المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل وقد تبيَّن بما ذكرنا أن حبّ المال والرياسةِ/ والحرصِ عليهما - مجموع رسائل ابن رجب - جـ ١

[ابن رجب الحنبلي]

فهرس الكتاب

الفصل: ‌ ‌فصل وقد تبيَّن بما ذكرنا أن حبّ المال والرياسةِ/ والحرصِ عليهما

‌فصل

وقد تبيَّن بما ذكرنا أن حبّ المال والرياسةِ/ والحرصِ عليهما يُفسدُ دينَ المرءِ حتى لا يبقى منهُ إلا ما شاءَ الله، كما أخبرَ بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

وأَصلُ محبةِ المال والشَّرفِِ. من حُب الدُّنْيَا، وأصل حُبِّ الدُّنْيَا اتّباعُ الهوى.

قال وهبُ بنُ مُنبِّه: من اتّباع الهوى الرغبةُ في الدُّنْيَا، ومن الرغبةِ فيها حُبِّ المالِ والشَّرفِِ، ومِن حُبّ المالِ والشَّرفِ استحلالُ المحارمِ.

وهذا كلامّ حَسَنٌ؛ فإنه إِنَّمَا عُتِبَ عَلَى صاحبِ المالِ والشَّرفِِ الرغبةَ في الدُّنْيَا، وإنما تَحصُلُ الرغبةُ في الدُّنْيَا من اتِّباع الهَوى؛ لأنَّ الهوى دَاعٍ إِلَى الرغبةِ في الدُّنْيَا وَحُبِّ المالِ والشَّرفِِ فيها، والتقوى تمنعُ من اتِّباعِ الهوى وتردعُ عن حُبِّ الدُّنْيَا.

قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (1).

وقَد وَصفَ الله تعالى أَهلَ النارِ بالمالِ والسلطانِ في مَوَاضِعَ مِن كِتابهِ، فَقَالَ تعالى:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (2).

واعلمْ أَن النَّفسَ تُحبُّ الرِّفَعَةَ والعُلوَّ عَلَى أَبناءِ جنسِهَا، وَمن هُنا نشأَ الكِبرُ والحسدُ، ولكن العاقلَ يُنافسُ في العُلوِّ الدائم الباقي الَّذِي فيهِ رضوانُ اللَّه وقُربُهُ وجِوارُهُ، ويَرغَبُ عن العُلوِّ الفاني الزَّائلِ، الَّذِي يعقُبُهُ غَضبُ اللَّه وَسخطُه، وانحطاطُ العبدِ وسُفُولُه وبعدُهُ عَن الله وطردُهُ عنه، فهذا العُلوّ الفاني الَّذِي يُذَمًّ، وهو العتُوُّ والتكبرُ في الأرض بغيرِ الحَقِّ.

(1) النازعات: 37 - 41.

(2)

الحاقة: 25 - 29.

ص: 89

وأما العُلوُّ الأوَّلُ والحرصُ عليهِ فهو محمودٌ.

قال الله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (1).

وقال الحسن: إِذَا رَأَيتَ الرَّجلَ يُنافسكَ في الدُّنْيَا فنافِسْهُ في الآخرةِ.

وقال وُهَيبُ بنُ الوَرْدِ: إِن استطعتَ أَن لَا يسبقَكَ إِلَى الله أَحدٌ فافعلْ.

وقالَ محمدُ بنُ يوسف الأصبهاني العابدُ: لو أَنَّ رجلاً سَمِعَ برجلٍ أو عَرفَ رجلًا أطوعَ للَّه منهُ فَانصدعَ قلبُهُ لم يكن ذلكَ بِعجبٍ.

وقال رجلٌ لمالكِ بن دينارٍ: رأيتُ في المنام مناديًا يُنادي: أيها الناسُ، الرحيل، الرحيلَ، فَما رأيتُ أحدًا ارتحل إلا محمدُ بنُ واسعٍ، فصاحَ مَالكٌ وغُشِيَ عليهِ.

ففي دَرجاتِ الآخرةِ الباقيةِ يَشرُعُ التنافسُ وطلبُ العُلوِّ في مَنازِلها، والحرصُ عَلَى ذلك بالسعىِ في أسبابِهِ، وأن لا يقنع الإنسانُ منها بالدُّونِ مَع قُدرتهِ عَلى العُلوّ.

وأما العلوُّ الفاني المنُقطعُ الَّذِي يعقب صاحبَهُ غذا حَسرةً وندامةً وذِلَّةً وهَوانًا وصغارًا، فهو الَّذِي يشرعُ الزهدُ فيه والإِعراضُ عنهُ.

وللزهدِ فيه أسبابٌ عديدةٌ:

فمنها: نظرُ العبدِ إِلَى سُوءِ عاقبةِ الشَّرفِِ في الدُّنْيَا بالولايةِ والإمارةِ لمن لا يُؤدِّي حقَّها في الآخرةِ، ومنها: نظر العبد إِلَى عُقوبةِ الظَّالمينَ والمكذبين، ومن يُنازعُ اللَّه رِدَاء الكبرياءِ.

وفي "السُّنن" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، يُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُقَالُ لَهُ: بُولَسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ: طِينَةَ الخَبَالِ» .

(1) المطففين: 26.

ص: 90

وخرجه الترمذيُّ (1) وغيرُه (2) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.

وفي روايةٍ لغيرهِ مِن وَجْهٍ آخَرَ في هذا الحديث: "يَطَؤُهُمُ النَّاسُ بِأَقْدَامِهِمْ".

وفي رواية أخرى من وجه آخر: "يَطَؤُهُم الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَالدَّوَابُّ بِأرْجُلهِمْ حَتَّى يَقْضِيَ الله بَيْنَ عِبَادِهِ".

واستأذنَ رَجل عُمرَ رضي الله عنه في القَصصِ عَلَى الناس فَقَالَ له: إِني أَخافُ أن تَقُصَّ عليهم فترتفع عَليهِم في نَفسكِ حَتَّى يَضَعَكَ اللَّه تَحْتَ أَرْجُلهمْ يَومَ القيامةِ.

ومِنها: نَظرُ العبدِ إِلَى ثَوابِ المتَواضعينَ للَّه في الدُّنيا بالرِّفعةِ في الآخرةِ؛ فإنه من تواضعَ لله رفَعَهُ.

ومنها -وَلَيس هُو في قُدرَةِ العبدِ، ولكنَّهُ من فضلِ اللَّه ورَحمتِهِ-: مَا يُعوّضُ الله عِبادهُ العارفين به، الزاهدينَ فيمَا يفنى مِنَ المالِ والشَّرفِِ، ممَّا يُعجِّلُهُ الله لهم في الدُّنْيَا مِن شرفِ التَّقوى وهيبةِ الخلقِ لهم في الظَّاهرِ، ومن حلاوةِ المعرفةِ والإيمان والطَّاعةِ في الباطن.

وهي الحياةُ الطيِّبةُ التي وعدهَا الله لمن عَمِلَ صالحًا من ذكير أو أُنثى وهُو مُؤمنٌ، وهذهِ الحياةُ الطيِّبةُ لم يذُقها الملوكُ في الدُّنْيَا ولا أَهلُ الرئاساتِ والحرصِ عَلَى الشَّرفِِ، كما قالَ إبراهيمُ بنُ أَدهمَ.

لو يعلمُ الملوكُ وأبناءُ الملوكِ ما نحنُ فيه لجالدونا عليهِ بالسيوفِ.

ومن رزقهُ الله ذلك اشتغلَ به عن طلبِ الشَّرفِِ الزائلِ والرئاسةِ الفانية.

قال الله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (3).

(1) فى "الجامع"(2492). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وانظر تخريج هذا الحديث في كتابي "أهوال النار" باب "سجن النار".

(2)

أخرجه أحمد في "المسند"(2/ 179)، والنسائي فى "الكبرى" كما فى "تحفة الأشراف"(8800).

(3)

الأعراف: 26.

ص: 91

وقال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (1).

وفي بعض الآثار: يقول الله عز وجل: "أَنَا العَزيزُ؛ فمن أرادَ العزّ فليُطِعِ العَزيزَ، وَمَن أَرادَ عزَّ الدُّنيا وَالآخِرةِ وشرفهما فَعليهِ بالتَّقْوَى".

وكان حجاج بن أرطاةَ يقولُ: قَتلني حُبُّ الشَّرفِِ. فقالَ لهُ سَوَّارٌ: لَوِ اتقيتَ الله شَرفتَ.

وفي هذا المعنى يقول القائل شعرًا:

أَلَا إِنمَا التَّقْوَى هِيَ الْعِزُّ والْكَرَمُ

وَحُبُّكَ لِلدُّنْيا هُوَ الذُّلُّ والسَّقَم

وَليسَ عَلَى عَبْدٍ تقيٍّ نقيصَة

إِذَا حَقَّقَ التَّقوَى وَإنْ حَاكَ أَو حَجَم

وقال صالحٌ الباجيُّ: الطاعةُ إمرةٌ والمُطِيعُ للَّه أَميرٌ مُؤَمَّر عَلى الأُمراءِ، أَلا تَرَى هَيبتَهُ في صُدورِهِم، إِن قَالَ قَبِلُوا، وِإن أَمر أَطاعُوا، ثم يَقولُ: يَحقُّ لمن أَحسنَ خِدمتَكَ وَمننتَ عليهِ بمحَبَّتِكَ أن تُذْلِلَ له الجبابرةَ حتى يَهَابوهُ لهيبتهِ في صُدورهم من هيبتَكَ في قلبهِ، وكُلُّ الخيرِ من عندكَ بأوليائكَ.

وقال بعضُ السلفِ الصالح: مَنْ أَسعدُ بالطاعةِ مِنْ مُطيع؟ ألَا وَكُلُّ الخيرِ في الطاعةِ، أَلا وِإن المُطيعَ لله مَلِكٌ في الدُّنْيَا والآخرةِ.

وقال ذو النون: مَن أكرمُ وأَعزُّ مِمَّن انقطَعَ إِلَى مَنْ مَلكَ الأَشياءَ بيدهِ؟

دَخلَ محمدُ بنُ سُليمانَ أَميرُ البصرةِ عَلَى حمادِ بنِ سلمةَ وقعدَ بين يديهِ يسألُهُ فَقَالَ له: يا أَبا سلمة، مَا لي كلما نظرتُ إليكَ ارتعدتُ فرقًا منكَ؟ قال: لأَنَّ العالِمَ إِذَا أَرادَ بعلمه وجهَ الله خافَهُ كلُّ شيءٍ، وإنْ أَرادَ أن يُكثِّرَ بهِ الكُنوزَ خافَ مِن كلِّ شيءٍ.

(1) فاطر: 10.

ص: 92

ومِن هذا قولُ بعضهِم: عَلَى قَدرِ هيبتكَ للَّه يخافُك الخلقُ، وعلى قدرِ محبَّتَكَ للَّه يُحبُّكَ الخلقُ، وعلَى قدرِ اشتغالِكَ بالفَه تَشتغلُ الخلقُ بأَشغالِكَ.

وكان عمرُ بن الخطابِ رضي الله عنه يَومًا يمشي ووَراءَهُ قومٌ من كبارِ المهاجرين، فالتفتَ فرَآهم فخَروا عَلَى رُكبهم هيبة لهُ، فبكى عمرُ وقال: اللَّهمَّ إِنك تعلمُ أني أخوفُ لك منهُم؛ فاغفر لي.

وكان العُمَريُّ الزاهد قد خرجَ إِلَى الكوفةِ إِلَى الرشيدِ ليعظَهُ وينهاه؛ فوقعَ الرعبُ في عسكرِ الرشيدِ لما سَمِعوا بنزوله، حتى لو نَزلَ بهم عَدوّ مِائةُ أَلفِ نفسٍ لما زَادُوا عَلَى ذَلك.

وكان الحسنُ لَا يستطيعُ أحدٌ أن يسألَهُ هيبةً له، وكان خواصُّ أصحابهِ يجتمعونَ ويطلبُ بعضُهم مِن بَعضٍ أن يسألوه عن المسألةِ، فَإِذَا حَضروا مَجلسَهُ لم يَجسرُوا عَلَى سؤالهِ، حتى رُبما مكثُوا عَلَى ذلك سَنةً كاملةً هَيبةً له.

وكَذلك كانَ مالكُ بنُ أَنسٍ يُهابُ أَن يُسأَلَ، حتى قالَ فيهِ القائلُ شعرًا:

يَدَعُ الْجَوَابَ وَلَا يُرَاجَعُ هَيبَةً

والسَّائِلُونَ نَوَاكِسُ الْأَذْقَانِ

نُورُ الْوَقَارِ وَعِزُّ سُلْطَانِ التُّقَى

فَهُوَ الْمَهِيبُ وَلَيسَ ذا سُلْطَانِ

وكان يزيد العُقيليُّ يقول: من أرادَ بعلمه وجهَ الله تعالى أقبلَ اللَّه عليهِ بوَجههِ وأقبلَ بقلوبِ العبادِ عليه، ومن عملَ لغيرِ اللَّه صرفَ اللَّه وجهَهُ عنهُ وصرفَ قلوبَ العبادِ عنه.

وقال محمدُ بنُ واسعٍ: إِذَا أقبلَ العبدُ بقلبهِ عَلَى الله أَقبلَ اللَّه عليهِ بقلوبِ المُؤمنينَ.

ص: 93

وقَال أَبُو يزيدَ البَسْطَاميُّ: طَلَّقْتُ الدُّنْيَا ثلاثًا بتاتًا، لا رجعةَ لِي فيها، وصرتُ إِلَى ربي وحدي، ونَاديتُهُ بالاستعانةِ: إِلهي، أدعُوكَ دُعاءَ من لم يَبقَ لهُ غيرُكَ. فلما عَرفَ صِدقَ الدُّعاءِ من قلبي واليأسَ مِن نَفسي كَانَ أَوَّلُ ما وردَ عليَّ من إجابةِ هذا الدُّعاءِ أن أنساني نَفسي بالكُلية، ونَصبَ الخَلَائقَ بين يدي مع إعراضي عنم.

وكَانَ يُزارُ مِن البُلدانِ، فلما رأَى ازدحامَ الناسِ عليهِ قال:

وَلَيتَني صِرْتُ شَيئًا

مِنْ غَيرِ شَئء (أَعُد)(*)

أَصْبَحْتُ للكل مَوْلًى

لِأَنَّنِي لَكَ (عَبْد)(*)

وَفِي الْفُؤَادِ أُمُورٌ

مَا تُسْتَطَاعُ تُعَد

لَكِنْ كِتْمَانُ حَالِي

أَحَقُّ بِي (وَأَشَد)(*)

كَتَبَ وهبُ بنُ مُنبِّهٍ إِلَى مَكحولٍ: أَمَّا بعدُ، فإنكَ أصبتَ بظاهرِ علمكَ عندَ الناسِ شَرفًا ومنزلةً، فاطلُبْ بباطنِ علمكَ عندَ اللَّه منزلةً وزُلْفَى، واعلمْ أنَّ إِحدَى المنزلَتيِن تمنعُ من الأخْرى.

ومعنى هَذا أَنَّ العلمَ الظاهرَ من تعلُّم الشَّرائعِ والأحكامِ، والفَتاوى والقَصص والوَعظِ ونحوِ ذلك مما يظهرُ للناسِ يَحصلُ بهِ لصاحبهِ عندَهُم منزلةٌ وشرفٌ، والعلمُ الباطنُ المودَعُ في القلوبِ من معرفةِ اللَّه وخشيتِهِ، ومحبتِهِ ومُراقبتِهِ، والأنسِ بهِ والشوقِ إِلَى لقائِهِ، والتوكلِ عليهِ والرّضى بقضائِهِ، والإعراضِ عن عَرَضِ الدُّنْيَا الفاني، والإقبالِ عَلَى جَوهرِ الآخرةِ الباقي، كلُّ هذا يوجبُ لصاحبهِ عندَ اللَّه منزلةً وزُلْفَى، وإحدَى المنزلتينِ تمنعُ من الأُخرى.

فمن وقفَ مع منزلتِهِ عندَ الخلْقِ، وانشغلَ بما حَصَل لهُ عندَهم بعلم الظاهرِ من شرفِ الدنيا، وكان همُّهُ حِفظَ هذهِ المنزلةِ عندَ الخلقِ وملازَمتَهَا وتربيتها

(1) من "ك" وفي باقي النسخ الثلاث الأخري زيادة الألف بمد الدال.

ص: 94

والخوفَ من زَوَالِها كانَ ذلكَ حظَّهُ من اللَّه وانقطَعَ به عنهُ، فهو كما قالَ بعضُهم: ويلٌ لِمَن كانَ حَظُّهُ مِن اللَّه الدُّنْيَا.

وكان السَّرِيُّ السَّقَطَيُّ يعجب مما يَرى من علمِ الجنُيدِ وحُسنِ خطابِهِ وسُرعةِ جَوابهِ فقالَ لَه يَومًا -وقَد سأَلهُ عن مَسألةٍ فَأجابَ وأَصابَ-: أَخشَى أن يكونَ حظَّكَ من الدُّنْيَا لسانك. فكانَ الجُنيدُ لَا يزالُ يَبكِي من هذهِ الكلمةِ.

ومَن اشتغلَ بتَربيةِ منزلتِهِ عندَ اللَّه بما ذكرنا من العلمِ الباطنِ وَصلَ إِلَى اللَّه، فاشتغلَ بهِ عما سواهُ، وكانَ لهُ في ذلكِ شُغُلٌ عن طلبِ المنزلةِ عندَ الخلقِ، ومع هذا، فإن الله يُعطيهِ المنزلةَ في قُلوبِ الخلقِ والشَّرفَِ عندَهم، وإن كان لا يريدُ ذلك ولا يَقفُ معهُ؛ بل يَهرَبُ منهُ أَشدَّ الهربِ ويفِرُّ أَشدَّ الفِرَارِ؛ خشيةَ أن يقطعَهُ الخلقُ عن الحقِّ جل جلاله.

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} (1).

أي: في قلوبِ عِبادِهِ.

وفي حديث: "إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا نَادَى: يَا جِبْرِيلَ، إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا.

فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ".

والحديثُ مَعروفٌ، وهُو مُخرّج في "الصحيح"(2).

وبكُلِّ حالٍ؛ فطلبُ شرف الآخرةِ يَحصلُ معه شرف الدُّنْيَا، وإن يُردْهُ صاحبُهُ ولم يطلُبهُ، وطلبُ شرف الدُّنيا يمنع شَرفَ الآخرةِ ولا يَجتمعُ معهُ، والسعيدُ من آثَرَ الباقي عَلَى الفاني، كما في حديثِ أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» .

(1) مريم: 96.

(2)

أخرجه البخاري (3209).

ص: 95

خرجه الإمام أحمد (1) وغيره (2).

وما أَحسنَ ما قال أبو الفتح البُسْتِيُّ:

أَمْرَانِ مُفْتَرِقَانِ لَسْت تَرَاهُمَا

يَتَشَوَّقَانِ لخلطة وَتَلَاقِي

طَلَبُ الْمَعَادِ مَعَ الرِّيَاسَةِ وَالْعُلَى

فَدَعِ الَّذِي يَفْنَى لِمَا هُوَ بَاقِي

تم الكلام عَلَى شرح الحديث، والحمد لله عَلَى كل حال، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

(1) في "المسند"(4/ 412).

(2)

أخرجه أيضًا عبد بن حميد في "مسنده"(568)، والقضاعي في "مسند الشهاب"(418)، والبغوي في "شرح السنة"(4038)، والحاكم في "المستدرك"(4/ 308)، والبيهقي في "السنن الكبير"(3/ 370). وصححه الحاكم.

ص: 96

شرح حديث "لبيك اللهم لبيك"

ص: 97

بسم الله الرحمن الرحيم

خرَّج الإمام أحمد، والحاكم (1)، من حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّمه دعاءً، وأمره أن يتعاهد به أهلَه كل يوم، قال: "قُلْ حِينَ تُصْبِحُ: لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ وَمِنْكَ وَبِكَ وَإِلَيْكَ، اللهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ أَوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، مَا شِئْتَ وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ، إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللهُمَّ وَمَا صَلَّيْتُ مِنْ صَلَاةٍ فَعَلَى مَنْ صَلَّيْتَ، وَمَا لَعَنْتُ مِنْ لَعْنَ فَعَلَى مَنْ لَعَنْتَ، إِنَّكَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ.

اللهُمَّ إِنَِي أَسْأَلُكَ اللهُمَّ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَذَّةَ نَظَرٍ إِلَى وَجْهِكَ، وَشَوْقًا إِلَى لِقَائِكَ، مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، أَعُوذُ بِكَ اللهُمَّ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ، أَوْ أَكْتَسِبَ خَطِيئَةً مُحْبِطَةً، أَوْ ذَنْبًا لَا تَغْفِرُهُ، اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأُشْهِدُكَ وَكَفَى بِكَ شَهِيدًا أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ الْمُلْكُ وَلَكَ الْحَمْدُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنْتَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ. وَأَشْهَدُ أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي، تَكِلْنِي إِلَى ضَيْعَةٍ وَعَوْرَةٍ وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ، فَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ".

قوله صلى الله عليه وسلم: "لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ" معناه: إجابة لدعائك مرة بعد مرة. وليس المراد به حقيقة التثنية، بل المراد التكرير والتكثير والتوكيد؛ كقوله تعالى:{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (2) يعني: مرة بعد مرة.

(1) أحمد في "المسند"(5/ 191)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 516). وصححه الحاكم.

(2)

الملك: 4.

ص: 99

وأصلُه: من (لب)(1) بالمكان: إذا لزمه وأقام فيه؛ فكأنَّ الملبِّي يُجيب دعوة الله ويلزم ذلك. ويقتضي أيضاً: سُرعة الإجابة مع الدوام عليها.

وقوله: "وسعديك" يعني: إسعادًا بعد إسعاد. والمعنى: طاعة بعد طاعة.

وأصلُه: أنَّ المُنادي إذا دعا غيره، فإنَّ المجيب لدعائه يجيبُه إسعادًا له ومساعدة. ثم نُقل ذلك إِلَى مُطلق الطاعة، حتى استُعمل في إجابة دعاء الله عز وجل؛ وحُكي عن العرب: سُبحانه وسعدانه، عَلَى معنى أسبحه وأطيعه؛ تسمية للإسعاد بسعدان، كما يسمى التسبيح سبحان، ولم يُسمع بسعديك مفردًا.

ولا شك أنَّ اللَّه تعالى يدعو عباده إِلَى طاعته، وإلى ما فيه رضاه، وما يوجب لهم به سعادة الآخرة، فمن أجاب دعاءه واستجاب له فقد أفلح وأنجح؛ قال تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2)، وقال تعالى:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} (3) وقال حكاية عن الجن الذين يستمعون القرآن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (4).

ولهذا يقولُ المُلبي في الحج: لبيك اللهم لبيك. يعني: إجابة لدُعائك وطاعة لك، حيثُ دعوتنا إِلَى حج بيتك.

وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يقوله في دُعاء الاستفتاح في الصلاة -وقد قيل: إنَّه كان يقولُه في قيام الليل، وقد قيل: إنه كان يقوله في استفتاح المكتوبة-: "لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ، أَنَا بِكَ وَإِلَيْكَ،

(1) لبب: "نسخة".

(2)

يونس: 25.

(3)

إبراهيم: 10.

(4)

الأحقاف: 31.

ص: 100

تباركت وتعاليت أستغفرك وأتوب إليك". خرَّجه مسلم (1) من حديث علي رضي الله عنه.

وروي من حديث حذيفة مرفوعًا (2)، وموقوفًا (3) وهو أصح، يدعو محمدٌ صلى الله عليه وسلم فيقول:"لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ بِيَدَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، وَالْمُهْتدَي مَنْ هَدَيْتَ، عَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ رَبَّ الْبَيْتِ".

فَإِذَا كان العبد في صبح كل يوم، يقول: اللهم لبيك وسعديك. فإنه يُريد بذلك أني أصبحتُ مجيبًا لدعوتك، مُسرعًا إليها، مقيمًا عَلَى طاعتك، ممتثلاً لأوامرك، مجتنبًا لنواهيك. فَإِذَا قال هذا بلسانه فالواجبُ أنْ يتبع ذلك بعمله؛ ليكون مُستجيبًا لدعوة الله قولًا وفعلًا.

وإنْ قال ذلك ثُم خالفه بعمله، فقد كذَّب قولُه عملَه، وهو جديرٌ أنْ يُجاب كما يُجَابُ مَنْ حجَّ بمالٍ حرام، وقال: لبيك اللهم لبيك. فيُقال: لا لبيك ولا سعديك.

وفي بعض الآثار أنَّ الله عز وجل يُنادي كلَّ يوم: "ابن آدم ما أنصفتني، أذكرك وتنساني، وأدعوك إليَّ فتذهب إِلَى غيري، وأُذْهِبُ عنك البلايا وأنت تعكف عَلَى الخطايا. ابن آدم: ما اعتذارك غدًا إذا جئتنىِ؟ ".

كم دعاك إِلَى بابه فما أجبت ولا لبَّيت، كم استدعاك إِلَى جنابه فقعدت وأبيت، كم عُرضت عليك واجباتُه فتكاسلت وتوانيت، وزُجرت عن منهياته فما انزجرت وتماديت، كم سمعت داعي الحق فتصاممت، وكم رأيت آياته في الخلق فتعاميت.

(1) في "صحيحه" برقم (771).

(2)

أخرجه الحاكم (4/ 573).

(3)

أخرجه الطيالسي في "مسنده"(55 رقم 414) والنسائي في "الكبرى"(11294)، والبزار في مسنده (2926 البحر الزخار) وغيرهم من طريق صلة بن زفر قال: سمعت حذيفة يقول: يجمع الناس في صعيد واحد

فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: لبيك وسعديك

الحديث. قال الهيثمي في "المجمع"(10/ 377): رواه البزار موقوفًا، ورجاله رجال الصحيح.

ص: 101

فيا من جسدُه حي وقلبه ميت، يا ليتك أجبت منادي الهدى حين ناداك يا ليت.

شعر:

يا نفس ويحك قد أتاك هُداك

أجيبي فداعي الحق قد ناداك

كم قد دُعيت إِلَى الرشاد فتُعرضي

وأجبت داعي الغي حين دعاك

طُوبى لمن أجاب داعي "الهدى"(1) إذا دعاه، يا قومنا أجيبوا داعي الله.

هكذا يا عبد سوء هكذا

عبد سوء أنت لم تصلح لنا

هكذا يا عبد سوء هكذا

بعدما قاربتنا جانبتنا

كم قد دعوناك فما أجبتنا

واختبرناك فما أعجبتنا

قولُه صلى الله عليه وسلم: "والخير في يديك" إشارة إِلَى أن الله عز وجل إنَّما يدعو عباده إِلَى ما هو خير لهم، مما يُصلح دينهم ودنياهم وآخرتهم؛ فإنَّه يدعوهم إِلَى دار السلام، ويدعوهم ليغفر لهم ذنوبَهم. فَإِذَا سارع العبدُ إِلَى إجابة دعوة ربه بتلبيته والاستجابة له، قال مع ذلك: والخيز في يديك؛ إشارةَ إِلَى أني (أستجيبُ)(2) لدعوتك طمعًا في نيل الخير الَّذِي كله بيديك، وأنت لا تدعو العبد إلَّا إِلَى ما هو خير له في دنياه وآخرته.

يا هذا، لو دعاك مخلوقٌ ترجو خيره لأسرعت إجابته، مع أنه لا يملك لك ولا لنفسه ضرًّا ولا نفعًا. فكيف لا تُسارع إجابةَ مَن الخيرُ كلُّه بيديه، ولا يدعوك إلَاّ لخير يُوصله إليك؟!

ألم يرث التقوى أناس صدق

فقادهم التقى خير المقاد

أما يقل الإله إلي عبيدي

فكل الحير عندي في المعاد

قولُه: "ومنك وبك وإليك" يحتمل أنَّ مراده أن الخير كله منك وبك وإليك

(1) الهداة: "نسخة".

(2)

استجبت: "نسخة".

ص: 102

يعني: أنَّ مبدأ الخير منك؛ كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (1).

وقال: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (2) فاللَّه تعالى هو المبُتدئ بالخير، فمنه بدأ ونشأ. والخيرُ به، يعني: أنَّ دوامه واستمراره وثبوته باللَّه، ولو شاء اللَّه لنزعه وسلبه صاحبه. وقد قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا * إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} (3) يعني: أنَّ دوام هذه النعمة عليك من اللَّه كما أن ابتداءها منه.

والخيرُ إِلَيْهِ: بمعنى أَنَّه يرجع بصاحبه إِلَى الله في الآخرة، وإلى جِواره وقُربه فى جنات النعيم. فينتهي الخيرُ بصاحبه إِلَى اللَّه عز وجل.

ويُحتمل أنَّ المراد بقوله: "ومنك وبك وإليك": أنَّ العبد نفسه باللَّه ومن اللَّه وإلى الله؛ كما في حديث الاستفتاح: "أنا بك وإليك" ولعل هذا أظهر. ويكون معنى الكلام؛ أنَّ العبد وجودُه من اللَّه تعالى، فإنه كان عدمًا فأوجده اللَّه وخلقه، وهو في حال وجوده في الدُّنْيَا باللَّه. أي أنَّ ثباته وقيامه باللَّه، فلولا أنَّ اللَّه يُقيم الوجود وما فيه من أنواع الخلق لهلك ذلك كله وتلف. ومن أسمائه الحيُّ القيوم؛ وقال:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} (4). وفي الأثر المعروف في قصة القارورتين: "يا مُوسى، لو نمتُ لسقطت السماء عَلَى الأرض".

وبعد انتقال العباد من هذه الدار فإنَّ مرجعهم إِلَى اللَّه، كما قال تعالى:{إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} (5) ثم قال: {تُرْجَعُونَ} (6) في آيات كثيرة.

وفي هذا المعنى قال بعضُ العارفين: حقيقة التوحيد أنْ يكون العبد فانيًا في الله عز وجل يرى الأشياء كلَّها به وله، وإليه ومنه، كما قال عامر بن عبد قيس: ما نظرتُ إِلَى شيءٍ إلَّا رأيت الله فيه.

(1) النحل: 53.

(2)

الجاثية: 13.

(3)

الإسراء: 86.

(4)

فاطر: 1 4.

(5)

يونس: 4.

(6)

البقرة: 28.

ص: 103

تبارك من أوجد الإنسان من عدم

وأقامه ولولا الإله لم يقم

إِلَيْهِ مرجعه وهو باعثة

بعد الممات والأجداث والرمم

قولُه صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ مَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ نَذَرْتُ مِنْ نَذْرٍ أَوْ حَلَفْتُ مِنْ حَلِفٍ فَمَشِيئَتُكَ بَيْنَ يَدَيْهِ، مَا شِئْتَ كَانَ وَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِكَ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدِيرٌ". ذكر الخطَّابي في كتاب "الدُّعاء" له أن قوله:

"فمشيئتك" رُوي بضم التاء وفتحها، وأن من رواه بالضم فإنَّ المعنى: الاعتذار بسابق الأقدار العائقة عن الوفاء بما أَلْزَمَ العبدُ نفسَهُ مِن النذور والأيمان. قال: وفي هذا طرفٌ من الجبر. قال: والصواب رواية من رواه بفتح التاء عَلَى إضمار فعل. كأنّه قال: فإني أقدّم مشيئتك في ذلك، وأنوي الاستئناء فيه طرحًا للحنْث عني عند وقوع الحلف.

قال: وفي ذلك حجة لمن ذهب مذهب المكيين، في جواز الاستئناء منفصلاً عن اليمين.

قلتُ: الصواب: هذا المعنى عَلَى (كلا)(1) الروايتين. أعني: رواية الضم، ورواية النصب.

وليس المرُاد برواية الضم الاعتذار بالقدر، وإنَّما المعنى: فمشيئتُك بين يدي ذلك كلِّه مقدَّمة. فهو مبتدأ حُذف خبره.

ويشهد لهذا المعنى ما خرجه أبو داود في "سُننه"(2) بإسناده، عن أبي الدرداء أنه كان يقول: مَن قال حين يُصبح: اللهم ما حلفتُ من حلِفٍ أو قلتُ من قولٍ أو نذرتُ من نذرٍ فمشيئتك بين يدي ذلك كلّه، ما شئتَ كان وما لم تشأ لم يكن، اللهم اغفر لي وتَجَاوَزْ عنِّي، اللهم فمن صلَّيتَ عليه فعليه صلاتي، ومن لعنتَ فعليه لعنتي. كان في استثناءِ يومه ذلك".

فقد صَرَّحَ أبو داود بأن المراد بهذا الاستثناء بالمشيئة أنه يكون استثناء في يومه ذلك، يعني: فيما يحلف به وينذره ويقوله في ذلك اليوم.

(1) برقم (5078) عن أبي ذر.

(2)

كذا بالأصل، والصواب:"كلتا".

ص: 104

وهذا صريحٌ في أنَّه يكون استثناء في ما يستقبله من الكلام في يومه ذلك.

وأما قولُ الخطابي -أنَّه يمتنع الحنث- كقول من يقول ذلك في الاستثناء (المتصل)(1) بعد الكلام -كما حكاه عن المكيين. فأصلُ ذلك أنَّه قد رُوي عن المكيين، كعطاء ومجاهد وعمرو بن دينار وابن جُريج وغيرهم أنه ينفع الاستثناء بعد مُدة من اليمين.

ورُوي ذلك عن ابن عباس من وجوه، وقد طعن فيها كلِّها غيرُ واحد، منهم القاضي إسْماعيل المالكي، والحافظ أبو موسى المديني، وله في ذلك مصنَّفٌ مُفرد.

ورُوي عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (2) قال: هي خاصةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره. خرَّجه الطبراني من وجه ضعيف.

ورُوي ذلك عن ابن جُريج أيضًا.

وقالت طائفةٌ: إِنَّمَا أراد هؤلاء أنَّ هذا الاستثناء المنُفصل، يحصل به امتثال قوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (3) وسببُ نزولها: أن قومًا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة، فَقَالَ: غدًا أخبركم، ولم يقل: إنْ شاء الله، فاحتبس الوحي عنه مدة، ثم نزلت هذه الآية.

وفي الحديث "الصحيح"(4) أنَّ سليمان عليه السلام قال: "لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ

". الحديث.

وفي الحديث: أنَّ بني إسرائيل، لو لم يقولوا: إنْ شاء الله، لما اهتدوا أبدًا.

يعني: إِلَى البقرة التي أمروا بذبحها.

(1) المنفصل: "نسخة".

(2)

الكهف: 24.

(3)

الكهف: 23 - 24.

(4)

أخرجه البخاري (2819)، ومسلم (1654).

ص: 105

وفي الحديث الَّذِي في "المسند" و"السنن"(1): أنَّ يأجوج ومأجوج يحفرون كلَّ يوم السد حتى يكادوا يروا منه شُعاع الشمس، ثم ينصرفون ويَقُولُونَ غدًا نفتحه. فَإِذَا رجعوا من الغد وجدوه كما كان أولاً فلا يفتحونه، حتى يأذن اللهُ في فتحه، فيَقُولُونَ: غدًا نفتحه -إنْ شاء اللَّه- فيرجعون فيجدونه كما تركوه فيفتحونه.

قال سعيد القداح: بلغني أن موسى عليه السلام كانت له إِلَى اللَّه حاجة فطلبها فأبطأت فَقَالَ: ما شاء اللَّه، فَإِذَا حاجته بين يديه فتعجب، فأوحى اللَّه إِلَيْهِ: أما علمت أن قولك: ما شاء اللَّه أنجح ما طلعت به الحوائج.

قال إبراهيم بن أدهم: قال بعضهم ما سأل السائلون مسألة هي أنجح من أن يقول العبد: ما شاء الله، ما شاء اللَّه. قال: يعني بذلك: التفويض إِلَى الله.

وكان مالك بن أنس كثيرًا ما يقول: ما شاء اللَّه، فعاتبه رجلٌ عَلَى ذلك.

فرأى في منامه قائلًا يقول: أنت المُعاتب لمالك عَلَى قوله: ما شاء الله؟ لو شاء مالك أنْ يثقب الخردل بقوله: ما شاء اللَّه فعل.

قال حماد بن زيد: جعل رجلٌ لرجلٍ جُعلًا عَلَى أنْ يعبر نهرًا، فعبر حتى إذا قرب من الشط، قال: عبرتُ والله. فَقَالَ له رجل: قل: ما شاء الله. فَقَالَ: شاء اللَّه أو لم يشأ. قال: فأخذته الأرض.

فلا ينبغي لأحد أنْ يُخبر بفعل يفعله في المستقبل إلَاّ أنْ يُلحقه بمشيئة اللَّه؛ فإنَّه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والعبد لا يشاء إلَّا أن يشاء الله له.

فَإِذَا نسي هذه المشيئة ثم ذكرها ولو بعد مدة فقد امتثل ما أُمر به، وزال عنه الإثم، وإنْ كان لا يرفع عنه الكفارة ولا الحنِث فى يمنيه. ولهذا في كلام أبي الدرداء (2): اللهم اغفر لي وتجاوز عني. فلم يسأل إلَاّ رفع الإثم دون رفع الكفارة.

(1) أخرجه أحمد (2/ 510، 511)، والترمذي (3153)، وابن ماجه (4080) عن أبي هريرة مع اختلاف بعض الألفاظ.

(2)

أبو داود (5087) عن أبي ذر.

ص: 106

وكذا روي عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} (1) قال: يقول: إذا حلفت (ونسيت)(*) الاسشناء فاستثن إذا ذكرت، ولو بعد خمسة أشهر وستة أشهر، فإنَّه يجزئك ما لم تحنث. خرَّجه آدم بن أبي إياس في "تفسيره".

وعلى هذا حَمل قولَ ابن عباس وأصحابه طائفةٌ من العُلَمَاء، منهم: أبو مسعود الأصبهاني، وابن جرير الطبري.

وكذا يُقال في هذا الحديث في تقديم الاستثناء في اليمين؛ فإنَّ تقديمه أبعد من تأخيره عن اليمين، فإنَّ اليمين لم تُوجد بعد بالكلية وفي تأخيره قد وجدت.

وقد قال مالك في الاستثناء في اليمين: إنْ ذكر المشيئة يُريد بها الاستثناء (نفعه)(**) ذلك في منع الحنث، وإنْ كان إنَّما (ريد) (

) امتثال قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (2)(لم يحنث)(****)، فإني أرى الكفارة. نقله ابنُ المنذر وغيره، وكذلك حكاه أبو عُبيد عن بعض العُلَمَاء.

وتردد بعضُ العُلَمَاء في وجوب الكفارة في هذا القَسَم؛ لتردد نظره بين اللفظ والمعنى. فلفظُه معلَّقٌ بالمشيئة، ومعناه الجزم بالفعل غير معلق، وإنَّما ذكر الاستثناء تحقيقًا وتأكيدًا للفعل.

وفي الجملة: فينبغي حملُ حديث زيد بن ثابت عَلَى هذا المعنى، وأنْ يُقدِّم المشيئة عَلَى كل قولٍ يقولُه، وحَلْفٍ يحلفهُ، ونذر ينذرُه؛ ليخرج بذلك من عُهدة استقلال العبد بفعله، وليحقق العبدُ أنَه لا يكون مما يعزم عليه العبدُ ويقوله؛ من حَلْفٍ ونذرٍ وغيرهما الأ ما شاء الله وأراده؛ ولهذا قال بعده:"ما شئتَ كان وما لم تشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بك، إنك عَلَى كل شيء قدير".

(1) الكهف: 24.

(*) فنسيت: "نسخة".

(**) فيمنعه: "نسخة".

(

) أراد: "نسخة".

(2)

الكهف: 23.

(****) ثم حنث: "نسخة".

ص: 107

فتبرَّأ من حوله وقوته ومشيئته بدون مشيئة الله وحوله وقوته، وأقرَّ لربِّه بقدرته عَلَى كل شيء، فإن العبد عاجزٌ عن كل شيء إلَاّ ما أقدره عليه ربَّه.

ففي هذا الكلام: إفرادُ الربِّ بالحوْل والقوة، والقُدرة والمشية، فإن العبد غيرُ قادرٍ عَلَى ذلك كله إلَاّ عَلَى ما يقدره مولاه، وهذا نهاية توحيد الربوبية.

وللشافعي رحمه الله من أبيات:

ما شئتَ كان وإنْ لم أشأ

وما شتُ إِنَّ لم تشأ لم يكن

وقد حمل طائفةٌ -منهم الإمام أحمد- كلامَ ابن عباس في تأويل الآية عَلَى وجه آخر، وهو أنَّ الرجل إذا قال لا أفعل كذا وكذا، ثم أراد فعلَه فإنَّه يستثني، ثم يقول: إنْ شاء الله، ثم يفعلُه ويتخلَّصُ بذلك من الكذب إِن لم يكن قد حلف عليه بيمين.

وكان يحيى بن سعيد القطان إذا قال: لا أفعل كذا، لا يفعله أبدًا. فَإِذَا قيل له: لَمْ تحلف. يقول: هذا أشد -يعني الكذب- لو كنتُ حلفت كان أهون، كُنت أكفر يميني وأفعله.

وسُئل الإمام أحمد عمَّن يقول لا آكل، ثم يأكل. قال: هو كذب، لا ينبغي أنْ يفعل ذلك. (ونقل)(*) الوليدُ بن مسلم في كتاب "الأيمان والنذور" -عن الأوزاعي، في رجل كُلِّم من شيءٍ فيقول: نعم، إنْ شاء اللَّه (ومن نيته أن لا يفعل) (**) قال: هذا الكذب والخُلف. قال: إنَّما يجوز المُستثنى في اليمين. قِيلَ لَهُ: فإن قال: نعم إنْ شاء الله، (ومن نيته) (

) أنْ يفعل، ثم بدا له أن لا يفعل. قال: له (ثُنياه)(****).

وهذا يدل عَلَى أن الاستثناء بالمشيئة في غير اليمين، إِنَّمَا ينفع لمن لم يكن مصممًا عَلَى مخالفة ما قاله من أول كلامه.

(*) وسُئِلَ: "نسخة".

(**) وما نيته إلا أن لا يفعل: "نسخة".

(

) ما بنيته: "نسخة".

(****) استتناؤه مخالفة ما قال. "نسخة".

ص: 108

قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم ما صلَّيتُ من صلاة فعلى من صليتَ وما لعنتُ من لعن فعلى مَن لعنتَ".

قال الخطَّابي: الوجهُ أن تُرفع التاء من "صلَّيت ولعنت" في الأولى، وأن تنصبها منهما في الأخرى.

والمعنى: كأنّه يقول: اللهم اصرف صلاتي ودعائي إِلَى من (اختصصته)(*) بصلاتك ورحمتك، واجعل لعنتي عَلَى من استحق اللعن عندك واستوجب الطردَ والإبعاد في حُكمك، ولا تؤاخذني بالخطأ مني في (وضعها)(**) غير موضعها (وإحلالها) في غير محلها.

قال: وإنَّما يصح عَلَى هذا التأويل، إذا كان قد سبقت منه صلاةٌ أو لعن لغير المستحقين. قال: وقد يُحتمل أن يكون إِنَّمَا دعا بالتوفيق، واشترط في مسألته العصمة؛ لئلا يجري عَلَى لسانه ثناءٌ إلا لمن يستحق الثناء من أوليائه، ولا ذم إلَاّ لمن يستحقه من أعدائه. كأنّه (يقول) (****): اللهم احفطي حتى لا أوالي إلَاّ أولياءك، ولا أعادي إلا أعداءك. قال: والوجه الأول إِنَّمَا ينصرف إِلَى الماضي، والوجه الآخر إِلَى المستقبل، والله أعلم. انتهى.

قلتُ: التفسير الأول أصح؛ يشهد له قولُ أبي الدرداء: اللهم فمَنْ صليتَ عليه فعليه صلاتي، ومَنْ لعنتَ فعليه لعنتي.

وقول الخطابي: إِنَّ هذا الوجه إِنَّمَا ينصرف إِلَى الماضي. ضعيفٌ؛ بل الصواب أنَّه ينصرف إِلَى المستقبل، (وأنَّ) (*****) المراد: ما لعنتُ في هذا اليوم من لعن، وما صلَّيت فيه من صلاة -يعني: ما ألعن وما أصلي.

وهذا ما تقدم في قوله: ما قلتُ من قولٍ، أو نذرتُ من نذرٍ، أو حلفتُ من حلفٍ، فمشيئتُك بين يديه.

(*) خصصه: "نسخة".

(**) وضعي إياها: "نسخة".

(

) وأحلها: "نسخة".

(****) قال: "نسخة".

(*****) وإنما: "نسخة".

ص: 109

وقد وافق الخطَّابي -كما تقدم عنه- أنَّ المراد به ما يقوله ويحلفه، وينذره في المستقبل، فكذلك الصلاة واللعن.

واعلم أنَّ العبد مبتلى بلسانه، يلعن به من يغضب عليه ويمدح به مَن يرضى عنه. وكثيرًا ما يمدح مَنْ لا يستحق المدح، ويلعن مَنْ لا يستحق اللعن.

وقد ورد في غير حديث: أنَّ اللعنة إذا لم يكن الملعون بها أهلاً لها رجعت (عَلَى)(*) اللاعن.

واللعنُ دعاء، فربَّما أُجيب وأصاب ذلك الملعون. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي لعنت بعيرَها أنْ ترسله، وقال:"لا تصحبنا ناقةٌ ملعونة"(1).

وكان بعضُ السلف لا يدخل بيته بشيءٍ ملعون، ولا يأكل من بيض دجاجةٍ يلعنها، ولا يشرب من لبن شاة لعنها. قال بعضهم: ما أكلتُ شيئًا ملعونًا قط.

وذكر ابنُ حامد من أصحابنا، عن أحمد قال: مَن لعن عبده فعليه أن يُعتقه، أو شيئًا من ماله: أنَّ عليه أن يتصدَّق.

قال: ويجيءُ في لعن زوجته أنَّه (يلزمه)(**) أن يطلقها؛ ويشهد لها - في الزوجة- وقوعُ الفرقة بين المتلاعنين، لمَّا كان أحدُهما كاذبًا في نفس الأمر قد حقَّت عليه اللعنةُ والغضب.

فَإِذَا قدمُ العبدُ من أول نهاره في دعائه: أنَّ ما لعن من لعن، فإنَّه لاحقٌ بمن لعنه الله، وما أثنى من ثناء فهو لاحق بمن أثنى عليه الله. فقد خلص بذلك من إثم لعن من لا يستحق اللعن، أو مدح من لا يستحق المدح، إذا وقع ذلك سهوًا أو غلطًا، أو عن قوة غضب ونحوه.

فأمَّا من (يتعمد) (

) ذلك عن علمه بالحال ففي دخوله في هذا الشرط نظر، مع أنَّ عموم اشتراطه يقتضي دخوله فيه.

(*) إِلَى: "نسخة".

(1)

أخرجه مسلم (2596).

(**) عليه: "نسخة".

(

) تعمد: "نسخة".

ص: 110

وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَه اشترط أنَّه من سبه أو لعنه أو ضربه في غضب ونحوه، أنَّه يكون له كفارة وصلاة (1). وفي رواية: وهو غير مُستحق.

وهذا إِنَّمَا يكون إذا ظن استحقاقه لذلك، ثم تبين أنه غير مستحق.

قوله صلى الله عليه وسلم: " {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} ".

مأخوذٌ من دعاء يُوسف عليه السلام حين قال: {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} (2) الآية، والله عز وجل وفي أوليائه في الدُّنْيَا والآخرة، يتولَّى حفظَهم وكلاءتهم وهدايتهم وحراستَهم، في دينهم ودنياهم ما (داموا)(*) أحياء، فَإِذَا حضرهم الموتُ توفَّاهم عَلَى الإسلام، وألحقهم بعد الموت بالصالحين.

وهذا أجلُّ النعم وأتمها عَلَى الإطلاق؛ وقد قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عند وفاته:

" {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} "(3).

وقول يوسف عليه السلام: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (4) قيل: إنَّه دعا لنفسه بالموت، وهو قولُ جماعة من السلف، منهم الإمام أحمد.

فَيُستدل به عَلَى جواز الدعاء بالموت من غير ضر نزل به.

وقيل: إنَّه إِنَّمَا دعا لنفسه بالموت عَلَى الإسلام عند نزول الموت، وليس فيه دعاءٌ بتعجيل الموت كما أخبر عن المؤمنين أنهم قالوا في دُعائهم:{فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} (5) ويؤيِّد التفسير الأوّل: أنَه عقَّبه بالدعاء بالشوق إِلَى لقاء اللَّه، وهو يتضمَّن الدعاء بالموت.

(1) أخرجه أحمد (6/ 45)، ومسلم (2600) من حديث عائشة، وأخرجه أحمد (2/ 390، 488، 496) " (3/ 400)، ومسلم (2601) من حديث أبي هريرة، وأخرجه أحمد (3/ 333، 384، 391، 400)، ومسلم (2602) من حديث جابر، وأخرجه أحمد (4/ 454) من حديث سودة امرأة أبي الطفيل.

(2)

يوسف: 101.

(*) كانوا: "نسخة".

(3)

أخرجه البخاري (4586)، ومسلم (2444)[86] من حديث عائشة.

(4)

يوسف: 101.

(5)

آل عمران: 193.

ص: 111

واستدل من جوَّز الدعاء بالموت وتمنّيه بقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (1)، ثم ذمَّهم عَلَى عدم تمنيه بسبب سيئاتهم، وعلى حرصهم عَلَى طول الحياة في الدُّنْيَا. وكذلك قوله تعالى:{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} الآية (2).

وفي "المسند"(3) عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يتمنينَّ أحدٌ الموت إِلَاّ من وثق بعمله".

فمن كان له عملٌ صالح فإنَّه يتمنَّى القدومَ عليه، وكذلك مَنْ غلب عليه الشوقُ إِلى لقاء اللَّه عز وجل.

وأمَّا من تمنى الموت خوف فتنة في الدين، فإنَّه يجوز بغير خلاف. وقد بسطنا الكلام عَلَى هذه المسائل في غير هذا الموضع.

قولُه صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ الْقَضَاءِ وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ فِي وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءٍ مُضِرَّةٍ، وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ» .

هذه الثلاث خصال قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أئه كان يدعو بها في غير هذا الحديث أيضًا من حديث عمَّار بن ياسر، عن النبي صلى الله عليه وسلم (4) وقد شرحنا حديثَه بتمامه في موضع آخر.

فأمَّا الرضا بالقضاء: فهو من علامات المُخبتين (5) الصادقين في المحبة، فمتى امتلأت القلوب بمحبة مولاها رضيت بكلِّ ما يقضيه عليها من مؤلمٍ ومُلائم.

سيان إنْ لاموا وإنْ عَذلوا

ما لي عن الأحباب مصطبرُ

لابد لي منهم وإنْ تركوا

قلبي بنار الهجر يستعرُ

وعلي أنْ أرضى بما حكموا

وأطيع في كل ما أمروا

(1) البقرة: 94.

(2)

الجمعة: 6، 7.

(3)

أخرجه أحمد (2/ 350).

(4)

أخرجه أحمد (4/ 264)، والنسائي في "الصغرى"(1305)، وفي "الكبرى"(1228).

(5)

المتواضعين أو الخاشعين أو المطمئنين.

ص: 112

إذا امتلأت القلوبُ بالرضا عن المحبوب، صار رضاها في ما يرد عليها من أحكامه وأقداره.

قال عُمر بن عبد العزيز: أصبحتُ وما لي سرور إلَاّ في مواقع القضاء والقدر.

دخلوا عَلَى بعض التابعين في مرضه، فَقَالَ: أحبه إلي أحبه إِلَيْهِ.

إِنْ كان (سركم)(*) ما قد بُليت به

فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألم

حشب سُلطان الهوى أنه يُلذ كلَّ ما يؤلم.

وربَّما اختار بعض (المحبين)(**) الذُّلَّ عَلَى العزِّ، والفقر عَلَى الغنى، والمرضَ عَلَى الصحة، والموت عَلَى الحياة.

عزّي ذُلي وصحتي في سقمي

يا قوم رضيتُ في الهوى سفك دمي

عُذّاليَ كفُّوا فمن ملامي ألمي

من بات عَلَى (مواعد اللقا) (

) لم ينم

وإنَّما قال صلى الله عليه وسلم: "الرضا بعد القضاء" لأنّ ذلك هو الرضا حقيقة.

وأما الرضا بالقضاء قبل وقوعه فهو عزمٌ عَلَى الرضا، وقد تنفسخ العزائم (عند) (

) وقوع الحقائق.

ومع هذا فلا ينبغي أن يستعجل العبدُ البلاءَ؛ بل يسأل الله العافية؛ فإنْ نزل البلاء تلقَّاه بالرضا.

قُتل لبعضهم ولدان في الجهاد، فجاءه الناسُ يعزّونه بهما فبكى، وقال: ما أبكي عَلَى قتلهما، ولكن كيف كان رضاهما عن الله حين أخذتهما السيوف!

إِنْ كان سكّان الغصا

رضوا بقتلي فرضا

والله ما كنت لما

يهوي الحبيب مُبغضا

صرت لهم عبدًا وما

للعبد إِنْ يعترضا

من لمريض لا يرى

إلَاّ الطبيب المُمرضا

(*) سروركم: "نسخة".

(**) الصالحين: "نسخة".

(

) مواعيد اللقاء: "نسخة".

(****) مع: "نسخة".

ص: 113

وأمَّا بَرد العيش بعد الموت. فالمرادُ به: طيب العيش (ولذاته)(*)، وما تقر به عين صاحبه.

فإنَّ البرد يحصل به قُرة عين الإنسان وطيبها، وبرد القلب يوجب انشراحه وطمأنينته، بخلاف حرارة القلب والعين.

ولهذا في الحديث: "طهر قلبي بالماء والثلج والبرد"(1).

ودمعةُ السرور باردة، بخلاف دمعة الحُزن فإنها حارة.

فبردُ العيش هو طيبه ونعيمه، وفي الحقيقة إنَّما يكمل طيب العيش ونعيمه في الآخرة لا في الدُّنْيَا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا عيش إلَاّ عيش الآخرة"(2).

وسببُ ذلك أنَّ ابن آدم مركبٌ من جسد وروح، وكل منهما يحتاج إِلَى ما يتقوت به ويتنعم به، وذلك هو عيشه.

فالجسدُ عيشه: الأكلُ والشرب، والنكاح واللباس والطيب، وغير ذلك من اللذات الحسية.

ففيه بهذا الاعتبار مُشابهة بالحيوانات في هذه الأوصاف.

وأمَّا الروح: فهي لطيفة، وهي روحانية من جنس الملائكة. فقوتُها ولذتها وفرحها وسرورُها في معرفة خالقها وبارئها وفاطرها، وفيما يقرب منه مِن طاعته في ذكره ومحبّته، والأنس به والشوق إِلَى لقائه.

فهذا هو عيشُ النفس وقُوتُها، فَإِذَا فقدت ذلك مرضت وهلكت؛ أعظم مما يهلك الجسد بفقد طعامه وشرابه؛ ولهذا يوجد كثير من أهل الغِنى والسعة يُعطي جسده حظِّه من التنعيم ثم يجد ألمًا في قلبه ووحشة، فيظنَّه الجهال أنَّ

(*) ولذاذته: "نسخة".

(1)

أخرجه البخاري (744)، ومسلم (598) عن حديث أبي هريرة. وأخرجه البخاري (6368)، ومسلم (589) من حديث عائشة.

(2)

أخرجه البخاري (6413)، ومسلم (1805) عن حديث معاوية بن قرة. وأخرجه البخاري (6414)، ومسلم (1804) من حديث سهل بن سعد.

ص: 114

هذا يزول بزيادة هذه اللذات الحسية، وبعضُم يظن أنه يزول بإزالة العقل بالسُّكر. وكلُّ هذا يزيد الألم والوحشة.

وإنما سببُه أنَّ الروح فقدت قوتها وغذاءها، فمرضت وتألَّمت.

إذا كُنت قوت النفوس ثم هجرتها

فلن تصبر النفس التي أنت قوُتُها

ستبقى بقاء الضبِّ في الماء أو كما

يعيش ببيداء المفاوز حوتُها

قال بعضُ العارفين لقوم: ما تعدُّون العيش فيكم. قالوا: الطعام والشراب، ونحو ذلك. فَقَالَ: إنَّما العيش أن لا لقى منك جارحة إلَاّ وهي تجاذبك إِلَى طاعة اللَّه وعزَّ وجلَّ.

مَن عاش مع اللَّه طاب عيشه، ومن عاش مع نفسه وهواه طال طيشه.

قال الحسن: إنَّ أحباء الله هم الذين ورثوا أطيب الحياة بما وصلوا إِلَيْهِ من مناجاة حبيبهم، وبما وجدوا من لذَّة حبّه في قلوبهم.

وأكل إبراهيمُ بن أدهم مع أصحابه كِسرًا يابسة، ثم قام إِلَى نهرٍ فشرب منه بكفه، ثم حمد اللَّه، تم قال: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا عليه بالسيوف أيام الحب، عَلَى ما نحن فيه من لذيذ العيش وقلة التعب. فَقَالَ بعضُ أصحابه: يا أبا إسحاق، طلب القومُ الراحة والنعيم فأخطئوا (الصراط) (*) المستقيم. فتبسم ثم قال: من أين لك هذا.

أهل المحبة قومٌ شأنهم عجب

سرورهم أبدٌ وعيشهم طرب

العيش عيشهم والملك ملكهم

ما الناس إلا هم بانُوا أو اقتربوا

قيل لبعض العارفين -وقد اعتزل عن الخلق-: إذا هجرتَ الخلقَ مع من تعيش؟ قال: مع من هجرتهم لأجله.

(*) الطريق: "نسخة".

ص: 115

ويُروى عن المسيح عليه السلام، أنَّه قال: يا معشر الحواريين، كلِّموا الله كثيرًا، وكلموا الناس قليلًا. قالوا: كيف نكلم اللَّه كثيرًا؟! قال: اخلوا بذكره، اخلوا (بذكر نعمائه)(*) اخلوا بمناجاته.

ما أطيبَ عيشَ مَن يخلو بحبيب

يَلْتَذُّ بِهِ من غير مُحَاشاةِ رقيب

أعيا مرضي بكم كلّ طبيب

من أمَّل فضلَ مثلِكم كيفَ يَخِيب

واعلم أنَّ الجمع بين هذين العيشين في دار الدُّنْيَا غيرُ ممكن، فمن اشتغل يعيش روحه وقلبه وحصل له منه نصيب وافر لها عن عيش جسده وبدنه، ولم يقدر أنْ يأخذ منه نهاية شهوته، ولم يقدر أنْ يتوسَّع في نيل الشهوات الحسية، وإنما يأخذ منها بقدر ما تقوم به حاجة البدن خاصة، فينتقص بذلك عيشُ الجسد، ولا بد.

وهذه كانت طريقةُ الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، وكان اللَّه يختار أنْ يقلل نصيبهم من عيش أجسادهم، (ويوفر)(**) نصيبهم مِن عيش قلوبهم وأرواحهم.

قال سهل التستُري: ما آتى الله عبدًا مِن قُربه ومعرفته نصيبًا إلَاّ حرمه من الدُّنْيَا بقدر ما أعطاه من معرفته وقربه، ولا آتاه من الدُّنْيَا نصيبًا إلَّا حرمه (من) (

) معرفته وقُربه بقدر ما آتاه من الدُّنْيَا.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقتصد في عيشه غاية الاقتصاد، مع ما فتح اللَّهُ عليه من الدُّنْيَا والملُك، ومات ولم يشبع من خُبز الشعير، وكان يقول:«مَا لِي وَلِلدُّنْيَا إنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلِ الدُّنْيَا كَرَاكِبٍ قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» (1).

وقال صلى الله عليه وسلم: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (2).

(*) بدعائه: "نسخة".

(**) ويوف: "نسخة".

(

) منه: "نسخة".

(1)

تقدم تخريجه.

(2)

أخرجه أحمد (3/ 128، 199، 285)، والنسائي (7/ 61) من حديث أنس.

ص: 116

والنساءُ والطيب فيهما قوَّة الروح، بخلاف الطعام والشراب، فإنَّ الإكثار منهما يقسّىِ القلب ويفسده، وربما أفسد البدن أيضاً؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ، فَإِنْ كَانَ لَابُدَّ فَاعِلاً، فَثُلُثٌ طَعَام، وَثُلُثٌ شَرَاب، وَثُلُثٌ نَفَس» (1).

قال بعضُ السلف: قلَّةُ الطعام عونٌ عَلَى التسرُّع إِلَى الخيرات.

وقال آخر: ما قلَّ طعامُ امرئ إلَّا رق قلبُه ونديت عيناه.

وقال إبراهيمُ بن أدهم: الشِّبع يميت القلب، ومنه يكون الفرحُ والمرح والضحك.

وقال أبو سليمان: إِنَّ النفس إذا جاعت وعطِشت صفي القلبُ ورق، وإذا شبِعت ورويت عمي القلب.

وقال: مفتاح الدُّنْيَا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع.

وقيل للإمام أحمد: يجدُ الرجلُ رقَّة من قلبه وهو يشبع؟ قال: ما أرى.

ولهذا المعنى شرع اللَّه الصيام، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُواصل في صيامه أيامًا فلا يأكل ولا يشرب، وإذا سُئل عن ذلك يقول:"إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي"(2) يُشير إِلَى أنَه يستغني عن قُوت جسده بما يمنحه اللهُ من قوت روحه، عند الخلوة به والأنس بذكره ومناجاته مما يُورده عَلَى قلبه من المعارف القُدسية والمواهب الإلهية.

لها أحاديثُ من ذكراكَ تُشغلها

عن الطعام وتلهيها عن الزاد

واعلم أنَّ عيش الجسد يُفسد عيشَ الروح وينغصه، وأمَّا عيشُ الروح فإنَّه يُصلح عيشَ الجسد، وقد يُغنيه عن كثيرٍ مما يحتاج إِلَيْهِ من عيشه.

(1) أخرجه أحمد (4/ 132)، والترمذي (2380)، والنسائي في "الكبرى"(4/ 177)، وابن ماجه (3349) من حديث المقدام بن معدي كرب.

(2)

أخرجه البخاري (1965)، ومسلم (1103) من حديث أبي هريرة.

ص: 117

كان بالبصرة رجلٌ من المجتهدين في الطاعة، وكان قليل المطعم، وبدنُه غير مهزول، فسُئل عن سبب ذلك، فَقَالَ: ذلك مِن فرحى بحب الله، إذا ذكرتُ أنَّه ربي وأنا عبده لم يمنع بدني أنْ يصلح.

وسُئل أبو الحسن بن بشار: هل يكون الوليُّ سَمينا. قال: نعم إذا كان الولي أمينًا. قِيلَ لَهُ: كيف، واللَّهُ يبُغض الحبر السمين. قال: إذا علم الحبر عبدَ مَن هو ازداد سمنًا.

وكان بشر يخطر في داره، ويقول: كفى لي عِزًّا أني لك عبد، وكفى لي فخرًا أنك لي رب.

نُسبت لكم عبدًا وذلك بغيتي

وتشريفُ قدري نسبتي لعُلاكم

فكل عذاب في هواكم يلذُ لي

وكل هوانٍ طيِّبٌ في هواكم

لحا (1) الله قلبي إنْ تغير عنكم

وإن مال في الدُّنْيَا لحب سواكم

فمن وفَّى نفسه حظها من عيش جسده بالشهوات الحسية كالطعام والشراب؛ فسد قلبُه وقسا، وجلب له ذلك الغفلةَ وكثرة النوم. فنقص حظُّ روحه وقلبه من طعام المناجاة وشراب المعرفة، فخسر خُسرانًا مبينًا.

قال بعضُهم: مساكين أهل الدُّنْيَا، خرجوا منها وما ذاقوا أطيب شيء فيها.

قيل: وما هو؟ قال: معرفةُ اللًه عز وجل، فمن عاش في الدُّنْيَا ولا يعرف ربَّه ولا يتنعم بخدمته، فعيشُه عيش البهائم.

نهارُك يا مغرورُ سهوٌ وغفلة

وليلك نومٌ والردى (2) لك لازم

وتتعب فيما سوف تكره غِبه

كذلك في الدُّنْيَا تعيش البهائم

(1) يقال: لحا لي الرجل أي شتمه ولامه وعنفه، وقيل: إِنَّ الملاحاة هي الملاومة، والمباغضة، ومنه لحاه الله لحيًا، أي: قبحه ولعنه. "اللسان" مادة: (لحي).

(2)

الردى: الهلاك "اللسان" مادة: (ردي).

ص: 118

فالصالحونُ كلهم قللوا من عيش الأجساد، وكثَّروا من عيش الأرواح، لكن منهم من قلَّل من عيش بدنه ليستوفيه في الآخرة، وهذا تاجرٌ. ومنهم من فعل ذلك خوفًا من الحساب عليه في الآخرة.

والمحققون فعلوا ذلك تفريغًا للنفس عمَّا يشغل عن الله، لتتفرَّغ القلوبُ للعكوف عَلَى طاعته وخدمته، وذكره وشكره، والأنس والشوق إِلَى لقائه.

فإنَّ الأخذ من عيش الأجساد أكثر من قدر الحاجة يُلهي عن الله، ويشغل عن خدمته.

قال بعضُهم: كلُّ ما شغلك عن الله فهو عليك شؤم، فلا كان ما يُلهي عن الله؛ إنه يَضر ويُردي، إنَّه لشؤم.

فما تفرَّغ أحدٌ لطلب عيش الأجساد، وأعطى نفسَه حظَّها من لك إلَاّ ونقص حظُّه من عيش الأرواح، وربما مات قلبُه من غفلته عن الله وإعراضه عنه، وقد ذمَّ الله من كان كذلك فَقَالَ تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} الآية (1).

ثُم إِنَّ ما حصَّلوه من شهواتهم ينقطع ويزول بالموت، وينقص بذلك حظُّهم عند الله في الآخرة. فإن كان ما حصلوه من شهواتهم من حرام فذلك هو الخسرانُ المُبين؛ فإنَّه يُوجب العقوبة الشديدة في الآخرة.

فلمَّا لم يجتمع في الدُّنْيَا للعبد بلوغُ حظّه من عيش رُوحه وبلوغ (نهايته)(*) من عيش جسده، جعل الله للمؤمنين دارًا جمع لهم فيها ما بين هذين الحظَّين عَلَى نهاية ما يكون من الكمال، وهي الجنة.

فإنَّ فيها جميعَ لذات الأجساد وعيشها ونعيمها؛ كما قال الله تعالى:

{وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} (2) وقال: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا

(1) مريم: 59.

(*) نهاية حظه: "نسخة".

(2)

الزخرف:71.

ص: 119

وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (1) ولا ينقصُ ذلك حظَّهم من لذات أرواحهم؛ فإنَّه تتوافر لذات قلوبهم، وتتزايد عَلَى ما كانت للمؤمنين في الدُّنْيَا، مما لا نسبة لما كان في الدنيا إِلَيْهِ.

فإنَّ الخبر في الدُّنْيَا يصير هناك عيانًا، فأعلى نعيمُهم هناك رؤية اللَّه عز وجل ومشاهدته، وقُربه ورضاه، ويحصل لهم بذلك نهايةُ المعرفة به والأُنس، وتتزايد هنالك لذةُ ذكره عَلَى ما كانت في الدُّنْيَا؛ فإنهم يُلهمون التسبيح كما يلهمون النفسَ، وتصير كلمةُ التوحيد لهم كالماء البارد لأهل الدُّنْيَا. فعُلم بهذا أنَّ العيش الطب عَلَى الحقيقة لا يحصل في الدُّنْيَا، إِنَّمَا يكون بعد الموت. فإن من يُوفر حظَّه من نعيم روحه وقلبه في الدُّنْيَا يتوفَّر في الآخرة أيضًا، ومن توفَّر حظُّه من نعيم جسده في دنياه وسرَّ بها نقص في الدُّنْيَا ونقص به أيضًا حظه من نعيم الآخرة.

ومع هذا فهو نعيمٌ منغَّص لا يدوم ولا يبقى، وكثيرًا ما يُنغَّص بالأمراض والأسقام، وربما انقطع وتبدَّل صاحبه بالفقر والذل بعد الغنى والعز. وإنْ سلم من ذلك كلِّه فإنه ينغصه الموتُ، فَإِذَا جاء الموت فما كان مَن تنعم بالدنيا ولذاتها كأنّه ما ذاق شيئًا من لذاتها، خصوصًا إنْ انتقل بعد الموت إِلَى عذاب الآخرة؛ كما قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} إِلَى قوله: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (2).

وكان الرشيدُ قد بنى قصرًا، فلما فرغ منه ونجزه وفرشه استدعى فيه بطعامٍ وشراب وملاهي، واستدعى أبا العتاهية، فَقَالَ له: صِف لي ما نحن فيه من العيش. فأنشأ يقول:

عِش ما بدا لك سالماً

في ظل شاهقة القُصور

يُسعى عليك بما اشتهيت

لدى الرَّواح وفي البكور

فذا النفوس تقعقعت (3)

في ضيق حشرجة الصدور

فهناك تعلم موقنًا

ما كنت إلَاّ في غُرور

(1) ق:35.

(2)

الشعراء: 205 - 207.

(3)

تقعقعت: اضطربت وتحركت. "القاموس المحيط" مادة: (قعقع).

ص: 120

فبكى الرشيد. فَقَالَ له الوزير: دعاك أمير المؤمنين لتسره فأحزنته. فَقَالَ الرشيد: دعه؛ فإنَّه رآنا في عمى، فكره أنْ يزيدنا عمى.

نظر بعضُ المترفين عند موته إِلَى منزله فاستحسنه، فَقَالَ:

إنَّ عيشًا يكون آخره الموت

لعيش معجَّل التغيص

ثم مات من يومه.

وقال آخر:

يا غنيّ بالدنانير

مُحب اللَّه أغنى

وقال آخر:

إِنَّمَا الدُّنْيَا وإنْ سرَّ

ت قليل من قليل

إنَّما العيش جوار اللَّه

في ظل ظليل

حيث لا تسمع ما يؤذيـ

ك مِن قال وقيل

وقال آخر:

وكيف يلذ العيش من كان عالمًا

بأنَّ إله الحلق لابد سائله

فيأخذ منه ظلمه لعباده

ويجزيه بالخير الَّذِي هو فاعله

فالأشقياءُ في البرزخ في عيش ضنك؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} (1).

وقد رُوي عن أبي سعيد الخدري، مرفوعًا وموقوفًا (2): أنَّ المعيشة الضنك عذاب القبر، يضيق عليه قبرُه حتى تختلف أضلاعُه، ويسلَّط عليه تسعة وتسعون تنينًا.

فأما عيشهم في الآخرة فأضيق وأضيق، فأما من طاب عيشه بعد الموت فإن طيب عيشه لا ينقطع؛ بل كلما جاء تزايد طيبه. ولهذا سئل بعضهم: من أنعم

(1) طه: 124

(2)

أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 381) مرفوعًا، والطبري في "التفسير"(16/ 164) موقوفًا.

ص: 121

الناس عيشًا؟ فَقَالَ: أجسام في التراب قد أمنت العذاب، فانتظرت الثواب.

فهذا في البرزخ في عيش طيب.

رئي معروف في المنام بعد موته، وهو يُنشد:

موت التقي حياة لا نفاد لها

قد مات قومٌ وهم في الناس أحياء

وكان إبراهيم بن أدهم يُنشد:

ما أحد أنعم من مُفرد

في قبره أعماله تؤنسُه

منعَّم الجسم وفي روضة

زيَّنها الله (في)(*) مجلسه

رئي بعضُ الصالحين في المنام بعد موته، فَقَالَ: نحن بحمد الله في برزخ محمود، نفترشُ فيه الريحان ونتوسد فيه السندس والإستبرق إِلَى يوم النشور.

رئي بعضُ الموتى في المنام فسئل عن حال الفُضيل بن عياض، فَقَالَ: كُسي حلَّة لا تقوم لها الدُّنْيَا بحواشيها.

فأمَّا عيشُ المتقين في الجنة فلا يحتاج أنْ يُسأل عن طيبه ولذته، ويكفى في ذلك قوله تعالى:{فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} (1) الآيات، ومعنى راضية أي: عيشةٌ يحصل بها الرضى. وفسَّر ابنُ عباس قوله: هنيئًا بأنه لا موت فيها، يُشير إِلَى أنَّه لم يهنهم العيش إلَّا بعد الموت والخلود فيها.

قال يزيدُ الرقاشي: أمن أهلُ الجنة الموت فطاب لهم العيش، وأمنوا من الأسقام فهنيئًا لهم في جوار اللَّه طول المقام.

وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} (2)، {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} إِلَى آخرها (3) «أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يَنْظُرُ فِي مُلْكِهِ وَسُرُرِهِ وَقُصُورِهِ

(*) فهي: "نسخة".

(1)

الحاقة: 21 - 24.

(2)

الذاريات: 15.

(3)

القمر: 54 - 55.

ص: 122

مَسِيرَةَ أَلْفَيْ عَامٍ، يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أَدْنَاهُ، وَأَعْلَاهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِ رَبِّهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا» " (1).

وقال طائفةٌ من السلف: وإنَّ المؤمن له بابٌ في الجنة من داره إِلَى دار السلام، يدخل منه عَلَى ربه إذا شاء بلا إذن.

قال أبو سُليمان الداراني: وإذا أتاه رسولٌ من ربِّ العزة بالتحية واللُّطف، فلا يدخل عليه حتى يستأذن عليه، يقول للحاجب: استأذن لي عَلَى ولي الله، قال: لستْ أصل إِلَيْهِ. فَيُعْلِمُ ذلك الحاجبُ حاجبًا آخر حتى يصل إِلَيْهِ، فذلك قوله:{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} (2).

فَللَّه ذَاك الْعَيْش بَين خيامها

وروضاتها والثغرُ فِي الرَّوْض يبسم

وَللَّه كم من خيرةٍ إِن تَبَسَّمت

أَضَاء لَهَا نورٌ من الْفجْر أعظم

وَللَّه واديها الَّذِي هُوَ موعد

الْمَزِيد لوفد الْحبّ لَو كنتَ مِنْهُم

بذيالك الْوَادي يهيم صبَابَة

محب يرى أَنَّ الصبابة مغنم

وَللَّه أفراحُ المحبين عِنْدَمَا

يخاطبهم مَوْلَاهُم وَيُسلِّم

وَللَّه أبصارٌ ترى الله جهرة

فَلَا الْغَيْم يَغْشَاهَا وَلَا هِيَ تسأم

فيا نظرةً أَهْدَت إِلَى الْقلب نظرة

أَمن بعْدهَا يسلو الْمُحب المتيم

فروحك قرّب إِن أردْت وصالهم

فَمَا غلبت نظر تشري بروحك مِنْهُم

وأقدم وَلَا تقنع بعيش منغص

فَمَا فَازَ باللذات من لَيْسَ يُقدم

فَصم يَوْمك الْأَدْنَى لَعَلَّك فِي غَد

تفوز بعيد الْفطر وَالنَّاس صَوّم

فيا بَائِعا هَذَا ببخس معجل

كَأَنَّك لَا تَدْرِي بلَى سَوف تعلم

فَإِن كنت لَا تَدْرِي فَتلك مُصِيبَة

وَإِن كنت تَدْرِي فالمصيبة أعظم

قوله صلى الله عليه وسلم بعد هذا: "وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ".

(1) أخرجه أحمد (2/ 13، 64)، والترمذى (2553، 3330) من حديث ابن عمر. وذكر الترمذي اختلافًا في رفع الحديث ووقفه.

(2)

الإنسان: 20.

ص: 123

فهذا يشتمل عَلَى أعلى نعيم المؤمنين في الدُّنْيَا والآخرة، وأطيب عيشٍ لهم في الدارين.

فأمَّا لذَّةُ النظر إِلَى وجه الله عز وجل، فإنَّه أعلى نعيم أهل الجنة، وأعظم لذة لهم؛ كما في "صحيح مسلم"(1) عن صُهيب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ نَادَى المُنَادِي: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، فَيَقُولُون: وَمَا هُوَ؟ أَلَمْ يُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ يُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، أَلَمْ يُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. فَوَاللَّهِ مَا أَعَطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا هُوَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الزِّيَادَة. ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (2) ".

وفي رواية لابن ماجه وغيره (3)، في هذا الحديث:"فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا هُوَ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ وَلَا أَقَرَّ لِأَعْيُنِهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ".

وأخرج الدارمي (4)، من حديث ابن عمر مرفرعًا:"إِن أهل الْجنَّة إِذا بلغ بهم النَّعيم كل مبلغ فظنُّوا أَنه لَا نعيم أفضل مِنْهُ، تجلَّى الربُّ تبارك وتعالى عَلَيْهِم فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجه الرَّحْمَن فينسون كلَّ نعيم عاينوه حِين نظرُوا إِلَى وَجه الرَّحْمَن".

وأخرجه الدارقطني (5) بنقصان منه وزيادة، وفيه: فيقول: "يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، هَلِّلُونِي وَكَبِّرُونِي وَسَبِّحُونِي، كَمَا كُنْتُ تُهَلِّلُونِي وَتُكَبِّرُونِي وَتُسَبِّحُونِي فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَيَتَجَاوَبُونَ بِتَهْلِيلِ الرَّحْمَنِ، فَيَقُولُ تبارك وتعالى لِدَاوُدَ عليه السلام:

يَا دَاوُدُ، قُمْ مَجِّدْنِي فَيَقُوم دَاوُد فَيُمَجِّدُ رَبَّهُ عز وجل".

وفي "سُنن ابن ماجه"(6) عن جابر مرفوعًا: بَيْنَمَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمِهِمْ، إِذْ سَطَعَ لَهُمْ نُورٌ، فَإِذَا الرَّبُّ تَعَالَى قَدْ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ

(1) برقم (181).

(2)

يونس: 26.

(3)

أخرجه ابن ماجه (1871)، والنسائي في "الكبرى"(11234/ 1)، وأحمد (4/ 332، 333)، (6/ 15).

(4)

في "الرد عَلَى الجهمية"(189)، وفي الرد عَلَى المريسي (229).

(5)

في "الرؤية"(176).

(6)

برقم (184).

ص: 124

يَا أَهْلَ الجنة، وذلك قَوْلِهِ تَعَالَى:{سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَّبٍ رَّحِيمٍ} (1)، فَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا هُمْ فِيْهِ مِنَ النَّعِيمِ دَامُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ".

وخرَّج البيهقيُّ (2) من حديث جابر مرفوعًا: "إِنَّ أَهْلَ الْجنَّة يرونَ رَبهم عز وجل عَلَى نَجَائِبَ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ وَأَزِمَّتُهَا مِنْ زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ، فَيَأْمُرُ اللَّهُ بكُثبان من مسك أذفر أَبيض فتثير عَلَيْهَا ريحًا يُقَال لَهَا: المُثيرة، حَتَّى تَنْتَهِي بهم إِلَى جنَّة عدن وَهِي قَصَبَة الْجنَّة. فَتَقول الْمَلَائِكَةُ: رَبنَا جَاءَ الْقَوْم. فَيَقُول: مرْحَبًا بالصادقين، مرْحَبًا بالطائعين. قَالَ: فَيكْشف لَهُم الْحجاب، فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ ويتمتَّعون بنوره حَتَّى لَا يبصر بَعضهم بَعْضًا ثمَّ يَقُول: ارْجعُوا إِلَى الْقُصُور بالتحف. فيرجعون وَقد أبْصر بَعضهم بَعْضًا. فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} (3) ".

وفي "مسند البزار"(4)، من حديث حذيفة مرفوعًا، في يوم المزيد:"إِنَّ اللهَ يَكْشِفُ تِلْكَ الْحُجُبَ وَيَتَجَلَّى لَهُمْ، فَيَغْشَاهُمْ مِنْ نُورِهِ، لَوْلا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَضَى أَلَاّ يَحْتَرِقُوا لاحْتَرَقُوا؛ مِمَّا غَشِيَهُمْ مِنْ نُورِهِ، فَيَرْجِعُونَ إِلَى مَنَازِلِهِمْ وَقد خفوا عَلَى أَزوَاجهم مِمَّا غشيهم من نوره، فَإِذا صَارُوا تراد النورُ وتراد وَأمكن، حَتَّى يرجِعوا إِلَى صورهم الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا".

ويُروى من حديث أنس (5) مرفوعًا: "إِن الله يَقُول لأهل الْجنَّة إِذا (استزادهم) (*) وتجلَّى لَهُم: سَلام عَلَيْكُم يَا عبَادي، انْظُرُوا إِلَيّ فقد رضيتُ عَنْكُم. فَيَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ. فتتصدَّع لَهُ مَدَائِن الْجنَّة وقصورها ويتجاوب فُصُول شَجَرهَا وأنهارها وَجَمِيع مَا فِيهَا: سُبْحَانَكَ سُبْحَانَكَ. فاحتقروا الْجنَّة وَجَمِيع مَا فِيهَا حِين نظرُوا إِلَى وَجه الله عز وجل".

(1) يس: 58.

(2)

في "البعث والنشور"(448).

(3)

فصلت: 32.

(4)

أخرجه البزار في "المسند" كما في " كشف الأستار"(3518).

(5)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(3/ 256)، وابن أبي شيبة (2/ 150) وابن أبي الدُّنْيَا في "صفة الجنة"(90) وغيرهم.

(*) استزارهم: "نسخة".

ص: 125

ويُروى من حديث علي (1) مرفوعًا: "إِنَّ الله عز وجل يَتَجَلَّى لأَهْلِ الجَنَّة عَنْ وَجْهِهِ، فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا نِعْمَةً قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ وَتَعَالَى:{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (2).

ويُروى من حديث أبي جعفر مُرسلاً (3): "إِنَّ أهل الْجنَّة إِذا زاروا رَبهم تبارك وتعالى، وكشف لَهُم عَن وَجهه، قَالُوا: رَبنَا أَنْت السَّلَام ومنك السَّلَام، وَلك حق الْجلَال وَالْإِكْرَام، فَيَقُول تَعَالَى: مرْحَبًا بعبادي الَّذين حفظوا وصيتي، وراعوا عهدي، وخافوني بِالْغَيْبِ، وَكَانُوا مني عَلَى كل حَال مشفقين، فَقَالُوا: وَعزَّتك وعظمتك وجلالك مَا قدرناك حق قدرك، وَمَا أدينا إِلَيْك حَقك؛ فَائذن لنا فِي السُّجُود لَك. فَيَقُول لَهُم عز وجل: إِنِّي قد وضعت عَنْكُم مُؤنَة الْعِبَادَة، وأرحت لكم أبدانكم. فطالما أنصبتم لي الْأَبدَان، وأعنيتم الْوُجُوه؛ فَالْآن أفضيكم إِلَى روحي ورحمتي وكرامتي، فاسألوني مَا شِئْتُم، وتمنوا عَليّ أعطكم أمانيكم؛ فَإِنِّي لم أجزكم الْيَوْم بِقدر أَعمالكُم، وَلَكِن بِقدر رَحْمَتي وكرامتي.

فَمَا يزالون فِي الْأَمَانِي والعطايا والمواهب، حَتَّى إِن المقصّر مِنْهُم فِي أمْنِيته ليتمنَّى مثلَ جَمِيع الدُّنْيَا مُنْذُ خلقهَا الله إِلَى أَن أفناها. فَيَقُول لَهُم الرب تبارك وتعالى: لقد قصَّرتم فِي أمانيكم ورضيتم بِدُونِ مَا يحِق لكم فقد أوجبتُ لكم مَا سَأَلْتُم وتمنيتم، وألحقتُ بكم ذريتكم وزدتكم مَا قصرت عَنهُ أمانيكم.

قَالَ عبد الرَّحْمَن بنُ أبي ليلى: إِذا تجلَّى لَهُم رَبُّهم لَا يكون مَا أُعطوا عِنْد ذَلِك بِشَيْء.

قَالَ الْحسن: إِذا تجلَّى لأهل الْجنَّة نسوا كلَّ نعيم الْجنَّة.

وكان يقول: لو علم العابدون أنّهم لا يرون ربَّهم في الآخرة لماتوا.

(1) أخرجه اللالكائي (852)، وأورده ابن القيم في "حادي الأرواح"(ص 368) من طريق يعقوب بن سفيان، ورواه أبو بكر المقرئ في "زيادات مسند أبي يعلى" كما في "المطالب العالية"(5205) وإسناده ضعيف جدًّا.

(2)

سورة ق: 35.

(3)

أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "صفة الجنة"(53)، وأبو نعيم في "صفة الجنة"(411).

ص: 126

وقال: إِنَّ أحباء الله هم الذين ورثوا طيبَ الحياة، وذاقوا نعيمَها بما وصلوا إِلَيْهِ من مُناجاة حبيبهم، وبما وجدوا من حلاوة حبّه في قلوبهم. لا سيما إذا خطر عَلَى بالهم ذكرُ مشافهته، وكشف ستور الحُجب عنه في المقام الأمين والسرور، وأراهم جلالَه، وأسمعهم لذَّة كلامه، ورد عليهم جواب ما ناجوه به أيام حياتهم.

أملي أن أراك يومًا من الدهر

فأشكو لك الهوى والغليلا

وأُناجيك من قرب وأبدي لك

هذا الجوى وهذا النُّحُولَا

قال وهب: لو خُيِّرت بين الرؤية والجنة لاخترتُ الرؤية.

رئي بشر في المنام، فسُئل عن حاله وحال إخوانه، فَقَالَ: تركتُ فلانًا وفلانًا بين يدي الله يأكلان ويشربان ويتنعَّمان. قِيلَ لَهُ: فأنت؛ قال: علم قلَّة رغبتي في الطعام فأباحني النظر إِلَيْهِ.

يا حبيب القلوب ما لي سواك

اوحم اليوم مذنبًا قد أتَاكا

أنت سُؤلي ومنيتي وسُروري

طال شوقي متى يكون لقاكا

ليس سُؤلي من الجنان نعيم

غير أني أريدها لأراكا

قال ذُو النون: ما طابت الدُّنْيَا إلَاّ بذكره، ولا طابت الآخرة إلَاّ بعفوه، ولا طابت الجنة إلَاّ برؤيته.

ولو أنَّ الله احتجب عن أهل الجنة لاستغاث أهل الجنة من الجنة كما يستغيث أهل النار من النار.

كان بعضُ الصالحين يقول: ليت ربِّي جعل ثوابي من عملي نظرةً إِلَيْهِ، ثم يقول: كن ترابًا.

كان علي بن الموفَّق يقول: اللهم إنْ كنت تعلم أنِّي أعبدُك خوفًا مِن نارك فعذِّبني بها، وإنْ كنت تعلم أنِّي أعبدك حُبًّا لجنتك فاحرمنيها، وإنْ كنت تعلم

ص: 127

أنما عبدتك حبًّا مني لك وشوقًا إِلَى وجهك الكريم فأبحنيه، واصنع بي ما شئت (1).

سمع بعضُهم قائلاً يقول:

كبُرت همة عبد طمعت في أنْ تراكا

وما حسبت أنْ ترى من رآكا

ثم شهق شهقة فمات.

لما غلب الشوقُ عَلَى قلوب المُحبِّين استروحوا إِلَى مثل هذه الكلمات، وما تخفي صدورُهم أكبر!

تجاسرتُ فكاشفتك لما غلب الصبر

فإنْ عنفني الناسُ ففي وجهك لي عذر

أبصارُ المُحبين قد غضت من الدُّنْيَا والآخرة، فلم تفتح إلَاّ عند مشاهدة محبوبهم يوم المزيد.

أروح وَقد ختمتَ عَلَى فُؤَادِي

بحبك أَنْ يحل بِهِ سواكا

فَلَو أَنِّي اسْتَطَعْت غضضت طرفِي

فَلم أنظر بِهِ حَتَّى أراكا

أحبك لَا ببعضي بل بكلي

وَإِنْ لم يبْق حبك لي حراكا

وَفِي الأحباب مَخْصُوص بوجد

وَآخر يَدعِي معي اشتراكا

إِذا استكبت دموعي فِي خدودي

تبيَّن من بَكَى مِمَّن تباكا

فَأَما من بَكَى فيذوب وجدًا

وينطق بالهوى من قد تشاكا

كان سحنون المُحب يُنشد:

وَكَانَ فُؤَادِي خَالِيًا قبل حُبّكم

وَكَانَ بِذكر الْخلق يلهو ويمرح

ص: 128

فَلَمَّا أن دَعَا قلبِي هَوَاك أَجَابَهُ

فلست أرَاهُ عَن فنائك يبرح

رُميت ببعد عَنْك إِن كنت كَاذِبًا

وَإِن كنت فِي الدُّنْيَا بغيرك أفرح

وَإِن كَانَ شَيْء بالبلاد بأسرها

إِذا غبت عَن عَيْني لعَيْنِي يملح

فَإِن شِئْت واصلني وَإِن شِئْت لَا تصل

فلست أرى قلبِي لغيرك يصلح

وأمَّا الشوق إِلَى لقاء الله فهو أجل مقامات العارفين في الدُّنْيَا؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يدعو: "اللهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ الْأَشْيَاءِ إِلَيَّ، وَخَشْيَتَكَ أَخْوَفَ الْأَشْيَاءِ عِنْدِي، وَاقْطَعْ عَنِّي حَاجَاتِ الدُّنْيَا بِالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ، وَإِذَا أَقْرَرْتَ أَعْيُنَ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ دُنْيَاهُمْ فَأَقِرَّ عَيْنِي مِنْ عِبَادَتِكَ" (1).

وإنما قال: "مِنْ غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ" لأنَّ الشوق إِلَى لقاء الله يستلزم محبة الموت، والموتُ يقع تمنيه كثيرًا من أهل الدُّنْيَا؛ بوقوع الضرَّاء المُضرة في الدُّنْيَا، وإن كان منهيًّا عنه في الشرع.

ويقع من أهل الدين تمنيه؛ لخشية الوقوع في الفتن المُضلَّة.

فسأل تمنّي الموت خاليًا من هذين الحالين، وأنْ يكون ناشئًا عن محض محبَّة الله والشوق إِلَى لقائه؛ وقد حصل هذا المقامُ لكثيرٍ من السلف. قال أبو الدرداء: أَحَبّ الموتَ اشتياقًا إِلَى ربي.

وقال أبو عُتبة (الخواص)(**): كان إخوانكم لقاء الله أحب إليهم من الشَّهد.

وقالت رابعةُ: طالت عليّ الأيامُ والليالي بالشوق إِلَى لقاء الله.

ومكث فتح بن (شخرف)(2) ثلاثين سنة لم يرفع رأسه إِلَى السماء، ثم رفع رأسه فَقَالَ: طال شوقي إليك فعجَّل بالقدوم عليك.

(*) إذا: "نسخة".

(1)

أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 282).

(**) الخولاني: "نسخة".

(2)

في المطبوع "شخروق" والصواب ما أثبتناه. انظر "طبقات الأولياء" لابن الملقن (ص 222، 274، 319)، و"طبقات الصوفية"(ص 11، 143) و"سير أعلام النبلاء"(3/ 93) و"تاريخ بغداد"(12/ 384).

ص: 129

وكان بعضُهم يقول في مناجاته: قبيحٌ بعبد ذليل مثلي يعلم عظيمًا مثلك.

اللهم إنك تعلم أنك لو خيَّرتني أنْ تكون لي الدُّنْيَا منذ خُلقت أتنعم فيها حلالاً لا أُسْأَلُ عنها يوم القيامة، وبين أن تخرج روحي الساعة (1).

قال بعض السلف: إذا ذكرتُ القدومَ عَلَى اللَّه كُنت أشد اشتياقًا إِلَى الموت من الظمآن الشديد ظمؤه، في اليوم الحار الشديد حرَّه إِلَى الشراب الشديد بردُه.

أشتاق إليك يا قريب نائي

شوق الظامي إِلَى زُلال المائي

قال الجنُيد: سمعتُ سريًّا يقول: الشوقُ أجل مقام العارف إذا تحقق فيه، وإذا تحقق بالشوق لها عن كل شيء يشغله عمَّن يشتاق إِلَيْهِ.

رئي داود الطائي في المنام عَلَى منبر عالٍ، وهو ينشد:

ما نال عبدٌ من الرحمن منزلة

أعلى من الشوق إنَّ الشوق محمود

لا زال المُحبُّون يروضون أرواحهم في الدُّنْيَا حتى خرجت عن أبدان الهوى وصارت في حواصل طير الشوق، فهي تسرح في رياض الأُنس وترد حياضَ القُدس، ثم تأوي إِلَى قناديل المعرفة المُعلقةِ في المحل الأعلى حول العرش؛ كما قال بعضُ العارفين: القلوب جوَّالة، فقلبٌ يدور حول العرش، وقلبٌ يجول حول الحُش، كلَّما حلَّت نسماتُ القُدس من أرجاء الأُنس عَلَى أغصان قلوب الأحباب، تمايلت شوقًا إِلَى ذلك الجنَاب.

كان بعضُ السلف يمشي أبدًا عَلَى قدميه من الشوق، وكان بعضُهم كأنّه مخمورٌ من غير شراب (2).

(1) كذا؛ وقد سقط: "لاخترت أن تخرج نفسى الساعة". انظر "استنشاق نسيم الأنس"(96) للمؤلف.

(2)

لم يكن هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ولا خير في هدي جانب هديه صلى الله عليه وسلم.

ص: 130

يريحني إليك الشوقُ حتى

أميل من اليمين إِلَى الشمال

ويأخذني لذكركم رياح

كما نشط الأسير من العقال

أهل الشوق عَلَى طبقتين:

أحدهما: من أقلقه الشوقُ ففني اصطبارُه؛ كان أبو عُبيدة الخوَّاص يمشي ويضرب عَلَى صدره، ويقول: واشوقاه إِلَى من يراني ولا أراه.

كان داود الطائي يقول بالليل: همُّك عطَّل عَلَيَّ الهموم، وخالف بيني وبين السهاد، وشوقي إِلَى النظر إليك أوبق مني اللذات، وخالف بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب.

أحبابي أمَّا جِفن عيني فمقروح

وأمَّا فؤادي فهو بالشوق مجروح

يذكرني مرُّ النسيم عهودكم

فأزداد شوقًا كلّما هبت الريحُ

أراني إذا ما أظلم الليلُ أشرقت

بقلبي من نارِ الغرام مصابيح

أصلي بذكراكم إذا كُنت خاليًا

ألا إِنَّ تذكار الأحبَّة تسبيح

الطبقةُ الثانية: من إذا أقلقهم الشوقُ سكَّنهم الأُنس باللَّه، فاطمأنت قلوبُهم بذكره، وأنسوا بقُربه.

وهذه حالُ الرسول صلى الله عليه وسلم وخواص العارفين من أمته.

وسُئل الشَّبلي: بماذا تستريح قلوبُ المحبّين والمشتاقين؟ فَقَالَ: بسرورهم بمن أحبُّوه واشتاقوا إِلَيْهِ.

أموت إذا ذكرتُك ثم أحيا

ولولا ما أؤمل ما حييتُ

فأحيا بالمنى وأموت شوقًا

فكم أحيا عليك وكم أموت

ص: 131

كانت بعضُ الصالحات تقول: أليس عجبًا أنْ أكون حية بين أظهركم، وفي قلبي من الاشتياق إِلَى ربي مثل شعل النار التي لا تطفأ.

أموت اشتياقًا ثم أحيا بذكركم

وبين التراقي والضلوع لهيب

فوا عجبا موت المشوق صبابة

ولكن بقاه فى الحياة عجيب

هذه أحوالٌ لا يعرفها إلَاّ من ذاقها.

لا يعرف الوجدَ إلَاّ من يُكابده

ولا الصبابة إلَاّ من يُعانيها

فأمَّا من ليس عنده منها خبر، فربما لام أهلَها.

يا عاذل المشُتاق دعه فإنّه

لديه من الزفرات غير حشاكا

لو كان قلبك قلبه ما لمته

حاشاك مما عنده حاشاكا

قولُه صلى الله عليه وسلم: "أَعُوذُ بِكَ اللهُمَّ أَنْ أَظْلِمَ، أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَعْتَدِيَ أَوْ يُعْتَدَى عَلَيَّ، أَوْ أَكْسِبَ خَطِيئَةً مُحْبِطَةً أَوْ ذَنْبًا لَا تَغْفِرُه".

استعاذ من أربعة أشياء: أحدها: الظلم من الطرفين، وهو أنْ يظلم غيره أو يظمه غيره.

وخرَّج أبو داود (1) من حديث أم سلمة، قالت:"مَا خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْتِي قَطُّ إِلَّا رَفَعَ طَرْفَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ".

وخرَّجه الترمذي (2) وصححه، ولفظُه:"اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَزِلَّ أَوْ نُزَلَّ أَوْ نَظْلِمَ أَوْ نُظْلَمَ، أَوْ نَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا".

فمن سلم من ظُلم غيره، وسلم الناسُ من ظلمه: فقد عُوفي وعوفي الناسُ منه. وكان بعض السلف يدعو: اللهم سلِّمني وسلِّم مني.

(1) برقم (5094).

(2)

برقم (3427).

ص: 132

والثاني: العُدوان. وفرَّق اللَّه بين الظلم والعُدوان، في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} إِلَى قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا} (1) الآية.

وقد يُفرَّق بين الظلم والعُدوان، بأنَّ الظلم: ما كان بغير حق بالكلية، كأخذ مالٍ بغير استحقاق شىء منه، وقتل نفس لا يحل قتلها.

وأمَّا العُدوان: فهو مُجاوزة الحدود وتعديها فيما أصلُه مباح، مثل أنْ يكون له عند أحدٍ حقٌّ من مال أو دم أو عرض، فيستوفي أكثر منه. فهذا هو العُدوان، وهو تجاوز ما يجوز أخذه فيأخذ ماله أخذه وما لي له أخذه، وهو من أنواع الربا المحرَّمة.

وقد ورد السَّبَّتَان بالسَّبة ربا.

والظلم المُطلق: أخذُ ما ليس له أخذه، وأخذ شيءٍ منه من مال أو عرض أو دم. كلاهما في الحقيقة ظلم.

وفي "الصحيح"(2) عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول اللَّه عز وجل: يا عبادي، إنِّي حرمت الظلمَ عَلَى نفسي وجعلته بينكم محرمًا؛ فلا تظالموا".

وفي "الصحيحين"(3) عنه صلى الله عليه وسلم قال: "الظلم ظلمات يوم القيامة".

وفيهما (4) عنه صلى الله عليه وسلم قال: " «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ»

وتلا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (5) الآية.

وفي البخاري (6) عنه صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ» .

(1) النساء: 29 - 30.

(2)

أخرجه مسلم (2577) من حديث أبي ذر.

(3)

أخرجه البخاري (2447)، ومسلم (2579) من حديث ابن عمر.

(4)

أخرجه البخارى (4686)، ومسلم (2583) من حديث أبي موسى.

(5)

هود: 102.

(6)

أخرجه البخاري (2449) من حديث أبي هريرة.

ص: 133

وفي "صحيح مسلم"(1) عنه صلى الله عليه وسلم قال: «أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ» ؟ قَالُوا: المُفْلِسُ مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، قَالَ:«إِنَّ المُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْضِي هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِذَا فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَُقْضِي مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ» .

وفي الحديث (2): " «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى تَتَقاضَى الشَّاة الْجَماء (3) مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» ".

وفي حديث عبد الله بن أنيس: (وليَسْأَلَنَّ الحجر لم نكت الحجر، وليسألن العود لم خدش صاحبه".

فخِف القضاء غدًا إذا وافيت ما

كسبت يداك اليوم بالقسطاس

في موقف ما فيه إلَاّ شاخص

أو مهطع (4) أو مقنع بالراس

أعضاؤهم هي الشهودُ وسجنهم

نارٌ وحاكمهم شديد الباس

إِنْ تمطل اليوم الحقوقَ مع الغنى

فغدًا تؤديها مع الإفلاس

والظلمُ المحرَّم تارة يكون في النفوس، وأشده في الدماء. وتارة في الأموال، وتارة في الأعراض، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في خُطبته في حجة الوداع:"إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا"(5) وفي رواية: ثم قال: "اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"(6).

(1) أخرجه مسلم (2581) من حديث أبي هريرة.

(2)

أخرجه مسلم (2582) من حديث أبي هريرة.

(3)

الجماء: التي لا قرن لها. "النهاية"(1/ 300).

(4)

مهطع: أقبل عَلَى الشيء ببصره فلم يرفعه وقيل: الَّذِي ينظر في ذل وخشوع. "اللسان" مادة: (مطع).

(5)

أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679) من حديث أبي بكرة.

(6)

أخرجه الدارقطني فى "السنن"(3/ 26) والبيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 100)، (8/ 182) من حديث أنس.

ص: 134

وفي "صحيح مسلم"(1) عنه صلى الله عليه وسلم قال: "كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ".

فظلمُ العباد شرٌّ مكتسب؛ لأنَّ الحق فيه لآدمي مطبوع عَلَى الشُّح، فلا يترك من حقه شيئًا، لاسيما مع شدة حاجته يوم القيامة، فإنَّ الأم تفرحُ يومئذ إذا كان لها حقٌّ عَلَى ولدها، لتأخذه منه.

ومع هذا، فالغالبُ أنَّ الظالم تُعجَّل له العقوبة في الدُّنْيَا وإنْ أُمهل؛ كما قال صلى الله عليه وسلم (2):«إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} (3) الآية.

قال بعضُ أكابر التابعين لرجل: يا مُفلس. فابتُلي القائل بالدَّين والحبس، بعد أربعين سنة.

وضَرب رجلٌ أباه وسحبه إِلَى مكان، فَقَالَ الَّذِي رآه: إِلَى ها هنا! رأيتُ هذا المضروب قد ضَرب أباه، وسحبه إِلَيْهِ!

وصادر بعضُ وزراء الخلفاء رجلًا، فأخذ منه ثلائة آلاف دينار. فبعد مدة غضب الخليفة عَلَى الوزير، وطلب منه عشرة آلاف دينار، فجزع أهلُه من ذلك، فَقَالَ: ما يأخذ مني أكثر من ثلاثة آلاف دينار كما كنتُ ظلمتُ. فلما أدَّى ثلاثة آلاف دينار وقَّع الخليفةُ بالإفراج عنه، فسبحان مَن هو قائمٌ عَلَى كل نفس بما كسبت، إنَّ ربك لبالمرصاد.

حاكمُ العدل لا يجور، وإنَّما يُجازي بالعدل. وميزانُ عدله لا يُحابي أحدًا؛ بل يتحرَّر فيه مثاقيلُ الذر ومثاقيل الخردل، وكما تدين تدان.

فجانب الظلمَ لا تسلُك (طريقته)(*)

عواقبُ الظلم تُخشى وهى تنتظر

وكل نفس ستُجزى بالذي عملت

وليس للخلق من دينهم وطر

(1) أخرجه مسلم (2564) من حديث أبي هريرة.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

هود:102.

(*) مسالكه: "نسخة".

ص: 135

الثالث: مما استعاذ منه: وهو اكتساب الخطيئة؛ قال اللَّه عز وجل: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} (1).

وفسِّرت إحاطة الخطيئة بالموت عَلَى الشرك، وفسِّرت بالموت عَلَى الذنوب الموجبة للنار من غير توبة منها.

فكأنَّ ذنوبه أحاطت به من جميع جهاته، فلم يبق له مخلصٌ منها.

فالخطايا تُحيط بصاحبها حتى تُهلكه؛ وقد ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم مثل الخطايا التي يتلبس بها العبد بمثل درع ضيقة يلبسها، فتضيق عليه حتى تخنقه، ولا تنفك عنه إلا بعمل الحسنات، من توبة أو غيرها من الأعمال الصالحة؛ ففى "المسند"(2)، عن عُقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ (خَنِيقَة) (*)، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ، ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً أُخْرَى فَانْفَكَّتْ حَلْقَةٌ أُخْرَى حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ» .

فلا يخلص العبد من ضيق الذنوب عليه وإحاطتها به إلَاّ بالتوبة والعمل الصالح.

كان بعضُ السلف يُردد هذين البيتين بالليل، ويبكي بكاءً شديدًا:

ابكِ لذنبك طول الليل مجتهدًا

إنَّ البكاء معول الأحزان

لا تنسَ ذنبك في النهار وطوله

إِنَّ الذنوب تحيط بالإنسان

الرابع مما استعاذ منه: الذنب الَّذِي لا يُغفر. ويدخل فيه شيئان. أحدُهما: الشرك؛ قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ

} (3) الآية.

والثاني: أنْ يعمل العبدُ ذنبًا ولا يُوفَّق لسبب يمحوه عنه؛ بل يلقى اللَّه من غير سبب ملح له، فلا يُغفر له؛ بل يُعاقب عليه، فإنَّ الله إذا أَحَبّ عبدًا أوقعه

(1) البقرة:81.

(2)

أخرجه أحمد (4/ 145).

(*) ثُم خنقته: "نسخة".

(3)

النساء: 48، 116.

ص: 136

في ذنب له، ووفقه لأسباب يمحوه عنه: إمَّا بالتوبة النصوح، وفي ابن ماجه (1) عن ابن مسعود مرفوعًا: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له".

وإمّا بحسنات ماحية {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (2) وإمَّا أن يُتلى بمصائب مكفّرة؛ فمن وُرد اللَّه به خيرًا يُصب منه. ولا تزال البلايا بالمؤمن حتى يمشي عَلَى الأرض وليس عليه خطيئة.

وإمَّا أنْ يُغفر له بشفاعة بإذن الله لمن يأذن فيها، وإما أن يغفر لمجرّد فضله ورحمته من غير سبب آخر، فحينئذ يكون هذا الذنب مغفورًا.

قال بعضُهم: إذا أحبَّ اللهُ عبدًا لم يضره ذنب، ومرادُه أنه يمحوه عنه، وربما يجعل الذنب في حقه سببًا لشدة خوفه من ربَّ وذله وانكساره له، فيكون سببًا لرفع درجة ذلك العبد عنده.

وإذا خذل عبدًا وقضى عليه بذنبٍ لم يوفِّقه لشيء من ذلك، فلقي الله بذنبه من غير سبب يمحوه عنه في الدُّنْيَا، ثم يؤاخذه عليه في الآخرة ولا يغفره، فهذا هو الذنب المُستعاذ منه ها هنا.

وحاصلُ الأمر: أنَّ مَن عامله الله في ذنوبه بالعدل هلك، ومن عامله بالفضل نجا؛ كما قال يحى بن مُعاذ: إذا وضع عدله عَلَى (عبد)(*) لم ييق له حسنة، وإذا بسط فضله عَلَى عبد لم يبق له سيئة.

يا ويلنا من موقف ما به

أخوف من أنْ يعدل الحاكم

يا رب عفوا منك عن مذنب

أسرف إلا أنّه نادم

قولُه صلى الله عليه وسلم: "اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ؛ فِإِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَأُشْهِدُكَ وَكَفَى بِكَ شَهِيْدًا، أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، لَكَ المُلْكُ وَلَكَ

(1) برقم (4250).

(2)

هود: 114.

(*) عبده: "نسخة".

ص: 137

الحَمدُ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ وَعْدَكَ حَقٌّ، وَلِقَاءَكَ حَقٌّ، والجَنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّكَ تَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ".

هذا الدعاءُ استفتحه بقوله: "اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ذَا الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ".

وقد قال الله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ} (1) الآية.

وفىِ "صحيح مسلم"(2): "أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح صلاة الليل بقوله: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ أَنْتَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» .

وفي "المسند" والترمذي (3): أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يقول: يا ذا الجلال والإكرام، فَقَالَ:"لقد استُجيب لك؛ فاسأل".

والمسئولُ في هذا الدعاء أنَّ العبد يعهد إِلَى ربه في هذه الحياة الدُّنْيَا، ويُشهده، وكفى به شهيدًا أنَّه يشهد له بأصول الإيمان التي من وفَّى بها فقد نجا. وهي الشهادةُ لله بالوحدانية، وأتبعها بالشهادة له بالملُك والحمد والقُدرة عَلَى كل شيء، والشهادة لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بالعبودية والرسالة، والشهادة لله بأنَّ وعده حق ولقاءه حق، وأنَّ الجنة حق والنار حق، وأنَّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعث من في القبور. وقد تضمَّنت هذه الشهادة أصولَ الإيمان الخمسة؛ فإنَّ من شهد لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم بالرسالة فقد شهد بما أمر محمد صلى الله عليه وسلم بالشهادة به، وهو أصول الإيمان الخمسة كلِّها. وهي: الإيمان بالله وملائكته وكُتبه ورسله واليوم الآخر.

(1) الزمر: 46.

(2)

برقم (770) من حديث عائشة.

(3)

أخرجه أحمد (5/ 231، 235)، والترمذي (3527) من حدث معاذ.

ص: 138

وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاحه صلاة الليل: "أَنْتَ الحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ حَقٌّ"(1).

وقد أخبر اللَّه تعالى عن هُود عليه السلام أنَه قال لقومه: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (2).

وقد وردت الأحاديث بفضل من عهد إِلَى ربِّه في الدُّنْيَا هذا العهد، واستشهده عَلَى نفسه بمثل هذه الشهادة؛ ففي "سُنن أبي داود" (3) عن أنس موقوفًا:"مَن قَال حِين يُصبح أو يمسي: اللَّهُمَّ إِنِّي أَصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلَائِكَتَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ، أَنِّي أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ. أَعْتَقَ اللَّهُ رُبُعَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا مَرَّتَيْنِ أَعْتَقَ اللَّهُ نِصْفَهُ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا ثَلَاثًا أَعْتَقَ اللَّهُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ مِنَ النَّارِ، وَمَنْ قَالَهَا أَرْبَعًا أَعْتَقَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ".

وأخرج النسائي والترمذيّ بمعناه (4).

ورُوي معناه: من حديث سلمان (5)، وعائشة.

وفي "المُسند"(6) عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال: اللهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، إِنِّي أَعْهَدُ إِلَيْكَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا أَنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَحْدَكَ لَا شَرِيكَ لَكَ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ وَتُبَاعِدْنِي مِنَ

(1) أخرجه البخاري (1120)، ومسلم (769) من حديث ابن عباس.

(2)

هود: 54 - 55.

(3)

برقم (5069).

(4)

أخرجه النسائي في "الكبرى"(6/ 6) برقم (9837/ 6) عن أنس، والترمذي (3501) بمعناه عن أنس. وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

(5)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(6/ 220)، و"الدعاء"(299، 300)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 523) من حديث سلمان.

(6)

(1/ 412).

ص: 139

الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ فَاجْعَلْ لِي عِنْدَكَ عَهْدًا تُوَفِّينِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ. إِلَّا قَالَ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِنَّ عَبْدِي قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ عَهْدًا فَأَوْفُوهُ إِيَّاهُ. فَيُدْخِلُهُ اللهُ الْجَنَّةَ". قال القاسمُ بن عبد الرحمن: ما في أهلنا جارية إلا تقول هذا في خدرها.

قولُه صلى الله عليه وسلم: "وَأَشْهَدُ أَنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تَكِلْنِي إِلَى ضَيْعَةٍ وَعَوْرَةٍ، وَذَنْبٍ وَخَطِيئَةٍ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ" هذا كما في حديث ابن مسعود (1) المتقدم: "فَإِنَّكَ إِنْ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي تُقَرِّبْنِي مِنَ الشَّرِّ، وَتُبَاعِدْنِي مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنِّي لَا أَثِقُ إِلَّا بِرَحْمَتِكَ". والمقصودُ من ذلك: سؤالُ العبد لربه أنْ يتولَاّه برحمته، وأنْ لا يكله إِلَى نفسه.

وفي كتاب "اليوم والليلة" للنسائي (2): عن أنس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: "مَا يَمْنَعُكِ أَنْ تَسْمَعِي مَا أُوصِيكِ بِهِ، أَنْ تَقُولِي إِذَا أَصْبَحْتِ وَأَمْسَيْتِ: يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ اسْتَغِيثُ، أَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، ولَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ".

وخرَّجه الطبراني (3)، وزاد فيه:"ولَا إِلَى أحدٍ منَ الناسِ".

وخرَّج أبو داود والنسائي (4): من حديث أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"دَعْوَة الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَه إِلَّا أَنْت".

وقال قتادة: لما نزل قولُه تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} (5) الآيات، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ"(6).

(1) أخرجه أحمد في "المسند"(1/ 412).

(2)

برقم (570).

(3)

في "الأوس"(3565)، (8021).

(4)

أخرجه أبو داود في "السنن"(5090)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 167) برقم (10487/ 25).

(5)

الإسراء: 74.

(6)

أخرجه الطبري في "التفسير"(15/ 89).

ص: 140

وفي "سُنن أبي داود"(1) عن عبد اللَّه بن حوالة، قال: "بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَغْنَمَ عَلَى أَقْدَامِنَا، فَرَجَعْنَا وَلَمْ نَغْنَمْ شَيْئًا وَقّدْ عَرَفَ الْجَهْدَ فِي وُجُوهِنَا، فَقَالَ:«اللَّهُمَّ لَا تَكِلْهُمْ إِلَيَّ فَأَضْعُفَ عَنْهُمْ، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى النَّاسِ فَيَسْتَأْثِرُوا عَلَيْهِمْ» .

فَإِذَا وفَّق اللهُ عبدًا توكل بحفظه وكلاءته، وهدايته وإرشاده، وتوفيقه وتسديده. وإذا (أخذله) (*) وكله إِلَى نفسه أو إِلَى غيره؛ ولهذا كانت هذه الكلمة:"حسبنا اللَّه ونعم الوكيل" كلمة عظيمة، وهي التي قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين أُلقي في النار، وقالها محمدٌ صلى الله عليه وسلم حين قال الناس: إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم (2)، وقالتها عائشةُ حين ركبت الناقة لمَّا انقطعت عن الجيش (3)، وهي كلمةُ المؤمنين.

فمن حقَّق التوكلَ عَلَى اللَّه لم يكله إِلَى غيره، وتولَّاه بنفسه.

وحقيقةُ التوكل: تَكِلَةِ الأمور كلِّها إِلَى من هي بيده؛ فمن توكَّل عَلَى اللَّه في هدايته وحِراسته وتوفيقه وتأييده ونصره ورزقه، وغير ذلك من مصالح دينه ودنياه تولَّى اللهُ مصالحه كلَّها؛ فإنه تعالى ولي الذين آمنوا. وهذا هو حقيقةُ الوثوق برحمة الله؛ كما في هذا الدعاء:"فإنى لا أثق إلا برحمتك".

فمن وثق برحمة ربِّه ولم يثق بغير رحمته، فقد حقَّق التوكل عَلَى ربه في توفيقه وتسديده. فهو جدير بأن يتكفَّلَ اللهُ بحفظه، ولا يكله إِلَى نفسه.

وفي هذا الحديث وصفَ النفسَ بأوصاف ذميمة، كلُّ ذلك حذرًا أنْ يُوكل العبد إِلَى ما هذه صفاته، وهي أربعةُ أوصاف: الضَّيعة، والعورة، والذَّنب، والخطيئة.

(1) برقم (2535).

(*) خذله: "نسخة".

(2)

أخرجه البخاري برقم (4563، 4564) عن ابن عباس.

(3)

أخرجه البخاري برقم (4141)، ومسلم برقم (2770).

ص: 141

فالضيعةُ: هي الضياع. فمن وكل إِلَى نفسه ضاع؛ لأنّ النفس ضيعة؛ فإنًها لا تدعو إِلَى الرُّشد، وإنَّما تدعو إِلَى الغي.

والعورة: هي ما ينبغي سترُه لقبحه ودناءته، فكذلك النفس لقُبح أوصافها وسوء أخلاقها الذميمة.

والذنبُ والخطيئة معناهما مُتقارب أو متحد، وقد يراد بأحدهما الصغائر وبالآخر الكبائر.

وقد وصف الله سبحانه وتعالى النفسَ بأنها أمَّارة بالسوء، فَقَالَ تعالى:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} (1) فمن رحمه الله عصمه (من)(*) السوء الَّذِي تأمر به النفس.

وفي حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم علَّمه أنْ يقول في كل صباح ومساء وعند نومه: "أعوذ بك من شر نفسي"(2).

وأمّا من وكله إِلَى نفسه ولم يرحه؛ فإنَّه يُجيب داعي نفسه الأمارة بالسوء، فيفعل كل سوء تأمره به نفسُه.

وفي "المسند" والترمذي (3) مرفوعًا: " «الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، وَالعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عز وجل» .

فقسَّم الناسَ إِلَى قسمين: كيّس، وعاجز. فالكيّسُ: هو اللَّبيب الحازمُ العاقل، الَّذِي ينظر في عواقب الأمور، فهذا يقهر نفسَه ويستعملُها فيما يعلم أنَّه ينفعها بعد موتها، وإن كانت كارهةٌ لذلك.

والعاجز هو الأحمقُ الجاهل، الَّذِي لا يفكر في العواقب؛ بل يتابع نفسه عَلَى ما

(1) يوسف: 53.

(*) عن: "نسخة".

(2)

أخرجه أحمد (1/ 9، 10، 297)، وأبو داود (5067)، والترمذي (3392)، والنسائي في "الكبرى" برقم (1/ 7691، 7715/ 1)(9839/ 8) من حديث أبي هريرة.

وأخرجه أحمد (1/ 14) من حديث أبي بكر.

(3)

أخرجه أحمد (4/ 124)، والترمذى (2459).

ص: 142

تهواه، وهي لا تهوى إلَّا ما تظن أنَّ فيه لذتها وشهوتها في العاجل وإنْ عاد ذلك بضرٍّ لها فيما بعد الموت، وقد يعود ذلك عليها بالضرر في الدُّنْيَا قبل الآخرة.

فهذا هو الغالب واللازم، فيتعجَّل -هو لنفسه- العارَ والفضيحة في الدُّنْيَا، وسقوطَ المنزلة عند اللَّه وعند خلقه، والهوان والخزي، ويُحرم بذلك خير الدُّنْيَا والآخرة، من علمٍ نافع ورزق واسع وغير ذلك.

ومَن خالف نفسَه ولم يُتبعها هواها تعجَّل بذلك الجزاء في الدُّنْيَا، ووجد بركة ذلك من حصول العِلْم والإيمان والرزق وغير ذلك.

وقيل لبعضهم: بما بلغ الأحنفُ بن قيس فيكم ما بلغ؟ قال: كان أشد الناس سُلطانًا عَلَى نفسه.

فهذه النفس تحتاج إِلَى مُحاربة ومجاهدة ومعاداة؛ فإنَّها أعدى عدو لابن آدم، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"المُجاهد من جاهد نفسه في الله"(1) ورُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك"(2).

وقال الصِّديقُ لعمر رضي الله عنهما في وصيته له عند موته: أوَّل ما أُحذرك نفسك التي بين جنبيك.

وفيه يقول بعضُهم: كيف احترازي من عدوي، إذا كان عدوي يين أضلاعي؟!

وقال عبد اللَّه بن عمرو بن العاص لمن سأله عن الجهاد: ابدأ بنفسك فجاهدها، وابدأ بنفسك فاغزها (3). ويقال: إنَّه الجهاد الأكبر، ورُوي مرفوعًا (4) من وجه ضعيف.

(1) أخرجه أحمد (6/ 20، 21، 22)، والترمذي برقم (1621). قال الترمذي: حديث حسن

صحيح.

(2)

أخرجه البيهقي في "الزهد الكبير"(343) من حديث ابن عباس. قال العراقي في "تخريج الإحياء"(4/ 3): وفيه محمد بن عبد الرحمن بن غزوان أحد الوضاعين.

(3)

أخرجه البيهقي في "الزهد الكبير"(368).

(4)

أخرجه أبو داود (2519).

ص: 143

فمن ملك نفسه وقهرها ودانها عزَّ بذلك؛ لأنّه انتصر عَلَى أشد أعدائه وقهره، وأسره واكتفى شرَّه، قال تعالى:{وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (1) فحصر الفلاح في وقاية شح نفسه، وتطلُّعها إِلَى ما مُنعت منه، وحرصِها عَلَى ما يُضيرها مما تشتهيه: من علو وترفع، ومال وجاه، وأهل ومسكن، ومأكل ومشرب، وملبس وغير ذلك.

فإنَّها تطلع إِلَى ذلك كلِّه وتشتهيه، وهو عين هلاكها، ومنه ينشأ البغيُ والحسد والحقد؛ فمن وقي شح نفسه فقد قهرها، وقصرها عَلَى ما أُبيح لها وأُذن لها فيه، وذلك عين الفلاح.

كان بعض العارفين يُنشد:

إذا ما (عدلت)(*) النفس

عن الحق زجرناها

وإن مالت عن الأخرى

إِلَى الدُّنْيَا منعناها

تخادعنا ونخدعها

وبالصبر غلبناها

لها خوف من الفقر

وفي الفقر أنخناها

وبكل حال، فلا يقوى العبدُ عَلَى نفسه إلَاّ بتوفيق الله إياه وتوليه له، فمن عصمه الله وحفظه تولَاّه، ووقاه شح نفسه وشرها، وقوَّاه عَلَى مُجاهدتها ومعاداتها.

ومن وكله إِلَى نفسه غلبته وقهرته، وأسرته وجرَّته إِلَى ما هو عين هلاكه، وهو لا يقدر عَلَى الامتناع كما يصنع العدوُّ الكافر إذا ظفر بعدوه المسلم؛ بل شر من ذلك؛ فإن المسلم إذا قتله عدوه الكافر كان شهيدًا، وأمّا النفس إذا تمكّنَتْ من صاحبها قتلته قتلاً يَهلك به في الدُّنْيَا والآخرة.

(1) الحشر: 9.

(*) عدت: "نسخة".

ص: 144

وهذا معنى الحديث الَّذِي رُوي مرفوعًا: " «لَيْسَ عَدُوُّكَ الَّذِي إِذَا قَتَلْتَهُ كَانَ لَكَ نُورًا يَومَ القِيامةِ، وَإِنْ قَتَلَكَ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ. أَعْدَى عَدُوِّكَ نَفْسُكَ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ» (1).

فلهذا، كان من أهم الأمور سؤال العبد ربَّه أنْ لا يكله إِلَى نفسه طرفة عين.

يا رب هئ لنا من أمرنا رشدا

واجعل معونتك الحُسنى لنا مددا

ولا تكلنا إِلَى تدبير أنفسنا

فالعبد يعجز عن إصلاح ها فسدا

وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَاغْفِرْ لِي ذُنُوبِي إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ".

ختم الدعاء بسؤال مغفرة الذنوب والتوبة؛ قال بعض السلف: الدُّنْيَا إما عصمة الله أو الهلكة، والآخرة إمَّا عفو الله أو النار.

فمن حصل له في الدُّنْيَا التوبة، وفي الآخرة المغفرة: فقد ظفر بسعادة الدُّنْيَا والآخرة. وقد تكرر في الكتاب والسنة ذكر الأمر بالتوبة والاستغفار؛ قال الله تعالى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} (2) الآية، وقال تعالى:{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (3) الآية.

وأخبر عن هود عليه السلام، وصالح وشعيب عليهم السلام. أنَّهم أمروا أممهم بالاستغفار والتوبة، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (4) الآيتان.

وتركُ الإصرار هو التوبة.

(1) أخرجه الطبراني في "الكبير"(3/ 294) برقم (3445)، وفي "مسند الشاميين" برقم (1668) من حديث أبي مالك الأشعري. وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 245): وفيه محمد بن إسماعيل ابن عياش وهو ضعيف.

(2)

المائدة: 74.

(3)

هود:3.

(4)

آل عمران: 135 - 136.

ص: 145

وفي "صحيح مسلم"(1)، عن الأغر المُزني، أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» .

وخرَّجه النسائي (2)، ولفظه:«يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ كُلَّ يَوْمٍ أَكْثرَ مِنْ سَبعينَ مَرَّةٍ» .

وفي "صحيح البخاري"(3)، عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"وَاللهِ إِنِّي إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِليهِ كُلَّ يَوْمٍ أَكْثرَ مِنْ سَبعينَ مَرَّةٍ".

وخرَّجه النسائي، وابن ماجه (4)، ولفظهما:"إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِليهِ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ".

وفي "المسُند"(5) عن حُذيفة، قال: كان في لساني ذرب عَلَى أهلي، ما أعدوه إِلَى غيرهم. فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ، يَا حُذَيْفَةُ؟ إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ".

وفيه (6)، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ".

وفي "السنن الأربعة"(7)، عن ابن عمر قال: إِنْ كنا لنعد للنبي صلى الله عليه وسلم فى المجلس الواحد مائة مرة يقول: (ربِّ اغفر لي وتُب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم الغفور".

(1) برقم (2702).

(2)

في "الكبرى"(10278/ 11) من حديث أنس.

(3)

برقم (6307).

(4)

النسائي في "الكبرى"(10268/ 3)، وابن ماجه في "السنن"(3815).

(5)

(5/ 394، 396، 397، 42).

(6)

أخرجه أحمد (4/ 410)، (5/ 394).

(7)

أخرجه أبو داود (1516)، والترمذي (3434)، والنسائي في "الكبرى"(10292/ 1)، وابن ماجه (3814). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.

ص: 146

وإنَّما قدَّم ذكرَ الشهادة بالتوحيد عَلَى طلب المغفرة؛ لأنّ التوحيد أعظم الأسباب التي تُستجلب بها المغفرة، وعدمُه مانع من المغفرة بالكلية؛ وفي الحديث (1):"ابن آدم إِنَّ جِئْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً".

وفي حديث سيد الاستغفار (2) البدايةُ بذكر التوحيد قبل طلب المغفرة. وإذا اعترف العبدُ بذنبه وطلب المغفرة من ربِّه، وأقر له أنَّه لا يغفر الذنوب غيره كان جديرًا أنْ يُغفر له؛ ولهذا قال في الحديث:"فاغفر لي، إنَّه لا يغفر الذنوب إلَاّ أنت" وكذلك في دُعاء سيد الاستغفار، وكذلك في الدعاء الَّذِي علَّمه الصديق أنْ يقوله في صلاته.

وإلى هذا الإشارة في القرآن: {ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (3).

وفي حديث أبي ذر (4) المرفوع: "يَقُولُ اللهُ عز وجل: مَنْ عَلِمَ أَنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلَى المَغْفِرَةِ ثُمَّ اسْتَغْفَرَنِي غَفَرْتُ لَهُ وَلَا أُبَالِي".

وفى حديث علي (5)، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْجَبُ مِنْ عَبْدِهِ إِذَا قَالَ: اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي. إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ غَيْرِي".

وفي "الصحيح"(6): حديثُ الَّذِي أذنب ذنبًا فَقَالَ: "رَبِّ عَمِلْتُ ذَنْبًا

فَاغْفِرْهُ لِي، قَالَ عز وجل: عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ الذَّنْبَ قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابعَة: فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ". يعني: ما دام على هذا الحال، كلما أذنب استغفر.

(1) أخرجه أحمد (5/ 147، 148، 153، 155، 196، 180)، وابن ماجه (3821) من حديث أبي ذر.

(2)

أخرجه البخاري (6306).

(3)

آل عمران: 135.

(4)

أخرجه أحمد (5/ 154، 177)، والترمذي (2495)، وابن ماجه (4257).

(5)

أخرجه أحمد (1/ 97، 115، 128)، وأبو داود (2602)، والترمذي (3446)، والنسائي في "الكبرى"(8799/ 1).

(6)

أخرجه البخاري (7507)، ومسلم (2758) من حديث أبي هريرة.

ص: 147

وفي "السنن"(1)، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه:«مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةٍ» .

التوبةُ والاستغفار تُقبل في جميع آناء الليل والنهار، وفي "صحيح مسلم" (2) مرفوعًا:«إِنَّ اللهَ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا» .

ولكن بعض الأوقات أرجى قبولًا، فَإِذَا وقعت التوبةُ والاستغفار في مظان الإجابة كان أقرب إِلَى حصول المطلوب؛ ولهذا مدح اللَّهُ تعالى المُستغفرين بالأسحار، قال:{وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (3)، وقال:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (4).

وفي "الصحيح"(5)، حديثُ النزول، وأنَّ الله يقول كل ليلية حين يبقى ثلثُ الليل الآخر:"هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفَرُ لَهُ، هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَأَتُوبَ عَلَيْهِ".

قال الفُضيل بن عياض: ما من ليلةٍ اختلط ظلامُها، وأرخى الليل سربال سترها، إلَّا نادى الجليلُ جل جلاله: مَن أعظم مني جودًا، والخلائق لي عاصون، وأنا لهم مراقب، أكلؤهم في مضاجعهم كأنَّهم لم يعصوني، وأتولَّى حفظَهم كأنهم لم يُذنبوا فيما بيني وبينهم، أجود بالفضل عَلَى العاصي وأتفضَّل عَلَى المسيء. من ذا الَّذِي دعاني فلم أُلبِّه، أمَّن ذا الَّذِي (سألني)(*) فلم أعطه، أمّن ذا الَّذِي أناخ ببابي فنحيتُه. أنا الفضل ومني الفضل، أنا الجواد ومني الجود، أنا الكريم ومني الكرم، ومِن كرمي (أن)(**) أغفر للعاصي بعد

(1) أخرجه أبو داود (1514)، والترمذي (3559). وقال الترمذي: هذا حديث كريب، إِنَّمَا نعرفه من حديث أبي نضيرة، وليس إسناده بالقوي.

(2)

برقم (2759) من حديث أبي موسى.

(3)

الذاريات: 18.

(4)

آل عمران: 17.

(5)

أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة.

(*) يسألني: "نسخة".

(**) أني: "نسخة".

ص: 148

المعاصي، ومِن كرمي أن أعطي العبد ما سألني، وأعطيه ما لم يسألني، ومن كرمي أن أعطي التائب كأنَّه لم يعصني. فأين عني يهرب الخلائق، وأين عن بابي ينتحيَّ العاصون (1). ما للعصاة مهرب من الله إلَاّ إِلَيْهِ، فيهربون منه إِلَيْهِ.

هربت مِنْهُ إِلَيْهِ

بَكَيْت مِنْهُ عَلَيْهِ

وَحقه هُوَ سؤلي

لَا زلت بَين يَدَيْهِ

حَتَّى أنال وأحظى

بِمَا أرجي لَدَيْهِ

أَسَأْت وَلم أحسن وجئتك تَائِبًا

وَأَنِّي لعبد عَن موَالِيه يهرب

يؤمل غفرانًا فَإِن خَابَ ظَنّه

فَمَا أحد مِنْهُ عَلَى الأَرْض أخيب

وهذا معنى: "لا ملجأ منك إلا إليك" هو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأفرح بتوبة عبده ممن فقد راحلته بأرض مهلكة، حتى يئس من الحياة ثم وجدها.

يا مطرود احذر أنْ تُفارق عتبة بابهم، يا مرميَّا بالبُعاد إياك أنْ تبعد عن جنابهم، يا مهجورًا ابْكِ وترام عليهم، يا متوعَّدا بالعقاب لا تهرب منهم إلَاّ إليهم.

في حديث جابر، المرفوع:"إِنَّ الْعَبْدَ (لِيَدْعُو) (*) اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَيُعْرِضُ عَنْهُ، فَلَا يَزَالُ يَدْعُوهُ حَتَّى يَقُولُ عز وجل لِمَلَائِكَتِهِ: إِنَّ عَبْدِي قَدْ أَبَى أَنْ يَدْعُوَ غَيْرِي فَقَدِ اسْتَجَبْتُ لَهُ".

كان رجلٌ من أصحاب ذي النون يطوف في السِّكك يبكي، ويُنادي: أين قلبي، أين قلبي، مَن وجد قلبي؟! فدخل يومًا بعضَ السكك، فوجد صبيًّا يبكي وأمّه تضربه، ثم أخرجته من الدار وأغلقت الباب دونه. فجعل الصبي يلتفت يمينًا وشمالاً، ولا يدري أين يذهب ولا أين يقصد. فرجع إِلَى باب

(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 92).

(*) ليدع: "نسخة".

ص: 149

الدار، فوضع رأسه عَلَى عتبته فنام، فلما استيقظ جعل يبكى، ويقول: يا أمَّاه، مَن يفتح لي الباب إذا أغلقت عني بابك، ومن يُدنيني من نفسه إذا طردتيني، ومَن ذا الَّذِي يئويني بعد أنْ غضبت عليَّ؟ فَرَحمَتْهُ أمُه، فقامت فنظرت من خلل الباب فوجدت ولدها تجري الدموع عَلَى خده متمعِّكًا (1) في التراب.

ففتحت البابَ وأخذته حتى وضعته في حِجرها، وجعلت تُقبله وتقول: يا قُرَّة عيني وعزيز نفسي، أنت الَّذِي حملتني عَلَى نفسك، وأنت الَّذِي تعرَّضت لما حلَّ بك، لو كنت أطعتني لم (تلق)(*) منى مكروهًا.

فتواجد (2) الرجلُ، ثم قام وصاح، وقال: قد وجدتُ قلبي، قد وجدتُ قلبي.

هكذا ينبغي أن يكون حالُ العبدُ مع ربه.

إذا هجروا عزًّا وصلنا تذلُّلًا

وإنْ بعدوا يأسًا قرُبنا تعللا

وإنْ غلَّقوا بالهجر أبواب وصلهم

وقالوا ابعدوا عنا طلبنا التوصلا

وقفنا عَلَى أبوابهم نطلب الرِّضى

عَلَى التُرب عفَّرنا الحدود تذللا

أشرنا بتسليم وإنْ بعُد المدى

إليهم وكلَّفنا الرياح التحملا

(آخره والحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله وصلى اللَّه عَلَى محمد وآله وصحبه وسلم)(**).

(1) متمعك: أي تقلب وتمرغ في التراب. "لسان العرب" مادة: (معك).

(*) يكن: "نسخة".

(2)

فتواجد أي حزن "لسان" مادة: (وجد).

(**) تم هذا الحديث وشرحه، والحمد لله وحده وصل اللهم عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم:

ص: 150

شرح حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه -

ص: 151

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالين والصلاة والسلام عَلَى محمد وآله وصحبه أجمعين.

وبعد فقد خرَّج الإمام أحمد والنسائى (1) من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْعُو بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ: اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ» .

اعلم أن الحاجات التي يطلبها العبد من اللَّه عز وجل نوعان:

أحدهما: ما علم أنه خير محض كسؤاله خشيته من اللَّه تعالى وطاعته وتقواه، وسؤاله الجنة، والاستعاذة به من النار، فهذا يطلب من اللَّه تعالى بغير تردد، ولا تعليق بالعلم بالمصلحة؛ لأنّه خير محض، ومصلحة خالصة؛ فلا وجه لتعليقه بشرط وهو معلوم الحصول، وكذلك لا يعلق لمشيئة اللَّه عز وجل؛ لأنّ اللَّه يفعل ما يشاء ولا مُكْرِهَ له فلا فائدة في تعليقه بمشيئة؛ ولكن ليعزم المسألة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لَا يَقُلْ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ المَسْأَلَة، فَإِنَّ اللهَ لَا مُسْتَكْرِهَ لَهُ"، خرّجاه من حديث أنس وأبي هريرة بمعناه (2).

(1) أخرجه النسائي (1305).

(2)

أخرجه البخاري (6338)، ومسلم (2678) من حديث أنس، والبخاري (6339، 7477)،

ومسلم (2679) من حديث أبي هريرة.

ص: 153

وفي رواية لمسلم (1): "وَلَكِنْ لِيَعْزِمْ المَسْأَلَة ولِيعظمْ الرَّغبة؛ فإنَّ الله لَا يَتعَاظَمهُ شيء".

وفي رواية للبخاري (2): "إنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ وأنَّه يَفعَلُ مَا يَشاءُ ولَا مكره له".

النوع الثاني: ما لا يعلم هل هو خير للعبد أم لا، كالموت والحياة، والغنى والفقر، والولد والأهل، وكسائر حوائج الدُّنْيَا التي تُجْهَل عواقبها، فهذه لا ينبغي أن يسأل الله منها إلا ما يعلم فيه الخيرة للعبد، فإن العبد جاهل بعواقب الأمور، وهو مع هذا عاجز عن تحصيل مصالحه ودفع مضاره، فيتعين عليه أن يسأل حوائجه من هو عالم قادر، ولهذا شرعت الاستخارة في الأمور الدنيوية كلها، وشرع أن يقول الداعي في استخارته:"اللَّهُمَّ أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيم، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلا أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلا أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ -ويسميه باسمه- خَيْرٌ لِي فِي دِينِي ودُنْيَايَ"(3).

وكذلك في هذا الدعاء يسأل الله بعلمه الغيب وقدرته عَلَى الخلق ما يعلم له فيه الخيرة من موت أو حياة.

وقد تضمن الدعاء الَّذِي في هذا الحديث النوعين معًا، فإنه لما سأل الموت والحياة قيد ذلك بما يعلم الله أن فيه الخيرة لعبده، ولما سأل الخشية وما بعدها مما هو خير صرف جزم به ولم يقيده بشيء.

في "الصحيحين"(4) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا عَلِمت الحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْرًا لِي".

(1) برقم (2679).

(2)

برقم (7477).

(3)

أخرجه البخاري (6382) من حديث جابر.

(4)

أخرجه البخاري (5671، 6351، 7233)، ومسلم (268).

ص: 154

وللبخاري (1): "لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ المَوْتَ: إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَزْدَادَ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعْتِبَ".

ولمسلم (2): "لَا يَتَمَنَّيْنَ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إنَّهُ إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ إلَّا خَيْرًا". وزاد الإمام أحمد (3) في رواية له: "إلا أن يكون وثق بعلمه" وله أيضًا (4): "لا تتمنوا الموت، فإن هول المطلع، شديد وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة".

ففي هذه الأحاديث التعليل للنهي عن تمني الموت بأن العبد إِنَّ كان محسنًا فحياته يرجى أن يزداد بها إحسانًا، وإن كان مسيئًا فإنه يرجو أن يستعتب، يعني: يزيل العتب عنه بالتوبة والإنابة قبل الموت، وقد جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بفضيلة طول العمر في الطاعة ففي الترمذي (5): "أنه صلى الله عليه وسلم سئل: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ» . وسئل: أَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» .

وفي "المسند"(6): "إِنَّ نفرًا ثلاثة أسلَمُوا، فَكَانُوا عِنْدَ طَلْحَةَ، فَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا فَخَرَجَ فيه أَحَدُهُمْ فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ بَعَثَ بَعْثًا آخَر فَخَرَجَ فِيهِ آخَرُ فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَاتَ الثَّالِثُ عَلَى فِرَاشِهِ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ الْمَيِّتَ عَلَى فِرَاشِهِ أَمَامَهُمْ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ آخِرًا يَلِيهِ، وَرَأَيْتُ الَّذِي اسْتُشْهِدَ أَوَّلَهُمِ آخِرَهُمْ، قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: «وَمَا أَنْكَرْتَ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ أَحَدٌ أَفْضَلَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَمَّرُ فِي الْإِسْلامِ لِتَسْبِيحِهِ وَتَكْبِيرِهِ وَتَهْلِيلِهِ".

(1) برقم (7235).

(2)

برقم (2682).

(3)

(2/ 350).

(4)

(3/ 332).

(5)

برقم (2330) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

(6)

(1/ 163).

ص: 155

وفي رواية (1): «قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ:«وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ:«فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» ".

قيل لبعض السلف: طاب الموت. قال: يا ابن أخي، لا تفعل. لساعة تعيش فيها تستغفر الله خير لك من موت الدهر.

وقيل لشيخ كبير منهم: أتحب الموت؟ قال: لا، قد ذهب الشباب وشره، وجاء الكبر وخيره، فَإِذَا قمت قلت: بسم الله، وإذا قعدت قلت: الحمد الله، فأنا أَحَبّ أن يبقى لي هذا.

وقيل لشيخ آخر: ما بقي منك مما تحب له الحياة؟ قال: البكاء عَلَى الذنوب.

ولهذا كان كثير من السلف يبكي عند موته تأسفًا عَلَى انقطاع أعماله الصالحة.

وكان يزيد الرقاشي يقول عند موته يا يزيد من يصلي لك بعدك ومن يصوم؟ ومن يتوب لك من الذنوب السالفة.

ولهذا يتحسر الموتى عَلَى انقطاع أعمالهم الصالحة.

ففي الترمذي (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ: إِنْ كَانَ مُحْسِنًا أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا أَنْ يَكُونَ اسْتعتب» .

ورئي بعض الموتى من السلف في المنام، فسُئل عن حاله فَقَالَ: قدمنا عَلَى أمر عظيم، نعلم ولا نعمل وتعملون ولا تعلمون، والله لتسبيحة أو تسبيحتان، أو ركعة أو ركعتان في نسخة عملي أَحَبّ إلي من الدُّنْيَا وما فيها.

(1) أخرجه ابن ماجه (3925)، وأحمد (1/ 162، 163) من طريق أبي سلمة عن طلحة بن عبد الله. قال البوصيري في "الزوائد": رجال إسناده ثقات، إلا أنه منقطع. قال علي بن المدينى وابن معين: أبو سلمة لم يسمع من طلحة شيئًا.

(2)

برقم (2403) من طريق يحيى بن عبيد قال: سمعتُ أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول

فذكره. قال أبو عيسى: هذا حديث إِنَّمَا نعرفه من هذا الوجه، ويحيى بن عبيد الله قد تكلّمَ فيه شعبة، وهو يحيى بن عبيد الله بن موهب، مَدَني.

ص: 156

وصلى بعض السلف ركعتين خفيفتين بقرب من المقابر، ولم يرضهما لتخفيفهما، ثم غلبته عينه فرأى صاحب القبر الَّذِي هو بقربه يقول له: صليت ركعتين ولم ترضهما؟ قال: نعم. قال: لئن يكون لي مثل ركعتيك أَحَبّ إلي من الدُّنْيَا بحذافيرها.

وأما الرواية التي في "المسند"(1): "لَا يتمنين أحد الْمَوْت إِلَّا من وثق بِعَمَلِهِ" فيدل عَلَى أن من له عمل صالح يثق به فإن له أن يتمنى الموت.

وقد كان كثير من السلف يتمنى الموت، وهم أقسام:

منهم من يحمله حسن الظن باللَّه عَلَى حب لقائه، إما لا له عنده من كثرة الطاعات، أو لا عنده من محبة اللَّه عز وجل فيحسن ظنه به كما قال بعض السلف: لقد سئمتُ من الحياة، حتى لو وجدت الموت يباع لاشتريته، شوقًا إِلَى اللَّه وحبًّا للقائه، فقِيلَ لَهُ: أفعلى ثقة أنت من عملك؟ قال: لا، لكن

لحبي إياه وحسن ظني به، أفتراه يعذبني وأنا أحبه؟!

وكان بعضهم ينشد في هذا المعنى:

وزادي قليل ما أراه مبلغي

ألزاد أبكي أم لطول مسافتي؟

أتحرقني بالنار يا غاية المنى

فأين رجائي فيك أين محبتي؟

ومنهم من يتمنى الموت شوقًا إِلَى لقاء الله عز وجل، وسنذكر أخبارهم في الكلام عَلَى آخر الحديث إِنَّ شاء اللَّه تعالى.

وتمني الموت لمن يثق بعمله له أحوال:

تارة يتمنى الموت لضر نزل به، وهذا منهي عنه، وصاحبه إِنَّ لم يثق بعمله كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ فإنه لا يدري لعله يهجم بعد الموت عَلَى ما هو أعظم وأشد مما هو فيه، فإن وثق بعمله فقد تمناه للضر بعض السلف.

(1)(2/ 350) وسبق عزوه للمسند.

ص: 157

وتارة يتمناه خشية فتنة في الدين، فهذا جائز عند أكثر العُلَمَاء، وقد تمناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في آخر حجة حجها فإنه قال:"اللهم إنه قد كبرت سني ورق عظمي، وانتشرت رعيتي، فاقبضني إلك غير مضيع ولا مفتون"(1). فقتل في ذلك الشهر.

وتمنت زينب بنت جحش رضي الله عنها لما جاءها عطاء عمر فاستكثرته وقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعدها، فماتت قبل أن يدركها عطاء ثانٍ لعمر.

وسأل عمر بن عبد العزيز من ظن به إجابة الدعاء أن يدعو له بالموت، لما ثقلت عليه الرعية، وخشي العجز عن القيام بحقوقهم.

وطُلِبَ كثير من السلف الصالح إِلَى بعض الولايات؛ فدعوا لأنفسهم بالموت فماتوا، واشتهر بعضهم واطلع عَلَى بعض عمل أحدهم أو معاملته مع الله فدعا لنفسه بالموت فمات، وفي الحديث:"وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونٍ"(2).

وفي "المسند"(3) عن محمود بن لبيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ، وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَابِ".

وقال ابن مسعود وغيره: ما من بر ولا فاجر إلا والموت خير له إِنَّ كان برًّا، فما عند الله خير للأبرار.

وإن كان فاجرًا، فإنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا.

(1) أخرجه مالك في "الموطأ"(2/ 824)، وأبو نعيم في "الحلية"(1/ 54).

(2)

أخرجه الترمذي (3233) من طريق أبي قلابة عن ابن عباس. قال أبو عيسى: وقد ذكروا بين أبي قلابة وابن عباس في هذا الحديث رجلاً، وقد رواه قتادة عن أبي قلابة عن خالد بن اللجلاج عن ابن عباس، وأحمد في "المسند"(5/ 243) من حديث معاذ بن جبل.

(3)

(5/ 427) قال الهيثمي في "المجمع"(2/ 321): رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح.

ص: 158

وتارة يتمناه من غير ضر ولا فتنة، فإن كان ممن وثق بعمله حبًّا لله وشوقًا إِلَى لقائه جاز، وسنذكره فيما بعد إِنَّ شاء الله تعالى.

وكذلك تمنيه عند حضور أسباب الشهادة اغتنامًا لها، كتمنيه عند حضور القتال فىِ سبيل الله أو الطاعون، وإن كان إحسانًا للظن به ففيه اختلاف بين السلف، وقد ورد تعليل النهي عن تمني الموت بأن هول المطلع شديد؛ فتمنيه من نوع تمني وقوع البلاء قبل نزوله ولا ينبغي ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم:"لَا تَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَلَكِنْ وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا"(1).

وسمع ابن عمر رجلًا يتمنى الموت فَقَالَ: لا تتمنى الموت فإنك ميت، ولكن سل الله العافية، فإن الميت ينكشف له عن هول عظيم (2).

هو هول المطلع، ويرى عالماً لا عهد له به، فلا ينبغي للإنسان أن يستعجل ذلك.

وقد قال عمر عند موته: لو كان لي ما في الأرض لافتديت به من هول المطلع (3).

وجزع الحسن بن علي عند موته وقال: إني أريد أن أشرف عَلَى ما لم أشرف عليه قط.

وكان الحسن البصري يقول عند موته: نفيسة ضعيفة وأمر هول عظيم، فإنا لله وإنا إِلَيْهِ راجعون.

وجزع حبيب بن محمد عند موته وجعل يقول: إني أريد أن أسافر سفرًا ما سافرته قط، إنني أريد أن أسلك طريقًا ما سلكته قط. أريد أن أزور سيدي ومولاي وما رأيته قط، أريد أن أشرف عَلَى أهوال ما شاهدت مثلها قط.

(1) أخرجه البخاري (2863)، ومسلم (1741).

(2)

أخرجه عبد بن حميد في "المنتخب" بهذا اللفظ رقم (330).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(7/ 100)، والطبراني في "الأوسط"(579)، وابن حبان (6891 - إحسان)، والحاكم في "المستدرك"(3/ 90 علمية).

وقال الهيثمي في "المجمع"(9/ 76):

وإسناده حسن.

ص: 159

وأيضًا فالموت نفسه أشد ما يلقاه الآدمي في الدُّنْيَا ولا يعلم الناس في الدُّنْيَا حقيقة شدته.

وقال بعض السلف: لو أن ميتًا نُشِرَ فأخبر أهل الدُّنْيَا بحقيقة الموت ما انتفعوا بعيش ولا استلذوا بنوم.

وإنما كان الموت خيرًا للعاصي؛ لأنّه كلما طال عمره زادت ذنوبه، فزاد عقابه. وهذا كما قال ابن مسعود: إِن كان مسيئًا فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} (1).

وكان بعض الصالحين يقول: قد سئمنا من الحياة لكثرة ما نقترف من الذنوب. هذا مع كثرة أعمالهم الصالحة فكيف يقول من عمره كله ضائع.

صفوة اللذة أثمرت لي كدري

كم أبصرت ما يعطي بصري

ما لي زاد وقد تداني سفري

وقد ضاع العمر فإنه يوالي عمري

ولقد كان كثير من الصالحين يتمنى الموت في صحته، فلما نزل به كَرِهَهُ لشدته، ومنهم: أبو الدرداء وسفيان الثوري، فما الظن بغيرهما.

وكان بعض الصالحين يتمنى الموت، فرأى في منامه قائلًا يقول له: أتتمنى الموت؟ قال: قد كان ذلك، فقطب وجهه ثم قال: لو عرفت الموت وكربه حتى يخالط قلبك معرفته، لطار نومك أيام حياتك، ولذهل عقلك حتى تمشي في الناس والهًا.

وكان إذا ذكر منامه هذا بكى وقال: طوبى لمن نفعه عيشه، فكان طول عمره زيادة في عمله، واللَّه ما أراني كذلك.

قال إبراهيم بن أدهم: إِنَّ للموت كأسًا لا يقوى على تجرعها إلا خائف وجل طائع كان يتوقاها.

(1) آل عمران: 178.

ص: 160

ولأبي العتاهية:

ألا للموت كأس أي كأس

وأنت لكأسه لابد حاسي

إِلَى كم والممات إِلَى قريب

تذكر بالممات وأنت ناسي

وفي الجملة فينبغي للمؤمن أن يكون طول عمره زيادة في عمله، كما في "صحيح مسلم" (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنه كان يدعو: واجعل الحياة زيادة لي في كل خير".

قال بعضهم: من لا خير له في الموت لا خير له في الحياة.

يعني من لا تكون حياته زيادة في حسناته فلا خير له في الموت ولا في الحياة وقد رأى بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم في منامه فَقَالَ له: «مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ، وَمَنْ كَانَ يَوْمُهُ شَرًّا مِنْ أَمْسِهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ، وَمَنْ لَمْ يَتَفَقَّدُ الزِّيَادَةِ فِي عَمَلِهِ فَهُوَ فِي نُقْصَانٍ، وَمَنْ كَانَ فِي نُقْصَانٍ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ» (2).

وقال ميمون بن مهران: لا خير في الحياة إلا لتائب، أو لرجل يعمل في الدرجات يعني أن التائب يمحو بتوبته ما سلف من السيئات، والعامل في الدرجات تعلو درجاته بما يعمل من الحسنات، فهذا يزيد حسناته والأوّل يمحو سيئاته، فما عدا هذين الرجلين فلا خير لهما في الحياة.

ولهذا قال بقية: عمر المؤمن لا قيمة له [إلا أن](3) يتوب فيه من السيئات ويستدرك فيه ما مات.

(1) برقم (2720).

(2)

أخرجه البيهقي في "الزهد الكبير"(987) عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فى النوم

فذكره.

والحديث ليس في نسخة الزهد المخطوطة وإنَّما هو مما استدركه المحقق من كتب أخرى ونسب فيها الحديث للبيهقي في "الزهد".

وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 35) قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: بلغني أن الحسن البصري رأى النبي صلى الله عليه وسلم في منامه

(3)

ليست بالأصل وهي أنسب للسياق.

ص: 161

رفع إِلَى بعض العابدين رقعة في منامه وإذا فيها مكتوب:

إن كنت لا ترتاب أنك ميت

وليست لبعد الموت ها أنت تعمل

فعمرك ما يغني وأنت مفرط

واسمك في الموتى معد محصل

ورأى آخر في منامه كأن قائلًا ينشده:

يا خدّ إنك إِن توسد لينا

وسدت بعد الموت صم الجندل

فاعمل لنفسك في حياتك صالحاً

فلتندمن غدًا إذا لم تفعل

قوله صلى الله عليه وسلم: "أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى":

هذه الثلاث المنجيات التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث منجيات، وثلاث مهلكات" فذكر المنجيات هذه الخصال الثلاث.

والمهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه.

وروي أن سليمان عليه السلام قال: أوتينا مما أوتي الناس، ومما لم يؤتوا، وعلمنا مما علم الناس، ومما لم يعلموا، فلم نجد شيئًا أفضل من هذه الثلاث خصال.

وقال نافع بن سليمان: قال عيسى بن مريم عليه السلام: ثلاث من كن فيه بلغ ما بلغت: تقوى الله في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر.

فأما خشية اللَّه في الغيب والشهادة فالمعنى بها أن العبد يخشى اللَّه سرًّا وإعلانًا وظاهرًا وباطنًا، فإن أكثر الناس يرى أنه يخشى الله في العلانية وفي الشهادة، ولكن الشأن في خشيته الله في الغيب إذا غاب عن أعين الناس، وقد مدح الله من يخافه بالغيب، قال تعالى:{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} (1) وقال: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} (2) وقال تعالى: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} (3) وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (4).

(1) الأنبياء: 49.

(2)

ق: 33.

(3)

المائدة: 94.

(4)

الملك:12.

ص: 162

وقد فسر الغيب في هذه الآيات بالدنيا لأنّ أهلها في غيب عما وعدوا به من أمر الآخرة، وأما في هذا الحديث فلا يتأتى ذلك، كما ترى لمقابلته بالشهادة.

كان بعض السلف يقول لإخوانه: زهدنا الله وإياكم في الحرام زهادة من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه.

ومن هذا قول بعضهم: ليس الخائف من بكى وعصر عينيه، إِنَّمَا الخائف من ترك ما اشتهى من الحرام إذا قدر عليه، ومن هنا عظم ثواب من أطاع الله سرًّا بينه وبينه، ومن ترك المحرمات التي يقدر عليها سرًّا.

فأما الأول: فمثل قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} إِلَى قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} (1).

قال بعض السلف: أخفوا للَّه العمل فأخفى لهم الجزاء.

وفي حديث السبعة الَّذِي يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله «رَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنفِقُ يَمِينُهُ» (2).

وفي الحديث: إِذا صلى العبد في العلانية فأحسن وصلى في السر فأحسن، قال اللَّه: هذا عبدي حقًّا (3).

وفي حديث آخر: "مَنْ أَحْسَنَ صَلَاتَهُ حِيثُ يَرَاهُ النَّاسُ وَأَسَاءَهَا حِيثُ لَا يَرَاهَا فَتِلْكَ اسْتِهَانَةٌ يَسْتَهِينُ بِهَا رَبَّهُ"(4).

وأما الثاني: فمثل قوله صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إِلا ظله "وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ

(1) السجدة: 16 - 17.

(2)

أخرجه البخاري (629، 1357، 6114)، ومسلم (1031).

(3)

أخرجه ابن ماجه (4253).

(4)

أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(3738).

ص: 163

العَالَمِينَ" (1)، ومثل الحديث الَّذِي جاء فيمن أدى دينًا خفيًَا أنه يخير في أي الحور العين شاء.

والموجب لخشيته اللَّه في السر والعلانية أمور منها:

1 -

قوة الإيمان بوعده ووعيده عَلَى المعاصي.

2 -

ومنها النظر في شدة بطشه وانتقامه، وقوته وقهره، وذلك يوجب للعبد ترك التعرض لمخالفته، كما قال الحسن: ابن آدم، هل لك طاقة بمحاربة اللَّه، فإن من عصاه فقد حاربه.

وقال بعضهم: عجبت من ضعيف يعصي قويًّا.

3 -

ومنها قوة المراقبة له، والعلم بأنه شاهد ورقيب عَلَى قلوب عباده وأعمالهم وأنه مع عباده حيث كانوا، كما دل القرآن عَلَى ذلك في مواضع كقوله تعالى:{هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} (2) وقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} الآية (3) وقوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} (3) وقوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} (4).

وكما في الحديث الَّذِي خرّجه الطبراني (5): "أفضل الإيمان أن يعلم العبد أن الله معه حيث كان"، فيوجب ذلك الحياء منه في السر والعلانية.

قال بعضهم: خف اللَّه عَلَى قدر قدرته عليك واستحي منه عَلَى قدر قربه منك.

وقال بعضهم لمن استوصاه: اتق الله أن يكون أهون الناظرين إليك، وفي هذا المعنى يقول بعضهم:

(1) سبق تخريجه في الصفحة السابقة برقم (2).

(2)

المجادلة: 7.

(3)

يونس: 61.

(4)

النساء: 108.

(5)

في "المعجم الصغير"(555) من حديث عبد الله بن معاوية الغاضري مطولاً، وقال الطبراني: لا يُروى هذا الحديث عن ابن معاوية إلا بهذا الإسناد، ولا نعرف لعبد الله بن معاوية الغاضري حديثًا مسندًا غير هذا.

ص: 164

يا مدمن الذنب أما تستحي

والله في الخلوة ثانيكا

غرك من ربك إمهاله

وستره طول مساويكا

وفي حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ يُحِبُّهُمُ اللَّهُ: رَجُلٌ أَتَى قَوْمًا فَسَأَلَهُمْ بِاللَّهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ لِقَرَابَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَمَنَعُوهُ، فَتَخَلَّفَ رَجُلٌ بِأَعْقَابِهِمْ، فَأَعْطَاهُ سِرًّا؛ لَا يَعْلَمُ بِعَطِيَّتِهِ إِلَّا اللَّهُ وَالَّذِي أَعْطَاهُ، وَقَوْمٌ سَارُوا لَيْلِهِمْ حَتَّى إِذَا كَانَ النَّوْمُ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِمَّا يُعْدَلُ بِهِ، فَوَضَعُوا رُءُوسَهُمْ فَقَامَ رَجُلٌ (يَتَمَلَّقُنِي) (1) وَيَتْلُو آيَاتِي، وَرَجُلٌ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ فَلَقُوا العَدُوَّ، فَهُزِمُوا، فَأَقْبَلَ بِصَدْرِهِ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُفْتَحَ لَهُ» (2).

فهؤلاء الثلاثة قد اجتمع لهم معاملة الله سرًّا يينهم وبينه، حيث غفل الناس عنهم، فهو تعالى يحب من يعامله سرًّا بينه وبينه، حيث لا يعامله حينئذ أحد، ولهذا فضل قيام وسط الليل عَلَى ما سواه من أوقات الليل، والمحبون لله يحبون ذلك أيضًا علمًا منهم باطلاعه عليهم ومشاهدته لهم، فهم يكتفون بذلك لأنهم عرفوه، فاكتفوا به من بين خلقه، وعاملوه فيما بينه وبينهم معاملة الشاهد غير الغائب، وهذا مقام الإحسان، قال بعض العارفين: من عرف الله اكتفى به من خلقه.

وكان بعض المخلصين يقول: لا أعتد بما ظهر من عملي.

اطلع عَلَى بعض أحوال بعضهم، فدعى لنفسه بالموت وقال: إِنَّمَا كانت تطب الحياة إذا كانت المعاملة بينى وبينه سرّا.

وقيل لبعضهم: ألا تستوحش وحدك؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟!

(1) يتملقني من "تملق" بالتحريك أي الزيادة في التودد والدعاء والتضرع فوق ما ينبغي. "النهاية"(4/ 358).

(2)

أخرجه الترمذي رقم (2567، 2568)، والنسائي (1614)، وأحمد (5/ 153). قال الترمذي: هذا حديث صحيح، وهكذا روى شيبان عن منصور نحو هذا، وهذا أصح من حديث أبي بكر ابن عياش.

ص: 165

آنستني خلواتي بك من كل أنيسي

وتفردت فعاينتك في الغيب جليسي

"وأما كلمة الحق في الغضب والرضا":

فعزيز جدًّا، وقد مدح اللَّه منْ يغفر عند غضبه فَقَالَ:{وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (1) لأنّ الغضب يحمل صاحبه عَلَى أن يقول غير الحق، ويفعل غير العدل، فمن كان لا يقول إلا الحق في الغضب والرضا، دل ذلك عَلَى شدة إيمانه وأنه يملك نفسه.

وخرج الطبراني من حديث أنس مرفوعًا: "ثَلَاثٌ مِنْ أَخْلَاقِ الْإِيمَانِ: مَنْ إِذَا غَضِبَ لَا يُدْخِلْهُ غَضَبُهُ فِي بَاطِلٍ ، وَمَنْ إِذَا رَضِيَ لَمْ يُخْرِجْهُ رِضَاهُ مِنْ حَقٍّ ، وَمَنْ إِذَا قَدَرَ لَمْ يَتَعَاطَى مَا لَيْسَ لَهُ".

فهذا هو الشديد حقًّا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» (2).

ولمسلم: "مَا تَعدّونَ ذَا الصُّرَعَةِ فِيكُمْ؟ قلنا: الَّذِي لَا تصرعه الرِّجَال.

قال: لَيسَ كَذلِكَ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» (3) وقال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم:"أَوْصِنِي، قَالَ: لَا تَغْضَبُ، فَردَّدَ مِرَارًا، قال: لَا تَغْضَبُ" أخرجه البخاري (4).

وفى "المسند" أن رجلاً قال: يا رسول الله، ما يباعدني عن غضب اللَّه؟ قال: لا تغضب" (5).

قال مورق العجلي: ما قلت في الغضب شيئًا إلا ندمت عليه فىِ الرضا.

(1) الشورى: 37.

(2)

أخرجه البخاري (5763)، ومسلم (2609).

(3)

برقم (2608).

(4)

برقم (5765).

(5)

أخرجه الأمام أحمد في "المسند"(2/ 175).

ص: 166

قال عطاء: ما أبكى العُلَمَاء بكاء آخر العمر إلا من غضبة يغضبها أحدهم، فتهدم عمل عشرين سنة أو ستين سنة، ورب غضبة قد أقحمت صاحبها مقحمًا ما استقاله.

كان الشعبي ينشد:

ليست الأحلام في حال الرضا

إِنَّمَا الأحلام في حال الغضب

وكان ابن عون رحمه الله تعالى إذا اشتد غضبه عَلَى أحد قال: بارك الله فيك ولم يزد.

وقال الفضيل رحمه الله تعالى: أنا منذ خمسين سنة أطلب صديقًا إذا غضب لا يكذب عَلَيَّ ما أجده.

فإن من لا يملك نفسه عند الغضب إذا غضب قال فيمن غضب عليه ما ليس فيه من العظائم، وهو يعلم أنه كاذب، وربما علم الناس بذلك ويحمله حقده وهوى نفسه عَلَى الإصرار عَلَى ذلك.

وقال جعفر بن محمد رضي الله عنه: الغضب مفتاح كل شر.

وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة. قال: ترك الغضب.

وقال مالك بن دينار رحمه اللَّه تعالى: منذ عرفت الناس لم أبال بمدحهم وذمهم لأني لم أر إلا مادحًا غاليًا، أو ذامًّا غاليًا.

يعني أنه لم ير من يقتصد فيما يقول في رضاه وغضبه.

"وأما القصد في الفقر والغنى":

فهو عزيز أيضًا، وهو حال الرسول صلى الله عليه وسلم، كان مقتصدًا في حال فقره وغناه.

والقصد: هو التوسط في الإنفاق، فإن كان فقيرًا لم يقتر خوفًا من نفاد الرزق، ولم يسرف فيحمل ما لا طاقة له به، كما أدب الله تعالى نبيه بذلك

ص: 167

في قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} (1).

وإن كان غنيًا لم يحمله غناه عَلَى السرف والطغيان؛ بل يكون مقتصدًا أيضًا، قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (2).

وإن كان المؤمن في حال غناه يزيد عَلَى نفقته في حال فقره، كما قال بعض السلف: إِنَّ المؤمن يأخذ عن الله أدبًا حسنًا، إذا وسع الله عليه، وسع عَلَى نفسه، وإذا ضيق عليه، ضيق عَلَى نفسه، ثم تلا قوله تعالى:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} (3) لكن يكون في حال غناه مقتصدًا غير مسرف، كما يفعله أكثر أهل الغنى الذين يخرجهم الغنى إِلَى الطغيان، كما قال تعالى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (4).

كان علي رضي الله عنه يعاتب عَلَى اقتصاده في لباسه في خلافته فيقول: هو أبعد عن الكبر وأجدر أن يقتدي بي المسلم (5).

وعوتب عمر بن عبد العزيز في خلافته عَلَى تضييقه عَلَى نفسه فَقَالَ: إِنَّ أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة.

يعني أفضل ما اقتصد الإنسان في عيشه وهو واجد قادر، وهذه حال النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، لم تغيرهم سعة الدُّنْيَا والملك ولم يتنعموا في الدُّنْيَا.

وقد روي عن سليمان عليه السلام، أنه كان يأكل خبز الشعير ويلبس الصوف.

وسئل الحسن رضي الله عنه عن رجل آتاه الله مالًا، فهو يحج منه ويتصدق، أله أن يتنعم فيه منه؟ قال: لا، لو كانت له الدُّنْيَا ما كان له إلا الكفاف.

(1) الإسراء: 29.

(2)

الفرقان: 67.

(3)

الطلاق: 7.

(4)

العلق: 6 - 7.

(5)

أخرجه الضياء في "المختارة"(2/ 21) برقم (459، 460) وقال: إسناده حسن.

ص: 168

ويقدم فضل ذلك ليوم فقره وفاقته، إِنَّمَا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أخذ عنهم من التابعين، ما آتاهم الله من رزق أخذوا منه صلى الله عليه وسلم الكفاف، وقدموا فضل ذلك ليوم فقرهم وفاقتهم.

وقال ابن عمر لبعض ولده: لا تكن من الذين يجعلون ما أنعم الله عليهم به في بطونهم وعلى ظهورهم (1).

إشارة إِلَى أن المال لا ينفق كله في شهوات النفوس، وإن كانت مباحة، بل يجعل صاحبه منه نصيبًا لداره الباقية، فإنه لاقى له منه غير ذلك.

وفي الجملة فالاقتصاد في كل الأمور حسن حتى في العبادة، ولهذا نهى عن التشديد في العبادة عَلَى النفس، وأمر بالاقتصاد فيها، وقال صلى الله عليه وسلم:«عَلَيْكُمْ هَدْيًا قَاصِدًا، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» (2).

وفي "مسند البزار"(3) عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أَحْسَنَ الْقَصْدَ فِي الْغِنَى، وَأَحْسَنَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ، وَأَحْسَنَ الْقَصْدَ فِي الْعِبَادَةِ» .

قوله صلى الله عليه وسلم: "وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ".

النعيم الَّذِي لا ينفد هو نعيم الآخرة، كما قال الله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ

(1) أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 260) من طريق جعفر بن برقان عن ميمون بن جرير أو ابن أبي جرير أن ابن عمر أتاه ابن له، فَقَالَ: تخرق ازاري. فَقَالَ: اقطعه وانكسه، وإياك أن تكون من الذين

الأثر.

وأخرجه ابن المبارك في "الزهد"(1/ 355)، وهناد في "الزهد"(2/ 368)، وابن أبي عاصم في "الزهد"(1/ 193) من طريق جعفر بن برقان عن رجل عن ابن عمر.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(7/ 235)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 301) من طريق جعفر بن برقان قال: حدثني ميمون بن مهران قال: بلغني أن رجلاً من بني ابن عمر.

وقال البخاري في "التاريخ الكبير"(7/ 343): قال ميمون بن أبي جرير أن ابن عمر قال: فذكره. قال البخاري: قاله كثير عن جعفر بن برقان قال: سمعت ميمونًا.

(2)

أخرجه ابن ماجه (4241)، وأبو يعلى في "مسنده"(1796، 1797).

(3)

كما في "كشف الأستار"(3604).

ص: 169

يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (1) وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} (2) وقال تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} الآية (3).

وفي الدعاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أسألك الدرجات العلى والنعيم المقيم"(4).

وسمع النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود ليلة وهو يقول: أسألك إيمانًا لا يرتد ونعيمًا لا

ينفد، ومرافقة نبيك مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم في أعلى جنة الخلد. فَقَالَ:"سَلْ تُعْطَه"(5).

ولما سمع عثمان بن مظعون لبيدًا ينشد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

قال: صدقت.

فَقَالَ لبيد:

وكل نعيم لا محالة زائل

فَقَالَ: كذبت، نعيم الجنة لا ينفد.

فنعيم الجنة مقيم، كما قال الله تعالى:{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ} (6).

وأما نعيم الدُّنْيَا فهو نافد، كما أن الدنْيا كلها نافدة، فلو نعم الإنسان فيها ما نعم، فإن ذلك ينفد، وكأنه حين ينزل به الموت وسكراته لم يذق نعيمًا من

(1) النحل: 96.

(2)

ص: 54.

(3)

الرعد: 35.

(4)

أخرجه أحمد (3/ 724)، والبزار في "مسنده"(3724)، والحاكم في "المستدرك"(3/ 26) مطولاً.

قال الهيثمي في "المجمع"(6/ 122): رواه أحمد والبزار، واقتصر عَلَى عبيد بن رفاعة، وهو الصحيح.

(5)

أخرجه ابن حبان (1970)، والحاكم (1/ 707)، وأخرجه الترمذي (593) مختصرًا وقال: حديث عبد الله بن مسعود حديث حسن صحيح. وقال أيضاً: هذا الحديث رواه أحمد بن حنبل عن يحيى بن آدم مختصرًا.

(6)

التوبة: 21.

ص: 170

نعيم الدُّنْيَا قط، كما قال الله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} (1).

وقال بعض السلف: إذا جاء الموت لم يغن عن الإنسان ما كان فيه من النعيم واللذة، ثم تلا هذه الآية.

وكان الرشيد قد بنى قصرًا فلما فرغ منه نجده وفرشه، واستدعى إِلَيْهِ أنواع الأطعمة والأشربة، وجلس مع ندمائه استدعى إِلَيْهِ أبا العتاهية، فأمره أن يصف ما هم فيه من النعيم والعيش، فَقَالَ أبو العتاهية:

عِشْ مَا بَدَا لَكَ سَالِمًا

فِي ظِلِّ شَاهِقَةِ الْقُصُورِ

يُسْعَى عَلَيْكَ بِمَا اشْتَهَيْتُ

لَدَى الرَّوَاحِ وَفِي الْبُكُورِ

فَإِذَا النُّفُوسُ (تَقَعْقَعَتْ)(2)

فِي ضِيقِ حَشْرَجَةِ الصُّدُورِ

فَهُنَاكَ تَعْلَمُ مُوقِنًا

مَا كُنْتَ إِلا فِي غُرُورِ

فبكى واشتد بكاؤه، فَقَالَ الوزير لأبي العتاهية: دعاك أمير المؤمنين للمسرة فأحزنته! فَقَالَ: دعه فإنه رآنا في عمى، فكره أن يزيدنا عمًى.

قال مالك بن دينار: رأيت بالبحرين قصرًا مشيدًا طريًا وعلى بابه مكتوب:

طلبت العيش أسعد ناعميه

وعشت من المعايش في النعيم

فلم ألبث ورب الناس طرًّا

سلبت من الأقارب والحميم

فقلت: ما هذا القصر؟ قالوا: هذا أنعم أهل البحرين، مات فأوصى أن يدفن في قصره، وأن يكتب عَلَى بابه هذا الكلام.

قال مالك: فعجبت من معرفته، فهلا يستقبل الموت بتوبة، ثم بكى مالك.

إذا غمس أنعم الناس كان في الدُّنْيَا في العذاب غمسة. قِيلَ لَهُ: هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا يا رب.

(1) الشعراء: 205.

(2)

تقعقعت: اضطربت. "لسان العرب"(8/ 286).

ص: 171

ففي الحقيقة النعيم الَّذِي لا ينفد هو طاعة الله وذكره، ومحبته والأنس به والشوق إِلَى لقائه، فإن هذا نعيم لأهله في الدُّنْيَا.

قال مالك بن دينار: في بعض الكتب يقول اللَّه: "أيها الصديقون تنعموا بذكري، فإنه لكم في الدُّنْيَا نعيم، وفي الآخرة جزاء". وقال: ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر اللَّه عز وجل.

وقال إبراهيم بن أدهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.

قال أبو سليمان: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدُّنْيَا، وإنه ليمر عَلَى القلب أوقات يضحك فيه ضحكًا.

وكان بعض العارفين يقول: إنه ليمر بي أوقات أقول: إِن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه إنهم لفي عيش طيب.

أهل المحبة قوم شأنهم عجب

يقودهم حزن يهزهم طرب

العيش عيشهم والملك ملكهم

ما الناس إلا همُ أبانوا أم اقتربوا

فهذا نعيم فى الدُّنْيَا، فَإِذَا انتقلوا إِلَى البرزخ فهم في نعيم أزيد من ذلك، كما قال بعض السلف: أنعم الناس أجسادٌ في التراب أمنت العذاب، وانتظرت الثواب.

وقال عمر بن عبد العزيز: ما أعلم أحدًا أنعم ممن صار إِلَى هذه القبور، وأمن من عذاب اللَّه عز وجل، وإذا بعثوا إِلَى الجزاء حينئذ فلهم النعيم الأعظم في جنات النعيم، وينادي مناد إِنَّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "وقرة عين لا تنقطع".

ص: 172

قرة العين من جملة النعيم، فمنه ما هو منقطع، ومنه ما لا ينقطع، فمن قرت عينه بالدنيا، فقرة عينه منقطعة وأيضًا فسرورها لا يدوم؛ لأنّ لذاتها مشوبة بالفجائع والتنغيص. وكيف تقر عين المؤمن في الدُّنْيَا وهو يعلم سرعة انقضائها، ومفارقة ماله فيها من أهل وولد ومال، ويعلم ما يعالجه عند مفارقتها من سكرات الموت، وما يلقاه في البرزخ من الوحشة والوحدة والضيق، ثم ما يخشاه يوم القيامة من العذاب؟!

قال بعض السلف: ما ترك الموت للمؤمن قرة عين في أهل ولا مال ولا ولد. وقال مطرف: إِنَّ هذا الموت قد أفسد عَلَى أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيمًا لا موت فيه.

وقال بضع السلف: عجبًا لمن يوقن بالموت، كيف تقر بالدنيا عينه، أم كيف يطب فيها عيشه؟!

ونظر بعضهم إِلَى دار له حسنة، فبكى وقال: والله، لولا الموت لكنت بك مسرورًا، ولولا ما نصير إِلَيْهِ من ضيق القبور لقرت أعيننا بالدنيا، ثم بكى حتى ارتفع صوته.

رأى بعض السلف في منامه قائلًا يقول له:

وكيف تنام العين وهي قريرة

ولم تدر في أي المحلين تنزل

فلا تقر عين المؤمن في الدُّنْيَا إلا بالله عز وجل، وذكره ومحبته والأنس به، ومن قرت عينه باللَّه، فقد حصلت له قرة العين التي لا تنقطع في الدُّنْيَا ولا في البرزخ ولا في الآخرة، وقرت به عيون المؤمنين، كما قال بعضهم: من قرت عينه بالله قرت به كل عين.

كان حبيب العجمي يخلو في بيته ثم يقول: ومن لم تقر عينه بك فلا قرت، ومن لم يأنس بك فلا أنس.

ص: 173

وروي عنه أنه كان يقول: لا قرت عين من لم تقر عينه بك ولا فرح قلب لم يفرح بك، وعزتك إنك لتعلم أني أحبك.

وقال حبيب ليزيد الرقاشي: بأي شيء تقر عيون العابدين في الدُّنْيَا؟ وبأي شيء تقر أعينهم في الآخرة؟ فَقَالَ: بالإكثار من التهجد في ظلمة الليل، وأما الذين تقر أعينهم في الآخرة فلا أعلم شيئًا من نعيم الجنان وسرورها ألذ عند العابدين ولا أقر لعيونهم من النظر إِلَى ذي الكبرياء العظيم، إذا رفعت تلك الحجب، وتجلى لهم الكريم، فصاح حبيب عند ذلك صيحة خر مغشيًا عليه.

وكان كهمس يقول في جوف الليل: أَتُرَاك معذبي وأنت قرة عيني يا حبيب قلباه.

كان بعض العابدين يصلى، فنام في سجوده، فرأى في منامه كأنّه وقف بين يدي اللَّه عز وجل، وهو يقول لملائكته: انظروا إِلَى عبدي بدنه في طاعتي، وروحه عندي فاستيقظ، فَقَالَ: أنت قرة عيني في نومي، وأنت قرة عيني في يقظتي.

وكان يحيى بن معاذ ينشد:

قرة عيني لابد لي منك وإن

أوحش بيني وبينك الزلل

قرة عيني أنا الغريق فخذ

كف غريق عليك يتكل

كان بعضهم يقول: أنت قرة عين المطيعين، وأنت مننت عليهم بالطاعة، وكيف لا تكون قرة عين العاصين وأنت مننت عليهم بالتوبة.

من قرت عينه بمناجاة اللَّه سرًّا في ظلمة الليل أقر اللَّه عينه عنده بما لم يُطْلِعْ عليه بشرًا، كما قال تعالى:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1).

(1) السجدة: 16 - 17.

ص: 174

وفي الأثر عن فضيل بن عياض يقول الله تعالى: "كذب من ادعى محبتى، فَإِذَا جنه الليل نام عني، أليس كل حبيب يحب خلوة حبيبه، فَإِذَا جن الليل جعلت أبصارهم في قلوبهم فكلموني عَلَى المشاهدة، وخاطبوني عَلَى حضوري، غدا أقر أعين أحبابي في جناني"(1).

قوله صلى الله عليه وسلم: "وأسألك الرضا بعد القضاء".

الرضا بالقضاء مقام عظيم، من حصل له فقد رضي الله عنه، كما قال تعالى:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (2) وفي الحديث: صلى الله عليه وسلم "من رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط"(3).

وقال بعضهم: لن يرد القيامة أعظم درجة من الراضين بقضاء الله عز وجل.

قال بعضهم: من وهب له الرضا، فقد بلغ أفضل الدرجات.

وقال بعضهم في قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (4) قال: الرضا والقناعة.

قال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدُّنْيَا، ومستراح العابدين.

قالت أم الدرداء: إِنَّ الراضين بقضاء الله الذين ما قضي الله لهم رضوا به، لهم في الجنة منازل يغبطهم بها الشهداء.

يا أيها الراضي بأحكامنا

لابد أن تحمد عقبى الرضا

فوض إلينا وارض مستسلما

فالراحة العظمى لمن فوضا

وإن تعرضت لأسبابنا

فلا تكن عن بابنا معرضا

فإن فينا خلفا باقيا

من كل ما فات وما قد مضى

(1) أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(8/ 99 - 100).

(2)

المجادلة: 22 - والبينة: 8.

(3)

أخرجه الترمذي رقم (2396)، وابن ماجه رقم (4080). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

(4)

النحل: 97.

ص: 175

وإنما قال: الرضا بعد القضاء؛ لأنّ الرضا قبل القضاء، عزم عَلَى الرضا فَإِذَا وقع القضاء فقد تنفسخ العزائم.

كما قال بعضهم:

وليس لي في سواك حظ

فكيف ما شئت فامتحني

فامتحن بعسر البول فلم يصبر، وجعل يطوف عَلَى المكاتب ويقول للصبيان: ادعو لعمكم الكذاب.

وكذا قول من قال: لو أدخلني النار كنت راضيًا.

هو أيضًا عزم عَلَى الرضا، ولا يدري هل يثبت أو ينفسخ، فلا ينبغي للعبد أن يتعرض للبلاء، ولكن يسأل الله العافية وأن يرزقه الرضا بالبلاء إِنَّ قدر له البلاء.

كان عمر بن عبد العزيز يقول: ما تركتني هذه الدعوات، ولي سرور في غير مواقع القضاء والقدر، اللهم رضني بقضائك وبارك لي في قدرك، حتى لا أَحَبّ تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت.

وقال بعضهم: الراضي لا يتمنى غير منزلته التي هو عليها؛ لأنّه قد رضي بها، وقد يستغرق المحب في الرضا عن حبيبه، حتى لا يحس بألم البلاء؛ لملاحظته عظمة المبتلي وكماله، وحكمته ورحمته، وأنه غير متهم في قضائه، وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا فَقَالَ له:"لا تتهم اللَّه فيما قضاه لك"(1).

كان بعض أهل البلاء يقول: لو قطعني إربًا إربًا ما ازددت له إلا حبًّا.

(1) أخرجه الإمام أحمد (4/ 204) من حديث عمرو بن العاص.

قال الهيثمي في "المجمع"(1/ 60): رواه أحمد، وفي إسناده رشدين وهو ضعيف.

وأخرجه أحمد (5/ 318 - 319)، والبيهقي في "الشعب"(9714) من حديث عبادة بن الصامت.

قلت: وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف أيضاً.

ص: 176

لو قطعني الغرام إربًا إربا

ما ازددت لكم عَلَى الملام إلا حبًّا

لا زلت بكم أسير وَجْدُ صبا

حتى أُقْضَى عَلَى هواكم نحبا

كان بعض العارفين يطوف بالبيت فهجم القرامطة عَلَى الناس فقتلوهم بالسيوف، وهو يطوف، فأخذته السيوف، فلم يقطع طوافه حتى سقط فتمثل:

ترى المحبين صرعى في ديارهم

كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

قتل لرجل من الصالحين ابنان في الجهاد، فجاء الناس يعزونه بهما، فبكى وقال: والله ما أبكي عَلَى قتلهما، ولكن أبكي كيف كان رضاهما عن اللَّه عز وجل حين أخذتهما السيوف.

إِن كَانَ سكان الغضا

رَضوا بقتلي فرضا

وَالله مَا كنت لما

يهوي الحبيب مبغضا

صرت لَهُم عبدا وَمَا

للْعَبد أَن يعترضا

من لمريض لَا يرى

إِلَّا الطَّبِيب الممرضا

قوله صلى الله عليه وسلم: "وبرد العيش بعد الموت".

هذا يدل عَلَى أن العيش وطيبه وبرده، إِنَّمَا هو بعد الموت، فإن العيش قبل الموت منغص، ولو لم يكن له منغص غير الموت لكفى، كما قال بعضهم: إِنَّ عيشًا يكون آخره الموت لعيش معجل التغنيص، فكيف ومع ذلك له منغصات كثيرة من الهموم والأسقام والأمراض والهرم، ومفارقة الأحباب، وآخر الدُّنْيَا كلها الموت.

قال بعض السلف: كيف يلذ العيش من يعلم أنه يموت.

وقال بعضهم: ثنتان قطعتا عني لذات الدُّنْيَا: ذكر الموت المنغص، والوقوف بين يدي الله عز وجل.

ص: 177

وكيف يلذ العيش من كان موقنا

بأن المنايا بغتة استعاجله

وكيف يلذ العيش من كان موقنا

بأن إله الخلق لابد سائله

ولبعضهم:

وكيف قرت لأهل العِلْم أعينهم

أو استلذوا لذيذ النوم أو هجعوا

والموت ينذرهم جهرًا علانية

لو كان للقوم أسماع لقد سمعوا

والنار ضاحية لابد موردهم

وليس يدرون من ينجو ومن يقع

فحينئذ فلا عيش يطيب إلا بعد الموت، وهو عيش من أمن من عذاب الله عز وجل، ووصل إِلَى ثوابه، فكذلك سأل برد العيش بعده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول -لما حفر الخندق، وجهد هو وأصحابه في حفره-:

"اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة

فاغفر للأنصار والمهاجرة" (1)

كان يزيد الرقاشي يقول: أمن أهل الجنة من الموت فطاب لهم العيش، وأمنوا من الأسقام فهنيئًا لهم في جوار الله طول المقام.

وعن وهب قال: أوحى الله تعالى إِلَى عيسى عليه السلام: يا عيسى ما خير عيش عن صاحبه يزول، وما خير لذة لا تدوم؟!

وأنشد بعضهم:

تقضي الدُّنْيَا وتفنى

والفتى لها معنى

ليس في الدُّنْيَا نعيم

لا ولا عيش مهنّا

يا غنيا بالدنانير

محب الله أغنى

ولبعضهم:

إِنَّمَا الدُّنْيَا وإن سرت قليلاً من قليل

ليس تعد أن تبدُ لك في زيّ جميل

(1) البخاري (418، 3585، 3872)، ومسلم (1805).

ص: 178

ثم ترميك من المأمن بالخطب الجليل

إِنَّمَا العيش جوار الله في ظل ظليل

حيث لا تسمع من يؤذيك

من قال وقيل

قوله صلى الله عليه وسلم: "وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرَ فِي وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ":

هذان الأمران هما سعادة الدُّنْيَا والآخرة، وأعظم لذاتها وأعلى ما يحصل للمؤمن فيهما، فإن أعلى ما في الآخرة النظر إِلَى وجه الله عز وجل، وهو أعظم من الجنة وكل ما فيها.

وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، نَادَى مُنَادٍ: إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ".

فيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ تُثَقَّلَ مَوَازِينَنَا، وَتُدْخِلَنَا الجَنَّةَ

وَتُزَحْزِحُنَا عَنِ النَّارِ؛ فَيُكْشَفُ الحِجَاب، فينظرون إِلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النّظر إِلَيْهِ" (1).

وفي رواية: "ولا أقر لأعينهم من النظر إِلَيْهِ، وهو الزيادة، ثم تلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (2) ".

وفي "مسند البزار"(3) من حديث "حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أَنَّه يُكشَفُ الحِجَابُ، وَيَتَجَلَّى لَهُمْ فَيَغْشَاهُمْ مِنْ نُورِهِ لَوْلَا قَضَى عَلَيْهِمْ أَنْ لَا يَحْتَرِقُوا لَاحْتَرَقُوا مِنْ نُورِهِ، مِمَّا غَشِيَهُمْ مِنْ نُورِهِ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ خَفَوْا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ مِمَّا غَشِيَهُمْ مِنْ نُورِهِ حَتَّى يَعُودُوا إِلَى صُوَرِهِمُ التِي كَانُوا عَلَيهَا".

قال الحسن: إِنَّ الله يتجلى لأهل الجنة، فَإِذَا رآه أهل الجنة نسوا نعيم الجنة.

(1) أخرجه مسلم (181).

(2)

يونس: 26.

(3)

أخرجه البزار كما في "كشف الأستار" رقم (3518) من حديث حذيفة.

ص: 179

وقال ابن أبي ليلى: إذا تجلى لهم ربهم، فلا يكون ما أعطوا عند ذلك بشيء، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة بعد نظرهم إِلَى ربهم عز وجل.

وقال الحسن: لو يعلم العابدون أنهم لا يرون ربهم في الآخرة لماتوا.

وفي رواية قال: لذابت أنفسهم.

وكان أبو سليمان يقول: أي شيء أراد أهل المعرفة؟ ما أرادوا كلهم إلا ما سأل موسى عليه السلام.

قال ذو النون: ما طابت الدُّنْيَا إلا بذكره، ولا طابت الآخرة إلا بعفوه، ولا طابت الجنة إلا برؤيته.

وقال بعضهم: لو أن الله احتجب عن أهل الجنة، لاستغاث أهل الجنة من الجنة، كما يستغيث أهل النار من النار.

وكان بعض العابدين يقول: ليت ربي جعل ثوابي من عملي نظرة إِلَيْهِ ثم يقول: كن ترابًا. وكان علي بن الموفق يقول كثيرًا: اللهم إِن كنت تعلم أني أعبدك خوفًا من نارك فعذبني بها، وإن كنت تعلم أنىِ أعبدك شوقًا إِلَى جنتك فاحرمنيها (1)، وإن كنت تعلم أني إِنَّمَا أعبدك حبًّا لك وشوقًا إِلَى وجهك الكريم فأبحنيه وافعل بي ما شئت.

العارفون في شغل عن الجنة، فكيف يلتفتون إِلَى الدُّنْيَا.

وأنشد بعض العارفين هذا المعنى:

يا حبيب القلوب من لي سواك

ارحم اليوم مذنبًا أتاكا

أنت سؤلي ومنيتي وسروري

قد أبى القلب أن يحب سواكا

يا مرادي وسيدي واعتمادي

طال شوقي متى يكون لقاكا

ليس سؤلي من الجنان نعيم

غير أني أريدها لأراكا

(1) هذا مخالف للهدي الصحيح، وسبق التعليق عَلَى مثل هذا القول، وكثيرًا ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار.

ص: 180

وأما الشوق إِلَى لقاء اللَّه في الدُّنْيَا فهو أعظم لذّة تحصل للعارفين في الدُّنْيَا، فمن أنس باللَّه في الدُّنْيَا واشتاق إِلَى لقائه، فقد فاز بأعظم لذّة يمكن لبشر الوصول إليها في هذه الدار.

كان أبو الدرداء يقول: أَحَبّ الموت اشتياقًا إِلَى ربي عز وجل.

قال أبو عتبة الخولاني: كان إخوانكم، لقاء اللَّه أَحَبّ إليهم من الشهادة.

كان بعضهم يقول: إذا ذكرت القدوم عَلَى اللَّه كنت أشدّ اشتياقًا إِلَى الموت من الظمآن الشديد ظمؤه، في اليوم الحار الشديد حره إِلَى الماء البارد الشديد.

كانت رابعة تقول: قد طالت عليَّ الأيام والليالي بالشوق إِلَى لقاء اللَّه عز وجل.

وبقي فتح بن شخرف ثلاثين سنة لم يرفع رأسه إِلَى السماء، وقال: طال شوقي إليك فعجل قدومي عليك.

وقال بعضهم: أخدموه شوقًا إِلَى لقائه، فإن له يومًا يتجلى فيه لأوليائه.

وأهل الشوق إِلَى الله عَلَى طبقتين:

أحدهما: من يفضي بهم الشوق إِلَى القلق والأرق، ويقل صبرهم عن طلب اللقاء.

كان أبو عبيدة الخواص يمشي في الأسواق ويضرب عَلَى صدره ويقول: واشوقاه إِلَى من يراني ولا أراه.

وعن إبراهيم بن أدهم أنه قال يومًا: اللهم إِن كنت أعطيت أحدًا من المحبين ما سكنت به قلوبهم قبل لقائك، فأعطي ذلك، فلقد أضرّ بي القلق، قال: فنمت فرأيته تعالى في النوم، فوقفني بين يديه، وقال: يا إبراهيم ما استحييت مني، تسألني أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي؟ وهل يسكن قلب

ص: 181

المشتاق إِلَى غير حبيبه؟ أم كيف يستريح المحب إِلَى غير من اشتاق إِلَيْهِ؟ فقلت: يا رب تهت في حبك فلم أدري ما أقول.

آلمني الشوق فلولا دمعه

أحرق ما بين العذيب والنقا

واستعرت أنفاسه وإنما

تلتهب الأنفاس من حرّ الجوى

مروا عَلَى وادي الغضا فقلبوا

من الجوى قلبى عَلَى جمر الغضا

الطبقة الثانية: من أعطاه الله بعد بلوغه إِلَى درجة الشوق إِلَيْهِ الأنس به والطمأنينة إِلَيْهِ، فسكنت قلوبهم بما كشف لها من آثار قربه ومشاهدته، ووجدوا لذّة الأنس به في الذكر والطاعة، وصار عيشهم مع اللَّه في نعيم سرمدي، وطاب لهم السير إِلَيْهِ في الدُّنْيَا بالطاعات.

وهذه كانت حال نبينا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهي حال كثير من العارفين، كأبي سليمان وأحمد بن أبي الحواري وذي النون والجنيد وغيرهم.

سئل الشبلي: بماذا تستريح قلوب المحبين والمشتاقين؟ فَقَالَ: إِلَى سرورهم بمن أحبوه واشتاقوا إِلَيْهِ.

فهؤلاء كلما أقلقهم الشوق سكنهم الأنس والقرب والمشاهد، كما كان صلى الله عليه وسلم إذا ذكر له تركه الطعام والشراب واجتهاده في الطاعات في الصيام يقول:"إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني"(1).

ساكن في القلب يعمره

لست أنساه فأذكره

غاب عن سمعي وعن بصري

(فسويداء)(2) القلب تبصره

قلوب المحبين كالجمرة تحت فخمة الليل، فَإِذَا هب عليها نسيم السحر التهبت بالأشواق، فلولا أن ريق عليها من ماء العيون، وتعدل ببرودة الذكر لسرى الحريق إِلَى أجسادها.

(1) أخرجه البخاري (1860، 6814)، ومسلم (1105) عن أنس.

(2)

سويداء: حبة القلب. "القاموس المحيط"(2/ 642).

ص: 182

كان داود الطائي ينادي بالليل: همك عَطَّلَ عليَّ الهموم، وخالف بيني وبين (السهاد)(1) وشوقي إِلَى النظر إليك أوثق مني اللذات، وحال بيني وبين الشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب.

ثم يترنم بالآية فيخيل لمن سمعه أن جميع لذات الدُّنْيَا ونعيمها جمع له في ترنمه.

أحبابي أما جفن عَيْني فمقروح

وَأما فُؤَادِي فَهُوَ بالشوق مَجْرُوح

يذكرنِي مرّ النسيم عهودكم

فأزداد شوقًا كلما هبت الرّيح

أَرَانِي إِذا مَا أظلم اللَّيْل أشرقت

بقلبي من نَار الغرام مصابيح

أُصَلِّي بذكراكم إِذا كنت خَالِيا

أَلا إِن تذكار الْأَحِبَّة تَسْبِيح

يشحّ فُؤادِي إِن يخامر سرّه

سواكم وبعض الشح في المرء ممدوح

وإن لاح برق بالندير تقطع

الفؤاد عَلَى واد به البان والشيح

قوله صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ زِيِّنَا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مَهْدِيِّينَ".

أما زينة الإيمان، فالإيمان قول وعمل ونية.

فزينة الإيمان تشمل زينة القلب بتحقق الإيمان له.

وزينة اللسان بأقوال الإيمان.

(1) السهاد: الأرق. "القاموس المحيط"(2/ 636).

ص: 183

وزينة الجوارح بأعمال الإيمان، وقد سمى الله تعالى التقوى لباس، وأخبر أنها خير من لباس الأبدان -قال تعالى-:{وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (1).

وقال وهب بن منبه: أوحى الله تعالى إِلَى عيسى عليه السلام: "يا عيسى، تزين لي بالدين، وأحب المساكين".

وعنه أن الله تعالى لما بعث موسى وهارون عليهما السلام قال لهما: "إِنَّمَا يتزين لي أوليائي بالذكر والخشوع، والخوف والتقوى، تنبت في قلوبهم، فتظهر عَلَى أجسادهم، فهي ثيابهم التي يلبسون، ودثارهم الَّذِي يظهرون، وضميرهم الَّذِي يستشعرون، ونجاتهم التي بها يفوزون، ورجاؤهم الَّذِي إياه يأملون، ومجدهم الَّذِي به يفتخرون، وسيماهم التى بها يعرفون".

قال الحسن في قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ جَمِيل يُحِبُّ الجَمَالَ"(2) قال: يحب أن يُتَجَمَّلَ له بالطاعة.

وعنه قال: "إِنَّ لباس المؤمن التقوى، وزينته الحياء".

فالزينة النافعة الدائمة الباقية هي زينة الإيمان والتقوى، إذا شملت القلب والجوارح، فإن أظهر التزيين بذلك ظاهرًا وقلبه فارغ عاد ذلك عليه شيئًا، كما قال بعضهم: من تزيين للناس بما يعلم اللَّه منه خلافه شانه اللَّه عز وجل. وقال بعضهم لمن أظهر التزين بالعلم من غير عمل به: تزينوا بما شئتم، فلن يزيدكم اللَّه إلا (اتضاعًا)(3).

وقال بعضهم: لا تقوم الساعة حتى يتزين الرجل بالعلم كما يتزين الرجل بثوبه. يعني: يظهره للناس تزينًا به عندهم من غير أن يزين قلبه وجوارحه بالعمل به، وكان الفضيل يقول: تزينت لهم بالصوف فلم ترهم يرفعون بك رأسًا، تزينت لهم بالقرآن، ولم تزل تنزين لهم بشيء بعد شيء كل ذلك لحب الدُّنْيَا.

(1) الأعراف: 26.

(2)

أخرجه مسلم رقم (91) من حديث عبد الله بن مسعود.

(3)

اتضاعًا: من الضًعَة وهي الذل والهوان والدناءة. "لسان العرب"(8/ 397).

ص: 184

ومراده توبيخ من يزين ظاهره بالأعمال، وباطنه خالٍ منها.

ومن زين للَّه جوارحه بالأعمال وقلبه بحقيقة الإيمان، زينه اللَّه في الدُّنْيَا والآخرة كما في الحديث:«إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» (1) فمن علم اللًه من قلبه الصدق زينه اللَّه عند عباده، وبالعكس.

وما أحسن قول أبي العتاهية:

إذا المرء لم يلبس ثيابًا من التقى

تقلب عريانًا وإن كان كاسيا

وقوله صلى الله عليه وسلم: "واجعلنا هداة مهتدين".

يعني نهدي غيرنا ونهتدي في أنفسنا. هذه أفضل الدرجات: أن يكون العبد هاديًا مهديًّا.

قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (2).

وقال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لَئِنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرُ النَّعَمِ"(3) وقال: "من دعى إِلَى هدًى كان له مثل أجر من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شىِء"(4).

ويدخل فيمن دعى إِلَى الهدى من دعى إِلَى التوحيد من الشرك، وإلى السنة من البدعة، وإلى العِلْم من الجهل، وإلى الطاعة من المعصية، وإلى اليقظة من الغفلة، فمن استجيب له إِلَى شيء من هذه الدعوات فله مثل أجر من تبعه.

(1) أخرجه مسلم (2564).

(2)

الأنبياء: 73.

(3)

أخرجه البخاري (2847 - 3498 - 3973)، ومسلم (2406).

(4)

أخرجه مسلم (2674).

ص: 185

أفضل الصدقة تعليم جاهل أو إيقاظ غافل، ما وصل المستثقل في نوم الغفلة بأفضل من ضربه بسياط الموعظة ليستيقظ.

المواعظ كالسياط تقع عَلَى (نياط)(1) القلوب فمن آلمته فصاح فلا جناح، ومن تراد بها ألمه فمات فدمه مباح.

قضى اللَّه في القتلى قصاص دماؤهم

ولكن دماء العاشقين جبار

وعظ عبد الواحد بن زيد يومًا فصاح به رجل: يا أبا عبيدة، كف فقد كشفت الموعظة قناع قلبي؛ فتمادى عبد الواحد في وعظه فمات الرجل.

صاح الرجل في حلقة الشبلي فمات، فاستعدى أهله عَلَى الشبلي! فَقَالَ: نفس رنت فحنت، فدعيت فأجابت، فما ذنب الشبلي.

فكر في أفعالهم ثم صاح

لا خير في الحب بغير افتضاح

قد جئتكم مستأمنًا فارحموا

لا تقتلوني قد رميت السلاح

وعظ أبو عامر الواعظ بالمدينة رجلًا وولده فأخذ وعظه فيهما فماتا؛ قال أبو عامر: فما رأيت حزنًا مما جنيت عليهما حتى رأيتهما في المنام، عليهما حلتان خضراوتان. فقلت لهما: مرحبًا بكما وأهلاً، فما زلت حذرًا من وعظي لكما، فما صنع الله بكما؛ فَقَالَ الشيخ:

أنت شريكي في الَّذِي نلته

مستأهلاً ذاك أبا عامر

(1) نياط: جمع نوط وهو عرق غليظ نيط به القلب إِلَى الوتين. "القاموس والمحيط"(4/ 460).

ص: 186

وكل من أيقظ ذا غفلة

فنصف ما يعطاه للآمر

من رد عبدًا آبقًا مذنبا

كان كمن راقب للقاهر

واجتمعا في دار عدن وفي

جوار رب سيد غافر

آخره، والحمد لله وحده، وصلى الله عَلَى محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كبيرًا.

***

ص: 187

شرح حديث "مثَل الإسلام"

ص: 189

بسم الله الرحمن الرحيم

ربِّ يسِّر وأعن يا كريم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام عَلَى خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد:

فقد خرَّج الإمام أحمد، والنسائى، والترمذي (1) من حديث النوَّاس بن

سمْعان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيْ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلاً تَعْوَجُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ يَفْتَحُ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لاً تَفْتَحْهُ؛ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، وَالصِّرَاطُ: الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ عز وجل، وَالدَّاعِي مِنِ فَوْقَ: "وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ" وهذا لفظ الإمام أحمد.

وعند الترمذي زيادة: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2).

وحسَّنه الترمذي (3)، وخرَّجه الحاكم (4)، وقال: صحيحٌ عَلَى شرط مسلم، لا أعلم له عِلَّة.

ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم الَّذِي حكاه عن ربه عز وجل مثل الإسلام بالصراط المستقيم. وقد سمَّى الله دينه الَّذِي هو دين الإسلام

(1) أخرجه أحمد (4/ 182، 183)، والنسائي في "الكبرى"(11233)، والترمذي (2859).

(2)

يونس: 25.

(3)

كما في "التحفة"(9/ 61) أما المطبوع ففيه: حديث غريب. وذكر المنذري في "الترغيب"(3/ 171) قول الترمذي: حديث حسن غريب.

(4)

في "المستدرك"(1/ 73).

ص: 191

صراطًا مستقيمًا في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله تعالى:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (1).

ولد فُسِّر الصراط هنا بكتاب الله. وكتاب الله فيه شرح دين الإسلام، وبيانه وتفضيله والدعوةُ إِلَيْهِ.

وعن جابر قال: "الصراط المستقيم هو الإسلام، وهو أوسع مما بين السماء والأرض".

وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2) وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (3).

وخرَّج الإمام أحمد والنسائي في "تفسيره" والحاكم (4)، من حديث ابن

مسعود قال: "خَطَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطًّا بِيَدِهِ، ثَمَّ قَالَ: "هَذَا سَبِيلُ اللهِ مُسْتَقِيمًا". وَخَطَّ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: "هَذِهِ السُّبُلُ لَيْسَ مِنْهَا سَبِيلٌ إِلَّا عَلَيْهِ شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ". ثُمَّ قَرَأَ: "{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} " (3).

وخرَّج الإمام أحمد، وابن ماجه (5)، من حديث مجاهد، عن الشّعبي، عن جابر، قال:"كُنَّا جُلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم فَخَطَّ خَطًّا هَكذَا أَمَامَهُمْ، قال: "هَذَا سَبِيلُ اللهِ". وَخَطَّينِ عَنْ يَمِينِهِ وَخَطَّينِ عَنْ شِمَالهِ، وقال: "هَذَا سَبِيلُ الشَّيْطَانِ". ثُمَّ

(1) الفاتحة: 6 - 7.

(2)

المائدة: 15 - 16.

(3)

الأنعام: 153.

(4)

أخرجه أحمد: (1/ 435، 465)، والنسائي في "الكبرى"(11174/ 1، 11175/ 2)، والحاكم في "المستدرك"(2/ 318).

(5)

أخرجه أحمد (3/ 397)، وابن ماجه (11).

ص: 192

وَضَعَ يَدَهُ فِي الخَطِّ الأَوْسَطِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الآية:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاً تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} الآية".

وقد رُوي عن ابن مسعود "أنَّه سُئل عن الصراط المُستقيم فَقَالَ: تركنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفُه في الجنة، وعن يمينه جوادٌ [وعن شماله جواد](1) وثُمَّ رجالٌ يدعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إِلَى النار، ومن أخذ عَلَى الصراط انتهى به إِلَى الجنة. ثم قرأ ابنُ مسعود:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} خرَّجه ابنُ جرير (2) وغيرُه.

وإنَّما سُمّي الصراطُ صراطًا؛ لأنًه طريقٌ واسع سهل، يُوصل إِلَى المقصود، وهذا مثل دين الإسلام فى سائر الأديان؛ فإنَّه يُوصل إِلَى الله وإلى داره وجِواره، مع سهولته وسعته.

وبقيةُ الطرق -وإن كانت كثيرة- فإنَّها كلِّها مع ضيقها وعُسرها لا تُوصل إِلَى الله؛ بل تقطع عنه وتُوصل إِلَى دار سخطه وغضبه ومجاورة أعدائه، ولهذا قال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3) وقال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (4).

والإسلامُ العام هو دين الله الَّذِي كان عليه جميع الرسل؛ كما قال نوح {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (5) وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} (6) وقال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ

(1) ليست بالأصل، والمثبت من "تفسير الطبري"(8/ 65).

(2)

في "تفسيره"(8/ 65).

(3)

آل عمران: 85.

(4)

آل عمران: 19.

(5)

يونس: 72.

(6)

الحج: 78.

ص: 193

يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاً تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (1) وقال عن يوسف أنَّه قال: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (2) وقال تعالى عن ملكة سبأ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3) وقال عن الحواريين أنهم قالوا: {وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (4).

وقد وصف الله في سُورة الفاتحة الصراط بأنَّه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (5).

ثم سمَّى الله الذين أنعم عليهم في سُورة النساء، وجعلهم أربعة أصناف: النبيين، والصِّديقين، والشهداء، والصالحين، فدلَّ عَلَى أنَّ هؤلاء كلَّهم عَلَى هذا الصراط المستقيم، فلا يخرج عنهم إلَاّ إمَّا مغضوبٌ عليه، وهو من عَرف الصراط وسلك غيره عمدًا كاليهود والمشركين، وإمّا ضالٌّ جاهل يسلك غير الصراط جهلاً، ويظن أنَّه الصراط.

وحقيقةُ الإسلام. الاستسلام لله تعالى والانقياد لطاعته، وأمَّا الإسلام الخاص، فهو دين محمد صلى الله عليه وسلم.

ومُنذ بعث الله مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لم يقبل من أحد دينا غير دينه، وهو الإسلام الخاص [و] (6) بقية الأديان كفرًا؛ لما تضمَّن اتباعها من الكفر بدين محمد والمعصية لله في الأمر باتباعه؛ فإنه ليس هناك إلَاّ أحد أمرين:

إمَّا الاستسلام لله والانقياد لطاعته وأوامره، وهو دين الإسلام الَّذِي أمر الله تعالى به.

(1) البقرة: 132.

(2)

يوسف: 101.

(3)

النمل: 44.

(4)

المائدة: 111.

(5)

الفاتحة: 7.

(6)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 194

وإمَّا المعصية للَّه والمخالفة لأوامره، وذلك يستلزم طاعة الشيطان؛ لأنّ الشيطان يأمر بسلوك الطرق التي عن يمين الصراط وشماله، ويصد عن سلوك الصراط المستقيم؛ كما قال تعالى:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (1) وقال تعالى حاكيًا عن الشيطان: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} (2) وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (3).

وصح عن ابن مسعود (4) أنه قال: إنَّ هذا الصراط مُحتضر، تحضره الشياطين [ينادون] (5): يا عبد اللَّه، هذا الطريق، هلمَّ إِلَى الطريق، فاعتصموا بحبل اللَّه؛ فإنَّ حبل اللَّه هو القرآن.

وهذا كما أنَّ الكتب المنزَّلة والرسل المُرسلة وأتباعهم يدعون إِلَى اتباع الصراط المستقيم، فالشيطانُ وأعوانه وأتباعه من الجن والإنس يدعون إِلَى بقية الطرق الخارجة عن الصراط المُستقيم؛ كما قال تعالى:{كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} (6). والإسلامُ له هو الاستسلام والإذعان والانقياد والطاعة.

(1) يس: 60 - 61.

(2)

الأعراف: 16 - 18.

(3)

الحجر: 39 - 42.

(4)

أخرجه الدارمي في "السنن"(2/ 524)، والبيهقي في "الشعب"(2/ 355).

(5)

زيادة ليست في "الأصل" والمثبت من "سنن الدارمي" و"شعب الإيمان".

(6)

الأنعام: 71.

ص: 195

والإسلام قد فسَّره النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل (1) بالشهادتين، مع إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج والصيام.

وأخبر صلى الله عليه وسلم في حديث آخر (2) أنَّ الإسلام بُني عَلَى هذه الخمس -يعني: أنَّه أركانُ بنائه التي لا يقوم البناء إلَاّ عليها، وبقيةُ الأعمال داخلة في مسمَّاه أيضًا.

ورُوي من حديث أبي الدرداء مرفوعًا (3)، ومن حديث حُذيفة مرفوعًا وموقوفًا، وعدَّ مِن سهامه الجهاد (4).

وأفضل الإسلام أنْ يَسلم المسلمون من لسانه ويده (5)، ومن حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه (6) و [في](7)"صحيح مسلم"(8) عن عبد الله بن سلَاّم، قال: "يينما أنا نائم إذ أتاني رجلٌ فَقَالَ لي: قُم، فأخذ بيدي فانطقتُ معه فَإِذَا أنا بجواد من شمالي. قال: فأخذت لآخذ فيها، فَقَالَ: لا تأخذ فيها فإنَّها طُرق أصحاب الشمال، فَإِذَا جواد منهجٌ عن يميني، فَقَالَ لي: خذ هاهنا، قال: فأتى لي جبلًا، فَقَالَ لي: اصعد. قال: فجعلتُ إذا أردت أنْ أصعد خررتُ عَلَى استي. قال: حتى فعلتُ ذلك مرارًا. قال: ثم انطلق حتى أتى عمودًا رأسمه فى السماء وأسفله في الأرض في أعلاه حلْقة. قال لي: اصعد

(1) أخرجه أحمد (1/ 28، 51، 52)، ومسلم (8).

(2)

أخرجه البخاري (8)، ومسلم (16).

(3)

أخرجه الطبراني في "الكبير" كما في "مجمع الزوائد"(1/ 43).

(4)

أخرجه البزار كما في "كشف الأستار"(336، 337).

(5)

أخرجه البخاري (10، 6484)، ومسلم (40).

(6)

أخرجه الترمذي (2317)، وابن ماجه (3976) من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة.

قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه.

وأخرجه الترمذي (2318) من حديث مالك عن الزهري عن علي بن حسين مرسلاً. وقال الترمذي: وهكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري عن الزهري عن علي بن حسين عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو حديث مالك مرسلاً، وهذا عندنا أصح من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة.

(7)

في "الأصل": "ومن" والمثبت أنسب للسياق.

(8)

برقم (2484/ 150)، وفيه قصة.

ص: 196

فوق هذا. قلتُ: كيف أصعد هذا ورأسُه في السماء. قال: فأخذ بيدي فدخلَ بي، فَإِذَا أنا متعلِّق بالحلْقة، ثم ضرب العمود فخرَّ وبقيتُ متعلقًا بالحلْقة حتى أصبحت. قال: فَأتَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ قَالَ: «أَمَّا الطُّرُقُ الَّتِي رَأَيْتَ عَنْ يَسَارِكَ فَهِيَ طَرِيقُ أَصْحَابِ الشِّمَالِ، وَأَمَّا الطُّرُقُ الَّتِي رَأَيْتَ عَنْ يَمِينِكَ فَهِيَ طَرِيقُ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَأَمَّا الْجَبَلُ فَهُوَ مَنْزِلُ الشُّهَدَاءِ وَلَنْ تَنَالَهُ، وَأَمَّا الْعَمُودُ فَهُوَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْعُرْوَةُ فَهِيَ عُرْوَةُ الْإِسْلَامِ، وَلَنْ تَزَالَ مُتَمَسِّكًا بِهَا حَتَّى تَمُوتَ» .

وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} (1).

فأخبر صلى الله عليه وسلم-وهو الطريق القاصد- عليه، يعني: أنه يُوصل إِلَيْهِ، وأنَّ من السبيل ما هو جائر عن القصد غير مُوصل.

فالسبيل القاصد هو الصراط المستقيم، والسبيل الجائر هو سبيلُ الشيطان الرجيم، وقد وحَّد طريقه في أكثر المواضع، وجَمع طُرق الضلال؛ لأنّ طريق الحق أصلُه شيء واحد، ودين الإسلام العام كما سبق، وهو توحيدُ الله وطاعته، وطُرق الضلالة كثيرة متبوعة، وإنْ جمعها الشرك والمعصية.

قوله: "وعلى جنبتي الصراط سُوران" ثم فسّرهما بحدود اللَّه.

والمرَاد أنَّ الله تعالى حد حدودًا ونهى عن تعديها؛ فمن تعدَّاها فقد ظلم نفسه وخرج عن الصراط المستقيم الَّذِي أمر بالثبوت عليه.

ولما كان السور يمنع مَن وراءه مِن تعديه ومجاوزته سمَّى حدود اللَّه سورًا؛ لأنّه يمنع من دخله مِن مجارزته وتعدي حدوده.

قال الله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} (2) وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} إِلَى قوله:

(1) النحل: 9.

(2)

البقرة: 229.

ص: 197

{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1) وقال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاً تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (2) وقال: {نَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاً تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلاً يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} (3).

وفي حديث أبي ثعلبة الخُشني، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاً تُضَيِّعُوها، وَحَرَّمَ أَشْيَاءً فَلَا تَنتَهِكُوهَا، وَحَّدَّ حُدُودًا فَلاً تَعْتَدُوهَا"(4).

فحدودُ اللَّه تُطلق ويُراد بها غالبًا ما أذن فيه وأباح؛ فمن تعدَّى هذه الحُدود فقد خرج مما أحلَّه اللَّه إِلَى ما حرَّمه، فلهذا نُهِيَ عن تعدي حُدود الله؛ لأنّ تعديها بهذا المعنى محرَّم.

ويُراد بها تارة ما حرَّمه الله ونهى عنه.

وبهذا المعنى يُقال: لا تقربوا حدود اللَّه؛ كما قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاً تَقْرَبُوهَا} (5) بعد أنْ نهى عن ارتكاب المفطرات في نهار الصيام، وعن مباشرة النساء في الاعتكاف في المساجد.

فأراد بحدوده هاهنا ما نهى عنه؛ فلذلك نهى عن قُربانه.

(1) النساء: 13 - 14.

(2)

البقرة: 229.

(3)

الطلاق: 1.

(4)

أخرجه الطبراني فى "الكبير"(22/ 589)، الدارقطني في "السنن"(4/ 1831 - 184)، وأبو نعيم في "الحلية"(9/ 17).

وأخرجه البيهقي في "السنن"(10/ 12) موقوفًا عَلَى أبي ثعلبة.

قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" في شرح الحديث الثلاثين (2/ 150 - الرسالة): هذا الحديث من رواية مكحول عن أبي ثعلبة الخشني، وله علتان:

إحدهما: أن مكحولًا لم يصح له السماع من أبي ثعلبة، كذلك قال أبو مسهر الدمشقي وأبو نعيم الحافظ وغيرهما.

الثانية: أنه اختلف في رفعه ووقفه عَلَى أبي ثعلبة، ورواه بعضهم عن مكحول من قوله، لكن قال الدارقطني: الأشبه بالصواب المرفوع، قال: وهو أشهر. وانظر "علل الدارقطني"(6/ 324 برقم (1170). وانظر "غاية المرام" للألباني (ص 17 - 19)،

(5)

البقرة: 187.

ص: 198

فإنَّه تعالى جعل لكل شيء حدًّا، فجعل للمباح حدًّا وللحرام حدًّا، وأمر بالاقتصاد عَلَى حد المباح وأنْ لا يتعدى، ونهى عن قربان حد الحرام.

ومما سمِّي فيه المحرمات حدودًا، قول النبي: "مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالمُدَاهِنِ (1) فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اقْتَسَمُوا سَفِينَةٍ

" (2) الحديث المعروف. والمراد بالقائم عَلَى حدود الله: المنكر للمحرمات والناهي عنها.

وفي حديث ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ (3) اتَّقُوا النَّارِ، اتَّقُوا الحُدُودَ -قالها ثلاثا". خرَّجه الطبراني والبزار (4). ومُراده بالحدود: محارم الله ومعاصيه -وقد تطلق الحدود باعتبار العقوبات المقدَّرة الرادعة عن الجرائم المغلَّظة. فيقال: حد الزنا، حد السرقة، حد شرب الخمر.

وهو هذا المعروف من اسم الحدود في اصطلاح الفقهاء؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة: "أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ"(5) لما شفع في المرأة التي سرقت.

وفي حديث: «أَقِيمُوا الْحُدُودَ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ عَلَى الْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ» (6).

وقال علي: أقيموا الحدود عَلَى ما ملكت أيمانكم (7).

وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بردة: «لَا تَجْلَدُ فَوْقَ عَشْرِ جَلَدَاتٍ إِلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ عز وجل» (8) فقد اختلفوا في المراد بالحد هنا: هل هو الحدود المقدَّرة شرعًا، أم المُراد بالحد ما حدّه الله ونهى عن قربانه؛ فيدخل فيه سائر

(1) المداهنة والإدهان كالمصانعة، وداهن: أظهر خلاف ما أضمر. "اللسان" مادة: (دهن).

(2)

أخرجه البخاري (2493، 2686) من حديث النعمان بن بشير.

(3)

أصل الحجزة موضع ضد الإزار، ثم قيل للإزار: حجزة للمجاورة. "اللسان" مادة: (حجز).

(4)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(11/ 10953)، و"الأوسط"(2874)، والبزار كما في "كشف

الأستار" (3480).

(5)

أخرجه البخاري (2375، 3732، 3733، 6887، 6788، 6800)، ومسلم (1688).

(6)

أخرجه أحمد (5، 314، 316، 326).

(7)

أخرجه أبو داود (4473)، والنسائي في "الكبرى"(4/ 304)، أحمد (1/ 89، 95، 145) عن

علي مرفوعًا.

(8)

أخرجه البخاري (6848، 864، 6850)، ومسلم (1708).

ص: 199

المعاصي، ويكون المرُاد: النهي عن تجاوز العشر جلدات بالتأديب ونحوه، مما ليس عقوبة عَلَى محرَّم.

هذا فيه اختلافٌ مشهور بين العُلماء.

وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (1).

وقال تعالى: {الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} (2).

والمرُاد بحدود الله هاهنا: ما يفصل لون الحلال والحرام، ويتميَّز به أحدهما من الآخر.

وقد مدح اللهُ الحافظين لحدوده في قوله: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ} (3).

وفي الحديث المرفوع من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده:"يُمَثَّلُ الْقُرْآنُ رَجُلًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ قَدْ حَمَلَهُ، فَخَالَفَ أَمْرَهُ ونَهْيِهِ، فَيُمَثَّلُ لَهُ خَصْمًا فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، حَمَّلْتَهُ إِيَّايَ فَبِئسَ حَامِلٍ، تَعَدَّى حُدُودِي، وَضَيَّعَ فَرَائِضِي وَرَكِبَ مَعْصِيَتِي، فَيَتَمَثَّلُ خَصْمًا دُونَهُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، حَمَّلْتَهُ إِيَّايَ فَخَيْرُ حَامِلٍ، حَفِظَ حُدُودِي، وَعَمِلَ بِفَرَائِضِي، وَاجْتَنَبَ مَعْصِيَتِي"(4).

والمرُاد بحفظ الحدود هنا: المحافظةُ عَلَى الواجبات والانتهاء عن المحرمات.

وفي حديث النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"الحَلَالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبَهَاتٌ لَا يَعْلَمُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُخَالِطُهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ" وهو حديث متفقٌ عَلَى صحته (5).

(1) البقرة: 230.

(2)

التوبة: 97.

(3)

التوبة: 112.

(4)

أخرجه ابن أبي شبية في "المصنف"(10/ 491 - 492).

(5)

أخرجه البخاري (52، 2051)، ومسلم (1599).

ص: 200

فمثَّل المحرَّمات في هذا الحديث بالحمى، وهو ما يحميه الملوك وتمنع من قُربانه، وجعل الحلال بيِّنًا والحرام بيِّنًا، ومُراده: الحلال المحض والحرام المحض؛ فإنَّ لكل منهما حُدودًا معروفة في الشريعة، وجعل بينهما أمورًا مشتبهة عَلَى كثير من الناس، لا يدرون هل هي من الحلال أم من الحرام، فدَّل عَلَى أنَّ من الناس من لا يشتبه عليه حُكمُها، فيعلم أنَّها حلالٌ أو أنها حرام.

فأمَّا من اشتبه عليه حُكمُها فإنَّ الأولى له أنْ يتقيها ويجتنبها؛ كما قال عُمر: "ذروا الربا والريبة"(1).

وأخبر أنَّه من وقع في الأمور المشُتبهة وقع في الحرام، والمراد: أنَّ نفسَه تدعوه مِن ارتكاب الشبهات إِلَى ارتكاب الحرام.

ومثَّله بالراعي حول الحمى يُوشك أنْ يرتع فيه، فأمَّا من بعُد عن الحِمى فإنَّه ييعُد وقوعُه في الحرام؛ ولهذا قال من قال من السلف: اجعل يينك وبين الحرام شيئًا مِن الحلال.

وفي الحديث المرفوع، الَّذِي خرَّجه "الترمذي" (2):«لاً يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لاً بَأْسَ بِهِ حَذَرًا مِمَّا بِهِ البَأْسُ» .

وهذه الأمور المشتبهات منها ما يقوى شبهُه بالحرام، ومنها ما ييعُد شبهُه بالحرام، ومنها ما يتردد، الشبهة بين الحلال والحرام.

فالأوَّل يقوى فيه التحريم، والثاني يقوى فيه الكراهة، والثالث يتردد فيه، واجتنابُ الكل حسن، وهو الأفضل والأولى.

وقولُه: "فيهما -يعني: السورين- أبوابٌ مفتحة، وعلى الأبواب سُتور مُرخاة".

(1) أخرجه أحمد (1/ 36)، وابن ماجه (2276).

(2)

برقم (2451) قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

ص: 201

ثم فسَّر الأبواب المُفتحة بمحارم الله، لما شبّه حُدود الله بالسورين المكتنفين للصراط يَمنة ويَسرة -والسورُ يقتضي المنع، وأصل الحد في اللغة المنع- شبَّه المحارم بالأبواب المفتحة في السوريين اللذين هما حد الصراط المستقيم ونهايته.

وجعل الأبواب مفتحةً غير مغلقةٍ ولا مُقفلة، وجعل عليها ستورًا مُرخاة، بحيث يتمكن كلُّ أحد من رفع تلك الستور وولوج تلك الأبواب.

وهكذا الشهوات المحرَّمة، فإنَّ النفوس متطلعة إليها وقادرة عليها، وإنَّما يمنع منها مانعُ الإيمان خاصة. والنفوسُ مولعة بمطالعة ما مُنعت منه؛ كما في الحديث:"لَو يُمنَع النَّاس فت البعر لقالوا فيه الدر"(1).

وفي حديث آخر مرفوع: "لو نهيتُ أحدَهم أنْ يأتي الحجون لأوشك أنْ يأتيه مرارًا وليس له إِلَيْهِ حاجة"(2).

وحكايةُ ذي النون المِصري مع يوسف بن الحسين الرازي في الطبق الَّذِي أرسله، وأمره أنْ لا يكشفه معروفة.

والمحرَّمات أمانةٌ من الله عند عبده، والسمعُ أمانة، والبصرُ واللسانُ أمانة، والفرج أمانة وهو أعظمها.

وكذلك الواجبات كلها أمانات: كالطهارة، والصيام، والصلاة، وأداء الحقوق إِلَى أهلها؛ قال اللَّه تعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (3) ثم ذكر حُكمه، فَقَالَ:{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (4).

(1) ذكره الغزالي في "الإحياء" وقال العراقي: لم أجده. (كشف الخفاء للعجلوني 2/ 163، 211)، و (المصنوع لعلي القاري 1/ 150).

(2)

أخرجه الترمذي في "العلل الكبير"(3/ 846).

(3)

الأحزاب: 72.

(4)

الأحزاب: 73.

ص: 202

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: " «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ» (1). وفي رواية: "حُجبت" (2) بدل: "حُفَّت".

فاللهُ -سبحانه- امتحن عباده في هذه الدار بهذه المحرَّمات من الشهوات والشُّبهات، وجعل في النفس داعيًا إِلَى حبها مع تمكن العبد منها وقُدرته عليها.

فمن أدَّى الأمانة، وحفظ حدودَ الله ومنع نفسه ما يُحبه من محارم الله كان عاقبته الجنةُ؛ كما قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (3).

فلذلك يحتاج العبدُ في هذه الدار إِلَى مُجاهدة عظيمة، يُجاهد نفسه في الله عز وجل كما في الحديث:"المجاهدُ مَن جاهد نفسه في الله عز وجل"(4).

فمن كانت نفسُه شريفة، وهِمَّته عالية لم يرض لها بالمعاصي؛ فإنَّها خيانةٌ ولا يرضى بالخيانة إلَاّ مَن لا نفس له.

قال بعضُ السلف: رأيتُ المعاصي نذالة، فتركتها مروءة فاستحالت ديانة.

وقال آخر منهم: تركتُ الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع.

وقال آخر: مَن عمل في السر عملاً يستحيي منه إذا ظهر عليه، فليس لنفسه عنده قدر.

قال بعضهم: ما أكرم العبادُ أنفسهم بمثل طاعة الله، ولا أهانوها بمثل معاصي الله عز وجل. فمن ارتكب المحارم فقد أهان نفسه.

(1) أخرجه مسلم (2822).

(2)

أخرجه البخارى (6487).

(3)

النازعات: 40.

(4)

أخرجه أحمد (6/ 21، 22)، وأبو داود (2500)، والترمذي (1621)، والنسائي في "الكبرى""تحفة الأشراف"(8/ 11038) من حديث فضالة بن عبيد.

ص: 203

وفي المثل المضروب أنَّ الكلب قال للأسد: يا سيد السباع، غيِّر اسمي؛ فإنه قبيح. فَقَالَ له: أنت خائن، لا يصلح لك غير هذا الاسم. قال: فجرّبنى. فأعطاه شقة لحم، وقال: احفظ لي هذه إِلَى غد وأنا أغيِّر اسمك.

فجاع، وجعل ينظر إِلَى اللحم ويصبر. فلما غلبته نفسُه قال: وأي شيء أعمل باسمي، وما كلب إلا اسم حسن فأكل.

ولهذا المعنى شبَّه الله عالمَ السُّوء الَّذِي لم ينتفع بعلمه بالكلب؛ فَقَالَ تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (1).

والمُراد بهذا المثل أنَّ من لم يزجره علمُه عن القبيح صار القبيحُ عادة له، ولم يؤثر فيه علمُه شيئًا، فيصير حالُه كحال الكلب اللاهث؛ فإنَّه إنْ طرد لهث وإنْ تُرك لهث، فالحالتان عنده سواء.

وهذا أخسُّ أحوال الكلب وأبشعها، فكذلك مَن يرتكب القبائح مع جهله ومع علمه، فلا يؤثر علمُه شيئًا؛ ولذلك مثل مَن لا يرتدع عن القبيح بوعظ ولا زجر ولا غيره، فإنَّ فعل القبيح يصير عادةً، ولا ينزجر عنه بوعظ ولا تأديب ولا تعليم؛ بل هو متبعٌ للهوى عَلَى كل حال، فهذا كل من اتبع هواه، ولم ينزجر عنه بوعظ ولا غيره.

وسواء كان الهوى المتُبَع داعيًا إِلَى شهوة حسية، كالزنا والسرقة وشرب الخمر، أو إِلَى غضب وحقدٍ وكبر وحسد، أو إِلَى شُبهة مضلة فى الدين.

وأشد ذلك حال من اتبع هواه فى شبهة مضلة، ثم من اتبع هواه في غضب وكبر وحقد وحسد، ثم من اتبع هواه في شهوة حسية.

(1) الأعراف: 175 - 177.

ص: 204

ولهذا يُقال: إنَّ مَن كانت معصيته في شهوة فإنَّه يُرجى له، ومن كانت معصيتُه في كبر لم يُرج.

ويُقال: إنَّ البدع أَحَبّ إِلَى إبليس من المعاصي؛ لأنَّ المعاصي يُتاب منها والبدع يعتقدها صاحبُها دينًا فلا يتوب منها.

والمقصود أنَّه لما كانت النفسُ والهوى داعيين إِلَى فتح أبواب المحارم وكشف ستورها وارتكابها، جعل الله عز وجل لها داعيين يزجران مَن يُريد ارتكاب المحارم وكشف ستورهما.

أحدُهما: داعي القرآن، وهو الداعي عَلَى رأس الصراط يدعو الناس كلَّهم إِلَى الدخول في الصراط والاستقامة عليه، وأنْ لا يعرجوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا يفتحوا شيئًا من تلك الأبواب التي عليها الستور المُرخاة؛ قال اللَّه عز وجل حاكيًا عن عباده المؤمنين أنهم قالوا:{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} (1) والمُراد به القرآن عند أكثر السلف.

وقال حاكيًا عن الجن الذين استمعوا القرآن، أنهم لما رجعوا إِلَى قومهم قالوا:{إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} (2).

وقد وصف اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم بأنَّه يدعو الخلق بالكتاب إِلَى الصراط المستقيم؛ كما قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (3).

وقال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} (4).

(1) آل عمران: 193.

(2)

الأحقاف: 30 - 31.

(3)

إبراهيم: 1.

(4)

المؤمنون: 73 - 74.

ص: 205

وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يدعو الخلق بالقرآن إِلَى الدخول في الإسلام الَّذِي هو الصراط المستقيم؛ وبذلك استجاب له خواصُّ المؤمنين كأكابر المهاجرين والأنصار، ولهذا المعنى قال مالك: فُتحت المدينة بالقرآن. يعني: أنَّ أهلها إنَّما دخلوا في الإسلام بسماع القرآن.

كما بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم مُصعب بن عمير قبل أنْ يُهاجر إِلَى المدينة، فدعا أهلَ المدينة إِلَى الإسلام بتلاوة القرآن عليهم، فأسلم كثيرٌ منهم.

قال بعضُ السلف: من لم يردعه القرآنُ والموت، لو تناطحت الجبالُ يين يديه لم يرتدع.

وقال آخر: من لم يتعظ بثلاث لم يتعظ بشيء: الإسلام، والقرآن، والمشيب؛ كما قيل: كفى الشيبُ والإسلام للمرء ناهيًا.

قال يحيى بن مُعاذ: الإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك.

منع الهوى مِن كاعبٍ ومدام.

ومَن كان في الدُّنْيَا قد خرج عن الاستقامة عَلَى الصراط، ففتح أبواب المحارم التي في ستور الصراط يمنة ويسرة، ودخل إليها -سواء كانت المحارم من الشهوات أو من الشبهات- أخذته الكلاليبُ التي عَلَى ذلك الصراط يمنة ويسرة، بحسب ما فتح في الدُّنْيَا من أبواب المحارم ودخل إليها. فمنهم المكدوش في النار، ومنهم من تخدشه الكلاليب وينجو.

رأى بعضُ السلف -وكان شابًّا- في منامه كأن الناس حُشروا، وإذا بنهر من لهب النار عليه جسرٌ يجوز الناسُ عليه يُدعون بأسمائهم، فمن دُعي أجاب، فناجٍ وهالك. قال: فدُعي باسمي، فدخلتُ في الجسر، فَإِذَا حد كحد السيف يمور دي يمينًا وشمالًا. فأصبح الرجلُ أبيض الرأس واللحية مما رأى.

ص: 206

سمع بعضُهم قائلاً يقول:

أمامي موقف قُدَّام ربي

يُسائلني وينكشف الغطاءُ

وحسبي أنْ أمرّ عَلَى صراط

كحد السيف أسفلُه لَظاء

فغُشي عليه.

قال الفُضيل يبشر: بلغني أنَّ الصراط مسيرة خمسة عشر ألف فرسخ؛ فانظر كيف تكون عليه.

قال بعض السلف: بلغنا أنَّ الصراط يكون عَلَى بعض الناس أدق من الشعر، وعلى بعضهم كالوادي الواسع.

قال سهلُ التستُري: من دقَّ عَلَى الصراط في الدُّنْيَا عرض له في الآخرة ومن عرض له في الدُّنْيَا الصراط دق عليه في الآخرة.

والمعنى: أنَّ مَن صبَّر نفسه عَلَى الاستقامة عَلَى الصراط، ولم يعرج عنه يمنة ويسرة، ولا كشف شيئًا من الستور المُرخاة عَلَى جانبيه مما تهواه النفوسُ من الشهوات أو الشبهات؛ بل سار عَلَى متن الصراط المستقيم حتى أتى ربَّه وصبر عَلَى دقة ذلك عرض له الصراط في الآخرة، ومن وسَّع عَلَى نفسه الصراط في الدُّنْيَا فلم يستقم عَلَى جادته، بل كشف ستوره المُرخاة من جانبيه يمنة ويسرة، ودخل مما شاءت نفسه من الشهوات والشبهات دقَّ عليه الصراط في الآخرة، فكان عليه أدق من الشَّعر.

أمَا آنَ يا صاح أنْ تسْتَفيقَا. . . وأنْ تتناسَى الهَوى والفُسوقَا

وقد ضحِكَ الشيبُ فاحزنْ لهُ. . . وصارَ مساؤُكَ فيه شُروقَا

ألا فازجرِ النفسَ عنْ غيِّها. . . عساكَ تجوزُ الصراطَ الدَّقيقَا

ودونَ الصراطِ لَنَا موقفٌ. . . به يتناسَى الصديقُ الصَّديقَا

فتُبصرُ ما شئتَ كَفًّا تُعضُّ. . . وعينًا تسحُّ وقلْبا خَفُوقَا

إذا أطبقتْ فوقَهُم لم تكنْ. . . لسَمع إلا البكاء والشهيقَا

شرابُهُم المُهْلُ في قعرِهَا. . . يقطّعُ أوصالَهُم والعُروقَا

ص: 207

قال إبراهيمُ بنُ أدهمَ: كُلِ الحلالَ، وادعُ بما شئتَ.

وقالَ لرجل: اعبدِ اللَّهَ سرًّا، حتى تخرجَ على الناسِ يومَ القيامةِ (كمينًا)(1).

ومما أنشدَ بعضُهم:

أروحُ وقد ختمتُ على فؤادِي. . . بحبِّكَ أنْ يحلَّ به سِواكَا

فلو أنِّى استطعتُ غضضتُ طَرفِي. . . فلم أبصرْ به حتَّى أراكَا

أحبُّكَ لا ببعْضِي بل بكُلِّي. . . وإنْ لم يُبقِ حبُّك لي حِراكَا

ويقبُحُ مِن سواكَ الفعلُ عندِي. . . وتفعلُه فيحسُنُ منكَ ذاكَا

وفي الأحبابِ مخصوصٌ بوجدٍ. . . وآخرُ يدَّعي معه اشترَاكَا

إذا اشتبكتْ دموعٌ في خدود. . . تَبَيَّن مَن بكى مِمَّنْ تباكَى

فأمَّا منْ بكَى فيذوبُ وجْدًا. . . وينطقُ بالهَوى من قد تَشَاكَا

تم الكتاب بحمد الله وعونه، وصلَّى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

(1) سقط مقدار ورقة في المخطوط (10ب، 11أ) و (ق11/ب) تبدأ بـ: "بي فيقول إنما أبطأ بك

ص: 208

غاية النفع في شرح حديث "تمثيل المؤمن بخامة الزرع"

ص: 209

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

خرَّج البخاري ومسلم (1) من حديث أبي هريرة" عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَثلُ المُؤْمِنِ كَمَثلِ الخامَةِ مِنَ الزَّرعِ مِنْ حَيثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ كَفأتْهَا؛ فَإِذَا اعْتدلت تكفأ بِالبَلاءِ. والفَاجِرُ كَالأرزة (2) صَماء مُعتدِلَة حتَّى يقصمها الله إذا شاء» وهذا لفظ البخاري.

وخرَّجا (3) أيضاً من حديث كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " «مَثلُ المُؤْمِنِ كَالخَامَةِ مِنَ الزَّرعِ تفيؤُها الرِّيحُ مَرَّة وتَعدلها مَرَّة، وَمَثلُ المُنافِقِ كَالأرْزِة لا تَزالُ حَتّى يكونَ انْجِعافُها (4) مرَّةً واحدةً» .

وخرجه الإمام أحمد (5) بمعناه من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخرجه البزار من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ففي هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثل المؤمن في إصابة البلاء لجسده بخامة الزرع التي (تفيئها الريح)(*) يمنة ويسرة. والخامة: الرطبة من النبات.

وَمَثَّل المنافق والفاجر بالأرزة وهي الشجرة العظيمة التي لا تحركها الرياح ولا تزعزعها حتى يرسل الله عليها ريحًا عاصفًا فتقتلعها من الأرض دفعة واحدة.

(1) أخرجه البخاري (5644، 7466)، مسلم (2809).

(2)

الأرزة، بسكون الراء وفتحها: شجرة الأرز وهو خشب معروف. وقيل: هو الصنوبر. "النهاية"(1/ 38).

(3)

أخرجه البخاري (5643)، ومسلم (2810).

(4)

انجعافها: انقلاعها "اللسان" مادة: (جعف).

(5)

(3/ 454)، (6/ 386).

(*) تقلبها الرياح: "نسخة".

ص: 211

وقد قيل: إنها شجرة الصنوبر، قاله أبو عبيد وغيره. وقيل: إنها شجرة تشبه (شجر)(*) الصنوبر.

ففي هذا فضيلة عظيمة للمؤمن بابتلائه في الدُّنْيَا في جسده بأنواع البلاء.

وتمييز له عَلَى الفاجر والمنافق بأنه لا يصيبه البلاء حتى يموت بحاله فيلقى الله بذنوبه كلها فيستحق العقوبة عليها.

والنصوص في تكفير ذنوب المؤمن بالبلاء والمصائب كثيرة جدًّا.

ففي "الصحيحين"(1) عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ المُسْلِمَ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» .

وفيهما (2) أيضًا عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا يُصِيبُ المُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمُّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غّمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكِهَا إِلَّا كَفِّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» .

وفيهما (3) أيضًا عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى مِنْ مَرَضٍ فَمَا سِوَاهُ إِلَّا حَاتَ اللهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ».

وفي رواية: "يُصِيبُهُ أَذى شَوْكَةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كَفّرَ اللهُ بِهَا سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا".

وخرج الإمام أحمد والنسائي والترمذي (4) من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا تَزَالُ الْبَلَايَا بِالْعَبْدِ حَتَّى تَتْرُكهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا بِهِ خَطِيئَةٌ".

(*) شجرة: "نسخة".

(1)

أخرجه البخاري (5640)، ومسلم (2572)[49].

(2)

أخرجه البخاري (5641، 5642)، ومسلم (2573).

(3)

أخرجه البخاري (5647، 5648، 5660، 5661، 5667)، ومسلم (2571).

(4)

أخرجه أحمد (1/ 172، 173، 180، 185)، والنسائي في "السنن الكبرى"(7481)، والترمذي (2398). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 212

وخرج الإمام أحمد والترمذي وابن حبان (1) من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تزال البلايا بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة".

وفي "صحيح ابن حبان"(2) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ الرَّجُلَ لِيَكُونُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ الْمَنْزِلَةُ فَمَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلٍ، فَلَا يَزَالُ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ إِيَّاهَا» .

وفي "المسند"(3) عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لاً يَمْرَضُ مُؤْمِنٌ وَلاً مُؤْمِنَةٌ وَلاً مُسْلِمٌ وَلاً مُسْلِمَةٌ إِلَّا حَطَّ اللهُ عَنْهُ مِنْ خَطَايَاهُ". وخرجه ابن حبان (4) وزاد: "كَمَا يَحُطُّ الوَرَقَ عِنِ الشَّجَرَةُ".

وفيه (5) عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَا يَزَالُ الصُّدَاعَ وَالْمَلِيلَةَ (*) بِالْمُؤْمِنِ؛ وَإِنَّ ذَنْبَهُ مِثْلُ أُحُدٍ، فَمَا يَدَعُهُ وَعَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ".

ْوإنما يعرف قدر البلاء إذا كشف الغطاء يوم القيامة، كما في الترمذي (6) عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ قُرِضَتْ بِالمَقَارِيضِ فِي الدُّنْيَا» .

وفي "سنن أبي داود"(7) عن عامر (الرام)(8) قال: "جَلسْتُ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم

(1) أخرجه أحمد (2/ 287، 450)، والترمذي (2399)، وابن حبان كما في "الإحسان"(2924)

قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(2)

كما في "الإحسان"(2908).

(3)

(3/ 346، 386، 400).

(4)

كما في "الإحسان"(2927).

(5)

في "مسند أحمد"(5/ 98، 199).

(*) الملَيلة: حرارة الحمى وتوهجها، وقبل: هى الحمى التي تكون في العظام "اللسان"(11/ 630).

(6)

برقم (2402) قال الترمذي: وهذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه. وقد روى بعضهم هذا الحديث عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن مسروقٍ قوله شيئًا من هذا.

(7)

برقم (3089).

(8)

في "الأصل" البرام، وهو تحريف والصواب ما أثبتنا بفتح الراء وفي آخرها ميم بمد الألف هذه النسبة إِلَى صنعة الرمي بالقوس والنشاب، انظر "الأنساب"(3/ 31)، و"الإكمال"(3/ 161، 252).

ص: 213

فَذَكَرَ الْأَسْقَامَ، فَقَالَ:«إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَصَابَهُ السَّقَمُ ثُمَّ أَعْفَاهُ اللَّهُ مِنْهُ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى مِنْ ذُنُوبِهِ، وَمَوْعِظَةً لَهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ، وَإِنَّ الْمُنَافِقَ إِذَا مَرِضَ ثُمَّ أُعْفِيَ كَانَ كَالْبَعِيرِ، عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَرْسَلُوهُ، فَلَمْ يَدْرِ لِمَ عَقَلُوهُ وَلِمَ أَرْسَلُوهُ» فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ حَوْلَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمَا الْأَسْقَامُ؟ وَاللَّهِ مَا مَرِضْتُ قَطُّ. قَالَ: «قُمْ عَنَّا فَلَسْتَ مِنَّا» وهذا كما قال للذي سأله عن الحمى فلم يعرفها: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا» (1) فجعل الفرق بين أهل الجنة وأهل النار إصابة البلاء والمصائب، كما جعل ذلك فرقًا بين المؤمنين والمنافقين والفجار في هذه الأحاديث المذكورة ها هنا.

وفي "المسند"(2) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه ذكر أهل النار، فَقَالَ:

«كُلُّ شَدِيدٍ جَعْظَرِيٍّ (3)، هُمُ الَّذِينَ لَا يَأْلَمُونَ رُءُوسَهُمْ» .

وفي "المسند"(4) عن أنس أَنَّ امْرَأَةً أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَةً لِي كَذَا وَكَذَا، ذَكَرَتْ حُسْنِهَا وَجَمَالِهَا. آثَرْتُكَ بِهَا، قَالَ:«قَدْ قَبِلْتُهَا» . فَلَمْ تَزَلْ تَمْدَحُهَا حَتَّى ذَكَرَتْ أَنَّهَا لَمْ تَصْدَعْ وَلَمْ تَشْتَكِ شَيْئًا قَطُّ، قَالَ:"لَا حَاجَةَ لِي فِي ابْنَتِكِ".

وخرجه ابن أبي الدُّنْيَا من وجه آخر مرسلًا. وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا حَاجَةَ لنَا فِي ابْنَتِكِ"، تجيئنا تحمل خطاياها، لا خير في مال لا يرزأ (5) منه، وجسد لا ينال منه".

وروى بإسناده (6) عن قيس بن أبي حازم قال: "طلق خالد بن الوليد امرأته، ثم أحسن عليها الثناء، فقِيلَ لَهُ: يا أبا سليمان، لأي شيء طلقتها؟ قال: ما طلقتها لأمر رابني منها، ولكن لم يصبها عندي بلاء".

(1) أخرجه أحمد في "المسند"(2/ 332، 366)، والبخاري في "الأدب المفرد"(ص 146)، والنسائي في "الكبرى"(7491).

(2)

(2/ 508).

(3)

الجعظري: الفظ الغليظ المتكبر. "اللسان" مادة: (جعظر).

(4)

(3/ 155).

(5)

رزأه ماله: أصاب من ماله شيئًا "اللسان"(3/ 1634).

(6)

أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات"(203).

ص: 214

وبإسناده (1) عن عمار بن ياسر "أنه ذكر الأوجاع، فَقَالَ أعرابي عنده: ما اشتكيت قط، فَقَالَ عمار: ما أنت منا -أو لست منا- إِنَّ المسلم يبتلى ببلاء فتحط عنه ذنوبه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها، وإن الكافر والفاجر ييتلى ببلاء، فمثله مثل البعير أطلق، فلم يدر لم أطلق، وعقل فلم يدر لم عقل".

وبإسناده (2) عن كعب قال: أجد فى التوراة: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد، لا يصدع أبدًا.

وعن الحسن (3) قال: كان الرجل منهم، أو من المسلمين إذا مر به عام لم يصب في نفسه ولا في ماله قال: ما لنا أيودع (4) الله عنا؟!.

وقال الحسن (5): إِنَّمَا أنتم بمنزلة الغرض يرمى كل يوم، ليس من مرضة إلا قد أصابتكم منه رمية، عقل من عقل، وجهل من جهل، حتى تجيء الرمية التي لا تخطئ.

وعن صالح بن مسمار (6) أنه دخل عَلَى مريض يعوده فَقَالَ له: إِنَّ ربك قد عاتبك فأعتبه.

وعن ابن عباس أنه كان إذا رأى الناقةِ قال له: [فِ بما وعدت](7) لربك.

وروي (8) مرفوعًا من حديث خوات بن جبير وإسناده ضعيف.

(1) ابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات" رقم (15).

(2)

ابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات" رقم (103).

(3)

أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات" رقم (146).

(4)

في "المرض والكفارات": أتودع.

(5)

أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات" رقم (175).

(6)

أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات" رقم (87).

(7)

بياض بـ "الأصل" والمثبت من "الكامل" لابن عدي.

(8)

أخرجه ابن عدي في "الكامل"(6/ 146)، وابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات"(162)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة"(563).

ص: 215

وقال الحسن في أيام الوجع: أما والله ما هي بشرِّ أيام المسلم، أيام قورب له فيها أجله، وذكر فيها ما نسي من معاده، وكفر بها من خطاياه (1).

وكان إذا دخل عَلَى مريض قد عوفي قال له: يا هذا! إِنَّ الله قد ذكرك فاذكره، وأقالك فاشكره. فهذه الأسقام والبلايا والأوجاع كلها كفارات للذنوب الماضية ومواعظ للمؤمنين حتى يتعظوا بها، ويرجعوا بها في المستقبل عن سيئ ما كانوا عليه.

قال الفضيل: إِنَّمَا جعلت العلل ليؤدب بها العباد، ليس كل من مرض مات.

وإلى هذا المعنى الإشارة بقوله عز وجل: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} (2).

ولبعض المتقدمين:

أفي كل عام مرضت ثم نقهت

وتنعي ولا تنعى متى ذا إِلَى متى

واعلم أن تمثيل المؤمن بالزرع، وتمثيل المنافق والفاجر بالشجر العظام يشتمل عَلَى فوائد جليلة نذكر ما يسر اللَّه منها.

فمنها أن الزرع ضعيف مستضعف والشجر قوي مستكبر متعاظم، فالشجر لا [يضعف](3) من حر ولا برد، ولا من كثرة ماء ولا من ريح، والزرع بخلاف ذلك، وهذا هو الفرق بين المؤمن والكافر، وبين أهل الجنة والنار.

كما في " الصحيحين"(4) عن حارثة بن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ

(1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(13/ 501)، وابن أبي الدُّنْيَا في "المرض والكفارات"(55، 145).

(2)

التوبة: 126.

(3)

بياض في "الأصل"، والمثبت أنسب للسياق.

(4)

البخاري (4918، 6071، 6657)، ومسلم (2853).

ص: 216

بأهل النار؟ كل عتل (1) جواظ (2) مستكبر.

وفي "المسند"(3) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَلاً أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟» قَالُوا: بَلَى. قال: الضُّعفاء المغلوبون. «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ؟» قَالُوا: بَلَى، قَالَ:«كُلُّ شَدِيدٍ جَعْظَرِيٍّ، هُمُ الَّذِينَ لَا يَأْلَمُونَ رُءُوسَهُمْ» .

وخرجه (4) أيضًا بمعناه من حديث سراقة بن مالك وعبد اللَّه بن عمر.

وخرجاه في "الصحيحين"(5) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟ وَقَالَتِ النَّارُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا المُتَجَبِّرِينَ وَالْمُتَكَبِّرونَ

" الحديث.

وقد ورد في القرآن تشبيه المنافقين بالخشب المسندة مع حسن منظرهم، فَقَالَ:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} (6).

فوصفهم بحسن الأجسام وتمامها، وحسن المقال (وفصاحته)(*)، حتى يعجب من منظرهم من رآهم، ويسمع قولهم من سمعه سماع إصغاء وإعجاب به، ومع هذا فبواطنهم خراب ومعانيهم فارغة، فلهذا مثلهم بالخشب المسندة، التي لا روح لها ولا إحساس، وقلوبهم مع هذا ضعيفة فى غاية الضعف:{يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} (6) لأنهم لما أضمروا خلاف ما أظهروا خافوا الاطلاع عليهم، فكلما سمعوا صيحة ظنوا أنها عليهم، وهكذا كل مريب يظهر خلاف ما يضمر يخاف من أدنى شيء ويحسبه عليه.

(1) العُتُل: هو الشديد الجافي والفظ الغليظ من الناس "اللسان"(11/ 423).

(2)

الجواظ: الكثير اللحم، الجافي الغليظ الضخم المختال في مشيته. "اللسان"(7/ 439).

(3)

(2/ 369، 508).

(4)

في "المسند"(4/ 175).

(5)

أخرجه البخاري (4850)، ومسلم (2846).

(6)

المنافقون: 4.

(*) والفصاحة: "نسخة".

ص: 217

وأما المؤمن فبعكس هذه الصفات، غالبهم مستضعفون في ظاهر أجسامهم ولباسهم وكلامهم لأنهم اشتغلوا بعمارة قلوبهم وأرواحهم عن عمارة أجسادهم. فقلوبهم ثابتة قوية عامرة، فيكابدون بها الأعمال الشاقة في طاعة الله من الجهاد والعبادات والعلوم وغيرها مما لا يستطيع المنافق مكابدته؛ لضعف قلبه، ولا يخافون من ظهور ما في قلوبهم إلا خشية الفتنة عَلَى نفوسهم، فإن بواطنهم خير من ظواهرهم، وسرهم أصلح من علانيتهم.

قال سليمان التيمي: أتاني آت في منامي فَقَالَ: يا سليمان إِنَّ قوة المؤمن في قلبه.

فالمؤمن لما اشتغل بعمارة قلبه عن عمارة قالبه استضعف ظاهره، وربما ازدري، ولو علم الناس ما في قلبه لما فعلوا ذلك.

قال علي لأصحابه: كونوا في الناس كالنحل في الطير كل الطير يستضعفها، ولو علموا ما في جوفها ما فعلوا.

ومن قوة قلب المؤمن وثباته أنه ثابت عَلَى الإيمان، فالإيمان الَّذِي في قلبه مثله كمثل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، فيعيش عَلَى الإيمان ويموت عليه ويبعث عليه، وإنما الرياح وهي بلايا الدُّنْيَا تقلب جسمه يمنة ويسرة، وكذلك قلبه لا تصل إِليه الرياح؛ لأنّه محروس بنور الإيمان.

والكافر والمنافق بعكس ذلك، قوي جسمه، لا تقلبه رياح الدُّنْيَا، وأما قلبه فإنه ضعيف، تلاعب به الأهواء المضلة، فتقلبه يمنة ويسرة، فكذلك كان مثل قلبه كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار، كشجر الحنظل ونحوه مما ليس له أصل ثابت فى الأرض.

وقال علي في صفة الهمج: الرعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العِلْم، ولم يلجئوا منه إِلَى ركن وثيق.

ص: 218

وبهذا يظهر الجمع بين حديث تمثيل المؤمن بخامة الزرع والفاجر بشجرة الأرز، وبين حديث تمثيل المؤمن بالنخلة. فإن التمثيل بالزرع لجسده؛ لتوالي البلاء عليه، والتمثيل بالنخلة إيمانه وعمله وقوله، يدل عليه قوله عز وجل:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} (1) فجعلها مثلًا بكلمة الشهادة التي هي أصل الإسلام، وثبوتها في قلب المؤمن كثبوت أصل النخلة في الأرض، وارتفاع عمل المؤمن إِلَى السماء كارتفاع النخلة، وتجدد عمل المؤمن من كل حين كإتيان النخلة أكلها كل حين.

وقد روي عن أبي هريرة "أن المؤمن الضعيف مثل الزرع، والقوي مثله كمثل النخلة".

وخرجه البزار وغيره مرفوعًا، ولا يصح رفعه، إِنَّمَا هو موقوف، قاله الدارقطني وغيره.

ومنها أن ثمرة الزرع وهو السنبل يستضعف ويطمع فيه كل أحد لقرب تناوله فيطمع الآدمي في الأكل منه وفي قطعه وسرقته، والبهائم في رعيه، والطير في الأكل منه، وكذلك المؤمن يستضعف، فيعاديه عموم الناس؛ لأنّ الإسلام بدأ غريبًا ويعود غرييًا كما بدأ، فطوبى للغرباء. فعموم الخلق يستضعفه ويستغربه، ويؤذيه لغربته بينهم.

وأما الكافر أو المنافق أو الفاجر الَّذِي كالصنوبرة، فإنه لا يطمع فيه، فلا الرياح تزعزع بدنه، ولا يطمع في تناول ثمرته لامتناعها.

وفي كتاب "الزهد" للإمام أحمد عن عصام بن يحيى الحضرمي قال: شكى الحواريون إِلَى المسيح عليه السلام من ولع الناس بهم وبغضهم إياهم.

فَقَالَ المسيح: كذلك المؤمنون مبغوضون في الناس، وإنما مثلهم كمثل حبة القمح ما أحلى مذاقها وأكثر أعدائها!!.

(1) إبراهيم: 24.

ص: 219

وقال كعب: في التوراة: "ما كان حليم قط في قوم إلا بغوا عليه وحسدوه".

وكان خيثمة يقول كلامًا معناه: إِنَّ من الناس من أجتهد في نفعه وهو يجتهد في إيذائي، إنه لا يحب منافق مؤمنًا أبدًا.

ومنها أن المؤمن يمشي مع البلاء كيف ما مشى به، فيلين له فيقلبه البلاء يمنة ويسرة، فكلما أداره استدار معه، فيكون عاقبته العافية من البلاء وحسن الخاتمة، وتوقي ميتة السوء. فلهذا كان مثله كمثل السنبلة (تفيئها)(*) الرياح يمنة ويسرة، فلا تضره الرياح كما في أمثال العرب: إذا رأيت الريح عاصفًا فتطامن، أي: إذا رأيت الأمر غالبًا فاخضع له.

وقال الحكماء: لا يرد لم العدو القوي بمثل الخضوع له، ومثله مثل الريح العاصف يسلم منها الزرع للينه لها ومعها، ويتقصف منها الشجر العظام لانتصابها لها. فإن الفاجر لقوته وتعاظمه يتقاوى عَلَى الأقدار، ويستعصي عليها، كشجرة الصنوبر التي تستعصي عَلَى الرياح، ولا تتطامن معها، فتسلط عليه ريح عاصف لا يقوى عليها، فتقلعه من أصله بعروقه فتهلكه. وهذا كما حكى الله عن عاد قال: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً

} (1) فالمؤمن لمَّا تواضع لعظمة اللَّه، وصبر عَلَى بلائه كانت عاقبته (الحسنى)(**)، وسلم في الدُّنْيَا والآخرة من البلاء، وكانت العافية له.

والفاجر لما تكبر وتعاظم وتقاوى عَلَى أقدار الله عجَّل اللَّه عقوبته، فسلط عليه بلاء يستأصله، ولا يقدر عَلَى الامتناع منه، كالشجر العظام التي تقتلعها الرياح بعروقها.

قال بعضهم:

إِنَّ الرياح إذا عصفن فإنما

تولي الأذية شامخ الأغصان

(*) تقلبها: "نسخة".

(1)

فصلت: 15 - 16.

(**) الجنة: "نسخة".

ص: 220

وقال غيره:

من أخمل النفس أحياها وروحها

ولم يبت طاويًا منها عَلَى ضجر

إِنَّ الرياح إذا اشتدت عواصفها

فليس ترمي سوى العالي من الشجر

ومنها أن الزرع وإن كانت كل طاقة منه ضعيفة ضئيلة؛ إلا أنه يتقوى بما يخرج معه وحوله ويعتضد به بخلاف الشجر العظام، فإن بعضها لا يشد بعضًا، وقد ضرب الله تعالى مثل نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالزرع لهذا المعنى قال:{وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى} (1).

وقوله: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} ؟ ي: فراخه، {فَآزَرَهُ} أي: ساواه وصار مثل الأم وقوي به، {فَاسْتَغْلَظَ} أي: غلظ، {فَاسْتَوَى} عَلَى سوقه جمع ساق، فالزرع مثل النبي صلى الله عليه وسلم إذ خرج وحده فأمده بأصحابه وهم شطأ الزرع كما قوى الطاقة من الزرع بما ينبت منها حتى غلظت واستحكمت. وفي الإنجيل: سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع.

وقد قال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (2).

وقال: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} (3) فالمؤمنون بينهم ولاية، وهي مودة ومحبة باطنة، كما قال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (4)؛ لأنّ المؤمنين قلوبهم عَلَى قلب رجل واحد فيما يعتقدونه من الإيمان.

وأما المنافقون فقلوبهم مختلفة كما قال: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} (5) فأهواؤهم مختلفة، ولا ولاية بينهم في الباطن، وإنما بعضهم من جنس بعض في الكفر والنفاق.

(1) الفتح: 29.

(2)

التوبة: 71.

(3)

التوبة: 67.

(4)

الحجرات: 49.

(5)

الحشر: 14.

ص: 221

وفي "الصحيحين"(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم: «المُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» . وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعَهُ.

وفيهما (2) أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ الوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُه بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ".

ومنها أن الزرع ينتفع به بعد حصاده، فإنه يحصده أربابه، ثم يبقى منه بعد حصاده ما يلتقطه المساكين، وترعاه البهائم وتأكله الطير، وربما استخلف بعضه فأخرج منه ثانية، وبيع منه من الحب ما ينبت مرارًا.

وهكذا مثل المؤمن يموت ويخلف ما ينتفع منه، من علم نافع وصدقة جارية وولد صالح ينتفع به.

وأما الفاجر فإنه إذا انقلع من الأرض لم يبق فيه نفع بل ربما أثر ضررًا، فهو: كالشجرة المنجعفة لا تصلح إلا لوقيد النار.

ومنها أن الزرع في حمله مبارك، كما ضرب الله مثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، والله يضاعف لمن يشاء.

وليس كذلك الشجر لأنّ كل حبة مما يغرس منه لا تزيد عَلَى نبات شجرة واحدة منها.

ومنها أن الحب الَّذِي ينبت من الزرع هو قوت الآدميين، وغذاء أبدانهم،

وسبب حياة أجسادهم، فكذلك الإيمان هو قوت القلوب وغذاء الأرواح وسبب حياتها، ومتى فقدته القلوب ماتت، وموت القلوب لا يرجى معه حياة أبدًا، بل هو هلاك الدُّنْيَا والآخرة، كما قيل:

لَيسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيِّتٍ

إِنَّمَا الميْتُ مَيَّتُ الأحْيَاءِ

(1) أخرجه البخاري (481، 2446، 6026)، ومسلم (2585).

(2)

أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586).

ص: 222

فلذلك شبه المؤمن بالزرع حيث كان الزرع حياة الأجساد، والإيمان حياة الأرواح.

وأما ثمر بعض الأشجار العظام كالصنوبر ونحوه، فليس له كبير نفع، وربما لا يتضرر بفقده. فكذلك مَثَّل الفاجر أو المنافق بهذه الشجرة لقلة نفع ثمرها.

لما كانت الدُّنْيَا سجن المؤمن وجنة الكافر، فصاحب السجن لا يزال في بلاء حتى يخرج منه، فَإِذَا خرج من السجن أفضى إِلَى الرخاء والنعيم الدائم، وصاحب الجنة إذا خرج منها وقع في السجن الدائم.

إذا صُبغ أنعم الناس -كان في الدُّنْيَا- صبغة في العذاب، فقِيلَ لَهُ: هل مر بك نعيم قط؟ قال: لا يا رب. وإذا صُبغ أبأس الناس -في النعيم صبغة، ثم قِيلَ لَهُ: هل مر بك بؤس قط؟ قال: لا يا رب.

ما كان تعب من استراح

ولا استراح من تعب

فما هي إلا ساعة ثم تنقضي

ويذهب هذا كله ويزول

لا يجد أهل الجنة من ألم نصب الدُّنْيَا شيئًا، بل ينقلب راحة أبدًا.

جميع آلام لسع النحل يُذْهِبُهَا

ما يَجْتَني المجتَني من لذة العسل

من طمع في الوصول إِلَى المعالي؛ صبر عَلَى مواصلة نَصَبِ النهار بسهر الليالي.

من أراد غدًا قربنا؛ فليصبر اليوم عَلَى ألم ضربنا، فما يحس بألم من صدق في حبنا.

لابد من البلوى والاختبار ليتبين الصادق اليوم من الكاذب {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} (1).

الراحة لا تنال بالراحة.

(1) محمد: 31.

ص: 223

لولا المشقة ساد الناس كلهم

الجود يفقر والإقدام قتّال

مراتب الدُّنْيَا لا تنال إلا بالصبر عَلَى البلاء في طلبها والمجاهدة، فكيف من أراد مقعد صدق عند مليك مقتدر.

كم صبروا حتى قدروا

كم غضوا حتى نظروا

ما وصلوا إِلَى المنزل إلا بعد طول السجن، ما نالوا لذة الراحة إلا بعد أن صبروا عَلَى المشقة.

لو قرب الدرّ عَلَى طلابه

ما لج الغائص في طلابه

ولو أقام لازمًا أصدافه

لم تكن التيجان في حسابه

ما لؤلؤ البحر ولا مرجانه

إلا وراء الهول من عبابه

آخر ما وجد والحمد للَّه أولاً وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، وصلى الله عَلَى عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

***

ص: 224

الحِكَم الجديرة بالإذاعة من قول النبي صلى الله عليه وسلم "بعثت بالسيف بين يدي الساعة"

ص: 225

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحَمْدَ لله نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَهْدِيهِ ونَسْتَغفرُهُ، وَنَعوذُ بالله مِنْ شُرورِ أَنفسِنا، وَمِنْ سَيِّئاتِ أَعْمَالنا، مَن يَهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِل فَلَا هاديَ لَه، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحَدهُ لا شَريِكَ لَه، وَأَشْهَدُ أَن مُحَمّدا عَبْدهُ وَرَسُولُه، أرسله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إِلَى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فهدى به من الضلالة وبصر به من العمى، وأرشد به من الغي وفتح به أعينًا عميًا وآذانًا وقلوبًا غلفًا. صلى اللَّه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أخرج الإمام أحمد (1) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ، حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهِ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ".

قوله صلى الله عليه وسلم: "بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ" يعني: أن الله بعثه داعيًا إِلَى توحيده بالسيف بعد دعائه بالحجة، فمن لم يستجب إِلَى التوحيد بالقرآن والحجة والبيان دعي بالسيف، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ

} (2) الآية.

وفي بعض الكتب السالفة: وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يبعث بقضيب الأَدب، وهو السيف.

ووصى بعض أحبار اليهود عند موته باتباعه وقال: إنه يسفك الدماء، ويسبي الذراري والنساء، فلا يمنعهم ذلك منه.

(1)(2/ 50، 92).

(2)

الحديد: 25.

ص: 227

وروي أن المسيح عليه السلام قال لبني إسرائيل في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه يسل السيف، فيدخلون في دينه طوعًا وكرهًا". وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسيف بعد الهجرة لما صار له دار وأتباع وقوة ومنعة.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهدد أعداءه بالسيف قبل الهجرة، وكان صلى الله عليه وسلم يطوف

بالبيت وأشراف قريش قد اجتمعوا (في الحجر)(*) وقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل، قد سفه أحلامنا، وشتم آباءنا، وعاب ديننا، وفرق جماعتنا، وسب آلهتنا! لقد صبرنا منه عَلَى أمر عظيم. فلما مر بهم النبي صلى الله عليه وسلم غمزوه ببعض القول، فعُرِفَ ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم وفعلوا ذلك به ثلاث مرات، قال:"تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ؟ أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ" فأخذت القوم كلمته، حتى ما فيهم رجل إلا وكأنما عَلَى رأسه طير واقع، وحتى أن أشدهم عليه قبل ذلك ليلقاه بأحسن ما يجد من القول، حتى أنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشدًا، فواللَّه ما كنت جهولًا (1).

وقال محمد بن (الحسن)(**): بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا جهل يقول: إِنَّ محمدًا يزعم أنكم إِن بايعتموه عشتم ملوكًا، فَإِذَا متم بعثتم بعد موتكم، وكانت جنان خير من جنان الأردن، وأنكم إِن خالفتموه كان لكم منه الذبح.

ثم بعثتم بعد موتكم (وكان) (

) لكم نار تعذبون فيها، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:"وأنا أقول ذلك إِنَّ لهم مني لذبحًا، وإنه لآخذهم".

وقد أمر الله -تعالى- بالقتال في مواضع كثيرة في القرآن قال تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ

} (2)، وقال: {فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ

} (3) الآية.

(*) بالحجر: "نسخة".

(1)

أخرجه البخاري (3678).

(**) كعب: "نسخة".

(2)

التوبة: 5.

(

) كانت: "نسخة".

(3)

محمد: 4.

ص: 228

ولهذا عوتبوا عَلَى أخذ الفداء منهم في أول قتال قاتلوه يوم بدر، وأنزل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ

} (1) الآية.

وكانوا قد أشاروا عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفداء من الأسارى وإطلاقهم.

قال ابن عيينة: أُرسِلَ محمد صلى الله عليه وسلم بأربعة سيوف: سيف عَلَى المشركين من العرب حتى يسلموا، وسيف عَلَى المشركين من غيرهم حتى يسلموا أو يسترقوا أو يفادى بهم، وسيف عَلَى أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وسيف عَلَى أهل القبلة من أهل البغي.

وفيما ذكره نزاع بين العُلَمَاء؛ فإن منهم من يجيز المفاداة والاسترقاق في العرب وغيرهم، وكذلك منهم من يجيز أخذ الجزية من الكفار جميعهم، والذي يظهر أن في القرآن أربعة سيوف: سيف عَلَى المشركين حتى يسلموا أو يُؤسروا، فإمَّا منًّا بعد وإما فداءًا، وسيف عَلَى المنافقين وهو سيف الزنادقة (2)، وقد أمر الله بجهادهم والإغلاظ عليهم في سورة براءة وسورة التحريم وفي سورة الأحزاب، وسيف عَلَى أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية، وسيف عَلَى أهل البغي، وهو المذكور في سورة الحجرات.

ولم يسل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا السيف في حياته، وإنما سلَّهُ علي- رضي الله عنه في خلافته. وكان يقول:"أنا الَّذِي علمت الناس قتال أهل القبلة".

وله صلى الله عليه وسلم سيوف أُخر، منها: سيفه عَلَى أهل الردة وهو الَّذِي قال فيه: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» (3) وقد سله أبو بكر الصديق رضي الله عنه من بعده في خلافته عَلَى من ارتد من قبائل العرب.

(1) الأنفال: 67.

(2)

الزنديق: من لا يؤمن بالآخرة والربوبية، أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان. ترتيب القاموس (3/

481).

(3)

أخرجه البخاري (6922) من حديث ابن عباس، وأحمد (5/ 231) من حديث معاذ بن جبل.

ص: 229

ومنها: سيفه عَلَى المارقين، وهم أهل البدع كالخوارج.

وقد ثبت عنه الأمر بقتالهم مع اختلاف العُلَمَاء في كفرهم. وقد قاتلهم عَلَى رضي الله عنه في خلافته مع قوله: "إنهم ليسوا كفار".

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بقتال المارقين والناكثين والقاسطين.

وقد أحرق عليٌّ طائفة من الزنادقة، فصوب ابن عباس قتلهم، وأنكر عليه تحريقهم بالنار، فَقَالَ علي:"ويح ابن عباس، إنه لبَحَّاث عن الهنات".

قوله صلى الله عليه وسلم: "بين يدي الساعة" يعني: أمامها، ومراده أنه بُعِثَ قدام الساعة قرييًا منها، ومن أسمائه صلى الله عليه وسلم الحاشر والعاقب، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:

"أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ، وَأَنَا المَاحِي، الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الكُفْرَ، وَأَنَا الحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي، وَأَنَا العَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدِي نَبِيّ"(1).

وقد جعل اللَّه انشقاق القمر من علامات اقتراب الساعة كما قال تعالى:

{اقْتَرَيَتِ السَّاعَهُ وانشَقَ القَمَرُ} (2) وكان يرى انشقاقه بمكة قبل الهجرة.

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» -وَأَشَارَ بإصْبعه: السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى، أخرجاه في " الصحيحين "(3).

وخرج الإمام أحمد (4) من حديث بريدة: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ جَمِيعًا وَإِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي» وللترمذي (5): «بُعِثْتُ فِي نَفَسِ السَّاعَةِ/ فَسَبَقْتُهَا كَمَا سَبَقَتْ

(1) أخرجه البخاري (4869)، ومسلم (2354).

(2)

القمر: 1.

(3)

أخرجه البخاري (6504)، ومسلم (2951) من حديث أنس.

وأخرجه البخاري (6503)، ومسلم (2950) من حديث سهل بن سعد.

وأخرجه البخاري (6505) من حديث أبي هريرة.

وأخرجه مسلم (867) من حديث جابر بن عبد الله.

(4)

(5/ 348).

(5)

برقم (2213).

ص: 230

هَذِهِ هَذِهِ» -السبابة والوسطى- ليس بينهما أصبع أخرى" والصحيح أنه يدل من ذلك عَلَى القرب من الساعة.

وكان قتادة يشير إِلَى أن المراد أن بينه وبين الساعة كمقدار فضل السبابة عَلَى الوسطى، وقد قيل: إِنَّ بينهما من الفضل مقدار نصف سبع.

وأخذوا من هذا أن بقاء أمته مقدار ألف سنة، وهو سبع الدُّنْيَا. وفيه ورد ذلك مرفوعًا من حديث ابن زيد، ولكن إسناده لا يصح.

وقد رجح ذلك ابن الجوزي والسهيلي، وقال: إِن لم يصح فيه الحديث المرفوع فقد صح عن ابن عباس وغيره، وهو عند أهل الكتاب كذلك.

ومما يدل عَلَى أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة أنه أخبر عن خروج الدجال في حديث الجساسة (1).

قوله صلى الله عليه وسلم: "حَتَّى يُعْبَدَ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ" هذا هو المقصود الأعظم من بعثته صلى الله عليه وسلم، بل من بعثة الرسل من قبله كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (2) وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (3) بل هذا هو المقصود من خلق الخلق وإيجادهم كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (4) فما خلقهم إلا ليأمرهم بعبادته، وأخذ عليهم العهد لما استخرجهم من صلب آدم عَلَى ذلك كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ

} (5) الآية.

وقد تكاثرت الأحاديث المرفوعة والأخبار الموقوفة في تفسير هذه الآية أنه

(1) أخرجه مسلم (2942).

(2)

الأنبياء: 25.

(3)

النحل: 36.

(4)

الذاريات: 56.

(5)

الأعراف: 172.

ص: 231

تعالى استنطقهم حينئذٍ، فأقروا كلهم بوحدانيته، وأشهدهم عَلَى أنفسهم وأشهد عليهم أباهم آدم والملائكة.

ثم إنه تعالى تعهدهم في كل زمان بإرسال رسله، وإنزال الكتب يذكرهم بالعهد الأول، ويجدد عليهم العهد والميثاق عَلَى أن يوحدوه ويعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، وأشار في خطاب آدم وحواء عند هبوطهما من الجنة إِلَى هذا المعنى في قوله تعالى: {قُلْنَا اهبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى

} (1) الآيتين، وفي سورة طه نحو هذا، فما وفى بنو آدم كلهم بهذا العهد المأخوذ عليهم؛ بل نقضه أكثرهم وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، فبعث الله الرسل تجدد ذلك العهد الأول وتدعوا إِلَى تجديد الإقرار بالوحدانية.

فكان أول رسول بعث إِلَى أهل الأرض يدعوهم إِلَى التوحيد وينهاهم عن الشرك نوح عليه السلام فإن الشرك قد فشا في الأرض في بني آدم قبل نوح، فبعث الله نوحًا في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعو إِلَى الله وإلى عبادته وحده لا شريك له، كما ذكره سبحانه في سورة نوح عنه أنه قال لقومه:{اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ وأَطِيعُونِ} (2) وأخبر فى موضع آخر عنه أنه قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} (3) فما استجاب له إلا قليل منهم، وأكثرهم أصروا عَلَى الشرك {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتِكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ ودًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ ويَعُوق ونَسْرًا} (4) فلما أصروا عَلَى كفرهم أغرقهم الله بالطوفان ونَجَّى نوحًا ومن معه في الفلك {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَاّ قَلِيلٌ} (5).

ثم إِنَّ الله تعالى بعث خليله إبراهيم فدعا إِلَى توحيده وعبادته وحده لا شريك له، وناظر عَلَى ذلك أحسن مناظرة، وأبطل شبه المشركين بالبراهين

(1) البقرة: 38 - 39.

(2)

نوح: 3.

(3)

المؤمنون: 23.

(4)

نوح: 23.

(5)

هود: 40.

ص: 232

الواضحة، وكسر أصنام قومه حتى جعلهم جذاذًا (1) فأرادوا تحريقه فنجّاه الله من النار وجعلها عليه بردًا وسلامًا ووهب الله له إسماعيل وإسحاق، فجعل عامة الأنبياء من ذرية إسحاق؛ فإن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق، وأنبياء بني إسرائيل كلهم من ذرية يعقوب، كيوسف وموسى وداود وسليمان عليهم السلام وآخرهم المسيح ابن مريم عليه السلام وإنما دعاهم إِلَى التوحيد كما قال:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} (2).

ثم طبق الشرك الأرض بعد المسيح؛ فإن قومه الذين ادعوا اتباعه والإيمان به أشركوا غاية الشرك، فجعلوا المسيح هو الله أو ابن الله، وجعلوا الله ثالث ثلاثة.

وأما اليهود فإنهم -وإن تبرءوا من الشرك- فالشرك فيهم موجود؛ فإن فيهم من عبد العجل في حياة موسى عليه السلام وقال فيه أنه الله، وأن موسى نسي ربه وذهب يطلبه، ولا شرك أعظم من هذا.

ومنهم طائفة قالوا: العزير ابن الله، وهذا من أعظم الشرك. وأكثرهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، فأحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم؛ لأنّ من أطاع مخلوقًا في معصية الخالق أو اعتقد جواز طاعته ووجوبها؛ أقد أشرك بهذا الاعتبار، حيث جعل التحريم والتحليل لغير الله.

وأما المجوس فشركهم ظاهر؛ فإنهم يَقُولُونَ إلهين قديمين أحدهما: نور.

والآخر: ظلمة، فالنور خالق الخير، والظلمة خالق الشر. وكانوا يعبدون النيران.

وأما العرب والهند وغيرهم من الأم فكانوا أظهر الناس شركًا يعبدون مع الله آلهة كثيرة ويزعمون أنها تقرب إِلَيْهِ زلفى.

فلما طبق الشرك أقطار الأرض، واستطار شررُهُ في الآفاق من المشرق إلى المغرب، بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحنيفية المحضة والتوحيد الخالص -دين

(1) أي: قِطَعًا وكِسَرًَا، واحدها: جذٌّ -انظر "النهاية"(1/ 250).

(2)

المائدة: 117.

ص: 233

إبراهيم عليه السلام وأمره أن يدعو الخلق كلهم إِلَى توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، فكان يدعو إِلَى ذلك سرًّا ثلاث سنين، فاستجاب له طائفة من الناس، ثم أمر بإعلان الدعوة وإظهارها، وقيل:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (1) فدعا إِلَى الله وإلى توحيده وعبادته وحده لا شريك له جهرًا، وأعلن الدعوة، وذم الآلهة التي تعبد من دون الله، وذم من عبدها وأخبر أنه من أهل النار، فثار عليه المشركون، واجتهدوا في إيصال الأذى إِلَيْهِ وإلى أتباعه، وفي إطفاء نور الله الَّذِي بعثه به، وهو لا يزداد إلا إعلانًا بالدعوة وتصميمًا عَلَى إظهارها وإشهارها والنداء بها في مجامع الناس.

وكان يخرج بنفسه في مواسم الحج إِلَى من يقدم إِلَى مكة من قبائل العرب، فيعرض نفسه عليهم، ويدعوهم إِلَى التوحيد، وهم لا يستجيبون له، بل يردون عليه قوله ويُسْمِعُونه ما يكره، وربما نالوه بالأذى. وبقي عشر سنين عَلَى ذلك يقول:"من يمنعني حتى أؤدي رسالات ربي؟ فإن قريشًا منعوني أن أُبَلِّغَ رسالات ربي".

وكان يشق أسواقهم في المواسم وهم مزدحمون بها، كسوق ذي المجاز، ينادي يقول:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تُفْلِحُوا" ووراءه أبو لهب يؤذيه ويرد عليه وينهى الناس عن اتباعه.

واجتمع المشركون مرة عند عمه أبي طالب يشكونه إِلَيْهِ ويَقُولُونَ: شتم آلهتنا وسفه أحلامنا وسب آباءنا، فمُرْهُ فلْيَكُفَّ عن آلهتنا. فَقَالَ أبو طالب للنبي صلى الله عليه وسلم:"أجب قومك فيما سألوا. فَقَالَ: أنا أدعوهم إِلَى خير من ذلك: أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكوا بها العجم. فَقَالَ أبو جهل: نعطكها وعشر أمثالها. فَقَالَ: تقولون لا إله إلا الله. فنفروا عند ذلك وتفرقوا وهم يَقُولُونَ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (2) " وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمه: "يا عم، لو وضعوا الشمس عن يميني والقمر عن

(1) الحجر: 94.

(2)

ص: 5.

ص: 234

يساري عَلَى أنْ أتركَ هذا الأمر حتى يظهرَه الله أو أهلك في طلبه ما تركتُه" (1).

وقال صلى الله عليه وسلم: "لقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون -من يوم وليلة- وما لي طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال"(2).

وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم قال: «مَا أُوذِيَ أَحَدٌ فِي اللهِ مَا أُوذِيتُ» (3).

كان العدو يجهد له في نيل الأذى، والصديق يلوم عَلَى هذا الاحتمال إذا كان كذا، والمحبة تقول:

حبذا هذا الشقاء في رضى

الحبيب والدعوة إِلَى توحيده حبذا

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي

متأخر عنه ولا متقدم

أجد الملامة في هواك لذيذة

حبًّا لذكرك فليلمني اللوم

ثم إِنَّ أبا طالب لما توفى وتوفيت بعده خديجة اشتد المشركون عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اضطروه أن خرج من مكة إِلَى الطائف، فدعاهم إِلَى عبادة الله وحده لا شريك له، فلم يجيبوه وقابلوه بغاية الأذى، وأمروه بالخروج من أرضهم، وأغروا به سفهاءَهم، فاصطفوا له صفين وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أَدْمَوْهُ، فخرج هو ومعه مولاه زيد بن حارثة، فلم يمكنه دخول مكة إلا بجوار، وطلب من جماعة من رؤساء قريش أن يُجيرُوه حتى يدخل مكة، فلم يفعلوا حتى أجاره المطعم بن عدي، فدخل في جواره، وعاد إِلَى ما كان عليه من الدعاء إِلَى توحيد الله وعبادته.

(1) انظر "سيرة ابن هشام"(1/ 257).

(2)

أخرجه أحمد (3/ 120، 186)، والترمذي (2472)، وابن ماجه (151) من حديث أنس.

(3)

أخرجه ابن عدي في "الكامل"(7/ 155) من حديث جابر، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 333) من حديث أنس.

ص: 235

وكان يقف بالمواسم عَلَى القبائل فيقول لهم قبيلة قبيلة: "يَا بَنِي فُلَانٍ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ، يأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوه وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" ولا يقبلون منه، وأبو لهب خلفه يقول: لا تطيعوه. وكان صلى الله عليه وسلم ينادي: "مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي وَلَهُ الْجَنَّةُ؟ "(1) فلا يجيبه أحدٌ حتى بعث الله له الأنصارَ من المدينة فبايعوه.

هذا، وهو صابر عَلَى الدعوة إِلَى الله عز وجل عَلَى هذا الوجه راضٍ بما يحصل له فيها من الأذى، منشرح الصدر بذلك، غير متضجرٍ منه ولا جزع. كان إذا اشتكى أحدٌ من أصحابه شيئًا يقول:"إني عبد الله وأنه لن يضيعني"(2).

صرت لهم عبدًا وما

للعبد أن (يعترضا)(3)

من لمريض لا يرى

إلا الطبيب المُمْرضا؟

وفي "الصحيح"(4) عن عائشة قالت: قلت، يا رسول الله، هل من يوم كان أشد من يوم أحد؟ فَقَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ العَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ (5) فَرَفَعْتُ رَأْسِي وَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ لَكَ مَلَكَ الجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكَ الجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنَِي إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ وَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ

(1) أخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات المسند (3/ 492).

ووقع في مطبوع "مسند أحمد": "أن هذا الحديث من رواية أحمد، والصواب أنه من زيادات ابنه عبد الله. وانظر "المسند الجامع" (5/ 417).

(2)

هناك بياض قدر كلمة.

(3)

في "الأصل": يتعرض وبعدها بياض قدر كلمة.

(4)

البخاري (3231)، ومسلم (1795).

(5)

قرن الثعالب: هو ميقات أهل نجد تلقاء مكة. "معجم البلدان"(4/ 377).

ص: 236

الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُه لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا".

ما مقصود النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يعبد الله وحده لا شريك له، وما يبالي -إذا حصل ذلك- ما أصابه في الدعوة، إذا وُحِّدَ مَغْبُودُهُ حصلَ مقصودهُ، إذا عُبدَ محبوبُه حصل مطلوبه، إذا ذكر ربَّه رضي قلبُه، وأما جسمه فلا يبالي ما أصابه في سبيل الله ما يؤلمه، أو ما يلائمه.

إن كان سَرَّكم ما قد بليت به

فما لجرح إذا أرضاكم ألم

وحَشبُ سلطان الهوى أنه

يألف فيه كل ما يؤلم

وكان كلما آذاه الأعداء إذا دعاهم إِلَى مولاهم رجع إِلَى مولاه، فتسلى بعلمه ونظره إِلَيْهِ وقربه منه، واشتغل بمناجاته، وذكره ودعائه وخدمته، فنسي كل ما أصابه من الألم من أجله، وقد أمره الله بذلك في القرآن في مواضع كثيرة نحو قوله تعالى:{فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} (1)، وقوله:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} (2) وقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (3).

وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إِلَى الصلاة؛ لأنّ الصلاة صلة، وكان يقول:«جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ» (4).

سروري من الدهر لقياكم

ودار سلامي مغناكم

وأنتم منتهى أملي ما حَيِيتُ

وما طاب عيشي لولاكم

(1) الطور: 49.

(2)

ق: 39.

(3)

الحجر: 97 - 99.

(4)

أخرجه أحمد (3/ 128، 85، 199)، والنسائي (7/ 61) من حديث أنس.

ص: 237

إذا [ازدادت](1) في فؤادي الهموم

أروح قلبي بذكراكم

وأستنشق الريحَ في أرضكم

لعلي أحظى برؤياكم

فلا تنسوا العهد فيما مضى

فلسنا مدى الدهر ننساكم

فلم يزل صلى الله عليه وسلم يدعو إِلَى الله وإلى توحيده وعبادته وحده لا شريك له حتى ظهر دين الله وعلا ذكره وتوحيده في المشارق والمغارب، وصارت كلمة الله هي العليا، ودينه هو الظاهر، وتوحيده هو الشائع، وصار الدين كله لله، والطاعة كلها له، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. جعل ذلك علامة عَلَى قرب أجله وَأُمِرَ حينئذٍ بالتهيؤ للقاء الله والنقلة إِلَى دار البقاء.

وكأن المعنى أن قد حصل المقصود من إرسالك، وظهر توحيدي في أقطار الأرض وزال منها ظلام الشرك، وحصلت عبادتي، وحدي لا شريك لي، وصار الدين كله لي، فأنا أستدعيك إِلَى جواري لأجزيك أعظم الجزاء {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (2).

وفي صفته صلى الله عليه وسلم في التوراة: "وَلَنْ أَقْبِضَهُ حَتَّى أُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَفْتَحَ بِهِ أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا".

وكان صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يقاتل عَلَى دخول الناس فى التوحيد كما قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلَامِ» (3).

وكان إذا بعث سرية للغزو يوصي أميرهم بأن يدعو عدوه عند لقائه للتوحيد، وكذلك أمر معاذًا لما بعثه إِلَى اليمن أن يدعوهم إِلَى شهادة

(1) في "الأصل" ازداد. والمثبت أنسب للمعنى. وفي "نسخة": ازدحمت.

(2)

الضحى:4 - 5.

(3)

أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22) من حديث ابن عمر.

وأخرجه البخاري (2946)، ومسلم (20) من حديث أبي هريرة.

وأخرجه البخاري (391) من حديث أنس.

وأخرجه مسلم (1/ 53) من حديث جابر.

ص: 238

التوحيد (1)، وكذلك أمر علي بن أبي طالب حين بعثه لقتال أهل خيبر.

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا بعث بعثًا قال: «تَأَلَّفُوا النَّاسَ وَتَأَنُّوا بِهِمْ، فَلَا تُغِيرُوا عَلَيْهِمْ حَيٍّ تَدْعُوهُمْ، فَمَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَاّ أَنْ تَأْتُونِي بِهِمْ مُسْلِمِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَأْتُونِي بِنِسَائِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ وَتَقْتُلُوا رِجَالَهُمْ» ((2).

قوله صلى الله عليه وسلم: "وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي" أشار إِلَى أن الله لم يبعثه بالسعي في طلب الدُّنْيَا، ولا لجمعها واكتنازها، ولا الاجتهاد بالسعي في أسبابها، وفإنما بعثه داعيًا إِلَى توحيده بالسيف، ومن لازم ذلك أن يقتل أعداءه الممتنعين عن قبول التوحيد، ويستبيح أموالهم، ويسبي نساءهم وذراريهم، فيكون رزقه مما أفاء الله من أموال أعداله، فإن المال إِنَّمَا خلقه الله لبني آدم يستعينون به عَلَى طاعة الله وعبادته، فمن استعان به عَلَى الكفر بالله والشرك به سلط اللهُ عليه رسولَه وأتباعه فانتزعوه منه وأعادوه إلى من هو أولى به من أهل عبادة الله وتوحيده وطاعته، ولهذا يسمى الفيء فيئًا؛ لرجوعه إلى من كان أحق به ولأجله خلق.

وكان في القرآن المنسوخ: "إِنَّمَا أنزل المال لإقام الصلاة وإيتاء الزكاة".

فأهل التوحيد والطاعة لله أحق بالمال من أهل الكفر به والشرك، فلذلك سلط الله رسوله وأتباعه عَلَى من كفر به وأشرك، فانتزعوا أموالهم، وجعل رزق رسوله من هذا المال؛ لأنه أحل الأموال كما قال:{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} (3) وهذا مما خص الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته؛ فإنه أحل لهم الغنائم.

وقد قيل: إِنَّ الَّذِي خصت بحله هذه الأمة هو الغنيمة المأخوذة بالقتال دون الفيء المأخوذ بغير قتال، فإنه كان حلاًّ مباحًا لمن قبلنا، وهو الَّذِي جعل

(1) انظر البخاري (1395)، ومسلم (19).

(2)

أخرجه مسدد في "مسنده" كما في "المطالب العالية"(2035/ 1) من حديث عبد الرحمن بن عائذ والحارث في "مسنده" كما في البغية (639) من حديث شريح بن عبيد.

(3)

الأنفال: 69.

ص: 239

رزق رسوله منه، وإنما كان أحل لغيره لوجوه: منها: أنه انتزع ممن لا يستحقه؛ لأنّه يستعين به عَلَى معصية الله والشرك به، فَإِذَا انتزعه ممن يستعين به عَلَى غير طاعته وتوحيده والدعوة إِلَى عبادته؛ كان ذلك أَحَبّ الأموال إِلَى الله تعالى وأطيب وجوه اكتسابها عنده.

ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يجاهد لتكون كلمة الله هي العليا [ودينه](1) هو الظاهر لا لأجل الغنيمة؛ فيحصل له الرزق تبعًا لعبادته وجهاده في الله، فلا يكون فَرَّغَ وقتًا من أوقاته لطلب الرزق محضًا، وإنما عبد الله في جميع أوقاته وَوَحَّدَهُ فيها وأخلص له، فجعل الله له رزقه ميسرًا له في ضمن ذلك، من غير أن يقصده ولا يسعى فيه.

وجاء في حديث مرسل أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أَنَا رَسُولُ الرَّحْمَةِ، أَنَا رَسُولُ الْمَلْحَمَةِ، إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي بِالجِهَادِ وَلَمْ يَبعَثنِي بِالزَّرْعِ"(2) وخرج البغوي في "معجمه" حديثًا مرفوعًا: "إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ وَلَمْ يَجْعَلَنِي زراعًا ولا تاجرًا، ولا سخابًا بالأسواق، وجعل رزقي في رمحي" وإنما ذكر الرمح ولم يذكر السيف لئلا يقال أنه صلى الله عليه وسلم يرزق من مال الغنيمة، إِنَّمَا كان يرزق مما أفاء الله عليه من خيبر وفدك.

والفيء ما هرب أهله منه خوفًا وتركوه، بخلاف الغنيمة؛ فإنها مأخوذة بالقتال بالسيف، وذكر الرمح أقرب إِلَى حصول الفىء؛ لأنّ الرمح يراه العدو من بعيد فيهرب، فيكون هرب العدو من ظل الرمح، المأخوذ به هو مال الفيء، ومنه كان رزق النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف مال الغنيمة؛ فإنه يحصل من قتال السيف، والله أعلم.

قال عمر بن عبد العزيز: إِنَّ الله تعالى بعث مُحَمَّدًا هاديًا ولم يبعثه جابيًا، فكان صلى الله عليه وسلم شغله بطاعة الله والدعوة إِلَى توحيده، وما يحصل في خلال ذلك

(1) في "الأصل": ودنيه. وهو سبق قلم من الناسخ، والصواب ما أثبتناه.

(2)

أخرجه ابن عدي في "الكامل"(3/ 312).

ص: 240

من الأموال من الفيء والغنائم، فيحصل تبعًا لا قصدًا أصليًّا، ولهذا ذم من ترك الجهاد واشتغل عنه باكتساب الأموال. وفي ذلك نزل قوله تعالى:{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاً تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (1) لا عزم الأنصار عَلَى ترك الجهاد والاشتغال بإصلاح أموالهم وأراضيهم.

وفي الحديث الَّذِي خرجه أبو داود (2) وغيره (3): «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لاً يَنْزِعُهُ اللهُ مِنْ رِقَابِكُمْ حَتَّى ترَاجِعُوا دِينِكُمْ» ولهذا كره الصحابة- رضي الله عنهم الدخول في أرض الخراج للزراعة؛ فإنها تشغل عن الجهاد.

قال مكحول: إِنَّ المسلمين لما قدموا الشام ذكر لهم زرع الحولة فزرعوا، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبعث إِلَى زرعهم وقد ابيضَّ وأدرك فحرقه بالنار، ثم كتب إليهم: إِنَّ الله جعل أرزاق هذه الأمة في أسنة رماحها، وتحت أزجتها (4)، فَإِذَا زرعوا كانوا كالناس. خرَّجه أسد بن موسى.

وروى أيضاً بسند له عن عمر أنه كتب: من زرع زرعًا واتبع أذناب البقر ورضي بذلك وأقر به جعلت عليه الجزية.

وقيل لبعضها: لو اتخذت مزرعة للعيال؟ فَقَالَ: والله ما جئنا زارعين، ولكن جئنا لنقتل أهل الزرع ونأكمل زرعهم.

فأكمل حالات المؤمن أن يكون اشتغاله بطاعة الله والجهاد في سبيله، والدعوة إِلَى طاعته، لا يطلب الدُّنْيَا، ويأخذ من مال الفىء ونحوه قدر الكفاية، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ لأهله قوت سنة من مال الفيء ثم يقسم

(1) البقرة: 195.

(2)

برقم (3462).

(3)

وأخرجه أحمد (2/ 28، 42، 84).

(4)

أزجتها: الزج: الحديدة التي تركب فى أسفل الرمح. "اللسان"(2/ 285).

ص: 241

باقيه، وربما رأى محتاجًا بعد ذلك فيقسم عليه قوت أهله فيبقى أهله بلا شيء.

وكذلك (من)(1) يشتغل بالعلم؛ لأنّه أحد نوعي الجهاد، فيكون اشتغاله بالعلم كالجهاد في سبيل الله والدعوة إِلَيْهِ، فإن أخذ من مال الفيء أو الوقف أخذ منه قدر الكفاية يتقوى به عَلَى الاستعانة به عَلَى جهاده، ولا ينبغي أن يأخذ أكثر من مقدار كفايته من ذلك.

وقد نص أحمد عَلَى أن مال بيت المال كالخراج لا يؤخذ منه أكثر من الكفاية، فمال الوقف أضيق.

ومن اشتغل بطاعة الله تكفل الله برزقه، كما في حديث زيد بن ثابت المرفوع:«مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» خرَّجه الإمام أحمد وابن ماجه (2).

وخرجه الترمذي (3) من حديث أنس مرفوعًا: "إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ".

وخرَّج ابن ماجه (4) من حديث ابن مسعود مرفوعًا: «مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا: هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ» .

(1) تكررت بالأصل.

(2)

في "المسند"(5/ 183)، وابن ماجه (4105) من حديث زيد بن ثابت.

(3)

برقم (2465، 2466).

وأخرجه ابن ماجه (4107)، وأحمد (2/ 358) من حديث أبي هريرة.

(4)

برقم (257، 4106).

ص: 242

وفي الآثار الإسرائيلية يقول الله: "يا دنيا، أخدمي من خدمني، وأتبعي من خدمك".

قوله صلى الله عليه وسلم: "وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري" هذا يدل على أن العز والرفعة في الدنيا والآخرة بمتابعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لامتثال متابعة أمر الله، كما قال تعالى:{من يطع الرسول فقد أطاع الله} (1) وقال تعالى: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} (2) وقال تعالى: {من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً} (3).

وفي بعض الآثار: يقول الله تعالى: "أنا العزيز فمن أراد العز فليطع العزيز" قال الله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (4) فالذل والصغار يحصل بمخالفة أمر الله ورسوله. ومخالفة الرسول على قسمين:

أحدهما: مخالفة من لا يعتقد طاعة أمره كمخالفة الكفار، وأهل الكتاب الذين لا يرون طاعة الرسول، فهم تحت الذل والصغار، ولهذا أمر الله بقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وضرب على اليهود الذلة والمسكنة؛ لأن كفرهم بالرسول عناداً.

والثاني من يعتقد طاعته ثم يخالف أمره بالمعاصي وهذا نوعان:

أحدهما: من يخالف أمره بالمعاصي التي يعتقد أنها معصية فله نصيب من الذلة والصغار، قال الحسن: إنهم وإن (طقطقت)(5) بهم البغال، و (هملجت)(6) بهم البراذين فإن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل

(1) النساء: 80.

(2)

المنافقون: 8.

(3)

فاطر: 10.

(4)

الحجرات: 13.

(5)

الطقطقة: صوت قوائم الخيل على الأرض الصلبة. "اللسان"(1/ 225).

(6)

الهملجة: فارسي معرب وهو حسن سير الدابة في سرعة. "اللسان"(2/ 393).

ص: 243

من عصاه. كان الإمام أحمد يدعو: اللهم أعزنا بعز الطاعة ولا تذلنا بذل المعصية. قال أبو العتاهية:

ألا إنما التقوى هي العز والكرم

وحبك للدنيا هو الذل والسقم

وليس على عبد تقي نقيصة

إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم

فأهل هذا النوع خالفوا الرسول من أجل داعي الشهوات.

النوع الثاني: من خالف أمره من أجل الشبهات وهم أهل الأهواء والبدع، فكلهم لهم نصيب من الذلة والصغار بحسب مخالفتهم لأوامره، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

} الآية (1).

وأهل الأهواء والبدع كلهم مفترون عَلَى الله، وبدعتهم تتغلظ بحسا كثرة افترائهم عليه، وقد جعل الله من حرم ما أحله الله أو حلل ما حرمه الله مفتريًا عليه بالكذب، ومن نسب إِلَى الله ما لا يجوز فنسبته إِلَيْهِ من تمثيل أو تعطل، أو كذَّب بأقداره فقد افترى عَلَى الله الكذب.

قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (2) قال سفيان: الفتنة أن يطبع الله عَلَى قلوبهم.

فهذا تغلظت عقوبة المبتدع عَلَى عقوبة العاصي؛ لأنّ المبتدع مفترٍ عَلَى الله، مخالفٌ لأمر رسوله لأجل هواه.

فأما مخالفة بعض أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم خطأ من غير عمد، مع الاجتهاد عَلَى متابعته، فهذا قد يقع [فيه](3) كثير من أعيان الأمة من علمائها وصلحائها،

(1) الأعراف: 152.

(2)

النور: 63.

(3)

ليست بالأصل، وأثبتها لمراعاة السياق.

ص: 244

ولا إثم فيه، بل صاحبه إذا اجتهد فله أجر عَلَى اجتهاده، وخطؤه موضوع عنه، ومع هذا فلم يمنع ذلك من علم أمر الرسول الَّذِي خالفه هذا: أن يبين للأمة أن هذا مخالف لأمر الرسول، نصيحة لله ولرسوله ولعامة المسلمين.

وهب أن هذا المخالف عظيم له قدر وجلالة، وهو محبوب للمؤمنين؛ إلا أن حق الرسول مقدم عَلَى حقه، وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.

فالواجب عَلَى كل من بلغه أمر الرسول وعرفه أن بيينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظم ويقتدى به من رأي معظم، قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ.

ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العُلَمَاء عَلَى كل من خالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد، لا بغضًا له؛ بل هو محبوب عندهم، معظم في نفوسهم؛ لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَحَبّ إليهم، وأمره فوق أمر كل مخلوق. فَإِذَا تعارض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وأمر غيره فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يقدم ويتبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره لأنّ كان مغفورًا له؛ بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه؛ بل يرضى بمخالفة أمره ومتابعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ظهر أمره بخلافه. كما أوصى الشافعي -إذا صح الحديث في خلاف قوله- أن يتبع الحديث ويترك قوله.

وكان يقول: ما ناظرت أحدًا فأحببت أن يخطئ، وما ناظرت أحدًا فباليت أظهرَ الحقُّ عَلَى لسانه أو عَلَى لساني.

لأنّ تناظرهم كان لظهور أمر الله ورسوله، لا لظهور نفوسهم ولا الانتصار لها. وكذلك المشايخ والعارفون كانوا يوصون بقبول الحق من كل من قال الحق صغيرًا أو كبيرًا، وينقادون لقوله.

قيل لحاتم الأصم: أنت رجل أعجمي لا تفصح، وما ناظرت أحدًا إلا قطعته، فبأي شيء تغلب خصمك؟ قال: بثلاث: أفرح إذا أصاب خصمي،

ص: 245

وأحزن إذا أخطأ، وأحفظ لساني عنه أن أقول ما يسوءه. فذكر ذلك للإمام أحمد، فَقَالَ: ما كان أعقله من رجل.

وقد روي عن الإمام أحمد أنه قِيلَ لَهُ: إِنَّ عبد الوهاب الوراق ينكر كذا وكذا، فَقَالَ: ما نزال بخير ما دام فينا من ينكر هذا. ومن هذا الباب قول عمر لمن قال له اتق الله يا أمير المؤمنين، فَقَالَ:"لا خير فيكم إذا لم تقولوها لنا، ولا خير فينا إذا لم نقبلها منكم".

وردَّت عليه امرأة مقالته، فرجع إليها وقال:"امرأة أصابت ورجل أخطأ" فلم يزل الناس بخير ما كان فيهم من يقول الحق ويبين أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم التي خالفها من خالفها وإن كان معذورًا مجتهدًا مغفورًا له، وهذا مما خص الله به هذه الأمة لحفظ دينها الَّذِي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم فإنها لا تجتمع عَلَى ضلالة بخلاف الأمم السابقة.

فهاهنا أمران:

أحدهما: أن من خالف أمر الرسول في شيء خطأ مع اجتهاده في طاعته ومتابعته أوامره؛ فإنه مغفور له لا تنقص درجته بذلك.

والثاني: أنه لا يمنع تعظيمه ومحبته من تبيين مخالفة قوله لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ونصيحة الأمة تبيين أمر الرسول لهم، ونفس ذلك الرجل المحبوب المعظم لو علم أن قوله مخالف لأمر الرسول؛ فإنه لأحب من يبين ذلك للأمة ويرشدهم إِلَى أمر الرسول، ويردهم في قوله في نفسه، وهذه النكتة تخفى عَلَى كثير من الجهال بسبب غلوهم في التقليد.

وظنهم أن الرد عَلَى معظم من عالم وصالح تنقص به، وليس كذلك، وبسبب الغفلة عن ذلك تبدل دين أهل الكتاب، فإنهم اتبعوا زلات علمائهم، وأعرضوا عما جاءت به أنبياؤهم، حتى تبدَّلَ دينهم؛ واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله. فأحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم. فكان كلما كان فيهم رئيس كبير

ص: 246

معظم مطاع عند الملوك قبل منه كل ما قال، ويحمل الناس الملوك عَلَى قوله.

وليس فيهم من يرد قوله، ولا يبين مخالفته للدين.

وهذه الأمة عصمها الله عن الاجتماع عَلَى ضلالة، فلا بد أن يكون فيهم من ييين أمر الله ورسوله، ولو اجتهدت الملوك عَلَى جمع الأمة عَلَى خلافه لم يتم لهم أمرهم. كما جرى مع المأمون والمعتصم والواثق، حيث اجتهدوا عَلَى إظهار القول بخلق القرآن، وقتلوا الناس وضربوهم وحبسوهم عَلَى ذلك، وأجابهم العُلَمَاء تُقْية وخوفًا، فأقام الله إمام المسلمين في وقتهم: أحمد بن حنبل، فرد باطلهم حتى اضمحل أمرهم، وصار الحق هو الظاهر في جميع بلاد الإسلام والسنة، ولم يكن الإمام أحمد يحابي أحدًا في مخالفة أمر الرسول وإن دق. ولو عظم مخالفه في نفوس الخلق. فقد تكلم في بعض أعيان مشايخ العِلْم والدين لمسألة أخطأها، فحمل أمره لا مات لم يصل عليه إلا نحو أربعة أنفس، وكان كلما تكلم في أحد سقط؛ لأنّ كلامه تعظيمِ لأمر الله ورسوله لا لهوى نفسه.

ولقد كان بشر الحافي يقول لمن سأله عن مرضه: أحمد الله إليكم، بي كذا وكذا. فنقل ذلك للإمام أحمد، وقالوا: هو يبدأ بالحمد قبل أن يصف مرضه، فَقَالَ أحمد: سلوه عمن أخذ هذا؟ يعني إِن كان هذا لم ينقل عن السلف فلا يقبل منه، فَقَالَ بشر: عندي فيه أثر، ثم روى بإسناده عن بعض السلف قال:"من بدأ بالحمد قبل الشكوى لم تكتب عليه الشكوى" فبلغ ذلك الإمام أحمد فقبل قوله.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"(1) فأمر الله رسوله بالرد عَلَى من خالف أمر الله ورسوله لا يتلقى إلا عمن عرف ما جاء به الرسول وخبره خبرة تامة. قال بعض الأئمة: لا يؤخذ العِلْم إلا عمن عرف بالطلب.

(1) أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) من حديث عائشة.

ص: 247

وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم نوعان: أمر ظاهر يعمل بالجوارح، كالصلاة والصيام والحج والجهاد ونحو ذلك، وأمر باطن يقوم به القلب، كالإيمان بالله ومعرفته، ومحبته وخشيته، وإجلاله وتعظيمه، والرضا بقضائه والصبر عَلَى بلائه، فهذا كله لا يؤخذ إلا ممن عرف الكتاب والسنة، ومن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا نقتدي به في علمنا، فمن تكلم عَلَى شيء من هذا مع جهله بما جاء به الرسول فهو داخل فيمن يفتري عَلَى الله الكذب، وفيمن يقول عَلَى الله ما لا يعلم، فإن كان مع ذلك لا يقبل الحق ممن ينكر عليه باطله لمعرفه ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بل ينتقص به وقال: أنا وارث حال الرسول، والعلماء وارثون علمه، فقد جمع هذا بين افتراء الكذب عَلَى الله، والتكذيب بالحق لما جاءه {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} (1) فإن هذا متكبر عَلَى الحق والانقياد له، منقاد لهواه وجهله، ضال مضل، وإنما يرث حال الرسول من علم حاله ثم اتبعه، فأما من لا علم له بحاله، فمن أين يكون وارثه؟!

ومثل هذا لم يكن ظهر في زمن السلف الصالح حتى يجاهدوا فيه حق الجهاد، وإنما ظهر هذا في زمن قل فيه العِلْم وكثر فيه الجهل، ومع هذا فلا بد أن يقيم الله من يبين للأمة ضلاله، وله نصيب من الذل والصغار بحسب مخالفته لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

يا لله! العجب لو ادعى رجل معرفة صناعة من صنائع الدُّنْيَا -ولم يعرفه الناس بها، ولا شاهدوا عنده آلاتها- لكذبوه في دعواه ولم يأمنوه عَلَى أموالهم، ولم يمكنوه من تلك الصناعة، فكيف بمن يدعي معرفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وما شوهد قط يكتب علم الرسول، ولا يجالس أهله ولا يدارسه؟! فللَّه العجب، كيف يقبل أهل العقول دعواه ويحكمونه في أديانهم يفسدها بدعواه الكاذبة.

(1) الزمر: 32.

ص: 248

إن كنت تنوح يا حمام البان

للبين فأين شاهد الأحزان

أجفانك للدموع أم أجفاني

لا يقبل مدع بلا برهان

ومن أعظم ما حصل به الذل من مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ترك ما كان عليه من مجاهدة أعداء الله؛ فمن سلك سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد عز، ومن ترك الجهاد مع قدرته عليه ذل. وقد سبق حديث:«إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَتَبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ مِنْ رِقَابِكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ» (1) ورأى النبي صلى الله عليه وسلم سكة الحرث فَقَالَ: "ما دخلت دار قوم إلا دخلها الذل" فمن ترك ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الجهاد مع قدرته واشتغل عنه بتحصيل الدُّنْيَا من وجوهها المباحة حصل له من الذل، فكيف إذا اشتغل عنه الجهاد بجمع الدُّنْيَا من وجوهها المحرمة؟!

قول صلى الله عليه وسلم: «وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» هذا يدل عَلَى أمرين:

أحدهما: النهى عن التشبه بأهل الشر مثل أهل الكفر والفسوق والعصيان، وقد وبخ الله من تشبه بهم في شىء من قبائحهم فَقَالَ تعالى:{فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} (2).

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التشبه بالمشركين وأهل الكتاب، فنهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وعلل بأنه "حينئذ يسجد لها الكفار" فيصير السجود فى ذلك الوقت تشبهًا بهم في الصورة الظاهرة، وقال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ» (3) وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم: «غَيِّرُوا

(1) تقدم تخريجه.

(2)

التوبة: 69 وذكر في الأصل: {فاستمتعوا بخلاقهم} فقط وأثبتنا بقية الآية وفيها موضع الشاهد.

(3)

البخاري (5899)، ومسلم (2103) من حديث أبي هريرة.

ص: 249

الشَّيْبَ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ» (1) وقال صلى الله عليه وسلم:«خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ» (2) وفي رواية: «وَأَرْخُوا اللِّحَى، خَالِفُوا الْمَجُوسَ» " (3) وقد أمر صلى الله عليه وسلم

بالصلاة في النعال مخالفة لأهل الكتاب. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا، لَا تَشَبَّهُوا بِاليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَ اليَهُودِ الإِشَارَةُ بِالكُفِّ»

خرجه الترمذي (4)، ونهى صلى الله عليه وسلم عن التشبه بهم في أعيادهم، وقال عبد الله بن عمر:"من أقام بأرض المشركين يصنع نيروزهم ومهرجانهم، وتشبه بهم حتى يموت حشر يوم القيامة معهم" وقال الإمام أحمد: أكره حلق القفا، هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم.

فالتشبه بالمشركين والمغضوب عليهم والضالين منهي عنه، ولا بد من وقوعه في هذه الأمة كما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم حيث قال:«لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ» (5).

قال ابن عيينة: كان يقال: من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى.

ووجه هذا أن الله ذم علماء اليهود بأكل السحت، وأكل الأموال بالباطل والصد عن سبيل الله، وبقتل النبيين بغير الحق، وبقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس، وبالتكبر عن الحق وتركه عمدًا خوفًا من زوال المأكل والرياسات، وبالحسد وبقسوة القلب، وبكتمان الحق، وتلبيس الحق بالباطل، وكل هذه

(1) أخرجه أحمد (1/ 165)، والنسائي (8/ 137) من حديث الزبير بن العوام.

وأخرجه النسائي (8/ 137) من حديث ابن عمر.

وأخرجه الترمذي (1752) من حديث أبي هريرة.

(2)

أخرجه البخاري (5892)، ومسلم (259) من حديث ابن عمر.

(3)

أخرجه مسلم (260)، وأحمد (2/ 365، 366).

(4)

برقم (2695).

(5)

أخرجه أحمد (2/ 450، 327)، وابن ماجه (3994) من حديث أبي هريرة.

ص: 250

الخصال توجد في علماء السوء من أهل البدع ونحوهم. ولهذا شبهت الرافضة اليهود في نحو من سبعين خصلة.

وأما النصارى فذمهم الله بالجهل والضلال، وبالغلو في الدين بغير الحق، ورفع المخلوق في درجة لا يستحقها، حتى تدعى فيه الألهية. وإتباع الكبراء في التحليل والتحريم. وكل هذا يوجد في جهال المنتسبين إِلَى العبادة من هذه الأمة.

فمنهم من تعبد بالجهل بغير علم؛ بل يذم العِلْم وأهله، ومنهم من يغلو في بعض الشيوخ فيدعي فيه الحلول، ومنهم يدعي الحلول المطلق والاتحاد، ومنهم من يغلو فيمن يعتقده من الشيوخ كما تغلو النصارى في رهبانهم وتعتقد أن لهم أن يغلو في الدين ما شاءوا، وأن من رضي عنه غفر له، ولا يبالي بما عَمِلَ من عَمِلَ، وأن محبتهم لا يضر معها ذنب.

وقد كان الشيوخ العارفون ينهون عن صحبة الأشرار، وأن ينقطع إِلَى الله بصحبة الأخيار، فمن صحب الأخيار بمجرد التعظيم لهم والغلو فيهم زائدٌ عن الحد وأعلق قلبه بهم؛ فقد انقطع عن الله بهم، وإنما المراد من صحبة الأخيار أن يوصلوا من صحبهم إِلَى الله ويسلكوا طريقه ويعلموه دينه.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث أهله وأصحابه عَلَى التمسك بالطاعة ويقول: «اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا» (1) وقال: [لأهله]: "إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَا يَأْتِيَ النَّاسُ بِالْأَعْمَالِ وَتَأْتُونَ بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ فتقولون: يَا مُحَمَّدُ؟ فَأَقُولُ: قَدْ بلَّغْتُ» (2) ولما سأله ربيعة الأسلمي مرافقته في الجنة قال له: «أَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» (3).

فإنما يراد من صحبة الأخيار صلاح الأعمال والأحوال والاقتداء بهم في

(1) أخرجه البخاري (2753)، ومسلم (206).

(2)

البخاري في "الأدب المفرد"(ص 31).

(3)

أخرجه أحمد (4/ 59).

ص: 251

ذلك، والانتقال من الغفلة إِلَى اليقظة، ومن البطالة إِلَى العمل، ومن التخليط إِلَى التكسب [ومن](1) القول والفعل إِلَى الورع، ومعرفة عيوب النفس وآفاتها واحتقارها، فأما من صحبهم وافتخر بصحبتهم وادعى بذلك الدعاوى العريضة وهو مصر عَلَى غفلته وكسله وبطالته، فهو منقطع عن الله من حيث ظن الوصول إِلَيْهِ، كذلك المبالغة في تعظيمِ الشيوخ وتنزيلهم منزلة الأنبياء هو مما نهي عنه.

وقد كان عمر وغيره من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يكرهون أن يطلب منهم الدعاء ويَقُولُونَ: "أنبياء نحن؟! " فدل عَلَى أن هذه المنزلة لا تنبغي إلا للأنبياء عليهم السلام وكذلك التبرك بالآثار ولما كان يفعله الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يفعلونه مع بعضهم بعضًا، ولا يفعله التابعون مع الصحابة مع علو قدرهم.

فدل عَلَى أن هذا لا يفعله يترقى إِلَى نوع من الشرك، كل هذا إِنَّمَا جاء من التشبه بأهل الكتاب والمشركين الَّذِي نُهِيَتْ عنه هذه الأمة إلا مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل التبرك بوضوئه (2) وفضلاته صلى الله عليه وسلم وشعره وشرب فضل شرابه وطعامه.

وفي الجملة هذه الأشياء فتنة للمعظِّم والمعظَّم لما يخشى عليه من الغلو المدخل في البدعة. وربما يترقى إِلَى نوع من الشرك كل هذا إِنَّمَا جاء من التشبه بأهل الكتاب والمشركين الَّذِي نهيت هذه الأمة عنه.

وفي الحديث الَّذِي في "السنن": «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ، السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ، وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ» (3) فالغلو من صفات النصارى، والجفاء من صفات اليهود، والقسط هو المأمور به.

(1) ليست بالأصل، وأثبتها لمناسبة السياق.

(2)

في "الأصل": بوطئه، والمثبت أنسب للسياق.

(3)

أخرجه أبو داود (4843).

ص: 252

وقد كان السلف الصالح ينهون عن تعظيمهم غاية النهي كمالك والثوري وأحمد. وكان أحمد يقول: من أنا حتى تجيئون إِلَى؟ اذهبوا اكتبوا الحديث، وكان يقول: إذا سئل عن شيء، يقول: سلوا العُلَمَاء. وإذا سئل عن شيء من الورع يقول: أنا لا يحل لي أن أتكلم في الورع، لو كان بشر حيًّا تكلم في هذا.

وسئل مرة عن الإخلاص، فَقَالَ: اذهبوا إِلَى الزهاد، وأي شيء نحن حتى تجيء إلينا؟ وجاء إِلَيْهِ رجل فمسح يده عَلَى ثيابه ومسح بهما وجهه، فغضب الإمام أحمد، وأنكر ذلك أشد الإنكار، وقال: عمن أخذتم هذا الأمر؟!

الثاني: التشبه بأهل الخير والتقوى والإيمان والطاعة، فهذا حسن مندوب إِلَيْهِ، ولهذا يشرع الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وآدابه وأخلاقه. وذلك مقتضى المحبة الصحيحة، فإن المرء مع من أَحَبّ، ولابد من مشاركته في أصل عمله وإن قصر عن درجته.

قال الحسن: لا تغتر بقولك: المرء مع من أَحَبّ، إنه من أَحَبّ قومًا اتبع آثارهم، ولن تلحق بالأبرار حتى تتبع آثارهم، وتأخذ بهديهم، وتقتدي بسنتهم، وتصبح وتمسي وأنت عَلَى منهاجهم، حريصًا أن تكون منهم، وتسلك سبيلهم، وتأخذ طريقهم، وإن كنت مقصرًا في العمل؛ فإن مَلاكَ الأمرِ أن تكون عَلَى استقامة، أما رأيت اليهود والنصارى وأهل الأهواء المردية يحبون أنبياءهم ليسوا معهم؛ لأنهم خالفوهم في القول والعمل، وسلكوا غير طريقتهم فصار مأواهم النار؟ نعوذ بالله من النار.

كان يونس بن عبيد ينشد:

فَإِنَّكَ مَنْ يُعْجِبْكَ لا تَكُ مِثْلَهُ

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَصْنَعْ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ

ص: 253

وجاء في الحديث: «ابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا» (1).

فمن أَحَبّ أهل الخير وتشبه بهم جهده؛ فإنه يلحق بهم كما في الحديث المشهور: "مَنْ حَفِظَ أَرْبَعِينَ حَدِيثا حشر يَوْم الْقِيَامَة فِي زمرة الْعُلَمَاء"(2) ومن أَحَبّ أهل الطاعة والذكر -عَلَى وجه السنة- وجالسهم فإنه يغفر له معهم وإن لم يكن منهم «فإِنَّهُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» .

فأما التشبه بأهل الخير في الظاهر، والباطن لا يشبههم فهو بعيد منهم، وإنما القصد بالتشبه أن يقال عن المتشبه بهم أنه منهم وليس منهم، فهذه خصال النفاق، كما قال بعض السلف: استعيذوا بالله من خشوع النفاق أن يرى الجسد خاشعًا، والقلب ليس بخاشع.

كان السلف يجتهدون في أعمال الخير ويعدون أنفسهم من المقصرين المفرطين المذنبين، ونحن مع إساءتنا نعد أنفسنا من المحسنين!

كان مالك بن دينار يقول: إذا ذكر الصالحون: "أف لي وتف" وقال أيوب: "إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل".

وقال يونس بن عبيد: "أعد مائة خصلة من خصال الخير ليس فيَّ منها واحدة".

وقال محمد بن واسع: "لو أن للذنوب رائحة لم يستطع أحد أن يجلس إليَّ".

يا من إذا تشبه بالصالحين فهو عنهم متباعد، وإذا تشبه بالمذنبين فحاله وحالهم واحد، يا من يسمع ما تلين به الجوامد وطرفه جامد، وقلبه أقسى من الجلامد، يا من برد قلبه عن التقوى، كيف ينفع الضرب في حديد بارد؟

(1) أخرجه ابن ماجه (4196) من حديث سعد بن أبي وقاص.

(2)

أخرجه ابن عدي في "الكامل"(5/ 150)، (6/ 222)، (7/ 66) من حديث أبي هريرة.

ص: 254

يا نفس أنى تؤفكينَا

حتى متى لا ترعوينَا

حتى متى لا تعقلينا

وتبصرين وتسمعينا

يا نفس إن لم تصلحي

فتشبهي بالصالحينا

آخره ولله الحمد، والمنة، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

***

ص: 255

ذم قسوة القلب

ص: 257

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام العلامة الحافظ زين الدين ابن الشيخ أبو العباس أحمد بن رجب - فسح الله في مدته ونفع به:

الْحَمْدُ لِلَّهِ

رسالةٌ في ذمِّ قسوة القلب وذكر أسبابها وما تَئول به.

أمَّا ذمُّ القسوة، فَقَالَ تعالى:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (1).

ثم بَيَّن وجه كونها أشدّ قسوة، بقوله:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (1).

وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} (2).

وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (3) فوصف أهل الكتاب بالقسوة، ونهانا عن التشبه بهم.

قال بعضُ السلف: لا يكون أشدّ قسوة من صاحب الكتاب إذا قسا.

وفي "الترمذي"(4)، من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تُكْثِرُوا الْكَلَامَ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الْكَلَامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ قَسْوَةٌ لِلْقَلْبَ، وَإِنَّ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنِ اللَّهِ الْقَلْبُ الْقَاسِي» (4).

(1) البقرة: 74.

(2)

الحديد: 16.

(3)

الزمر: 22.

(4)

برقم (2411) من طريق إبراهيم بن عبد الله بن حاطب عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر

فذكره.=

ص: 259

وفي "مسند البزَّار"(1)، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَرْبَعَةٌ مِنَ الشَّقَاءِ: جُمُودُ الْعَيْنِ، وَقَسَاوَةُ الْقَلْبِ، وَطُولُ الأَمَلِ، وَالْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا".

وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات"(2)، من طريق أبي داود النخعي الكذَّاب، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس.

وقال مالك بن دينار: ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب. ذكره عبدُ الله بن أحمد في "الزهد"(3).

وقال حُذيفة المرعشي: ما أصيب أحدٌ بمصيبة أعظم من قساوة قلبه. رواه أبو نُعيم (4).

=قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن عبد الله بن حاطب.

وفي "تحفة الأشراف"(5/ 445): غريب.

ونقل ابن كثير في "تفسيره" قول الترمذي (غريب).

قال الذهبي في "ميزان الاعتدال"(1/ 161) في ترجمة إبراهيم بن عبد الله بن حاطب: ومن غرائبه حديثه عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر مرفوعًا ثم ذكر هذا الحديث، ثم قال: قال الترمذي: حسن غريب.

(1)

أخرجه البزار كما فى "كشف الأستار"(3230) من طريق هانئ بن المتوكل ثنا عبد الله بن سليمان وأبان عن أنس به. وقال البزار: عبد الله بن سليمان حدث بأحاديث، لم يتابع عليه، وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 226) رواه البزار وفيه هانئ بن المتوكل وهو ضعيف. وقال الذهبي في "الميزان" (4/ 291): هذا حديث منكر.

ورواه ابن عدي في "الكامل"(3/ 248) من طريق سليمان بن عمرو بن وهب عن إسحاق ابن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس.

وقال ابن عدي عَلَى هذا الحديث وغيره: وهذان الحديثان وضعهما سليمان بن عمرو عَلَى إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة.

وأخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 175) من طريق حجاج بن منهال عن صالح المري عن يزيد الرقاشي عن أنس به.

وقال: تفرد برفعه متصلاً عن صالح حجاج.

(2)

"الموضوعات"(3/ 125).

(3)

"الزهد"(320).

(4)

في "الحلية"(8/ 269).

ص: 260

وأمَّا أسبابُ القسوة فكثيرة:

منها: كثرةُ الكلام بغير ذكر الله؛ كما في حديث ابن عمر السابق.

ومنها: نقض العهد مع الله تعالى - قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} (1).

قال ابنُ عقيل يومًا في وعظه: يا من يجد من قلبه قسوة، احذر أنْ تكون نقضت عهدًا؛ فإنَّ الله يقول:{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} الآية (1).

ومنها: كثرةُ الضَّحك؛ ففي الترمذي (2)، عن الحسن، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لاً تُكْثِرُوا الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» وقال: روي عن الحسن قوله.

وخرج ابنُ ماجه (3)، من طريق أبي رجاء الجَزَري، عن برد بن سِنان، عن مكحول، عن واثلة بن الأسقع، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ» .

(1) المائدة: 13.

(2)

أخرجه الترمذي برقم [2305]، وأحمد في "مسنده"(2/ 310)، وأبو يعلى في "مسنده" برقم [6240]، والطبراني في "الأوسط" برقم [7054]، والبيهقي في "الشعب" برقم [9543]، [11128]، وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 295) كلهم من طريق جعفر بن سليمان عن أبي طارق عن الحسن به مطولاً.

قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سلمان، والحسن لم يسمع من أبي هريرة شيئًا، هكذا رُوِي عن أيوب ويونس بن عبيد وعلي بن زيد، قالوا: لم يسمع الحسن من أبي هريرة، وروى أبو عبيدة الناجي عن الحسن هذا الحديث قوله، ولم يذكر فيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال أبو نعيم في "الحلية"(6/ 295): غريب من حديث الحسن، تفرد به جعفر عن أبي طارق.

وقال العجلوني في "كشف الخفا"(1/ 44): رواه أحمد والترمذي بسند ضعيف.

(3)

برقم (4217) من طريق مكحول عن واثلة به مطولاً.

وذكر الدارقطني في "العلل"(7/ 263 - 265) برقم [1339] الاختلاف في هذا الحديث، ثم قال: والحديث غير ثابت.

ص: 261

ومن طريق إبراهيم بن عبد الله بن حنين، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم (1).

ومنها: كثرةُ الأكل، ولا سيما إِنْ كان من الشُّبهات أو الحرام؛ قال بشر ابن الحارث: خصلتان تُقسِّيان القلب، كثرةُ الكلام وكثرة الأكل. ذكره أبو نُعيم (2).

وذكر المروذي في كتاب الورع، قال: قلتُ لأبي عبد الله -يعني أحمد بن حنبل-: يجد الرجلُ من قَلبه رقَّة وهو شبع؟ قال: ما أرى.

ومنها: كثرةُ الذنوب؟ قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (3).

وفي "المسند"، والترمذي، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يَعْلُوَ قَلْبَهُ، فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ فِي كِتَابِهِ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (3) "وقال الترمذي: صحيح (4).

قال بعضُ السلف: البدن إذا عري رقَّ، وكذلك القلب إذا قلت خطاياه أسرعت دمعتهُ.

(1) أخرجه ابن ماجه (4193).

(2)

"الحلية"(8/ 350).

(3)

المطففين: 14.

(4)

رواه أحمد (2/ 297)، والترمذى برقم [3334]، والنسائي في "الكبرى"(6/ 110)، وابن ماجه برقم [4244]، والطبري في "تفسيره"(1/ 112)، (30/ 98)، الحاكم (2/ 562)، والبيهقي في "السنن الكبير"(10/ 88)، وفي "الشعب" برقم [7203] من طرق عن ابن عجلان عن القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة

فذكره.

قال الترمذي: حسن صحيح.

وقال الحاكم: صحيح عَلَى شرط مسلم ولم يخرجاه.

ص: 262

وفي هذا المعنى يقول ابن المبارك رحمه الله:

رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ

وَيُتْبِعُهَا الذُّلَّ إِدْمَانُهَا

وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ

وَالْخَيْرُ لِلنَّفْسِ عِصْيَانهَا

وأمَّا مزيلاتُ القسوة، فمتعددة أيضاً:

فمنها: كثرةُ ذكر الله الَّذِي يتواطأ عليه القلب واللسان؛ قال المعلَّى بن زياد: إِنَّ رجلاً قال للحسن: يا أبا سعيد، أشكو إليك قسوه قلبي، قال: أدنه من الذكر.

وقال وهب بن الورد: نظرنا في هذا الحديث، فلم نجد شيئًا أرق لهذه القلوب ولا أشد استجلابًا للحق من قراءة القرآن لمن تدبره.

وقال يحيى بن مُعاذ، وإبراهيم الخواص: دواءُ القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتفكر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرَّع عند السحر، ومجالسة الصالحين.

والأصل في إزالة قسوة القلوب بالذكر قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (1).

وقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (2)، وقال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} (3).

(1) الرعد: 28.

(2)

الزمر: 23.

(3)

الحديد: 16.

ص: 263

وفي حديث عبد العزيز بن أبي روَّاد مُرسلاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد. قيل: فما جلاؤها يا رسول الله؟ قال: تلاوةُ كتاب الله وكثرة ذكره"(1).

ومنها: الإحسانُ إِلَى اليتامى والمساكين؛ روى ابن أبي الدنيا: ثنا علي بن الجعد، حدثني حماد بن سلمة، عن أبي عمران الجوني، عن أبي هريرة":"أَنَّ رَجُلًا، شَكَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ: "إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ فَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ وَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ". إسناده جيد (2).

وكذا رواه ابنُ مهدي عن حمَّاد بن سلمة، ورواه جعفر بن مُسافر: ثنا مُؤمَّل، نا حماد، عن أبي عمران، عن عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا كأنَّه غيرُ محفوظ عن حمَّاد.

(1) أخرجه ابن عدي في "الكامل"(1/ 259)، (5/ 283)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 197)، والبيهقي في "الشعب" برقم [2014]، والخطب في "تاريخه"(11/ 85)، والقضاعي في "مسند الشهاب" برقم [178، 1179]، وابن الجوزي في "العلل المتناهية"(2/ 832) من طريق عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا.

قال ابن عدي عن الواسطي: ولم أر للمتقدمين فيه كلامًا، وإنما ذكرته لأحاديث رواها مناكير عن قوم ثقات.

ونقل الخطيب قول الدارقطني: الغسانى متروك يكذب، ونقله كذلك ابن الجوزي في "العلل"، والذهبي في "الميزان".

وقال أبو نعيم: غريب من حديث نافع وعبد العزيز، تفرد به أبو هشام واسمه عبد الرحيم بن هارون الواسطي.

وقال ابن الجوزي: هذا حديث مشهور بعبد العزيز، معروف برواية عبد الرحيم بن هارون الغساني عنه، وقد سرقه منه إبراهيم. فأما عبد العزيز، فَقَالَ ابن حبان: كان يحدث عَلَى التوهم والنسيان، فسقط الاحتجاج به، وأما عبد الرحيم، فَقَالَ الدارقطني: متروك الحديث. وأما إبراهيم بن عدي كان يحدث بالمناكير. قال: وعندي أنه يسرق الحديث.

وقال الذهبي في "الميزان" عن الواسطي: وله عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا إِنَّ هذه القلوب ..... رواه حفص بن غياث عن عبد العزيز قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره منقطعًا.

(2)

وأخرجه أحمد (2/ 263).

ص: 264

ورواه الجوزجاني: ثنا محمد بن عبد الله الرّقاشي، ثنا جعفر، ثنا أبو عمران الجوني مُرسلاً (1)، وهو أشبه، وجعفر أحفظ لحديث أبي عمران من حمَّاد بن سلمة.

وروى أبو نعيم (2)، من طريق عبد الرزاق، عن معمر (3)، عن صاحب له: أنَّ أبا الدرداء كتب إِلَى سلمان: "ارْحَمِ الْيَتِيمَ وَأَدنِهِ مِنْكَ، وَأَطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِكَ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ يَشْتَكِي قَسَاوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ:«أَتُحِبُّ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ؟ فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ. فَقَالَ: «أَدْنِ الْيَتِيمَ مِنْكَ، وَامْسَحْ رَأْسِهِ، وَأَطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُلَيِّنُ قَلْبَكَ وَتَقْدِرُ عَلَى حَاجَتِكَ» .

قال أبو نُعيم: ورواه ابن جابر والمُطعم بن المقدام، عن محمَّد بن واسع أنَّ "أبا الدرداء كتب إِلَى سلمان .... " مثله.

ونقل أبو طالب أنَّ رجلاً سأل أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- فَقَالَ له: كيف يرقُّ قلبي؟ قال: ادخل المقبرة، وامسح رأس اليتيم.

ومنها: كثرةُ ذكر الموت؛ ذكر ابنُ أبي الدُّنْيَا بإسناده، عن منصور بن عبد الرحمن، عن صفية "أنَّ امرأة أتت عائشة لتشكو إليها القسوة. فقالت: أكثري ذكر الموت، يرق قلبك وتقدرين عَلَى حاجتك. قالت: ففعلت، فآنست من قلبها رشدًا، فجاءت تشكر لعائشة رضي الله عنها".

وكان غيرُ واحد من السلف، منهم سعيد بن جُبير، وربيع بن أبي راشد يَقُولُونَ: لو فارق ذكرُ الموت قلوبنا ساعة لفسدت قلوبُنا.

(1) في الأصل: "مرسل".

(2)

"الحلية"(1/ 214) بهذا الإسناد مطولاً وقال: رواه ابن جابر والمطعم بن المقدام عن محمد بن واسع أن أبا الدرداء كتب إِلَى سلمان مثله.

قلت: ورواية محمد بن واسع عند البيهقي فى "الشعب" برقم [10657].

(3)

"الجامع" لمعمر بن راشد (11/ 97 مع المصنف) برقم [20029].

ص: 265

وفي "السُّنن"(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» الموت.

وروي مُرسلاً عن عطاء الخراساني قال: "مر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمجلس قد استعلاه الضحك فَقَالَ: شُوبوا مجلسكم بذكر مكدّر اللذات. قالوا: وما مُكدر اللذات يا رسول الله؟ قال: الموت".

ومنها: زيارةُ القبور بالتفكر في حال أهلها ومصيرهم؛ وقد سبق قولُ أحمد للذي سأله ما يُرقُّ قلبي؟ قال: ادخل المقبرة.

وقد ثبت في "صحيح مسلم"(2)، عن أبي هريرة"، عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«زُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ المَوْت» .

وعن بُريدة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْآخِرَةَ» رواه أحمد (3)، والترمذي وصححه.

وعن أنس، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"كُنْتُ قَّدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، ثُمَّ قَّدْ بَدَا لِي [أَنَّهَا] (*) تُرِقُّ الْقَلْبَ وَتُدْمِعُ الْعَيْنَ وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ، فَزُورُوهَا وَلاً تَقُولُوا هُجْرًا" رواه الإمام أحمد (4)، وابن أبي الدُّنْيَا.

وذكر ابنُ أبي الدُّنْيَا، عن محمد بن صالح التمار قال: كان صفوانُ بن سليم يأتي البقيع في الأيام فيمر بى، فاتبعته ذات يوم. وقلت: والله لأنظرنَّ ما يصنع. قال: فقنَّع رأسه وجلس إِلَى قبر منها، فلم يزل يبكي حتى رحمته.

قال: ظننتُ أنه قبر بعض أهله. قال: فمر بي مرة أخرى، فاتبعته [فقعد](**)

(1) أخرجه أحمد (2/ 292)، والترمذي (2307)، والنسائي (4/ 4)، وابن ماجه (4258).

(2)

برقم (976).

(3)

أخرجه أحمد (5/ 356، 359، 361)، ومسلم (672)، (3/ 564، 1585)، والترمذي (1054، 1510، 1869).

(*) في الأصل: أنه. والمثبت من "المسند".

(4)

(3/ 237، 250).

(**) في الأصل: "فقعدت".

ص: 266

إِلَى جنب قبر غيره. ففعل مثل ذلك فذكرتُ ذلك لمحمد بن المنكدر، وقلتُ: إِنَّمَا ظننتُ أنه قبر بعض أهله. فَقَالَ محمد: كلهم أهله وإخوانه، إِنَّمَا هو رجل يحرك قلبه بذكر الأموات، كلّما عرضت له قسوةٌ. قال: ثم جعل محمد بن المنكدر بعد يمرّ بي فيأتي البقيع، فسلَّمت عليه ذات يوم، فَقَالَ: ما نفعتك موعظة صفوان. قال: فظنت أنه انتفع بما ألقيتُ إِلَيْهِ منها.

وذكر أيضاً أنَّ عجوزًا مُتَعبِّدة من عبد القيس كانت تُكثر إتيان القبور، فعُوتبت في ذلك. فقالت: إِنَّ القلب القاسي إذا جفا لم يليِّنه إلَاّ رسوم البلى، وإنِّي لآتي القبور وكأني أنظر إليهم وقد خرجوا من بين أطباقها، وكأني أنظر إِلَى تلك الوجوه المتعفِّرة، وإلى تلك الأجسام المتغيِّرة، وإلى تلك الأكفان الدنسة. فيا له منظر لم أَسرّ به (1) قلوبهم، ما أنكل (2) مرارة الأنفس وأشد تلفة الأبدان.

وقال زياد النميري: ما اشتقت إِلَى البكاء إلَاّ مررت عليه. قال له رجل: وكيف ذلك؟ قال: إذا أردتُ ذلك خرجت إِلَى المقابر فجلست إِلَى بعض تلك القبور، ثم فكَّرتُ فيما صاروا إِلَيْهِ من البلى، وذكرت ما نحن فيه من المُهلة. قال: فعند ذلك تختفي أطوَاري!

وقلتُ والله الموفَّق:

أفي دار الخراب تظل تبني

وتعمر ما لعمران خُلقتا

وما تركت لك الأيامُ عذرًا

لقد وعظتك لكن ما اتعظتا

تُنادي للرحيل بكل حين

وتُعلن إنَّمَا المقصودُ أنتا

وتُسمعك النداءَ وأنت لاهٍ

عن الداعي كأنَّك ما سمعتا

وتعلم أنَّه سفرٌ بعيد

وعن إعداد زادٍ قد غفلتا

(1) بياض بقدر كلمة.

(2)

في الأصل: "نكل".

ص: 267

تنام وطالب الأيام ساعٍ

وراءك لا ينام فكيف نمتا

معائب هذه الدُّنْيَا كثير

وأنت عَلَى محبَّتها طُبعتا

يضيع العمرُ في لعبِ ولهو

ولو أُعطيت عقلاً ما لعبتا

فما بعد الممات سوى جحيمٍ

لعاص أو نعيم إِنْ أطعتا

ولست بآمل باطلٍ ردًّا لدنيا

فتعملُ صالحًا فِيما تركتا

وأوَّلُ من ألوم اليوم نفسي

فقد فعلتْ نظائرَ ما فعلتا

أيا نفسي أخوضًا في المعاصي

وبعد الأربعين وفيت ستّا

وأرجو أن يطول العمرُ حتى

أرى زاد الرحيل وقد تأتَّى

أيا غُصن الشباب تميل زهوًا

كأنك قد مضى زمن وشبتا

علمتَ فدع سبيلَ الجهل واحذر

وصيحة قد علمتَ وما عملتا

ويا من يجمع الأموال قل لي

أيمنعك الزدى ما قد جمعتا

ويا من يبتغي أمرًا مطاعًا

ليسمع [نافذًا](1) مَن قد أمرتا

عججت إِلَى الولاية لا تُبالي

أجرت عَلَى البرية أم عدلتا

ألا تدري بأنك يوم صارت

إليك بغير سكين ذُبحتا

وليس يقوم فرحةُ قد تولَّى

بترحة يوم تسمع قد عُزلتا

ولا تمهل فإن الوقت سيف

فإنْ لم تغتنمه فقد أضعتا

ترى الأيام تُبلي كل غُصن

وتطوي مِن سرورك ما نشرتا

وتعلم إنَّما الدُّنْيَا منام

فأحلى ما تكون به انتبهتا

فكيف تصدّ عن تحصيل باق

وبالفاني وزخرفه شُغلتا

هي الدُّنْيَا إذا سرتك يومًا

تسوءك ضعف ما فيها سررتا

تغرّك كالسراب فأنت تسري

إليه وليس تشعر (2) قد غررتا

واشهد كم أبادت من حبيب

كأنك آمن مما شهدتا

وتدفنهم وترجع ذا سُرور

بما قد نلت من إرث وحرثا

(1) في الأصل: "نافذ".

(2)

زاد في الأصل: "أن".

ص: 268

وتنساهم وأنت غدًا ستفنى

كأنك ما خلقت ولا وجدتا

تُحدِّث عنهم وتقول كانوا

نعم كانوا كما والله كنتا

حديثك هم وأنت غدًا حديث

لغيرهم فأحسن ما استطعتا

يعود المرء بعد الموت ذكرًا

فكن حسن الحديث إذا ذكرتا

سل الأيام عن عم وخال

ومالك والسؤال وقد علمتا

ألست ترى ديارهم خلاء

فقد أنكرت منها ما عرفتا

ومنها: النظرُ في ديار الهالكين، والاعتبار بمنازل الغابرين.

روى ابنُ أبي الدُّنْيَا في كتاب "التفكر والاعتبار"، بإسناده عن عُمر بن سليم الباهلي، عن أبي الوليد، أنَّه قال: كان ابن عمر إذا أراد أنْ يتعاهد قلبَه يأتي الخربة فيقف عَلَى بابها، فيُنادي بصوت حزين، فيقول: أَين أهلك؟ ثم يرجع إِلَى نفسه، فيقول: كل شيء هالكٌ إلَاّ وجهه".

وروى في كتاب "القبور" بإسناده، عن محمَّد بن قُدامة قال: كان الرَّبيعُ ابن خُثيم إذا وجد من قلبه قسوةً يأتي منزل صديق له قد مات في الليل فيُنادي: يا فُلان ابن فلان، يا فلان ابن فلان. ثم يقول: ليت شِعري، ما فعلتَ وما فُعل بك؟ ثم يبكي حتى تسيل دموعه، فيعرف ذاك فيه إِلَى مثلها.

ومنها: أكلُ الحلال؛ روى أبو نُعيم وغيرهُ، من طريق عُمر بن صالح الطرسوسي، قال: ذهبتُ أنا ويحيى الجلاء -وكان يقال إنّه من الأبدال- إِلَى أبي عبد الله أحمد بن حنبل فسألتُه، وكان إِلَى جنبه بوران وزُهير الجمال، فقلت: رحمك الله يا أبا عبد الله، بم تلين القلوبُ؟ فنظر إِلَى أصحابه فغمزهم بعينه، ثم أطرق ثم رفع رأسه، فَقَالَ: يا بني بأكل الحلال. فمررتُ كما أنا إِلَى أبي نصر بشر بن الحارث، فقلتُ له يا أبا نصر، بم تلين القلوب؛ فَقَالَ: ألا

ص: 269

بذكر الله تطمئن القلوب. قلت: فإني جئتُ من عند أبي عبد الله قال: هيه.

أي شي قال لك أبو عبد الله؟ قلت: قال: بأكل الحلال. فَقَالَ: جاء بالأصل، جاء بالأصل. فمررتُ إِلَى عبد الوهاب الوراق، فقلتُ: يا أبا الحسن بم تلين القلوب؟ فَقَالَ: ألا بذكر الله تطمئن القلوب. قلت: [فإني جئتُ من عند](1) أبي عبد الله. فاحمرت وجنتاه من الفرح. فَقَالَ لي: أي شيءٍ قال أبو عبد الله؟ قلتُ: بأكل الحلال. فَقَالَ: جاءك بالجوهر، جاءك بالجوهر، الأصل كمال الأصل.

قال بعضهم عنه: لقد حكيت ولكن فاتك الأنسب.

والحمد لله وحده.

(1) في الأصل: "فبأي شيء جئت من".

ص: 270

ذم الخمر

ص: 271

بسم الله الرحمن الرحيم

قال زين الدين ابن رجب رحمه الله:

خرّج الدّارقطني (1) بإسناد ضعيف من حديث ابن عباس مرفوعًا: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، مَنْ شَرِبَهَا وَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ» .

قال عثمان: وروي مرفوعًا والصحيح وقفه قال: "اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ أُمُّ الْخَبَائِثِ، فَإِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، كَانَ يَتَعَبَّدَ وَيَعْتَزِلُ النَّاسَ، فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ غَاوِيَةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ خَادِمَتَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّهَا تَدْعُوكَ لِشَهَادَةٍ، فَدَخَلَ؛ فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ، وَعِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا دَعَوْتُكَ لِتَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ، أَوْ تَقَعَ عَلَيَّ، أَوْ تَشْرَبَ كَأْسًا، فَإِنْ أَبَيْتَ صِحْتُ وَفَضَحْتُكَ، فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُ لَابدّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ لَهَا: اسْقِينِي كَأْسًا، فَسَقَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: زِيدِينِي، فَلَمْ يَرِمْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ الْغُلَامَ. فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ، فَإِنَّهُ لاً يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ فِي صَدْرِ رَجُلٍ أَبَدًا، يُوشِكُ أَحَدُهُمَا أَنْ يُخْرِجَ صَاحِبَهُ"(2).

وفي الدارقطني (3) أيضاً عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ» .

وروي عنه أيضاً أنه قال: "وَجَدُّتُهُ فِي التَّوْرَاةِ".

وفي "مسند ابن وهب" عنه مرفوعًا: «هِيَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ وَأُمُّ الْفَوَاحِشِ، فَلَا تَشْرَبُواْ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا مُفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ، وَمَنْ شَرِبَهَا تَرَكَ الصَّلَاةَ، وَوَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ» .

(1)"سنن الدارقطني"(4/ 247).

(2)

أخرجه النسائي (5666).

ورجح وقفه أبو زرعة كما في "العلل" لابن أبي حاتم (2/ 35) والدارقطني في "العلل"(3/ 41).

(3)

"سنن الدارقطني"(4/ 247).

ص: 273

وفي حديث معاذ في "المسند"(1): "لا تشربنّ خمرًا فإنها رأس كل فاحشة".

وعن عُثْمَان قال: "الْخَمْرُ مَجْمَعُ الْخَبَائِثِ، ثم أنشأ يحدث أن رجلاً خُيِّر بين أن يقتل صبيًّا أو يمحو كتابًا أو يشرب خمرًا، فاختار أن يشرب الخمر، فما هو إلا أن شربها حتى صنعهنّ جميعًا".

وعن عُثمان قال: "إياك والخمر فإنها مفتاح كلّ شرّ".

"أُتَى رَجُلٌ فَقِيلَ لَهُ: إِمَّا أَنْ تَحْرِقَ هَذَا الْكِتَابَ، وَإِمَّا أَنْ تَقْتُلَ هَذَا الصَّبِيَّ، وَإِمَّا أَنْ تَسْجُدَ لِهَذَا الصَّلِيبِ، وَإِمَّا أَنْ تَفْجُرَ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ، وَإِمَّا أَنْ تَشْرَبَ هَذَا الْكَأسَ، فَلَمْ يَرَ فِيهَا شَيْئًا أَهْوَنَ مِنْ شُرْبِ الْكَأسِ، فَشَرِبَ الْكَأسَ، وَفَجَرَ بِالمَرْأَةِ، وَقَتَلَ الصَّبِيَّ وَحَرَّقَ الْكِتَابَ، وَسَجَدَ لِلصَّلِيبِ، فَهِيَ مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ".

وعن مجاهد: "قال إبليس: إذا سكر ابن آدم، أخذنا (بخزامته) (2) فَقُدْنَاهُ حيث شئنا، وعمل لنا بما أحببنا".

وعن وهب بن منبّه قال: "قال الشيطان: إذا سكر ابن آدم، قدناه إِلَى كلّ شهوة كما تقاد العير بأذنها".

ويذكر منام الَّذِي رأى بعرفة أنه قد غفر للناس إلَاّ لفلان من أمره كذا وكذا، وأنه لمَّا دلّ عليه سأله، فأخبره أنه سكر ثم جاء إِلَى أمّه فنهته، فأخذها فألقاها في التنّور وهو مسجور. ذكره ابن أبي الدُّنْيَا، ورويت بسياق طويل غريب ذكره ابن الجوزي في كتاب "البّر والصلة".

وفي تفسير ابن مردويه بإسناده عن عبد الله بن عمرو: "أَنَّهُمْ تَحَدَّثُوا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ مَلِكًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَذَ رَجُلًا فَخَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرَ، أَوْ يَقْتُلَ نَفْسًا، أَوْ يَزْنِيَ، أَوْ يَأْكُلَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ، أَوْ يَقْتُلُوهُ، فَاخْتَارَ أَنْ يَشْرَبَ الْخَمْرِ؛ فَأِنَّهُ لَمَّا شَرِبَهَا لَمْ يَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَرَادُوهُ مِنْهُ" (3).

(1)(5/ 238).

(2)

الخزامة: حلقة تجعل في أحد منخري البعير يشد بها الزِّمام. "اللسان" مادة: (خزم).

(3)

أخرجه الحاكم في "المستدرك"(4/ 147).

ص: 274

وقصة "هاروت وماروت" في هذا المعنى، خرّجها أحمد (1) من رواية ابن عمر مرفوعة، وقد تُكلّم فيها، وقيل: إنها مأخوذة عن كعب.

واعلم أن شرب الخمر فيه مفاسد في الدين وعقوبات في الآخرة.

أمَّا مفاسدها في الدين فمتعددة:

منها: نزع الإيمان: كما في "الصحيحين"(2): «لاً يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ» وتقدم قول عثمان: "لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ فِي صَدْرِ رَجلٍ، يُوشِكُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ".

وقد جاء إطلاق الكفر والشرك عَلَى شرب الخمر، وتشبيه شاربه بعابد الوثن، ففي "النسائي" (3) عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا:«مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَجَعَلَهَا فِي بَطْنِهِ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ سَبْعًا، إِنْ مَاتَ فِيهَا مَاتَ كَافِرًا، فَإِنْ (أَذْهَبَ) (*) عَقْلَهُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْفَرَائِضِ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَإِنْ مَاتَ فِيهَا مَاتَ كَافِرًا» .

وروي موقوفًا ومرفوعًا عن عبد الله من وجوه شتَّى، والموقوف لعلّه أشبه.

وروى خيثمة عن عبد الله موقوفًا: «هِيَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، مَنْ شَرِبَهَا نَهَارًا ظَلَّ مُشْرِكًا، وَمَنْ شَرِبَهَا لَيْلاً بَاتَ مُشْرِكًا» وروي مرفوعًا ولا يصح.

وفي "المسند"(4) عن ابن عباس مرفوعًا: «مُدْمِنُ الْخَمْرِ إِنْ مَاتَ لَقِيَ اللهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ» خرَّجه ابن حبّان في "صحيحه"(5).

وفي حديث خرجه ابن الجوزي في "الواهيات"(6): "شارب الخمر كالذي

(1) في "المسند"(2/ 134).

(2)

أخرجه البخاري (6772)، ومسلم (57).

(3)

برقم (5669).

(*) أذهب: "نسخة".

(4)

أخرجه أحمد (1/ 272).

(5)

برقم (5347/ إحسان).

(6)

برقم (1115) وقال: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانظر " الكامل" لابن عدي (2/ 703).

ص: 275

يعبد اللات والعزّى" وهذا لأنّ مدمنها يعكف عليها ولا يكاد يفيق منها فيصير كالعاكف عَلَى الأوثان، كما قال علي رضي الله عنه في الشطرنج.

وقد رُوي عنه: "أن أصل دين المجوسيّة أنه كان لهم دين، وكان عليهم ملك يشرب الخمر؛ فسكر، فوقع بأخته ثم ادّعى أن الله أباحه، ثم خدّ لمن خالفه (أخاديد) (*)، وأضرم فيها النار فيقتحم الناس، يتقاذفون فيها حتى إِن كانت المرأة لتجيء بالصبي ترضعه، فيقول: يا أمّه، اقتحمي فإن عذاب الدّنْيا أهون من عذاب الآخرة" خرَّجه يعقوب بن شيبة.

وكلما أدمن الخمر وعكف عليها نقص إيمانه وضعف ونزع منه، فيخشى أنه يسلبه بالكليّة عند الموت، وقد وقع ذلك في حكاية ذكرها عبد العزيز بن أبي روَّاد، وكان عبد العزيز يقول:"اتقوا الذنوب فإنها أوقعته".

وعن عبد الله بن عمرو قال: "لأنّ أزني وأسرق أَحَبّ إليَّ من أن أشرب الخمر؛ لأنّ السكران تأتي عليه ساعة لا يعرف فيها ربه".

وروي في ذلك أثر إسرائيلي عن الله عز وجل.

وفي "صحيح مسلم"(1): "أنهى عن كلّ ما أسكر عن الصلاة".

وقال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} (2) فلا سعادة للعبد ولا فلاح بدون ذكر الله والصلاة؛ فلذلك حرَّم عليه الاشتغال بكل ما صدّ عن ذلك.

ومنها: سخط الله عز وجل. وفى "المسند"(3) عن أسماء بنت يزيد مرفوعًا: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَرْضَ اللهُ عَنْهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً؛ فَإِنْ مَاتَ مَاتَ كَافِرًا، وَإِنْ تَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ".

(*) أخدودًا: "نسخة".

(1)

برقم (2001).

(2)

المائدة: 91.

(3)

(6/ 460).

ص: 276

ومنها: منع قبول الصلاة والتوبة: وخرّج النسائي وابن ماجه وابن حبّان في "صحيحه"(1) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا؛ فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، وَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ» وعند النسائي: "لَمْ يَقْبَلُ اللهُ لَهُ تَوْبَةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا".

وفي مسند ابن وهب: "سخطه الله عليه أربعين يومًا، وإن سكر الرابعة لم يرض الله عنه حتى يلقاه".

وفي الترمذي (2) عنه مرفوعًا، بعد الرابعة:"وإن تاب لم يتب الله عليه، وسقاه من طينة الخبال" وإن صحَّ به حُمل عَلَى أنه لا تهيّأ له توبة نصوح بعد ذلك، ويكون ذلك من أحاديث الوعيد.

وفي رواية: "من شرب خمرًا بخس وبخست صلاته أربعين يومًا" خرجه أبو داود (3) من حديث ابن عباس، فمنع قبول الصلاة أربعين يومًا بالسّكر، ومتى عدمه "لم تقبل له صلاة جمعة" كذا روي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا وموقوفًا.

لو لم يكن للسكران إلا طرده عن مناجاة الرحمن؛ لكفاه بعدًا، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} (4).

وأما العقوبات فمنها:

دنيوية: وهي نوعان: شرعية كالقتل بعد الرابعة، وفيه كلام معروف. ومنها: قدرية: وهو المسخ قردة وخنازير والخسف، ففي "سنن ابن ماجه" و"صحيح ابن حبان" وغيره (5):«لَيَشْرَبَنَّ أُنَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ وَيُضْرَبُ عَلَى رُءُوسِهِمْ بِالْمَعَازِفِ، يَخْسِفُ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ وَيَجْعَلُ مِنْهُمُ ْقِرَدَةَ وَخَنَازِيرَ» .

(1) أخرجه النسائي (5665. 5670)، وابن ماجه (3377)، وابن حبان (5357).

(2)

برقم (1862) وقال: حديث حسن.

(3)

برقم (3680).

(4)

النساء: 43.

(5)

أخرجه ابن ماجه (4020)، وابن حبان (6758)، وأبو داود (3688)، وأحمد (5/ 342).

ص: 277

ومنها: في البرزخ، وسيأتي، وقال مسروق:"ما من ميت يموت وهو يزني أو يسرق أو يشرب؛ إلا جعل معه في قبره شجاعان (1) ينهشانه إِلَى يوم القيامة".

وقال سهل الأنباري: "أتيت رجلاً قد احتضر: فبينا أنا عنده إذ صاح صيحة أخذ منها، ثم وثب فأخذ بركبتي فأفزعني، فقلت له: ما قضيتك؟ قال: هو ذا حبشي أزرق عيناه مثل السكرّجتين (2) غمزني غمزة أخذت منها، فَقَالَ لي: موعدك السعير الظهر، فسألت عنه أي شيء كان يعمل؟ قيل: كان يشرب النبيذ".

ومنها في الآخرة، وهي أنواع:

فمنها: العطش يوم القيامة: ففي "المسند"(3) عن قيس بن سعد بن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من شرب الخمر أتى عطشانًا يوم القيامة".

وعن عبد الله بن عمرو قال: "في التوراة: الخمر مرّ طعمها، أقسم الله بعزته: لمن شربها بعدما حرّمتها لأعطشنّه يوم القيامة".

ومنها: تشويه الحلق وقبح الهيئة يوم القيامة:

روى الآجرّى بإسناده عن عبد الله بن عمرو قال: "لَا تُسَلِّمُوا عَلَى شَرِبَةِ الْخَمْرِ، وَلَا تَعُودُوا مَرْضَاهُمْ، وَلَا تشهدوا جنائزهم، إن شارب الخمر يأتي يوم القيامة مائل شقّه، مُزرقة عيناه، يندلع (4) لسانه على صدره، يسيل لعابه على بطنه، يتقذّره كل من رآه".

وعن أحمد رواية: أنه لا يصلّي الإمام عَلَى من مات مدمن خمر.

(1) الشّجاع، بالضم والكسر: الحية الذكر، وقيل: الحية مطلقًا. "النهاية"(2/ 447).

(2)

السُّكُرُّجة: إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأدم. "النهاية"(2/ 384).

(3)

(3/ 422).

(4)

اندلع: خرج من الفم واسترخى، وسقط عَلَى العنفقة كلسان الكلب. "اللسان" مادة:(دلع).

ص: 278

ومنها: الشرّب من صديد أهل النار.

ففي "صحيح مسلم"(1) عن جَابَر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللهِ عَهْدًا مَنْ شَرِبَ الخَمْرِ أَنْ أَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ» .

وفي "المسند"(2) عن أبي أمامة مرفوعًا: "أقسم ربي بعزته: لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر، إلَاّ سقيته مكانها من حميم جهنم معذَّبًا أو مغفورًا له".

وفي "المسند" و"صحيح ابن حبان"(3) عن أبي موسى مرفوعًا: "من مات مدمن خمر سقاه الله من نهر الغوطة. قيل: وما نهر الغوطة؟ قال: نهر يجري من فروج المومسات، يؤذي أهل النار ريح فروجهن".

وخرج بعض المتقدمين وهو نشوان، فمرّ بقرية فيها خمر كثير فتمثل بهذا البيت:

تطيرنا بادِ كرم ما مررت به

إلا تعجبت ممن يشرب الماء

فهتف به هاتف من تحت شجرة:

وفي جهنّم ماء ما تجرّعه

عاص فأبقى له في الجوف أمعاء

ومنها: أن شربها في الدُّنيا يمنع شرب خمر الآخرة.

وفي "الصحيحين"(4) عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَشْرَبْهَا فِي الْآخِرَةِ» .

(1) برقم (2002).

(2)

(5/ 257).

(3)

أخرجه أحمد (4/ 399)، وابن حبان (5346/ إحسان).

(4)

أخرجه البخاري (5575)، ومسلم (2003).

ص: 279

وفي رواية: "فمات وهو مدمنها" وفي رواية: "ثم لم يتب منها"(1).

زاد النسائي وابن ماجه (2) في رواية لهما عن أبي هريرة: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شَرَابَ أَهْلِ الجَنَّةِ، ومن تَركَ شربها شَرِبَهَا في الآخِرَةِ".

وفي المسند (3) عن أبي أمامة مرفوعًا: "أقسم ربّي بعزته: لا يدعها عبد من عبيدي من مخافتي إلا سقيته من حظيرة القدس" وخرَّجه الإسماعيلي من حديث عليَّ وزاد فيه: "يأتيه أهل الجنة يشربونها فيكرمهم الله بذلك" أي: أنهم يجتمعون في حظيرة القدس يشربون الخمر.

وعن عبد الله بن عمرو قال: "في التوراة: لمن تركها بعدما حرمتها إلا سقيته إياها في حظيرة القدس".

أفليس من الغبن كلّ الغبن، تعجّل شرب هذه الخبيثة المفسدة للعقل والدين، مع زمرة الفساق الأرذال والشياطين، وترك شرب الخمر المطهرة التي هي لذة للشاربين في حظيرة القدس، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين!!

ورأى النبي صلى الله عليه وسلم -في المنام- ليلة منامًا، طويلاً، وفي آخره:"رَأيتُ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَشْرَبُونَ خَمْرَةٍ وَيَتَغَنَّوْنَ، فَقُلْتُ عَنْهُم: فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَجَعْفَرُ وَعَبدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ. فَمَالَ إِلَيْهِمْ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ اسْتَشْهَدُوا بِمُؤْتَة رضي الله عنهم".

ومنها: إقامة الحدّ عليها في البرزخ:

استشهد رجل في زمن السلف، وكان يشرب بعض الأنبذة المختلف في حلّها، فرئي في المنام وهو متّشح بحلة خضراء، فقِيلَ لَهُ: ما فعل الله بك؟

(1) أخرجه مسلم (2003).

(2)

أخرجه النسائي في "الكبرى"(6869) بنحوه، وابن ماجه (3374) مختصرًا.

(3)

(5/ 257).

ص: 280

قال: ما تراه صانعًا بالشهداء؟ غفر لي وأدخلني الجنّة، قال: فلما ولّى نظرت إِلَى آثار السّياط بظهره، فقلت له: مكانك! قال: أو رأيت؟ قلت: نعم.

قال: قل لأبي -وكان أبوه يومئذ حيًّا- يا شقي، ذاك الدّاذي (1) الَّذِي كنا نشرب أنا وأنت!! لا تشرب فإني أنا الَّذِي قُتلت في سبيل الله لم أترك أن جلدت عليه حدًّا.

واعلم أن شرب الخمر لو لم يرد الشرع بتحريمه لكان العقل يقتضي تقبيحه، بما فيه من إزالة العقل -الَّذِي به شرف الآدمي عَلَى الحيوانات- فيصير مشاركًا لبقية البهائم، أو أسوأ حالاً منها، فمنهم من يتلطخ بالنجاسات والأقذار والقيء، ومنهنم من يتشبه بالخنزير، أو يقتل أو يجرح فيشبه السّباع الجوارح، كالكلب العقور ونحوه.

أيها الشارب للخمر تنبّه

لجناياتها فأنت لبيب

إنها للستور هتك، وبالألبا

ب فتك وفي المعاد ذنوب

ولهذا حرّمها كثير من أهل الجاهلية قبل الإسلام.

قال بعضهم: جاء السكر إِلَى أَحَبّ خلق الله إِلَيْهِ فأفسده. يعني: العقل.

وربما يصير المجنون الَّذِي يصرع أحسن حالاً من السكران، قال أبو إسحاق الفزاري: رأيت مجنونًا يصرع يسوِّي رأس سكران.

ورُئي سعدون المعتوه جالسًا عند رأس شيخ سكران يذبّ عنه، فسئل عنه، فَقَالَ: هذا مجنون، فقِيلَ لَهُ: أنت مجنون أو هو؟ قال: بل هو، قال: ثم قال: لأني صليت الظهر والعصر جماعة ولم يصلّ هو جماعة ولا فرادى، قيل له: هل قلت في ذلك شيئًا؟ قال: نعم.

تركت النّبيذ لأهل النّبيذ

وأصبحت أشرب ماء قراحًا

(1) في "الأصل": الرأي. والمثبت من كتاب "ذم الهوى" لابن أبي الدُّنْيَا؛ فقد أخرجها ابن أبي الدُّنْيَا (ص 75)، والداذي: حب يطرح في النبيذ فيشتد حتى يسكر. راجع "النهاية"(2/ 147).

ص: 281

لأنّ النّبيذ يذلّ العزيز

ويكسو الوجوه النضارى القباحا

فالواجب المبادرة إِلَى التوبة من جميع المعاصي، فربما فاجأت المنية بغتة عَلَى غير توبة، فيصبح المرء في زمرة الموتى نادمًا مع الخاسرين، وقد تقدم أن الوعيد مشروط بعدم التوبة، وفي حديث أبي هريرة:«لَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ شُرْبِهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، والتوبة معروضة بعد ذلك» (1).

كان رجل بنصيبين (2) يكنّى: أبا عمرو وكان مدمن خمر، فشرب ليلة ثم نام، فاستيقظ مرعوبًا نصف الليل، فَقَالَ: أتاني آت في منامي فَقَالَ لي:

جدّ بك الأمر أبا عمرو

وأنت معكوف عَلَى الخمر

تشرب صهباء صراحية (3)

سال بك السيل ولا تدري

ثم نام فلما كان وقت لفجر مات فجأة.

وسكر آخر فنام عن عشاء الآخرة، وكانت امرأته ابنة عمه، وكانت ديّنة، فجعلت توقظه للصلاة، فلما ألحت عليه حلف بطلاقها البتّة أن لا يصلي ثلاثًا، فلما أصبح كَبُرَ عليه فراق ابنة عمّه، فبقي يرمين لم يصلّ لأجل يمينه، فعرضت له علّة فمات. وفي هذا أنشد بعضهم:

أتأمن أيها السكران جهلاً

بأن تفجأك في السكر المنيّة

فتضحى عبرة للناس طرًّا

وتلقى الله من شرّ البريّة

قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (4).

(1) تقدم تخريجه.

(2)

هي مدينة عامرة من بلاد الجزيرة عَلَى جادة القوافل من الموصل إِلَى الشام "معجم البلدان"(5/ 233).

(3)

الصهباء: الخمر، سميت بذلك للونها. وصراحية: أي خالصة. "لسان العرب"(1/ 532، 2/ 510).

(4)

الحجرات: 11.

ص: 282

وفي الحديث: "النَّدم توبة"(1) فلابدّ من ندم وإقلاع وعزم عَلَى ترك المعاودة بالكلية، أما من عزم عَلَى المعاودة ولو بعد حين فليس بتائب.

قيل لابن المبارك: من مدمن الخمر؟ قال: الَّذِي يشربه اليوم ثم لا يشربه إِلَى ثلاثين سنة، ومن رَأْيُه إذا وجده أن يشربه.

وكثير من العصاة يترك الشرب في الأيام الفاضلة كرمضان فقط، ومن نيته المعاودة بعد انقضائه، وهذا مدمن ليس بتائب، لا سيما إِنَّ عدَّ الأيام، وطال عليه الشهر حتى يعود، ولهذا إذا قرب الشهر جدّ في الشرب ليتودَّع منه، ثم يعاود الشرب عند انقضائه، وأنشد بعضهم:

إذا العشرون من شعبان ولّت

فواصل شرب ليلك بالنهار

ولا تشرب بأقداح صغار

فإن الوقت ضاق عن الصّغار

وأقبح من ذلك أخذ بعض الجهلة هذا الكلام من باب الإشارات، ودعواهم أن له شرًّا لا يفهمه إلا الخواص، وأن فيه إشارة إِلَى مبادرة العمر بالطاعة عند اقتراب الأجل.

وأخذ هذا من الكلام قبيح جدًّا، وهو كأخذ الآخر السرّ من قول قائلهم:

رقّ الزجاج ورقت الحمر

وتشاكلا فتشابه الأمر

فكأنما خمر ولا قدح

وكأنما قدح ولا خمر

فإن هذا ظاهره إِنَّمَا يؤخذ منه الفسق، ولكن يدَّعي بعض الجهلة أن فيه سرًّا أراده القائل، وهذا السرّ أقبح من ظاهره، حيث كان ظاهره الفسق، وهذا الباطن المشار إِلَيْهِ وهو أن الخالق والمخلوق اتحدا حتى صارا شيئًا واحدًا، لا يميّز العارف بينهما وهو السرّ المشار إِلَيْهِ عندهم.

(1) أخرجه أحمد (1/ 423، 433)، وابن ماجه (4252) من حديث ابن مسعود.

ص: 283

فهذا الشعر ونحوه إما أن يؤخذ منه الفسق أو الكفر، وإنما تؤخذ الأسرار الرّبانية من كلام الله وكلام رسوله، أو كلام السلف الصالح أو الأشعار الحِكمية التي فيها الحكمة، والمقصود هنا ذكر التوبة:

يا نداميّ صَحَا القلب صِحَا

فاطردا عني الصبا والمرحا

هزم العقل جنودًا للهوى

سادتي لا تعجبوا أن صلحا

زجر الوعظ فؤادي فارعوى

وأفاق القلب مني وصحا

بادروا التوبة من قبل الردى

فمناديه ينادينا الوحا (1)

يا هذا، اعرف قدر لطفنا بك، وحفظنا لك، إِنَّمَا نهينا عن المعاصي صيانة لك، وغيرة عليك، لا لحاجتنا إِلَى امتناعك ولا بخلاً بها عليك.

لما عرفتنا بالعقل حرّمنا عليك الخمر لا تستره، شيء به عرفتنا يحسن بك أن تزيله أو تغطيه.

لا كان كلما يقطع المعرفة بيننا وبينك، لا كان كلما يحجب بيننا وبينك.

يا شارب الخمر لا تغفل، يكفيك سكر جهلك! لا تجمع بين خطيئتين.

يا من باشر بعض القاذورات، اغتسل منها بالإنابة وقد زال الدّرن.

طهّروا درن القلوب بدمع العيون فما ينفعها غيرها.

يا من قد درن قلبه بوسخ الذنوب، لو اغتسلت بماء الإنابة لطهرت!

لو شربت من شراب التوبة لوجدته شرابًا طهورًا.

يا أوساخ الذنوب، يا أدران العيون {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} (2).

مجالس الذكر للمذنبين، شراب المواعظ: شراب المحبّين درياق (3) المذنبين، {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} (4).

(1) الوحا: الإسراع. "لسان العرب"(15/ 382).

(2)

سورة ص: 42.

(3)

الدرياق: الترياق، معرب. وهو دواء السموم. "اللسان" مادة:(دوق)، و (ترق).

(4)

البقرة: 60.

ص: 284

قد أدرنا عليكم اليوم شراب التشويق ممزوجًا بماء التخويف، فبالله لا يقم أحد منكم معكم من هذا المجلس إلا وقد أناب إِلَى الكريم الوهاب.

أليس من أهل الشراب من يبكي، ومنهم من يضحك، ومنهم من يطرب، ومنهم من يتملّق النّاس ويتعلق بهم، ومنهم من تثور نفسه فلا يرضى إلا بأن يطلق أو يضرب بالسيف، ومنهم من ينام.

فهكذا شراب المواعظ يعمل في السامعين: فمنهم من يبكي عَلَى ذنوبه، ومنهم من يضحك لنيل مطلوبه، ومنهم من يضحك فرحًا لمحبوبه، ومنهم من يتشبث بأذيال الواصلين لعله يعلّق خطام راحلته عَلَى قطارهم، ومنهم من لا يرضى حتى يبت طلاق الدُّنْيَا ثلاثًا، أو يقتل هوى نفسه بسيف العزم كالمعربد، ومنهم من لا يدري كالنائم.

أَيَقْظَانُ أَنْتَ اليَوْمَ أَمْ أَنْتَ نَائِمُ

وكيف يطيق النَّوْمَ حَيْرَانُ هَائِمُ!

فَلَوْ كُنْتَ يَقْظَانَ الفُؤَادِ لَحَرَّقَتْ

مَحَاجِرَ عَيْنَيْكَ الدُّمُوعُ السَّوَاجِمُ (1)

بَلَ أَصْبَحْتَ فِي النَّوْمِ الطَّوِيلِ وَقَدْ دَنَتْ

إلَيْكَ أُمُورٌ مُفْظِعَاتٌ عَظَائمُ

تُسَرُّ بِمَا يَفْنَى وَتُشْغَلُ بِالمُنَى

كَمَا سُرَّ بِاللَّذَاتِ فِي النَّوْم حَالِمُ

نَهَارُكَ يَا مَغْرُورُ سَهْوٌ وَغَفْلَةٌ

ولَيْلُكَ نَوْمٌ وَالرَّدَى لك لَازِمُ

وَتَدْأَبُ فِيما سَوْفَ تَكْرَهُ غِبَّهُ

كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا تَعِيشُ البَهَائِمُ

وصلى الله عَلَى سيدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إِلَى يوم الدين، ورضي الله عن أصحاب رسول الله أجمعين، {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2).

(1) السواجم: قَطَران الدمع وسيلانه قليلاً كان أو كثيرًا. "لسان العرب" مادة: (سجم).

(2)

الصافات: 180 - 182.

ص: 285

الذل والانكسار للعزيز الجبار

ص: 287

بسم الله الرحمن الرحيم

(وبه نستعين والحمد لله رب العالين)(*)

قال الحافظ العلامة زين الدين ابن الشيخ أبو العباس أحمد بن رجب أمر الله في عمره البركة: هذه رسالة عملناها في الخشوع وانكسار القلب للرب.

الحمدُ لله جابر قلوب المنكسرة قلوبهم من أجله، وغافر ذنوب (المستغفرين)(**) بفضله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا شيء كمثله، وأشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره عَلَى الدين كله، وخَيَّرَهُ بين أن يكون (ملكًا نبيًّا) (

) أو عبدًا رسولاً (1)، فاختار مقام العبودية مع (الرسالة)(****).

(وكان)(*****) يقول: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ المَسَاكِينِ» (2)(تنويهًا بشرف)(******) هذا المقام وفضله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، والمستمسكين من بعدهم بحبله.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى مدح في كتابه المخبتين له، والمنكسرين لعظمته، والخاضعين والخاشعين لها.

فَقَالَ الله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (3).

(*) رب يسر وأعن يا كريم: "نسخة".

(**) المستغفرة لذنوبهم: "نسخة".

(

) نبيًّا ملكًا: "نسخة".

(1)

أخرجه أحمد (2/ 231).

(****) رسله: "نسخة".

(*****) فكان: "نسخة".

(2)

أخرجه الترمذي (2352)، وابن ماجه (4126) قال الترمذي: حديث غريب.

(******) لشرف: "نسخة".

(3)

الأنبياء: 90.

ص: 289

وقال تعالى: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} إِلَى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (1).

ووصف المؤمنين بالخشوع له في أشرف عباداتهم التي هم عليها يحافظون، فَقَالَ:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (2).

ووصف الذين أوتوا العِلْم بالخشوع حيث يكون كلامه لهم مسموعًا، فَقَالَ:{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (3).

وأصل الخشوع هو: لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحرقته فَإِذَا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح والأعضاء؛ لأنها تابعة له، كما قال صلى الله عليه وسلم:"أَلَا إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ"(4).

فَإِذَا خشع القلب خشع السمع والبصر والرأس والوجه، وسائر الأعضاء وما ينشأ منها حتى الكلام. لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه في الصلاة:"خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعَظْمِي" وفي رواية: "وَمَا اسْتَقَلَّ بِهِ قَدَمِي"(5).

ورأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في "الصلاة) (*) فَقَالَ: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.

(1) الأحزاب: 35.

(2)

المؤمنون: 1 - 2.

(3)

الإسراء: 107 - 109.

(4)

البخاري (52، 205)، ومسلم (1599).

(5)

أخرجه مسلم (771).

(*) صلاته: "نسخة".

ص: 290

وروي ذلك عن حذيفة (1) رضي الله عنه وسعيد بن المسيب (2). ويروى مرفوعًا (3) لكن بإسناد لا يصح.

قال المسعودي عن أبي سنان عمن حديثه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (4) قال: هو الخشوع في القلب، وأن تُلِيّن كَنَفَكَ للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك (5).

وقال عطاء بن السائب عن رجل عن علي رضي الله عنه: الخشوع خشوع القلب، وأن لا (تلتفت)(*) يمينًا ولا شمالاً.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (4) قال: خائفون ساكنون (6).

وقال ابن شوذب عن الحسن رحمه الله تعالى: كان الخشوع في قلوبهم فغضوا له البصر وخفضوا له الجناح.

وقال منصور عن مجاهد: (أصل)(**) الخشوع في القلب، والسكون في الصلاة.

(1) أخرجه ابن نصر في "تعظيم قدر الصلاة"(150) وضعفه شيخنا محمد عمرو في "تكميل النفع"(21).

(2)

أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(213) وضعفه الألباني في "الضعيفة"(1/ 114).

(3)

قال الشيخ محمد عمرو في تخريجه لرسالة "الذل والإنكسار"(ص33): الحديث موضوع مرفوعًا، في سنده سليمان بن عمرو

ذكره ابن حبان في "المجروحين"(1/ 329) ونقل عن عبد الجبار بن محمد: أنه كان أطول الناس قيامًا بليل وأكثرهم صيامًا بنهار، وكان يضع الحديث وضعًا.

(4)

المؤمنون: 2.

(5)

رواه وكيع في "الزهد"(328)، وابن المبارك في "الزهد" (1148) وغيرهما. وقال الشيخ محمد عمرو: إسناده ضعيف مداره عَلَى رجل مبهم.

(*) يلتفت: "نسخة".

(6)

رواه الطبري في "تفسيره"(18/ 3).

(*) هو: "نسخة".

ص: 291

وقال ليث عن مجاهد: من ذلك خفض الجناح وغض البصر، وكان المسلمون إذا قام أحدهم إِلَى الصلاة خاف ربه أن يلتفت عن يمينه أو شماله.

وقال عطاء الخراساني: الخشوع خشوع القلب والطرف.

وقال الزهري: هو سكون العبد في صلاته.

وعن قتادة قال: الخشوع في القلب هو الخوف وغض البصر في الصلاة.

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد رحمه الله تعالى في قوله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (1) قال: متواضعين وقد وصف الله تعالى في كتابه الأرض بالخشوع فَقَالَ: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} (2)، فاهتزازها وربوها -وهو ارتفاعها- مزيل لخشوعها، فدل عَلَى أن الخشوع الَّذِي كانت عليه هو سكونها وانخفاضها، (فكذلك)(*) القلب (إِن)(**) خشع فإنه تسكن خواطره وإراداته الرديئة، التي تنشأ (من) (

) اتباع الهوى وينكسر ويخضع لله عز وجل. فيزول بذلك ما كان فيه من النأو (3) والتزفع والتكبر والتعاظم، ومتى سكن ذلك في القلب خشعت الأعضاء والجوارح والحركات كلها حتى الصوت، وقد وصف الله تعالى الأصوات بالخشوع في قوله:{وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاً تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (4)، وخشوع الأصوات هو سكونها وانخفاضها بعد ارتفاعها.

وكذلك وصف وجوه الكفار وأبصارهم في يوم القيامة بالخشوع، فدل ذلك عَلَى فى دخول الخشوع في هذه الأعضاء كلها، ومتى تكلف الإنسان تعاطي الخشوع في جوارحه وأطرافه -مع فراغ قلبه من الخشوع وخلوه منه- كان ذلك خشوع نفاق، وهو الَّذِي كان السلف يستعيذون منه كما قال بعضهم:

(1) الأنبياء: 90.

(2)

فصلت: 39.

(*) وكذا: "نسخة".

(**) إذا: "نسخة".

(

) عن: "نسخة".

(3)

النأو، لغة في:"النأي"، وهو البعد.

(4)

طه: 108.

ص: 292

"استعيذوا بالله من خشوع النفاق. قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن (ترى) (*) الجسد خاشعًا والقلب ليس بخاشع".

ونظر عمر رضي الله عنه إِلَى شاب قد نكس رأسه فَقَالَ له: يا هذا، ارفع رأسك، فإن الخشوع لا يزيد عَلَى ما في القلب.

فمن أظهر للناس خشوعًا فوق ما في قلبه، فإنما هو نفاق عَلَى نفاق.

وأصل الخشوع الحاصل في القلب، إِنَّمَا هو من معرفة الله، ومعرفة عظمته وجلاله وكماله، فمن كان بالله أعرف (فهو)(**) له أخشع.

وتتفاوت القلوب في الخشوع بحسب تفاوت معرفتها لمن خشعت له، وبحسب تفاوت مشاهدة القلوب للصفات المقتضية للخشوع، فمن خاشع لقوة مطالعته (لقرب) (

) الله من عبده، واطلاعه عَلَى سره وضميره المقتضي الاستحياء من الله تعالى ومراقبته في الحركات والسكنات، ومن خاشع لمطالعته لجلال الله وعظمته وكبريائه، المقتضي لهيبته وإجلاله، ومن خاشع لمطالعته لكماله وجماله المقتضي للاستغراق في محبته، والشوق إِلَى لقائه ورؤيته، ومن خاشع لمطالعة شدة بطشه وانتقامه، وعقابه المقتضي للخوف منه وهو سبحانه وتعالى جابر القلوب المنكسرة لأجله، فهو سبحانه وتعالى يتقرب من القلوب الخاشعة له كما يتقرب ممن هو قائم يناجيه في الصلاة وممن يعفر له وجهه في التراب بالسجود، وكما يتقرب من وفده وزوار بيته (الوافدين)(****) بين يديه، المتضرعين إِلَيْهِ في الوقف بعرفة، ويدنو ويباهي بهم الملائكة وكما يتقرب من عباده (الداعين)(*****) له، السائلين له، المستغفرين من ذنوبهم بالأسحار، ويجيب دعاءهم، ويعطيهم (سؤلهم)(******)، ولا جبر لانكسار العبد أعظم من القرب والإجابة.

(*) يُرى: "نسخة".

(**) كان: "نسخة".

(

) قرب: "نسخة".

(****) الواقفين: "نسخة".

(*****) الدائبين: "نسخة".

(******) سؤالهم: "نسخة".

ص: 293

وروى الإمام أحمد رحمه الله تعالى في كتابه "الزهد"(1) بإسناده عن عمران القصير قال: "قال موسى بن عمران: أي رب، أين أبغيك؟ قال: ابغني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، إني أدنو منهم كل يوم باعًا، ولولا ذلك لانهدموا".

وروى إبراهيم بن الجنيد رحمه الله تعالى في كتاب "المحبة" بإسناده عن جعفر بن سليمان: سمعت مالك بن دينار (قال)(*): قال موسى عليه السلام: "إلهي أين أبغيك؛ فأوحى الله عز وجل إِلَيْهِ: أن يا موسى ابغني عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، فإني أدنو منهم في كل يوم وليلة باعًا ولولا ذلك لانهدموا"، قال جعفر: قلت لمالك بن دينار: كيف المنكسرة قلوبهم؟ فَقَالَ: سألت الَّذِي قرأ في الكتب فَقَالَ: سألت الَّذِي سأل عبد الله بن سلام فَقَالَ: سألت عبد الله بن سلام عن المنكسرة قلوبهم، ما يعنى؟ قال: المنكسرة قلوبهم بحب الله عز وجل عن حب غيره".

وقد جاء في السنة الصحيحة ما يشهد (بقرب)(**) الله من القلب المنكسر ببلائه الصابر عَلَى قضائه أو الراضي بذلك كما في "صحيح مسلم"(2) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهَ عز وجل يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ".

وروى أبو نعيم (3) من طريق ضمرة عن ابن شوذب قال: "أوحى الله تعالى إِلَى موسى عليه السلام: أتدري لأي شيء اصطفيتك عَلَى الناس برسالاتي وكلامي؟ قال: لا يا رب! قال: لأنّه لم يتواضع لي أحد قط تواضعك".

(1)(ص 75).

(*) لقرب: "نسخة".

(**) يقول: "نسخة".

(2)

برقم (2569).

(3)

في "الحلية"(6/ 130).

ص: 294

(وتواضعه هذا هو الخشوع، وهو)(*) العِلْم النافع، وهو أول ما يرفع من العِلْم، فخرج النسائي (1) من حديث جبير بن نفير رضي الله عنه، عن عوف بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إِلَى السماء يومًا (فَقَالَ) (**):«هَذَا أَوَانٌ يُرْفَعُ فِيهِ الْعِلْمُ» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، يُقَالُ لَهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يُرْفَعُ الْعِلْمُ وَقَدْ أُثْبِتَ وَوَعَتْهُ الْقُلُوبُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«إِنْ كُنْتُ لَأَحْسَبُكَ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ» وَذَكَرَ لَهُ ضَلَالَةَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل. قَالَ: فَلَقِيتُ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ فَحَدَّتْتُهُ بِحَدِيثِ عَوْفٍ بْنِ مَالِكٍ فَقَالَ: صَدَقَ عَوْفُ أَلاً أُخْبِرُكَ بِأَوَّلِ ذَلِكَ يُرْفَعُ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: الْخُشُوعُ حَتَّى لاً تَرَى خَاشِعًا».

وخرجه الترمذي (2) من حديث جبير بن نفير عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وفي آخره: قال جبير فلقيت عبادة بن الصامت فقلت: ألا تسمع إِلَى ما يقول أخوك أبو الدرداء: وأخبرته بالذي قال أبو الدرداء، قال: صدق أبو الدرداء، لو شئت لحدثتك بأول علم يرفع من الناس: الخشوع، يوشك أن تدخل مسجد الجامع، فلا ترى فيه رجلاً خاشعًا.

وقد قيل: إِنَّ رواية النسائي أرجح.

وقد روى سعيد بن بشير عن قتادة، عن الحسن رحمه الله تعالى، عن شداد ابن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أَوَّلَ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الْخُشُوعُ"(3) فذكره.

(*) فصل: وهذا الخشوع هو: "نسخة".

(1)

أخرجه النسائي في " الكبرى"(3/ 456).

(*) وقال: "نسخة".

(2)

برقم (2653) قال الترمذي: حسن غريب.

(3)

أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير"(7/ 7183) من طريق عمران القطان عن قتادة به بمثله.

قال الشيخ محمد عمرو في تخريجه "للذل والإنكسار"(ص44): وفي شعيب بن بيان الصفار، وعمران القطان: مختلف فيهما، والمهلب بن العلاء: مجهول لا تعرف له ترجمة.

ورواه ابن عدي (2/ 840)، وأبو الشيخ في "الطبقات"(3/ 164 - 165) عن حسام بن مصك عنه، وحسام متروك، والراجح الصحيح رواية جبير بن نفير عن شداد بن أوس موقوفًا عليه من قوله.

ص: 295

ورواه أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب مُرسلاً (1).

وروي نحوه عن حذيفة من قوله (2).

فالعلم النافع هو ما باشر القلوب فأوجب لها السكينة والخشية، والإخباب لله والتواضع والانكسار له، وإذا لم يباشر القلوب ذلك من العِلْم، وإنما كان عَلَى اللسان، فهو حجة الله عَلَى ابن آدم، تقوم عَلَى صاحبه وغيره، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه:"إِنَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، وَلَكِنْ إِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ فَرَسَخَ فِيهِ نَفَعَ صَاحِبُهُ". خرجه مسلم (3).

وقال الحسن رحمه الله تعالى: العِلْم علمان: علم باللسان وعلم بالقلب، فعلم القلب هو العِلْم النافع، وعلم اللسان هو حجة الله عَلَى ابن آدم.

وروي عن الحسن رحمه الله تعالى مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروي عنه عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا، وعنه عن أنس رضي الله عنه مرفوعًا، ولا يصحُّ وصله.

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العِلْم الَّذِي عند أهل الكتابين من قبلنا موجود بأيديهم ولا ينتفعون بشيء منه لما فقدوا المقصود منه، وهو وصوله إلى قلوبهم حتى يجدوا حلاوة الإيمان به، ومنفعته بحصول الخشية والإنابة لقلوبهم، وإنما هو عَلَى ألسنتهم تقوم به الحجة عليهم.

ولهذا المعنى وصف الله سبحانه في كتابه العُلَمَاء بالخشية كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (4).

(1) رواه ابن المبارك في "الزهد"(72) ومن طريقه أحمد في "الزهد"(ص395).

(2)

أخرجه ابن أبي شيية في "المصنف"(13/ 381) ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 281)، والحاكم (4/ 469).

(3)

برقم (822).

(4)

فاطر: 28.

ص: 296

وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاً يَعْلَمُونَ} (1).

ووصف العُلَمَاء من أهل الكتاب قبلنا بالخشوع كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} الآية (2).

وقوله تعالى فى وصف هؤلاء الذين أوتوا العِلْمَ ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا مدح لمن أوجب له سماع كتاب الله الخشوع في قلبه، وقال تعالى:{فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (3).

ولين القلوب هو زوال (قساوتها)(*) لحدوث الخشوع فيها والرقة.

وقد (قبح)(**) الله من لا يخشع قلبه لسماع (كتابه)(**) وتدبره، قال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاً يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} (4) قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين خرجه مسلم (5)، وخرجه غيره (6) وزاد فيه: فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضًا.

(1) الزمر: 9.

(2)

الإسراء: 107 - 109.

(3)

الزمر: 22 - 23.

(*) قسوتها: "نسخة".

(**) وبخ: "نسخة".

(

) كلامه: "نسخة".

(4)

الحديد: 16.

(5)

برقم (3027).

(6)

أخرجه النسائي في "الكبرى" في التفسير - كما في "تحفة الأشراف"(7/ 70).

ص: 297

وخرج ابن ماجه (1) من حديث ابن الزبير رضي الله عنه قال: "لَمْ يَكُنْ بَيْنَ إِسْلَامِهِمْ وَبَيْنَ أَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يُعَاتِبُهُمُ اللَّهُ بِهَا إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ".

وقد سمع كثير من الصالحين هذه الآية تتلى، فأثرت فيهم آثارًا متعددة، فمنهم من مات عند ذلك لانصداع قلبه بها، ومنهم من تاب عند ذلك وخرج عما كان فيه.

وقد ذكرنا أخبارهم في كتاب "الاستغناء بالقرآن".

وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2) الآية.

قال أبو عمران الجوني: والله لقد صرف إلينا ربنا في هذا القرآن ما لو صرفه إِلَى الجبال لحتها و (حناها). (*).

وكان مالك بن دينار رحمه الله يقرأ هذه الآية ثم يقول: أقسم لكم، لا يؤمن عبد بهذا القرآن إلا صدع قلبه.

وروي عن الحسن رحمه الله تعالى قال: يا ابن آدم إذا وسوس لك الشيطان بخطيئة أو حدثت بها نفسك فاذكر عند ذلك ما حملك الله من كتابه مما لو حملته الجبال الرواسي لخشعت وتصدعت أما سمعته يقول: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (2).

فإنما ضرب لك الأمثال لتتفكر فيها، وتعتبر بها وتزدجر عن معاصي الله عز وجل، وأنت يا ابن آدم أحق أن تخشع لذكر الله، وما حملك من كتابه وآتاك من حكمة، لأنّ عليك الحساب ولك الجنة أو النار.

(1) برقم (4192).

(2)

الحشر: 21.

(*) جباها: "نسخة".

ص: 298

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من قلب لا يخشع، كما في "صحيح مسلم" (1) عن زيد بن أرقم "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:"اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاً يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لاً يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاً تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لاً يُسْتَجَابُ لَهَا".

وقد روي نحوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة.

ويروى عن كعب الأحبار قال: "مكتوب في الإنجيل: يا عيسى، قلب لا يخشع عمله لا ينفع، وصوته لا يسمع، ودعاؤه لا يرفع".

قال أسد بن موسى في كتاب "الورع": ثنا مبارك بن فضالة قال: كان الحسن رحمه الله تعالى يقول إِنَّ المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها، وأفضى يقينها إِلَى قلوبهم، وخشعت لذلك قلوبهم وأبدانهم وأبصارهم، وكنت والله إذا رأيتهم رأيت قومًا كأنهم رأي عين، فوالله ما كانوا بأهل جدل ولا باطل، ولا اطمأنوا إلا إِلَى كتاب الله، ولا أظهروا ما ليس في قلوبهم، ولكن جاءهم عن الله أمر فصدقوا به، فنعتهم الله تعالى في القرآن أحسن نعت فقال:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} (2) قال الحسن: الهون في كلام العرب: اللين والسكينة والوقار. قال: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} (3) قال: حلماء لا يجهلون، وإذا جهل عليهم حلموا، يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون، ثم ذكر ليلهم خير ليل فَقَالَ:{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} (3) ينتصبون لله عَلَى أقدامهم، ويفترشون وجوههم لربهم سجدًا، تجري دموعهم عَلَى خدودهم فرقًا من ربهم.

قال الحسن رحمه الله تعالى: لأمر ما أسهروا له ليلهم، ولأمر ما خشعوا له نهارهم، ثم قال:{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} (4). قال: وكل شيء يُصيب ابن آدم ثم يزول عنه فليس بغرام،

(1) برقم (2722).

(2)

الفرقان: 63.

(3)

الفرقان: 64.

(4)

الفرقان: 65.

ص: 299

إِنَّمَا الغرام الملازم له ما دامت السموات والأرض، قال: صدق القوم، والله الَّذِي لا إله إلا هو فعملوا ولم يتمنوا فإياكم -رحمكم الله- وهذه الأماني فإن الله لم يعط عبدًا (بأمنيته)(*) خيرًا قط في الدُّنْيَا والآخرة، وكان يقول: يا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة لوعتها.

وقد شرع الله تعالى لعباده من أنواع العبادات ما يظهر فيه خشوع الأبدان، الناشئ عن خشوع القلب وذله وانكساره، ومن أعظم ما يظهر فيه خشوع الأبدان لله تعالى من العبادات الصلاة، وقد مدح الله تعالى الخاشعين فيها بقوله عز وجل:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) وقد سبق بعض ما قاله السلف في تفسير الخشوع في الصلاة.

وقال ابن لهيعة عن عطاء بن دينار رحمه الله تعالى عن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) يعني: متواضعين لا يعرف من عن يمينه ولا من عن شماله، ولا يلتفت من الخشوع لله عز وجل.

وقال ابن المبارك عن أبي جعفر عن ليث عن مجاهد: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (2) قال: القنوت: الركون والخشوع، وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل.

قال: وكان العُلَمَاء إذا قام أحدهم في الصلاة هاب الرحمن عز وجل أن يشذ نظره، أو يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء أو يحدث -يعني- نفسه بشيء من الدُّنْيَا إلا ناسيًا ما دام في صلاته.

وقال منصور عن مجاهد رحمه الله تعالى، في قوله تعالى:{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} (3) قال: الخشوع في الصلاة.

(*) بالأمنية: "نسخة".

(1)

المؤمنون: 1 - 2.

(2)

البقرة: 238.

(3)

الفتح: 29.

ص: 300

وخرج الإمام أحمد (1) والنسائي (2) والترمذي (3) من حديث الفضل بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى، تَشَهَّدُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَتَخَشَّعُ وَتَضَرَّعُ، وَتَمَسْكَنُ وَتُقْنِعُ يَدَيْكَ" يَقُولُ: تَرْفَعُهُمَا إِلَى رَبِّكَ عز وجل وَتَقُولُ، يَا رَبِّ يَا رَبِّ يَا رَبِّ ثَلاّثًا فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهِيَ خِدَاجٌ! وفي "صحيح مسلم"(4) عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" «مَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ؛ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ، مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ".

(ومما)(*) يظهر فيه الخشوع والذل والانكسار من أفعال الصلاة: وضع اليدين إحداهما عَلَى الأخرى في حال القيام، وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله أنه سئل عن المراد بذلك فَقَالَ: هو ذل بين يدي عزيز.

قال علي بن محمد المصري الواعظ رحمه الله تعالى: ما سمعت في العِلْم بأحسن من هذا.

وروي عن بشر الحافي رحمه الله تعالى أنه قال: أشتهي منذ أربعين سنة أن أضع يدًا عَلَى يد فى الصلاة ما يمنعني من ذلك إلا أن أكون قد أظهرت من الخشوع ما ليس في قلبي مثله.

وروى محمد بن نصر المروزي رحمه الله تعالى بإسناده عن أبي هريرة (5) رضي الله عنه قال: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ صَنِيعِهِمْ فِي الصَّلَاةِ» .

وفسره بعض رواته بقبض شماله بيمينه وانحنى هكذا.

(1) في "المسند"(1/ 11)، (4/ 167).

(2)

في "الكبرى"(1/ 212، 450).

(3)

برقم (385). ونقل الترمذي قول البخاري: حديث صحيح.

(4)

برقم (228).

(*) فمما: "نسخة".

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة (13/ 543).

ص: 301

وبإسناده عن أبي صالح السمان رحمه الله تعالى قال: يبعث الناس يوم القيامة هكذا ووضع إحدى يديه عَلَى الأخرى.

وملاحظة هذا المعنى في الصلاة يوجب للمصلي أن يتذكر وقوفه بين يدي الله تعالى للحساب.

وكان ذو النون وحمه الله تعالى يقول في وصف العباد: لو رأيت أحدهم وقد قام إِلَى صلاته فلما وقف في محرابه واستفتح كلام سيده، خطر على قلبه أن ذلك المقام هو المقام الَّذِي يقوم الناس فيه لرب العالمين فانخلع قلبه وذهل عقله، خرجه أبو نعيم رحمه الله تعالى.

ومن ذلك إقباله عَلَى الله عز وجل وعدم التفاته إِلَى غيره، وهو نوعان:

أحدهما: عدم التفات قلبه إِلَى غير ما هو مناج له، وتفريغ القلب للرب عز وجل.

وفي "صحيح مسلم"(1) عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر فضل الوضوء وثوابه: ثم قال: "فَإِنْ هُوَ قَامَ وَصَلَّى فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بِالَّذِي هُوَ أَهْلَهُ، وَفَرَّغَ قَلْبَهُ لِلَّهِ إِلَّا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ".

والثاني: عدم الالتفات بالبصر يمينًا وشمالاً، وقصر النظر عَلَى موضع السجود وهو من لوازم خشوع القلب وعدم التفاته، ولهذا رأى بعض السلف مصليًا يعبث في صلاته فَقَالَ: لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه، وقد سبق ذكره.

وخرج الطبراني (2) من حديث ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كَانَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَلْتَفِتْ فِي صَلَاتِهِ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ يَسَارِهِ ثُمَّ أَنْزَل اللهُ عز وجل:

(1) برقم (832).

(2)

ذكره الهيثمي في "المجمع"(2/ 80) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، وقال: تفرد به حبرة بن نجم الإسكندراني، ولم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات.

ص: 302

{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} (1) فخشع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن يلتفت يمنة ولا يسرة.

ورواه غيره عن ابن سيرين رحمه الله تعالى مرسلاً (2) وهو أصح.

وخرج ابن ماجه (3) من حديث أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُهُ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَ النَّاسُ إِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يُصَلِّي لَمْ يَعْدُ بَصَرُهُ مَوْضِعَ (جَبِينِهِ) (*)، فَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ عُمَرُ رضي الله عنه فَكَانَ النَّاسُ إِذَا قَامَ أَحَدُهُمْ يَلِي لَمْ يَعْدُ بَصَرُ أَحَدِهِمْ مَوْضِعَ الْقِبْلَةِ، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه، فَكَانَتِ الْفِتْنَةُ فَتَلَفَّتَ النَّاسُ يَمِينًا وَشِمَالًا» .

وفي "صحيح البخاري"(4) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الِالْتِفَاتِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: «هُوَ اخْتِلَاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ صَلَاةِ العَبْدِ» .

وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي (5) من حديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا يَزَالُ اللَّهُ مُقْبِلًا عَلَى الْعَبْدِ فِي صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا الْتَفَتَ انْصَرَفَ عَنْهُ» .

وخرج الإمام أحمد والترمذي (6) من حديث الحارث الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ وَيَأْمُرَ بني إسرائيل أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ" فذكر منها: "وَآمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا".

(1) المؤمنون: 1 - 2.

(2)

أخرجه أبو داود فى "المراسيل"(ص8).

(3)

برقم (1634).

(*) جبهته: "نسخة".

(4)

برقم (751، 3291).

(5)

أخرجه أحمد (5/ 172)، وأبو داود (909)، والنسائي فى "الصغرى"(3/ 8)، وفى "الكبرى"(1/ 356).

(6)

أخرجه أحمد (4/ 130، 202)، والترمذي (2863، 2864). قال الترمذي: حسن صحيح

غريب.

ص: 303

وفي المعنى أحاديث أُخر متعددة.

وقال عطاء: سمعت أبا هريرة يقول: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلَا يَلْتَفِتْ، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ إِنَّ رَبَّهُ أَمَامَهُ، وَإِنَّهُ يُنَاجِيهِ فَلَا يَلْتَفِتْ» .

قال عطاء رحمه الله تعالى: وبلغنا أن الرب عز وجل يقول: "يَا ابْنَ آدَمَ إِلَى مَنْ تَلْتَفِتُ، أَنَا خَيْرٌ لَكَ مِمَّنْ تَلْتَفِتُ إِلَيْهِ". وخرجه البزار وغيره مرفوعًا، والموقوف أصح.

وقال أبو عمران الجوني رحمه الله تعالى: أوحى الله عز وجل إِلَى موسى عليه السلام: يا موسى إذا قمت بين يدي فقم مقام العبد الحقير الذليل، وذم نفسك فهي أولى بالذم، وناجي بقلب وجل، ولسان صادق.

ومن ذلك الركوع وهو ذل بظاهر الجسد؛ ولهذا كانت العرب تأنف منه ولا تفعله حتى بايع بعضهم النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى أن لا يخر إلا قائمًا يعني أن يسجد من غير ركوع، كذلك فسره الإمام أحمد رحمه الله تعالى والمحققون من العُلَمَاء.

وقال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} (1) وتمام الخضوع في الركوع: أن يخضع القلب لله ويذل له فيتم بذلك خضوع العبد بباطنه وظاهره لله عز وجل، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه:"خَشَعَ لَكَ سَمْعِي وَبَصَرِي وَمُخِّي وَعِظَامِي وَمَا اسْتَقَلَّ بِهِ قَدَمِي"(2)، إشارة إِلَى أن خشوعه في ركوعه قد حصل بجميع جوارحه، ومن أعظمها القلب الَّذِي هو ملك الأعضاء والجوارح، فَإِذَا خشع خشعت الجوارح، والأعضاء كلها تبعًا لخشوعه.

ومن ذلك السجود وهو أعظم ما يظهر فيه ذل العبد لربه عز وجل، حيث جعل العبد أشرف ما له من الأعضاء، وأعزها عليه وأعلاها حقيقة أوضع ما يمكنه، فيضعه في التراب متعفرًا ويتبع ذلك انكسار القلب وتواضعه وخشوعه لله عز وجل.

(1) المرسلات: 48.

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 304

ولهذا كان جزاء المؤمن إذا فعل ذلك أن يقربه الله عز وجل إِلَيْهِ فإن: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ» (1) كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} (2).

والسجود أيضاً مما كان يأنف منه المشركون المستكبرون عن عبادة الله عز وجل، وكان بعضهم يقول: أكره ان أسجد فتعلوني استي، وكان بعضهم يأخذ كفًّا من حصى، فيرفعه إِلَى جبهته ويكتفي بذلك عن السجود.

وإبليس إِنَّمَا طرده الله لما استكبر عن السجود لمن أمره الله بالسجود له.

ولهذا يبكي إذا سجد المؤمن ويقول: أمر ابن آدم بالسجود ففعل فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار (3).

ومن تمام خشوع العبد لله عز وجل وتواضعه له في ركوعه وسجوده، أنه إذا ذل لربه بالركوع والسجود وصف رَبَّه حينئذ بصفات العز والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول: الذل والتواضع وصفي، والعلو والعظمة والكبرياء وصفك، فلهذا شرع للعبد في ركوعه أن يقول: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده سبحان ربي الأعلى (4).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يقول في سجوده: «سُبْحَانَ ذِي الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ، وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ» (5).

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال ليلة في سجوده: "أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي دَاوُدُ عليه السلام: أُعَفِّرُ وَجْهِي فِي التُّرَابِ لِسَيِّدِي، وَحَقٌّ لِسَيِّدِي أَنْ تُعَفَّرَ الْوُجُوهُ لِوَجْهِهِ"(6).

(1) أخرجه مسلم (482).

(2)

العلق: 19.

(3)

أخرجه مسلم (81).

(4)

أخرجه مسلم (772).

(5)

أخرجه أحمد (6/ 24)، وأبو داود (873)، والنسائي (2/ 191، 223).

(6)

أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(3556).

ص: 305

قال الحسن رحمه الله تعالى: «إِذَا قُمْتَ إِلَى الصَّلَاةِ فَقُمْ قَانِتًا كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ، وَإِيَّاكَ وَالسَّهْوَ وَالِالْتِفَاتَ، إِيَّاكَ أَنْ يَنْظُرَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَتَنْظُرَ إِلَى غَيْرِهِ، وَتَسْأَلُ اللَّهَ الْجَنَّةَ وَتَعَوَّذُ بِهِ مِنَ النَّارِ، وَقَلْبُكَ سَاهٍ وَلَا تَدْرِي مَا تَقُولُ بِلِسَانِكَ» ، خرجه محمد بن نصر المروزي (1) رحمه الله تعالى.

وروي بإسناده (2) عن عثمان بن أبي دهرش قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

صَلَّى صَلَاةً جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: "هَلْ أَسْقَطْتُ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ فِي شَيْئًا؟ قَالُوا: لَا نَدْرِي، قَالَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: نَعَمْ آيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَا بَالُ أَقْوَامٍ، يُتْلَى عَلَيْهِمْ كِتَابُ اللَّهِ فَلَا يَدْرُونَ مَا يُتْلَى مِنْهُ مِمَّا تُرِكَ، هَكَذَا خَرَجَتْ عَظَمَةُ اللَّهِ مِنْ قُلُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَشَهِدَتْ أَبْدَانُهُمْ وَغَابَتْ قُلُوبُهُمْ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ عَمَلًا حَتَّى يَشْهَدَ بِقَلْبِهِ مَعَ بَدَنِهِ» .

والآثار في هذا المعنى كثيرة جدًّا.

ومر عصام بن يوسف رحمه الله تعالى بحاتم الأصم وهو يتكلم في مجلسه فَقَالَ: يا حاتم تحسن تصلي؟ قال: نعم! قال: كيف تصلي؟ قال حاتم: أقوم بالأمر وأمشي بالخشية، وأدخل بالنية، وأكبر بالعظمة، وأقرأ بالترتيل والتفكر، وأركع بالخشوع، وأسجد بالتواضع، وأجلس للتشهد بالتمام، وأسلم بالسبيل والسنة، وأسلمها بالإخلاص إِلَى الله عز وجل، وأرجع عَلَى نفسي بالخوف، أخاف أن لا يقبل مني، وأحفظه بالجهد إِلَى الموت، قال: تكلم فأنت تحسن تصلي.

ومن أنواع العبادات التي يظهر فيها الذل والخشوع لله عز وجل: الدعاء، قال الله تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} (3) وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (4).

فمما يظهر فيه الذل من الدعاء رفع اليدين.

(1) في "تعظيم قدر الصلاة"(1/ 189 رقم 140).

(2)

المصدر السابق (1/ 198 رقم 157).

(3)

الأعراف: 55.

(4)

الأنبياء: 90.

ص: 306

وقد صح (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في الدعاء في مواطن كثيرة، وأعظمها في الاستسقاء فإنه كان يرفع فيه يديه حتى يرى بياض إبطيه، وكذلك كان يجتهد في الرفع عشية عرفة بعرفة، وخرج الطبراني (2) رحمه الله تعالى من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:"رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة ويداه إِلَى صدره كاستطعام المسكين".

وقد كان بعض الخائفين يجلس بالليل ساكنًا مطرقًا برأسه، ويمد يديه كحال السائل، وهذا من أبلغ صفات الذل وإظهار المسكنة والافتقار.

ومن ذلك أيضاً افتقار القلب في الدعاء، وانكساره لله عز وجل، واستشعاره شدة الفاقة إِلَيْهِ والحاجة لديه، وعلى قدر هذه الحرقة والفاقة تكون إجابة الدعاء.

وفي "المسند" والترمذي (3) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ".

ومن ذلك إظهار الذل باللسان في نفس السؤال والدعاء والإلحاح فيه، قال الأوزاعي رحمه الله تعالى: كان يقال: أفضل الدعاء الإلحاح عَلَى الله والتضرع إِلَيْهِ.

وفي "الطبراني"(4) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا يوم عرفة فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَرَى مَكَانِي وَتَسْمَعُ كَلَامِي لاً يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ

(1) أخرجه البخاري (1031)، وسلم (895).

(2)

في "الأوسط"(2892). قال الهيثمي في "المجمع"(10/ 168): وفيه الحسين بن عبد الله بن عبيد الله، وهو ضعيف.

(3)

أخرجه أحمد (2/ 177)، والترمذي (3479). قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

(4)

في "المعجم الكبير"(11/ 11405)، وفي "المعجم الصغير" (696) وقال: لم يروه عن عطاء إلا إسماعيل، ولا عنه إلا يحيى، تفرد به ابن بكير.

قال الهيثمي في "المجمع"(3/ 252): فيه يحيى بن صالح الأبلي.

قال العقيلي: روى عنه يحيى بن بكير مناكير، وبقية رجاله رجال الصحيح.

ص: 307

أَمْرِي، أَنَا الْبَائِسُ الْفَقِيرُ الْمُسْتَغِيثُ الْمُسْتَجِيرُ الْوَجِلُ الْمُشْفِقُ، الْمُقِرُّ الْمُعْتَرِفُ بِذَنَبِهِ، أَسْأَلُكَ مَسْأَلَةَ الْمِسْكِينِ وَأَبْتَهِلُ إِلَيْكَ ابْتِهَالَ الْمُذْنِبِ الذَّلِيلِ، وَأَدْعُوكَ دُعَاءَ الْخَائِفِ الضَّرِيرِ، دُعَاءَ مَنْ خَضَعَتْ لَكَ رَقَبَتُهُ، وَذَلَّ جَسَدُهُ، وَرَغِمَ لَكَ أَنْفُهُ، اللَّهُمَّ لاً تَجْعَلْنِي بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، وَكُنْ بِي بَارًّا رَءُوفًا رَحِيمًا، يَا خَيْرَ الْمَسْئُولِينَ، وَيَا خَيْرَ الْمُعْطِينَ»، وكان بعضهم يقول في دعائه:(بعزتكم)(*) وذلي، (وبغناك)(**) وفقري.

وقال طاوس رحمه الله تعالى: دخل علي بن الحسين رحمه الله تعالى ذات ليلة الحجرة (فصلى) (

)، فسمعت يقول في سجوده:(عبدك)(****) بِفِنَائِكَ، مسكينك بِفِنَائِكَ، فقيرك بِفِنَائِكَ، سألك بِفِنَائِكَ. قال طاوس: فحفظتهن، فما دعوت بهن في كرب إلا فرج عني. خرج ابن أبي الدُّنْيَا.

وروى ابن باكويه الصوفي رحمه الله تعالى بإسناد له، أن بعض العباد حج ثمانين حجة عَلَى قدميه، فبينما هو فى الطواف وهو يقول: يا حبيبي يا حبيبي، وإذا بهاتف يهتف به: ليس ترضى أن تكون مسكينًا حتى تكون حبيبًا؟ قال: فغشي عليه، ثم كنت بعد ذلك أقول: مسكينك مسكينك، وأنا تائب عن قولي: حبيبي.

خرج ابن ماجه (1) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ المَسَاكِينِ» .

وخرج الترمذي (2) من حديث أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وزاد: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: رضي الله عنها: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ

(*) بعزك: "نسخة".

(**) وغناك: "نسخة".

(

) يصلي: "نسخة".

(****) عبيدك: "نسخة".

(1)

برقم (4126) وسبق تخريجه.

(2)

برقم (2352) وقال: هذا حديث غريب، وسبق تخريجه.

ص: 308

الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا، يَا عَائِشَةُ لَا تَرُدِّي المِسْكِينَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ أَحِبِّي المَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ القِيَامَةِ».

وقال أبو ذر: "أَوْصَانِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أُحِبَّ الْمَسَاكِينَ وَأَنْ أَدْنُوَا مِنْهُمْ". خرجه الإمام أحمد (1) وغيره.

وفي حديث معاذ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قصة المنام: "أَسْأَلُكَ فِعْلَ الخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ المُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ المَسَاكِينِ" وذكر الحديث (2).

والمراد بالمساكين في هذه الأحاديث ونحوها: من كان قلبه مستكنًّا لله خاضعًا له خاشعًا، وظاهره كذلك.

وأكثر ما يوجد ذلك مع الفقر من المال؛ لأنّ المال يطغي.

وحديث أنس رضي الله عنه يشهد بهذا إلا أن إسناده ضعيف.

وخرج النسائي (3) من حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الفقر فقر النفس، والغنى غنى القلب".

وفي "الصحيح"(4) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّمَا الغِنَى غِنَى النَّفْسِ".

ولهذا قال الإمام أحمد وابن عيينة وابن وهب وجماعة من الأئمة: إِنَّ الفقر الَّذِي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم هو فقر النفس، فمن استكان قلبه لله عز وجل وخشع له، فهو مسكين وإن كان غنيًّا من المال؛ لأنّ استكانة القلب لا تنفك عن استكانة الجوارح، ومن خشع ظاهره واستكان وقلبه ليس بخاشع ولا مستكين فهو جبار.

(1) أخرجه أحمد (5/ 159، 173)، والنسائي في "الكبرى"(6/ 96).

(2)

أخرجه أحمد (5/ 243)، والترمذي (3235) من حديث معاذ بن جبل. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(3)

في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(9/ 157).

(4)

البخاري (6446)، ومسلم (1051).

ص: 309

وفي الحديث الَّذِي خرجه النسائي (1) وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم مر في طريق وفيه امرأة سوداء، فَقَالَ لها رجل: هاء الطريق فقالت: إِن شاء أخذ يمنة وإن شاء أخذ يسرة، فَقَالَ رسول الله:"دَعُوهَا فَإِنَّهَا جَبَّارَةٌ" فقالوا: يا رسول الله إنها تعني إنها مسكينة، فَقَالَ:"إِنَّ ذلك في قلبها".

وقال الحسن رحمه الله تعالى: إِنَّ قومًا جعلوا التواضع في لباسهم، والكبر في قلوبهم، ولبسوا مدارع (2) الصوف، والله لأحدهم أشد كبرًا بمدرعته من صاحب السرير بسريره، وصاحب المطرف (3) بمطرفه.

وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أنكر أن يكون لبس الثوب الحسن والنعل الحسن كبرًا، وقال:"الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ"(4) وهذا تصريح بأن حسن اللباس ليس بكبر الكبر إِنَّمَا هو في القلب وهو عدم الانقياد للحق تكبرًا عليه، وغمط الناس هو: احتقارهم وازدراؤهم، فمن كان في نفسه عظيمًا بحيث يحقر الناس لاستعظام نفسه، ويأنف من الانقياد للحق تكبرًا عليه فهو المتكبر، وإن كان ثوبه ليس بحسن، ونعله ليس بحسن، ومن ترك اللباس الحسن تواضعًا لله وخشية أن يقع في نفسه شيء من الكبر فقد أحسن فيما فعل، وقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يفعل ذلك. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الأنبجانية التي لبسها:"إِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلَاتِي"(5) يدل عَلَى ذلك. (فعل النبي صلى الله عليه وسلم)(*).

ومما اختاره النبي صلى الله عليه وسلم مقام العبودية عَلَى مقام الملك، وقام بين يديه صلى الله عليه وسلم رجل يوم الفتح فارتعد فَقَالَ له:«هَوِّنْ عَلَيْكَ، إِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ» (6).

(1) في "الكبرى"(6/ 143) قال النسائي: عافيه بن يزيد ثقة، وسليمان الهاشمي لا أعرفه.

(2)

المدرعة: ثوب لا يكون إلا من صوف. "القاموس المحيط" مادة: (درع).

(3)

المُطرّف: رداء من خزٍّ مربع ذو أعلام. "القاموس المحيط" مادة: (طرف).

(4)

أخرجه مسلم (91).

(5)

أخرجه البخاري (1/ 406)، ومسلم (556).

(*) كذا بالأصل، والمعنى يستقيم بدونها.

(6)

أخرجه ابن ماجه (3312).

ص: 310

وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» (1).

قال الإمام أحمد (2) رحمه الله تعالى: حدثنا محمد بن فُضيل، عن عمارة، عن أبي زرعة قال: لا أعلمه إلا عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: "جَلَسَ جِبْرِيلُ عليه السلام إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ (مهول)(*)، فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه السلام: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: «بَلْ عَبْدًا رَسُولًا» .

ومن "مراسيل يحيى بن أبي كثير" رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ» خرجه ابن سعد في "طبقاته"(3).

وخرجه أيضاً (4) من رواية أبي معشر، عن المقبري، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَتَانِي مَلَكٌ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: إِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلَكًا، وَإِنْ شِئْتَ عَبْدًا رَسُولاً فَأَشَارَ إِلَى جِبْرِيلَ عليه السلام: أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ. فَقُلْتُ: نَبِيًّا عَبْدًا. قَالَتْ: فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ لاً يَأْكُلُ مُتَّكِئًا يَقُولُ: «آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ» .

ومن "مراسيل الزهري"(5) رحمه الله تعالى قال: بلغنا أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم ملك لم يأته قبلها، ومعه جبريل عليه السلام، فَقَالَ الملك -وجبريل عليه السلام صامت-: إِنَّ رَبَّكَ يُخَيِّرُكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ [نَبِيًّا](6) مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا،

(1) أخرجه البخاري (3446).

(2)

(2/ 231).

(*) ينزل: "نسخة".

(3)

"الطبقات الكبرى"(1/ 371) طبعة دار صادر.

(4)

"الطبقات الكبرى"(1/ 381).

(5)

أخرجه ابن سعد أيضًا في "الطبقات الكبرى"(1/ 381).

(6)

من "الطبقات الكبرى".

ص: 311

فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام (كالمستشير)(*)، فأشار إِلَيْهِ أن تواضع، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"نبيًّا عبدًا".

قال الزهري: فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل منذ قالها متكئًا حتى فارق الدُّنْيَا.

وفي "المسند" و"كتاب الترمذي"(1) عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي عز وجل لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا فَقُلْتُ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وَأَجُوعُ يَوْمًا" وَقَالَ ثَلَاثًا أَوْ نَحْوَ هَذَا: "فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ".

قال بعض العارفين: من ادعى العبودية وله مراد باق فيه، فهو كاذب في دعواه، إنما تصح العبودية لمن أفنى مراداته، وقام بمراد سيده، يكون اسمه ما سُمِّيَ به، ونعته ما (خلي)(**) به، إذا دُعِيَ باسمه أجاب عن العبودية، فلا اسم له ولا رسم، ولا يجيب إلا لمن يدعوه بعبودية سيده، وأنشد يقول:

يا عمرو ثاري عند زهرائي

يعرفه السامع والرائي

لا تدعني إلا بيا عبدها

فإنه أصدق أسمائي

تمت والحمد لله وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

(*) كالمستأمر له: "نسخة".

(1)

أخرجه أحمد (5/ 254)، والترمذي (2347) وقال الترمذى: هذا حديث حسن.

(**) حلي:"نسخة".

ص: 312

كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة

ص: 313

بسم الله الرحمن الرحيم

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

قال الشيخ الإمام العالم العلامة الحبر الكامل شيخ الإسلام قدوة الأنام، وحيد عصره وفريد دهره، سيدنا وشيخنا أبو الفرج عبد الرحمن بن سيدنا وشيخنا الإمام شهاب الدين أحمد بن رجب الحنبلي، فسح الله في مدته، ونفع به:

الحمد لله رب العالمين حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

خرج مسلم في "صحيحه"(1) من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» ، ومن حديث ابن عمر (2)، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ".

وخرجه الإمام أحمد (3) وابن ماجه (4) من حديث ابن مسعود بزيادة في آخره: "قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ:«النُّزَّاعُ مِنَ الْقَبَائِلِ» .

وخرجه أبو بكر الآجري (5)، وعنده: قِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ".

وخرجه غيره، وعنده: قال: "الذين يفرون بدينهم من الفتن"(6).

(1) برقم (145).

(2)

أخرجه مسلم (146)، وزاد: وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إِلَى حجرها.

(3)

(1/ 398).

(4)

برقم (3988).

(5)

في كتاب "الغرباء"(4).

(6)

أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(1513)، ونعيم بن حماد في "الفتن" (168) بلفظ:"الذين يفرون بدينهم يجتمعون إِلَى عيسى بن مريم .... ".

ص: 315

وخرجه الترمذي (1) من حديث كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا، وَيَرْجِعُ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي".

وخرجه الطبراني (2) من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديثه:"قِيلَ: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "الَّذِينَ يُصْلِحُونَ حِينَ فَسَدَ النَّاسُ".

وخرجه أيضاً (3) من حديث سهل بن سعد بنحوه.

وخرجه الإمام أحمد (4) من حديث سعد بن أبي وقاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي حديثه:"فَطُوبَى يَوْمَئِذٍ لِلْغُرَبَاءِ، إِذَا فَسَدَ النَّاسُ".

وخرج الإمام أحمد (5) والطبراني (6) من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«طُوبَى لِلْغُرَبَاءِ. قُلْنَا: وَمَا الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي نَاسِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» .

وروي عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا (7) وموقوفًا (8) في هذا الحديث: قِيلَ: وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: «الْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ، يَبْعَثُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام» .

فقوله صلى الله عليه وسلم: "بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا" يريد به أن الناس كانوا قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم عَلَى ضلالة عامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عياض بن حمار الَّذِي خرجه مسلم (9):"إِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ".

(1) برقم (2630)

(2)

في "الأوسط"(4915، 8716).

(3)

في "الكبير"(6/ 202)، وفي "الصغير"(290).

(4)

(4/ 16).

(5)

(2/ 177، 222).

(6)

في "الأوسط"(8986).

(7)

أخرجه عبد الله بن أحمد في "زوائد الزهد"(ص149) ومن طريقه: أبو نعيم في "الحلية"(1/ 25)، والبيهقي في "الزهد الكبير"(204).

(8)

أخرجه أحمد في "الزهد"(ص77).

(9)

برقم (2865).

ص: 316

فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا إِلَى الإسلام لم يستجيب في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيله، وكان المستجيب له خائفًا من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى، وينال منه وهو صابر عَلَى ذلك في الله عز وجل، وكان المسلمون إذ ذاك مستضعفين، يطردون ويشردون كل مشرد، ويهربون بدينهم إِلَى البلاد النائية، كما هاجروا إِلَى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إِلَى المدينة، وكان منهم من يعذب في الله، وفيهم من قتل، فكان الداخلون فى الإسلام حينئذٍ غرباء.

ثم ظهر الإسلام بعد الهجرة إِلَى المدينة وعزّ، وصار أهله ظاهرين كل الظهور، ودخل الناس بعد ذلك في دين الله أفواجًا، وأظهر الله لهم الدين، وأتم عليهم النعمة.

وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم والأمر عَلَى ذلك، وأهل الإسلام عَلَى غاية من الاستقامة.

في دينهم وهم متعاضدون متناصرون، وكانوا عَلَى ذلك في زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم أعمل الشيطان مكائده عَلَى المسلمين، وألقى بأسهم بينهم، وأفشى فيهم فتنة الشهوات والشبهات، ولم تزل هاتان الفتنتان لتزايدان شيئًا فشيئًا، حتى استحكمت مكيدة الشيطان، وأطاعه أكثر الخلق، فمهنم من دخل في طاعته في فتنة الشبهات، ومنهم من دخل في فتنة الشهوات، ومنهم من جمع بينهما، وكل ذلك مما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعه. فأما فتنة الشبهات، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم من غير وجه أن أمته ستفترق عَلَى أزيد من سبعين فرقة، عَلَى (خلاف)(*) الروايات في عدد الزائد عَلَى السبعين، وأن جميع تلك الفرق في النار إلا فرقة واحدة، وهي من كان عَلَى ما هو عليه وأصحابه.

وأما فتنة الشهوات، ففي "صحيح مسلم"(1)، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَيفَ أَنتُمْ إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ خَزَائِنُ فَارِسَ وَالرُّومِ، أَيُّ قَوْمٍ

(1) برقم (2962).

(*) اختلاف: "نسخة".

ص: 317

أَنْتُمْ؟» فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ. قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ (تَتَبَاغَضُونَ)» (*).

وفي "صحيح البخاري"(1)، عن عمرو بن عوف، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمُ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ».

وفي "الصحيحين"(2) من حديث عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه أيضاً.

ولما فتحت كنوز كسرى عَلَى عمر رضي الله عنه بكى وقال: إِنَّ هذا لم يفتح عَلَى قوم قط إلا جُعِلَ بأسُهُمْ بينهم -أو كما قال.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى عَلَى أمته هاتين الفتنتين، كما في "مسند الإمام أحمد"(3)، عن أبي برزة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّمَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ شَهَوَاتِ الْغَيِّ فِي بُطُونِكُمْ وَفُرُوجِكُمْ، وَمُضِلَّاتِ الفِتَنِ» ، وفي رواية:«وَمُضِلَّاتِ الْهَوَى» .

فلما دخل أكثر الناس في هاتين الفتنتين أو إحداهما أصبحوا متقاطعين متباغضين، بعد أن كانوا إخوانًا متحالين متواصلين، فإن فتنة الشهوات عمت غالب الخلق، فافتتنوا بالدنيا وزهرتها، وصارت غاية قصدهم، لها يطلبون، وبها يرضون، ولها يغضبون، ولها يوالون، وعليها يعادون، فقطعوا لذلك أرحامهم، وسفكوا دماءهم، وارتكبوا معاصي الله بسبب ذلك.

(*) تتضاغنون: "نسخة".

(1)

برقم (3158، 4015، 6425)، وكذا مسلم (9261).

(2)

أخرجه البخاري (6426)، ومسلم (2296).

(3)

(4/ 420).

ص: 318

وأما فتنة الشبهات والأهواء الضلة فبسببها تَفَرَّقَ أهل القبلة، وصاروا شيعًا، وكفَّر بعضهم بعضًا، وصاروا أعداءً وفرقًا وأحزابًا، بعد أن كانوا إخوانًا قلوبهم عَلَى قلب رجل واحدٍ، فلم ينج من هذه الفرق إلا الفرقة الواحدة الناجية، وهم المذكورون في قوله صلى الله عليه وسلم:«لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، أَوْ خَالَفَهُم حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ، وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ» (1).

وهم في آخر الزمان الغرباء المذكورون في هذه الأحاديث، الذين يصلحون إذا فسد الناس، وهم الذين يصلحون ما أفسد الناس من السنة، وهم الذين يفرون بدينهم من الفتن، وهم النُّزَّاع من القبائل؛ لأنهم قلُّوا، فلا يوجد في كل قبيلة منهم إلا الواحد والاثنان، وقد لا يوجد في بعض القبائل منهم أحد، كما كان الداخلون إِلَى الإسلام في أول الأمر كذلك، وبهذا فسر الأئمة هذا الحديث.

قال الأوزاعي في قوله صلى الله عليه وسلم: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ» : أما إنه ما يذهب الإسلام، ولكن يذهب أهل السنة حتى ما يبقى في البلد منهم إلا رجل واحد.

ولهذا المعنى يوجد في كلام السلف كثيرًا مدح السنة ووصفها بالغربة، ووصف أهلها بالقلة، فكان الحسن البصري رحمه الله يقول لأصحابه: يا أهل السنة، ترفقوا، رحمكم الله، فإنكم من أقل الناس.

وقال يونس بن عبيد: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها. وروي عنه أنه قال: أصبح من إذا عرف السنة فعرفها غريبًا، وأغرب منه من يعرفها.

وعن سفيان الثوري أنه قال: استوصوا بأهل السنة خيرًا، فإنهم غرباء.

ومراد هؤلاء الأئمة بالسنة: طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان هو وأصحابه عليها، السالمة من الشبهات والشهوات.

(1) أخرجه البخاري (7311)، ومسلم (1524).

ص: 319

ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول: أهل السنة من عرف ما يدخل بطنه من حلال، وذلك لأنّ أكل الحلال من أعظم خصال السنة التي كان عليها صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم.

ثم صار في عرف كثير من العُلَمَاء المتأخرين من أهل الحديث وغيرهم السنة عبارة عما سلم من الشبهات في الاعتقادات، خاصة في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكذلك مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنفوا في هذا العِلْم تصانيف سموها كتب السنة، وإنما خصوا هذا العِلْم باسم السنة؛ لأنّ خطره عظيم، والمخالف فيه عَلَى شفا هلكة.

وأما السنة الكاملة فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات، كما قال الحسن ويونس بن عبيد، وسفيان والفضيل وغيرهم، ولهذا وصف أهلها بالغربة في آخر الزمان لقلتهم وعزتهم فيه، ولهذا ورد في بعض الروايات كما سبق في تفسير الغرباء:«قَوْمٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ فِي قَوْمِ سَوْءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» . وفي هذا إشارة إِلَى قلة عددهم، وقلة المستجيبين لهم والقابلين منهم، وكثرة المخالفين لهم والعاصين لهم.

ولهذا جاء في أحاديث متعددة مدح المتمسك بدينه في آخر الزمان، وأنه كالقابض عَلَى الجمر، وأن للعامل منهم أجر خمسين ممن قبلهم؛ لأنهم لا يجدون أعوانًا عَلَى الخير.

وهؤلاء الغرباء قسمان: أحدهما: من يصلح نفسه عند فساد الناس، والثاني: من يصلح ما أفسد الناس من السنة، وهو أعلى القسمين وأفضلها.

وقد خرج الطبراني وغيره (1) بإسناد فيه نظر من حديث أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِكُلَّ شَيْءٍ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَإِنَّ لِهَذَا الدِّينِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا، وَإِنَّ مِنْ إِدْبَارِ الدِّينِ مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ العَمَى وَالجَهَالَةِ، وَمُخَالَفَةْ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، وَإِنَّ مِنْ

(1) ذكره الهيثمي في "المجمع"(7/ 261 - 262)، وقال: رواه الطبراني، وفيه: علي بن يزيد، وهو متروك.

ص: 320

إِقْبَالِ هَذَا الدِّينِ أَنْ تَفْقَهَ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا، حَتَّى لَا يُوجَدُ فِيهَا إِلَّا الْفَاسِقُ وَالْفَاسِقَانِ، فَهُمَا مَقْهُورَانِ ذَلِيلَانِ، إِنْ تَكَلَّمَا قَمْعًا وَقَهْرًا وَاضْطُهِدَا، أَلَا وَإِنَّ مِنْ إِدْبَارِ هَذَا الدِّينِ أَنْ تَجْفُوَ الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا، حَتَّى لَا يُرَى فِيهَا الْفَقِيهُ وَالْفَقِيهَانِ، وَهُمَا مَقْهُورَانِ ذَلِيلَانِ، إِنْ تَكَلَّمَا فَأمَرَا بِالمَعْرُوفِ وَنَهَيَا عَنِ الْمُنْكَرِ: قمعا وقهرا وَاضْطُهِدَا، فَهُمَا مَقْهُورَانِ ذَلِيلَانِ، لَا يَجِدَانِ عَلَى ذَلِكَ أَعْوَانًا وَلَا أَنْصًارًا".

فوصف في هذا الحديث المؤمن العالم بالسنة الفقيه في الدين بأنه يكون في آخر الزمان عند فساده مقهورًا ذليلاً، لا يجد أعوانًا ولا أنصارًا.

وخرج الطبراني أيضاً بإسناد فيه ضعف، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم

في حديث طويل في ذكر أشراط الساعة قال: «وَإِنَّ مِنْ أَشْرَاطِهَا أَنْ يَكُون المُؤمن فِي القَبِيلَةِ أَذَلّ مِنَ النَّقْدِ» (1) والنَّقَدُ: هي الغنم الصغار.

وفى "مسند الإمام أحمد"(2) عن عبادة بن الصامت قال لرجل من أصحابه: يوشك إِن طالت بك حياة أن ترى الرجل قد قرأ القرآن عَلَى لسان محمد صلى الله عليه وسلم، أو عَلَى من قرأه عَلَى لسان محمد فأعاده وأبداه، فأحل حلاله وحرم حرامه، ونزل عند منازله لا يجوز فيكم إلا كما يجوز رأس الحمار الميت.

ومنه قول ابن مسعود: وسيأتي عَلَى الناس زمان يكون المؤمن فيه أذل من الأَمَة.

وإنما ذل المؤمن في آخر الزمان لغربته بين أهل الفساد من أهل الشبهات والشهوات، فكلهم يكرهه ويؤدِّيه، لمخالفة طريقه لطريقهم، ومقصوده لمقصودهم، ومباينته لهم فيما هم عليه.

ولما مات داود الطائي قال ابن السماك: إِنَّ داود نظر بقلبه إِلَى ما بين يديه

(1) ذكره الهيثمي في "المجمع"(7/ 322 - 323) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير"، وفيه: سيف بن مسكين، وهو ضعيف.

(2)

(4/ 126).

ص: 321

فأغشى (بصر قلبه)(*) بصر العيون، فكأنه لم ينظر إِلَى ما أنتم إِلَيْهِ تنظرون، وكأنكم لا تنظرون إِلَى ما إِلَيْهِ ينظر، فأنتم منه تعجبون، وهو منكم يعجب، استوحش منكم أنه كان حيًّا وسط موتى.

ومنهم من كان يكرهه أهله وولده لاستنكار حاله، سمع عمر بن عبد العزيز امرأته مرة تقول: أراحنا الله منك. فَقَالَ: آمين.

وقد كان السلف قديمًا يصفون المؤمن بالغربة في زمانهم، كما سبق مثله عن الحسن والأوزاعي وسفيان وغيرهم.

ومن كلام أحمد بن عاصم الأنطاكي -وكان من كبار العارفين في زمان أبي سليمان الداراني-: إني أدركت من الأزمنة زمانًا عاد فيه الإسلام غريبًا كما بدأ، وعاد وصف الحق فيه غريبًا كما بدأ، إِن ترغب فيه إِلَى عالم وجدته مفتونًا بحب الدُّنْيَا، يحب التعظيم والرئاسة، وإن ترغب فيه إِلَى عابد وجدته جاهلاً في عابدته مخدوعًا، صريع عدوه إبليس، قد صعد به إِلَى أعلى درجة العبادة، وهو جاهل بأدناها، فكيف له بأعلاها؟! وسائر ذلك من الرعاع قبيح أعوج، وذئاب مختلفة، وسباعٌ ضارية، وثعالب صائلة، هذا وصف عيون أهل زمانك من حملة أهل العِلْم والقرآن ودعاة الحكمة.

خرجه أبو نعيم في "الحلية".

فهذا وصف أهل زمانه، فكيف بما حدث بعده من العظائم والدواهي التي لم تخطر بباله، ولم تَدُر في خياله؟!

وخرج الطبراني من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّتِي عِنْدَ فَسَادِ أُمَّتِي لَهُ أَجْرُ شَهِيدٍ» (1).

(*) بقلبه: "من المطبوعة، وهي الطبعة المنيرية".

(1)

ذكره الهيثمي في "المجمع"(1/ 172) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه محمد بن صالح العدوي، ولم أر من ترجمه، وبقية رجاله ثقات.

ص: 322

وخرج أبو الشيخ الأصبهانى بإسناده عن الحسن قال: لو أن رجلاً من الصدر الأول بعث اليوم: ما عرف من الإسلام شيئًا إلا هذه الصلاة، ثم قال: أما والله، لئن عاش عَلَى هذه النكرات فرأى صاحب بدعة يدعو إِلَى بدعته، وصاص دنيا يدعو إِلَى دنياه، فعصمه الله عز وجل، وقلبه يحن إِلَى ذلك السلف الصالح، فيتبع آثارهم، ويستن بسنتهم، ويتبع سبلهم كان له أجر عظم.

وروى المبارك بن فضالة، عن الحسن أنه ذكر الغني المترف، الَّذِي له سلطان يأخذ المال ويدعي أنه لا عقاب فيه، وذكر المبتدع الضال الَّذِي خرج بسيفه عَلَى المسلمين، وتأول ما أنزله الله في الكفار عَلَى المسلمين ثم قال: سنتكم والله الَّذِي لا إله إلا هو بينهما بين الغالي والجافي، والمترف والجاهل، فاصبروا عليها، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس الذين لم يأخذوا من أهل الإتراف إترافهم ولا مع أهل البدع أهواءهم، وصبروا عَلَى سنتهم، حتى أَتَوْا ربهم، فكذلك إِنَّ شاء الله فكونوا.

ثم قال: والله لو أن رجلاً أدرك هذه النُّكُرات، يقول هذا: هَلُم إليَّ، ويقول هذا: هَلُم إِلَيّ، فيقول: لا أريد إلا سُنة محمد صلى الله عليه وسلم، يطلبها ويسأل عنها، إِنَّ هذا ليقرض له أجرٌ عظيم، فكذلك إِنَّ شاء الله فكونوا.

ومن هذا المعنى ما رواه أبو نعيم وغيره، عن كميل بن زياد، عن علي رضي الله عنه أنه قال: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم عَلَى سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العِلْم، ولم يلجئوا إِلَى ركن وثيق، ثم ذكر كلامًا في فضل العِلْم إِلَى أن قال:(هاه)(*) إِنَّ ها هنها -وأشار إِلَى صدره- علمًا، لو أصبت له حملة، بل أصيبه لقنا غير مأمون عليه نستعمل آلة الدين للدنيا، نستظهر بحجج الله عَلَى كتابه، وبنعمته عَلَى عباده أو منقادًا لأهل الحق، لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه

(*) آه: "نسخة".

ص: 323

بأول عارض من شبهة، لا ذا، ولا ذا، أو منهومًا باللذات سلس (الانقياد)(*) للشهوات، أو مغرى بجمع المال والادخار، وليسا من دعاة الدين، أقرب شبهًا بهما الأنعام السارحة، كذلك يموت العِلْم بموت حامليه، اللهم بلى لن تخلوا الأرض عن قائم لله بحجة لكيلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك هم الأقلون عددًا والأعظمون عند الله قدرًا، بهم يدفع الله عن حججه حتى يؤدونها إِلَى نظرائهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العِلْم عَلَى حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر منه المترفون، وأَنَسُوا بما استوحشَ منه الجاهلون، صحبوا الدُّنْيَا بأبدان، أرواحها معلقة بالمنظر الأعلى، أولئك خلفاء الله في بلاده، ودعاته إِلَى دينه، هاه هاه شوقًا إِلَى رؤيتهم.

فقسم أمير المؤمنين- رضي الله عنه حملة العِلْم إِلَى ثلاث أقسام:

قسم هم أهل الشبهات، وهم من لا بصيرة له من حملة العِلْم؛ بل ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، فتأخذه الشبهة، فيقع في الحيرة والشكوك ويخرج من ذلك إِلَى البدع والضلالات.

وقسم هم أهل الشهوات، وجعلهم نوعين:

أحدهما: من يطلب الدُّنْيَا بنفس العِلْم، فيجعل العِلْم آلة لكسب الدُّنْيَا، والثاني: من يطلب الدُّنْيَا بغير العِلْم وهذا النوع ضربان:

أحدهما من همه من الدُّنْيَا لذاتها وشهواتها، فهو منهوم بذلك، سريع الانقياد إِلَيْهِ، والثاني من همه جمع الدُّنْيَا واكتنازها وادخارها، وكل هؤلاء ليسوا من دعاة الدين، وإنما هم كالأنعام، ولهذا شبه الله تعالى من حُمِّل التوراة ثم لم يحملها بالحمار الَّذِي يحمل أسفارًا، وشبه عالم السوء الَّذِي انسلخ من آيات الله وأخلد إِلَى الأرض واتبع هواه بالكلب، والكلب والحمار أخس الأنعام وأضل سبيلاً.

(*) القياد: "نسخة".

ص: 324

القسم الثالث من حملة العِلْم هم أهله وحملته، ورعاته والقائمون بحجج الله وبيناته، وذكر أنهم الأقلون عددًا، [الأعظمون](*) عند الله قدرًا إشاره إِلَى قلة هذا القسم وعزته في حملة العِلْم، وغربته بينهم.

وقد قسم الحسن البصري رحمه الله حملة القرآن إِلَى قريب من هذا التقسيم الَّذِي قسمه علي رضي الله عنه لحملة العِلْم.

قال الحسن: قراء القرآن ثلاثة أصناف:

صنف اتخذوه بضاعة يأكلون به، وصنف أقاموا حروفه وضيعوا حدوده، واستطالوا به عَلَى أهل بلادهم، واسدنوا به الولاية، كثر هذا الضرب من حملة القرآن، لا كثرهم الله.

وصنف عمدوا إِلَى دواء القرآن، فوضعوه عَلَى داء قلوبهم، فركدوا به في محاريبهم، وحنوا في (برانسهم)(1)، واستشعروا الخوف، وارتدوا الحزن، فأولئك الذين يسقي الله بهم الغيث، وينصر بهم عَلَى الأعداء. والله لهؤلاء الضرب في حملة القرآن أعز من الكبريت الأحمر. فأخبر أن هذا القسم - وهم الذين قرءوا القرآن لله وجعلوه دواءًا لقلوبهم، فأثمر لهم الخوف والحزن- أعز من الكبريت الأحمر بين قراء القرآن.

ووصف أمير المؤمين علي رضي الله عنه هذا القسم من حملة العِلْم بصفات:

منها أنه هجم بهم العِلْم عَلَى حقيقة الأمر، ومعنى ذلك أن العِلْم دلهم عَلَى المقصود الأعظم منه، وهو معرفة الله تعالى، فخافوه وأحبوه، حتى سهل بذلك عليهم كل ما تعسر عَلَى غيرهم ممن لم يصل إِلَى ما وصلوا إِلَيْهِ، ممن وقف مع الدُّنْيَا وزهرتها، واغتر بها ولم يباشر قلبه معرفة الله وعظمته وإجلاله.

(*) كتب في الهامش: الأعظم.

(1)

البرنس: قلنسوة طويلة، وكل ثوب رأسه منه ملتزق. "اللسان" مادة:"برنس". [وهو يشبه الثوب المغربي].

ص: 325

فلذلك قال استلانوا ما استوعر منه المترفون، فإن المترف الواقف مع شهوات الدُّنْيَا ولذاتها يصعب عليه ترك لذاتها وشهواتها؛ لأنّه لا عوض عنده من لذات الدُّنْيَا إذا تركها، فهو لا يصبر عَلَى تركها.

وهؤلاء في قلوبهم العوض الأكبر بما وصلوا إِلَيْهِ من لذة معرفة الله ومحبته وإجلاله، كما كان الحسن يقول: إِنَّ أحباء الله هم الذين ورثوا طيب الحياة وذاقوا نعيمها بما وصلوا إِلَيْهِ من مناجاة حبيبهم، وبما وجدوا من لذة حبه في قلوبهم في كلام يطول ذكره هاهنا في هذا المعنى.

وإنما أنس هؤلاء بما استوحش منه الجاهلون؛ لأنّ الجاهلين بالله يستوحشون من ترك الدنيا وشهواتها؛ لأنهم لا يعرفون سواها، فهي أنسهم وهؤلاء يستوحشون من ذلك، ويستأنسون بالله وبذكره، ومعرفته ومحبته وتلاوة كتابه.

والجاهلون بالله يستوحشون من ذلك ولا يجدون الأنس به.

ومن صفاتهم التي وصفهم بها أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: أنهم صحبوا الدُّنْيَا بأبدان أرواحها معلقة بالمنظر الأعلى، وهذا إشارة إِلَى أنهم لم يتخذوا الدنيا وطنًا، ولا رضوا بها إقامة (ومسكنًا)(*)، إِنَّمَا اتخذوها ممرًّا ولم يجلوها مستقرًّا.

وجميع الكتب والرسل أوصت بهذا، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن مؤمن آل فرعون أنه قال لقومه في جملة وعظه لهم:{يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} (1)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمر (2):«كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» ، وفي رواية:«وَعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ» (3).

(*) وسكنًا: "نسخة".

(1)

غافر: 39.

(2)

أخرجه البخاري (6416).

(3)

أخرجها أحمد (2/ 24) بلفظ: "واعدد نفسك في الموتى".

ص: 326

ومن وصايا المسيح المروية عنه عليه السلام، أنه قال لأصحابه: اعبروها ولا تعمروها.

وعنه عليه السلام أنه قال: "من الَّذِي يبني عَلَى موج البحر دارًا؟ تلك الدُّنْيَا فلا تتخذوها قرارًا". فالمؤمن في الدُّنْيَا كالغريب المجتاز ببلدة، غير مستوطن فيها، فهو يشتاق إِلَى بلده، وهمه الرجوع إِلَيْهِ والتزود بما يوصله في طريقه إِلَى وطنه، ولا ينافس أهل ذلك البلد المستوطنين فيه في عزهم، ولا يجزع مما أصابه عندهم من الذل.

قال الفضيل بن عياض: المؤمن في الدُّنْيَا مهموم حزين، همه مرمة (1) جهازه.

وقال الحسن: المؤمن في الدُّنْيَا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس فى عزها، له شأن وللناس شأن.

وفي الحقيقة فالمؤمن في الدُّنْيَا غريب؛ لأنّ أباه إِنَّمَا كان في دار البقاء، ثم أخرج منها، فهمه الرجوع إِلَى مسكنه الأول، فهو أبدًا يحن إِلَى وطنه الَّذِي أخرج منه كما يقال:"حب الوطن من الإيمان"(2).

وكما قيل:

وَكَمْ مَنْزِلٍ لِلْمَرْءِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى

وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ

وَلِبَعْضِ شُيُوخِنَا فِي هَذَا المَعْنَى:

فَحَيَّ عَلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ فَإِنَّهَا

مَنَازِلُكَ الْأُولَى وَفِيهَا الْمُخَيَّمُ

وَلَكِنَّنَا سَبْيُ الْعَدُوِّ فَهَلْ تَرَى

نَعُودُ إِلَى أَوْطَانِنَا وَنَسْلَمُ

وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْغَرِيبَ إِذَا نَأَى

وَشَطَّتْ بِهِ أَوْطَانُهُ فَهُوَ مُغْرَمُ

وَأَيُّ اغْتِرَابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنَا الَّتِي

لَهَا أَضْحَتِ الْأَعْدَاءُ فِينَا تَحَكَّمُ

(1) الرمُّ: إصلاح الشيء الَّذِي فسد بعضه "اللسان" مادة: (رمم).

(2)

نسب هذا القول إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح عنه. انظر "كشف الخفاء"(1/ 413/1 - 414)، و"الضعيفة" برقم (36).

ص: 327

والمؤمنون في هذا أقسام: منهم من قلبه معلق بالجنة، ومنهم من قلبه معلق عند خالقه، وهم العارفون، ولعل أمير المؤمنين إِنَّمَا أشار إِلَى هذا القسم، فالعارفون أبدانهم في الدُّنْيَا وقلوبهم عند المولى.

وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، يَرْوِي ذَلِكَ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى قَالَ:«عَلَامَةُ الطُّهْرِ أَنْ يَكُونَ قَلْبُ الْعَبْدِ عِنْدِي مُعَلَّقًا، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَنْسَنِي عَلَى حَالٍ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ مَنَنْتُ عَلَيْهِ بِالِاشْتِغَالِ بِي، كَيْ لَا يَنْسَانِي، فَإِذَا لَمْ يَنْسِنِي حَرَّكْتُ قَلْبَهُ، فَإِنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ لِي، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ لِي، فَذَلِكَ الَّذِي تَأْتِيهِ الْمَعُونَةُ مِنْ عِنْدِي» (1).

وأهل هذا الشأن هم غرباء الغرباء، وغربتهم أعز الغربة، فإن الغربة عند أهل الطريقة غربتان: ظاهرة، وباطنة.

فالظاهرة: غربة أهل الصلاح بين الفساق، وغربة الصادقين بين أهل الرياء والنفاق، وغربة العُلَمَاء بين أهل الجهل وسوء الأخلاق، وغربة أهل الآخرة بين علماء الدُّنْيَا الذين سلبوا الخشية والإشفاق، وغربة الزاهدين بين الراغبين في كل ما ينفد وليس هو بباق.

وأما الغربة الباطنة: فغربة الهمَّة، وهي غربة العارف بين الخلق كلهم، حتى العُلَمَاء والعباد والزهاد، فإن أولئك واقفون مع علمهم وعبادتهم وزهدهم، وهؤلاء واقفون مع معبودهم، لا يعرجون بقلوبهم عنه.

كان أبو سليمان يقول في وصفهم: همتهم غير همة الناس، وإرادتهم من الآخرة غير إرادة الناس، ودعاؤهم غير دعاء الناس.

وسئل عن أفضل الأعمال، فبكى وقال: أن يطَّلع عَلَى قلبك فلا يراك تريد من الدُّنْيَا والآخرة غيره.

(1) ذكره ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" في شرح الحديث الخامس عشر (1/ 342) وقال: خرجه إبراهيم بن الجنيد.

ص: 328

وقال يحيى بن معاذ: الزاهد غريب الدُّنْيَا، والعارف غريب الآخرة يشير إِلَى أن الزاهد غريب بين أهل الدُّنْيَا، والعارف غريب لن أهل الآخرة، لا يعرفه العباد ولا الزهاد، وإنما يعرفه من هو مثله، وهمته كهمته.

وربما اجتمعت للعارف هذه الغربات كلها، أو كثير منها أو بعضها، فلا تسأل عن غربته حينئذ، فالعابدون ظاهرون لأهل الدُّنْيَا والآخرة، والعارفون مستورون عن أهل الدُّنْيَا والآخرة.

قال يحيى بن معاذ: العابد مشهور والعارف مستور، وربما خفي حال العارف عَلَى نفسه؛ لخفاء حاله، وإساءته الظن بنفسه.

قال إبراهيم بن أدهم: ما أرى هذا الأمر إلا في رجل لا يعرف ذاك من نفسه، ولا يعرفه الناس منه.

وفي حديث سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ التَّقِيَّ"(1).

وفي حديث معاذ، عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ الْأَخْفِيَاءَ الْأَتْقِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، وَإِنْ غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا أُولَئِكَ أَئِمَّةَ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الْعِلْمِ» "(2).

وعن علي: طوبى لكل عبد لومة عرف الناس، ولم تعرفه الناس، وعرفه الله منه برضوان، أولئك مصالح الهدى، تجلى عنهم كل فتنة مظلمة.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: كونوا جدد القلوب، خلقان الثياب، مصابيح الظلال، تخفون عَلَى أهل الأرض وتعرفون في أهل السماء.

فهؤلاء هم أخص أهل الغربة، وهم الفرارون بدينهم من الفتن، وهم النزاع من القبائل، الذين يحشرون مع عيسى ابن مريم عليه السلام، وهم بين أهل

(1) أخرجه مسلم (2965).

(2)

أخرجه ابن ماجه (3989)، والحاكم (1/ 4)، (4/ 328).

ص: 329

الآخرة أعز من الكبريت الأحمر، فكيف يكون حالهم بين أهل الدُّنْيَا؟!

وتخفى أحوالهم غالبًا عَلَى الفريقين كما قال القائل:

تورايت من دهري بظلٍّ جناحه

فعيني ترى دهري وليس يراني

فلو تسأل الأيام ما اسمي ما درت

وأين مكاني ما عرفن مكاني

ومن ظهر منهم للناس، فهو بينهم ببدنه، وقلبه معلق بالملأ الأعلى، كما قال أمير المؤمنين في وصفهم، وكما قيل:

جسمي معي غير أن الروح عندكم

فالجسم في غربة والروح في وطن

وكانت رابعة تنشد في هذا المعنى:

ولقد جعلتك في الفؤاد محدثي

وأبحت جسمي من أراد جلوسي

فالجسم مني للجليس مؤانسٌ

وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وأكثرهم لا يقوى عَلَى مخالطة الخلق، فهو يفر إِلَى الخلوة بحبيبه، ولهذا كان أكثرهم يطيل الوحدة.

قيل لبعضهم: ألا تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟!

وقال آخر: وهل يستوحش مع الله أحد؟

وعن بعضهم: من استوحش من وحدته فذاك لقلة أنسه بربه.

كان يحيى بن معاذ كثير العزلة والانفراد، فعاتبه أخوه فَقَالَ له: إِن كنت من الناس فلابد لك من الناس، فَقَالَ يحيى: إِن كنت من الناس، فلا بد لك من الله.

وقِيلَ لَهُ: إذا هجرت الخلق مع من تعيش؟ قال: مع من هجرتهم له.

وأنشد إبراهيم بن أدهم في هذا المعنى:

هجرت الخلق طرًّا في هواكا

وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطعتني في الحب إربًا

لما حنَّ الفؤاد إِلَى سواكا

ص: 330

وعوتب غزوان عَلَى خلوته فَقَالَ: أصبت راحة قلبي في مجالسة من لديه حاجتي.

ولغربتهم بين الناس ربما نسب بعضهم إِلَى الجنون لبعد حاله من حال الناس، كما كان أويس يقال ذلك عنه.

وكان أبو مسلم الخولاني كثير اللهج بالذكر، لا يفتر لسانه منه، فَقَالَ رجل لجلسائه: أمجنون صاحبكم؟ قال أبو مسلم: لا يا أخي، ولكن هذا دواء الجنون.

وفي الحديث (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم: «اذْكُرُوا اللَّهَ حَتَّى يَقُولُوا مَجْنُونٌ» .

وقال الحسن في صفتهم: إذا نظر إليهم الجاهل حسبهم مرضى وما بالقوم مرض. ويقول: قد خولطوا، وقد خالط القوم أمرٌ عظيم، هيهات والله مشغولون عن دنياكم.

وفي هذا المعنى يقول القائل:

وحرمة الود ما لي عنكم عوض

وليس لي في سواكم سادتي غرضُ

ومن حديثي بكم قالوا به مرضٌ

فقلتُ لا زال عني ذلك المرضُ

وفي الحديث (2): «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْصَى رَجُلًا فَقَالَ: اسْتَحْيِ مِنَ اللَّهِ كَمَا تَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ صَالِحِي عَشِيرَتِكَ، لَا يُفَارِقَانِكَ» .

وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال: «أَفْضَلَ الْإِيمَانِ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَكَ حَيْثُ كُنْتُ» (3).

(1) أخرجه أحمد (3/ 68)، وعبد بن حميد (925)، وأبو يعلى (1376)، وابن عدي فى "الكامل"(3/ 980)، وابن حبان (816)، والحاكم (1/ 499) من حديث أبي سعيد الخدري. وإسناده ضعيف، لضعف رواية دراج أبي السمح عن أبي الهيثم. والحديث استنكره ابن عدي فى "الكامل" والذهبي فى "الميزان".

(2)

أخرجه ابن عدي في "الكامل"(2/ 560، 4/ 1410) وهو ضعيف.

(3)

أخرجه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير" كما فى "مجمع الزوائد"(1/ 60).

ص: 331

وفي حديث آخر: "أَنَّهُ سُئِلَ صلى الله عليه وسلم: مَا تَزْكِيَةُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ؟ قَالَ: «أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ» (1).

وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال: "ثَلَاثَةٌ فِي ظِلِّ اللهِ يَوْمَ لاً ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ

فذكر منهم رَجُلٌ حَيْثُ تَوَجَّهَ عَلِمَ أَنَّ اللهَ مَعَهُ" (2).

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الإحسان فَقَالَ: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" (3).

ولأبي عبادة البختري في هذا المعنى أبيات حسنة، لكنه أساء بقولها في مخلوق، وقد أصلحت منها كلمات حتى استقامت عَلَى الطريقة:

كَأَن رقيبا مِنْك يرْعَى خواطري

وَآخر يرْعَى ناظري ولساني

فَمَا أَبْصرت عَيْنَايَ بعْدك منْظرًا

يسوءك إِلَّا قلت قد رمقاني

وَلَا بدرت من فِيّ بعْدك لَفْظَة

لغيرك إِلَّا قلت قد سمعاني

وَلَا خطرت من ذكر غَيْرك خطرة

على الْقلب إِلَّا عرجا بعناني

إذا ما تسلى القاعدون عن الهوى

بذكر فلانٍ أو كلام فلان

وجدت الَّذِي يسلّى سواى يشوقني

إِلَى قربكم حتى أملّ مكاني

إخوان صدق قد سئمت لقاهمُ

وغضضت طرفي عنهم ولساني

وما البعض أسلى عنهم غير أني

أراك عَلَى كل الجهات تراني

انتهى ما ذكره الشيخ فسح الله في مدته من هذا الكلام، والحمد لله وحده، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

"بلغ مقابلة عَلَى أصل مقروء عَلَى المؤلف وعليه خطه رحمه الله".

(1) أخرجه الطبراني في "الصغير"(1/ 201، 557).

(2)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(8/ 286) من حديث أبي أمامة. قال الهيثمي في "المجمع"(10/ 279): وفيه بشر بن نمير، وهو متروك ..

(3)

أخرجه مسلم (8).

ص: 332

جزء من الكلام على حديث شداد بن أوس "إذا كنز الناس الذهب والفضة"

ص: 333

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

قال الشيخ الإمام العالم العلامة شيخ الإسلام أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب الحنبلي، رحمه الله تعالى:

خرَّج الإمام أحمد (1) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَاكْنِزُوا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَأَسْأَلُكَ لِسَانًا صَادِقًا، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ» .

وخرجه الترمذي (2) مختصرًا، وابن حبان في "صحيحه"(3)، والحاكم (4) وصححه.

وله طرق متعددة عن شداد.

وفي بعض طرقه "أن النبي صلى الله عليه وسلم علمهم أن يدعوا بهذه الكلمات في الصلاة، أو في دبر الصلاة"(5).

فقوله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَنَزَ النَّاسُ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَاكْنِزُوا أَنْتُمْ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ": إشارة إِلَى أن كنز هذه الكلمات، أنفع من كنز الذهب والفضة.

فإن هذه الكلمات نفعها يبقى، والذهب والفضة يفنى، قال الله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا

(1)(4/ 123).

(2)

برقم (3407).

(3)

كما في "الإحسان"(935).

(4)

(1/ 508).

(5)

أخرجه أحمد (4/ 125).

ص: 335

وَخَيْرٌ أَمَلًا} (1) وقال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (2).

وقد رُوي أن سليمان بن داود عليهما السلام مرَّ في موكبه، ومعه الإنس والجن بحرَّاث، فَقَالَ الحراث: لقد أوتي ابن داود ملكًا عظيمًا! فأتاه سليمان فَقَالَ له: تسبيحة واحدة خير من ملك سليمان؛ لأنّ التسبيحة تبقى، وملك سليمان يفنى (3).

وفي الحديث المشهور عن ثوبان أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (4) فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "تَبًّا لِلذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا نَتَّخِذُ؟ قَالَ: «لِيَتَّخِذَ أَحَدُكُمْ قَلْبًا شَاكِرًا، وَلِسَانًا ذَاكِرًا، وَزَوْجَةً صَالِحَةً، تُعِينُ أَحَدُكُمْ عَلَى إِيمَانِهِ» (5).

قال بعضهم: إِنَّمَا سمي الذهب ذهبًا لأنّه يذهب، وسميت الفضة فضة لأنها تنفض: يعني تنفض بسرعة، فلا بقاء لهما. فمن كنزهما فقد أراد بقاء ما لا بقاء له، فإنَّ نفعهما ما هو إلا بإنفاقهما في وجوه البر وسبل الخير.

قال الحسن: بئس الرفيقان الدرهم والدينار! لا ينفعانك حتى يفارقانكَ فما داما مكنوزين فما يضران ولا ينفعان، وإنما نفعهما بإنفاقهما في الطاعات.

قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاً يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} الآية (6).

والآية ذم ووعيد لمن يمنع حقوق ماله الواجبة من الزكاة، وصلة الرحم، وقرى الضيف، والإنفاق في النوائب.

(1) الكهف: 46.

(2)

النحل: 96.

(3)

أخرجه أبو نعيم في "زياداته عَلَى زهد ابن المبارك"(210).

(4)

التوبة: 34.

(5)

أخرجه أحمد (5/ 278، 282)، والترمذي (3094)، وابن ماجه (1856).

(6)

التوبة: 34، 35.

ص: 336

وفي "صحيح مسلم"(1) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاً فِضَّةٍ، لاً يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى يُقْضَى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» .

وفي "صحيح البخاري"(2) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ، مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، لَهُ زَبِيبَتَانِ، يُطَوَّقُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ -يَعْنِي بِشِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ، أَنَا كَنْزُكَ"، ثُمَّ تَلَا:{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (3).

وفيه أيضاً (4) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يَكُونُ كَنْزُ أَحَدِكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَفِرُّ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيَطْلُبُهُ وَيَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ فَلَا يَزَالَ يَطْلُبُهُ، حَتَّى يَبْسُطَ يَدَهُ، فَيُلْقِمَهَا فَاهُ".

وفي "صحيح مسلم"(5) عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٌ، لَاَ يُفْعَلُ فِيهِ حَقُّهُ، إِلا جَاءَ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، شُجَاعًا أَقْرَعَ، يَتْبَعُهُ فَاتِحًا فَاهُ، فَإِذَا أَتَاهُ فَرَّ مِنْهُ فَيُنَادِيَهُ: خُذْ كَنْزَكَ الَّذِي خَبَّأْتَهُ، فَأَنَا عَنْهُ غَنِيٌّ، فَإِذَا رَأَى أَنْ لاً بُدَّ مِنْهُ، سَلَكَ يَدَهُ فِي فِيهِ فَيَقْضِمَهَا قَضْمَ الْفَحْلِ".

والشجاع: الحية الذكر، والأقرع: الَّذِي قد تمعط شعر فروة رأسه لكثرة سمه.

فلهذا ورد الشرع بالأمر باكتناز ما يبقى نفعه بعد الموت، من الإيمان والأعمال الصالحة والكلمات الطيبة، فإن نفع ذلك يبقى، وبه يحصل الغنى الأكبر.

(1) برقم (987).

(2)

برقم (1403، 4565).

(3)

آل عمران: 180.

(4)

برقم (6957).

(5)

برقم (988).

ص: 337

قال ابن مسعود (1): نعم كنز الصعلوك [البقرة وآل عمران، يقوم بهما](*) في آخر الليل.

وآخر سورة البقرة من كنز تحت العرش، أعطيته هذه الأمة مع سورة الفاتحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة.

وفي بعض الآثار الإسرائيلية: كنز المؤمن ربه.

يعني أنه لا يكنز سوى طاعته وخشيته، ومحبته والتقرب إِلَيْهِ، فمن كان كنزه ربه، وجده وقت حاجته إِلَيْهِ.

كما في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ أَمَامَكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ"(2).

أنت كنزي أنت ذخري

أنت عزِّي أنت فخري

كيف أخشى الفقرَ إذا

كنتَ أمني عند فقرِي

من كانَ اللَّهُ كنزَه فقد ظفرَ بالغنِى الأكبرِ

قال بعض العارفين: من استغنى بالله أمن من العدم، ومن لزم الباب أثبت في الخدم، ومن أكثر من ذكر الموت أكثر من الندم.

تنقضي الدُّنْيَا وتفنى

والفتى فيها معنّى

ليس في الدُّنْيَا نعيم

لا ولا عيش مهنّا

يا غنيًّا بالدنانير

محب الله أغنى

(1) أخرجه الدارمي في "سننه"(3398) بذكر آل عمران دون البقرة.

(*) سورة آل عمران يقوم بها: "نسخة".

(2)

أخرجه أحمد (1/ 293، 307)، والترمذي (2516). وقال: هذا حديث حسن صحيح. قال ابن رجب في شرح الحديث التاسع عشر من "جامع العلوم والحكم"(1/ 460 - 461).

وقد روي هذا الحديث عن ابن عباس من طرق كثيرة من رواية ابنه عليَّ، ومولاه عكرمة، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وعبيد الله بن عبد الله، وعمر مولى غفرة، وابن أبي مليكة وغيرهم.

وأصح الطرق كلها طريقُ حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي. كذا قاله ابن منده وغيره.

ص: 338

والمقصود هنا شرح الكلمات التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكنزها، وأشار إِلَى أن نفعها خير من الذهب والفضة، وهي تتضمن طلب العبد من ربه لأهم الأمور الدينية.

فقوله صلى الله عليه وسلم: "أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الأَمْرِ" المراد بالأمر: الدين والطاعة.

فسأل الثبات عَلَى الدين إِلَى الممات {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (1) الذين قالوا: ربنا الله كثير، ولكن أهل الاستقامة قليل.

كان عمر يقول في خطبته: "اللهم اعصمنا بحفظك، وثبتنا عَلَى أمرك".

فالاستقامة والثبات، لا قدرة للعبد عليه بنفسه، فلذلك يحتاج أن يسأل ربه.

كان الحسن إذا قرأ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} (1) يقول: اللهم أنت ربنا، فارزقنا الاستقامة.

كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» .

فقِيلَ لَهُ في ذلك، فَقَالَ:"إِنَّ القَلْبَ بَيْنَ أصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، إِنْ شَاءَ أَنْ يُقِيمُهُ أَقَامَهُ وإِنَّ شَاءَ أَنْ يُزِيغُهُ أَزَاغَهُ"(2).

وفي رواية الترمذي (3): قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ:"نَعَمْ" ثم ذكر الحديث.

كيف يأمن من قلبه بين أصبعين؟

كيف يطيب عيش من لا يدري بما يختم له؟

(1) فصلت: 30.

(2)

أخرجه أحمد (6/ 91، 250)، والنسائي وفي "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف"(11/ 6059) من حديث عائشة.

وأخرجه أحمد (3/ 112، 257)، والترمذي (2140)، وابن ماجه (3834)، من حديث أنس. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

وأخرجه الترمذي (3587) من حديث عاصم بن كليب الجَرْمِي عن أبيه عن جده. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب من هذا الوجه.

(3)

برقم (2140)، وحسنه.

ص: 339

كم من عامل خاشع وقع عَلَى قصة عمله؟ {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} (1)«رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَقَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ» (2).

كان بعض الصالحين يسرد الصيام، فَإِذَا أفطر بكى، ويقول: أخشى أن يكون حظي منه الجوع والعطش.

في "الصحيح"(3): "إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا إِلَّا ذِرَاعٌ، ثُمَّ َيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ".

كم من عامل يعمل الخير، إذا بقي يينه وبين الجنة ذراع، وشارف مركبه ساحل النجاة، ضربه موج الهوى فغرق؟!

المحنة العظمى أن أمرك كله بد من لا يبالي بوجودك ولا عدمك، كم أهلك قبلك مثلك؟

{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} (4).

كان الحسن يبكي ويطيل البكاء ويقول: أخاف أن يطرحني في النار ولا يبالي.

قال أبو الدرداء: ما أهون العباد عَلَى الله إذا عصوه (5)!

(1) الغاشية: 3، 4.

(2)

أخرجه أحمد (2/ 373، 441)، والنسائي في "الكبرى"(2/ 239)، وابن ماجه (1690) من حديث أبي هريرة.

(3)

أخرجه البخاري (3208)، ومسلم (2643) من حديث ابن مسعود.

(4)

المائدة: 17.

(5)

أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(14/ 389/1).

ص: 340

يا قلب إِلَى ما تطالبني

بلقاء الأحباب وقد رحلوا

أرسلتك في طلبي لهم

لتعود فضعت وما حصلوا

سلم واصبر واخضع لهم

كم مثلك قبلك قد قتلوا

ما أحسن ما علقت به

آمالك منهم لو فعلوا

العبد يحتاج إِلَى الثبات في طول حياته، وأحوج ما يحتاج إِلَيْهِ عند مماته.

في الطبراني (1): صلى الله عليه وسلم «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لاً إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقُولُوا: الثَّبَاتَ الثَّبَاتَ ، وَلاً قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» .

ويحتاج إِلَى الثبات أيضاً بعد الموت، قال الله تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (2).

وفي "الصحيح"(3) أنها نزلت في سؤال القبر يُسأل المؤمن في قبره فيشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.

وفي "سنن أبي داود"(4) أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت يقول: "سَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ".

من دخل في الطاعة فهو يحتاج إِلَى الثبات عليها.

يا معشر التائبين، أنتم تقاتلون جنود الهوى بجنود التقوى، فاصبروا وصابروا ورابطوا، لا تقولوا جنود الهوى لا طاقة لنا بها، ولكن اصبروا إِنَّ الله مع الصابرين.

يا جنود العزائم اثبتوا واحذروا هتيكة (5) الهزيمة {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} (6).

(1) في "المعجم الصغير"(2/ 125). وقال: لم يروه عن صفوان بن سليم إلا عمر بن محمد.

(2)

إبراهيم: 27.

(3)

أخرجه البخاري (1369)، ومسلم (2871) من حديث البراء.

(4)

برقم (3221).

(5)

الهتيكة: الفضيحة "لسان العرب" مادة: (هتك).

(6)

الأنفال: 65.

ص: 341

لا تجزعن من كل خطب عرى

ولا تُري الأعداء ما يشمتوا

يا قوم بالصبر ينال المنى

إذا لقيتم فئة فاثبتوا

يا قوم الثبات الثبات، والمدوامة المداومة إِلَى الممات.

"أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ، وَإِنْ قَلَّ"(1).

قال الحسن: إِنَّ الله لم يجعل لعلم المؤمن أجلاً دون الموت، ثم قرأ:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (2).

وفي "الصحيح"(3) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاغْدُوا وَرُوحُوا، وَشَىْءٌ مِنَ الدُّلْجَةِ (4)، وَالْقَصْدَ الْقَصْدَ تَبْلُغُوا".

يا معشر التائبين، صوموا اليوم عن شهوات الهوى، لتدركوا عيد الفطر يوم اللقاء، لا يطولن عليكم الأمد باستبطاء الأجل، فإن معظم نهار الصيام قد ذهب، وعيد اللقاء قد اقترب.

وما إلا ساعة ثم تنقضي

ويذهب هذا كله ويزول

{يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} (5).

{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} (6).

من سار في طريق العبودية إِلَى لقاء الحبيب، فلا بد من مواصلة السير حتى يصل، فإن وقف في الطريق أو رجع هلك، فإن اشتد عليه ألم السير، فليذكر راحة الوصول وقد زال التعب.

(1) أخرجه أحمد (6/ 165)، ومسلم (782) من حديث عائشة.

(2)

الحجر: 99.

(3)

أخرجه البخاري: (6463).

(4)

الدُّلجة: سير السحر أو سير الليل كله. "اللسان" مادة: (دلج).

(5)

الانشقاق: 6.

(6)

العنكبوت: 5.

ص: 342

لها أحاديث من ذكراك تشغلها

عن الشراب وتلهيها عن الزاد

لها بوجهك نور تستضيء به

وقت المسير وفي أعقابها حادي

إذا اشتكت من كلال السير أوعدها

روح القدوم فتحيا عند ميعادي

قوله صلى الله عليه وسلم: "وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ".

العزيمة عَلَى الرشد مبدأ الخير، فإن الإنسان قد يعلم الرشد وليس له عليه عزم، فَإِذَا عزم عَلَى فعله أفلح.

"والعزيمة: هي القصد الجازم المتصل بالفعل.

وقيل: استجماع قوى الإرادة عَلَى الفعل.

ولا قدرة للعبد عَلَى ذلك إلا بالله، فلهذا كان من أهم الأمور سؤال الله العزيمة عَلَى الرشد.

وفي "المسند"(1) عن عمران بن حصين قال لرجل: قل اللهم قني شر نفسي، واعزم لي عَلَى أرشد أمري.

فالعبد يحتاج إِلَى الاستعانة بالله، والتوكل عليه في تحصيل العزم، وفي العمل بمقتضى العزم بعد حصول العزم.

قال الله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (2).

"والرشد: هو طاعة الله ورسوله.

قال الله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (3).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى"(4).

(1)(4/ 444).

(2)

آل عمران: 159.

(3)

الحجرات: 7.

(4)

أخرجه مسلم (780).

ص: 343

والرشد ضد الغي.

قال الله تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} (1).

فمن لم يكن رشيدًا، فهو إما غاوٍ، وإما ضال.

كما قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (2).

فالغاوي من تعمد خلاف الحق، والضال من لم يتعمد.

والعزم نوعان:

أحدهما: عزم المريد عَلَى الدخول في الطريق، وهو من البدايات.

والثاني: العزم عَلَى الاستمرار عَلَى الطاعات بعد الدخول فيها، وعلى الانتقال من حال كامل، إِلَى حال أكمل منه، وهو من النهايات.

ولهذا سمى الله تعالى خواص الرسل أولوا العزم -وهم خمسة- وهم أفضل الرسل.

فالعزم الأول يحصل للعبد [به](*) الدخول في كل خير، والتباعد من كل شر؛ إذ به يحصل للكافر الخروج من الكفر والدخول في الإسلام، وبه يحصل للعاصي الخروج من المعصية والدخول في الطاعة، فَإِذَا كانت العزيمة صادقة، وصمم عليها صاحبها، وحمل عَلَى هوى نفسه وعلى الشيطان حملة صادقة، ودخل فيما أمر به من الطاعات فقد فاز.

وعون الله للعبد عَلَى قدر قوة عزيمته وضعفها، فمن صمم عَلَى إرادة الخير أعانه وثبته، كما قيل:

عَلَى قدر أهل العزم تأتي العزائم

وتأتي عَلَى قدر الكرام المكارم

(1) البقرة: 256.

(2)

النجم: 2.

(*) زيادة يقتضيها السياق.

ص: 344

لما أفضت الخلافة إِلَى عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه، بعد سليمان بن عبد الملك، فأول ما اشتغل به دفن سليمان، فلما رجع من دفنه، وصفت له مراكب الخلافة فوقف وأنشد:

ولولا النُّهَى ثم التقى خشية الردى

لعصيت في حب الصّبا كل زاجر

قضى ما قضى فيما مضى ثم لا ترى

له عودة أخرى الليالي الغوابر

ثم قال: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، قربوا لي بغلي.

فركب دابته التي كان يركبها أولاً، وسار مستصحبًا لتلك العزيمة، فعلم الله صدقه فيها فأعانه عليها.

فأول ما بدأ به أنه سار لن يديه أهل الموكب، فنحاهم وقال: إِنَّمَا أنا رجل من المسلمين ثم نزل فقعد، فقام الناس بين يديه، فأقعدوا، وقال: إِنَّمَا يقوم الناس لرب العالمين.

ثم عزم عَلَى رد المظالم، فأدركته القائلة، وكان قد تعب وسهر تلك الليلة لموت سليمان بن عبد الملك، فدخل ليقيل ثم يخرج فيرد المظالم وقت صلاة الظهر.

فجاء ابنه عبد الملك فَقَالَ له: أتنام وما رددت المظالم؟

فَقَالَ: إذا صليت الظهر رددتها.

فَقَالَ عبد الملك: ومن لك أن تعيش إِلَى الظهر؟! وإن عشت فمن لك أن تبقى لك نيتك؟!

فقام وخرج ونادى: الصلاة جامعة.

فاجتمع الناس فرد المظالم، وجاء بكتب القرى والأملاك -التي كانت في يده من إقطاع بني أمية- فمزقها كلها، ورد تلك القرى إِلَى بيت مال المسلمين.

ص: 345

وكان يقول: إِنَّ لي نفسًا تواقة! ما نالت شيئًا إلا تاقت إِلَى ما هو أفضل منه! فلما نالت الخلافة، وليس فوقها في الدُّنْيَا - منزلة، تاقت إِلَى الآخرة.

وإذا كانت النفوس كبارُا

تعبت في مرادها الأجساد

لما ولي الخلافة، سمعوا في بيته صريخًا عاليًا من النساء.

فسئل عن ذلك فقيل: إِن خير امرأته وجواريه، فَقَالَ: من أرادت منكن أن تذهب فلتذهب، ومن أرادت أن تقيم فلتقم، وليس لها مني نصيب، فإني قد نزل بي أمرٌ شغلني عنكن، فبكين إياسًا منه.

ذاكروه مرة شيئًا مما كان فيه قبل الخلافة من النعيم فبكى، حتى بكى الدم!

وكان أكثر ما يقتات به حال خلافته، العدس والزيت، فَإِذَا عوتب عَلَى ذلك يقول: هذا أهون علينا من معالجة الأغلال غدًا في النار.

ودخل مرة عَلَى بناته وقد كن تعشين بعدس فيه بصل، فكرهن أن يشم منهن رائحة ذلك، فلما رأينه هربن، فبكى وقال: يا بناتي إما تفعلن (أن)(1) تتعشين الألوان ويذهب بأبيكن إِلَى النار.

وكان يقول لأولاده: إِنَّ أباكم خير بين أن تفتقروا ويدخل الجنة، وبين أن تستغنوا ويدخل النار، فكان أن تفتقروا ويدخل الجنة أَحَبّ إِلَيْهِ.

كم أحمل في هواك ذلاًّ وعنا

كم أصبر فيك تحت ضر وضنا

لا تطردني فليس لي عنك غنا

خذ روحي إِن أردت روحي ثمنا

كان يقول لبعض أعوانه: إذا رأيتني ملت عن الحق، فضع يدك في تلبابي، ثم هزني فقل: ما تصنع يا عمر؟!

من أجلك قد تركت خدي أرضا

للشامت والحسود حتى ترضى

مولاي إِلَى متى بهذا أحظى

عمري يفنى وحاجتي ما تقضى

(1) بالأصول، ولعلها زائدة.

ص: 346

لا زال ينحل جسمه حتى

كانت أضلاعه يعدهامن رآه عدًّا.

حبي والفراق أورثاني سقما

هذا جسدي يعد عظمًا عظما

دعني فالشوق قد كفاني خصما

يا سهم البين قد أصبت المرمى

أخفي شجني ولوعتي تبديه

والدمع ينم بالذي أخفيه

قلبي قلق يحب من يضنيه

لا أعذله فما به يكفيه

كم كان يُعذل عَلَى حاله ويُلام؟! والمحبة تنهاه أن يصغي إِلَى عذل أو ملام:

لو قطعني الغرام إربًا إربًا

ما ازددت عَلَى الملام إلا حبا

لا زلت بكم أسير وجد وصبا

حتى أقضي عَلَى هواكم نحبا

ما زالت به المحبة حتى رقته إِلَى درجة الرضى بمُرِّ القضاء، فكان يقول: أصبحت ومالي سرور في غير مواقع القضاء والقدر.

ومات أعوانه عَلَى الخير كلهم في أيام متوالية: ابنه عبد الملك، وأخوه سهل، ومولاه مزاحم.

فكان يقول بعد موتهم في مناجاته: أنت تعلم أني ما ازددت لك إلا حبًّا، ولا فيما عندك إلا رغبة.

ولما دفن ابنه عبد الملك -وكان أَحَبّ الخلق إِلَيْهِ- قال: ما زلت أرى فيه السرور وقرة العين من يوم ولد إلي يومي هذا، فما رأيت فيه أمرًا قط أقر لعيني من أمر رأيته فيه اليوم.

وكتب إِلَى الأمصار أن الله أَحَبّ قبضه، وأعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله، فإن خلاف ذلك لا يصلح في بلائه عندي، وإحسانه إليَّ، ونعمته عليَّ.

ص: 347

إِنَّ كان سكان الغضا

رضوا بقتلي فرضا

والله لا كنت لما

يهوى الحبيب مبغضا

صرت لهم عبدًا وما

للعبد أن يعترضا

إخواني، الخير كله منوط بالعزيمة الصادقة عَلَى الرشد، وهي الحملة الأولى التي تهزم جيوش الباطل، وتوجب الغلبة لجنود الحق.

زجر الحق فؤادي فارعوى

وأفاق القلب مني وصحا

هزم العزم جيوشًا للهوى

سادتي لا تعجبوا إِنَّ صلحا

قال أبو حازم: إذا عزم العبد عَلَى ترك الآثام، أتته الفتوح.

يشير إِلَى ما يُفتح عليه بتيسير الإنابة والطاعة، ومقامات العارفين.

سئل بعض السلف متى ترتحل الدُّنْيَا من القلب؟ قال: إذا وقعت العزيمة ترحلت الدُّنْيَا من القلب، ودرج القلب في ملكوت السماء، وإذا لم تقع العزيمة اضطرب القلب ورجع إِلَى الدُّنْيَا.

من صدق العزيمة يئس منه الشيطان، ومتى كان العبد مترددًا طمع فيه الشيطان، وسوفه ومناه.

يا هذا كلما رآك الشيطان، قد خرجت من مجلس الذكر كما دخلت وأنت غير عازم عَلَى الرشد، فرح بك إبلس، وقال: قد فديت من لا يفلح! يا من شاب ولا تاب! ولا عزم عَلَى الرشد ولا أناب! لقد أفرحت الشيطان وأسخطت الرحمن!

وإذا تكامل للفتى من عمره

خمسون وهو إلى التقى لا يجنح

عكفت عليه المخزيات فماله

متأخر عنها ولا متزحزح

وإذا رأى الشيطان غرة وجهه

حيَّا وقال فديت من لا يفلح

ص: 348

قوله صلى الله عليه وسلم: "وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ" هذا كما وصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا أن يقول في دبر كل صلاة: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ"(1).

فهذا أمران:

أحدهما: شكر العم، وهو مأمور به، قال تعالى:{وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} (2)، وقال:{وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (3) والشكر بالقلب واللسان والعمل بالجوارح.

فالشكر بالقلب: الاعتراف بالنعم للمنعم، وأنها منه وبفضله، وجاء من حديث عائشة مرفوعًا:"مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً، فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ شُكْرُهَا"(4).

ومن الشكر بالقلب محبة الله عَلَى نعمه، ومنه حديث ابن عباس المرفوع:"أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ (*) بِهِ مِنْ (النِّعَمِ) (**) "(5).

قال بعضهم: إذا كانت القلوب جبلت عَلَى حب من أحسن إليها، فواعجبًا لمن لا يرى محسنًا إلا الله، كيف لا يميل بكليته إِلَيْهِ؟!

وقال بعضهم:

إذا أنت لم تزدد على كل نعمة

لمؤتيكها حبًّا فلست بشاكر

إذا أنت لم تؤثر رضى الله وحده

عَلَى كل ما تهوى فلست بصابر

والشكر باللسان: الثناء بالنعم وذكرها، وتعدادها وإظهارها.

(1) أخرجه أحمد (5/ 245، 247).

(2)

البقرة: 152.

(3)

النحل: 114.

(4)

أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "الشكر"(47).

(*) يغذوكم: أي يرزقكم.

(**) نعمة: "نسخة" وهي موافقة لرواية الترمذي.

(5)

أخرجه الترمذي (3789) قال الترمذي: هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه ..

ص: 349

قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (1).

وفي حديث النعمان بن بشير المرفوع (2): «التَّحَدُّثُ بِالنَّعَمِ شُكْرٌ، وتركها كفر» .

وقال عمر بن عبد العزيز: ذكر النعم شكرها.

وكان يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك أن أبدل نعمتك كفرًا، وأن أكفرها بعد معرفتها، أو أنساها فلا أثني بها.

قال فضيل: كان يقال من شكر النعمة أن تحدث بها.

وجلس ليلة هو وابن عيينة يتذاكران النعم إِلَى الصباح.

والشكر بالجوارح: أن لا يستعان بالنعم إلا عَلَى طاعة الله عز وجل، وأن يحذر من استعمالها في شيء من معاصيه.

قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} (3) قال بعض السلف: لما قِيلَ لَهُم هذا، لم تأت عليهم ساعة إلا وفيهم مصل.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول حتى تتورم قدماه، ويقول:«أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» (4).

ومر ابن المنكدر بشاب يقاوم امرأة، فَقَالَ: يا بني، ما هذا جزاء نعمة الله عليك!

العجب ممن يعلم أن كل ما به من النعم من الله، ثم لا يستحيي من الاستعانة بها عَلَى ارتكاب ما نهاه!

(1) الضحى: 11.

(2)

أخرجه ابن أبي الدُّنْيَا في "الشكر"(63).

(3)

سبأ: 13.

(4)

البخاري (1130)، ومسلم (2819).

ص: 350

هب البعث لم تأتنا رسله

و (جاحمة)(1) النار لم تضرم

أليس من الواجب المستحق

حياء العباد من المنعم

من كثرت عليه النعم فليقيدها بالشكر، وإلا ذهبت.

إذا كنت في نعمة فارعها

فإن المعاصي تزيل النعم

وحافظ عليها بشكر الإله

فشكر الإله يزيل النقم

ودخل خالد بن صفوان عَلَى عمر بن عبد العزيز فَقَالَ: يا أمير المؤمنين إِنَّ الله لم يرض أن يكون أحدٌ فوقك، فلا ترض أن يكون أحد أولى بالشكر له منك. فبكى عمر حتى غشي عليه.

الأمر الثاني: حسن العبادة، وحسنها إتقانها والإتيان بها عَلَى أكمل وجوهها.

وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإحسان فَقَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (2).

فأشار إِلَى مقامين:

أحدهما: أن يعبد الله العبدُ مستحضرًا لرؤية الله إياه، ويستحضر قرب الله منه، واطلاعه عليه، فيخلص له العمل، ويجتهد في إتقانه وتحسينه.

والثاني: أن يعبده عَلَى مشاهدته إياه بقلبه، فيعامله معاملة حاضر لا معاملة غائب، وقد وصَّى صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يصلي صلاة مودع؛ يعني يستشعر أنه يصلي صلاة لا يصلي بعدها صلاة أخرى، فيحمله ذلك عَلَى إتقانها، وتكميلها، وإحسانها.

وقد وردت أحاديث فضائل الأعمال مقيدة بإحسان العمل، كما في

(1) كل نار توقد عَلَى نار: جحيم، وهي جاحمة. "اللسان" مادة:(جحم).

(2)

أخرجه مسلم (8) من حديث عمر بن الخطاب. وأخرجه البخاري (50)، ومسلم (9) من حديث أبي هريرة.

ص: 351

حديث أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، وَمُحِيَ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عز وجل» .

خرَّجه البخاري تعليقًا (1)، وفي رواية:"وقيل: ائتنف العمل".

وفي "صحيح مسلم"(2) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلَامَهُ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا عز وجل".

وفيه أيضاً (3) عن عثمان رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ» .

وفيه أيضاً (4) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلَامِ، لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلَامِ، أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ» .

وكان السلف يوصون بإتقان العمل وتحسينه دون الإكثار منه، فإن العمل القليل مع التحسين والإتقان، أفضل من الكثير مع الغفلة وعدم الإتقان.

قال بعض السلف: إِنَّ الرجلين ليقومان في الصف، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.

كم بين من تصعد صلاته لها نور وبرهان كبرهان الشمس، وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وبين من تُلَّفُ صلاته كما يُلَّفُ الثوب الخلق، فيضرب بها وجه صاحبها، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني؟!

ولهذا قال ابن عباس وغيره: صلاة ركعتين في تفكر، خير من قيام ليلة والقلب ساه!

(1) برقم (41).

(2)

البخاري (42)، مسلم (129).

(3)

برقم (235).

(4)

أخرجه (120)، وكذا البخاري (6921).

ص: 352

قال بعض السلف: لا يقل عمل مع تقوى، وكيف يقل ما يتقبل؟!

يشير إِلَى قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (1).

ولهذا قال من قال من الصحابة: لو علمت أن الله قبل مني ركعتين، كان أَحَبّ إليّ من كذا وكذا.

فمن اتقى الله فى العمل قبله منه، ومن لم يتقه فيه لم يتقبله منه.

والتقوى في العمل أن يأتي به عَلَى وجه إكمال واجباته الظاهرة والباطنة، وإن ارتقى إِلَى الإتيان بآدابه وفضائله كان أكمل.

والقبول هنا يراد به: الرضا بالعمل، والمدح لعامله، والثناء عليه في الملأ الأعلى، ومباهاة الملائكة.

وقد يراد بالقبول الثواب عَلَى العمل، وإن لم يرض به، ولم يمدح عامله، فيجازى عليه بأنواع من الجزاء، فضلاً من الله وإحسانًا، وإن لم يرض عن عامله.

كما رُئي بعض العُلَمَاء المفرطين في النوم، فسئل عن حاله فَقَالَ: غفر لي، وأعرض عني وعن جماعة من العُلَمَاء لم يعملوا بعلمهم.

ويطلق القبول عَلَى إسقاط الفرض بالعمل، وإن لم يثب عليه بثواب غير سقوط العقوبة، والمطالبة بأداء الفرض به.

والعارفون كلهم إِنَّمَا يطلبون القبول بالوجه الأول -وهو الرضا- ويخافون من فواته أشد الخوف.

قال مالك بن دينار: وددت أن الله إذا جمع الخلائق يقول لي: يا مالك.

فأقول: لبيك. فيأذن لي أن أسجد بين يديه سجدة، فأعرف أنه قد رضي عني، ثم يقول لي: يا مالك كن اليوم ترابًا، فأكون ترابًا.

(1) المائدة: 27.

ص: 353

كان بعضهم يقول في سجوده:

متى ألقاك وأنت عني راض

وعذبتني بكثرة الإعراض

وأعتاض ولست عنه بالمعتاض

يا من بوصاله شفا أمراضي

هل أنت علي ساخط أم راضي

رضاه أكبر من الجنة ونعيمها، فليس للعارفين هم سواه.

لعلك غضبان وقلبي غافل

سلام عَلَى الدرارين إِن كنت راضيًا

قوله صلى الله عليه وسلم: "وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا".

القلب واللسان هما عبارة عن الإنسان، كما يقال: الإنسان بأصغَرَيه بقلبه ولسانه.

وخرج ابن سعد (1) بن روايه عروة بن الزبير مرسلاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أشج عبد القيس -وكان رجلاً دميمًا- فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّه لَا يَسْتَقِي فِي مسوك الرِّجَال، وَإِنَّمَا يحْتَاج من الرجل إِلَى أصغريه لِسَانه وَقَلبه".

وقال المتنبي:

لسان الفتى نصف ونصف فؤاده

فلم يبق إلا صورة اللحم والدم

فمن استقام قلبه ولسانه، استقام شأنه كله.

فالقلب السليم: هو الَّذِي ليس فيه شيء من محبة ما يكرهه الله، فدخل في ذلك سلامته من الشرك الجلي والخفي، ومن الأهواء والبدع، ومن الفسوق والمعاصي -كبائرها وصغائرها- الظاهرة والباطنة، كالرياء والعجب، والغل والغش، والحقد والحسد وغير ذلك.

(1) في "الطبقات"(5/ 557) من طريق عبد الحميد بن جعفر عن أبيه مرسلاً.

ص: 354

وهذا القلب السليم هو الَّذِي لا ينفع يوم القيامة سواه، قال تعالى:{لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (1) إذا سلم القلب لم يسكن فيه إلا الرب، في بعض الآثار يقول الله: ما وسعني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن (2).

ساكن في القلب يعمره (3)

لست أنساه فأذكره

غاب عن سمعي وعن بصري

فسويداء القلب تبصره

متى سكن في القلب غير الله، فالله أغنى الأغنياء عن الشرك، وهو لا يرضى بمزاحمة أصنام الهوى.

أردناكم صرفًا فلما مزجتم

بعدتم بقدر التفاتكم عنا

وقلنا لكم لا تُسكنوا القلب غيرنا

فأسكنتم الأغيار ما أنتم منا

سلامة الصدور من الرياء والغل، والحسد والغش والحقد، وتطيرها من ذلك أفضل من التطوع بأعمال الجوارح.

قال بعضهم: ما بلغ عندنا من بلغ بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن بسلامة الصدور، وسخاوة النفوس والنصيحة.

وكثرة أعمال الجوارح مع تدنس القلب بشيء من هذه الأوصاف لا تزكوا، وهو كزرع في أرض كثيرة الآفات لا يكاد يسلم ما ينبت فيها.

وأما اللسان الصادق: فهو من أعظم المواهب من الله والمنح، وفي الحديث:"أَعْظَمِ الْخَطَايَا اللِّسَانُ الْكَذُوبُ".

وكذلك اللسان الصادق أعظم الحسنات.

(1) الشعراء: 88 - 89.

(2)

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا ما ذكروه في الإسرائيليات، ليس له إسناد معروف عن النبي صلى الله عليه وسلم ومعناه: وسع قلبه محبتي ومعرفتي. "الفتاوى"(18/ 122).

(3)

المراد سكون محبته والإيمان به والتعلق به في قلب العبد.

ص: 355

وروى أبو نعيم بإسناده أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان جالسًا، فأقبل إِلَيْهِ تُبَيْع الحميري، فَقَالَ عبد الله: قد أتاكم أعرف من علينا. فلما جلس قال له عبد الله: أخبرنا عن الخيرات الثلاث! والشَّرَّات الثلاث! قال: نعم، الخيرات الثلاث: لسان صدوق، وقلب تقي، وامرأة صالحة؟ والشَّرَّات الثلاث: لسان كذوب، وقلب فاجر، وامرأة سوء. فَقَالَ عبد الله: قد قلت لكم!

وفي "الصحيح"(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ، فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ؛ وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا» .

وفيه أيضاً (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: -"آيَةُ المُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ".

فالكذب أساس النفاق الَّذِي بني عليه، كما أن الصدق أساس الإيمان.

قال ابن مسعود: إِنَّ الكذب لا يصلح في جد ولا هزل. ثم تلا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (3).

وقال كعب بن مالك: إِنَّ من توبتي أن لا أحدث إلا صدقًا. قال: إِنَّمَا نجاني الله بالصدق.

قال بعضهم: حقيقة الصدق أن يصدق العبد في موطن يرى أنه لا ينجيه فيه إلا الكذب.

وكان الربيع بن حراش موصوفًا بالصدق -يقال: إنه لم يكن يكذب قط- وكان له ابنان عاصيان للحجاج -وكان يطلبهما- فقدما عَلَى أبيهما، فبعث الحجاج إِلَى الربيع، وقال: سيعلم بنو عبس أن شيخهم اليوم يكذب. فَقَالَ له:

(1) أخرجه البخاري (6094)، ومسلم (2607) واللفظ لمسلم.

(2)

البخاري (33)، ومسلم (59).

(3)

التوبة: 19.

ص: 356

أين ابناك؟ فَقَالَ: تركتهما في البيت، والله المستعان. فَقَالَ: قد عفونا عنهما بصدقك!

ومتى طهر اللسان من الكذب، طهر من غيره من الكلام السيئ المحرم، واستقام حال العبد كله، ومتى لم يستقم اللسان فسد حال العبد كله.

وربما يعبر عن صدق اللسان باستقامة المقال كله، كما في قوله تعالى:{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (1) وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا} (2) يريد الثناء عليهم بحق.

وكما تنقسم الأعمال إِلَى صدق وغير صدق -والمراد بالصدق ماله نفع ودوام- فكذلك أقوال الصدق، قد يراد بها ما هو حق له نفع وثبات، وجاء من حديث أنس مرفوعًا:"لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ، حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ" خرجه الإمام أحمد (3).

ويروى من حديث أبي سعيد رفعه: "إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ، فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنْ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنْ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا"(4).

وقال مطرف: من صفا عمله صفا لسانه، ومن خلط خُلّط له!

وقال يونس بن عبيد: ما رأيت أحدًا لسانه منه عَلَى بال، إلا رأيت ذلك صلاحًا في سائر عمله.

ومن مراسيل زيد بن أسلم: "ما من عضو من الأعضاء، إلا وهو يشتكي إِلَى الله ما يلقى من اللسان عَلَى حدته".

(1) الشعراء: 84.

(2)

مريم: 5.

(3)

في "المسند"(3/ 198).

(4)

في "الجامع"(2407).

ص: 357

قال الحسن: اللسان أمير البدن، فَإِذَا جنى عَلَى الأعضاء شيئًا جنت، وإذا عفى عفت!

وقد رُوي عن طائفة من السلفى أن اللسان ترجمان القلب، والقلب ملك الأعضاء، وبقية الجوارح جنوده، فَإِذَا صلح الملك وترجمانه صلحت الجنود كلها، وإذا فسد فسدت الجنود كلها.

فَإِذَا كان الملك سليمًا من الهوى، والترجمان صادقًا أمينًا، فالرعية معهما في عافية؛ وإن كان الملك جائرًا، والترجمان غير أمين، فلا تسأل عن فساد حال الرعية معهما، ومتى كان الترجمان غير أمين فقد يلبس، ولكن حال الجائر لا يخفى!

وفي "الصحيحين"(1) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أَلَا إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ".

وقد تقدم (2) حديث أنس المرفوع: صلى الله عليه وسلم "لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ".

وفي "المسند" أيضاً (3) عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسْلِمُ عَبْدٌ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ".

وفي "سنن ابن ماجه"(4) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "قلنا يا رسول الله، من خير الناس؟ قال: ذو القلب المخموم (5)، واللسان الصادق.

قلنا: قد عرفنا اللسان الصادق فما القلب المخموم؟ قال: هو التقي النقي الَّذِي لا إثم فيه ولا غل، ولا بغي ولا حسد".

(1) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).

(2)

في "المسند"(3/ 198).

(3)

في "المسند"(1/ 387).

(4)

برقم (4216).

(5)

المخموم: أي نقي من الغل والحسد. "اللسان" مادة: (خمم).

ص: 358

وفي "المسند"(1) عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَخْلَصَ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَجَعَلَ قَلْبَهُ سَلِيمًا، وَلِسَانَهُ صَادِقًا، وَنَفْسَهُ مُطْمَئِنَّةً، وَخَلِيقَتَهُ مُسْتَقِيمَةً، وَجَعَلَ أُذُنَهُ مُسْتَمِعَةً، وَعَيْنَهُ نَاظِرَةً، فَأَمَّا الْأُذُنُ فَتَسمِعٌ، وَالْعَيْنُ مُقِرَّةٌ بِمَا يُوعَى الْقَلْبُ، فَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ جَعَلَ قَلْبَهُ وَاعِيًا".

وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: "وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ (2) سَخِيمَةَ (3) صَدْرِي" خرجه الترمذي (4).

وسخيمة الصدر: ما فيه من الغل والغش، والحسد ونحو ذلك.

قال خالد الربعي: أمر سيدُ لقمان لقمانَ، بذبح شاة وقال له: ائتني بأطيبها مضغتين. فأتاه باللسان والقلب! فَقَالَ له: أما وجدت فيها أطيب من هذين؟! قال: لا. ثم أمره أن يذبح شاة أخرى، وقال له: ألق أخبثها مضغتين فألقى اللسان القلب! فَقَالَ له: أما كان فيها أخبث من هذين؟! قال: لا. فسأله عن فعله الأول والثاني، فَقَالَ: إنه ليس شيء أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا!

تعاهد لسانك إِنَّ اللسان

سريع إِلَى المرء في قتله

وهذا اللسان بريد الفؤاد

يدل الرجال عَلَى عقله

إذا سلم القلب وصدق اللسان، ترجم اللسان الصادق عن القلب السليم بأنواع السلامة، فهذا المسلم الَّذِي سلم المسلمون من لسانه ويده.

وإذا فسد القلب فسد اللسان، فترجم عن القلب بأنواع الفساد، وهذا الفاجر المعلن بفجوره.

(1)(5/ 147).

(2)

واسلل: أي انتزاع الشيء وإخراجه في رفق. "اللسان" مادة: (سلل).

(3)

السخيمة: الحقد والضغينة والموجدة في النفس. "اللسان" مادة: (سخم).

(4)

برقم (3551). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 359

فإن ترجم عن القلب الفاسد بالسلامة، فهذا اللسان الكذوب، وهو المنافق الَّذِي يختلف ظاهره وباطنه، وقوله وفعله.

يا من يقول بلسانه ما ليس في قلبه، لا تبع ما ليس عندك، لا تنسب أحكام فرعون إِلَى موسى!

وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ".

هذا سؤال جامع لطلب كل خير، والاستعاذة من كل شر، وسواء علمه الإنسان أو لم يعلمه.

وهذا السؤال العام، بعد سؤال تلك الأمور الخاصة من الخير، هو من باب ذكر العام بعد الخاص.

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء، ويأمر بها.

كما خرجه الإمام أحمد (1) وابن ماجه (2) وابن حبان في "صحيحه"(3) من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها هذا الدعاء: "اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ، عَاجِلِهِ وَآَجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَلَمْ أَعْلَمْ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ مَا قَضَيْتَ لِي مِنْ قَضَاءٍ أَنْ تَجْعَلَ عَاقِبَتَهُ لِي رُشْدًا".

وخرجه الحاكم (4) وعنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «يَا عَائِشَةُ، عَلَيْكِ بِالْكَوَامِلِ» وذكر الحديث.

(1) في "المسند"(6/ 134).

(2)

برقم (3846).

(3)

كما في "الإحسان"(869).

(4)

في "المستدرك"(521، 522).

ص: 360

وخرجه الفريابي في "كتاب الدعاء"، وفي رواية له أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها:«يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالْجَوَامِعِ مِنَ الدُّعَاءِ» فذكره.

وخرج الترمذي (1) من حديث أبي أمامة قال: "دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِدُعَاءٍ كَثِيرٍ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعَوْتَ بِدُعَاءٍ كَثِيرِ لَمْ نَحْفَظْ مِنْهُ شَيْئًا، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمْ بِمَا يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَأَنْتَ المُسْتَعَانُ وَعَلَيْكَ البَلَاغُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ".

وسمع سعد بن أبي وقاص ابنًا له يدعو يقول: اللهم إني أسألك الجنة، ونعيمها وإستبرقها -ونحو من هذا- وأعوذ بك من النار، وسلاسلها، وأغلالها. فَقَالَ: لقد سألت الله خيرًا كثيرًا، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«إِنَّهُ سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ» وقرأ هذه الآية: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (2)، وإن بحسبك أن تقول: اللهم إنى أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل. خرجه الإمام أحمد (3).

وخرج الطبراني (4) وغيره من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في

دعاء له طويل: "الَّلهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فَوَاتِحَ الْخَيْرِ وَخَوَاتِمَهُ، وَجَوَامِعَهُ وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ".

وخرج أبو داود (5) من حديث عائشة قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الْجَوَامِعَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيَدَعُ مَا بَيْنَ ذَلِكَ» .

(1) برقم (3521). وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

(2)

الأعراف: 55.

(3)

برقم (1/ 172).

(4)

في "المعجم الكبير"(717).

(5)

برقم (1469).

ص: 361

قوله صلى الله عليه وسلم: "وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ".

ختم الدعاء بالاستغفار فإنه خاتمة الأعمال الصالحة.

وقوله: "وأستغفرك لما تعلم" يعم جميع ما يجب الاستغفار منه من ذنوب العبد، وقد لا يكون العبد عالمًا بذلك كله، فإن من الذنوب ما لا يشعر العبد بأنه ذنب بالكلية كما في الحديث المرفوع:"الشِّرْكَ أَخْفَى مِنْ هَذِهِ الأُمَّة مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا. قَالُوا: فَكَيْفَ نَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِكَ وَنَحْنُ نَعْلَمُ، وَنَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا نَعْلَمُ"(1).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ» .

ومن الذنوب ما ينساه العبد ولا يذكره وقت الاستغفار، فيحتاج العبد إِلَى استغفار عام من جميع ذنوبه -ما علم منها وما لم يعلم- والكل قد علمه الله وأحصاه، فلهذا قال:"وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ". قال الله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} (2).

قال إبراهيم التيمي: لأنا عَلَى ذنوبي التي لا أذكرها أخوف مني عَلَى الذنوب التي أذكرها! لأني أستغفر من التي أذكرها.

من أهمته ذنوبه صارت نصب عينيه، ولم ينسها، ومن لم تهمه ذنوبه هانت عليه فنسيها، فلم يذكرها إِلَى يوم يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى.

إذا نشر ديوان السيئات ضج أرباب الجرائم من صغارها قبل كبارها،

(1) أخرجه أحمد (4/ 403).

(2)

المجادلة: 6.

ص: 362

ويَقُولُونَ: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} (1).

قال ابن مسعود (2): إِنَّ المؤمن يرى ذنوبه كأنّه فى أصل جبل، يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب طار عَلَى أنفه فَقَالَ به هكذا.

قال عون بن عبد الله: جرائم التائبين منصوبة بالندامة نصب أعينهم، لا تقر للتائب في الدُّنْيَا عين كلما ذكر ما اجترح عَلَى نفسه.

قال الفضيل: بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله.

قال كعب (3): إِنَّ العبد ليعمل الذنب الصغير فيحقره ولا يندم عليه، ولا يستغفر الله عنه، فيعظم عند الله حتى يكون مثل الطود؛ ويعمل الذنب العظيم فيندم عليه، ويستغفر الله منه، فيصغر عند الله حتى يغفره له.

قال: وأصاب رجل ذنبًا فحزن عليه، فجعل يجيء ويذهب ويقول: بما أرضي ربي؟ فكتب صديقًا.

وقال أبو أيوب الأنصاري: إِنَّ الرجل ليعمل بالمحقرات حتى يأتي الله وقد أحطن به، ويعمل بالسيئة فيفرق منها حتى يأتي الله آمنًا.

وقال بعض السلف: إِنَّ الرجل لتعرض عليه ذنوبه يوم القيامة، فيرى ذنبًا فيقول: أما إني كنت مشفقًا منك، فيغفر له.

وقال بعضهم: كفاك همك بذنبك -من توبتك- إقلاعًا وإنابة.

وقال الأوزاعي: كان يقال: من الكبائر أن تعمل الذنب فتحقره.

ومن هنا قال بعضهم: لا تنظر إِلَى صغر الخطيئة، ولكن انظر من عصيت؟!

(1) الكهف: 49.

(2)

أخرجه الترمذي (2497).

(3)

أخرجه البيهقي في "الشعب"(7151).

ص: 363

وقال أويس لهرم بن حيان: لا تنظر إِلَى صغر ذنبك، ولكن انظر من عصيت؟ فإن صَغّرت ذنبك فقد صَغّرت الله، وإن عَظّمت ذنبك فقد عَظّمت الله!

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من ذكر خطيئة عملها، فوجل قلبه منها، فاستغفر الله منها، لم يحسبها شيئًا حتى يمحوها عند الرحمن.

قال الفضيل في قوله تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} (1) قال: هو الرجل يذكر ذنوبه في الخلاء فيستغفر الله منها.

كان السلف لقلة ذنوبهم يعدونها.

قال رياح القيسي: لي نيف وأربعون ذنبًا، قد استغفرت لكل ذنب مائة ألف مرة.

ركب ابن سيرين الدين، فَقَالَ: هذا بذنب أذنبته منذ أربعين سنة، قلت لرجل: يا مفلس.

فذكر ذلك لأبي سليمان، فَقَالَ: قَلَّتْ ذنوبهم فعرفوا من أين أتوا، وكثرت ذنوبنا فلم نعرف من أين نؤتى.

كان معروف الكرخي رحمه الله ينشد:

أي شيء تريد مني الذنوب

شغفت بي فليس عني تغيب

ما يضر الذنوب لو أعتقتني

رحمة لي فقد علاني المشيب

ما للمذنبين أحد يرجعون إِلَيْهِ غير الله، وإلى ذلك أشار بقوله:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} (2).

(1) ق: 33.

(2)

آل عمران: 135.

ص: 364

ما يأمل الخطاءون إلا رحمة من أسبل عَلَى خطاياهم ذيل الكرم فسترها، لولا أن حلمه وسع الخلق لهلكوا.

قال هارون بن رئاب: حملة العرش أربعة يتجابون بالتسبيح يقول اثنان منهم: سبحانك وبحمدك، عَلَى حلمك بعد علمك؟ ويقول الآخران: سبحانك وبحمدك عَلَى عفوك بعد قدرتك؛ لما يرون من ذنوب بني آدم.

وقال محمد بن النضر الحارثي: أصبت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول: يا ابن آدم، لو يعلم الناس منك ما أعلم لنبذوك، فقد سترت عليك، وغفرت لك عَلَى ما كان منك، ما لم تشرك بي شيئًا.

وفي "الصحيحين"(1) عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ لَيَدْعُو العَبْدَ

يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ وَيَقُولُ: أَتَذْكُرُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَذْكُرُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَلَا يَزَال يُقَرِّرُهُ حَتَّى إِذَا رَأَى أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ".

وفي رواية: «يَأْتِي اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةَ، فَيُقَرِّبُهُ حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي حِجَابِهِ مِنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ، فَيَقُولُ لَهُ: اقْرَأْ، فَيُعَرِّفُهُ ذَنْبًا ذَنْبًا: أَتَعْرِفُ؟ أَتَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، نَعَمْ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ الْعَبْدُ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، فَيَقُولُ اللَّهُ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ يَا عَبْدِي أَنْتَ فِي سِتْرِي مِنْ جَمِيعِ خَلْقِي، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ الْيَوْمَ أَحَدٌ يَطَّلِعُ عَلَى ذُنُوبِكَ غَيْرِي، اذْهَبْ فَقَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ اليَوْمَ بِحَرْفٍ وَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ مَا أَتَيْتَنِي بِهِ، قَالَ: مَا هُوَ يَا رَبِّ؟ قَالَ: كُنْتَ لَا تَرْجُو الْعَفْوَ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِي» .

إخواني: هب أنه تجاوز عن الزلل، فأين ما يلقاه العاصي عند تقريره بذنوبه من الحياء والخجل؟!

العارفون يشتد قلقهم من الحياء من الله عند الوقوف بين يديه.

قال بعضهم: ما يمر بي أشد من الحياء من الله.

(1) أخرجه البخاري (2441)، ومسلم (2768).

ص: 365

وكان الفضيل يقول: واسوأتاه منك، وإن غفرت!

وقال غيره: لو خيرت بين أن أبعث فأوقف بين يديه، ثم يأمر بي إِلَى الجنة، وبين أن لا أبعث لاخترت أن لا أبعث، ولا أريد الجنة!

وقال آخر: لو أمر بي من الموقف إِلَى النار لكان أهون عليّ من أن يقفني بين يديه ثم يأمر بي إِلَى الجنة!

قال أبو هريرة: يُدْنِي اللَّهُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيَسْتُرُهُ مِنَ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا، وَيَدْفَعُ إِلَيْهِ كِتَابَهُ فِي ذَلِكَ السَّتْرِ فَيَقُولُ: اقْرَأْ يَا ابْنَ آدَمَ كِتَابَكَ، فَيَقْرَأُ، فَيَمُرُّ بِالْحَسَنَةِ فَيَبْيَضُّ لَهَا وَجْهُهُ، وَيُسَرُّ بِهَا قَلْبُهُ! فَيَقُولُ اللَّهُ: أَتَعْرِفُ يَا عَبْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيَقُولُ: إِنِّي قَبِلْتُهَا مِنْكَ، فَيَسْجُدُ فَيَقُولُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَعُدْ فِي كِتَابِكَ فَيَمُرُّ بِالسَّيِّئَةِ فَيَسْوَدُّ لَهَا وَجْهُهُ، وَيَوْجَلُ لَهَا قَلْبُهُ، وَتَرْعَدُ مِنْهَا فَرَائِصُهُ، وَيَأْخُذُهُ مِنَ الْحَيَاءِ مِنْ رَبِّهِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ! فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ يَا عَبْدِي؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ يَا رَبِّ أَعْرِفُ، فَيَقُولُ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ! فَيَسْجُدُ، فَلَا يَرَى مِنْهُ الْخَلَائِقُ إِلَّا السُّجُودَ! حَتَّى يُنَادِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: طُوبَى لِهَذَا الْعَبْدِ الَّذِي لَمْ يَعْصِ اللَّهَ قَطُّ! وَلَا يَدْرُونَ مَا قَدْ لَقِيَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهَ عز وجل، فِيمَا قَدْ وَقَفَهُ عَلَيْهِ.

أستغفِرُ الله ممّا يَعلمُ الله

إنَّ الشَّقيَّ لَمَن لا يَرحَمُ الله

هَبهُ تَجَاوَز لِي عَنْ كُلِّ مَظْلَمَةٍ

يَا سَوْأَتَا مِنْ حَيَاتِي يَوْمَ أَلْقَاهُ

ما أحلمَ الله عمن لا يُراقبُه

كُلٌّ مُسيءٌ ولكن يَحلمُ الله

فاسْتَغفِرُ الله مما كان من زَللٍ

طُوبى لمن كَفَّ عما يَكرهُ الله

طُوبى لمَن حَسُنَت سَريرتُه

طُوبى لمَن يَنتهي عمَّا نهى الله

آخر الكلام عَلَى الحديث، والحمد لله رب العالمين وصلى الله عَلَى محمد وعلى آله وصحبه وسلم آمين.

***

ص: 366