الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكفر الأكبر
أ. د. عبد الله بن عبد العزيز الجبرين
الأستاذ بكلية المعلمين بالرياض
ملخص البحث
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد:
فهذا بحث في موضوع مهم من مواضيع العقيدة الإسلامية، وهو “ الكفر الأكبر ” وقد اشتمل على مقدمة مختصرة، ومبحثين وخاتمة.
المبحث الأول: تعريف الكفر الأكبر وحكمه.
المبحث الثاني: أنواعه.
وقد تكلمت في الخاتمة عن مسألة مهمة جداً، وهي “ تكفير المعين ” وقد حرصت أن يكون هذا البحث مناسباً للمتوسطين والمتخصصين، فجعلت المتن يناسب المتوسطين، وتوسعت في الحواشي ليستفيد منها المتخصصون، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المقدمة:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، والذي ما ترك حقاً إلا بينه وحث عليه ولا ترك أمراً يقدح في دين العبد أو يكون سبباً في خلود المسلم في النار إلا وضحه وحذر منه.
أما بعد:
فهذا بحث في موضوع من أهم موضوعات العقيدة الإسلامية وهو “ الكفر الأكبر ” اتبعت فيه طريقة (المتن والحاشية) وذلك ليكون في المتن شيء من الاختصار بحيث يكون مناسباً للمتوسطين من طلبة العلم وتوسعت في الحواشي ليستفيد منها المتخصصون ومن يريد التوسع في مسائل هذا الموضوع، وقد حرصت في كتابته على سهولة العبارة ووضوح الأسلوب.
وقد اشتمل هذا البحث على هذه المقدمة المختصرة ومبحثين وخاتمة:
المبحث الأول: تعريف الكفر الأكبر وحكمه.
المبحث الثاني: أنواع الكفر الأكبر.
الخاتمة: في تكفير المعين، وفي التحذير من التسرع في التكفير.
أسأل الله أن يرزقني الإخلاص والإصابة، وأن ينفع بهذا العمل عباده، وأن يكتب لمؤلفه الأجر والمثوبة، وأن يغفر ذنوبه إنه غفور رحيم جواد كريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المبحث الأول: تعريفه وحكمه:
الكفر في اللغة: بمعنى الستر والتغطية، يقال لمن غطى درعه بالثوب: قد كفر درعه. ويقال للمزارع: "كافراً" لأنه يغطي البذر بالتراب، ومنه سمي الكفر الذي هو ضد الإيمان "كفراً"؛ لأن فيه تغطية للحق بجحد أو غيره، وقيل: سمي الكافر " كافراً" لأنه قد غطى قلبه بالكفر ( [1] ) .
والكفر في الاصطلاح: اعتقادات وأقوال وأفعال ( [2] ) جاء في الشرع ما يدل على أن من وقع فيها ليس من المسلمين ( [3] )
وحكم الكفر الأكبر هو أن من وقع فيه فليس من المسلمين، وهو مخلد في النار.
وإذا وقع المسلم في الكفر أو الشرك وحكم بكفره فهو " مرتد " يجب قتله إن لم يتب ويرجع إلى الإسلام ( [4] ) لقوله صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه " رواه البخاري ( [5] )، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"" لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة". رواه البخاري ومسلم ( [6] ) .
المبحث الثاني: أنواع الكفر
للكفر أنواع كثيرة، أهمها:
1-
كفر الإنكار والتكذيب:
وهو أن ينكر المكلف شيئاً من أصول الدين، أو أحكامه، أو أخباره الثابتة ثبوتاً قطعياً.
وذلك بأن ينكر بقلبه ( [7] ) ، أو لسانه ( [8] ) أصلاً من أصول الدين، أو حكماً من أحكامه، أو خبراً من أخباره المعلومة من دين الإسلام بالضرورة ( [9] ) والتي ورد في شأنها نص صريح من كتاب الله تعالى، أو وردت في شأنها أحاديث نبوية متواترة تواتراً معلوماً ( [10] ) ، وأجمع أهل العلم عليها إجماعاً قطعياً ( [11] ) ، أو ينكر ما يجزم هو في قرارة نفسه بأنه من دين الله تعالى ( [12] ) .
ومثل الإنكار بالقلب واللسان: أن يفعل ما يدل على إنكاره شيئاً من دين الله تعالى ( [13] ) .
وقد أجمع العلماء على كفر من وقع في هذا النوع – أي كفر الجحود ( [14] ) ؛ لأنه مكذب لكلام الله تعالى وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، رادّ لهما ولإجماع الأمة القطعي.
ومن أمثلة هذا النوع من أنواع الكفر الأكبر:
أ- أن ينكر شيئاً من أركان الإيمان أو غيرها من أصول الدين، أو ينكر شيئاً مما أخبر الله عنه في كتابه، أو ورد في شأنه أحاديث متواترة وأجمع أهل العلم عليه إجماعاً قطعياً، كأن ينكر ربوبية الله تعالى أو ألوهيته، أو ينكر اسماً أو صفة لله تعالى مما أجمع عليه إجماعاً قطعياً، كأن ينكر صفة العلم ( [15] ) ، أو ينكر وجود أحد من الملائكة المجمع عليهم كجبريل أو ميكائيل – عليهما السلام – ( [16] ) ، أو ينكر كتاباً من كتب الله المجمع عليها، كأن ينكر الزبور أو التوراة أو القرآن ( [17] ) ، أو ينكر نبوة أحد من الأنبياء المجمع عليهم، كأن ينكر رسالة نوح أو إبراهيم أو هود – عليهم السلام – ( [18] ) ، أو ينكر البعث للأجساد والأرواح، أو ينكر الحساب أو الجنة أو النار، أو ينكر نعيم القبر أو عذابه، أو ينكر أن الله تعالى قدر جميع الأشياء قبل حدوثها.
ومنه أن يصحح أديان الكفار كاليهود أو النصارى أو غيرهم، أو لا يكفرهم ( [19] )، أو يقول: إنهم لن يخلدوا في النار، ومنه أن ينسب نفسه إلى غير دين الإسلام ( [20] ) ، ومنه أن ينكر صحبة أبي بكر، أو يقول بردة الصحابة أو أكثرهم، أو يقول بفسقهم كلهم، أو ينكر وجود الجن، أو ينكر إغراق قوم نوح ( [21] ) .
ب- أن ينكر تحريم المحرمات الظاهرة المجمع على تحريمها، كالسرقة، وشرب الخمر، والزنى، والتبرج، والاختلاط بين الرجال والنساء، ونحو ذلك، أو يعتقد أن أحداً يجوز له الخروج على شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يجب عليه الالتزام بأحكامها، فيجوز له ترك الواجبات وفعل المحرمات ( [22] ) ، أو يعتقد أن أحداً يجوز له أن يحكم أو يتحاكم إلى غير شرع الله تعالى.
ج- أن ينكر حِلّ المباحات الظاهرة المجمع على حلها، كأن يجحد أكل لحوم بهيمة الأنعام، أو ينكر حل تعدد الزوجات، أو حل أكل الخبز، ونحو ذلك.
د- أن ينكر وجوب واجب من الواجبات المجمع عليها إجماعاً قطعياً، كأن ينكر وجوب ركن من أركان الإسلام، أو ينكر أصل وجوب الجهاد، أو أصل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أو ينكر سنية سنة من السنن أو النوافل المجمع عليها إجماعاً قطعياً، كأن ينكر شيئاً من السنن الرواتب، أو ينكر استحباب صيام التطوع، أو حج التطوع، أو صدقة التطوع، ونحو ذلك ( [23] ) .
النوع الثاني: كفر الشك والظن:
وهو أن يتردد المسلم في إيمانه بشيء من أصول الدين المجمع عليها، أو لا يجزم في تصديقه بخبر أو حكم ثابت معلوم من الدين بالضرورة.
فمن تردد أو لم يجزم في إيمانه وتصديقه بأركان الإيمان أو غيرها من أصول الدين المعلومة من الدين بالضرورة، والثابتة بالنصوص المتواترة، أو تردد في التصديق بحكم أو خبر ثابت بنصوص متواترة مما هو معلوم من الدين بالضرورة فقد وقع في الكفر المخرج من الملة بإجماع أهل العلم ( [24] ) ؛ لأن الإيمان لابد فيه من التصديق القلبي الجازم، الذي لا يعتريه شك ولا تردد، فمن تردد في إيمانه فليس بمسلم، وقد أخبرنا الله تعالى في قصة صاحب الجنة أنه كفر بمجرد شكه في أنه جنته – أي بستانه - لن يبيد – أي لن يخرب - أبداً، وشكه في قيام الساعة، حين قال:] ما أظن أن تبيد هذه أبداً [يريد جنته، وحين قال:] وما أظن الساعة قائمة [، فقال له صاحبه المؤمن:] أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً [[الكهف:35-38]( [25] ) .
ومن أمثلة هذا النوع: أن يشك في صحة القرآن، أو يشك في ثبوت عذاب القبر، أو يتردد في أن جبريل – عليه السلام – من ملائكة الله تعالى، أو يشك في تحريم الخمر، أو يشك في وجوب الزكاة، أو يشك في كفر اليهود أو النصارى، أو يشك في سنية السنن الراتبة، أو يشك في أن الله تعالى أهلك فرعون بالغرق، أو يشك في أن قارون كان من قوم موسى، وغير ذلك من الأصول والأحكام والأخبار الثابتة المعلومة من الدين بالضرورة، والتي سبق ذكر أمثلة كثيرة لها في النوع الأول.
النوع الثالث: كفر الامتناع والاستكبار:
وهو: أن يؤمن بأصول الإسلام وأحكامه بقلبه ولسانه ( [26] ) ، ولكن يرفض الانقياد بجوارحه لحكم من أحكامه ( [27] ) استكباراً وترفعاً.
وقد أجمع أهل العلم على كفر من امتنع من امتثال حكم من أحكام الشرع استكباراً ( [28] ) ؛ لأنه معترض على حكمة الله تعالى، وهذا قدح في ربوبيته جلّ وعلا، وإنكار لصفة من صفات الله تعالى الثابتة في الكتاب والسنة، وهي صفة "الحكمة"( [29] ) .
وأوضح مثال على هذا النوع من أنواع الكفر: رفض إبليس امتثال أمر الله تعالى بالسجود لأبينا آدم – عليه السلام – استكباراً وترفعاً عن هذا الفعل الذي أمره الله تعالى به، معترضاً على ذلك بأنه هو أفضل من آدم، فلن يسجد له، حيث قال:] أنا خير منه خلقتني من نار وخلقتَه من طين [[الأعراف:12]، وقال:] أأسجد لمن خلقتَ طيناً [[الإسراء:61] فاعترض على حكمة الله تعالى في هذا الأمر، ورفض الانقياد له من أجل ذلك.
ومن أمثلة هذا الكفر أيضاً أن يرفض شخص الحج تكبراً أن يحج مع الفقراء، أو يمتنع عن الصلاة في المسجد، لئلا يصلي بجانب العامة والفقراء، ونحو ذلك ( [30] ) .
النوع الرابع: كفر السبّ والاستهزاء:
وهو أن يستهزئ المسلم أو يسبّ شيئاً من دين الله تعالى مما هو معلوم من الدين بالضرورة، أو مما يعلم هو أنه من دين الله تعالى.
وذلك بأن يستهزئ بالقول أو الفعل ( [31] ) بالله تعالى، أو باسم من أسمائه، أو بصفة من صفاته المجمع عليها، أو يصف الله تعالى بصفة نقص، أو يسب الله تعالى ( [32] ) ، أو يسب دين الله تعالى كأن يلعن هذا الدين، أو يلعن دين شخص مسلم، أو يقول: إن هذا الدين متخلف، أو رجعي، أو لا يناسب هذا العصر، أو يستهزئ بملائكة الله تعالى، أو بواحد منهم: كأن يسب ملك الموت، أو خزنة جهنم ( [33] ) ، أو يستهزئ أو يسب شيئاً من كتب الله، كأن يسب القرآن، أو يستهزئ به أو بآية منه بالقول، أو بالفعل بأن يهينه بوضعه في القاذورات ( [34] ) ونحو ذلك، أو يسب أحداً من أنبياء الله المجمع على نبوتهم أو يستهزئ بهم، كأن يسب النبي e أو يستهزئ به، أو يستهزئ بشيء من ما ثبت في القرآن أو السنة من الواجبات أو السنن، كأن يستهزئ بالصلاة، أو يستهزئ بالسواك، أو بتوفير اللحية، أو بتقصير الثوب إلى نصف الساقين مع علمه بأن ذلك من دين الله تعالى، أو يستهزئ بشخص لتطبيقه واجباً أو سنة ثابتة يعلم بثبوتها، وأنها من دين الله، أو يسب مسلماً من أجل التزامه بدين الله تعالى.
وقد أجمع أهل العلم على كفر من سبّ أو استهزأ بشيء مما ثبت أنه من دين الله تعالى، سواء كان هازلاً أم لاعباً أم مجاملاً لكافر أو غيره، أم في حال مشاجرة، أم في حال غضب ( [35] ) ، أم غير ذلك ( [36] ) ؛ لأن الله تعالى قد حكم بكفر من استهزأ بالله تعالى وبآياته وبرسوله محمد e، مع أنهم كما قالوا كانوا يلعبون ويقطعون الطريق بذلك ( [37] )، كما قال تعالى:] ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم.. [ ( [38] ) [التوبة:66،65] ؛ ولأن من فعل ذلك فهو مستخف بالربوبية والرسالة ومستخف بعموم دين الله تعالى غير معظِّم لذلك كله، وهذا مناف للإيمان والإسلام ( [39] ) .
النوع الخامس: كفر البغض:
وهو أن يكره شيئاً من دين الله تعالى ( [40] ) .
وقد أجمع أهل العلم على كفر من أبغض شيئاً من دين الله تعالى ( [41] )، لقوله سبحانه: {ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم [[سورة محمد:9] ، ولأنه حينئذٍ يكون غير معظم لهذا الدين ( [42] ) ، بل إن في قلبه عداوة له، وهذا كله كفر ( [43] ) .
ومن أمثلة هذا النوع: أن يكره شيئاً من دين الله مما أجمع أهل العلم عليه، أو مما يعلم هو أنه من دين الله تعالى، وقد سبق ذكر بعض الأمثلة عند الكلام على كفر الجحود وكفر السب والاستهزاء، فجميع ما ذكر فيهما من أبغض شيئاً منه فقد كفر.
ومن الكره الذي يوقع في الكفر ويخشى على كثير من المسلمين من الوقوع فيه: أن يفعل المسلم بعض المحرمات ثم يكره أن الله حرمها، أو يترك فعل بعض الواجبات ويكره أن الله أوجبها.
ومن ذلك: أن يتكاسل عن أداء صلاة الفجر في وقتها، فينام عنها حتى تطلع الشمس، ثم يكره أن الله شرعها في هذا الوقت، ويكره أن الله تعالى أوجب الصلاة في المساجد مع جماعة المسلمين.
ومنه أن يأكل الربا أو يتعاطى الرشوة، ويكره أن الله حرمهما، أو يسبل ثيابه أسفل من الكعبين ويكره أن الله حرمه، أو يحلق شعر العارضين والذقن – وهو شعر اللحية – ويكره أن الله أوجب توفيره.
فكل من كره شيئاً من هذه الأمور كفر، ولو فعل الواجب منها وترك المحرم؛ لأن الكفر إنما هو بسبب كرهم لشيء من هذه الأحكام الشرعية لا غير.
ومن أمثلة هذا النوع أيضاً والتي يخشى على بعض المسلمين من الوقوع فيها: أن يكره الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، من أجل أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، أو يكره أحداً من المسلمين لالتزامه بشرع الله، سواء كان من أقاربه أم من غيرهم، أو يكره أن يحكم المسلمون بشرع الله، أو يكره أن يتمسك المسلمون بدينهم ونحو ذلك، فهذا كله من الكفر المخرج من الملة.
النوع السادس: كفر الإعراض:
ورد ذكر الإعراض في كتاب الله تعالى في آيات كثيرة، وأصل الإعراض هو: التولي عن الشيء، والصدود عنه، وعدم المبالاة به.
والإعراض عن دين الله تعالى قسمان:
القسم الأول: إعراض مكفر: وهو أن يترك المرء دين الله ويتولى عنه بقلبه ولسانه وجوارحه، أو يتركه بجوارحه مع تصديقه بقلبه ونطقه بالشهادتين.
وهذا القسم له ثلاث صور، هي:
1-
الإعراض عن الاستماع لأوامر الله عز وجل، كحال الكفار الذين هم باقون على أديانهم المحرفة أو الذين لا دين لهم، ولم يبحثوا عن الدين الحق مع قيام الحجة عليهم، فهم أعرضوا عن تعلم ومعرفة أصل الدين الذي يكون به المرء مسلماً، فهم يمكنهم معرفة الدين الحق والسير عليه، ولكنهم لم يلتفتوا إلى ذلك، ولم يرفعوا به رأساً.
2-
الإعراض عن الانقياد لدين الله الحق وعن أوامر الله تعالى بعد استماعها ومعرفتها، وذلك بعدم قبولها فيترك ما هو شرط في صحة الإيمان، وهذا كحال الكفار الذين دعاهم الأنبياء وغيرهم من الدعاة إلى الدين الحق، أو عرفوا الحق بأنفسهم، فلم يسلموا، وبقوا على كفرهم، قال الله تعالى:] والذين كفروا عما أنذروا معرضون [[الأحقاف:3] .
3-
الإعراض عن العمل بجميع أحكام الإسلام وفرائضه بعد إقراره بقلبه بأركان الإيمان ونطقه بالشهادتين.
فمن ترك جنس العمل بأحكام الإسلام، فلم يفعل شيئاً من الواجبات، لا صلاة ولا صياماً ولا زكاةً ولا حجاً ولا غيرها، فهو كافر كفراً أكبر ( [44] ) بإجماع السلف ( [45] )، لقوله تعالى: {قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين [[آل عمران:32]( [46] )، ولقوله تعالى:] ومن أظلم ممن ذُكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنّا من المجرمين منتقمون [[السجدة:22] ، ولآيات أخرى كثيرة تدل على كفر عموم المعرضين، ولأن تركه لجميع الأعمال الظاهرة دليل على خلو باطنه من الإيمان والتصديق الجازم ( [47] ) .
القسم الثاني: الإعراض غير المكفر: وهو أن يترك المسلم بعض الواجبات الشرعية غير الصلاة ( [48] ) ، ويؤدي بعضها
النوع السابع: كفر النفاق:
وهو أن يظهر الإيمان ويبطن الكفر.
وسيأتي الكلام على هذا النوع مفصلاً في فصل مستقل – إن شاء الله تعالى – عند الكلام على مسائل النفاق.
النوع الثامن: الكفر بموالاة الكافرين:
موالاة الكفار تنقسم إلى قسمين:
1-
ولاء كفري. 2- ولاء غير كفري.
وسيأتي الكلام على صور هذين القسمين في باب مستقل عند الكلام على الولاء والبراء - إن شاء الله تعالى -.
خاتمة فصل الكفر الأكبر:
بعد أن بيَّنتُ تعريف الكفر الأكبر وحكمه وأنواعه أحببت التنبيه إلى مسألة مهمة، وهي: أن المسلم قد يقع في بعض أنواع الكفر الأكبر أو الشرك الأكبر والتي قال أهل العلم: "من فعلها فقد كفر"، ولكن لا يحكم على هذا المسلم المعيّن بالكفر، وذلك لفقد شرط من شروط الحكم عليه بالكفر ( [49] ) ، أو لوجود مانع من ذلك ( [50] ) ، كأن يكون جاهلاً ( [51] ) ، كما في قصة الذي أمر أولاده إذا مات أن يحرّقوه ثم يذروا رماده في يوم شديد الريح في البحر ( [52] ) ، فهو قد شك في قدرة الله على إعادة خلقه، بل اعتقد أنه لا يعاد، وهذا كفر باتفاق المسلمين، ومع ذلك غفر الله له لجهله وخوفه من ربه ( [53] ) .
ومن موانع التكفير للمعيَّن أيضاً: التأويل. فإذا أنكر المسلم أمراً معلوماً من الدين بالضرورة مثلاً، أو فعل ما يدل على إنكاره لذلك، وكان شبهة في تأويل، فإنه يعذر بذلك ولو كانت هذه الشبهة ضعيفة إذا كان هذا التأويل سائغ في لغة العرب وله وجه في العلم، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل السنة ( [1] ) ، حتى لو بلغه الدليل فيما خالف فيه ولم يرجع، إذا احتمل بقاء الشبهة في قلبه، فإنه لا يحكم بكفره، لقوله تعالى:] ليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم [[الأحزاب:5]( [54] ) .
ولذلك لم يكفّر بعض العلماء كثيراً من المعتزلة وكثيراً من الجهمية ( [55] ) وكثيراً من غلاة الأشاعرة الذين ينكرون علو الله تعالى ( [56] )، ويقولون: إن الله تعالى في كل مكان بذاته ( [57] ) ، ومن أجله أيضاً لم يكفر بعض العلماء بعض من يغلون في الموتى ويسألونهم الشفاعة عند الله تعالى ( [58] ) ، ومن أجله كذلك لم يكفر الصحابة – رضي الله عنهم – الخوارج الذين خرجوا عليهم وحاربوهم، وخالفوا أموراً كثيرة مجمعاً عليها بين الصحابة إجماعاً قطعياً ( [59] ) .
وعلى وجه العموم فهذه المسألة مسألة كبيرة من مسائل الاجتهاد التي تختلف فيها أنظار المجتهدين، وللعلماء فيها أقوال وتفصيلات ليس هذا موضع بسطها ( [60] ) .
ولهذا ينبغي للمسلم أن لا يتعجل في الحكم على الشخص المعين أو الجماعة المعينة بالكفر حتى يتأكد من وجود جميع أسباب الحكم عليه بالكفر، وانتفاء جميع موانع التكفير في حقه ( [61] ) ،وهذا يجعل مسألة تكفير المعين من مسائل الاجتهاد التي لا يحكم فيها بالكفر على شخص أو جماعة إلا العلماء الذين بلغوا مرتبة الاجتهاد ( [62] )، لأنه يحتاج إلى اجتهاد من وجهين: الأول: هل معرفة هذا القول أو الفعل الذي صدر من هذا المكلف مما يدخل في أنواع الكفر الأكبر أو لا؟ . والثاني: معرفة الحكم الصحيح الذي يحكم به على هذا المكلف، وهل وجدت جميع أسباب الحكم عليه بالكفر وانتفت جميع الموانع من تكفيره أو لا؟ ( [63] ) .
والحكم على المسلم بالكفر وهو لا يستحقه ذنب عظيم؛ لأنه حكم عليه بالخروج من ملة الإسلام، وأنه حلال الدم والمال، وحكم عليه بالخلود في النار إن مات على ذلك، ولذلك ورد الوعيد الشديد في شأن من يحكم على مسلم بالكفر، وهو ليس كذلك، فقد ثبت عن أبي ذر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك"( [64] ) .
ولذلك كله فإنه يجب على المسلم الذي يريد لنفسه النجاة أن لا يتعجل في إصدار الحكم على أحد من المسلمين بالكفر أو الشرك، كما يجب عليه أن يحذر من مجالسة الذين يخوضون في مسائل التكفير وهم لم يبلغوا رتبة الاجتهاد ( [65] ) . والله أعلم.
الحواشي والتعليقات
---
( [1] ) قال الإمام الشافعي في "الأم": الأقضية 6/205: "لم نعلم أحداً من سلف هذه الأمة يقتدى به ولا من التابعين بعدهم ردّ شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله، ورآه استحل فيه ما حرم عليه، ولا رد شهادة أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال أو المفرط من القول".
قال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/247: "وهو قول كل من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة – رضي الله عنهم – لا نعلم منهم في ذلك خلافاً أصلاً، إلا ما ذكرنا من اختلافهم في تكفير من ترك صلاة متعمداً حتى خرج وقتها
…
". وينظر مجموع فتاوى ابن تيمية 5/563.
وقال الحافظ في الفتح: استتابة المرتدين. باب ما جاء في المتأولين 12/304: "قال العلماء: كل متأول معذور بتأويله ليس يأثم إذا كان تأويله سائغاً في لسان العرب، وكان له وجه في العلم".
وقال الشيخ محمد بن عثيمين كما في المجموع الثمين 2/63: "النوع الثاني – أي من أنواع الجحود -: إنكار تأويل، وهو أن لا يجحدها، ولكن يؤولها، وهذا نوعان: الأول: أن يكون لهذا التأويل مسوغ في اللغة العربية، فهذا لا يوجب الكفر. الثاني: أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية، فهذا موجب للكفر؛ لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار تكذيباً، مثل أن يقول: ليس لله يد حقيقة، ولا بمعنى النعمة أو القوة فهذا كافر؛ لأنه نفاها نفياً مطلقاً، فهو مكذب حقيقة، ولو قال في قوله تعالى:] بل يداه مبسوطتان [المراد بيديه السماوات والأرض فهو كافر؛ لأنه لا يصح في اللغة العربية، ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية، فهو منكر مكذب".
ويشترط في هذه الشبهة ألا تكون في أصل الدين الذي هو عبادة الله وحده والتحاكم إلى شريعته الذي هو مدلول الشهادتين، كما يشترط عدم احتمال أن يكون مدعيها مكذباً ومستحلاً على الحقيقة، كحال المنافقين والزنادقة الذين يؤولون ما لا يمكن تأويله، كالذين يؤولون القيامة والجنة والنار بأمور أخرى، كما يشترط أن يكون ما تأوله غير معلوم له بالضرورة، بحيث يكون له فيه شبهة. وينظر في عذر التأويل أيضاً: المغني 12/276، الشفا 2/529،500، مجموع الفتاوى 20/263-268، إيثار الحق على الخلق ص393،377،376، وينظر رسالة "منهج ابن تيمية في التكفير" 1/193-250، ورسالة ضوابط التكفير عند أهل السنة: ضابط الإعذار بالشبهة ص357-363 وتنظر مراجع عذر الجهل السابقة.
وقال الدكتور محمد الوهيبي في النواقض الاعتقادية 2/27 بعد ذكره للتأويلات التي لا خلاف في عذر صاحبها: "وكذلك هناك تأويلات لا خلاف في عدم العذر بها، كتأويلات الباطنية والفلاسفة وغيرهم من الغلاة، وبين ذلك أصول تختلف الأنظار والاجتهاد في العذر بها من عدمه".
وقال الدكتور عبد الله القرني في ضوابط التكفير ص357: "ولهذا أجمع علماء المسلمين على تكفير الباطنية من نصيرية ودروز وإسماعيلية ونحوهم، وأنهم لا يعذرون بالشبهة؛ لأن حقيقة مذاهبهم أنهم لا يعبدون الله، ولا يلتزمون بشرائع الإسلام، بل يؤولونها بما لا يمكن بحال أن يكون له وجه". وينظر مجموع الفتاوى 35/162،161، إيثار الحق ص377.
وقد ألحق بعض أهل العلم بطوائف الباطنية السابقة الفرق التي تقدح في القرآن وتدّعي أنه محرف، أو أن أكثره مفقود، ولا تعمل بأكثر أحاديث النبي e، ولا تقبلها؛ لأن الصحابة الذين رووها مرتدون في زعمهم. وينظر قول ابن القيم الآتي قريباً.
---
( [1] ) انظر لسان العرب، مادة "كفر"، وينظر الفصل لابن حزم 3/211. وقال ابن الجوزي في "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر " ص516، 517: "ذكر أهل التفسير أن الكفر في القرآن على خمسة أوجه: أحدها الكفر بالتوحيد، ومنه قوله تعالى في البقرة: {إن الذين كفروا سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم..} ، والثاني: كفران النعمة، ومنه قوله تعالى في البقرة:] واشكروا لي ولا تكفرون [، والثالث: التبري، ومنه قوله تعالى في العنكبوت:] ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض [، أي يتبرأ بعضكم من بعض، والرابع: الجحود، ومنه قوله تعالى في البقرة:] فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.. [، والخامس: التغطية، ومنه قوله تعالى في الحديد:] أعجب الكفار نباته.. [، يريد الزراع الذين يغطون الحَب".
( [2] ) وقد حكى جمع من أهل العلم إجماع العلماء على أن الكفر يكون بمجرد القول أو الفعل.
قال الإمام الحافظ إسحاق بن راهويه المتوفى سنة 238هـ كما في تعظيم قدر الصلاة لتلميذه محمد بن نصر (ص930)، رقم (991) :"ومما أجمعوا على تكفيره وحكموا عليه كما حكموا على الجاحد: فالمؤمن الذي آمن بالله تعالى وما جاء من عنده ثم قتل نبياً أو أعان على قتله، وإن كان مقراً، ويقول: قتل الأنبياء محرم، فهو كافر، وكذلك من شتم نبياً؛ أو ردّ عليه قوله من غير تقية ولا خوف".
فقد حكى إسحاق – رحمه الله – إجماع السلف على أن من سبَّ الله وسب رسوله e، أو قتل نبيّاً من أنبياء الله تعالى، أو رد شيئا مما أنزل الله تعالى باللسان فقط مع إيمانه بقلبه بجميع ما أنزل الله أنه يكفر بذلك القول أو الفعل المجرد.
وقال الإمام أبوثور المتوفى سنة 240هـ كما في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (ص849) : "ليس بين أهل العلم خلاف في رجل لو قال: المسيح هو الله، وجحد أمر الإسلام، وقال: لم يعتقد قلبي على شيء من ذلك أنه كافر بإظهار ذلك وليس بمؤمن"، فقد حكى أبوثور – رحمه الله – إجماع السلف على كفر من أظهر كلمة الكفر، ولو قال: إنه تلفظ بها من غير أن يعتقد مدلولها.
وقد حكى أبومحمد بن حزم في "الفصل في الملل والأهواء والنحل" كتاب الإيمان 3/204، 211، 249، 251، 253 الإجماع على التكفير بمجرد النطق ببعض الأمور المكفرة، وبمجرد فعل بعض الأمور المكفرة، وقال 3/209:"بقي من أظهر الكفر لا قارئاً ولا شاهداً ولا حاكياً ولا مكرهاً على وجوب الكفر له بإجماع الأمة على الحكم له بحكم الكفر، وبحكم رسول الله e بذلك، وبنص القرآن"، وقال 3/200: "وأما قولهم: إن إخبار الله تعالى بأن هؤلاء كلهم كفار دليل على أن في قلوبهم كفراً، وأن شتم الله ليس كفراً، ولكنه دليل على أن في القلب كفراً، وإن كان كافراً لم يعرف الله تعالى قط، فهذه منهم دعاوى كاذبة مفتراة، لا دليل لهم عليها ولا برهان، لا من نص ولا سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا من حجة عقل أصلاً، ولا من إجماع، ولا من قياس، ولا منقول أحد من السلف قبل اللعين جهم بن
صفوان، وما كان هكذا فهو باطل وإفك زور، فسقط قولهم هذا من قرب، ولله الحمد رب العالمين، فكيف والبرهان قائم بإبطال هذه الدعوى من القرآن والسنن والإجماع والمعقول.."
وقال ابن حزم أيضاً في آخر المحلى 11/411: "وأما سبّ الله تعالى فما على ظهر الأرض مسلم يخالف في أنه كفر مجرد إلا أن الجهمية والأشعرية وهما طائفتان لا يعتد بهما يصرحون بأن سب الله تعالى وإعلان الكفر ليس كفراً. قال بعضهم: ولكنه دليل على أنه يعتقد الكفر لا أنه كافر بيقين بسبه الله تعالى وأصلهم في هذا أصل سوء خارج عن إجماع أهل الإسلام
…
ولم يختلفوا في أن فيه – أي في القرآن - التسمية بالكفر والحكم بالكفر قطعاً على من نطق بأقوال معروفة كقوله تعالى:] لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم [وقوله تعالى:] ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم [فصح أن الكفر يكون كلاماً" انتهى كلامه بحروفه مختصراً.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في شرح كشف الشبهات ص102: "فهذا المذكور في هذا الباب – أي باب المرتد – إجماع منهم أنه يخرج من الملة ولو معه الشهاداتان لأجل اعتقاد واحد أو عمل واحد أو قول واحد، يكفي بإجماع أهل العلم لا يختلفون فيه".
وقال الشيخ عبد الله أبا بطين كما في مجموعة الرسائل والمسائل 1/659: "المرتد هو الذي يكفر بعد إسلامه بكلام أو اعتقاد أو فعل أو شك
…
وهذا ظاهر بالأدلة من الكتاب والسنة والإجماع".
وقال العلامة الصنعاني في "تطهير الاعتقاد" ص26،25:"قد صرح الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة: أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها".
ونقل صاحب المحيط كما في درر الحكام في الفقه الحنفي 1/324 الإجماع من كافة العلماء على كفر من نطق بكلمة الكفر ولو كان غير معتقد لما نطق به.
وقد نقل الشيخ علوي السقاف في رسالة "التوسط والاقتصاد في أن الكفر يكون بالقول أو الفعل أو الاعتقاد" عن أكثر من مائة من علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين ومن جميع المذاهب الفقهية أن الكفر يكون بمجرد النطق بقول مكفر، وبمجرد فعل مكفر.
وينظر ما يأتي من حكاية الإجماع على كفر من جحد بلسانه شيئاً من دين الله تعالى ص (190) ، وعلى كفر من سب شيئاً من دين الله أو استهزأ أوسخر به بالقول أو الفعل جاداً أو هازلاً ص (194) .
وقد أطال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/199-206 في الرد على من قال: إن الكفر بالقول أو الفعل، وذكر أدلة صريحة من الكتاب والسنة والإجماع تدل على الكفر بمجرد النطق بأمر مكفر، وبمجرد فعل مكفر، وسيأتي بعض هذه الأدلة عند ذكر الأدلة على أنواع الكفر.
وهذا كله يدل على أن من قال: إن الكفر إنما يكون بالاعتقاد، وأن القول أو الفعل الذي دلت النصوص على أنه كفر ليس كفراً، وإنما هو دليل على أن في القلب كفراً، قد أخطأ خطأً كبيراً، ورد دلالة النصوص الشرعية، وخالف ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة من سلف من هذه الأمة ومن سار على طريقهم.
وقال الإمام النووي في الروضة 10/64: "قال الإمام – أي إمام الحرمين -: في بعض التعاليق عن شيخي: أن الفعل بمجرده لا يكون كفراً. قال: وهذا زلل عظيم من المعلق، ذكرته للتنبيه على غلطه"، وقد نقل هذا التعليق أيضاً عن إمام الحرمين ابن حجر المكي في قواطع الإسلام ص23 وأيد تخطئته له.
وينظر في الرد على هذا القول أيضاً وفي بيان دلالة النصوص على عدم صحته مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 7/547، 561، الإيمان لشيخ الإسلام ص484، النونية لابن القيم مع شرحها لابن عيسى 2/118،117، شرح كشف الشبهات للشيخ محمد بن إبراهيم ص126-134.
ولذلك كله فإنه يجب على المسلم الذي يطلب الحق أن ينقاد لما دلت عليه النصوص ولما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، وكون بعض أهل العلم أخطأ في ذلك فهو يرجى له أجر واحد، لإرادته الحق، ولكن لا يجوز لنا أن نقلده في خطئه. والله أعلم.
( [3] ) قال أبو محمد بن حزم بعد ذكره لتعريف الكفر لغة في كتابه الفصل في الملل والأهواء والنحل: كتاب الإيمان 3/211: "ثم نقل الله تعالى اسم الكفر في الشريعة إلى جحد الربوبية وجحد نبوة نبي من الأنبياء صحت نبوته في القرآن، أو جحد شيء مما أتى به رسول الله e مما صح عند جاحده بنقل الكافة، أو عمل شيئاً قام البرهان بأن العمل به كفر".
وعرفه الدكتور عبد العزيز بن محمد بن عبد اللطيف في النواقض العملية ص39: بأنه: "اعتقادات وأقوال وأفعال حكم الشارع بأنها تناقض الإيمان".
( [4] ) هذا إذا كان القتل يسقط بالتوبة، فإن بعض أنواع الكفر يجب قتل من وقع فيها ولو تاب عند بعض أهل العلم، بل إن بعض أهل العلم يرى أن المرتد لا يستتاب، ولا تقبل توبته في جميع المسائل، وذهب آخرون إلى أن التوبة تقبل في جميع المسائل. ينظر الأوسط لابن المنذر (كتاب المرتد) رسالة ماجستير مطبوعة على الآلة ص648-657، والمحلى 11/188-194، الصارم المسلول ص531،460،361،337، المقنع مع الشرح الكبير والإنصاف 27/114-121، روضة الطالبين 10/76،75، فتح الباري: استتابة المرتدين 12/269، كشاف القناع 6/175-178، فتاوى شيخنا ابن باز (جمع د. الطيار ص526) .
( [5] ) رواه البخاري في استتابة المرتدين (6922) .
( [6] ) صحيح البخاري: الديات (6878)، وصحيح مسلم: القسامة (1676) .
( [7] ) من الإنكار بالقلب أن يعزم على الكفر في الحال أو في المستقبل، فهذا كله ردة؛ لأنه يدل على إنكاره لأصول الإسلام وأنه الدين الحق الذي لا يقبل من أحد سواه، ويدل على إيمانه بأصول الكفر وعلى بغضه للإسلام ومحبته للكفر ورضاه به.
( [8] ) أي ينكر ذلك بلسانه، وقلبه مصدقٌ به، إما هزلاً أو استهزاءً كما سيأتي عند الكلام على كفر الاستهزاء، وإما إرضاءً لكافر، أو لمصلحة دنيوية، أو عناداً في حال مشاجرة أوغيرها، أو خوفاً من كافر على ما سيأتي تفصيله ص () ، تعليق ()، وأعظم من هذا الإنكار: أن ينكر بقلبه ولسانه.
( [9] ) المعلوم من الدين بالضرورة هو الأمر المقطوع به الذي يجد الإنسان نفسه مضطراً إلى التصديق به، لكثرة النصوص الواردة فيه وتواترها ونقل العامة والخاصة لهذه النصوص أو لنقلهم الإجماع على ما دلّت عليه، ولا يجد الإنسان في قلبه أدنى شبهة تدعوه إلى إنكاره، فيكون من كذب به مكذباً لهذه النصوص ولإجماع الأمة القطعي، وأقرب مثال لذلك وجوب الصلوات الخمس، فهذا الحكم وردت فيه نصوص مشهورة ينقلها العامة والخاصة، كما أن العامة والخاصة ينقلون إجماع الأمة على وجوبها، وأنها ركن من أركان الإسلام، فيجد أي مسلم نشأ بين المسلمين نفسه مضطراً إلى التصديق بوجوبها، فلا يعذر في إنكار وجوبها، فإن أنكره فقد كفر، ومثله تحريم الزنى، فالنصوص في تحريمه متواترة معلومة يعرفها العامة والخاصة، وإجماع الأمة على تحريمه معلوم يعرفه الخاصة والعامة، وينقل تحريمه الخاصة والعامة بعضهم عن بعض، ولا أحد يشك في تحريمه، فأي مسلم نشأ بين المسلمين يجد نفسه مضطراً إلى التصديق بتحريمه، فإن أنكر تحريمه فقد كذّب النصوص المتواترة وإجماع الأمة المعلوم، فيكون مرتداً.
قال ابن عبد البر في جامع بيان العلم باب العبارة عن حدود علم الديانات (ص788) : "حد الضروري ما لا يمكن العالم أن يشكك فيه نفسه، ولا يدخل فيه على نفسه شبهة، ويقع له العلم بذلك قبل الفكرة والنظر، ويدرك ذلك من جهة الحس والعقل، كالعلم باستحالة كون الشيء متحركاً ساكناً في حالٍ واحدة، ومن الضروري أيضاً علم الناس أن في الدنيا مكة والهند ومصر والصين وبلداناً قد عرفوها وأمماً قد خلت". انتهى كلامه مختصراً. وينظر التعريفات مادة "ضرر".
( [10] ) النص المتواتر هو ما رواه جمع عن جمع تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس.
وجميع نصوص القرآن متواترة؛ لأن كل حرف من القرآن رواه الجمع الغفير عن الجم الغفير، ولذلك من أنكر حرفاً من القرآن كفر، ومن أنكر شيئاً دلّ عليه نص واحد صريح من القرآن كفر، كما أن هناك أحاديث نبوية كثيرة متواترة.
والمتواتر الذي يكفر جاجده هو ما اشتهر عند العامة والخاصة، أو كان مما يعرفه المنكر ضرورة لكونه نشأ بين العلماء ونحو ذلك، ومثله ما إذا أخبر بتواتره بعد إنكاره فاستمر على جحوده له. قال العلامة ابن الوزير في العواصم من القواصم 4/174:"المتواتر نوعان: أحدهما ما علمه العامة مع الخاصة، كمثل كلمة التوحيد، وأركان الإسلام، فيكفر جاحده مطلقاً؛ لانه قد بلغه التنزيل. وثانيهما: ما لا يعرف تواتره إلا الخاصة فلا يكفر مستحله من العامة؛ لأنه لم يبلغه، وإنما يكفر من استحله وهو يعلم حرمته بالضرورة، مثل تحريم الصلاة على الحائض".
( [11] ) هذا القيد معلوم؛ لأن المعلوم من الدين بالضرورة مجمع عليه إجماعاً قطعياً، ولكن ذكرته للتأكيد عليه، ولذكر أهل العلم له. وينظر إيثار الحق (ص156) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/39،38 في تفسير قوله تعالى:
] ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم.. [[النساء:115] قال: "وهذه الآية تدل على أن إجماع المؤمنين حجة، من جهة أن مخالفتهم مستلزمة لمخالفة الرسول، وأن كل ما أجمعوا عليه فلابد أن يكون فيه نص عن الرسول، فكل مسألة يقطع فيها بالإجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين فإنها مما بين الله فيه الهدى، ومخالف مثل هذا الإجماع يكفر، كما يكفر مخالف النص البيِّن، أما إذا كان يظن الإجماع ولا يقطع به فهنا قد لا يقطع أيضاً بأنها مما تبيّن فيها الهدى من جهة الرسول، ومخالف هذا الإجماع قد لا يكفر".
وقال الحافظ السيوطي في الأشباه والنظائر كتاب الردة (ص488) : "منكر المجمع عليه أقسام: أحدها: ما نكفره قطعاً، وهو ما فيه نص وعلم من الدين بالضرورة. الثاني: ما لا نكفره قطعاً، وهو ما = = لا يعرفه إلا الخواص، ولا نص فيه، كفساد الحج بالجماع قبل الوقوف. الثالث: ما يكفر به على الأصح وهو المشهور المنصوص عليه، الذي لم يبلغ رتبة الضرورة، كحل البيع، وكذا غير المنصوص على ما صححه النووي. الرابع: ما لا على الأصح، وهو ما فيه نص، لكنه خفي غير مشهور، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب"، وينظر روضة الطالبين باب تارك الصلاة 2/146، والإعلام بقواطع الإسلام ص28-31، ونهاية المحتاج 7/415،416، وشرح المنهج (مطبوع مع حاشيته للجمل 5/123) .
( [12] ) وذلك بأن ينكره في الظاهر مجاملة أو عناداً لغيره، أو في حال غضب أو مشاجرة أو خصومة ونحو ذلك، مع أنه في قرارة نفسه يعلم أنه من دين الله تعالى.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 12/525: "من خالف ما علم أن الرسول e جاء به فهو كافر بلا نزاع".
فمن أنكر شيئاً مما ثبت بحديث صحيح بيّن بعد علمه بهذا الحديث، وأن هذا الأمر من الدين، وليس عنده شبهة في إنكار مادل عليه هذا الحديث، وإنما جحده ظاهراً لإرضاء مخلوق أو لمصلحة دنيوية، أو ما أشبه ذلك لا شك أنه قد وقع في الكفر المخرج من الملة.
وقد ذكر جمع من أهل العلم أن من أنكر حديثاً صح عنده فهو كافر. ينظر تأويل مختلف الحدييث لابن قتيبة ص155، الإحكام لابن حزم الباب الحادي عشر 1/99 فقد نقل هذا عن إسحاق بن راهويه وأقره، وينظر الفصل لابن حزم أيضاً 3/256، وشرح السنة للبربهاري ص31، الإبانة لابن بطة ص211، الروض الباسم لابن الوزير 2/425،426، حاشية الجمل على شرح المنهج 5/123، الدرر السنية 10/181،180،114، مجالس شهر رمضان (المجلس 26 ص 149) ، وينظر كلام شيخ الإسلام في التعليق السابق.
( [13] ) ومن ذلك أن يصلي إلى غير القبلة؛ لأنه يدل على إنكاره الإجماع القطعي والنصوص الدالة على وجوب التوجه إلى الكعبة وعدم صحة صلاة من توجه إلى غيرها. ينظر أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي 5/887.
ومثله أن يصلي على غير طهارة عالماً متعمداً، أو يصلي الظهر خمس ركعات عالماً متعمداً.
ومن ذلك – أيضاً – أن يُكره مسلماً على الكفر، فهذا يدل على إنكاره النصوص المحرِّمة لترك المسلم دينه، وللنصوص الدالة على أن من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه، أو يدل على بغضه للإسلام ومحبته للكفر، فيكون من كفر البغض والكره.
وقد ألحق بعض أهل العلم بذلك الطواف بغير الكعبة، كالطواف بالقبور تقرباً إلى الله تعالى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 2/308:"وأما الطواف بالأنبياء والصالحين فحرام بإجماع المسلمين، ومن اعتقد ذلك ديناً فهو كافر، سواء طاف ببدنه أو بقبره". ولا شك أن من فعل ذلك قد خالف إجماع الأمة وما هو معلوم من الدين بالضرورة من أن الطواف بغير الكعبة محرم وليس من دين الإسلام، ففعله هذا يدل على إنكاره لهذا المعلوم من الدين بالضرورة.
( [14] ) ينظر في حكاية الإجماع على ذلك قول إسحاق بن راهويه الذي سبق نقله ص (201) .
وقال أبومحمد بن حزم في معرض رده على القائلين بأن قول الكفر وفعل الكفر ليس كفراً وإنما هو دليل على أن في القلب كفراً، قال في الفصل 3/204،205:"وأما خلاف الإجماع فإن جميع أهل الإسلام لا يختلفون فيمن جحد الله تعالى، أو جحد رسوله e فإنه محكوم له بحكم الكفر قطعاً، إما القتل، وإما أخذ الجزية، وسائر أحكام الكفر، وما شك قط أحد في هل هم في باطن أمرهم مؤمنون أم لا، ولا فكروا في هذا، لا رسول الله e ولا أحد من أصحابه، ولا أحد ممن بعدهم".
وقال أيضاً في المرجع نفسه 3/255: "وصح الإجماع على أن كل من جحد شيئاً صح عندنا بالإجماع أن رسول الله e أتى به فقد كفر"، وينظر آخر مراتب الإجماع له أيضاً ص177.
وقد حكى أيضاً الإجماع على منكر من جحد معلوماً مجمعاً عليه: القاضي عياض في الشفا 2/510-549،528، وأبويعلى في المعتمد في أصول الدين ص272،271، وابن الوزير في إيثار الحق على الخلق ص377،376،156،116،112،402 وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 3/267،268، و12/525،496، والمرداوي في الإنصاف 27/108، والملا علي القاري في شرح الشفا 2/549،وينظر كتاب توحيد الخلاق ص99، والدرر السنية 1/131.
( [15] ) ومن الصفات التي وردت فيها أدلة كثيرة متواترة من الكتاب والسنة صفة العلو لله تعالى، وقد ذكر ابن أبي العز الحنفي في شرح الطحاوية ص387،386، أن أدلة علو الله بذاته نحو ألف دليل، ثم نقل ما رواه شيخ الإسلام الهروي عن أبي حنيفة أنه قال:"من أنكر أن الله في السماء فقد كفر" ثم قال: "وقصة أبي يوسف في استتابته لبشر المريسي لما أنكر أن يكون الله فوق العرش مشهورة، رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره".
ومن ذلك أيضاً أن ينفي صفة القدرة، أو ينفي صفة العدل، فيتهم الله تعالى بالظلم، ومنه أيضاً أن ينفي عن الله تعالى صفة الرحمة، ونحو ذلك.
( [16] ) ومن ذلك أن ينكر نزول جبريل عليه السلام – بالقرآن على نبينا محمد e، أو ينكر أن للنار خزنة، أو أن للجنة خزنة، أو ينكر الكرام الكاتبين، أو ينكر ملائكة القبر، أو ملك الموت.
( [17] ) ومنه أن ينكر أمراً يتعلق بالقرآن مما أجمع العلماء عليه، كأن ينكر آية أو حرفاً من القرآن، أو يقول: إن القرآن ناقص، أو زيد فيه ما ليس منه، أو يزيد فيه، أو ينقص منه حرفاً أو آية.
قال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/253: "الأمة مجمعة كلها بلا خلاف من أحد منهم أن كل من بدل آية من القرآن عامداً وهو يدري أنها في المصاحف بخلاف ذلك، أو أسقط كلمة عمداً كذلك، أو زاد فيها كلمة عامداً، فإنه كافر بإجماع الأمة كلها".
( [18] ) ومن ذلك أن ينكر شيئاً مجمعاً عليه يتعلق بأحد من الأنبياء – عليهم السلام، كأن يعتقد أن جبريل – عليه السلام – غلط في الرسالة، فنزل بالوحي على محمد e وكان مرسلاً به إلى علي بن أبي طالب t كما يقول ذلك بعض غلاة الشيعة الرافضة، أو ينكر معجزة من معجزات الأنبياء المجمع عليها، أو يفضل الأولياء على أحد منهم، أو يعتقد أن أحداً من بني آدم أفضل من النبي e، أو يعتقد أنه لا يجب العمل بالسّنة، أو ينكر صحة حديث متواتر مجمع عليه إجماعاً قطعياً، ومنه أن يقول: إن بعض الناس لا يجب عليه اتباع النبي e.
( [19] ) قال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/198: "اليهود والنصارى كفار بلا خلاف من أحد من الأمة، ومن أنكر كفرهم فلا خلاف من أحد من الأمة في كفره وخروجه من الإسلام"، وحكى أيضاً في المرجع نفسه 3/211 الإجماع على كفر من قال:"إن إبليس وفرعون وأبا جهل مؤمنون".
وحكى الإجماع على كفر من لم يكفر أحداً من اليهود أو النصارى، أو شك في كفره، أو توقف في ذلك: القاضي عياض في الشفا 2/510، وابن سحمان كما في الدرر 2/361،360.
( [20] ) وذلك بأن يقول عن نفسه: "هو كافر"، أو "هو يهودي"، أو "هو نصراني"، ومثله ما إذا قيل له: هل أنت مسلم. فقال: لا. فهذا كله كفر؛ لأنه إما أنه أن يخبر عن ارتداده فعلاً عن الإسلام، وإما أنه ينسب دين الإسلام إلى الكفر، أو إلى هذه الأديان المحرفة إما اعتقاداً لذلك، وهذا إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة، وإما استهزاء واستخفافاً بدين الإسلام، وهذا كله كفر.
( [21] ) ونحو ذلك مما أخبر الله عنه في كتابه من أخبار الأمم الماضية، أو غير ذلك، كأن ينكر وجود السماوات السبع، أو ينكر وجود الشيطان، أو ينكر إخراجه من الجنة، أو يقول بتناسخ الأرواح ونقلها إلى أرواح أخرى، أو ينكر إنزال المنّ والسلوى على بني إسرائيل، أو ينكر قصة أصحاب الكهف، أو ينكر قصة الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، ونحو ذلك.
( [22] ) ومن هذا اعتقاد بعض غلاة الصوفية أن بعض مشايخهم يحل له فعل المحرمات، فهذا الاعتقاد كفر بأجماع أهل العلم، قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول: المسألة الرابعة ص521: "من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق".
ومنه أن يعتقد أن أحداً حرٌّ في نفسه يفعل ما يشاء، كما يتفوه به بعض المنافقين، ومنه أن يعتقد حل موالاة الكفار.
( [23] ) ينظر مدارج السالكين 1/367،366، نهاية المحتاج7/416،415، مغني المحتاج 4/136.
( [24] ) حكى الإجماع على كفر من وقع في هذا النوع ابن حزم في مراتب الإجماع ص177، والقاضي عياض في الشفا 2/524،520، والملا علي القاري في شرح الشفا 2/549، والشيخ عبد الله أبابطين كما في الدرر السنية 10/419، وشيخنا عبد العزيز بن باز كما في فتاويه (جمع د. الطيار 528،527) . وينظر في ذكر الإجماع على بعض مسائل هذا النوع، وفي ذكر بعض أمثلته: الفقه الأكبر مع شرحه للقاري ص227، مجموع الفتاوى 2/368، مدارج السالكين 1/367، قواطع الإسلام ص68،27، الدرر السنية 2/361،360، و10/114، النواقض الاعتقادية 2/69-73، وينظر أكثر مراجع كفر الجحود المذكورة فيما سبق ص (190) ، تعليق (14) .
( [25] ) قال ابن حزم في الفصل 3/195: "فأثبت الله الشرك والكفر مع إقراره بربه تعالى، إذ شك في البعث".
ومن هذا النوع من أنواع الكفر: أن يتردد مسلم في أن يكفر أو لا. ينظر روضة الطالبين 10/65، ونهاية المحتاج 7/416.
ومما ينبغي التنبُّه له هنا أن هناك فرقاً بين الشك والريب والتردد - وهي معان متقاربة – وبين الوساوس، فالوساوس والخطرات التي يلقيها الشيطان على قلب المسلم لا تضره، ولا يحكم عليه بسببها بكفر أو غيره إذا دفعها وكرهها. ينظر النواقض الاعتقادية 2/73.
( [26] ) وألحق بعض أهل العلم بهذا النوع من أنواع الكفر من صدق بنبوة النبي e من اليهود بقلبه ولكنه لم ينطق بالشهادتين ولم ينقد بجوارحه لأحكام الإسلام تكبراً، كما قال تعالى:] فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به [[البقرة: 89] ، كما ألحق به بعضهم كفر فرعون وملئه، كما قال الله تعالى عنهم:] وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً [[النمل:14] . ينظر النواقض الاعتقادية 2/181،180،135،134.
ولا شك أن كفر هؤلاء اليهود وكفر فرعون وملئه كفر استكبار وكفر جحود أيضاً، فهم جاحدون للحق بألسنتهم، حتى من اعترف من اليهود بصدق النبي e فقط، فهم لم ينقادوا لما جاء به، ولم ينطقوا بالشهادتين وهم جاحدون لوحدانية الله تعالى، وجاحدون لما أخبر الله به في كتابه من أنه تعالى لم يتخذ ولداً، فهم يزعمون أن عزيراً ابن الله، بل لم يظهر منهم ما يدل على أنهم مؤمنون بأن القرآن كلام الله تعالى ولا أنهم مؤمنون بما اشتمل عليه كتاب الله تعالى من الأحكام والأخبار وأصول الإيمان، سوى ما بقي في كتبهم المحرفة من الحق الذي لم يغير. وينظر مجموع الفتاوى 7/561، والصارم المسلول ص520، وينظر ما يأتي في كفر الإعراض ص (196) ، وينظر أيضاً رسالة اليهود فصل "فيمن عرف من اليهود صدق النبي e ولم يسلم بغياً وحسداً" ص243-251 فقد ذكرتُ فيها بعض أخبار اليهود الذين ظهر منهم ما يدل على تصديقهم بنبوة النبي e، ومع ذلك لم يسلموا ولم ينطقوا بالشهادتين ولم ينقادوا للحق.
( [27] ) وأعظم منه أن يرفض الانقياد لجميع أحكام الإسلام استكباراً، فمن نطق بالشهادتين وآمن بقلبه بجميع أصول الإسلام وأحكامه، وأقر بذلك بلسانه، ولكنه لم ينقد، فترك جنس العمل بأحكام الإسلام استكباراً وترفعاً فهو كافر كفر استكبار وكفر إعراض كما سيأتي إن
شاء الله.
( [28] ) حكى إجماع العلماء على ذلك الحافظ إسحاق بن راهويه كما في التمهيد 4/226، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في الصارم المسلول ص521، ومجموع الفتاوى 20/97.
( [29] ) ينظر الصارم المسلول ص522،521.
( [30] ) قال ابن القيم في مدارج السالكين 1/367: "وأما كفر الإباء والاستكبار: فنحو كفر إبليس، فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار، ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول، وأنه جاء بالحق من عند الله، ولم ينقدْ له إباءاً واستكباراً، وهو الغالب على كفر أعداء الرسل، كما حكى الله تعالى عن فرعون وقومه:] أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون [، وقول الأمم لرسلهم:] إن أنتم إلا بشر مثلنا [، وقوله:] كذّبت ثمود بطغواها [، وهو كفر اليهود كما قال تعالى:] فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به [، وقال:] يعرفونه كما يعرفون أبناءهم [وهو كفر أبي طالب أيضاً، فإنه صدّقه ولم يشك في صدقه، ولكن أخذته الحمية، وتعظيم آبائه أن يرغب عن ملتهم، ويشهد عليهم بالكفر".
هذا وإذا امتنع فرد عن امتثال حكم من أحكام الإسلام غير الصلاة كسلاً ونحوه وليس تكبراً أو جحوداً فلا يكفر، أما إن تركت جماعة واجباً من الواجبات من غير استكبار ولا جحود، كأن تترك دفع الزكاة بخلاً، أو فعلت محرماً من المحرمات من غير استحلال له، كأن تصر على التعامل بالربا، وتمتنع من تركه جشعاً، وكان لهذه الجماعة شوكة ومنعة فقد اختلف أهل العلم في كفر هذه الجماعة، ورجح بعض المحققين ردتهم، لقتال الصحابة لمانعي الزكاة، وتسميتهم لهم بأهل الردة. ينظر الروايتين والوجهين: أول الزكاة 1/221، المغني: أول الزكاة 4/9،8، مجموع الفتاوى 28/519،548-551، و35/57، والشرح الكبير والإنصاف: إخراج الزكاة 7/147-150، الدرر السنية 10/175-178.
( [31] ) من الاستهزاء بالفعل: الإشارة باليد، أو اللسان، أو الشفة، أو العين، أو غيرها مما يدل على الاستهزاء والاستهانة، ومنه إهانة الشيء بوضعه في القاذورات، أو بوضع القدم عليه، أو الجلوس عليه ونحو ذلك، ومنه أن يضرب أو يقتل أو يحارب مسلماً، أو جماعة من المسلمين من إجل إسلامهم،، أو من أجل التزامهم بأحكام الإسلام وتطبيقهم لشرع الله، فإن هذا من أعظم الاستهزاء بدين الله تعالى، وهو أعظم من السبّ.
( [32] ) وذلك كأن يتهم الله تعالى بالظلم، أو يلعن خالقه ورازقه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً
( [33] ) كأن يستهزئ بأجنحة الملائكة أو بنزولهم.
( [34] ) قال أبوالبقاء الحنفي في الكليات (ص764) : "والفعل الموجب للكفر هو الذي يصدر عن تعمد، ويكون الاستهزاء صريحاً بالدين، كالسجود للصنم وإلقاء المصحف في القاذورات". وينظر منهاج الطالبين مع شرحه مغني المحتاج 4/136، ونهاية المحتاج 7/416، وقواطع الإسلام ص22.
( [35] ) ومن الكفر في حال الغضب – والمراد الغضب الذي لا يُفقد المكلف عقله – أن يعلق كفره على أمر مستقبل، وإن كان هذا التعليق في غير حال الغضب، فهو كفر من باب أولى؛ لأنه يدل على استهزائه واستخفافه بدين الإسلام. وينظر روضة الطالبين 10/65، والإعلام بقواطع الإسلام ص18.
( [36] ) حكى ابن حزم في المحلى الإجماع على كفر من سب الله تعالى، وقد سبق نقل كلامه ص (202) ، وذكر في المحلى أيضاً في الصلاة 2/243 أن من فسق النبي e ارتد عن الإسلام بلا خلاف بين أحد من المسلمين.
وحكى القاضي عياض في الشفا 2/549،546،491 الإجماع علىكفر من سب الله تعالى، أو سبّ أحداً من الملائكة، أو نبياً من الأنبياء المتفق عليهم، أو استخف بالقرآن أو بالمصحف أو بشيء من المصحف، أو استهزأ بشيء منهما.
وذكر في المرجع نفسه 2/394 أنه قد حكى غير واحد من العلماء الإجماع على قتل وتكفير من سب النبي e أو تنقصه، ثم نقل حكاية الإمام محمد بن سحنون المالكي المتوفى سنة (265هـ) الإجماع على كفر من سب النبي e، والإجماع على قتله، ونقل 2/395،393 حكاية ابن المنذر والخطابي الإجماع على قتله.
وقال ابن العربي المالكي في أحكام القرآن 2/976: "الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة".
وقال شيخ الإسلام في الصارم المسلول على شاتم الرسول ص4 بعد نقله حكاية الإجماع عن من سبق ذكرهم، قال:"وتحرير القول فيه: أن السابّ إن كان مسلماً فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف..".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً في المرجع السابق: المسألة الرابعة ص512: "إن سب الله أو سب رسوله كفر ظاهراً وباطناً، سواء كان الساب يعتقد أن ذلك محرم، أو كان مستحلاً له، أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهب الفقهاء وسائر أهل السنة القائلين بأن الإيمان قول وعمل"، ثم نقل عن بعض العلماء حكاية الإجماع على ذلك، وبيّن غلط من نقل خلافاً في ذلك، وما وجه به القاضي عياض ما نقل عن بعضهم في ذلك، ثم بيّن في ص516 أنه لا ينبغي أن يظن ظان أن في المسألة خلافاً، وبيّن أنه لا يستطع أحد أن يحكي ذلك عن واحد من الفقهاء أئمة الفتوى، ثم قال (ص527) :"فقد اتفقت نصوص العلماء من جميع الطوائف علىأن التنقص له كفر مبيح للدم".
وقال شيخ الإسلام أيضاً في مجموع الفتاوى 8/425: "اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف مثل أن يلقيه في الحش أو يركضه برجله إهانة له أنه كافر مباح الدم" وينظر الصفدية 2/311.
وقال ابن أمير الحاج الحنفي في التقرير والتحبير 2/267: " وهو – أي المتكلم بالكفر هزلاً – كفر بالنص والإجماع.اهـ. ملخصاً. وقال المرداوي في الإنصاف 27/108: "من أشرك بالله
…
أو سب الله أو رسوله كفر بلا نزاع في الجملة".
وقال ابن نجيم في البحر الرائق 5/134: "من تكلم بكلمة الكفر هازلاً أو لاعباً كفر عند الكل".
ونقل ابن حجر المكي في قواطع الإسلام ص62 عن بعض علماء الحنفية حكاية الاتفاق على كفر من سخر بالشريعة أو بحكم منها، وأقره على ذلك.
وذكر ابن العطار تلميذ النووي في آخر كتابه "الاعتقاد الخالص من الشك والانتقاد" ص47: أن أباحنيفة قال بكفر من قال قولاً فيه استهانة بالدين، وأنه لم يخالفه أحد من المسلمين.
وذكر الألوسي في روح المعاني 10/131 أنه لا خلاف بين الأئمة أن الجد واللعب في إظهار كلمة الكفر سواء.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في التيسير، باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول ص553:"من استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كفر ولو هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعاً"، وينظر إبطال التنديد ص246.
وقال شيخنا عبد العزيز بن باز كما فتاويه (جمع د. الطيار ص525) : "سب الدين والرب جل وعلا كل ذلك من أعظم أنواع الكفر بإجماع أهل العلم"، وحكى أيضاً ص527 إجماع العلماء على كفر من سب أو تنقص أو استهزأ بالله أو برسوله e أوسب أحداً من رسل الله أو سب الإسلام.
وينظر فتح الباري: استتابة المرتدين 12/281، الدرر السنية 2/361،360، و10/114، والإرشاد للشيخ الدكتور صالح الفوزان ص79، والاستهزاء بالدين له أيضاً، والتبيان شرح نواقض الإسلام ص50-53، والقول المبين في حكم الاستهزاء بالمؤمنين.
( [37] ) رواه ابن وهب كما في تفسير ابن كثير، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره (10047) ، وابن جرير في تفسيره (16912) بإسناد حسن، رجاله رجال مسلم.
ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره (10046-10049، 10402،10401) ، وابن جرير في تفسيره (16913-16916) من طرق أخرى متصلة ومرسلة.
( [38] ) قال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/204 بعد ذكره لهذه الآية: "نص تعالى على أن الاستهزاء بالله تعالى أو بآياته أو برسول من رسله كفر مخرج عن الإيمان، ولم يقل تعالى في ذلك: إني علمت أن في قلوبكم كفراً، بل جعلهم كفاراً بالاستهزاء نفسه، ومن ادعى غير هذا فقد قوّل الله تعالى ما لم يقل وكذب على الله تعالى".
وقال أيضاً 3/256،255:"صح بالنص أن كل من استهزأ بالله تعالى أو بملك من الملائكة أو نبي من الأنبياء عليهم السلام أو بآية من القرآن أو بفريضة من فرائض الدين – فهي كلها آيات الله تعالى – بعد بلوغ الحجة إليه فهو كافر".
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 7/273 في تفسير هذه الآية: "فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف".
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد ص559: "إن الله تعالى أثبت لهؤلاء إيماناً قبل أن يقولوا ما قالوه". وينظر فتح المجيد ص516، وأعلام السنة المنشورة ص184،183.
( [39] ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/558: "القلب إذا كان متعقداً صدق الرسول e، وأنه رسول الله، وكان محباً لرسول الله معظماً له، امتنع مع هذا أن يلعنه ويسبه، فلا يتصور ذلك منه إلا مع نوع من الاستخفاف به وبحرمته، فعلم بذلك أن مجرد اعتقاد أنه صادق لا يكون إيماناً إلا مع محبته وتعظيمه بالقلب". وقال أيضاً كما في شرح الأصفهانية ص181: "الظاهر دليل على إيمان القلب ثبوتاً وانتفاء"، وينظر مجموع الفتاوى 7/616، والصارم المسلول ص524،519.
وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في التيسير ص554: "وهل يجتمع الإيمان بالله وكتابه ورسوله والاستهزاء بذلك في قلب؟ بل ذلك عين الكفر، لذلك كان الجواب مع ما قبله:] لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم [".
( [40] ) والأشياء التي يكفر المسلم ببغضها من دين الله تعالى كثيرة، وقد سبق ذكر أمثلة لها عند الكلام على كفر الجحود وكفر السب والاستهزاء، فجميع ما ذكر فيهما من أبغض شيئاً منه فقد كفر.
وقال الشيخ سليمان العلوان في "التبيان شرح نواقض الإسلام" ص45 عند كلامه على هذا النوع: "فمن ذلك ما يتفوه به كثير من الكتّاب الملحدين الذي تغذوا بألبان الإفرنج وخلعوا ربقة الإسلام من رقابهم من كراهيتهم لتعدد الزوجات، فهم يحاربون تعدد الزوجات بشتى الوسائل، وما يعلم هؤلاء أنهم يحاربون الله ورسوله، وأنهم يردون على الله أمره.
ومثل هؤلاء في الكفر والبغض لما جاء به الرسول من يكره كون المرأة ليست بمنزلة
الرجل، ككرههم أن تكون دية المرأة نصف دية الرجل، وأن شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، وغير ذلك، فهم مبغضون لقول النبي e:"ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرجل الحازم من إحداكنّ.." الحديث. متفق عليه، فلذلك تجدهم يمدون ألسنتهم نحو هذا الحديث العظيم: إما بصرفه عن ظاهره، وإما بتضعيفه، بحجة أن العقل يخالفه، وإما بمخالفته للواقع.. وغير ذلك مما هو دالّ ومؤكد لبغضهم لما جاء به الرسول.
وهؤلاء كفار، وإن عملوا بمدلول النص، فهم لم يستكملوا شروط (لا إله إلا الله) ؛ لأن من شروطها: المحبة لما دلّت عليه، والسرور بذلك، وانشراح الصدر، وهؤلاء ضاقت صدورهم وحرجت وأبغضوا ما دلّت عليه، وهذا هو عين فعل المنافقين، الذين يفعلون كثيراً من محاسن الشريعة الظاهرة لشيء ما، مع بغضهم لها".
( [41] ) حكى هذا الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 20/97، وكما في الإقناع (مطبوع مع شرحه كشاف القناع 6/168) ، والشيخ سليمان بن سحمان كما في الدرر السنية 2/361،360.
وينظر الفصل 3/257، مجموع الفتاوى 7/52،51، البحر الرائق 5/130، الزواجر (الكبيرة 55،54) .
( [42] ) فإن من تعظيم هذا الدين محبته، وقد سبق في أركان العبادة أن أهم أركانها "المحبة" فمن لم يحب هذا الدين أو لم يحب بعضه فقد أخل بهذا الركن العظيم، فكيف إذا أبغضه، وكذلك سبق في شروط "لا إله إلا الله" أن من شروطها محبة هذه الكلمة ومحبة ما دلت عليه، فمن لم يحب شيئاً مما اقتضته فقد أخل بهذا الشرط، فكيف إذا كرهه. وينظر مجموع الفتاوى 14/107-109، والصارم المسلول ص524.
وقال شيخ الإسلام في رسالة المحبة ص104: "إذا كان أصل الإيمان صحيحاً، وهو التصديق، فإن هذه المحرمات يفعلها المؤمن مع كراهته وبغضه لها، فهو إذا فعلها لغلبة الشهوة عليه، فلابد أن يكون مع فعلها فيه بغض لها، وفيه خوف من عقاب الله عليها، وفيه رجاء لأن يخلص من عقابها، إما بتوبة، وإما حسنات، وإما عفو، وإما دون ذلك، وإلا فإذا لم يبغضها، ولم يخف الله فيها، ولم يرج رحمته، فهذا لا يكون مؤمناً بحال، بل هو كافر أو منافق".
وقال أيضاً في المرجع نفسه ص194،193:"لم يتنازع العلماء في أن الرضا بما أمر الله به ورسوله واجب محبب، لا يجوز كراهة ذلك وسخطه، وأن محبة ذلك واجبة، بحيث يبغض ما أبغضه الله، ويسخط ما أسخطه الله من المحظور، ويحب ما أحبه، ويرضى ما رضيه الله من المأمور. وإنما تنازعوا في الرضا بما يقدره الحق من الألم بالمرض والفقر. فقيل: هو واجب. وقيل: هو مستحب. وهو أرجح، والقولان في أصحاب الإمام أحمد وغيرهم، وأما الصبر على ذلك فلا نزاع أنه واجب".
( [43] ) لا يدخل في هذا النوع أن يكره المسلم فعل واجب لمشقته عليه، أو أن يكره ترك محرم لمحبته لفعله، فإن هذا كره للفعل أو للترك، ولم يكره أن الله أوجب الواجب أو حرم الحرام، فهو كره أن يفعل هذا الواجب أو أن يترك هذا المحرم لا غير، كما قال
تعالى:] كتب عليكم القتال وهو كره لكم.. [[البقرة: 216] أي تكرهونه من حيث الطبع لما فيه من المشقة عليكم، فيكره المسلم أن يفعله بنفسه لما فيه من المشقة، من تعريض النفس للهلاك وغير ذلك من المشاق، ولكن لا يكره أن الله شرعه، بل يحب ذلك ويرضى به ويعلم أن الخير للأمة في وجوب الجهاد، وأنه ذروة سنام الإسلام.
فحال المسلم مع هذا الحكم وأمثاله كحال المريض الذي وصف له الطبيب علاجاً ودواءً فيه مشقة عليه، كأن يصف له شراباً كريه المذاق، أو ينصحه بإجراء عملية جراحية فيها ألم ومشقة، فهو يكره هذا الدواء، لكنه راض عن وصف الطبيب له هذا العلاج، فيكره نفسه عليه، وقد يضعف عن تحمله فيتركه، مع معرفته أن فيه شفاءه، واعترافه بأن فيه نفع له لما يعلم من مهارة هذا الطبيب ونصحه له، وبهذا يجمع بين محبته للمعصية أو كرهه للطاعة طبعاً، وبين رضاه بتقدير الله تعالى وشرعه ومحبته له. ينظر تفسيري البغوي والقرطبي للآية (216) من سورة البقرة، والمفردات ص429، ومدارج السالكين 2/183،182، النواقض الاعتقادية 2/177-179، وينظر التعليق السابق.
وقد اختلف أهل العلم فيما إذا قال: أتمنى أن الله لم يوجب هذا الواجب أو لم يحرم هذا المحرم، فقيل: يكفر، وقيل: لا يكفر. ينظر روضة الطالبين 10/69،68، الإعلام بقواطع الإسلام ص63، والأقرب أنه إن كان يتمنى أن هذا الواجب كان مسنوناً ليسلم من إثم تركه، أو أن هذا المحرم كان مكروهاً ليسلم من إثم فعله لضعفه عن تركه، مع إقراره بأن ما شرعه الله هو الحق والحكمة، لكن خشي من الإثم فلعله لا يكفر، أما إن كان يتمنى ذلك كرهاً لهذا الحكم الشرعي؛ لأنه يحول بينه وبين شهواته، أو لأن إخلاله بهذه الحكم قد يسبب له عقوبة عاجلة من ولي الأمر، أو أنه يرى أن هذا الذي تمناه أنفع للخلق ونحو ذلك، فهذا الأقرب أنه يكفر. والله أعلم.
( [44] ) قال الإمام سفيان بن عيينه كما في "السنة" لعبد الله بن أحمد: الإيمان والرد على المرجئة، رقم (745) :"ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمداً من غير جهل ولا عذر هو كفر، وبيان ذلك في أمر آدم - صلوات الله عليه – وإبليس وعلماء اليهود، أما آدم فسُمِّي عاصياً من غير كفر، وأما إبليس لعنه الله فإنه فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمداً، فسُمِّي كافراً، وأما علماء اليهود فعرفوا نعت النبي e، وأنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم، وأقروا به باللسان ولم يتبعوا شريعته فسمّاهم الله عز وجل كفاراً، فركوب المحارم مثل ذنب آدم – عليه السلام – وغيره من الأنبياء – عليهم السلام، وأما ترك الفرائض جحوداً فهو كفر مثل كفر إبليس لعنه الله، وتركهم على معرفة من غير جحود فهو كفر، مثل كفر علماء اليهود". انتهى كلامه مختصراً.
وقال الإمام الشوكاني في رسالة: إرشاد السائل إلى دلائل المسائل (مطبوعة ضمن الرسائل السلفية ص43) : "السؤال الثاني: ما حكم الأعراب سكان البادية الذين لا يفعلون شيئاً من الشرعيات إلا مجرد التكلم بالشهادة، هل هم كفار أم لا؟ وهل على المسلمين غزوهم أم لا؟ أقول: من كان تاركاً لأركان الإسلام وجميع فرائضه ورافضاً لما يجب عليه من ذلك من الأقوال والأفعال، ولم يكن لديه إلا مجرد التكلم بالشهادتين فلا شك ولا ريب أن هذا كافر شديد الكفر حلال الدم..".
( [45] ) قال الإمام الشافعي كما في كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية ص197: "وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ومن أدركناهم، يقولون: الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزي واحد من الثلاثة إلا بالآخر".
وقد حكى الشيخ سليمان بن سحمان الإجماع على هذا الكفر كما في الدرر السنية 2/362،360.
وقال الدكتور محمد الوهيبي في رسالة نواقض الإيمان الاعتقادية 2/140 عند كلامه على حكم تارك أركان الإسلام الأربعة بعد الشهاديتين، بعد ذكره لإجماع السلف على كفر تارك جنس العمل: "إن قول السلف في مسألة ترك جنس العمل يختلف عن قولهم في مسألة ترك الأركان، فالأول أمر لم يخالف فيه منهم أحد – أي في كفر تارك جنس العمل – لأنه مقتضى إجماعهم على حقيقة الإيمان، وأنه قول وعمل، أما الثاني فهو من مسائل الاجتهاد
…
".
( [46] ) قال البيضاوي في تفسيره 1/156: "وإنما لم يقل: (لا يحبهم) لقصد العموم والدلالة على أن التولي عن الطاعة كفر، وأنه من هذه الحيثية ينفي محبة الله، وأن محبته مخصوصة بالمؤمنين".
وقال أبوالسعود في تفسيره 1/466: "وإيثار الإظهار على الإضمار لتعميم الحكم لكل الكفرة والإشعار بعلته، فإن سخطه عليهم بسبب كفرهم، والإيذان بأن التولي عن الطاعة كفر".
( [47] ) فتركه لجنس العمل بأحكام الإسلام بجوارحه دليل على أن ما ادعاه من إقراره بقلبه بأركان الإيمان غير صحيح، إذ لو كان مؤمناً حقاً بوجوب عبادة الله دون سواه لما أعرض بجوارحه عن عبادة الله وطاعته كلية، ولو كان مؤمناً حقاً بأن محمداً e رسول من عند الله تجب طاعته لما عصاه في كل ما جاء به وأمر به من الأعمال الظاهرة.
قال أبوطالب المكي كما في الإيمان لشيخ الإسلام ص318: "من كان عقده الإيمان بالغيب ولا يعمل بأحكام الإيمان وشرائع الإسلام فهو كافر كفراً لا يثبت معه توحيد".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/611 بعد ذكره أن الإيمان القلبي يمتنع أن يكون موجوداً مع بقاء الإنسان دهراً لا يؤدي أي واجب من الواجبات، قال: "ولا يصدر هذا إلا مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح، ولهذا إنما يصف سبحانه بالامتناع عن السجود الكفار، كقوله:] وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم
سالمون [". ومعنى (سالمون) : ممتنعون عن الصلاة مع قدرتهم على أدائها.
وينظر في هذا النوع من أنواع الكفر أيضاً مجموع الفتاوى 7/645،621، و18/272، مدارج السالكين 1/367،366، النواقض العملية ص 44،43،26، 86-88، 344-357، النواقض الاعتقادية 2/121-139، وينظر الشرط الرابع من شروط "لا إله إلا الله". وينظر ما يأتي في النفاق – إن شاء الله -.
( [48] ) أما ترك الصلوات الخمس فإن تركها المسلم جحداً لفرضيتها كفر إجماعاً، وكذلك لو تركها وأصر على تركها بعد تهديده بالقتل إن استمر على تركها، فتركها حتى قتل، فهذا مرتد أيضاً، لأن إصراره على تركها حتى يقتل دليل على كفره في الباطن وأنه جاحد لوجوب الصلاة، أو دليل على أنه تركها إباءً واستكباراً، وكلاهما كفر.
أما إن تركها المسلم كسلاً وتهاوناً فقد وردت نصوص شرعية كثيرة فيها الحكم بكفره، منها ما رواه مسلم (82) عن جابر قال: قال رسول الله e: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة".
وقد ثبت عن جماعة من الصحابة الجزم بكفره وأنه لا حظ له في الإسلام، وحكى بعض أهل العلم الإجماع على ذلك: قال المروزي في تعظيم قدر الصلاة ص925: "ذكرنا الأخبار المروية عن النبي e في إكفار تاركها وإخراجه إياه من الملة، وإباحة قتال من امتنع من إقامتها، ثم جاءنا عن الصحابة – رضي الله عنهم – مثل ذلك، ولم يجئنا عن أحد منهم خلاف ذلك". ثم روى المروزي (978) بإسناد صحيح، رجاله رجال الصحيحين عن التابعي الجليل أيوب السختياني أنه قال:"ترك الصلاة كفر لا يختلفون فيه". وصححه الألباني في صحيح الترغيب (547)، وقال المروزي أيضاً (990) :"سمعت إسحاق يقول: قد صح عن رسول الله e أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي e إلى يومنا هذا".
وذكر ابن حزم في المحلى 2/242 أن هذا قول عمر وعبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم، وذكر أنه لا يعلم لهم مخالفاً من الصحابة.
وقال الحافظ ابن القيم في كتاب "الصلاة وحكم تاركها" ص50: "فصل دلالة الإجماع على كفر تارك الصلاة. وأما إجماع الصحابة
…
" ثم ذكر قول عمر بعدما طعن: "لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة"، ثم قال: "قال هذا بمحضر من الصحابة، ولم ينكروه عليه، وقد تقدم مثل ذلك عن معاذ بن جبل، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي هريرة، ولا يعلم عن صحابي خلافهم".
وهذا قول أكثر علماء الحديث، وذهب بعض أهل الحديث وبعض متأخري الفقهاء إلى أنه كافر كفراً أصغر. ينظر: تعظيم قدر الصلاة، باب ذكر إكفار تارك الصلاة ص873-1017، الجامع للخلال ص300 وما بعدها، التمهيد 4/224-242، شرح اعتقاد أهل السنة 4/829،825، شرح السنة 2/197، مجموع الفتاوى 20/97، كتاب الصلاة لابن القيم.
( [49] ) فيشترط للحكم بالكفر أن يكون الواقع في الكفر عالماً عامداً، وهذا مجمع عليه بين أهل العلم: ينظر البحر الرائق 5/134، إعلام الموقعين: فصل اعتبار النيات 3/62.
وقال شيخنا محمد بن عثيمين كما في مجموع فتاويه (جمع فهد السليمان 2/126،125) : "للحكم بتكفير المسلم شرطان: أحدهما: أن يقوم الدليل على أن هذا الشيء كفر، الثاني: انطباق الحكم على من فعل ذلك بحيث يكون عالماً بذلك قاصداً له، فإن كان جاهلاً لم يكفر لقوله تعالى:] ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً [[النساء:115]، وقوله:] وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتقون [[التوبة:115]، وقوله:] وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً [[الإسراء:15] . لكن إن فرط بترك التعلم والتبين لم يعذر، مثل أن يبلغه أن عمله هذا كفر فلا يتثبت، ولا يبحث فإنه لا يكون معذوراً حينئذ وإن كان غير قاصد لعمل ما يكفر لم يكفر بذلك
…
لكن من عمل شيئاً مكفراً مازحاً فإنه يكفر لأنه قصد ذلك، كما نص عليه أهل العلم".
( [50] ) وذلك كأن يكون مكرهاً، أو جاهلاً جهلاً يعذر مثله به، كحديث العهد بالإسلام ومن نشأ ببادية بعيدة عن العلم وأهله ونحو ذلك، أو يكون مخطئاً بسبق لسان أو اجتهاد أو غيرهما، أو يكون ناسياً، أو حاكياً لقوله غيره لتعليم أو شهادة أو غيرهما.
وقد أجمع أهل العلم على أن من وقع في الكفر ناسياً أو مكرهاً أو مخطئاً أنه لا يكفر. ينظر تفسير القرطبي (تفسير الآية الأخيرة من البقرة 3/432) ، إيثار الحق لابن الوزير ص397،395، البحر الرائق لابن نجيم 5/134.
أما الخوف الذي لم يصحبه إكراه: فقيل: إنه ليس عذراً، وقيل: إنه عذر، والأقرب أنه إن كان هناك خوف شديد يقرب من الإكراه، كان عذراً، وإلا فلا، ينظر تعظيم قدر الصلاة ص930، شرح المنهج لزكريا الأنصاري مع حاشيته للجمل 5/122،121، رسالة "حكم موالاة أهل الإشراك": الدليل الرابع عشر.
( [51] ) ينظر في مانع الجهل: الفصل 3/249، المغني: الردة 12/277، الشفا 2/530،529،524،523، الإعلام بقواطع الإسلام ص52، رسالة الجهل بمسائل الاعتقاد لعبد الرحمن معاش، ورسالة "ضوابط التكفير عند أهل السنة" للدكتور عبد الله القرني، ورسالة "منهج ابن تيمية في التكفير" 1/251-260، وينظر فتاوى شيخنا عبد العزيز بن باز (جمع د. الطيار ص529،528) فقد فصّل في المسألة، وذكر أن الجهل قسمان: الأول: جهل من نشأ بين المسلمين فهذا لا يعذر في عبادة غير الله من الأصنام والأموات لإعراضه عن السؤال. والثاني: من يعذر بالجهل، كالذي نشأ في بلاد بعيد عن الإسلام، وكأهل الفترة، ثم قال:"فهؤلاء معذورون بجهلهم، وأمرهم إلى الله عز وجل، والصحيح أنهم يمتحنون يوم القيامة، فيؤمرون، فإن أجابوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار، لقوله تعالى:] وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً [، ولأحاديث صحيحة وردت في ذلك ". وينظر فتاوى الشيخ ابن عثيمين (جمع فهد السليمان 2/124-138) ففيها تفصيل جيد.
( [52] ) رواه البخاري في الأنبياء (3481،3478) ، ومسلم في التوبة (2757،2756) من حديث أبي هريرة ومن حديث أبي سعيد، ورواه البخاري (3479) من حديث حذيفة. وقد ذكر ابن الوزير في إيثار الحق ص394 أن هذا الحديث متواتر.
( [53] ) قال أبومحمد بن حزم في الفصل 3/252: "فهذا إنسان جهل إلى أن مات أن الله عز وجل يقدر على جمع رماده وإحيائه، وقد غفر له لإقراره، وخوفه، وجهله ".
وقد ذكر ابن حزم في الفصل 3/251-253 أيضاً ثلاثة أدلة أخرى لهذا المانع. أولها: قبول النبي e إسلام كل من أسلم مع أنه جاهل بأكثر مسائل أصول الدين. والثاني: قول الحواريين] يا عيسى هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء [إلى قوله:] ونعلم أن قد صدقتنا [قال: "ولم يبطل بذلك إيمانهم ". والثالث: أن من قرأ القرآن فأخطأ جهلاً لا يكفر، وينظر تأويلمختلف الحديث 81، وإيثار الحق ص394، وينظر أيضاً رسالة منهج ابن تيمية في التكفير 1/243-249، فقد نقل مؤلفها عن شيخ الإسلام في هذا تسعة أدلة قوية.
( [54] ) فمن حصلت له شبهة من جهة عدم الفهم فهو مخطئ معذور، وهذا هو الأصل الذي يعتمد عليه في حكم الظاهر، والحكم على المكلف إنما هو على ظاهره بإجماع أهل العلم، والله يتولى السرائر، ومن القواعد المقررة أن المؤاخذة والتأثيم لا تكون على مجرد المخالفة، ما لم يتحقق القصد إليها، والمتأول في حقيقته مخطئ غير متعمد للمخالفة في الظاهر، بل هو يدّعي أنه على الحق، ويصرح بأنه يعتقد ذلك، فيعذر من أجله، فلا يحكم بكفره. ينظر الفصل 3/285، مجموع الفتاوى 7/472، إيثار الحق ص376-406، فتح الباري: استتابة المرتدين 12/273، ضوابط التكفير ص334،333، وينظر ما سبق في كفر الإعراض ص () ، ولهذا لم يكفر عمر رضي الله عنه الذي شرب الخمر معتقداً حلها له؛ لأن لديه شبهة تأويل، مع أنها شبهة ضعيفة واجتهاد أخطأ فيه. والأثر أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (17076) ، ومن طريقه البيهقي في سننه 8/316،315 بإسناد صحيح، رجاله رجال الصحيحين، وله شواهد عند عبد الرزاق وغيره. ينظر: المصنف (17075) ، والإصابة 3/220. وينظر تلخيص الاستغاثة في الرد على البكري ص259.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 3/299: "هذا مع أني دائماً ومن جالسني يعلم ذلك مني: أني من أعظم الناس نهياً عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافراً تارة، وفاسقاً أخرى، وعاصياً أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية والقولية والمسائل العملية".
( [55] ) ولهذا لم يكفر الإمام أحمد الذين امتحنوه وضربوه ليقول بخلق القرآن، مع أن منهم قضاة وعلماء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 7/508،507:"المحفوظ عن أحمد وغيره من الأئمة إنما هو تكفير الجهمية والمشبهة وأمثال هؤلاء، مع أن أحمد لم يكفر أعيان الجهمية ولا كل من قال: إنه جهمي كفّره، ولا كل من وافق الجهمية في بعض بدعهم، بل صلى خلف الجهمية الذين دعوا إلى قولهم، وامتحنوا الناس وعاقبوا من لم يوافقهم بالعقوبات الغليظة، لم يكفرهم أحمد وأمثاله، بل كان يعتقد إيمانهم، وإمامتهم، ويدعو لهم، ويرى الائتمام بهم في الصلوات خلفهم، والحج والغزو معهم، والمنع من الخروج عليهم ما يراه لأمثالهم من الأئمة". انتهى كلامه ملخصاً.
وهذا الحكم لا يشمل غلاة الجهمية المتهمين بالنفاق والزندقة. قال الحافظ ابن القيم كما في الدرر السنية 10/374: "وأما غلاة الجهمية فكغلاة الرافضة، ليس للطائفتين في الإسلام نصيب، ولذلك أخرجهم جماعة من السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وقالوا: هم مباينون للملة". وينظر منهج ابن تيمية في التكفير 1/199،198.
( [56] ) ينظر ما سبق ص (208) من قول الإمام أبي حنيفة بكفر من أنكر علو الله تعالى.
( [57] ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاستغاثة في الرد على البكري" – كما في تلخيصه ص 260 – بعد ذكره لقصة قدامة السابقة وبعد ذكره لحديث الرجل الذي أمر بإحراق جسده بعد موته، قال:"ولهذا كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة الذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش لما وقعت محنتهم: أنا لو وافقتكم كنت كافراً، لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائمهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم، وأصل جهلهم شبهات عقلية حصلت لرؤوسهم في قصور من معرفة المنقول الصحيح والمعقول الصريح الموافق له، وكان هذا خطابنا، فلهذا لم نقابل جهله وافتراءه بالتكفير بمثله".
( [58] ) قال الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب كما في الدرر السنية 1/236،235: "فما القول فيمن حرر الأدلة؟ واطلع على كلام الأئمة القدوة؟ واستمر مصراً على ذلك – أي على قول: يا رسول الله أسألك الشفاعة – حتى مات؟ قلت: ولا مانع أن نعتذر لمن
ذكر، ولا نقول: إنه كافر، ولا لما تقدم أنه مخطئ، وإن استمر على خطئه، لعدم من يناضل عن هذه المسألة في وقته، بلسانه وسيفه وسنانه، فلم تقم عليه الحجة، ولا وضحت له المحجة، بل الغالب على زمن المؤلفين المذكورين: التواطؤ علىهجر كلام أئمة السنة في ذلك رأساً، ومن اطلع عليه أعرض عنه، قبل أن يتمكن في قلبه، ولم يزل أكابرهم تنهى أصاغرهم عن مطلق النظر في ذلك، وصولة الملوك قاهرة لمن وقر في قلبه شيء من ذلك إلا من شاء الله منهم
…
ونحن كذلك: لا نقول بكفر من صحت ديانته، وشهر صلاحه، وعلم ورعه وزهده، وحسنت سريرته، وبلغ من نصحه الأمة، ببذل نفسه لتدريس العلوم النافعة، والتأليف فيها، وإن كان مخطئاً في هذه المسألة أوغيرها، كابن حجر الهيتمي، فإنا نعرف كلامه في الدر المنظم، ولا ننكر سمة علمه، ولهذا نعتني بكتبه، كشرح الأربعين، والزواجر وغيرها، ونعتمد على نقله إذا = نقل لأنه من جملة علماء المسلمين". قلت: والهيتمي ممن يرى مشروعية الاستشفاع بالنبي e حياً وميتاً. ينظر الجامع لألفاظ الكفر ص162.
( [59] ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة 5/95: "لم تكفر الصحابةُ الخوارجَ مع تكفيرهم لعثمان وعلي ومن والاهما واستحلالهم لدماء المسلمين المخالفين لهم".
( [60] ) ينظر أيضاً: الدرر السنية 1/520-525، مجموعة التوحيد 1/54، ضوابط التكفير، الباب الثالث: تكفير المعين.
( [61] ) قال الإمام الشوكاني في السيل الجرار فصل: والردة باعتقاد أو فعل أو زي أو لفظ كفري 4/578:
"اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسمل يؤمن بالله ولايوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما. هكذا في الصحيح، وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما: (من دعا رجلاً بالكفر، أوقال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار عليه) . أي رجع، وفي لفظ في الصحيح: (فقد كفر أحدهما) ، ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر، وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير".
وقال الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين كما في الدرر السنية 10/375،374:"وبالجملة: فيجب على من نصح نفسه ألا يتكلم في هذه المسألة إلا بعلم وبرهان من الله، وليحذر من إخراج رجل من الإسلام بمجرد فهمه واستحسان عقله، فإن إخراج رجل من الإسلام أو إدخاله فيه أعظم أمور الدين.. وأيضاً: فما تنازع العلماء في كونه كفراً، فالاحتياط للدين التوقف وعدم الإقدام، ما لم يكن في المسألة نص صريح عن المعصوم e، وقد استزل الشيطان أكثرالناس في هذه المسألة، فقصر بطائفة فحكموا بإسلام من دلت نصوص الكتاب والسنة والإجماع على كفره، وتعدى بآخرين فكفروا من حكم الكتاب والسنة مع الإجماع بأنه مسلم، ومن العجب: أن أحد هؤلاء لو سئل عن مسألة في الطهارة، أو البيع ونحوهما، لم يفت بمجرد فهمه واستحسان عقله، بل يبحث عن كلام العلماء، ويفتي بما قالوه، فكيف يعتمد في هذا الأمر العظيم، الذي هو أعظم أمور الدين وأشد خطراً، على مجرد فهمه واستحسانه؟ فيا مصيبة الإسلام من هاتين الطائفتين! ومحنته من تينك البليتين!! ".
( [62] ) وشروط المجتهد ذكرها أهل العلم في كتب أصول الفقه وغيرها، وهي:
1-
أن يعلم من الأدلة الشرعية ما يحتاج إليه في اجتهاده كآيات الأحكام وأحاديثها.
2-
أن يعرف ما يتعلق بصحة الحديث وضعفه كمعرفة الإسناد ورجاله وغير ذلك.
3-
أن يعرف الناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع حتى لا يحكم بمنسوخ أو مخالف للإجماع.
4-
أن يعرف من الأدلة ما يختلف به الحكم من تخصيص أو تقييد أو نحوه حتى لا يحكم بما يخالف ذلك
5-
أن يكون عارفاً بلسان العرب الذي نزل به القرآن وجاءت به السنة، وذلك بمعرفة النحو ومعرفة معاني الحروف والألفاظ ونحو ذلك.
6-
أن يعرف من أصول الفقه ما يتعلق بدلالات الألفاظ كالعام والخاص والمطلق والمقيد والصريح والظاهر والمجمل والمبين ونحو ذلك؛ ليحكم بما تقتضيه تلك الدلالات.
7-
أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط الأحكام من أدلتها، فيعرف تقرير الأدلة وما يتقوم به ويتحقق به، وكيفية نصب الدليل ووجه دلالته علىالمطلوب، ليتمكن من الاستنباط الدقيق للحكم من دليله، وهذا يحتاج إلى طول مجالسة لأهل العلم الذين أخذوه عن أهله والنظر في كيفية استنباطهم.
ينظر روضة الناظر مع شرحها نزهة الخاطر: فصل في حكم المجتهد 2/401-406، وإرشاد الفحول: المقصد السادس ص250-252، والأصول من علم الأصول ص75.
( [63] ) ينظر كلام الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن أبابطين الذي سبق نقله قريباً، وكلام شيخنا الشيخ محمد بن عثيمين الذي سبق نقله عند الكلام على شروط الحكم على المعين بالكفر.
( [64] ) رواه البخاري (6045) ، ومسلم (61)، وله شواهد كثيرة. وقال ابن الوزير بعد ذكره لتواتر هذه الأحاديث وذكره ما يشهد لها قال في إيثار الحق ص385:"وفي مجموع ذلك ما يشهد لصحة التغليظ في تكفير المؤمن وإخراجه من الإسلام مع شهادته بالتوحيد والنبوات وخاصة مع قيامه بأركان الإسلام وتجنبه للكبائر وظهور أمارات صدقه في تصديقه لأجل غلطة في بدعة لعل المكفر له لا يسلم من مثلها أو قريب منها، فإن العصمة مرتفعة، وحسن ظن الإنسان بنفسه لا يستلزم السلامة من ذلك عقلاً ولا شرعاً، بل الغالب على أهل البدع شدة العجب بنفوسهم والاستحسان لبدعتهم".
وقال ابن دقيق العيد في إحكام الإحكام في آخر باب اللعان 4/76 عند شرحه لحديث أبي ذر السابق: "وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحداً من المسلمين وليس كذلك، وهي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث، لما اختلفوا في العقائد فغلظوا على مخالفيهم، وحكموا بكفرهم".
( [65] ) قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى 35/100: "إن تسليط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، وإنما أصل هذا من الخوارج والروافض الذين يكفرون أئمة المسملين؛ لما يعتقدون أنهم أخطأوا فيه من الدين. وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ المحض، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله e؛ وليس كل من يترك بعض كلامه لخطأ أخطأه يكفر ولا يفسق؛ بل ولا يأثم؛ فإن الله تعالى قال في دعاء المؤمنين:] ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [، وفي الصحيح عن النبي e أن الله تعالى قال: قد فعلت ".
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في رسالته التي وجهها لبعض المتسرعين في التكفير، بعد ذكره أنه قد أنكر على رجلين صنعا مثلما صنع هذا المتسرع، قال كما في الدرر السنية 1/467-469: "وأخبرتهم – أي هذين الرجلين – ببراءة الشيخ محمد – أي الشيخ محمد بن عبد الوهاب – من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يُكفِّر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر والكفر بآيات الله ورسله أو بشيء منها بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبد الصالحين ودعاهم مع الله وجعلهم أنداداً له فيما يستحقه على خلقه، من العبادات والإلهية، وهذا: مُجمع عليه أهل العلم والإيمان، وكل طائفة من أهل المذاهب المقلَّدة، يفردون هذه المسألة بباب عظيم، يذكرون فيها حكمها،وما يوجب الردة، ويقتضيها، وينصون على الشرك، وقد أفرد ابن حجر، هذه المسألة، بكتاب سماه: الإعلام بقواطع الإسلام.
وقد بلغنا: عنكم، نحو من هذا وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة، والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال، والهدايا، ونحو ذلك، من مقالة أهل الشرك بالله، والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة والتي لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب، ومن رزق الفهم عن الله، وأوتي الحكمة، وفصل الخطاب. والكلام في هذا: يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب وفي غيره لمن جهلها وأعرض عنها، وعن
تفاصيلها، فإن الإجمال، والإطلاق، وعدم العلم بمعرفة مواقع الخطاب، وتفاصيله، يحصل به من اللبس والخطأ، وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها، وبين فهم السنة والقرآن، قال ابن القيم: في كافيته - رحمه الله تعالى -:
وعليك بالتفصيل والتبيين فال إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الأذهان والآراء كل زمان".
وينظر ص (199) ، تعليق (62) ، وينظر التعليق السابق.