه الصور، وعلى هذا فالحل الوحيد الأمثل أن ترضى وتسلم، يعني إن قالت ما صدقت من قبل ولي الأمر، يعني مثل ما جاء عن عائشة رضي الله عنها،

ص: 4

يعني ولي الأمر لما ينظر إلى الصورة ومعها رجل يعاشرها مثلاً، هذا كله كذب وبهتان –نسأل الله السلامة– هذا إفك، مثل هذا إذا رآه ولي الأمر لا شك أنه يتعامل معاملة مع هذه المولية سواء كانت زوجته أو بنته على ضوء ما رأى، والناس يصدقوا ما يرون، الناس يصدقون، ويخفى على كثيرٍ منهم أن هذه الأمور يمكن دبلجتها، ويريد أن يجعل نفسه ويقف موقف المدافع الغيور على محارمه، ويزيد في ذلك حتى يصل إلى حدٍ غير مشروع، المقصود أنه حصل سؤال في نور على الدرب قبل أسبوعين أو ثلاثة في بلدٍ من البلدان حصل هفوة من بنت فجاء أخوها وضيق عليها وأخبر أباها وطردوها من المنزل، طردوها من المنزل؟؟ ما الذي يكون مصير هذه البنت بعد أن طردت؟ وهي تكتب تنادي بأعلى صوتها أنها خائفة على نفسها من الوحوش البشرية، هذه وقد وقع منها هذه الهفوة، يجب أن تعامل معاملة شرعية، يعني إن كانت المسألة تقتضي حد يقام عليها حد، وإن كانت تابت وأنابت واستترت وستر الله عليها، فالأمر يحتمل ذلك، أما كونها تعامل بمثل هذه القسوة وتطرد من البيت، لا بد من معالجة وضعها، معالجة مناسبة، لا تكون الغيرة يترتب عليها من الآثار أكثر مما ترتب على أصلها، الفاحشة لا يقرها مسلم في أهله، ولا في غيره من المسلمين فضلاً عن كونه يقرها في بيته، المقصود أن مثل هذه الأمور تعالج معالجة شرعية حكيمة، مر علينا في الدرس السابق أنه الصحابي هلال بن أمية وجد مع مرأته رجلاً في الليل، متى غدا إلى النبي عليه الصلاة والسلام يخبره الخبر؟ في الصباح، هل نقول أن هلال بن أمية لا غيرة عنده؟ وهل الذي يجرؤ فيقتل هذه المرأة أكثر منه غيرة؟ الغرائز لا بد أن تقاد بزمام الشرع، لا يجوز للإنسان أن يقر الخبث في أهله، وله أن يغضب، هذا غضب شرعي، وله أن يحزن ويتحسر، لكن بحدود، لأن بعض الناس إذا حصل له مثل هذه الهفوة، حصل في بيته مثل هذه الهفوة، أظلمت الدنيا في وجهه، ونسي الدنيا والآخرة، هذه غيرة، لكن غيرة إلى حد، المسألة مسألة لا بد من التوسط في الأمور كلها، لا بد أن تحل هذه المشاكل بحلول شرعية، طيب مثل هذه المرأة وهذه البنت، أو هذه الزوجة التي صورت صورةً عارية ودبلج معها شخص يعاشرها؟ هذا لا

ص: 5

يخلو من حالين، إما أن يكون الكلام صحيح أو خطأ، فإن كان خطأ تصبر وتحتسب، وهذا إفك، وسينزل الله -جل وعلا- وإن لم يكن قرآن لكن يقذف في قلوب الناس بيان صدقها وبراءتها، سوف يظهر للناس جلياً براءتها، لكن عليها أن تصبر وتحتسب، ولا تستسلم للضغوط، وإن كان صحيح يعني استجابت للمغريات، استجابت لإغراءات، وقد كانت عفيفة، إن كان صحيح وصورت هذه الصورة أيضاً لا تستجيب مرة ثانية، لأن الخطأ ما يعالج بخطأ، لا بد أن تتوب إلى الله -جل وعلا- وتصدق التوبة وتصبر وتحتسب على الآثار المترتبة على فعلتها السيئة، المقصود أن كلا الحالين لا يجوز لها أن تستجيب لمطامع هؤلاء الأشرار، فإن كانت صادقة سوف يظهر الله -جل وعلا- براءتها، كما برأ عائشة من فوق سبع سماوات، وإن كان وقع منها شيء من ذلك وتابت وأنابت إلى الله -جل وعلا- فالتوبة تجب ما قبلها، ولا تستجيب لمثل هذه الضغوط، على كل حال القصة فيها من الدروس والعبر ما لا يحتمله درس أو درسين أو ثلاثة، وهي في الوقت نفسه مصيبة بالنسبة لأم المؤمنين، ويحز في نفس كل مسلم أن يسمع مثل هذا الكلام في أم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها وأرضاها-، فالحديث بتفصيله في البخاري لا شك أنه لا يطاق سماعه، الذي جاء في القرآن كلام إجمالي فصل في الأحاديث الصحيحة، فكيف بمن يقذفها الآن؟ وقد برأها الله -جل وعلا- من فوق سبع سماوات؟ هذا لا نزاع في كفره، لأنه مكذب لله -جل وعلا-، ما هي مسألة أحاديث، يقول: والله أحاديث أخبار فيها ما فيها، قد يقول مبتدع: أن هذه أحاديث أخبار، لكن ماذا عما في كتاب الله -جل وعلا-؟ لا أحد يتردد في أنه قطعي الثبوت، وفي الوقت نفسه هو قطعي الدلالة على براءتها، فالذي يقذفها بعد نزول براءتها لا شك في كفره، لا شك في كفره كفراً مخرجاً عن الملة، وأما الذين قذفوها في وقته عليه الصلاة والسلام قبل نزول براءتها فلا شك أنهم ارتكبوا أمراً عظيماً، وقذف محصنة -كما جاء في الحديث وصحته فيه كلام- يحبط عمل ستين سنة، يحبط عبادة ستين سنة، أي مؤمنة محصنة غافلة! فكيف بأمهات المؤمنين، كيف بعرضه عليه الصلاة والسلام! والله -جل وعلا- يقول:{وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [(26) سورة النور]

ص: 6

ويقول أيضاً: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [(26) سورة النور] يعني: إذا قلت: أن عائشة خبيثة اقترفت فمعناه أنك قلت: أن النبي عليه الصلاة والسلام خبيث، حاشاه عليه الصلاة والسلام، فالأمر جد خطير في هذه المسألة وتفصيلها لا يطاق سماعه، لكن نمره كما جاء، والله المستعان، ومع ذلك نستفيد منه من الدروس والعبر بقدر ما يحتمله الوقت.

طالب: ما وجدته عائشة في نفسها .. علي رضي الله عنه هل كان له تأثير في معارضتها

بالخلافة؟

الشيخ: علي رضي الله عنه لما استشاره النبي عليه الصلاة والسلام، الرجل ما وقع في القصة، ما وقع في الإفك، لكنه لما استشير أداه اجتهاده إلى أن يقول:"النساء غيرها كثير"، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيمن ادعت الرضاع بينهما:((كيف وقد قيل؟ )) يعني من هذا الباب، وإلا فالبراءة نزلت، ليس لعلي ولا لأحدٍ، ولا لأي شخصٍ من الأشخاص، بل صار من مناقبها أنها حصلت لها هذه القصة، يعني بعد أن كانت مصيبة صارت من مناقبها -رضي الله تعالى عنها وأرضاها-، فليس لعلي ولا لغيره أن يقول أي كلام، ولا تردد في كونها من أمهات المؤمنات الطاهرات، علي رضي الله عنه من الورع بمكان، ما وقع فيما وقع فيه غيره، ومع ذلك أدى ما عليه من النصيحة حسب اجتهاده، ومع ذلك وقع فيها نفسها ما وقع، ولم تقل مع ذلك إلا الحق، في مرضه عليه الصلاة والسلام خرج إلى الصلاة يعتمد على أبي بكرٍ وآخر، تقول عائشة الآخر هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكن ما استطاعت أن تذكره باسمه بعد أن قال ما قال، ومع ذلك لما قيل لها: إن عثمان قتل فمن نبايع؟ قالت: علي رضي الله عنه وأرضاه-، يعني ما منعها أن تقول الحق، وهكذا يجب أن يكون حال المسلم أن يكون قوالاً للحق في كل الظروف، ولا يقول الباطل تحت أي ظرف من الظروف.

وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجهٍ آخر من حديث معمر عن الزهري، وفيه: قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال: الذي تولى كبره، منهم علي بن أبي طالب؟ فقلت: لا ..

ص: 7

شوف الوليد بن عبد الملك، من بني أمية معروف، وعداء بني أمية وما وقع بينهم وبين علي بن أبي طالب رضي الله عنه هم أصحاب ملك، قد يقع منهم مثل هذا الكلام، ومع ذلك إذا بلغهم الخبر الصحيح الصريح ما تعدوه.

قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال: الذي تولى كبره، منهم علي بن أبي طالب؟ فقلت: لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعلقمة وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة كلهم يقول: سمعت عائشة تقول: والذي تولى كبره عبد الله بن أبي، وأخرج البخاري أيضاً من حديث الزهري عن عروة عن عائشة: والذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي.

الثانية: قوله تعالى: {بِالْإِفْكِ} [(11) سورة النور] الإفك: الكذب والعصبة: ثلاثة رجال، قاله ابن عباس وعنه أيضاً من الثلاثة إلى العشرة، ابن عيينة: أربعون رجلاً، مجاهد: من عشرة إلى خمسة عشر، وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض، والخير حقيقته: ما زاد نفعه على ضره، والشر: ما زاد ضره على نفعه، وإن خيراً لا شر فيه هو الجنة، وشراً لا خير فيه هو جهنم ..

تشتمل عليه هذه الحياة الدنيا من الخير لا بد أن يكون مشوباً بشيءٍ من الشر، لكنه يكون مرجوحاً، والعكس الشر لا بد أن يكون مشوباً بالخير، لكن الخير يكون فيه مرجوح.

فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى، فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان إذ الخطاب لهم في قوله:{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [(11) سورة النور] لرجحان النفع والخير على جانب الشر.

الثالثة: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع، وقفل ودنا من المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل فمشت حتى جاوزت الجيش فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه ..

الجزع الخرز، ظفار معروفة بلدة في عمان.

ص: 8

انقطع فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه فوجدته وانصرفت، فلم تجد أحداً، وكانت شابة قليلة اللحم، فرفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه، فلما لم تجد أحداً اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها فنامت في الموضع، ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة وقيل: إنها استيقظت لاسترجاعه، ونزل عن ناقته، وتنحى عنها حتى ركبت عائشة، وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة، فوقع أهل الإفك في مقالتهم، وكان الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه ويشعله عبد الله بن أبي ابن سلول المنافق، وهو الذي رأى صفوان آخذاً بزمام ناقة عائشة فقال: والله ما نجت منه، ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل، وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، هذا اختصار الحديث، وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم، وهو في مسلم أكمل، ولما بلغ صفوان قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه، وقال:

تلق ذباب السيف عني فإنني

غلام إذا هوجيت ليس بشاعر

فأخذ جماعة حسان ولببوه، وجاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح حسان، واستوهبه إياه، وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر على ما يأتي، والله أعلم.

ص: 9

الذي تولى الكبر واحد، لكن الذي شارك هذا الذي تولى الكبر مجموعة، جاء عن حسان أنه شارك، وجاء عنه أنه تبرأ من المشاركة على ما سيأتي، وما دعا عائشة -رضي الله تعالى عنها- بالعفة، وممن شارك مسطح بن أثاثة قريب من أبي بكر على ما سيأتي في قوله:{وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} [(22) سورة النور] وممن شارك أيضاً حمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين، أم المؤمنين ما وقعت وهي الضرة لعائشة وزينب من باب الحمية لأختها وقعت –نسأل الله السلامة والعافية– وهذا يؤخذ منه أن أكثر ما يقع من الخلافات والآثار المترتبة عليها إنما هو بين الأتباع، أكثر مما يقع بين الرؤوس، يعني لو بحثت ما وجدت خلاف يعني بين أئمة، لكن تجد الخلاف بين أتباعه المنتصرين لهم، يعني يقع مخالفات ومشادات بين شافعية وحنفية، لكن هل يتصور بين الشافعي وأبي حنيفة يوجد مثل هذا الكلام؟ إلى عصرنا الحاضر، تجد الكبار ما بينهم إشكال، يعني اختلاف في وجهات النظر لا يترتب عليه شيء، ولا عداوة، ولا كلام سيء، ولا بذيء، ولا غيبة، ولا وقوع في أعراض أبداً، لكن تجد هؤلاء الأتباع هم الذي يستوشون، وهم الذين يوقدون النار تحت، ولذلك زينب أم المؤمنين صاحبة الشأن الذي تمنى كل ضرة تتمنى لضرتها لا سيما إذا كانت أثيرة عند الزوج أن يقع منها ما يقع لترتفع كفتها، ومع ذلك حماها الدين أن تقول شيئاً، وحمنة تبعاً لها قالت ما قالت، والله المستعان.

وكان صفوان هذا صاحب ساقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة، وقيل: كان حصوراً، لا يأتي النساء، ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة، وقيل: كان له ابنان يدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ابنيه:((لهما أشبه به من الغراب بالغراب)) وقوله في الحديث: ((والله ما كشفتُ كنف أنثى قط)) يريد بزنىً، وقتل شهيداً رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر، وقيل: ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية.

ص: 10

الرابعة: قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} [(11) سورة النور] يعني ممن تكلم بالإفك، ولم يسم من أهل الإفك إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد الله، وجهل الغير قاله عروة بن الزبير، وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان، وقال: إلا أنهم كانوا عصبة كما قال الله تعالى، وفي مصحف حفصة عصبة أربعة.

طالب: يا شيخ هي المريسيع أو المريصيع؟

المريسيع، بالسين، نعم.

الخامسة: قوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} [(11) سورة النور] وقرأ حميد الأعرج ويعقوب {كُبره} بضم الكاف، قال الفراء: وهو وجه جيد، لأن العرب تقول: فلان تولى عظم كذا وكذا: أي أكبره، روي عن عائشة أنه حسان، وأنها قالت حين عمي: لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره، رواه عنها مسروق، وروي عنها أنه عبد الله بن أبي وهو الصحيح، وقاله ابن عباس، وحكى أبو عمر بن عبد البر أن عائشة برأت حسان من الفرية، وقالت: إنه لم يقل شيئاً، وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئاً من ذلك في قوله:

حصان رزان ما تزن بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

غرثى: يعني جائعة، جائعة من لحوم الغوافل، يعني أنها لا تقع في أعراض الناس.

حليلة خير الناس ديناً ومصباً

نبي الهدى والمكرمات الفواضل

عقيلة حي من لؤي بن غالب

كرام المساعي مجدها غير زائل

مهذبة قد طيب الله خيمها

وطهرها من كل شين وباطل

فإن كان ما بُلغت أني قلته

فلا رفعت سوطي إلي أناملي

فكيف وودي ما حييت ونصرتي

لآل رسول الله زين المحافل

له رتب عال على الناس فضلها

تقاصر عنها سَورة المتطاول

وقد روي أنه لما أنشدها: حصان رزان، قالت له: لست كذلك، تريد أنك وقعت في الغوافل، وهذا تعارض، ويمكن الجمع بأن يقال: إن حساناً لم يقل ذلك نصاً وتصريحاً، ويكون عرض بذلك، وأومأ إليه، فنسب ذلك إليه، والله أعلم.

وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا؟ وهل جلد الحد أم لا؟ فالله أعلم، أي ذلك كان، وهي المسألة.

السادسة: فروى محمد بن إسحاق وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة: مسطحاً وحسان وحمنة. وذكره الترمذي ..

ص: 11

ولم يجلد عبد الله بن أبي لأن الحدود كفارات، وما وقع فيه كفارات، وما وقع فيه عبد الله بن أبي أعظم من أن يكفر، ولئلا يتحدث الناس لا سيما وأن عبد الله بن أبي حامل راية نزاع وشقاق، ولعدم موافقته النبي عليه الصلاة والسلام في الباطن، وله أتباع وأنصار، قد يتحدثون بأن كما أشير على النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المواضع وهو مستحق القتل لأنه منافق كافر، ويقع منه ما يدل على كفره، فاعتذر النبي عليه الصلاة والسلام عن قتله، وقال:((لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)) فلا شك أن عين الحكمة والمصلحة في مثل هذا، الذي له أتباع، وله شأن وشرق بالدعوة، لأنه كان يتوقع الملك على الأنصار، ثم بعد ذلك عامله النبي عليه الصلاة والسلام بالرفق واللين إلى أن مات على نفاقه، والله المستعان.

طالب: ما يقال أنه ما ثبت أنه تكلم وإنما شارك في الإفك؟

الشيخ: من أهل العلم من قال: أنه كان يعرض تعريض ويستوشي ويشيع في المجالس وينسبه إلى غيره، ولم يتكلم به نسبةً إلى نفسه، فلم يكن قاذفاً، قيل: بهذا لكن أمره أعظم –نسأل الله السلامة والعافية-.

طالب: حسان؟!

الشيخ: لا لا، عبد الله بن أبي، لأنه ما ثبت أنه حُد حَد القذف.

طالب: يا شيخ قد يقال أنه على قول أنه له أتباع يعني مسألة إقامة الحدود تقام على من له أتباع ومن ليس له أتباع؟

الشيخ: لا شك، لكن النبي صلى الله عليه وسلم هذا وقت تشريع، بعد أن أكمل الله الدين لا كلام لأحد، هذا وقت تشريع ووقت توطيد ما هو مثل الآن، خلاص انتهى، كل شيء تم، لا بد من إقامة الحدود على كل أحد كائناً من كان، وإذا بلغت الحدود السلطان فإن عفا فلا عفا الله عنه.

طالب: ما يقال أنه مطالب بفروع الشريعة - يعني عبد الله بن أبي-؟

الشيخ: لا شك – إلا- مطالب ولا بد أن يؤدي أحكام الإسلام كلها، ظاهرةً وباطنة، لكن هو منافق يعامل حسب الظاهر معاملة المسلمين.

ص: 12

وذكر القشيري عن ابن عباس قال: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار. قال القشيري: والذي ثبت في الأخبار أنه ضرب ابن أبي وضرب حسان وحمنة، وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح، قال الماوردي وغيره: اختلفوا هل حدّ النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإفك على قولين: أحدهما أنه لم يحد أحداً من أصحاب الإفك، لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها، كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم. قلت: وهذا فاسد مخالف لنص القرآن، فإن الله عز وجل يقول:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [(4) سورة النور] أي على صدق قولهم: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [(4) سورة النور].

والقول الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم حدّ أهل الإفك عبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ..

النبي عليه الصلاة والسلام حدّ رجلين وامرأة، كما في السنن بسند جيد، رجلين وامرأة، والأكثر على أن المراد بالرجلين حسّان ومسطح، والمرأة حمنة.

وفي ذلك قال شاعر من المسلمين:

لقد ذاق حسان الذي كان أهله

وحمنة إذ قالوا هجيراً ومسطح

وابن سلول ذاق في الحد خزية

كما خاض في إفك من القول يفصح

تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم

وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا

وآذوا رسول الله فيها فجللوا

مخازي تبقى عمموها وفضحوا

فصبّ عليهم محصدات كأنها

شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح

ص: 13

قلت: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حدّ حسان ومسطح وحمنة ولم يسمع بحدّ لعبد الله بن أبي، روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدّهم وسماهم: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. وفي كتاب الطحاوي: ثمانين ثمانين. قال علماؤنا وإنما لم يحد عبد الله بن أبي لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذاباًَ عظيماً، فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصاً من عذابه في الآخرة، وتخفيفاً عنه، مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها، فقد حصلت فائدة الحد إذ مقصوده إظهار كذب القاذف، وبراءة المقذوف، كما قال الله تعالى:{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [(13) سورة النور] وإنما حدّ هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود: إنها كفارة لمن أقيمت عليه. كما في حديث عبادة بن الصامت، ويحتمل أن يقال: إنما ترك حدّ ابن أبي استئلافاً لقومه، واحتراماً لابنه، وإطفاءً لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة، ومن قومه كما في صحيح مسلم، والله أعلم.

ص: 14

السابعة: قوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [(12) سورة النور] هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا، قال ابن زيد: ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه، قاله المهدوي و {لولا} بمعنى هلا، وقيل: المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم، فذلك في عائشة وصفوان أبعد، وروي أن هذا النظر السديد، وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته، وذلك أنه دخل عليها فقالت له: يا أبا أيوب أسمعت ما قيل! فقال: نعم! وذلك الكذب! أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك؟! قالت: لا والله! قال: فعائشة -والله- أفضل منك، قالت أم أيوب: نعم فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم ..

الثامنة: قوله تعالى: {بِأَنفُسِهِمْ} [(12) سورة النور] قال النحاس: معنى {بِأَنفُسِهِمْ} بإخوانهم، فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلاً يقذف أحداً، ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه وتواعد من ترك ذلك ومن نقله.

قلت: ولأجل هذا قال العلماء: إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسداً أو مجهولاً.

ص: 15

الأخبار التي تشاع ولو كثر ناقلوها فإنها لا تفيد علماً ما لم تستند إلى الحس، يعني مجرد إشاعة لا تفيد العلم ولو حملها مئات الألوف، فإنها حينئذٍ لا تفيد علماً ما لم تستند إلى الحس يكون لها مصدر معروف يثبت الخبر بنقله، يعني لو أن شخص أو إذاعة من الإذاعات بثت خبر، ثم تلقت هذا الخبر وكالات الأنباء كلها وبثته في العالم يكتسب مصداقية هذا الخبر مع أن أصله واحد، هذه الإذاعة أيضاً ليست من أهل التثبت والتوثيق فلا يثبت الخبر بهذا، وكثيراً من الأخبار التي يتداولها العالم ويلوكونها ثم يعلن نقضها وتكذيبها، في قصة اعتزال النبي عليه الصلاة والسلام زوجاته في المشربة، وكونه آل منهن لمدة شهر، شاع في المدينة أن النبي عليه الصلاة والسلام طلق نساءه، واجتمع الناس حول المنبر كلهم يتداولون هذا الخبر، ودخل عمر -رضي الله تعالى عنه- مغضباً، وسأل الناس أطلق النبي عليه الصلاة والسلام نساءه؟ قالوا: نعم، بناءً على هذه الإشاعة، فاستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ثم أذن له، فقال له: أطلقت نساءك؟ قال: لا، هذه مجرد إشاعة استندت إلى فهم، ما استندت إلى حس، يعني ما سمع من النبي عليه الصلاة والسلام أنه طلق نسائه، ولا رؤية الآثار المترتبة على الطلاق، فلم يكن لا سماع ولا رؤية مشاهدة، ولا شيء إنما هي مجرد إشاعة استندت إلى وهم، النبي عليه الصلاة والسلام آل ألا يجالس نساءه بعد أمور حصلت منهن من تضييق عليه، وكثرة المطالب، فاعتزلهن لمدة شهر في المشربة، فجزم الناس أنه طلق نساءه، لكن هذه مجرد إشاعة، وما أكثر الإشاعات لا سيما إذا كانت الأوهام تتطاول عليها، أو تودها، أو تحذر منها، فإذا كان الناس يتمنون طول الإجازة مثلاً لأن الظرف يقتضي إطالتها، والإجازة قصيرة ما تكفي للناس أو تقديم شيء أو تأخير شيء، يعني الناس مشرئبون لمثل هذا الخبر، تجد أدنى شخص يقول أدنى كلمة في الموضوع يجزم بأنه صدر من مصدره الذي يملك التمديد، ثم بعد ذلك لا يلبث أن ينفى مثل هذا الخبر، وهذا كثير، زيادة الرواتب، نقص رواتب، زيادة كذا، من الأشياء التي تمس حاجة الناس، أدنى كلمة ولو كانت لو صدرت من غير أهل، تلقيت بالقبول، فهذه الإشاعات

ص: 16

لا تفيد العلم مهما كثر ناقلوها.

التاسعة: قوله تعالى: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء} [(13) سورة النور] هذا توبيخ لأهل الإفك و {لولا} بمعنى هلا، أي هلا جاءوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء، وهذا رد على الحكم الأول وإحالة على الآية السابقة في آية القذف ..

يعني هذا رد على الحكم الأول، الحكم الأول أنه لا بد من إقامة البينة، لا بد من إقامة البينة التي جاءت في الآية السابقة، وهو الحكم الأول للمسألة.

العاشرة: قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [(13) سورة النور] أي هم في حكم الله كاذبون ..

ولو كانوا في نفس الأمر وحقيقته صادقين، يعني لو جاء ثلاثة وحلفوا وجزموا أنهم رأوا الفعلة الشنيعة الفاحشة بين رجلٍ وامرأة رأوها بأعينهم، رأوها رؤيةً لا مرية فيها هم في الواقع وحقيقة الأمر صادقون لكنهم في الحكم الشرعي كاذبون، {فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أما في حقيقة الأمر وإن كانوا صادقين فهم كاذبون، ويستحقون بذلك الحدّ.

أي هم في حكم الله كاذبون، وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة، وهو صادق في قذفه، ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب، لا في علم الله تعالى، وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبنى على ذلك حكم الآخرة. قلت: ومما يقوي هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيراً أمّناه وقربناه، وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم يؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة، وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى الله عز وجل.

ص: 17

الحاديةَ عشرة: قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} [(14) سورة النور](فضل) رفع بالابتداء عند سيبويه والخبر محذوف لا تظهره العرب، وحذف جواب {لولا} لأنه قد ذكر مثله بعد قال الله عز وجل:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} {لَمَسَّكُمْ} أي بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة، وهذا عتاب من الله تعالى بليغ ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً والإفاضة: الأخذ في الحديث وهو الذي وقع عليه العتاب، يقال: أفاض القوم في الحديث: أي أخذوا فيه.

الثانية عشرة: قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [(15) سورة النور] قراءة محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف من الإلقاء، وهذه قراءة بينة، وقرأ أبي وابن مسعود إذ تتلقونه من التلقي، بتاءين، وقرأ جمهور السبعة بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام، وهذا أيضاً من التلقي، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الذال في التاء، وقرأ ابن كثير بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء، وهذه قراءة قلقة، لأنها تقتضي اجتماع ساكنين، وليست كالإدغام في قراءة من قرأ فلا تناجوا ولا تنابزوا؛ لأن دونه الألف الساكنة وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال، وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي الله عنهما وهم أعلم الناس بهذا الأمر- {إذ تَلِقُونه} بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف، ومعنى هذه القراءة من قول العرب: ولق الرجل يلق ولقاً إذا كذب واستمر عليه، فجاءوا بالمتعدي شاهداً على غير المتعدي، قال ابن عطية: وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه فحذف حرف الجر فاتصل الضمير، وقال الخليل وأبو عمرو: أصل الولق الإسراع يقال: جاءت الإبل تلق أي تسرع قال:

لما رأوا جيشاً عليهم قد طرق

جاؤوا بأسراب من الشأم ولق

إن الحصين زلق وزملق

جاءت به عنس من الشأم تلق

يقال: رجل زلق وزملق مثال: هدبد وزمالق وزملق (بتشديد الميم) وهو الذي ينزل قبل أن يجامع، قال الراجز:

إن الحصين زلق وزمّلق.

والولق: أيضاً أخف الطعن، وقد ولقه يلقه ولقاً، يقال: ولقه بالسيف ولقات، أي ضربات فهو مشترك.

ص: 18

الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم} [(15) سورة النور] مبالغة وإلزام وتأكيد والضمير في {وَتَحْسَبُونَهُ} [(15) سورة النور] عائد على الحديث، والخوض فيه والإذاعة له، و {هَيِّنًا} أي: شيئاً يسيراً، لا يلحقكم فيه إثم {وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} في الوزر {عظيم} ، وهذا مثل قوله عليه السلام في حديث القبرين:((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير)) أي بالنسبة إليكم.

الرابعة عشرة: قوله تعالى: {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [(18) سورة النور].

عتاب لجميع المؤمنين، أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه، ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه الصلاة والسلام، وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان، وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه، وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

لما حذر النبي عليه الصلاة والسلام عن الغيبة، قيل له عليه الصلاة والسلام: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)) فالبهتان -نسأل الله السلامة والعافية- أعظم مع أن الغيبة محرمة.

ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة و {أن} مفعول من أجله بتقدير: كراهية أن أو خشية أن ونحوه.

الخامسة عشرة: قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [(17) سورة النور] توقيف وتوكيد كما تقول: ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلاً.

يعني من باب الإغراء.

ص: 19

السادسة عشرة: قوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [(17) سورة النور] يعني في عائشة؛ لأن مثله لا يكون إلا نظير القول في المقول عنه بعينه أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم لما في ذلك من أذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله، وذلك كفر من فاعله

الطالب: أذاية يا شيخ!

إيه أذاية – المقصود بها الأذى-، نعم.

السابعة عشرة: قال هشام بن عمار سمعت مالكاً يقول: من سب أبا بكرٍ وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل؛ لأن الله تعالى يقول:{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [(17) سورة النور] فمن سبّ عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل، قال ابن العربي: قال أصحاب الشافعي من سبّ عائشة رضي الله عنها أدب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله:{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} في عائشة لأن ذلك كفر، وإنما هو كما قال عليه السلام:((لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه)) ولو كان سلب الإيمان في سب من سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)) حقيقة، قلنا: ليس كما زعمتم، فإن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى، فكل من سبها بما برأها الله منه مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر، فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر، ولو أن رجلاً سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب ..

بغير ما اتهمت به من الإفك، يعني سبها لأمرٍ آخر، لرأيٍ رأته أو لتصرفٍ تصرفته، مثل هذا يؤدب، لكن ليس مثل ما لو قذفها مما نزل الله ببراءتها منه –نسأل الله السلامة والعافية-.

ص: 20

الثامنة عشرة: قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [(19) سورة النور] أي: تفشو، يقال: شاع الشيء شيوعاً وشيعاً وشيعاناً وشيعوعة: أي ظهر وتفرق {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} [(19) سورة النور] أي في المحصنين والمحصنات، والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان رضي الله عنهما والفاحشة: الفعل القبيح المفرط القبح، وقيل: الفاحشة في هذه الآية القول السيء {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا} أي الحد، وفي الآخرة عذاب النار، أي للمنافقين فهو مخصوص، وقد بيّنا أن الحد للمؤمنين كفارة، وقال الطبري: معناه إن مات مصراً غير تائب ..

ص: 21

في قول الله -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أولاً: اللفظ على عمومه، واسم الموصول من صيغ العموم، فالذين يحبون أن تشيع الفاحشة بمعنى أنها تكثر وتنتشر، فييسرون أسبابها، ويسهلون سبلها، سب الفاحشة، يعني يرغبون أن تكون الفاحشة في كل بلد، وفي لك حي، تيسيراً لأهلها، لأهلها من الأشرار، هؤلاء لهم العذاب الذي يترب على هذا الأمر، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة –نسأل الله السلامة والعافية-، لأن من يرضى ويحب ما يكرهه الله هذا على خطر عظيم –نسأل الله السلامة– لأنها محادة ومعاندة، فالذي يحب أن تشيع الفاحشة وتكثر، هذه الفاحشة وغيرها من المنكرات مثل هذا متوعد بهذا العذاب العظيم، وليس المراد بذلك إشاعة الخبر، المراد بذلك إشاعة الفاحشة نفسها، إشاعة الفعل، أما إشاعة خبر الفاحشة وما ترتب عليها من حد من أجل قمع من يرتكبها فهذا مطلوب، {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(2) سورة النور] هذا لا بد أن يشيع وينتشر في الناس لكي يرتدعوا، وإلا لما شرع حضور هذه الطائفة، ولما كانت إقامة الحدود معلنة، لكانت إقامة الحدود في بيوت أو في أماكن لا يحضرها الناس، لكن الحدود إنما تقام في البلدان حيث مجتمعات الناس، وقد أمر بشهودها، من أجل أن يشع الخبر فيرتدع من تسول له نفسه ارتكاب هذه الفاحشة، وأما بالنسبة للمراد بالآية، يحبون أن تشيع الفاحشة معناها أن تكثر، وذلك بتيسير سبلها والتسهيل على أهلها، ولا شك أن الستر مطلق على أهل الفواحش، وعدم إقامة الحدود عليهم من إشاعة الفاحشة، لأن هذا ييسر لهم، ويسهل لهم ارتكاب الفاحشة إذا أمنوا العقوبة.

طالب. . . . . . . . .

الشيخ: القول القبيح والفعل القبيح، كل شيء محرم لا يجوز تسهيله وتيسيره وإشاعته بين الناس، لا يجوز هذا بحال.

طالب. . . . . . . . .

المقصود إذا كان يحب أن تنتشر هذه الفواحش وتكثر في أحياء المسلمين وفي مجتمعاتهم داخل في الآية.

طالب. . . . . . . . .

أصل الصور القبيحة الفاحشة، الفحش، الذنب الكبير الذي يفحش ويعظم، وهذا لا شك أنه وسيلة وتوطئه للفاحشة، فالوسائل لها أحكام الغايات.

ص: 22

طالب: لكن من ينشرها هل يعد محباً لها أم هم قائم بنشرها؟ يعني هو الذي أشاع الفاحشة؟

هو الذي أشاع الفاحشة.

طالب: فوق المحبة؟

نعم، هو يحبها ولو المحبة لما نشرها –نسأل الله السلامة والعافية-.

طالب: يعني يكون يا شيخ إثمه أعظم؟

بلا شك، لأن الذي يحب أن تشيع قد يكون في بعض الصور أعظم ممن يفعل الفاحشة، لأن محبة إشاعة الفاحشة يعني أنها يحب أن يحصل هذا المنكر على نطاق واسع، لكن لو فعل مرة أو مرات بنفسه، واستتر بذلك أسهل ممن يحب أن تشيع وينتشر في المجتمع، لأن العذاب المعجل إنما يرتب على المعاصي والجرائم الكبيرة التي لا تجد من ينكرها، وإذا كثرت هذه الفواحش وشاعت بين الناس صعب إنكارها، وصارت بما عمت به البلوى، كما هو حال كثير من البلدان التي تنتسب إلى الإسلام، وقبل ذلك إشاعة الأسباب والوسائل التي من أجلها ترتكب هذه الفواحش.

طالب: المحبة عمل قلبي، فلو شخص فتح الجوال، وشاهد مثل هذه الصور المحرمة، وضحك لذلك وسرّ بذلك، هل يدخل في الوعيد؟

هو حرص على أن يرسل إليه مثل هذه الصور، أو حرص على أن يشتري الصحف والمجلات التي فيها هذه الصور، لا شك أن مثل هذا محب لهذا العمل الذي هو وسيلة للفاحشة.

طالب ....

إذا جاء ما يدل عليه، يعني إذا عورض العموم، أو جاء ما يدل على أنه مراد به الخصوص مثل قول الله -جل وعلا-:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [(173) سورة آل عمران] هل المراد بقوله: {الناس} جميع الناس، الذين قال لهم الناس يعني جميع الناس جاؤوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقالوا له عليه الصلاة والسلام: إن جميع الناس قد جمعوا لكم؟ لا، الذي قال لهم الناس شخص واحد اسمه: نعيم بن مسعود، إن الناس هم أهل الأحزاب الذين تجمعوا لحربه عليه الصلاة والسلام.

طالب: توجيه لمن يذكر بعض قصص الفواحش بالتفصيل، محاضرات وخطب.

ص: 23

والله هذه الأمور بمقاصدها، لكن ينبغي أن يحترز من شيءٍ واحد؟ وهو أن هذا التفصيل قد يفيد بعض الناس أن يصيدوا بمثل هذه الظروف فيرتكبوا مثل هذه الظروف والملابسات التي احتفت بهذه القضية ليصلوا إلى ما وصل إليه صاحب القضية؛ لأن بعض الناس ينشر وسائل تسهل للناس ارتكاب الجرائم، وجاء في بعض المسلسلات، وجاء في بعض التمثيليات تسهيل لبعض الجرائم كالسرقة والاغتصاب وغيره بذكر وسائل من طريق أناس محترفين فتجد الشباب والصبيان يقلدونهم ليصلوا ما وصلوا إليه، فهذا لا شك أنه تسهيل لأمر الفاحشة شاء أم أبى.

التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} [(19) سورة النور] أي: يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه، ويعلم كل شيء. {وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} روي من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها، وأيما رجل قال بشفاعته دون حدّ من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقا، ً وأقدم على سخطه، وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة، وهو منها بريء، يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله تعالى أن يرميه بها في النار -ثم تلا مصداقه من كتاب الله تعالى-:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} الآية.

مخرج؟

طالب: ضعيف، أخرجه الطبراني كما في المجمع من حديث أبي الدرداء، وقال حيث فيه من لم أعرفه -يعني في مجال-.

نفس الشيء؟ نعم.

ص: 24

الموفية عشرين: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [(21) سورة النور] يعني مسالكه ومذاهبه، المعنى: لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليها الشيطان وواحد الخطوات خطوة، وهو ما بين القدمين، والخطوة (بالفتح) المصدر يقال: خطوت خطوةً، وجمعها خطوات، وتخطّى إلينا فلان، ومنه الحديث: أنه رأى رجلاً يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، وقرأ الجمهور {خطوات} بضم الطاء وسكنها عاصم والأعمش، وقرأ الجمهور {ما زكا} بتخفيف الكاف، أي: ما اهتدى، ولا أسلم، ولا عرف رشداً، وقيل:{ما زكا} أي ما صلح يقال: زكا يزكو زكاء، أي صلح وشددها الحسن وأبو حيوة: أي أن تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم، وقال الكسائي:: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} معترض وقوله: {مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [(21) سورة النور] جواب لقوله أولاً وثانياً {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} .

ص: 25

خطوات الشيطان، الشيطان يعرف أنه لو بدأ بالغاية ما ووفق، ما وافقه من ينتسب إلى الإسلام، لأن لو قال للإنسان: اكفر قال: ما أكفر، لكن يبدأ به خطوات، يبدأ به بالمكروهات والشبهات، ثم لا يلبث أن يتجاوز به إلى المحرمات، ثم المحرمات تهون عليه وتسهل فلا يكون هناك سد يحول بينه وبين الكفر، لأنه إذا تساهل بالمحرمات تساهل بما فوقها من الكبائر والموبقات، ثم إذا هانت عليه هذه ما صار بينه وبين الشرك والكفر حاجز معين سياج يمنعه من اقتحامه يسهل عليه ارتكابه، وهذا أمر مشاهد أن من يتساهل في أول الأمر لا ينتهي إلى حد، فخطوات الشيطان يبدأ بأدنى الوسائل، يقول مثلاً: النساء الآن قلت: الأعمال عندهن في بيوتهن، وكل امرأة عندها خادمة ولا تستطيع أن تصنع شاهي، فهي دائماً جالسة، ولذلك ركبتها الشحوم، وتوالت عليها الأمراض، وهددت بالأخطار، لا بد لها من رياضة، تقول: افعلي رياضة في البيت، المسألة مسألة كسل متراكم ما تعان على أن تزاول الحركة في البيت، لو كانت تتحرك لاشتغلت في أعمالها الأصلية، لكن لا تتحرك، لا بد أن تلزم، وفي البيوت ما يستطيع أحد أن يلزم، ما لها إلا في المجامع العامة وفي المدارس بحيث يوضع لها درجات تلتزم بها، هذه خطوة من خطوات الشيطان، الخطوة الأولى يقول تحتشم، احتمال في أول الأمر أن يقول: تلعب، تزاول الرياضة بعباءتها، ما المانع؟ وفي محيط نساء، وقد يقال في أول الأمر في الفصل نفسه لا في الفناء، ثم بعد ذلك يقال الفصل غير مناسب، كراسي وطاولات ومدري إيش؟ اخرجن في الأسياب أوسع شوي، ثم الخطوة التي تليها في الفناء، ثم بعد ذلك هذا اللباس، هي في محيط نساء، وهذه الألبسة تعيقها أن تزاول ما تريد بحرية، ثم بعد ذلك يقضي عليها من حيث لا تشعر، ثم تقع في الغايات، مثل ما وقع من وقع في البلدان المجاورة، يعني أعظم درس نستفيده ما وقع فيه جيراننا من المسلمين وغيرهم، يعني المسألة خطوات لو تتبعنا تاريخ هذه الفواحش التي انتشرت في البلدان الإسلامية، لوجدناها إتباعاً لخطوات الشيطان، هي تخطيط خبيث مغرض من شياطين الإنس يوحي إليه شياطين الجن بهذه الخطوات ويطبق وينفذ وينظر والناس يتبعونه كالأغنام، يأتي بمبرر مقبول ثم

ص: 26

الخطوة الأولى تسهل على الناس ثم الثانية ثم الثالثة، كنا نتساءل عن هؤلاء اللواتي يزاولن بعض الأعمال التي لا تخطر على عقل، بنت من بيت مسلم محافظ تخرج شبه عارية تغني بين الناس في الملأ، كنا نسأل الوافدين من تلك البلدان، هل لهؤلاء البنات آباء؟ يعني هل هن من أسر، من أبٍ وأمٍ مسلمين؟ وإلا من لا أنساب لهم؟ ولا أحد يغار عليهم؟ قال: لا هؤلاء من الأسر الكبيرة، لأنهم يعدون هذا تطور وتقدم، هذه خطوات الشيطان، يملي عليهم شيئاً فشيئاً .. الخ إلى أن يكون هذا هو القدوة، يكون هذا قدوة في المجتمع، ولذلك تجدون أرذال الناس تجدونهم القدوات الآن، والدعايات بأسمائهم، وصورهم يكتسب من وراءها الملايين وهكذا، وهم أرذال الناس وأسافلهم، لكنها خطوات الشيطان، يعني تساهلنا في الخطوة الأولى، الخطوة الثانية أختي أختي تليها بلا محالة، ثم الثالثة إلى أن نجد أنفسنا في وحل، لا نستطيع الخروج منه، وعلى هذا على من ولاه الله الأمر وبيده حل وعقد لا يجوز له أن يجيز الخطوة الأولى مهما كانت الظروف يعني تموت المرأة في بيتها من الأمراض ولا ترتكب ما حرم الله عليها، فإن ما عند الله لا ينال بسخطه؟ ترجون العافية من الله -جل وعلا-، فكيف تطلب بما يسخط الله -جل وعلا-، ولم يجعل الله -جل وعلا- شفاء أمتي كما في الحديث فيما حرم عليها. فهذه صورة لخطوات الشيطان، من اتبع خطوات الشيطان، اتبع الخطوة الأولى لا بد أن يقع في الثانية، لأن المبررات موجودة، مرصودة من الأصل، ومضبوطة ومتقنة إلى أن تخرج إلى الشارع عريانة، لكنها تدرج في المجتمع، لأن المجتمع ما يقبل مثل هذا في أول الأمر، فخطوات الشيطان التي يمليها على أوليائه ينتظرون بها الفرص المناسبة، نسأل الله السلامة والعافية.

طالب ....

لا بد من النصيحة، لا بد من التحذير، لا بد من النكير.

ص: 27

الحادية والعشرون: قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} [(22) سورة النور] الآية، المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة، وذلك أنه كان ابن بنت خالته، وكان من المهاجرين البدريين المساكين، وهو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف وقيل: اسمه عوف ومسطح لقب، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الإفك، وقال فيه مسطح ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه، ولا ينفعه بنافعة أبداً، فجاء مسطح فاعتذر، وقال: إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع، ولا أقول، فقال له أبو بكر: لقد ضحكت وشاركت فيما قيل، ومرّ على يمينه، فنزلت الآية ..

يعني مضى عليه لأن أبا بكر أقسم وحلف ألا ينفق على مسطح، وهذا إجراء طبيعي بالنسبة لعموم الناس، يعني وقعت منه هذه الزلة العظيمة، وهي مسألة ما هي مسألة مال أو حتى مسألة دم، لا هذه مسألة عرض، لا بد أن يتخذ موقف ينتصر فيه لنفسه، ولابنته التي رميت بما رميت به، لكن ما جاء في القرآن أعظم من ذلك، يعني ذاك باب وأخذ نصيبه وحد عليه وأما مسألة النفقة التي تتعلق بك أنت وفضلك والثواب المترتب عليها بالنسبة لك لا ينقطع.

وقال الضحاك وابن عباس: إن جماعةً من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا: والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة، فنزلت الآية في جميعهم، والأول أصح، غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع من هذه صفته غابر الدهر.

ص: 28

روى الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} [(11) سورة النور] العشر آيات، قال أبو بكر -وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره-: والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً، بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله تعالى:{وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [(22) سورة النور] قال عبد الله بن المبارك: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: لا أنزعها منه أبداً.

الثانية والعشرون: في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيراً لا يحبط الأعمال؛ لأن الله تعالى وصف مسطحاً بعد قوله بالهجرة والإيمان ..

فدل على أن أمر الهجرة والإيمان قائم، ما حبط بمجرد القذف.

وكذلك سائر الكبائر، ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال الله تعالى:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [(65) سورة الزمر] ..

على خلافٍ بين أهل العلم أن حبوط الأعمال هو بمجرد الشرك أو بالموت عليه، يظهر هذا فيمن حج ثم حصل منه ما يحكم بردته من أجله ثم رجع وتاب وأناب هل يحبط ويبطل الحج الذي حجه؟ فيلزمه إعادته؟ أو نقول: أنه ما مات على الشرك فيموت وهو كافر؟ بهذا القيد والأكثر على هذا.

طالب .. صلاة العصر؟

حبط عمله! لكن مع ذلك هذا مجرد تغليظ، هذا تغليظ، لأن الكلام والخلاف في الشرك، هل يحبط عمل من مات على الإسلام، بمعنى أنه أشرك وارتد ثم عاد إلى الإسلام هل يحبط عمله السابق أو لا يحبط أو حبوط مشروط بموته على الكفر؟.

طالب: في قوله يا شيخ: لا يحبط الأعمال إلا الشرك.

صحيح: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} .

الطالب: لكن ورد حديث بحبوط العمل؟

لكن من ورد بالحبوط، الحبوط حبوط نسبي.

الطالب: .. الصلاة مثلاً، أجر الصلوات السابقة، كيف يوجه الحديث؟

ص: 29

على كل حال: المسألة متفاوتة، الصلاة دون الشرك، ومع ذلك هو كفر، وشرك في الوقت نفسه، لكن شرك مختلف فيه هل هو مخرج أو غير مخرج؟ بينما الشرك، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} فهو أعظم من الصلاة من هذه الحيثية، وإن كان يدخل فيه الشرك الأصغر على قول، فالمسألة تحتاج إلى بسط.

الثالثة والعشرون: من حلف على شيء لا يفعله فرأى فعله أولى منه أتاه وكفّر عن يمينه أو كفر عن يمينه وأتاه، كما تقدم في المائدة، ورأى الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوباً وأبّد ذلك أنها جرحة في شهادته.

لأنه حلف أن لا يفعل السنة، ومن داوم على تركها فهو رجل سوء.

ذكره الباجي في المنتقى.

الرابعة والعشرون: قوله تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ} [(22) سورة النور]{وَلَا يَأْتَلِ} معناه: يحلف وزنها يفتعل من الألية، وهي اليمين، ومنه قوله تعالى:{لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} [(226) سورة البقرة] وقد تقدم في البقرة. وقالت فرقة: معناه يقصر ..

ومنه الإيلاء المعروف، الإيلاء أن يحلف الرجل أن لا يطأ زوجته أربعة أشهر فأكثر.

من قولك: ألوت في كذا إذا قصرت فيه، ومنه قوله تعالى:{لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [(118) سورة آل عمران].

الخامسة والعشرون: قوله تعالى: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [(22) سورة النور] تمثيل وحجة: أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم، فكذلك اغفروا لمن دونكم وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام:((من لا يرحم لا يرحم)).

ص: 30

السادسةُ والعشرون: قال بعض العلماء: هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ، وقيل: أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [(47) سورة الأحزاب] وقد قال تعالى في آية أخرى: {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} [(22) سورة الشورى] فشرح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشر به المؤمنين في تلك، ومن آيات الرجاء قوله تعالى:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} [(53) سورة الزمر] وقوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [(19) سورة الشورى] وقال بعضهم: أرجى آية في كتاب الله عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [(5) سورة الضحى] وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار.

السابعة والعشرون: قوله تعالى: {أَن يُؤْتُوا} [(22) سورة النور] أي لا يؤتوا فحذف {لا} كقول القائل:

فقلت يمين الله أبرح قاعدا. ذكره الزجاج، وعلى قول أبي عبيدة لا حاجة إلى إضمار {لا} {وَلْيَعْفُوا} من عفا الربع أي درس، فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع.

يكفي بارك الله فيك. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 31