المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية - مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية - رشيد رضا - جـ ٤

[ابن تيمية]

الفصل: ‌حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية

‌الجزء الرابع

‌حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود وبيان بطلانه بالبراهين النقلية والعقلية

من رسائل: شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره

علق عليه: السيد محمد رشيد رضا

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

(رسالة شيخ الإسلام إلى من سأله عن حقيقة مذهب الاتحاديين أي القائلين بوحدة الوجود)

الحمد الله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * وأشهد أن لا إله إلا الله

الأحد الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم تسليما

كثيراً وعلى سائر إخوانه المرسلين.

(أما بعد) فقد وصل كتابك تلتمس فيه بيان حقيقة مذهب هؤلاء الاتحادية

وبيان بطلانه، وانك كنت قد سمعت مني بعض البيان لفساد قولهم، وضاق الوقت

بك عن استتمام بقية البيان، وأعجلك السفر، حتى رأيت عندكم بعض من ينصر

قولهم ممن ينتسب إلى الطريقة والحقيقة، وصادف مني كتابك موقعا، ووجد محلا

قابلا، وقد كتبت إليك بما أرجو من الله أن ينفع به المؤمنين، ويدفع به بأس

هؤلاء الملاحدة المنافقين، الذين يلحدون في أسماء الله وآياته المخلوقات والمنزلات

في كتابه المبين، ويبين الفرق بين ما عليه أهل التحقيق واليقين، من أهل العلم

والمعرفة المهتدين، وبين ما عليه هؤلاء الزنادقة المتشبهين بالعارفين، كما تشبه بالأنبياء

من تشبه من المتنبئين، وكما شبهوا بكلام الله ما شبهوه به من الشعر المفتعل وأحاديث

المفتريين، لتبيين أن هؤلاء من جنس الكفار المنافقين المرتدين، اتباع فرعون

والقرامطة الباطنيين، وأصحاب مسيلمة والعنسي ونحوهما من المفترين، وأن أهل

العلم والإيمان من الصديقين والشهداء والصالحين، سواء كانوا من المقربين السابقين

أو من المقتصدين أصحاب اليمين، وهم من أتباع إبراهيم الخليل وموسى الكليم،

ومحمد المبعوث إلى الناس أجمعين. وقد فرق الله في كتابه المبين الذي جعله حاكما

بين الناس فيما اختلفوا فيه من الحق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والمؤمنين

والكافرين، وقال تعالى (ام حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا

وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون؟) وقال (ام نجعل

ص: 2

الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار؟)

وقال (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون؟)

وقد بين حال من تشبه بالأنبياء وبأهل العلم والإيمان من أهل الكذب

والفجور الملبوس عليهم اللابسين. وأخبر أن لهم تنزلاً ووحيا ولكن من الشياطين،

فقال تعالى (وأن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم

لمشركون) وقال تعالى (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين؟ تنزل على كل أفاك

أثيم) وأخبر أن كل من ارتد عن دين الله فلابد أن يأتي الله بدله بمن يقيم دينه المبين،

فقال (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم

ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون

لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) .

وذلك أن مذهب هؤلاء الملاحدة فيما يقولونه من الكلام وينظمونه من الشعر بين

حديث مفترى وشعر مفتعل. واليهما اشار أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما

قال له عمر بن الخطاب في بعض ما يخاطبه به: يا خليفة رسول الله تألف الناس. فأخذ

بلحيته وقال: يا ابن الخطاب، أجباراً في الجاهلية خواراً في الإسلام؟ علام أتألفهم؟

أعلى حديث مفترى؟ أم شعر مفتعل؟ يقول: إني لست أدعوهم إلى حديث مفترى

كقرآن مسيلمة، ولا شعر مفتعل كشعر طليحة الاسدي.

وهذان النوعان هما اللذان يعارض بهما القرآن أهل الفجور والافك المبين،

قال تعالى (فلا أقسم بما تبصرون ومالا تبصرون إنه لقول رسول كريم) إلى آخر

الآية وقال تعالى (وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين) الآيات إلى

قوله تعالى (وما تنزلت به الشياطين) إلى آخر السورة. فذكر في السورة علامة الكهان

الكاذبين، والشعراء الغاوين، ونزهة عن هذين الصنفين كما في سورة الحاقة. وقال تعالى

(إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين) إلى آخر السورة. فالرسول

هنا جبريل. وفي الآية الأولى محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا نزه محمداً هناك أن يكون شاعراً

أو كاهنا ونزه هنا الرسول إليه أن يكون من الشياطين

ص: 3

فصل

اعلم - هداك الله وأرشدك - أن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده ولا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم، لما فيه من الألفاظ المجملة والمشتركة، بل وهم أيضاً لا يفهمون حقيقة ما يقصدونه ويقولونه، ولهذا يتناقضون كثيراً في قولهم، وإنما يتخيلون شيئاً ويقولونه أو يتبعونه، ولهذا قد افترقوا بينهم على فرق، ولا يهتدون إلى التمييز بين فرقهم، مع استشعارهم أنهم مفترقون، ولهذا لما بينت لطوائف من أتباعهم ورؤسائهم حقيقة قولهم، وسر مذهبهم، صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم، وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف، كما تبذله النصارى لرؤسائهم، والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون.

وكل من يقبل قول هؤلاء فهو أحد رجلين إما جاهل بحقيقة أمرهم، وإما ظالم يريد علواً في الأرض وفساداً، أو جامع بين الوصفين. وهذه حال أتباع فرعون الذين قال الله فيهم " فاستخف قومه فأطاعوه " وحال القرامطة مع رؤسائهم، وحال الكفار والمنافقين في أئمتهم الذين يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون " إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا " إلى آخر الآية وقوله " وألعنهم لعناً كبيرا " وقال تعالى " ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً - إلى قوله - وما هم بخارجين من النار ".

فصل

اعلم أن حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة، ولهذا من سماهم حلولية أو قال هم قائلون بالحلول رأوه محجوباً عن معرفة قولهم خارجاً عن الدخول إلى باطن أمرهم، لأن من قال أن الله يحل في المخلوقات فقد قال بأن المحل غير الحال، وهذا تثنية عندهم وإثبات لموجودين (أحدهما) وجود الحق الحال (والثاني) وجود المخلوق المحل

ص: 4

وهم لا يقرون بإثبات وجودين البتة. ولا ريب أن هذا القول أقل كفراً من قولهم، وهو قول كثير من الجهمية الذين كان السلف يردون قولهم، وهم الذين يزعمون أن الله بذاته في كل مكان. وقد ذكره جماعات من الأئمة والسلف عن الجهمية وكفروهم به، بل جعلهم خلق من الأئمة - كابن المبارك ويوسف ابن اسباط وطائفة من أهل العلم والحديث من أصحاب أحمد وغيره - خارجين بذلك عن الثنتين والسبعين فرقة. وهو قول بعض متكلمة الجهمية وكثير من متعبديهم. ولا ريب إن إلحاد هؤلاء المتأخرين وتجهمهم وزندقتهم تفريع وتكميل لإلحاد هذه الجهمية الأولى وتجهمها وزندقتها.

وأما وجه تسميتهم اتحادية ففيه طريقان (أحدهما) لا يرضونه لأن الاتحاد على وزن الاقتران والاقتران يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر وهم لا يقرون بوجودين أبداً (والطريق الثاني) صحة ذلك بناء على أن الكثرة صارت وحدة كما سأبينه من اضطرابهم.

وهذه الطريقة إما على مذهب ابن عربي فإنه يجعل الوجود غير الثبوت ويقول أن وجود الحق قاض على ثبوت الممكنات، فيصح الاتحاد بين الوجود والثبوت وأما على قول من لا يفرق فيقول أن الكثرة الخيالية صارت وحدة بعد الكشف أو الكثرة العينية صارت وحدة إطلاقية.

فصل

ولما كان أصلهم الذي بنوا عليه أن وجود المخلوقات والمصنوعات حتى وجود الجن والشياطين والكافرين والفاسقين والكلاب والخنازير والنجاسات والكفر والفسوق والعصيان عين وجود الرب، لا أنه متميز عنه منفصل عن ذاته، وإن كان مخلوقاً له مربوباً مصنوعاً له قائماً به، وهم يشهدون أن في الكائنات تفرقاً وكثرة ظاهرة بالحس والعقل، فاحتاجوا إلى جمع يزيل الكثرة، ووحدة ترفع التفرق مع ثبوتها، فاضطربوا على ثلاث مقالات، أنا أبينها لك وإن كانوا هم لا يبين بعضهم مقالة نفسه ومقالة غيره لعدم كمال شهود الحق وتصوره.

ص: 5

المقالة الأولى

مقالة ابن عربي صاحب فصوص الحكم

وهي مع كونها كفراً فهو أقربهم إلى الإسلام لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد الكثير، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى. والله أعلم بما مات عليه. فإن مقالته مبنية على أصلين.

الأصل الأول لمذهب ابن عربي

أحدهما أن المعدوم شيء ثابت في العدم، موافقة لمن قال ذلك من المعتزلة والرافضة. وأول من ابتدع هذه المقالة في الإسلام أبو عثمان الشحام شيخ أبي علي الجبائي وتبعه عليها طوائف من القدرية المبتدعة من المعتزلة والرافضة، وهؤلاء يقولون أن كل معدوم يمكن وجوده فإن حقيقته وماهيته وعينه ثابتة في العدم، لأنه لولا ثبوتها لما تميز المعلوم المخبر عنه من غير المعلوم المخبر عنه، ولما صح قصد ما يراد إيجاده، لأن القصد يستدعي التمييز، والتمييز لا يكون إلا في شيء ثابت، لكن هؤلاء وإن ابتدعوا هذه المقالة التي هي باطلة في نفسها وقد كفرهم بها طوائف مت متكلمة السنة - فهم يعترفون بأن الله خلق وجودها، ولا يقولون أن عين وجودها عين وجود الحق. وأما صاحب الفصوص وأتباعه فيقولون: عين وجودها عين وجود الحق، فهي متميزة بذواتها الثابتة في العدم متحدة بوجود الحق العالم بها. وعامة كلامه ينبني على هذا لمن تدبره وفهمه.

وهؤلاء القائلون بأن المعدوم شيء ثابت في العدم سواء قالوا بأن وجودها خلق الله أو هو الله، يقولون إن الماهيات والأعيان غير مجعولة ولا مخلوقة وأن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وقد يقولون الوجود صفة للموجود.

وهذا القول وإن كان فيه شيه بقول القائلين بقدم العالم أو القائلين بقدم مادة

ص: 6

العالم وهيولاه المتميزة عن صورته فلس هو إياه، وإن كان بينهما قدر مشترك، فإن هذه الصورة المحدثة من الحيوان والنبات والمعادن ليست قديمة باتفاق جميع العقلاء، بل هي كائنة بعد أن لم تكن، وكذلك الصفات والأعراض القائمة بأجسام السموات والاستحالات القائمة بالعناصر من حركات الكواكب والشمس والقمر والسحاب والمطر والرعد والبرق وغير ذلك، كل هذا حادث غير قديم، عند كل ذي حس سليم، فإنه يرى ذلك بعينه. والذين يقولون بأن عين المعدوم ثابتة في القدم أو بأن مادته قديمة يقولون بأن أعيان جميع هذه الأشياء ثابتة في القدم، ويقولون أن مواد جميع العالم قديمة دون صوره.

واعلم أن المذهب إذا كان باطلاً في نفسه لم يكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصوراً حقيقياً فإن هذا لا يكون إلا للحق. فأما القول الباطل فإذا بين فبيانه يظهر فساده، حتى يقال كيف اشتبه هذا على أحد ويتعجب من اعتقادهم إياه، ولا ينبغي للإنسان أن يعجب. فما من شيء يتخيل من أنواع الباطل إلا وقد ذهب إليه فريق من الناس. ولهذا وصف الله أهل الباطل بأنهم أموات وأنهم (صم بكم عمي) وأنهم (لا يفقهون، ولا يعقلون) وأنهم (في قول مختلف يؤفك عنه من أفك) وأنهم (في ريبهم يترددون) وأنهم (يعمهون) .

وإنما نشأ - والله أعلم - الاشتباه على هؤلاء من حيث رأوا أن الله سبحانه يعلم ما لم يكن قبل كونه - أو (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) فرأوا أن المعدوم الذي يخلقه يتميز في علمه وإرادته وقدرته، فظنوا ذلك لتميز ذات له ثابتة وليس الأمر كذلك. وإنما هو متميز في علم الله وكتابه، والواحد منا يعلم الموجود والمعدوم الممكن والمعدوم المستحيل، ويعلم ما كان كآدم والأنبياء، ويعلم ما يكون كالقيامة والحساب، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما يعلم ما أخبر الله عن أهل النار (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه) وأنهم (لو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم) وأنه (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وأنه (لو كان فيهما آلهة كما يقولون إذاً إلا ابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) وأنهم (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) وأنه (لولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً)

ص: 7

ونحو ذلك من الجمل الشرطية التي يعلم فيها انتفاء الشرط أو ثبوته.

فهذه الأمور التي نعلمها نحن ونتصورها، إما نافين لها أو مثبتين لها في الخارج أو مترددين - ليس بمجرد تصورنا يكون لأعيانها ثبوت في الخارج عن علمنا وأذهاننا، كما نتصور جبل ياقوت وبحر زئبق وإنسانا من ذهب وفرساً من حجر. فثبوت الشيء في العلم والتقدير ليس هو ثبوت عينه في الخارج، بل العالم يعلم الشيء ويتكلم به ويكتبه وليس لذاته في الخارج ثبوت ولا وجود أصلاً. وهذا هو تقدير الله السابق لخلقه كما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخميس ألف سنة ".

وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب قال: رب وما أكتب؟ قال، اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة " وقال ابن عباس " إن الله خلق الخلق وعلم ما هو عاملون، ثم قال لعلمه " كن كتاباً " فكان كتاباً؟ ثم أنزل تصديق ذلك في كتابه فقال (ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض، إن ذلك في كتاب) ".

وهذا هو معنى الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن ميسرة الفجر قال: قلت يا رسول الله متى كنت نبياً، وفي رواية متى كتبت نبياً؟ - قال " وآدم بين الروح والجسد " هكذا لفظ الحديث الصحيح. وما ما يرويه هؤلاء الجهال (1) كابن عربي في الفصوص وغيره من جهال العامة " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين "" كنت نبياً وآدم لا ماء ولا طين " فهذا لا أصل له ولم يروه أحد من أهل العلم الصادقين، ولا هو في شيء من كتب العلم المعتمدة بهذا اللفظ بل هو باطل، فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط فإن الله خلقه من تراب، وخلط التراب بالماء حتى صار طيناً ويبس الطين حتى صار صلصالاً كالفخار، فلم يكن له حال بين الماء والطين مركب من الماء والتراب، ولو قيل بين الماء والترب لكان أبعد عن المحال، مع أن هذه الحال لا اختصاص لها، وإنما قال " بين الروح والجسد " وقال " وإن آدم لمنجدل في طينته " لأن آدم بقي أربعين سنة قبل نفخ الروح فيه كما

(1) أي الجهال بعلم الرواية والأسانيد ونقد الحديث

ص: 8

قال تعالى " هل أتى على الإنسان حين من الدهر " الآية وقال تعالى (وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال) الآيتين. وقال تعالى (الذين أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين) الآيتين وقال تعالى (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين) الآية. والأحاديث في خلق آدم ونفه الروح فيه مشهورة في كتب الحديث والتفسير وغيرهما.

فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كان نبياً أي كتب نبياً وآدم بين الروح والجسد. وهذا والله أعلم لأن هذه الحالة فيها يقدر التقدير الذي يكون بأيدي ملائكة الخلق فيقدر لهم ويظهر لهم ويكتب ما يكون من المخلوق قبل نفخ الروح فيه، كما أخرج الشيخان في الصحيحين وفي سائر الكتب الأمهات حديث الصادق المصدوق وهو من الأحاديث المستفيضة التي تلقاها أهل العلم بالقبول وأجمعوا على تصديقها وهو حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح - وقال - فوالذي نفسي بيده أن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وأن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة " فلما أخبر الصادق المصدوق أن الملك يكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد بعد خلق الجسد وقبل نفخ الروح، وآدم هو أبو البشر كان أيضاً من المناسب لهذا أن يكتب بعد خلق جسده وقبل نفخ الروح فيه ما يكون منه، ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم فهو أعظم الذرية قدراً وأرفعهم ذكراً، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كتب نبياً حينئذ، وكتابة نبوته هو معنى كون نبوته فإنه كون في التقدير الكتابي، ليس كوناً في الوجود العيني، إذ نبوته لم يكن وجودها حتى نبأه الله تعالى على رأس أربعين من عمره صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا) الآية. وقال (ألم يجدك يتيماً فآوى)

ص: 9

الآية. وقال (نحن نقص عليك أحسن القصص) الآية. ولذلك جاء هذا المعنى مفسراً في حديث العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " إني عبد الله مكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام " هذا لفظ الحديث من رواية ابن وهب.

حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض رواه البغوي في شرح السنة هكذا، ورواه الليث بن سعد عنه نحوه، ورواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مهدي: حدثنا معاوية بن صالح بالإسناد عن العرباض قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن عبد الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم " الحديث. وفيه " كذلك أمهات النبيين يرين " وقوله " لمنجدل في طينته " أي ملتف ومطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح بعد.

وقد روي أن الله كتب اسمه على العرش وعلى ما في الجنة من الأبواب والقباب والأوراق، وروي في ذلك عدة آثار توافق هذه الأحاديث الثابتة التي تبين التنويه باسمه وإعلاء ذكره حينئذ.

وقد تقدم لفظ الحديث الذي في المسند عن ميسرة الفجر لما قيل له متى كنت نبياً؟ قال " وآدم بين الروح والجسد " وقد رواه أبو الحسن بن بشر أن من طريق الشيخ أبي الفرج بن الجوزي في (الوفا، بفضائل المصطفى) صلى الله عليه وسلم: حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح ثنا محمد بن صالح ثنا محمد بنا سنان العوفي ثنا إبراهيم بن طهمان عن يزيد بن ميسرة عن عبد الله ابن سفيان عن ميسرة قال قلت: يا رسول الله، متى كنت نبياً؟ قال " لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وخلق العرش وكتب على ساق العرش محمد رسول الله خاتم الأنبياء وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء فكتب اسمي على الأبواب والأوراق والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى نظر إلى العرش فرأى اسمي فأخبره الله أنه سيد ولدك، فلما

ص: 10

غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه ".

وروى أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة: ومن طريق الشيخ أبي الفرج حدثنا سليمان بن أحمد ثنا أحمد بن رشدين ثنا أحمد بن سعيد الفهري ثنا عبد الله ابن إسماعيل المدني عن عبد الرحمن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال يا رب بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى إليه وما محمد؟ ومن محمد؟ فقال: يا رب إنك لما أتممت خلقي رفعت رأسي إلى عرشك فإذا عليه مكتوب: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك، إذ قرنت اسمه مع اسمك. فقال: نعم، قد غفرت لك وهو آخر الأنبياء من ذريتك ولولاه ما خلقتك " فهذا الحديث يؤيد الذي قبله وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة. (1)

وفي الصحيحين عن عائشة قالت " أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي غار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق، وهو بحراء، فأتاه الملك فقال له: اقرأ. قال لست بقارئ. قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: لست بقارئ قال فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت لست بقارئ، ثم أخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق) فرجع لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره " الحديث بطوله، فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح أنه لم يكن قارئاً، وهذه السورة أول ما أنزل

(1) يشير بقوله كالتفسير للاحاديث الصحيحة إلى عدم صحتها وكونهما ليسا بمعنى الاحاديث الصحيحة السابقة وانما يوافقانها من وجه واحد وهو كتابة المقادير قبل خلق ما جرت فيه من الخلق وغرضه منها تقوية الشواهد على علم الله بالاشياء وكتابته اياها قبل خلقها، وان ثبوتها في العلم غير ثبوتها في الوجود

ص: 11

الله عليه وبها صار نبياً، ثم أنزل عليه سورة المدثر، وبها صار رسولاً لقوله (ثم فأنذر) ولهذا ذكر سبحانه في هذه السورة الوجود العيني والوجود العلمي. وهذا أمر بين يعقله الإنسان بقلبه لا يحتاج فيه إلى سمع، فإن الشيء لا يكون قبل كونه. وأما كون الأشياء معلومة لله قبل كونها فهذا حق لا ريب فيه. وكذلك كونها مكتوبة عنده أو عند ملائكته، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وجاءت به الآثار.

وهذا العلم والكتاب هو القدر الذي ينكره غالية القدرية ويزعمون أن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وهم كفار، كفرهم الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما.

وقد بين الكتاب والسنة هذا القدر وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال الوارد عليه، وهو ترك العمل لأجله، فأجاب صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة (1) فجعل ينكت بمخصرته ثم قال " ما منكم من أحد - أو قال - ما نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتب شقية أو سعيدة " قال فقال رجل: يا رسول الله أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل، فمن كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة؟ فقال " اعملوا فكل ميسر: أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة - ثم قرأ (فأما من أعطى واتقى) إلى آخر الآيات " وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالساً وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال " ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار " قالوا يا رسول الله فلم نعمل؟ أفلا نتكل؟ قال " لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له - ثم قرأ (فأما من أعطى) الآية ".

وفي الصحيحين أيضاً عن عمران بن حصين قال: قيل يا رسول الله، أعلم أهل

(1) كمكنسة:ما يتوكأ عليه كالعصا ونحوه وما يأخذه الملك يشير به إذا خاطب والخطيب إذا خطب

ص: 12

الجنة من أهل النار؟ قال " نعم " قال فقيل: ففيم يعمل العاملون؟ فقال " كل ميسر لما خلق له " وفي رواية: أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وتثبت الحجة عليهم؟ فقال " لا. بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها) ".

وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم قال: يا رسول الله، بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل؟ قال " لا. بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير " قال: ففيم العمل؟ قال " اعملوا فكل ميسر ".

وفي صحيح مسلك عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله ر يقول " كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة - قال: وعرشه على الماء ".

وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: يا بني، إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أول ما خلق الله القلم فقال له " اكتب، قال: رب، ما أكتب؟ قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة " يا بني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من مات على غير هذا فليس مني " ورواه الترمذي من وجه آخر عن الوليد بن عبادة أنه قال: دعاني - يعني أباه - عند الموت فقال: يا بني اتق الله، واعلم أنك إن تتق الله تؤمن بالله وتؤمن بالقدر كله، خيره وشره، وإن مت على غير هذا دخلت النار، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن أول ما خلق الله القلم فقال اكتب، قال ما أكتب؟ قال اكتب القدر، ما كان وما هو كائن إلى الأبد ".

وفي الترمذي أيضاً عن أبي حراثة عن أبيه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قضاء الله تعالى

ص: 13

شيئاً؟ قال " هي من قدر الله ".

لكن إنما ثبتت في التقدير المعدوم الممكن الذي سيكون، فأما المعدوم الممكن الذي لا يكون فمثل إدخال المؤمنين النار وإقامة القيامة قبل وقتها، وقلب الجبال يواقيت ونحو ذلك، فهذا المعدوم ممكن وهو شيء ثابت في العدم عند من يقول المعدوم شيء، ومع هذا فليس بمقدر كونه، والله يعلمه على ما هو عليه، يعلم أنه ممكن وأنه لا يكون، وكذلك الممتنعات مثل شريك الباري وولده، فإن الله يعلم أنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ويعلم أنه ليس له شريك في الملك ولا ولي من الذل ويعلم أنه حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، ويعلم أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض. وهذه المعدومات الممتنعة ليست شيئاً باتفاق العقلاء مع ثبوتها في العلم، فظهر أنه قد ثبت في العلم ما لا يوجد وما يمتنع أن يوجد إذ العلم واسع، فإذا توسع المتوسع وقال المعدوم شيء في العلم أو موجود في العلم أو ثابت في العلم فهذا صحيح، أما أنه في نفسه شيء فهذا باطل، وبهذا تزول الشبهة الحاصلة في هذه المسألة.

والذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف: أن المعدوم ليس في نفسه شيئاً وأن ثبوته ووجوده وحصوله شيء واحد، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم، قال الله تعالى لزكريا (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً) فأخبر أنه لم يك شيئاً. وقال تعالى (أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً) وقال تعالى (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) فأنكر عليهم اعتقاد أن يكونوا خلقوا من غير شيء خلقهم أم خلقوا هم أنفسهم، ولهذا قال جبير بن مطعم: لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة أحسست بفؤادي قد انصدع. ولو كان المعدوم شيئاً لم يتم الإنكار، إذا جاز أن يقال ما خلقوا إلا من شيء، لكن هو معدوم يكون الخالق لهم شيئاً معدوماً. وقال تعالى (فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئاً) ولو كان المعدوم شيئاً لكان التقدير: لا يظلمون موجوداً ولا معدوماً، والمعدوم لا يتصور أن يظلموه فإنه ليس لهم.

وأما قوله (إن زلزلة الساعة شيء عظيم) فهو إخبار عن الزلزلة الواقعة

ص: 14

أنها شيء عظيم ليس إخباراً عن الزلزلة في هذه الحال ولهذا قال (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت) ولو أريد به الساعة لكان المراد بها شيء عظيم في العلم والتقدير.

وقوله تعالى (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) قد استدل به من قال المعدوم شيء وهو حجة عليه، لأنه أخبر أنه يريد الشيء وأنه يكونه، وعندهم أنه ثابت في العدم وإنما يراد وجوده لا عينه ولا نفسه. والقرآن قد أخبر أن نفسه تراد وتكون وهذا من فروع هذه المسألة.

فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة وأن ماهية كل شيء عين وجوده، وأنه ليس وجود الشيء قدراً زائداً على ماهيته، بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته، وليس وجوده وثبوته في الخارج زائداً على ذلك.

وأولئك يقولون الوجود قدر زائد على الماهية ويقولون الماهيات غير مجعولة، ويقولون وجود كل شيء زائد على ماهيته، ومن المتفلسفة من يفرق بين الوجود والواجب والممكن فيقول: الوجود الواجب عين الماهية. وأما الوجود الممكن فهو زائد على الماهية. وشبهة هؤلاء ما تقدم من أن الإنسان قد يعلم ماهية الشيء ولا يعلم وجوده، وأن الوجود مشترك بين الموجودات وماهية كل شيء مختصة به.

ومن تدبر تبين له حقيقة الأمر فإنا قد قدمنا الفرق بين الوجود العلمي والعيني. وهذا الفرق ثابت في الوجود والعين والثبوت والماهية وغير ذلك. فثبوت هذه الأمور في العلم والكتاب والكلام ليس هو ثبوتها في الخارج عن ذلك (1) وهو ثبوت حقيقتها وماهيتها التي هي هي، والإنسان إذا تصور ماهية فقد علم وجودها الذهني، ولا يلزم من ذلك الوجود الحقيقي الخارجي. فقول القائل: قد تصورت حقيقة الشيء وعينه ونفسه وماهيته وما علمت وجوده حصل وجوده العلمي، وما حصل وجوده العيني الحقيقي ولم يعلم ماهيته الحقيقية ولا عينه الحقيقية ولا نفسه الحقيقية الخارجية فلا فرق بين لفظ وجوده ولفظ ماهيته إلا أن اللفظين قد يعبر به عن الذهني والآخر عن الخارجي فجاء الفرق من جهة المحل لا من جهة الماهية والوجود.

(1) أي الخارج عن الأمور الثلاثة المذكورة

ص: 15

وأما قولهم: إن الوجود مشترك والحقيقة لا اشتراك فيا، - فالقول فيه كذلك فإن الوجود المعين الموجود في الخارج لا اشتراك فيه، كما أن الحقيقة المعينة الموجودة في الخارج لا اشتراك فيها. وإنما العلم يدرك الوجود المشترك كما يدرك الماهية المشتركة، فالمشترك ثبوته في الذهن لا في الخارج، وما في الخارج ليس فيه اشتراك البتة، والذهن إن أدرك الماهية المعينة الموجودة في الخارج لم يمكن فيها اشتراك وإنما الاشتراك فيما يدركه من الأمور المطلقة العامة وليس في الخارج شيء مطلق عام بوصف بالإطلاق والعموم؟ وإنما فيه المطلق لا بشرط الإطلاق وذلك لا يوجد في الخارج إلا معيناً، فينبغي للعاقل أن يفرق بين ثبوت الشيء ووجوده في نفسه، وبين ثبوته ووجوده في العلم، فإن ذاك هو الوجود العيني الخارجي الحقيقي، وأما هذا فيقال له الوجود الذهني والعلمي. وما من شيء إلا له هذان الثبوتان والعلم يعبر عنه باللفظ ويكتب اللفظ بالخط فيصير لكل شيء أربعة مراتب: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في للسان، ووجود في البنان، وجود عيني، وعلمي، ولفظي، ورسمي.

ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه سورة (اقرأ باسم ربك الذي خلق) ذكر فيها النوعين فقال (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق) فذكر جميع المخلوقات بوجودها العيني عموماً ثم خصوصاً، فخص الإنسان بالخلق بعدما عم غيره، ثم قال (اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) فخص التعليم للإنسان بعد تعميم التعليم بالقلم، وذكر القلم لأن التعليم بالقلم هو الخط وهو مستلزم لتعليم اللفظ، فإن الخط يطابقه، وتعليم اللفظ هو البيان وهو مستلزم لتعليم العلم، لأن العبارة تطابق المعنى، فصار تعليمه بالقلم مستلزماً للمراتب الثلاث: اللفظي، والعلمي، والرسمي، بخلاف ما لو أطلق التعليم أو ذكر تعليم العلم فقط لم يكن ذلك مستوعباً للمراتب.

فذكر في هذه السورة الوجود العيني والعلمي وأن الله سبحانه هو معطيهما فهو خالق الخلق وخالق الإنسان، وهو المعلم بالقلم ومعلم الإنسان.

فأما إثبات وجود الشيء في الخارج قبل وجوده فهذا أمر معلوم الفساد بالعقل والسمع وهو مخالف للكتاب والسنة والإجماع.

ص: 16

فصل

الأصل الثاني لمذهب ابن عربي

هذا أحد أصلي ابن عربي. وأما الأصل الآخر فقولهم أن وجود الأعيان نفس وجود الحق وعينه. وهذا انفردوا به عن جميع مثبتة الصانع من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمشتركين، وإنما هو حقيقة قول فرعون والقرامطة المنكرين لوجود الصانع كما سنبينه إن شاء الله.

فمن فهم هذا فهم جميع كلام ابن عربي نظمه ونثره (1) وما يدعيه من أن الحق يغتذي بالخلق، لأن وجود الأعيان معتمد بالأعيان الثابتة في العدم، ولهذا يقول بالجمع من حيث الوجود، وبالفرق من حيث الماهية والأعيان، ويزعم أن هذا هو سر القدر، لأن الماهيات لا تقبل إلا ما هو ثابت لها في العدم في أنفسها، فهي التي أحسنت وأساءت، وحمدت وذمت، والحق لم يعطها شيئاً إلا ما كانت عليه في حال العدم.

فتدبر كلامه كيف انتظم شيئين: إنكار وجود الحق، وإنكار خلقه لمخلوقاته، فهو منكر للرب الذي خلق فلا يقر برب ولا بخلق، ومنكر لرب العالمين، فلا رب ولا عالمون مربوبون، إذ ليس إلا أعيان ثابتة ووجود قائم بها، فلا الأعيان مربوبة ولا الوجود مربوب، ولا الأعيان مخلوقة ولا الوجود مخلوق. وهذا يفرق بين المظاهر والظاهر والمجلي والمتجلي، لأن المظاهر عنده هي الأعيان الثابتة في العدم، وأما الظاهر فهو وجود الخلق.

(1) هذا بمعنى قول شيخنا أن لكلام ابن عربي مفتاحا من عرفه فهم جميع كلامه فأنا أقرأ الفتوحات كما أقرأ تاريخ ابن الأثير. وقال أيضاً: إنما أبهم هؤلاء الصوفية مذهبهم بالاصطلاحات التي تشبه الالغاز تقية وهربا من تكفير الجمهور لهم

ص: 17

فصل

وأما صاحبه الصدر الفخر الرومي فإنه لا يقول أن الوجود زائد على الماهية، فإنه كان أدخل في النظر والكلام من شيخه، لكنه أكفر وأقل علماً وإيماناً، وأقل معرفة بالإسلام وكلام المشايخ. ولما كان مذهبهم كفراً كان كل من حذق فيه كان أكفر، فلما رأى أن التفريق بين وجود الأشياء وأعيانها لا يستقيم وعنده أن الله هو الوجود ولا بد من فرق بين هذا وهذا، فرق بين المطلق والمعين، فعنده أن الله هو الوجود المطلق الذي لا يتعين ولا يتميز، وأنه إذا تعين وتميز فهو الحق سواء تعين في مرتبة الإلهية أو غيرها. وهذا القول قد صرح فيه بالكفر أكثر من الأول، وهو حقيقة مذهب فرعون والقرامطة، وإن كان الأول أفسد من جهة تفرقته بين وجود الأشياء وثبوتها، وذلك أنه على القول لأول يمكن أن يجعل للحق وجوداً خارجاً عن أعيان الممكنات، وأنه فاض عليها فيكون فيه اعتراف بوجود الرب القائم بنفسه الغني عن خلقه، وإن كان فيه كفر من جهة أنه جعل المخلوق هو الخالق، والمربوب هو الرب، بل لم يثبت خلقاً أصلاً ومع هذا فما رأيته صرح بوجود الرب متميزاً عن الوجود القائم بأعيان الممكنات.

وأما هذا فقد صرح بأنه ما ثم سوى الوجود المطلق الساري في الموجودات المعينة. والمطلق ليس له وجود مطلق، فما في الخارج جسم مطلق بشرط الإطلاق، ولا إنسان مطلق ولا حيوان مطلق بشرط الإطلاق، بل لا يوجد إلا في شيء معين والحقائق لها ثلاث اعتبارات: اعتبار العموم، والخصوص، والإطلاق، فإذا قلنا: حيوان عام أو إنسان عام، أو جسم عام، ووجود عام، فهذا لا يكون إلا في العلم واللسان، وأما الخارج عن ذلك فما ثم شيء موجود في الخارج يعم شيئين، ولهذا كان العموم من عوارض صفات الحي فيقال: علم عام، وإرادة عامة، وغضب عام، وخبر عام، وأمر عام، ويوصف صاحب الصفة بالعموم أيضاً كما في الحديث الذي

ص: 18

في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعلي وهو يدعو فقال " يا علي عم، فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض " وفي الحديث أنه لما نزل قوله (وأنذر عشيرتك الأقربين) عم وخص. رواه مسلم من حديث موسى بن طلحة عن أبي هريرة، وتوصف الصفة بالعموم كما في حديث التشهد " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإذا قلتم ذلك فقد أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض ".

وأما إطلاق من أطلق أن العموم من عوارض الألفاظ فقط، فليس كذلك إذ معاني الألفاظ القائمة بالقلب أحق بالعموم من الألفاظ. وسائر الصفات: الإرادة والحب والبغض والغضب والرضاء يعرض لها من العموم والخصوص ما يعرض للقول، وإنما المعاني الخارجة عن الذهن هي الموجودة في الخارج، كقولهم: مطر عام وخصب عام. هذه التي تنازع الناس: هل وصفها بالعموم حقيقة أو مجاز؟ على قولين (أحدهما) مجاز لأن كل جزء من أجزاء المطر والخصب لا يقع إلا حيث يقع الآخر فليس هناك عموم، وقيل بل حقيقة لأن المطر المطلق قد عم.

وأما الخصوص فيعرض لها إذا كانت موجودة في الخارج، فإن كل شيء له ذات وعين تختص به ويمتاز بها عن غيره، أعني الحقيقة العينية الشخصية التي لا اشتراك فيها، مثل: هذا الرجل وهذه الحبة وهذا الدرهم، وما عرض لها في الخارج فإنه يعرض لها في الذهن. فإن تصور الذهنية أوسع من الحقائق الخارجية فإنها تشمل الموجود والمعدوم والممتنع والمقدرات.

وأما الإطلاق فيعرض لها إذا كانت في الذهن بلا ريب فإن العقل يتصور إنساناً مطلقاً ووجوداً مطلقاً. وأما في الخارج فهل يتصور شيء مطلق؟ هذا فيه قولان، المطلق له وجود في الخارج فإنه جزء من المعين، وقيل لا وجود له في الخارج، إذ ليس في الخارج إلا معين مقيد، والمطلق الذي يشترك فيه العدد لا يكون جزءاً من المعين الذي لا يشركه فيه.

ص: 19

والتحقيق أن المطلق بلا شرط أصلاً يدخل فيه المقيد المعين، وأما المطلق بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المعين المقيد، وهذا كما يقول الفقهاء: الماء المطلق، فإنه بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المضاف. فإذا قلنا: الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طهور، وطاهر ونجس، فالثلاثة أقسام الماء. الطهور هو الماء المطلق الذي لا يدخل ما ليس بطهور كالعصارات والمياه النجسة. فالماء المقسوم هو المطلق لا بشرط، والماء الذي هو قسيم للمائين هو المطلق بشرط الإطلاق.

لكن هذا الإطلاق والتقييد الذي قاله الفقهاء في اسم الماء إنما هو في الإطلاق والتقييد اللفظي وهو ما دخل في اللفظ المطلق كلفظ ماء، أو في اللفظ المقيد كلفظ ماء نجس، أو ماء ورد.

وأما ما كان كلامنا فيه أولاً فإنه الإطلاق والتقييد في معاني اللفظ، ففرق بين النوعين. فإن الناس يغلطون لعدم التفريق بين هذين غلطاً كثيراً جداً، وذلك أن كل اسم فإما أن يكون مسماه معيناً لا يقبل الشركة كأنا وهذا وزيد، ويقال له المعين والجزء، وإما أن يقبل الشركة فهذا الذي يقبل الشركة هو المعنى الكلي المطلق وله ثلاث اعتبارات كما تقدم.

وأما اللفظ المطلق والمقيد فمثال تحرير رقبة، ولم تجدوا ماء، وذلك أن المعنى قد يدخل في مطلق اللفظ، ولا يدخل في اللفظ المطلق، أي يدخل في اللفظ لا بشرط الإطلاق، ولا يدخل في اللفظ بشرط الإطلاق، كما قلنا في لفظ الماء، وأن الماء يقال على المني وغيره كما قال (من ماء دافق) ويقال: ماء الورد، لكن هذا لا يدخل في لفظ الماء عند الإطلاق لكن عند التقييد. فإذا أخذ القدر المشترك بين لفظ الماء المطلق ولفظ الماء المقيد فهو المطلق بلا شرط الإطلاق، فيقال: الماء ينقسم إلى مطلق ومضاف، ومورد التقسيم ليس له اسم مطلق لكن بالقرينة يقتضي الشمول والعموم، وهو قولنا الماء ثلاثة أقسام. فهنا أيضاً

ص: 20

ثلاثة أشياء: مورد التقسيم وهو العام وهو المطلق بلا شرط، ولكن ليس له لفظ مفرد إلا لفظ مؤلف، والقسم المطلق وهو اللفظ بشرط إطلاقه، والثاني المقيد وهو اللفظ بشرط تقييده.

وإنما كان كذلك لأن المتكلم باللفظ إما أن يطلقه أو يقيده، ليس له حال ثالثة، فإذا أطلقه كان له مفهوم وإذا قيده كان له مفهوم، ثم إذا قيده إما أن يقيده بقيد العموم أو بقيد الخصوص. فقيد العموم كقوله: الماء ثلاثة أقسام، وقيد الخصوص كقوله: ماء الورد.

وإذا عرف الفرق بين تقييد اللفظ وإطلاقه وبين تقييد المعنى وإطلاقه عرف أن المعنى له ثلاثة أحوال: إما أن يكون أيضاً مطلقاً، أو مقيداً بقيد العموم، أو مقيداً بقيد الخصوص، والمطلق من المعاني نوعان: مطلق بشرط الإطلاق، ومطلق لا بشرط، وكذلك الألفاظ المطلق منها قد يكون مطلقاً بشرط الإطلاق كقولنا الماء المطلق والرقبة المطلقة، وقد يكون مطلقاً لا بشرط الإطلاق كقولنا إنسان.

فالمطلق المقيد بالإطلاق لا يدخل فيه المقيد بما ينافي الإطلاق، فلا يدخل ماء الورد في الماء المطلق. وأما المطلق لا بقيد فيدخل فيه المقيد كما يدخل الإنسان الناقص في اسم الإنسان.

فقد تبين أن المطلق بشرط الإطلاق من المعاني ليس له وجود في الخارج، فليس في الخارج إنسان مطلق، بل لا بد أن يتعين بهذا أو ذاك، وليس فيه حيوان مطلق، وليس فيه مطر مطلق بشرط الإطلاق.

وأما المطلق بشرط الإطلاق من الألفاظ كالماء المطلق فمسماه موجود في الخارج لأن شرط الإطلاق هنا في اللفظ فلا يمنع أن يكون معناه معيناً، وبشرط الإطلاق هناك في المعنى، والمسمى المطلق بشرط الإطلاق لا يتصور إذ لكل موجود حقيقة يتميز بها، وما لا حقيقة له يتميز بها ليس بشيء، وإذا كان له

ص: 21

حقيقة يتميز بها فتمييزه يمنع أن يكون مطلقاً من كل وجه، فإن المطلق من كل وجه لا تمييز له، فليس لنا موجود هو مطلق بشرط الإطلاق ولكن العدم المحض قد يقال هو مطلق بشرط الإطلاق إذ ليس هناك حقيقة تتميز ولا ذات تتحقق حتى يقال تلك الحقيقة تمنع غيرها بحدها أن تكون إياها، وأما المطلق من المعاني لا بشرط فهذا إذا قيل بوجوده في الخارج فإنما يوجد معيناً متميزاً مخصوصاً، والمعين المخصوص يدخل في المطلق لا بشرط ولا يدخل في المطلق بشرط الإطلاق، إذ المطلق لا بشرط أعم، ولا يلزم إذا كان المطلق بلا شرط موجوداً في الخارج أن يكون المطلق المشروط بالإطلاق موجوداً في الخارج لأن هذا أخص منه، فإذا قلنا: حيوان، أو إنسان، أو جسم، أو وجود مطلق، فإن عنينا به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج، وإن عنينا المطلق لا بشرط فلا يوجد إلا معيناً مخصوصاً، فليس في الخارج شيء إلا معين متميز منفصل عما سواه بحده وحقيقته.

فمن قال: إن وجود الحق هو الوجود المطلق دون المعين فحقيقة قوله أنه ليس للحق وجود أصلاً ولا ثبوت إلا نفس الأشياء المعينة المتميزة، والأشياء المعينة ليست إياه فليس شيئاً أصلاً.

وتلخيص النكتة أنه لو عني به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج فلا يكون للحق وجود أصلاً، وإن عني به المطلق بلا شرط، فإن قيل بعدم وجوده في الخارج فلا كلام، وإن قيل بوجوده فلا يوجد إلا معيناً فلا يكون للحق وجود إلى وجود الأعيان. فيلزم محذوران (أحدهما) أنه ليس للحق وجود سوى وجود المخلوقات (والثاني) التناقض وهو قوله أنه الوجود المطلق دون المعين.

فتدبر قول هذا فإنه يجعل الحق في الكائنات بمنزلة الكلي في جزئياته وبمنزلة الجنس والنوع والخاصة والفصل في سائر أعيانه الموجودة الثابتة في العدم. وصاحب هذ القول يجعل المظاهر والمراتب في المتعينات كما جعله الأول في الأعيان.

ص: 22

فصل

وأما التلمساني ونحوه فلا يفرق بين ماهية ووجود ولا بين مطلق ومعين، بل عنده ما ثم سوى، ولا غير بوجه من الوجه، وإنما الكائنات أجزاء منه وأبعاض له بمنزلة أمواج البحر في البحر، وآخر البيت من البيت، فمن شعرهم:

البحر لا شك عندي في توحده

وإن تعدد بالأمواج والزبد

فلا يغرنك ما شاهدت من صور

فالواحد الرب ساري العين في العدد

ومنه:

فما البحر إلى الموج لا شيء غيره

وإن فرقته كثرة المتعدد

ولا ريب أن هذا القول هو أحق في الكفر والزندقة، فإن التمييز بين الوجود والماهية، وجعل المعدوم شيئاً أو التمييز في الخارج بين المطلق والمعين وجعل المطلق شيئاً وراء المعينات في الذهن قولان ضعيفان باطلان، وقد عرف من حدد النظر أن من جعل في هذه الأمور الموجودة في الخارج شيئين (أحدهما) وجودها (والثاني) ذواتها، أو جعل لها حقيقة مطلقة موجودة زائدة على عينها الموجودة فقد غلط غلطاً قوياً، واشتبه عليه ما يأخذه من العقل من المعاني المجردة المطلقة عن التعيين، ومن الماهيات المجردة عن الوجود الخارجي بما هو موجود في الخارج من ذلك، ولم يدر أن متصورات العقل ومقدراته أوسع مما هو موجود حاصل بذاته، كما يتصور المعدومات والممتنعات والمشروطات، وبقدر ما لا وجود له البتة مما يمكن أو لا يمكن، ويأخذ من المعينات صفات مطلقة فيه. فإن الموجودات ذوات متصورة فيه، لكن هذا القول أشد جهلاً وكفراً بالله تعالى، فإن صاحبه لا يفرق بين المظاهر والظاهر، ولا يجعل الكثرة والتفرقة إلا في ذهن الإنسان لما كان محجوباً عن شهود الحقيقة، فلما انكشف غطاؤه عاين أنه لم يكن غير، وإن الرائي عين المرئي والشاهد عين المشهود.

ص: 23

فصل

واعلم أن هذه المقالات لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء على هذا الوجه، ولكن رأيت في بعض كتب الفلسفة المنقولة عن أرسطو أنه حكى عن بعض الفلاسفة قوله: أن الوجود واحد ورد ذلك، وحسبك بمذهب لا يرضاه متكلمة الصابئين.

وإنما حدثت هذه المقالات بحدوث دولة التتار، وإنما كان الكفر الحلول العام أو الاتحاد أو الحلول الخاص. وذلك أن القسمة رباعية لأن من جعل الرب هو العبد حقيقة، فأما أن يقول بحلوله فيه أو اتحاده به، وعلى التقديرين فإما أن يجعل ذلك مختصاً ببعض الخلق كالمسيح أو يجعله عاماً لجميع الخلق. فهذه أربعة أقسام: الأول: هو الحلول الخاص وهو قول النسطورية من النصارى ونحوهم ممن يقول: أن اللاهوت حل في الناسوت وتدرع به كحلول الماء في الإناء، وهؤلاء حققوا كفر النصارى بسبب مخالطتهم للمسلمين، وكان أولهم في زمن المأمون. وهذا قول من وافق هؤلاء النصارى من غالية هذه الأمة، كغالية الرافضة الذين يقولون أنه حل بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته، وغالية النساك الذين يقولون بالحلول في الأولياء ومن يعتقدون فيه الولاية، أو في بعضهم كالحلاج ويونس والحاكم ونحو هؤلاء.

والثاني: هو الاتحاد الخاص وهو قول يعقوبية النصارى وهم أخبث قولاً وهم السودان والقبط، يقولون أن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء، وهو قول من وافق هؤلاء من غالية المنتسبين إلى الإسلام.

والثالث: هو الحلول العام، وهو القول الذي ذكره أئمة أهل السنة والحديث عن طائفة من الجهمية المتقدمين، وهو قول غالب متعبدة الجهمية الذين يقولون أن الله بذاته في كل مكان ويتمسكون بمتشابه القرآن كقوله (وهو الله في السموات وفي الأرض) وقوله (وهو معكم) والرد على هؤلاء كثير مشهور في كلام أئمة السنة وأهل المعرفة وعلماء الحديث.

ص: 24

الرابع: الاتحاد العام وهو قول هؤلاء الملاحدة الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من وجهين: من جهة أن أولئك قالوا أن الرب يتحد بعبده الذي قربه واصطفاه بعد أن لم يكونا متحدين، وهؤلاء يقولون ما زال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره (والثاني) من جهة أن أولئك خصوا ذلك بمن عظموه كالمسيح وهؤلاء جعلوا ذلك سارياً في الكلاب والخنازير والقذر والأوساخ، وإذا كان الله تعالى قال (لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح بن مريم) الآية. فكيف بمن قال أن الله هو الكفار والمنافقون والصبيان والمجانين والأنجاس والأنتان وكل شيء؟ وإذا كان الله قد رد قول اليهود والنصارى لما قالوا (نحن أبناء الله وأحباؤه) وقال لهم (قلم فلم يعذبكم بذنوبكم؟ بل أنتم بشر ممن خلق) الآية. فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى هم أعيان وجود الرب الخالق ليسوا غيره ولا سواه؟ ولا يتصور أن يعذب إلا نفسه؟ وأن كل ناطق في الكون فهو عين السامع؟ كما في قوله صلى الله عليه وسلم " إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت بها أنفسها " وإن الناكح عين المنكوح، حتى قال شاعرهم. (1)

واعلم أن هؤلاء لما كان كفرهم في قولهم: أن الله هو مخلوقاته كلها أعظم من كفر النصارى بقولهم (أن الله هو المسيح بن مريم) فكان النصارى ضلال أكثرهم لا يعقلون مذهبهم في التوحيد إذ هو شيء متخيل لا يعلم ولا يعقل، حيث يجعلون الرب جوهراً واحداً ثم يجعلونه ثلاثة جواهر، ويتأولون ذلك بتعدد الخواص والأشخاص التي هي الأقانيم، والخواص عندهم ليست جواهر، فيتناقضون مع كفرهم، كذلك هؤلاء الملاحدة الاتحادية ضلال أكثرهم لا يعقلون قول رؤوسهم ولا يفقهونه، وهم في ذلك كالنصارى، كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم، ولهم حظ من عبادة الرب الذي كفروا به كما للنصارى. هذا ما دام أحدهم

(1) سقط من الأصل هذا الشعر وقد يعرف مما سبق من أشعارهم

ص: 25

في الحجاب، فإذا ارتفع عن قلبه وعرف أنه هو فهو بالخيار بين أن يسقط عن نفسه الأمر والنهي ويبقى سدى يفعل ما أحب وبين أن يقوم بمرتبة الأمر والنهي لحفظ المراتب، وليقتدي به الناس المحجوبون، وهم غالب الحق. ويزعمون أن الأنبياء كانوا كذلك إذ عدوهم كاملين.

فصل

مذهب هؤلاء الاتحادية كابن عربي وابن سبعين والقونومي والتلمساني مركب من ثلاثة مواد: سلب الجهمية وتعطيلهم، ومجملات الصوفية، وهو ما يوجد في كلام بعضهم من الكلمات المجملة المتشابهة، كما ضلت النصارى بمثل ذلك فيما يروونه عن المسيح فيتبعون المتشابه ويتركون المحكم، وأيضاً كلمات المغلوبين على عقلهم الذين تكلموا في حال سكر، ومن الزندقة الفلسفة التي هي أصل التجهم، وكلامهم في الوجود المطلق والعقول والنفوس والوحي والنبوة والوجوب والإمكان، وما في ذلك من حق وباطل. فهذه المادة أغلب على ابن سبعين والقونوي، والثانية أغلب على ابن عربي، ولهذا هو أقربهم إلى الإسلام، والكل مشتركون في التجهم. والتلمساني أعظمهم تحقيقاً لهذه الزندقة والاتحاد التي انفردوا بها، وأكفرهم بالله وكتبه ورسله وشرائعه واليوم الآخر.

وبيان ذلك أنه قال: هو في كل متجل بوحدته الذاتية، عالماً بنفسه وبما يصدر عنه، وأن المعلومات بأسرها كانت منكشفة في حقيقة العلم شاهداً لها.

فيقال له: قد أثبت علمه بما يصدر منه وبمعلومات يشهدها غير نفسه، ثم ذكرت أنه عرض نفسه على هذه الحقائق الكونية المشهودة المعدودة، فعند ذلك عبر " بأنا " وظهرت حقيقة النبوة التي ظهر فيها الحق واضحاً، وانعكس فيها الوجود المطلق، وأنه هو المسمى باسم الرحمن كما أن الأول هو المسمى باسم الله، وسقت الكلام

ص: 26

إلى أن قلت: وهو الآن على ما عليه كان فهذا الذي علم أنه يصدر عنه وكان مشهوداً له معدوماً في نفسه هو الحق أو غيره؟ فإن كان الحق؟ فقد لزم أن يكون الرب كان معدوماً وأن يكون صادراً عن نفسه، ثم أنه تناقض. وإن كان غيره، فقد جعلت ذلك الغير هو مرآة لانعكاس الوجود المطلق، وهو الرحمن، فيكون الخلق هو الرحمن، فأنت حائر بين أن تجعله قد علم معدوماً صدر عنه، فيكون له غير وليس هو الرحمن، وبين أن تجعل هذا الظاهر الواصف هو إياه وهو الرحمن، فلا يكون معدوماً ولا صادراً عنه، وإما أن تصف الشيء بخصائص الحق الخالق تارة وبخصائص العبد المخلوق تارة، فهذا مع تناقضه كفر من أغلظ الكفر، وهو نظير قول النصارى اللاهوت الناسوت. لكن هذا أكفر من وجوه متعددة.

فصل

الوجه الأول: أن هذه الحقائق الكونية التي ذكرت أنها كانت معدومة في نفسها مشهودة أعيانها في علمه في تجليه المطلق الذي كان فيه متحداً بنفسه بوحدته الذاتية، هل خلقها وبراها وجعلها موجودة بعد عدمها أم لم تزل معدومة؟ فإن كانت لم تزل معدومة فيجب أن لا يكون شيء من الكونيات موجوداً، وهذا مكابر للحس والعقل والشرع، ولا يقوله عاقل، ولم يقله عاقل. وإن كانت صادرة موجودة بعد عدمها امتنع أن تكون هي إياه، لأن الله لم يكن معدوماً فيوجد. وهذا يبطل الاتحاد، ووجب حينئذ أن يكون (1) به موجوداً ليس هو الله، بل هو خلقه ومماليكه وعبيده. وهذا يبطل قولك! وهو الآن لا شيء معه على ما عليه كان.

الثاني أن قولك تركبت الخلقة الإلهية من كان إلى سر شأنه (2)، أو قولك: ظهر

(1) كذا في الأصل ولعله:أن يكون ما صار به المعدوم موجوداً إلخ

(2)

كذا في الأصل

ص: 27

الحق فيه، أو نحو ذلك من الألفاظ التي يطلقها هؤلاء الاتحادية في هذا الموضع مثل قولهم: ظهر الحق، وتجلى، وهذه مظاهر الحق ومجاليه، وهذا مظهر إلهي ومجلى إلهي، ونحو ذلك - أتعني به أن عين ذاته حصلت هناك؟ أو تعني به أنه صار ظاهراً متجلياً لها بحيث تعلمه؟ أو تعني به أن ظهر لخلقه بها وتجلى بها وأنه ما ثم قسم رابع؟ فإن عنيت الأول - وهو قول الاتحادية - فقد صرحت بأن عين المخلوقات حتى الكلاب والخنازير والنجاسات والشياطين الكفار هي ذات الله، أو هي ودات الله متحدتان، أو ذات الله حالة فيها، وهذا الكفر أعظم من كفر الذين قالوا (إن الله هو المسيح بن مريم، وإن الله هو ثالث ثلاثة) وإن الله يلد ويولد. وأن له بنين وبنات. وإذا صرحت بهذا عرف المسلمون قولك فألحقوك ببني جنسك (1) فلا حاجة إلى ألفاظ مجملة يحسبها الظمآن ماء. ويا ليته إذا جاءها لم يجدها شيئاً، بل يجدها سماً نافعاً.

وإن عنيت أنه صار ظاهراً متجلياً لها، فهذا حقيقة أمر صار معلوماً لها، ولا ريب أن الله يصير معروفاً لعبده. لكن كلامك في هذا باطل من وجهين: من جهة أنك جعلته معلوماً للمعدومات التي لا وجود لها لكونه قد علمها، واعتقدت أنها إذا كانت معلومة يجوز أن تصير عالمة، وهذا عين الباطل: من جهة أنه إذا علم أن الشيء سيكون لم يجز أن يكون هذا قبل وجوده عالماً قادراً فاعلاً. ومن جهة أن هذا ليس حكم جميع الكائنات المعلومة، بل بعضها هو الذي يصح منه العلم.

وأما إن قلت أن الله يعلم بها لكونها آيات دالة عليه، فهذا حق، وهو دين المسلمين

(1) بهذا صرح شيخ الاسلام أن غرضه من هذه الالزامات الباطلة بيان خروجهم بها عن دائرة الإسلام الذي يلبسون بادعائهم اياه على المسلمين بانهم من أوليائه العارفين. وليس غرضه أنه ألزمهم ما يلتزمونه ولا يعتقدونه

ص: 28

وشهود العارفين، لكنك لم تقل هذا لوجهين (أحدهما) أنها لا تصير آيات إلا بعد أن يخلقها ويجعلها موجودة، لا في حال كونها معدومة معلومة، وأنت لم تثبت أنه خلقها ولا جعلها موجودة، ولا أنه أعطى شيئاً خلقه، بل جعلت نفسه هو هي المتجلية له.

الوجه الثاني: أنك قد صرحت بأنه تجلى لها وظهر لها، لا أنه دل بها خلقه وجعلها آيات تكون تبصرة وذكرى لكل عبد منيب. والله قد أخبر في كتابه أنه يجعل في هذه المصنوعات آيات، والآية مثل العلامة والدلالة كما قال (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. إلى قوله. لآيات لقوم يعقلون) وتارة يسميها نفسها آية كما قال تعالى (وآية لهم الأرض الميتة أحييناها) وهذا الذي ذكره الله في كتابه هو الحق.

فإذا قيل في نظير ذلك: تجلى بها وظهر بها كما يقال علم وعرف بها، كان المعنى صحيحاً لكن لفظ التجلي والظهور في مثل هذا الموضع غير مأثور. وفيه إيهام وإجمال. فإن الظهور والتجلي يفهم منه الظهور والتجلي للعين لا سيما لفظ المتجلي وأن استعماله في التجلي للعين هو الغالب. وهذا مذهب الاتحادية، صرح به ابن عربي وقال: فلا تقع العين إلا عليه. (1)

وإذا كان عندهم أن المرئي بالعين هو الله فهذا كفر صريح باتفاق المسلمين. بل قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت " ولا سيما إذا قيل: ظهر فيها وتجلى، فإن اللفظ يصير مشتركاً بين أن تكون ذاته فيها أو تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها مثال المرئي، وكلاهما باطل. فإن ذات الله ليست في المخلوقات، ولا في نفس ذاته ترى المخلوقات كما يرى المرئي في المرآة، ولكن ظهورها دلالتها عليه وشهادتها له، وإنها آيات له على نفسه وصفاته سبحانه وبحمده، كما نطق بذلك كتاب الله.

(1) بياض في الأصل

ص: 29

الوجه الثالث: أن مقارنة الألف والنون المعبر عنها " بأنا " واللفظة التي هي " حقيقة النبوة " و " الروح الإضافي " هذه الأشياء داخلة في مسمى أسمائه الظاهرة والمضمرة أم ليست داخلة في مسمى أسمائه؟ فإن كان الأول فتكون جميع المخلوقات داخلة في مسمى أسماء الله، وتكون المخلوقات جزءاً من الله وصفة له، وإن كان الثاني فهذه الأشياء معدومة ليس لها وجود في أنفسها، فكيف يتصور أن تكون موجودة لا موجودة، ثابتة لا ثابتة، منتفية لا منتفية؟ وهذا القسم بين، وهو أحد ما يكشف حقيقة هذا التلبيس.

فإن هذه الأمور التي كانت معلومة له معدومة عند نزول الخلية ظهرت هذه الأمور التي ذكرها، فهذه الأمور الظاهرة المعلومة بعد هذا النزول قد صارت " أنا " وحقيقة نبوة، وروحاً إضافياً، وفعل ذات، ومفعول ذات، ومعنى وسائط، فإن كان جميع ذلك في الله، ففيه كفران عظيمان: كون جميع المخلوقات جزءاً من الله، وكونه متغيراً هذه التغيرات التي هي من نقص إلى كمال ومن كمال إلى نقص، وإن كانت خارجة من ذاته فهذه الأشياء كانت معدومة، ولم يخلقها عندهم خارجة عنه، فكيف يكون الحال؟ الوجه الرابع: أن عنده حقيقة النبوة وما معها إما أن يكون شيئاً قائماً بنفسه، أو صفة له أو لغيره، فإن كان قائماً بنفسه فإما أن يكون هو الله أو غيره، فإن كان ذلك هو الله فيكون الله هو النقطة الظاهرة، وهو حقيقة النبوة، وهو الروح الإضافي، وقد قال بعد هذا: أنه جعل الروح الإضافي في صورة فعل ذاته، وأنه أعطى محمداً عقدة نبوته، فيكون قد جعل نفسه صورة فعله وأعطى محمداً ذاته، وهذا مع أنه من أبين الكفر وأقبحه فهو متناقض، فمن المعطي ومن المعطى؟ إذا كان أعطى ذاته لغيره، وإن كانت هذه الأشياء أعياناً قائمة بنفسها وهي غير الله فسواء كانت ملائكة أو غيرها من كل ما سوى الله من الأعيان فهو خلق من خلق الله

ص: 30

مصنوع مربوب، والله خالق كل شيء، فهو قد جعل ظهور الحق وصفاً، وأنه المسمى باسم الرحمن، فيكون المسمى باسم الرحمن الواصف لنفسه مخلوقاً، وهذا كفر صريح وهو أعظم من إلحاد الذين (قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن؟) ومن إلحاد الذين قيل فيهم (وهم يكفرون بالرحمن) فإن أولئك كفروا باسمه وصفته مع إقرارهم برب العالمين، وهؤلاء أقروا بالاسم وجعلوا المسمى مخلوقاً من مخلوقاته.

وأما أن كان المراد بهذه الحقيقة وما معها صفة فإما أن تكون صفة لله أو لغيره، فإن كان صفة لله لم يجز أن تكون هي المسمى باسم الرحمن، فإن ذلك اسم لنفس الله لا لصفاته، والسجود لله لا لصفاته، والدعاء لله لا لصفاته، وإن كانت صفة لغيره فهذا الإلزام أعظم وأعظم.

وهذا تقسيم لا محيص عنه، فإن هذا الملحد في أسماء الله جعل هذه العقدة التي سماها (عقدة حقيقة النبوة) وجعلها صورة علم الحق بنفسه، وجعلها مرآة لانعكاس الوجود المطلق، محلاً لتميز صفاته القديمة (1) وأن الحق ظهر فيه بصورته وصفته واصفاً يصف نفسه ويحيط به، وهو المسمى باسم الرحمن، ثم ذكر أنه أعطى محمداً هذه العقدة، ومعلوم أن المسمى باسم الرحمن هو المسمى باسم الله كما قال تعالى (ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) فيكون هو سبحانه هذه العقدة التي أعطاها لمحمد، وإن كانت صفة له أو غيره فتكون هي الرحمن، فهذا الملحد دائر بين أن يكون الرحمن هو خلق من خلق الله أو صفة من صفاته، وبين أن يكون الرحمن قد وهبه الله لمحمد، وكل من القسمين من أسمج الكفر وأشنعه.

الوجه الخامس: أن قوله لهذه الحقيقة طرفان: طرف إلى الحق المواجه إليها الذي ظهر فيه الوجود الأعلى واصفاً، وطرف إلى ظهور العالم منه وهو

(1) قوله محلا لتميز صفاته القديمة هو المفعول الثاني لجعل

ص: 31

المسمى بالروح الإضافي، فذكر في هذا الكلام ظهور الوجود وظهور العالم، وقد تقدم أن الحق كان ولم يكن معه شيء، وهو متجلى بنفسه بوحدته الذاتية، وأنه لما نزلت الخلية ظهرت عقدة حقيقة النبوة، فصارت مرآة لانعكاس الوجود فظهر الحق فيه بصورة وصفة واصفاً.

وقد ذكر في هذا الكلام الحق المواجه إليها والوجود الأعلى الذي ظهر، فهذا الحق والطرف الذي لها إلى الحق، فقد ذكر هنا ثلاثة أشياء: الحق، والوجود، والطرف، وقد جعل فيما تقدم الحق هو الوجود المطلق الذي انعكس، وهو الحق الذي ظهر فيه واصفاً، فتارة يجعل الحق هو الوجود المطلق، وتارة يجعل الوجود المطلق قد ظهر في هذا الحق، وهذا تناقض.

ثم يقال له: هذان عندك عبارة عن الرب تعالى فقد جعلته ظاهراً وجعلته مظهراً، فإن عنيت بالظهور الوجود فيكون الرب قد وجد مرة بعد مرة، وهذا كفر شنيع، فكيف يتصور تكرر وجوده؟ وكيف يتصور أن يكون قد وجد في نفسه بعد أن لم يكن موجوداً في نفسه؟ وإن عنيت الوضوح والتجلي، وليس (1) هناك مخلوق يظهر له ويتجلى إذ العالم بعد لم يخلق، وأنت قلت ظهر الحق فيه واصفاً، وسميته الرحمن، ولم تجعل ظهوره معلوماً ولا مشهوراً، فكيف يتصور أن يكون متجلياً لنفسه بعد أن لم يكن متجلياً؟ فإن هذا وصف له بأنه لم يكن يعلم نفسه حتى علمها.

وأيضاً فقد قلت: أنه كان متجلياً لنفسه بوحدته، فهذا كفر وتناقض.

الوجه السادس: أن هذا التحير والتناقض مثل تحير النصارى وتناقضهم في الأقانيم. فإنهم يقولون: الأب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة، وهي إله واحد. والمتدرع بناسوت المسيح هو الابن، ويقولون: هي الوجود، والعلم، والحياة، والقدرة.

(1) لعله فليس

ص: 32

فيقال لهم: إن كانت هذه صفات فليست آلهة، ولا يتصور أن يكون المتدرع بالمسيح إلهاً إلا أن يكون هو الأب، وإن كانت جواهر وجب أن لا تكون إلهاً واحداً، لأن الجواهر الثلاثة لا تكون جوهراً واحداً. وقد يمثلون ذلك بقولنا زيد العالم القادر الحي، فهي بكونه عالماً ليس هو بكونه قادراً. فإذا قيل لهم هذا كله لا يمنع أن يكون ذاتاً واحدة لها صفات متعددة وأنهم لا يقولون ذلك. (1)

وأيضاً فالمتحد بالمسيح إذا كان إلهاً امتنع أن يكون صفة، وإنما يكون هو الموصوف. وأنتم لا تقولون بذاك، فما هو الحق لا تقولونه وما تقولونه ليس بحق، وقد قال تعالى (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) فالنصارى حيارى متناقضون، إن جعلوا الأقنوم صفة امتنع أن يكون المسيح إلهاً، وإن جعلوه جوهراً امتنع أن يكون الإله واحداً، وهم يريدون أن يجعلوا المسيح الله ويجعلوه ابن الله، ويجعلوا الأب والابن وروح القدس إلهاً واحداً. ولهذا وصفهم الله في القرآن بالشرك تارة، وجعلهم قسماً غير المشركين تارة، لأنهم يقولون الأمرين وإن كانوا متناقضين.

وهكذا حال هؤلاء فإنهم يريدون أن يقولوا بالاتحاد وأنه ما ثم غيره، ويريدون أن يثبتوا وجود العالم، فجعلوا ثبوت العالم في علمه وهو شاهد له، وجعلوه متجلياً لذلك المشهود له، فإذا تجلى فيه كان هو المتجلى لا غيره. وكانت تلك الأعيان المشهودة هي العالم.

وهذا الرجل وابن عربي يشتركان في هذا ولكن يفترقان من وجه آخر. فإن ابن عربي يقول: وجود الحق ظهر في الأعيان الثابتة في نفسها. فإن شئت قلت هو الحق، وإن شئت قلت هو الخلق، وإن شئت قلت هو الحق والخلق، وإن شئت قلت لا حق من كل وجه ولا خلق من كل وجه، وإن شئت قلت

(1) سقط جواب إذا أو تركه للعلم به: وتقديره انقطعوا

ص: 33

بالحيرة في ذلك. وأما هذا فإنه يقول: تجلى الأعيان المشهودة له، فقد قالا في جميع الخلق ما يشبه قول ملكية (1) النصارى في المسيح، حيث قالوا: بأن اللاهوت والناسوت صاراً جوهراً واحداً له اقنومان. وأما التلمساني فإنه لا يثبت بعد ذلك بحال فهو مثل يعاقبة النصارى، وهم أكفرهم، والنصارى قالوا بذلك في شخص واحد، وقالوا أن اللاهوت به يتدرع الناسوت بعد أن لم يكن متدرعاً به. وهؤلاء قالوا أنه في جميع العالم، وأنه لم يزل، فقالوا بعموم ذلك ولزومه، والنصارى قالوا بخصومه وحدوثه، حتى قال قائلهم: النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا، وهذا المعنى قد ذكره ابن عربي في غير موضع من الفصوص، وذكر أن إنكار الأنبياء على عباد الأصنام إنما كان لأجل التخصيص، وإلا فالعارف المكمل من عبده في كل مظهر وهو العابد والمعبود، وإن عباد الأصنام لو تركوا عبادتهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منها، وأن موسى إنما أنكر على هارون لكون هارون نهاهم عن عبادة العجل لضيق هارون وعلم موسى بأنهم ما عبدوا إلا الله، وأن هارون إنما لم يسلط على العجل ليعبدوا الله في كل صورة، وأن أعظم مظهر فيه هو الهوى فما عبد أعظم من الهوى. لكن ابن عربي يثبت أعياناً ثابتة في العدم.

وهذا ابن حمويه إنما أثبتها مشهودة في العلم فقط، وهذا القول هو الصحيح لكن لا يتم له معه ما صلبه من الاتحاد، ولهذا كان هو أبعدهم عن تحقيق الاتحاد والقرب إلى الإسلام، وإن كان أكثرهم تناقضاً وهذياناً، فكثرة الهذيان خير من كثرة الكفر. ومقتضى كلامه هذا أنه جعل وجوده مشروطاً بوجود العالم، وإن كان له وجود ما غير العالم، كما أن نور العين مشروط بوجود الأجفان وإن كان قائماً بالحدقة، فعلى هذا يكون الله مفتقراً إلى العالم محتاجاً إليه كاحتياج نور العين إلى الجفنين. وقد قال الله تعالى (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير

(1) طائفة من النصارى كاليعاقبة والنسطورية وغيرها

ص: 34

ونحن أغنياء) إلى آخر الآية. فإذا كان هذا قوله فيمن وصفه بأنه فقير إلى أموالهم ليعطيها الفقراء، فكيف قوله فيمن جعل ذاته مفتقرة إلى مخلوقاته، بحيث لولا مخلوقاته لانتشرت ذاته وتفرقت وعدمت، كما ينتشر نور العين ويتفرق ويعدم إذا عدم الجفن؟ وقد قال في كتابه (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا) الآية. فمن يمسك السموات؟ وقال في كتابه (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره) الآية. وقال (رفع السموات بغير عمد ترونها) وقال (وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) لا يؤده لا يثقله ولا يكرثه، وقد جاء في الحديث حديث أبي داود " ما السموات والأرض وما بينهما في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش كتلك الحلقة في الفلاة " وقد قال في كتابه " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) الآية. وقد ثبت في الصحاح من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود " إن الله يمسك السموات والأرض بيده " فمن يكون في قبضته السموات والأرض، وكرسيه قد وسع السموات والأرض، ولا يؤده حفظهما، وبأمره تقوم السماء والأرض، وهو الذي يمسكها أن تزولا، أيكون محتاجاً إليهما مفتقراً إليهما، إذا زالا تفرق وانتشر؟ وإذا كان المسلمون يكفرون من يقول: إن السموات تقله أو تظله لما في ذلك من احتياجات إلى مخلوقاته، فمن قال: إنه في استوائه على العرش محتاج إلى العرش كاحتياج المحمول إلى حامله فإنه كافر؟ لأن الله غني عن العالمين، حي قيوم، هو الغني المطلق وما سواه فقير إليه، مع أن أصل الاستواء على العرش ثابت بالكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة وأئمة السنة، بل هو ثابت في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، فكيف بمن يقول أنه مفتقر إلى السموات والأرض، وأنه إذا ارتفعت السموات والأرض تفرق وانتشر وعدم؟ فإن حاجته في الحمل إلى العرش أبعد من حاجة ذاته إلى ما هو دون العرش.

ص: 35

ثم يقول هؤلاء: إن كنتم تقولون بقدم العالم وإنكار انفطار السموات والأرض وانشقاقهما، وإن كنتم تقولون بحدوثهما فكيف كان قبل خلقهما؟ هل كان منتشراً متفرقاً معدوماً، ثم لما خلقهما صار موجوداً مجتمعاً؟ هل يقول هذا عاقل؟ فأنتم دائرون بين نوعين من الكفر، مع غاية الجهل والضلال، فاختاروا أيهما شئتم: إن صور العالم لا تزال تفنى ويحدث في العالم بدلها مثل الحيوان والنبات والمعادن، ومثل ما يحدثه الله في الجو من السحاب والرعد والبرق والمطر وغير ذلك، فكلما عدم شيء من ذلك انتقص من نور الحق ويتفرق ويعدم بقدر ما عدم من ذلك، وكلما زاد شيء من ذلك زاد نوره واجتمع ووجد.

وأما إن عني أن نور الله باق بعد زوال السموات والأرض لكن لا يظهر فيه شيء، - فما الشيء الذي يظهر بعد عدم هذه الأشياء؟ وأي تأثير للسموات والأرض في حفظ نور الله، وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه " وقال عبد الله بن مسعود " إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه " فقد أخبر الصادق المصدوق أن الله لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من السموات والأرض وغيرهما، فمن يكون سبحات وجهه تحرق السموات والأرض وإنما حجابه هو الذي يمنع هذا الإحراق، أيكون نوره إنما يحفظ بالسموات والأرض؟ الوجه السابع: قوله فالعلويات جفنها الفوقاني، والسفليات جفنها التحتاني، والتفرقة البشرية في السفليات، أهداب الجفن الفوقاني، والنفس الكلية سوادها، والروح الأعظم بياضها. يقال له: فإذا كان العالم هو هذه العين فالعين الأخرى أي

ص: 36

شيء هي؟ وبقية الأعضاء أين هي؟ هذا على قولك إن عنيت بالعين المتعين، وإن عنيت الذات والنفس وهو ما تعين به، فقد جعلت نفس السموات والأرض والحيوان والملائكة أبعاضاً من الله وأجزاء منه، وهذا قول هؤلاء الزنادقة والفرعونية الاتحادية الذين أتبعهم الله في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين.

فيقال له: فعلى هذا لم يخلق الله شيئاً ولا هو رب العالمين، لأنه إما أن يخلق نفسه أو غيره، فخلقه لنفسه محال وهذا معلوم بالبديهة أن الشيء لا يخلق نفسه، ولهذا قال تعالى (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) يقول أخلقوا من غير خالق أم هم خلقوا أنفسهم؟ ولهذا قال جبير بن مطعم لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية أحسست بفؤادي قد انصدع. فقد علموا أن الخالق لا يكون هو المخلوق بالبديهة وخلقه لغيره ممتنع على أصلهم لأن هذه الأشياء هي أجزاء منه ليست غيراً له.

الوجه الثامن: أنه جعل البشر أهداب جفن حقيقة الله وهم دائماً يزيدون وينقصون ويموتون ويحيون، وفيهم الكافر والمؤمن والفاجر والبر، فتكون أهداب جفن حقيقة الله لا تزال منتوفة كاشرة فاسدة، ويكون المشركون واليهود والنصارى أجفان حقيقته، وقد لعن من جعلهم أبناءه على سبيل الاصطفاء فكيف بمن جعلهم من نفسه.

الوجه التاسع: أنه متناقص من حيث جعل الروح بياضها والنفس الكلية سوادها والسموات الجفن الأعلى والأرضون الجفن الأسفل. ومعلوم أن جفني عين الإنسان محيطان بالسواد والبياض، والروح والنفس عنده هي فوق السموات والأرض ليست بين السماء والأرض، كما أن سواد العين وبياضها بين الجفنين، فهذا التمثيل مع أنه من أقبح الكفر ففيه من الجهالة والتناقض ما تراه.

الوجه العاشر: أن النفس الكلية اسم تلقاه عن الصابئة الفلاسفة. وأما الروح فإن مقصوده بها هو الذي يسمونه العقل وهو أول الصادرات. وسماه هو روحاً، وهذا بناه على مذهب الصابئة، وليس هذا من دين الحنفاء، وقد بينا فساد

ص: 37

ذلك في غير هذا الموضع. لكن الصابئة الفلاسفة خير من هؤلاء فإنهم يقرون بواجب الوجود الذي صدرت عنه العقول والنفوس والأفلاك والأرض لا يجعلونها إياه وهؤلاء يجعلونا إياه. فقولهم إنما ينطبق على المعطلة مثل فرعون وحزبه الذي قال (وما رب العالمين) وقال (ما علمت لكم من إله غيري) وقال (يا هامان ابن لي صرحاً لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات) الآية، فإن فرعون يقر بوجود هذا العالم ويقول ما فوق رب ولا له خالق غيره. فهؤلاء إذا قالوا أنه عين السموات والأرض، فقد جحد وأما جحده فرعون وأقروا بما أقر به فرعون، إلا أن فرعون لم يسمه إلهاً ولم يقل هو الله. وهؤلاء قالوا هذا هو الله. فهم مقرون بالصانع لكن جعلوه هو الصنعة. فهم في الحقيقة معطلون، وفي اعتقادهم مقرون، وفرعون بالعكس كان منكراً للصانع في الظاهر وكان في الباطن مقراً به. فهو أكفرهم منهم، وهم أضل منه وأجهل. ولهذا يعظمونه جداً.

الوجه الحادي عشر: قول القائل بل هذا هو الحق الصريح المتبع، لا ما يرى المنحرف عن مناهج الإسلام ودينه، المتحير في بيداء ضلالته وجهله. فيقال: من الذي قال هذا الحق من الأولين والآخرين؟ وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره الذي هو كلام الله ووحيه وتنزيله ليس فيه شيء من هذا، ولا في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أئمة الإسلام ومشايخه، إلا عن هؤلاء المفترين على الله الذين هم في مشايخ الدين نظير جنكسخان في أمر الحرب، فديانتهم تشبه دولته، ولعل إقراره بالصانع خير من إقرارهم، لكن بعضهم قد يوجب الإسلام فيكون خيراً من التتار في هذا الوجه.

وأما محققوهم وجمهورهم فيجوز عندهم التهود والتنصر والإسلام والإشراك، لا يحرمون شيئاً من ذلك، بل المحقق عندهم لا يحرم عليه شيء ولا يجب عليه شيء، ومعلوم أن التتار الكفار خير من هؤلاء، فإن هؤلاء مرتدون عن الإسلام من

ص: 38

أقبح أهل الردة، والمرتد شر من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة، وإذا كان أبو بكر الصديق. (1)

وأما ما حكاه عن الذي سماه الشيخ المحقق العالم الرباني الغوث السابع في الشمعة من أنه قال: اعلم أن العالم بمجموعه حدقة عين الله التي لا تنام الخ فالكلام عليه من وجوه.

أحدها أن تسمية قائل مثل هذا المقال محققاً وعالماً وربانياً عين الضلالة والغواية، بل هذا كلام لا تقوله لا اليهود ولا النصارى ولا عباد الأوثان، فإن كان الذي قاله مسلوب العقل كان حكمه حكم غيره في أن الله رفع عنه القلم، وإن كان عاقلاً فجرأة على الله الذي يقول (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئاً أدا، تكاد السموات يتفطرن منه) إلى آخر الآيات وقال (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول) إلى قوله (الظالمين) وقال (لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح بن مريم، قل فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم) إلى قوله (وإليه المصير) فإذا كان هذا قوله فيمن يقول إنهم أبناؤه وأحباؤه، فكيف قوله فيمن يقول إنهم أهداب جفنه؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

الوجه الثاني: أن هذا الشيخ الضال الذي قال هذا الكفر والضلال قد نقض آخر كلامه بأوله، فإن لفظ العين مشترك بين الشيء وبين العضو المبصر وبين مسميات أخر، وإذا قال بعين الشيء، فهو من العين التي بمعنى النفس أي تميز بنفسه عن غيره، فإذا قال إن العالم بمجموعه حدقة عين الله التي لا تنام فالعين هنا بمعنى البصر.

ثم قال في آخر كلامه: ونعني بعين الله ما يتعين الله فيه. فهذا من العين

(1) بياض في الأصل قدر سطرين لعله ذكر فيه أمثاله للمرتدين ومانعي الزكاة من العرب وكون هؤلاء شر منهم لاباحتهم ترك جميع شرائع الإسلام

ص: 39

بمعنى النفس، وهذه العين ليس لها حدقة ولا أجفان، وإنما هذا بمنزلة من قال نبعت العين وفاضت وشربنا منها واغتسلنا، ووزنتها في الميزان فوجدتا عشرة مثاقيل وذهبها خالص، وسبب هذا أنه كثيراً ما كان يتصرف في حروف بلا معان.

الوجه الثالث: أنه تناقض من وجه آخر فإنه إذا كان العالم هو حدقة العين فينبغي أن يكون قد بقي من الله بقية الأعضاء غير العين، فإذا قال في آخر كلامه: والله هو نور العين، كان الله جزءاً من العين أو صفة له، فقد جعل في أول كلامه العالم جزءاً من الله، وفي آخر كلامه جعل الله جزء من العالم، وكل من القولين كفر، بل هذا أعظم من كفر الذين ذكرهم الله بقوله (وجعلوا له من عباده جزءاً إن الإنسان لكفور مبين، أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين) فإذا كان الله كفر من جعل له من عباده جزءاً فكيف من جعل عباده تارة جزءاً منه تارة جعله هو جزءاً منهم؟ فلعن الله أرباب هذه المقالات وانتصر لنفسه ولكتابه ولرسوله ولعباده المؤمنين منهم.

الوجه الرابع: إنه تناقض من جهة أخرى، فإنه إذا قال العين: ما يتعين الله فيه، والعالم كله حدقة عينه التي لا تنام، فقد جعله متعيناً في جميع العالم، فإذا قال بعدها وهو نور العين، بقيت سائر أجزاء العين من الأجفان والأهداب والسواد والبياض لم يتعين فيها، فقد جعله متعيناً فيها غير متعين فيها.

الوجه الخامس: أن نور العين مفتقر إلى العين محتاج إليها لقيامه بها، فإذا كان الله في العالم كالنور في العين وجب أن يكون محتاجاً إلى العالم.

واعلم أن هذا القول يشبه قول الحلولية الذين يقولون هو في العالم كالماء في الصوفة وكالحياة في الجسم ونحو ذلك، ويقولون هو بذاته في كل مكان، وهذا قول قدماء الجهمية الذين كفرهم أئمة الإسلام. وحكى عن الجهم أنه كان يقول هو مثل هذا الهواء، أو قال هو هذا الهواء.

وقوله أولاً: هو حدقة عين الله، يشبه قول الاتحادية فإن الاتحادية يقولون

ص: 40

هو مثل الشمعة التي تتصور في صور مختلفة وهي واحدة، فهو عندهم الوجود، واختلاف أحواله كاختلاف أحوال الشمعة، ولهذا كان صاحب هذه المقالات متخبطاً لا يستقر عند المسلمين الموحدين المخلصين، ولا هو عند هؤلاء الملاحدة الاتحادية من محققيهم العارفين. فإن هؤلاء كلهم من جنس النصيرية والإسماعيلية، مقالات هؤلاء في الرب من جنس مقالات أولئك، وأولئك فيهم المتمسك بالشريعة وفيهم المتخلي عنها، وهؤلاء كذلك، لكن أولئك أحذق في الزندقة، وهم يعلمون أنهم معطلون مثل فرعون، وهؤلاء جهال يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

الوجه السادس: قوله من العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله تعالى بحيث لا يظهر فيه شيء أصلاً. وهذا كلام مجمل، ولا ريب أن قائل هذه المقالة من المذبذبين بين الكافرين والمؤمنين، لا هو من المؤمنين ولا من الاتحادية المحضة، لكنه قد لبس الحق بالباطل، وذلك أن الاتحادية يقولون أن عين السموات والأرض لو زالت لعدم الله، واللفظ يصرح به بعضهم، وأما غالبهم فيشيرون إليه إشارة وعوامهم لا يفهمون هذا من مذهب الباقين فإن هؤلاء من جنس القرامطة والباطنية، وأولئك إنما يصل إلى البلاغ الأكبر الذي هو آخر المراتب خواصهم. ولهذا حدثني بعض أكابر هؤلاء الاتحادية عن صاحب هذه المقالة أنه كان يقول ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف، فقلت له: هذا من أبطل الباطل، بل ليس بين مذهبين من الفرق أعظم مما بين التوحيد والإلحاد. وهذا قاله بناء على هذا الخلط واللبس الذي خلطه، مثل قوله أن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله بحيث لا يظهر فيه شيء.

فيقال له: إذا ارتفعت العلويات والسفليات فما تعني بانبساطه؟ أتعني تفرقه وعدمه كما يتفرق نور العين عند عدم الأجفان؟ أم تعني أنه ينبسط شيء موجود؟

ص: 41

وما الذي ينبسط حينئذ؟ هو نفس الله أم صفة من صفاته؟ وعلى أي شيء ينبسط؟ وما الذي يظهر فيه أو لا يظهر؟ فإن عنيت الأول وهو مقتضى أول كلامك، لأنك قلت: وإنما قلنا أن العلويات والسفليات أجفان عين الله لأنهما يحافظان على ظهور النور، فلو قطعت أجفان عين الإنسان لتفرق نور عينه وانتشر بحيث لا يرى شيئاً أصلاً، فكذلك العلويات والسلفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله بحيث لا يظهر فيه شيء أصلاً.

وقد قلت: إن الله هو نور العين والروح الأعظم بياضها والنفس الكلية سوادها. ومعلوم أن نور العين على ما ذكرته بشرط وجوده هو الأجفان، فإذا ارتفع الشرط ارتفع المشروط، فيكون العالم عندك شرطاً في وجود الله، فإذا ارتفع العالم ارتفعت حقيقة الله لانتفاء شرطه، وإن أثبت له ذاتاً غير العالم فهذا أحد قولي الاتحادية، فإنهم تارة يجعلون وجود الحق هو عين وجود المخلوقات ليس غيرها. وعلى هذا فلا يتصور وجوده مع عدم المخلوقات، وهذا تعطيل محض للصانع، وهو قول القونوي والتلمساني، وهو قول صاحب الفصوص في كثير من كلامه، وتارة يجعلونه وجوداً قائماً بنفسه، ثم يجعلون نفس ذلك الوجود هو أيضاً وجود المخلوقات بمعنى أنه فاض عليها. وهذا أقل كفراً من الأول، وأن كان كلاهما من أغلظ الكفر وأقبحه.

وي كلام صاحب الفصوص وغيره في بعض المواضع ما يوافق هذا القول. وكذلك كلام هذا فإنه قد يشير إلى هذا المعنى.

ثم مع ذلك هل يجعلون وجوده مشروطاً بوجود العالم فيكون محتاجاً إلى العالم أو لا يجعلون؟ قد يقولون هذا وقد يقولون هذا.

السابع إنهم يمدحون الضلال والحيرة والظلم والخطأ والعذاب الذي عذب الله به الأمم، ويقلبون كلام الله وكلام رسوله قلباً يعلم فساده بضرورات العقول، مثل قول صاحب الفصوص: لو أن نوحاً ما جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه، فدعاهم جهاراً، ثم دعاهم

ص: 42

إسراراً - إلى أن قال: وذكر عن قومه أنهم تصاموا عن دعوته، لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته، فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح في حق قومه من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنهم إنما لم يجيبيوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان وإن كان فيه.

فيمدحون ويحمدون ما ذمه الله ولعنه ونهى عنه، ويأتون من الأفك والفرية على الله الإلحاد في أسماء الله وآياته بما تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، كقول صاحب الفصوص في فص نوح:" مما خطيئاتهم أغرقوا " فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العالم بالله وهو الحيرة (فادخلوا ناراً) في عين الماء في المحمدتين، (فإذا البحار سجرت - سجرت التنور إذا أوقدته (فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً) فكان الله عين أنصارهم، فهلكوا فيه إلى الأبد، فلو أخرجتهم إلى السيف سيف الطبيعة لنزلوا عن هذه الدرجة الرفيعة وإن كان الكل لله وبالله بل هو الله (قال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين) الذين استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم، طلباً للستر لأنه دعاهم ليغفر لهم، والغفر الستر (دياراً) أحداً حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة (إنك إن تذرهم) أي تدعهم وتتركهم (يضلوا عبادك) أي يحيروهم ويخرجوهم من العبودية، إلى ما فيهم من أسرار الربوبية، فينظروا أنفسهم أرباباً، بعدما كانوا عند أنفسهم عبيداً، فهم العبيد الأرباب (ولا يلدوا) أي ما ينتجون ولا يظهرون (إلا فاجراً) أي مظهر ما ستر (كفاراً) أي ساتراً ما ظهر بعد ظهوره، فينظرون ما سترهم ثم يسترون بعد ظهوره. فيحار الناظر، ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره ولا الكافر في كفره، والشخص وحد (رب اغفر لي) أي استرني واستر مراحلي، فيجعل مقامي وقدري كما جهل قدرك في قولك " وما قدروا لله حق قدره "(ولوالدي) أي من كنت تنتجه عنهما وهما العقل والطبيعة (ولمن دخل بيتي) أي قلبي (مؤمناً) مصدقاً بما يكون فيه من الأخبار الإلهية وهو ما

ص: 43

حدثت به أنفسها (وللمؤمنين) من العقول (والمؤمنات) من النفوس (ولا تزد الظالمين) من الظلمات أهل العنت المكتنفين داخل الحجب الظلمانية (إلا تبارا) أي هلاكاً، فلا يعرفون نفوسهم، لشهودهم وجه الحق دونهم.

وهذا كله من أقبح تبديل كلام الله وتحريفه، ولقد ذم الله أهل الكتاب في القرآن على ما هو دون هذا، فإنه ذمهم على أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه وأنهم (يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) وهؤلاء قد حرفوا كلام الله عن مواضعه أقبح تحريف، وكتبوا كتب النفاق والإلحاد بأيديهم وزعموا أنها من عند الله، تارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الملك الذي يوحي به إلى النبي، فيكون فوق النبي بدرجة، وتارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الله، فيكون أحدهم في عمله بنفسه بمنزله علم الله به، لأن الأخذ من معدن واحد، وتارة يزعم أحدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه في منامه هذا النفاق العظيم، والإلحاد البليغ، وأمره أن يخرج به إلى أمته وأنه أبرزه كما حد له رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان، وكان جماعة من الفضلاء - حتى بعض من خاطبني فيه وانتصر له - يرى أنه كان يستحل الكذب، ويختارون أن يقال كان يتعمد الكذب، وأن ذلك هو أهون من الكفر، ثم صرحوا بأن مقالته كفر. وكان ممن يشهد عليه بتعمد الكذب غير واحد من عقلاء الناس وفضلائهم من المشايخ والعلماء.

ومعلوم أن هذا من أبلغ الكذب على الله ورسوله وأنه من أحق الناس بقوله (ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء) وكثير من المتنبئين الكذابين كالمختار بن أبي عبيد وأمثاله لم يبلغ كذبهم وافتراؤهم إلى هذا الحد، بل مسيلمة الكذاب لم يبلغ كذبه وافتراؤه إلى هذا الحد، وهؤلاء كلهم كان يعظم النبي صلى الله عليه وسلم ويقر له بالرسالة، لكن كان يدعي أنه رسول آخر، ولا ينكر وجود الرب

ص: 44

ولا ينكر القرآن في الظاهر، وهؤلاء جحدوا الرب وأشركوا به كل شيء وافتروا هذه الكتب التي قد يزعمون أنها أعظم من القرآن، ويفضلون نفوسهم على النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، كما قد صرح به صاحب الفصوص عن خاتم الأولياء.

وحدثني الثقة عن الفاجر التلمساني أنه كان يقول: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد وإنما التوحيد في كلامنا.

وأما الضلال والحيرة فما مدح لله ذلك قط ولا قول النبي صلى الله عليه وسلم " زدني فيك تحيراً " ولم يرو هذا الحديث أحد من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا في شيء من كتب من يعلم الحديث، بل ولا من يعرف الله ورسوله، وكذلك احتجاجه بقوله (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) وإنما هذا حال المنافقين المرتدين، فإن الضلال والحيرة مما ذمه الله في القرآن، قال الله تعالى في القرآن (قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استوته الشياطين في الأرض حيران) الآية.

وهكذا يريد هؤلاء الضالون أن يفعلوا بالمؤمنين، يريدون أن يدعوا من دون الله ما لا يضربهم ولا ينفعهم، وهي المخلوقات والأوثان، والأصنام وكل ما عبد من دون الله، ويريدون أن يردوا المؤمنين على أعقابهم، يردونهم عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، ويصيروا حائرين ضالين كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى: ائتنا وقال تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم - إلى قوله - يعمهون) أي يحارون ويترددون وقال تعالى (اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فأمر بأن نسأله هداية الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين. وهؤلاء يذمون الصراط المستقيم ويمدحون طريق أهل الضلال والحيرة، مخالفة لكتب الله ورسله، ولما فطر الله عليه عباده من العقول والألباب.

ص: 45

فصل

" في ذكر بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين ما ذكرنا من مذهبه، فإن أكثر الناس قد لا يفهمونه ".

قال في فص يوسف - بعد أن جعل العالم بالنسبة إلى الله كظل الشخص، وتناقض في التشبيه: فكل ما تدركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات، فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات، فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل، كذلك لا يزول عنه باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق، فمن حيث أحدية كونه ظلاً هو الحق، لأنه الواحد الأحد، ومن حيث كثرة الصور هو العالم، فتفطن وتحقق ما أوضحناه لك. وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك فالعالم متوهم ماله وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال، أي خيل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه خارج عن الوجود الحق، وليس كذلك في نفس الأمر. ألا تراه في الحس متصلاً بالشخص الذي امتد عنه يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال، لأنه يستحيل على الشيء الانفكاك عن ذاته، فاعرف عينك ومن أنت وما هويتك؟ وما نسبتك إلى الحق وبما أنت حق وبما أنت عالم وسوى وغير؟ وماشا كل هذه الألفاظ.

وقال في أول الفصوص بعد (فص حكمة إلهية في كلمة آدمية) وهو (فص حكمة نفثية، في كلمة شيئية) وقد قسم العطاء بأمرالله وإنما يكون عن سؤال وعن غير سؤال وذكر القسم الذي لإنسان (1) لأن شيئاً هو هبة الله - إلى أن قال: " ومن هؤلاء من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله هو ما كان عليه في حال ثبوت

(1) كذا في الأصل وهو محرف أو سقط منه شيء والكلام في فص شيت هذا يقتضي أن المراد أول انسان حصل له العلم بالنفث الملكي في الروع وهو شيث وهو علة تسميته.والشيخ أشار إلى مقدمة هذا الفص اشارة مجملة لان غرضه ما بعدها

ص: 46

عينه قبل وجودها ويعلم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به، وهو ما كان عليه في حال ثبوته، فيعلم علم الله به من أين حصل، وما ثم صنف من أهل الله أعلا وأكشف من هذا الصنف، فهم الواقفون على سر القدر، وهم على قسمين: منهم من يعلم ذلك مجملاً، ومنهم من يعلم ذلك مفصلاً، والذي يعلمه مفصلاً أعلا وأتم من الذي يعلمه مجملاً، فإنه يعلم ما تعين في علم الله فيه، إما بإعلام الله إياه بما أعطاه عينه من العلم به، وإما بأن يكشف له عن عينه الثابتة وغن انتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى، وهو أعلا، فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به، لأن الأخذ من معدن واحد، إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له هي من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك (أي على أحوال عينه) فإنه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على أحوال عينه الثابتة التي تقع صورة الوجود عليها أن يطلع في هذه الحال على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها، لأنها نسب ذاتية لا صورة لها، فبهذا القدر نقول: أن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادتها العلم، ومن هنا يقول (الله حتى نعلم) وهي كلمة محققة المعنى، ما هي كما يتوهم من ليس له هذا المشرب، وغاية المنزه أن يجعل ذلك الحدوث في العلم للتعلق، وهو أعلا وجه يكون للمتكلم يعقله في هذه المسألة، لولا أنه أثبت العلم زائداً على الذات فجعل التعلق له لا للذات، وبهذا انفصل عن المحقق من أهل الله صاحب الكشف والوجود.

ثم نرجع إلى الأعطيات فنقول: إن الأعطيات إما ذاتية أو اسمائية، فأما المنح والهبات والعطايا الذاتية فلا تكون أبداً إلا عن تجلي إلهي، والتجلي من الذات لا يكون أبداً إلا لصورة استعداد العبد المتجلى به، وغير ذلك لا يكون، فإذن المتجلى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق وما رأى الحق ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه، كالمرآة في الشاهد إذا رأيت الصور فيها لا تراها مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها، فأبرز الله ذلك مثالاً نصبه لتجليه

ص: 47

الذاتي، ليعلم المتجلى له أنه ما رآه، وما ثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلي من هذا، وأجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة لا تراه أبداً البتة، حتى أن بعض من أدرك مثل هذا في صور المرئي ذهب إلى أن الصورة المرئية بين بصر الرائي وبين المرآة، هذا أعظم ما قدر عليه من العلم، والأمر كما قلناه وذهبنا إليه. وقد بينا هذا في الفتوحات المكية، وإذا ذقت هذا ذقت الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق، فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن ترقى أعلا من هذا الدرج فما هو ثم أصلاً وما بعده إلا العدم المحض، فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها، وليست سوى عينه فاختلط الأمر وانبهم، فمنا من جهل في علمه فقال والعجز عن درك الإدراك إدراك (1) ومنا من علم فلم يقل مثل هذا القول وهو أعلا القول، بل أعطاه العلم السكوت ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلا عالم بالله.

وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا منن مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى أن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة - أعني نبوة التشريع ورسالته - ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبداً. والمرسلون من حيث كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء، وإن كان خاتم الأولياء تابعاً في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل، كما أنه من وجه يكون أعلا. وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر في أساري بدر بالحكم فيهم، وفي

(1) هذا القول منسوب إلى الصديق الأكبر أبي بكر (رض) وابن عربي يفضل نفسه عليه في العلم بالله كما ترى بعده ويدعي أنه مساو لرسول الله صلى الله عليه وسلم بل يفضل نفسه عليه من بعض الجهات

ص: 48

تأبير النخل. فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل شيء وفي كل مرتبة. وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله، هنالك مطلبهم، وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها، فتحقق ما ذكرناه.

" ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل سوى موضع لبنة فكان النبي صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة، غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يراها إلا كما قال لبنة واحدة. وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤية ما مثل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرى في الحائط موضع لبنتين واللبن من ذهب وفضة فيرى اللبنتين اللتين ينقص الحائط عنهما ويكمل بهما لبنة ذهب ولبنة فضة، فلا بد من أن يري نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكون خاتم الأولياء تينك للبنتين، ليكمل الحائط.

" والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر، وهو موضع اللبنة الفضة وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله تعالى في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه، لأنه رأى الأمر على ما هو عليه، فلا بد أن يراه هكذا وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه آخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول.

" فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " وغيره من الأنبياء ما كان نبياً إلى حين بعث. وكذلك خاتم الأولياء كان ولياً وآدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان ولياً إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية والاتصاف بها من أجل كون الله يسمى بالولي الحميد.

" فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم للولاية مثل نسبة الأنبياء والرسل

ص: 49

معه، وأنه الولي الرسول النبي. وخاتم الأولياء الولي الوارث الآخذ عن الأصل المشاهد المراتب وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، مقدم الجماعة، وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة. فعين بشفاعته حالاً خاصاً ما عمم. وفي هذا لحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية. فإن الرحمن ما شفع عند المتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين، ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص.

" فمن فهم المراتب والمقامات لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام " فهذا الفص قد ذكر فيه حقيقة مذهبه التي يبنى عليها سائر كلامه فتدبر ما فيه من الكفر الذي (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا) وما فيه من جحد خلق الله وأمره، وجحود ربوبيته وألوهيته وشتمه وسبه،، وما فيه من الإزراء برسله وصديقيه والتقدم عليهم بالدعاوي الكاذبة، التي ليس عليها حجة، بل هي معلومة الفساد بأدنى عقل وإيمان، وأيسر ما يسمع من كتاب وقرآن، وجعل الكفار والمنافقين والفراعنة هم أهل الله وخاصته أهل الكشوف وذلك باطل من وجوه.

إحداها أنه أثبت له عينا ثابتة قبل وجوده ولسائر الموجودات وإن ذلك ثابت له ولسائر أحواله وكل ما كان موجوداً من الأعيان والصفات والجواهر والأعراض فعينه ثابتة قبل وجوده. وهذا ضلال قد سبق إليه كما تقدم.

الثاني أنه جعل علم الله بالعبد إنما حصل له من علمه بتلك العين الثابتة في العدم التي هي حقيقة العبد، لا من نفسه المقدسة، وأن علمه بالأعيان الثابتة في العدم وأحوالها تمنعه أن يفعل غير ذلك، وأن هذا هو سر القدر. فتضمن هذا وصف الله تعالى بالفقر إلى الأعيان وغناها عنه، ونفى ما استحقه بنفسه من كمال علمه وقدرته، ولزوم التجهيل والتعجيز، وبعض ما في هذا الكلام المضاهاة لما ذكره الله عمن قال (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء) الآية، فإنه جعل حقائق الأعيان الثابتة في العدم غنية عن الله في حقائقها وأعيانها، وجعل الرب

ص: 50

مفتقراً إليه في علمه بها، فما استفاد علمه بها إلا منها، كما يستفيد العبد العلم بالمحسوسات من إدراكه لها، مع غنى تلك المدركات عن المدرك. والمسلمون يعلمون أن الله عالم بالأشياء قبل كونها بعلمه القديم الأزلي الذي هو من لوازم نفسه المقدسة لم يستفد علمه بها منها (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) فقد دلت هذه الآية على وجوب علمه بالأشياء من وجوه انتظمت البراهين المذكورة لأهل النظر والاستدلال القياسي العقلي من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم.

أحدها أنه خالق لها والخلق هو الإبداع بتقدير، وذلك يتضمن تقديرها في العلم قبل كونها في الخارج.

الثاني أن ذلك مستلزم للإرادة والمشيئة، والإرادة مستلزمة لتصور المراد والشعور به، وهذه الطريقة المشهورة عند أكثر أهل الكلام.

الثالث أنها صادرة عنه وهو سببها التام والعلم بأصل الأمر وسببه يوجب العلم بالفرع المسبب. فعلمه بنفسه مستلزم العلم بكل ما يصدر عنه.

الرابع أنه في نفسه لطيف يدرك الدقيق، خبير يدرك الخفي، وهذا هو مقتضى العلم بالأشياء، فيجب وجود المقتضى لوجود السبب التام، فهو في علمه بالأشياء مستغن بنفسه عنها كما هو غني بنفسه في جميع صفاته. ثم إذا رأى الأشياء بعد وجودها وسمع كلام عباده ونحو ذلك فإنما يدرك ما أبدع وما خلق وما هو مفتقر إليه ومحتاج من جميع وجوهه، لم يحتج في علمه وإدراكه إلى غيره البتة. فلا يجوز القول بأن علمه بالأشياء استفاده من نفس الأشياء الثابتة الغنية في ثبوتها عنه.

وأما جحود قدرته فلأنه جعل الرب لا يقدر إلا على تجليه في تلك الأعيان الثابتة في العدم الغنية عنه، فقدرته محدودة بها مقصورة عليها مع غناها وثبوت حقائقها بدونه. وهذا عنده هو السر الذي أعجز الله أن يقدر على غير ما خلق، فلا يقدر عنده على أن يزيد في العالم ذرة ولا ينقص منه ذرة، ولا يزيد في المطر قطرة

ص: 51

ولا ينقص منه قطرة، ولا يزيد في طول الإنسان ولا ينقص منه، ولا يغير شيئاً من صفاته ولا حركاته ولا سكناته، ولا ينقل حجراً عن مقره، ولا يحول ماء عن ممره، ولا يهدي ضالاً ولا يضل مهتدياً، ولا يحرك ساكناً ولا يسكن متحركاً. ففي الحملة لا يقدر إلا على ما وجد، لأن ما وجد فعينه ثابتة في العدم ولا يقدر على أكثر من ظهوره في تلك الأعيان.

وهذا التجلي والتعجيز الذي ذكره وزعم أنه هو سر القدر وإن كان قد تضمن بعض ما قاله غيره من الضلال ففيه من الكفر ما لا يرضاه غيره من الضالين. فإن القائلين بأن المعدوم شيء يقولون ذلك في كل ممكن كان أو لم يكن، ولا يجعلون علمه بالأشياء مستفاداً من الأشياء قبل أن يكون وجودها، ولا خلقه وقدرته مقصورة على ما علمه منها، فإنه يعلم أنواعاً من الممكنات لم يخلقها. فمعلومه من الممكنات أوسع مما خلقه، ولا يجعلون المانع من أن يخلق غير ما خلق هو كون الأعيان الثابتة في العدم لا تقبل سوى هذا الوجود، بل يمكن عندهم وجودها على صفة أخرى، هي أيضاً من الممكن الثابت في العدم. فلا يفضي قولهم لا إلى تجهيل ولا إلى تعجيز من هذا الوجه. وإنما قد يقولون المانع من ذلك أن هذا هو أكمل الوجوه وأصلحها، فعلمه بأنه لا أكمل من هذا يمنعه أن يريد ما ليس أكمل بحكمته فيجعلون المانع أمراً يعود إلى نفسه المقدسة حتى لا يجعلونه ممنوعاً من غيره، فأين من لا يجعل له مانعاً من غيره ولا راد لقضائه ممن يجعله ممنوعاً مصدوداً؟ وأين من يجعله عالماً بنفسه ممن يجعله مستفيداً للعلم من غيره؟ وممن هو عني عنه؟ هذا مع أن أكثر الناس أنكروا على من قال: ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم.

الثالث أنه رغم أن من الصنف الذي جعله أعلا أهل الله من يكون في علمه بمنزلة علم الله، لأن الأخذ من معدن واحد إذا كشف له عن أحوال الأعيان الثابتة في العدم فيعلمها من حيث علمها الله، إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له

ص: 52

هي من جملة أحوال عينه يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك فجعل علمه وعلم الله من معدن واحد.

الرابع أنه جعل الله عالماً بها بعد أن لم يكن عالماً واتبع المتشابه الذي هو قوله: (حتى يعلم) وزعم أنها كلمة محققة المعنى بناء على أصله الفاسد أن وجود العبد هو عين وجود الرب، فكل مخلوق علم ما لم يكن علمه فهو الله علم ما لم يكن علمه وهذا الفكر ما سبقه إليه كافر، فإن غاية المكذب بقدر الله أن يقول أن الله علم ما لم يكن عالماً، أما أنه يجعل كل ما تجد لمخلوق من العلم فإنما تجدد لله، وأن الله لم يكن عالماً بما علمه كل مخلوق حتى علمه ذلك المخلوق.

الخامس أنه زعم أن التجلي الذاتي بصورة استعداد المتجلى والمتجلى له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق، وأنه لا يمكن أن يرى الحق مع علمه بأنه ما رأى صورته إلا فيه، وضرب المثل بالمرآة فجعل الحق هو المرآة والصورة في المرآة هي صورته.

وهذا تحقيق ما ذكرته من مذهبه: أن وجود الأعيان عنده وجود الحق، والأعيان كانت ثابتة في العدم، فظهر فيها وجود الحق بالمتجلى له، والعبد لا يرى الوجود مجرداً عن الذوات، ما يرى إلا الذوات التي ظهر فيها الوجود، فلا سبيل له إلى رؤية الوجود أبداً، وهذا عنده هو الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق وما بعده إلا العدم المحض، فهو مرآتك في رؤيتك نفسك وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها. وذلك لأن العبد لا يري نفسه التي هي عينه إلا في وجود الحق الذي هو وجوده، والعبد مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها، لأن أسماء الحق عنده هي النسب والإضافات التي بين الأعيان وبين وجود الحق، وأحكام الأسماء هي الأعيان الثابتة في العدم، وظهور هذه الأحكام يتجلى الحق في الأعيان، والأعيان التي هي حقيقة العيان هي مرآة الحق التي بها يرى أسماءه وظهور أحكامها، فإنه إذا ظهر في الأعيان حصلت النسبة التي بين

ص: 53

الوجود والأعيان وهي الأسماء، وظهرت أحكامها وهي الأعيان، ووجود هذه الأعيان هو الحق، فلهذا قال وليست سوى عينه، فاختلط الأمر وانبهم.

فتدبر هذا من كلامه وما يناسبه لتعلم ما يعتقده من ذات الحق وأسمائه، وأن ذات الحق عنده هي نفس وجود المخلوقات، وأسماءه هي النسب التي بين الوجود والأعيان، وأحكامها هي الأعيان. لتعلم كيف اشتمل كلامه على الجحود لله ولأسمائه ولصفاته وخلقه وأمره، وعلى الإلحاد في أسماء الله وآياته، فإن هذا الذي ذكره غاية الإلحاد في أسماء الله وآياته الآيات المخلوقة والآيات المتلوة، فإنه لم يثبت له اسماً ولا آية، إذ ليس إلا وجوداً واحداً وذاك ليس هو اسماً ولا آية، والأعيان الثابتة ليست هي أسماءه ولا آياته، ولما أثبتت شيئين فرق بينها الوجود والثبوت وليس بينهما فرق اختلط الأمر عليه وانبهم.

وهذه حقيقة قوله وسر مذهبه الذي يدعى أنه به أعلم العالم بالله، وأنه تقدم بذلك على الصديق الذي جهل فقال: العجز عن الإدراك إدراك، وتقدم به على المرسلين الذين علموا ذلك من مشاكته (1) وفيه من أنواع الكفر والضلال ما يطول عدها (منها) الكفر بذات الله إذ ليس عنده إلا وجود المخلوق (ومنها) الكفر بأسماء الله وأنها ليست عنده إلا أمور عدميه فإذا قلنا الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم فليس الرب إلا نسبة إلى. (2)

السادس أنه قال واختلط الأمر وانبهم، أو هو على أصله الفاسد مختلط منبهم

(1) لانه يدعي أنه هو ختم الولاية، وأن خاتم الولاية أعلى من خاتم النبوة في الباطن، وإن كان يتبعه في الظاهر، إلخ ما تقدم، وغايته أنه بلغ من غروره بما حذقه من الثرثرة بخلط النظريات الفلسفية بالخيالات الصوفية إن حاول اقناع قراء

فصوصه بأنه رب العالمين من حيث أنه أكمل مظهر للخلق الذي هو عين الحق، وما الرب عنده إلا نسبة إضافية بين ما يسمى حقا وما يسمى خلقا وهما في نفس الأمر بشيء واحد

(2)

بياض في الاصل يعلم ما سقط منه مما تقدم

ص: 54

وعلى أصل الهدى والإيمان متميز متبين، قد بين الله بكتابه الحق من الباطل والهدى من الضلال.

قال: فمنا من جهل علمه فقال العجز عن درك الإدراك إدراك. وهذا الكلام مشهور عندهم ونسبته إلى أبي بكر الصديق، فجعله جاهلاً وإن كان هذا اللفظ لم ينقل عن أبي بكر ولا هو مأثور عنه في شيء من النقول المعتمدة، وإنما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر نحواً من ذلك عن بعض التابعين غير مسمى وإنما يرسل إرسالاً من جهة من يكثر الخطأ في مراسليهم، كما يحكون عن عمر أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إذا تخاطبا كنت كالزنجي بينهما ". وهذا أيضاً كذب باتفاق أهل المعرفة، وإنما الذي في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر " فقال أن عبداً خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ذلك العبد ما عند الله " فبكى أبو بكر، فقال: بل نفديك بأنفسنا وأموالنا، أو كما قال، فجعل الناس يقولون: عجباً لهذا الشيخ يبكي إن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً خيره الله بين الدنيا والآخرة. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر هو أعلمنا به. وكان أبو بكر هو أعلمهم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقاصده في كلامه. وإن كانوا كلهم مشتركين في فهمه.

وهذا كما في الصحيح أنه قيل لعلي عليه السلام: هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً؟ وفي لفظ: هل عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس؟ فقال " لا والذي فلق الحبة وبرا النسمة، إلا فهماً يؤتيه الله عبداً في كتابه، وما في هذه الصحيفة (1) وبهذا ونحو من الأحاديث الصحيحة استدل العلماء على أن ما ذكر عن علي وأهل البيت من أنهم اختصوا بعلم خصهم به النبي صلى الله عليه وسلم دون

(1) هي صحيفة علقها في سيفه كتب عليها عن النبي صلى الله عليه وسلم أحكام الدية وفكاك الأسير وتحريم المدينة

ص: 55

غيرهم كذب عليهم، مثل ما يذكر من الجفر والبطاقة والجدول، وغير ذلك وما أثره القرامطة الباطنية عنهم، فإنه قد كذب على جعفر الصادق رضي الله عنه ما لم يكذب على غيره. وكذلك كذب على عليه السلام وغيره من أئمة أهل البيت رضي الله عنهم، كما قد بين هذا وبسط في غير هذا الموضع.

وهكذا يكذب قوم من النساك ومدعي الحقائق على أبي بكر وغيره وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطبه بحقائق لا يفهمها عمر مع حضوره. ثم قد يدعون أنهم عرفوها وتكون حقيقتها زندقة وإلحاداً. وكثير من هؤلاء الزنادقة والجهال قد يحتج على ذلك بحديث أبي هريرة " حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين أحدهما فبثثته فيكم. وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا الحلقوم " وهذا الحديث صحيح، لكن الجراب الآخر لم يكن فيه شيء من علم الدين ومعرفة الله وتوحيده ومعرفة الله وتوحيده الذي يختص به أولياؤه، ولم يكن أبو هريرة من أكابر الصحابة الذين يخصون بمثل ذلك لو كان هذا مما يخص به، بل كان في ذلك الجراب أحاديث الفتن التي تكون بين المسلمين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بما سيكون من الفتن بين المسلمين، ومن الملاحم التي تكون بينهم وبين الكفار. ولهذا لما كان مقتل عثمان وفتنة ابن الزبير ونحو ذلك قال ابن عمر: لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم وتهدمون البيت (1) وغير ذلك لقلتم: كذب أبو هريرة، فكان أبو هريرة يمتنع من التحديث بأحاديث الفتن قبل وقوعها لأن ذلك مما لا يحتمله رؤوس الناس وعوامهم. وكذلك يحتجون بحديث حذيفة بن اليمان وأنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، وحديث حذيفة معروف، لكن السر الذي لا يعلمه غيره هو معرفته بأعيان المنافقين الذين كان كانوا في غزوة تبوك. ويقال أنهم كانوا أهموا

(1) بل قال أبو هريرة نفسه لو قلت لكم أنكم ستحرقون بيت ربكم وتقتلون ابن نبيكم لقلتم لا أكذب من أبي هريرة. وقد كان قتل الحسين عليه السلام بعد موت أبي هريرة وإنما كان يخاف قطع حلقومه من بني أمية

ص: 56

بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم فأوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم، فأخبر حذيفة بأعيانهم. ولهذا كان عمر لا يصلي إلا على من صلى عليه حذيفة، لأن الصلاة على المنافقين منهي عنها.

وقد ثبت في الصحيح عن حذيفة أنه لما ذكر الفتن وأنه أعلم الناس بها بين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصه بحديثها ولكن حدث الناس كلهم، قال " وكنا أعلمنا أحفظنا ".

ومما بين هذا أن في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عام الفتح قد أهدر دم جماعة: منهم عبد الله بن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فتوقف عنه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم بايعه وقال " أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلي وقد أمسكت عن هذا فيضرب عنقه " فقال رجل من الأنصار. يا رسول الله، هلا أومأت إلي؟ فقال " ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين " فهذا ونحوه مما يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم يستوي ظاهره وباطنه، لا يظهر للناس خلاف ما يبطنه، كما تدعيه الزنادقة من المتفلسفة والقرامطة وضلال المتنكسة ونحوهم.

السابع أنه " قال ومنا من علم فلم يقل مثل هذا، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم والسكوت ما أعطاه العجز. وهذا هو أعلا عالم بالله. وليس هذا العلم إلا الخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأولياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم. حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء. فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبداً. فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء فكيف من دونهم من الأولياء؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعاً في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل كما أنه من وجه يكون أعلا - إلى قوله - ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن.

ص: 57

ففي هذا الكلام من أنواع الإلحاد والكفر وتنقيص الأنبياء والرسل ما لا تقوله لا اليهود ولا النصارى. وما أشبهه في هذا الكلام بما ذكر في قول القائل: فخر عليهم السقف من تحتهم أن هذا لا عقل ولا قرآن. وكذلك ما ذكره هنا من أن الأنبياء والرسل تستفيد من خاتم الأولياء الذي بعدهم هو مخالف للعقل فإن المتقدم لا يستفيد من المتأخر. ومخالف للشرع، فإنه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأنبياء والرسل أفضل من الأولياء الذين ليسوا أنبياء ولا رسلاً. وقد يزعم أن هذا العلم الذي هو عنده أعلى العلم وهو القول بوحدةالوجود، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق وهو تعطيل الصانع حقيقة وجحده، وهو القول الذي يظهره فرعون فلم يكفه زعمه أن هذا حق، حتى زعم أنه أعلا العلم، ولم يكفه ذلك حتى زعم أن الرسل إنما يرونه من مشكاة خاتم الأولياء. فجعل خاتم الأولياء أعلم بالله من جميع الأنبياء والرسل، وجعلهم يرون العلم بالله من مشكاته.

ثم أخذ يبين ذلك فقال: فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته ينقطعان والولاية لا تنقطع أبداً. فالمرسلون من كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، وذلك أنه لم يمكنهم أن يجعلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبياً ولا رسولاً فإن هذا كفر ظاهر، فزعموا أنه إنما تنقطع نبوة التشريع ورسالته، يعني وأما نبوة التحقيق ورسالة التحقيق وهي الولاية عندهم فلم تنقطع، وهذه الولاية هي أفضل من النبوة والرسالة، ولهذا قال ابن عربي في بعض كلامه:

مقام النبوة في برزخ

فويق الرسول ودون الولي

وقال في الفصوص في كلمة عزيرية فإذا سمعت أحداً من أهل الله تعالى يقول أو ينقل إليك عنه أنه قال الولاية أعلى من النبوة فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه، أو يقول: إن الولي فوق النبي والرسول فإنه يعني بذلك في شخص واحد، وهو أن الرسول عليه السلام من حيث هو ولي أتم منه من حيث هو نبي ورسول، لا أن

ص: 58

الولي التابع له أعلا منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبداً فيما هو تابع له فيه (1) إذ لو أدركه لم يكن تابعاً له ". وإذا حوققوا على ذلك قالوا: إن ولاية النبي فوق نبوته وإن نبوته فوق رسالته، لأنه يأخذ بولايته عن الله، ثم يجعلون مثل ولايته ثابتة لهم، ويجعلون ولاية خاتم الأولياء أعظم من ولايته، وأن ولاية الرسول تابعة لولاية خاتم الأولياء الذي أدعوه ".

وفي هذا الكلام أنواع قد بيناها في غير هذا الموضع منها أن دعوى المدعي وجود خاتم الأولياء على ما أدعوه باطل لا أصل له، ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء إلا أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي الحكيم في كتاب " ختم الولاية " وقد ذكر في هذا الكتاب ما هو خطأ وغلط مخالف للكتاب والسنة والإجماع وهو رحمه الله تعالى وإن كان فيه فضل ومعرفة ومن الكلام الحسن المقبول والحقائق النافعة أشياء محمودة ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده ومن أشنعها ما ذكره في ختم الولاية، مثل دعوه فيه أنه يكون في المتأخرين من درجته عند الله أعظم من درجة أبي بكر وعمر وغيرهما. ثم أنه تناقض في موضع آخر لما حكى عن بعض الناس أن الولي يكون منفرداً عن الناس، فأبطل ذلك واحتج بأبي بكر وعمر وقال يلزم هذا أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر، وأبطل ذلك " ومنها " أنه ذكر في كتابه ما يشعر أن ترك الأعمال الظاهرة ولو أنها التطوعات المشروعة أفضل في حق الكامل ذي الأعمال القلبية وهذا أيضاً خطأ عند أئمة الطريق، فإن أكمل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وما زال محافظاً على ما

(1) بهامش الأصل ما نصه: قوله فيما هو تابع له فيه، كأنه يريد ما يزعم من أنه تابع للنبي صلى الله عليه وسلم في الشرع الظاهر. وأما الباطن فلا، لانه يزعم أن خاتم الأنبياء وجميع الأنبياء والرسل يأخذون من مشكاته، فهو عند نفسه أعلى منهم

في ذلك. قبحه الله. انتهى من خط الشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى رحمه الله

ص: 59

يمكنه من الأوراد والتطوعات البدنية إلى مماته " ومنها " ما ادعاه من خاتم الأولياء الذي يكون في آخر الزمان وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، وأنه يكون معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء. وهذا ضلال واضح. فإن أفضل أولياء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأمثالهم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة. وخير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح " خير القرون القرن الذي بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم " وفي الترمذي وغيره أنه قال في أبي بكر وعمر " هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين إلا النبيين والمرسلين " قال الترمذي حديث حسن وفي صحيح البخاري عن علي عليه السلام أنه قال له ابنه يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال " يا بني أبو بكر " قال: ثم من؟ قال " ثم عمر " وروى بضع وثمانون نفساً عنه أنه قال " خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ".

وهذا باب واسع وقد قال تعالى: (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) وهذه الأربعة هي مراتب العباد: أفضلهم الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون. وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفضل أحد منا نفسه على يونس ابن متى مع قوله (ولا تكن كصاحب الحوت) وقوله (وهو مليم) تنبيهاً على أن غيره أولى أن لا يفضل أحد نفسه عليه. ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقولن أحدكم أني خير من يونس بن متى " وفي صحيح البخاري أيضاً عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما ينبغي لعبد أن يكون خيراً من يونس بن متى " وفي لفظ " أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وفي البخاري أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من قال أنا خير من يونس بن متى فقد كذب " وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - يعني رسول الله " لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وفي الصحيحين عن ابن عباس

ص: 60

عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ: فيما يرويه عن ربه " لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى " وهذا فيه نهي عام.

وأما ما يرويه بعض الناس " لا تفضلوني على يونس بن متى " ويفسره باستواء حال صاحب المعراج وصاحب الحوت فنقل باطل وتفسير باطل. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " اثبت حراء فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " وأبو بكر أفضل الصديقين.

ولفظ خاتم الأولياء لا يوجد في كلام أحد من سلف الأمة ولا أئمتها ولا له ذكر في كتاب الله ولا سنة رسوله وموجب هذا اللفظ أنه آخر مؤمن تقي، فإن الله يقول (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) الآية (1) فكل من كان مؤمناً " تقياً " كان لله ولياً، وهم على درجتين: السابقون المقربون وأصحاب اليمين المقتصدون، كما قسمهم الله تعالى في سورة فاطر، وسورة الواقعة، والإنسان، والمطففين.

وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه " فالمتقربون إلى الله بالفرائض هم الأبرار المقتصدون أصحاب اليمين، والمتقربون إليه بالنوافل التي يحبها بعد الفرائض هم السابقون المقربون، وإنما تكون النوافل بعد الفرائض. وقد قال أبو بكر الصديق في وصيته لعمر بن الخطاب " اعلم أن لله عليك حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وحقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإنها لا تقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة.

والاتحادية يزعمون أن قرب النوافل يوجب أن يكون عين الحق عين أعضائه، وأن

(1) يعني الآية التي بعد هذه المفسرة للأولياء بالمؤمنين المتقين

ص: 61

قرب الفرائض يوجب أن يكون الحق عين وجوده كله. وهذا فاسد من وجوه كثيرة، بل كفر صريح كما بيناه في غير هذا الموضع. وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقي في الدنيا فليس الرجل أفضل الأولياء ولا أكملهم بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم الذين هم أخص بأفضل الرسل من غيرهم، فإن كلما كان الولي أعظم اختصاصاً بالرسول وآخذاً عنه وموافقة له كان أفضل، إذ الولي لا يكون ولياً لله إلا بمتابعة الرسول باطناً وظاهراً. فعلى قدر المتابعة للرسول يكون قدر الولاية لله.

والأولياء وإن كان فيهم محدث كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إنه كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر " فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين من هذه الأمة عمر وأبو بكر أفضل منه، إذ هو الصديق والمحدث وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة فإنه ليس بمعصوم كما قال أبو الحسن الشاذلي: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام. ولهذا كان عمر بن الخطاب وقافاً عند كتاب الله وكان أبو بكر الصديق يبين أشياء تخالف ما يقع له كما بين له يوم الحديبية ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم ويوم قتال مانعي الزكاة وغير ذلك، وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة فتارة يرجع إليهم وتارة يرجعون إليه وربما قال القول وترد عليه امرأة من المسلمين قوله وتبين له الحق فيرجع إليها ويدع قوله كما قدر الصداق، وربما يرى رأياً فيذكر له حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيعمل به ويدع رأيه وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة، وكان يقول القول فيقال له: أصبت فيقول: ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه. فإذا كان هذا إمام المحدثين، فكل ذي قلب يحدثه قلبه عن ربه إلى يوم القيامة هو دون عمر فليس فيهم معصوم بل الخطأ يجوز عليهم كلهم وإن كان طائفة تدعي أن الولي محفوظ وهو نظير ما يثبت للأنبياء من العصمة، والحكيم الترمذي قد أشار إلى هذا - فهذا

ص: 62

باطل مخالف للسنة والإجماع، ولهذا اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانوا متفاضلين في الهدى والنور والإصابة، ولهذا كان الصديق أفضل من المحدث، لأن الصديق يأخذ من مشكاة النبوة فلا يأخذ إلا شيئاً معصوماً محفوظاً، وأما المحدث فيقع له صواب وخطأ، والكتاب والسنة تميز صوابه من خطئه. وبهذا صار جميع الأولياء مفترقين إلى الكتاب والسنة، لا بد لهم أن يزنوا جميع أمورهم بآثار الرسول، فما وافق آثار الرسول فهو الحق وما خالف ذلك فهو باطل وإن كانوا مجتهدين فيه والله تعالى يثيبهم على اجتهادهم ويغفر لهم خطأهم.

ومعلوم أن السابقين الأولين أعظم اهتداء واتباعاً للآثار النبوية فهم أعظم إيماناً وتقوى. وأما آخر الأولياء فلا يحصل له مثل ما حصل لهم.

والحديث الذي يروى " مثل أمتي كمثل الغيث لا يدرى أوله خير أو آخره " قد تكلم في إسناده، وبتقدير صحته إنما معناه بما في آخر الأمة من يقارب أولها (1) حتى يشتبه على بعض الناس أيهما خير كما يشتبه على بعض الناس طرفا الثوب، مع القطع بأن الأول خير من الآخر ولهذا قال " لا يدرى " ومعلوم أن هذا السلب ليس عاماً لها فإنه لا بد أن يكون معلوماً أيهما أفضل.

ثم أن هذا خاتم الأولياء صار مرتبة موهومة لا حقيقة له وصار يدعيها لنفسه أو لشيخه طوائف، وقد ادعاها غير واحد ولم يدعها إلا من في كلامه من الباطل ما لم تقله اليهود ولا النصارى، كما ادعاها صاحب الفصوص، وتابعه صاحب الكلام في

(1) فيه معنى آخر، وهو أن هذا الخير في المتأخر نسبي وهو أن القليل منه يعد كثيراً بالنسبة إلى فساد زمنه. ويدل عليه أحاديث: منها أنه عندما يجاهر الناس بالزنا في الطريق يقول قائلهم: ما ضر هذين لو استترا وراء هذا الجدار - وهو يعد كأبي بكر وعمر فيكم

ص: 63

الحروف، وشيخ من أتباعهم كان بدمشق، وآخر كان يزعم أنه المهدي الذي يزوج ابنته بعيسى بن مريم، وأنه خاتم الأولياء. ويدعي هؤلاء وأمثالهم من الأمور ما لا يصلح إلا لله وحده، كما قد يدعي المدعي منهم لنفسه أو لشيخه ما ادعته النصارى في المسيح.

ثم صاحب الفصوص وأمثاله بنوا الأمر على أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، والنبي يأخذ بواسطة الملك، فلهذا صار خاتم الأولياء أفضل عندهم من هذه الجهة، وهذا باطل وكذب، فإن الولي لا يأخذ عن الله إلا بواسطة الرسول إليه، وإذا كان محدثاً قد ألقي إليه شيء وجب عليه أن يزنه بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة.

وتكليم الله لعباده على ثلاثة أوجه: من وراء حجاب كما كلم موسى، وبإرسال رسول كما أرسل الملائكة إلى الأنبياء، وبالإيحاء، وهذا فيه للولي نصيب، وأما المرتبتان الأوليان فإنهما للأنبياء خاصة، والأولياء الذين قامت عليهم الحجة بالرسل لا يأخذون علم الدين إلا بتوسط رسل الله إليهم، ولو لم يكن إلا عرضه على ما جاء به الرسول (1) ولن يصلوا في أخذهم عن الله إلى مرتبة نبي أو رسول، فكيف يكونون آخذين عن الله بلا واسطة ويكون هذا الأخذ أعلى وهم لا يصلون إلى مقام تكليم موسى ولا إلى مقام نزول الملائكة عليهم كما نزلت على الأنبياء، وهذا دين المسلمين واليهود والنصارى.

وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية فبنوا على أصلهم الفاسد: أن الله هو الوجود المطلق الثابت لكل موجود، وصار ما يقع في قلوبهم من الخواطر - وإن كانت

(1) كذا ولعل جواب لو سقط من الناسخ أو حذف للعلم به. وفيه أنهم يعترفون بهذا الاخذ لاحكام التشريع الظاهرة دون الحقائق الباطنة التي يدعونها ويطلقونها على فلسفتهم وخيالاتهم الباطلة

ص: 64

من وساوس الشيطان - يزعمون أنهم أخذوا ذلك عن الله بلا واسطة، وأنهم يكلمون كما كلم موسى بن عمران، وفيهم من يزعمون أن حالهم من حال موسى ابن عمران، لأن موسى سمع الخطاب من الشجرة وهم على زعمهم يسمعون الخطاب من حي ناطق كما يذكر عن صاحب الفصوص أنه قال:

وكل كلام في الوجود كلامه

سواء علينا نثره ونظامه

وأعانهم على ذلك ما اعتقدوه من مذاهب الجهمية وأتباعهم الذين يزعمون أن تكليم الله لموسى إنما كان من جنس الإلهام، وأن العبد قد يرى الله في الدنيا إذا زال عن عينه المانع إذ لا حجاب عندهم للرؤية منفصل عن العبد، وإنما الحجاب متصل به، فإذا ارتفع شاهد الحق، وهم لا يشاهدون إلا ما يتمثلونه من الوجود المطلق الذي لا حقيقة له إلا في أذهانهم أو لا وجود له إلى وجود المخلوقات. هذا هو التعطيل للرب تعالى ولكتبه ولرسله، والبدع دهليز الكفر والنفاق، كما أن التشيع دهليز الرفض، والرفض دهليز القرمطة والتعطيل، فالكلام الذي فيه تجهم دهليز الزندقة والتعطيل. وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت " ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الله يرى في الآخرة، وأنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه.

وفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه كلام معروف لعائشة وابن عباس، فعائشة أنكرت الرؤية، وابن عباس ثبت عنه صحيح مسلم أنه قال: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين. وكذلك ذكر أحمد عن أبي ذر وغيره أنه أثبت رؤيته بفؤاده. وهذا المنصوص عن ابن عباس وأبي ذر وغيرهما هو المنصوص عن أحمد وغيره من أئمة السنة، ولم يثبت عن أحد منهم إثبات الرؤية بالعين في الدنيا، كما لم يثبت عن أحد منهم إنكار الرؤية في الآخرة، ولكن كلا القولين تقول به طوائف من الجهمية، فالنفي يقول به متكلمة الجهمية،

ص: 65

والإثبات يقول به بعض متصوفة الجهمية كالاتحادية وطائفة من غيرهم، وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي والإثبات، كما يقول ابن سبعين: عين ما ترى ذات لا ترى، وذات لا ترى عين ما ترى. ونحو ذلك، لأن مذهبهم مستلزم الجمع بين النقيضين، فهم يقولون في عموم الكائنات ما قالته النصارى في المسيح، ولهذا تنوعوا في ذلك تنوع النصارى في المسيح.

ومن الأنواع التي في دعواهم أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء من بعض الوجوه، إن هذا لم يقله أبو عبد الله الحكيم الترمذي ولا غيره من المشايخ المعروفين، بل الرجل أجل قدراً وأعظم إيماناً من أن يفتري هذا الكفر الصريح، ولكن أخطأ شبراً، ففرعوا على خطئه ما صار كفراً.

وأعظم من ذلك زعمه أن الأولياء والرسل من حيث ولا يتهم تابعون لخاتم الأولياء وأخذوا من مشكاته، فهذا باطل بالعقل والدين، فإن المتقدم لا يأخذ من المتأخر، والرسل لا يأخذون من غيرهم. وأعظم من ذلك أنه جعلهم تابعين له في العلم بالله الذي هو أشرف علومهم، وأظهر من ذلك أن جعل العلم بالله هو مذهب أهل وحدة الوجود القائلين بأن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق.

فليتدبر المؤمن هذا الكفر القبيح درجة بعد درجة. واستشهاده على تفضيل غير النبي عليه بقصة عمر وتابير النخل، فهل يقول مسلم أن عمر كان أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم برأيه في الأسرى؟ وأن الفلاحين الذين يحسنون صناعة التأبير أفضل من الأنبياء في ذلك؟ ثم ما قنع بذلك حتى قال: فما يلزم الكامل أن يكون له التقديم في كل علم وكل مرتبة، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله، هنالك مطالبهم.

فقد زعم أنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن تقدمه عليه بالعلم بالله، وتقدم خاتم الأنبياء عليه بالتشريع فقط. وهذا من أعظم الكفر الذي يقع فيه غالية المتفلسفة

ص: 66

وغالية المتصوفة وغالية المتكلمة الذين يزعمون أنهم في الأمور العلمية أكمل من الرسل، كالعلم بالله ونحو ذلك، وأن الرسل إنما تقدموا عليهم بالتشريع العام الذي جعل لصلاح الناس في دنياهم. وقد يقولون أن الشرائع قوانين عدلية وضعت لمصلحة الدنيا، فأما المعارف والحقائق والدرجات العالية في الدنيا والآخرة فيفضلون فيها أنفسهم وطرقهم على الأنبياء وطرق الأنبياء.

وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين أن هذا من أعظم الكفر والضلال، وكان من سبب جحد حقائق ما أخبرت به الرسل من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر وزعمهم أن ما يقوله هؤلاء في هذا الباب هو الحق وصاروا في أخبار الرسل، تارة يكذبونها، وتارة يحرفونها، وتارة يفوضونها، وتارة يزعمون أن الرسل كذبوا لمصلحة العموم.

ثم عامة الذين يقولون هذه المقالات يفضلون الأنبياء والرسل على أنفسهم إلا الغالية منهم كما تقدم، فهؤلاء من شر الناس قولاً واعتقاداً.

وقد كان عندهم شيخ من أجهل الناس كان يعظمه طائفة من الأعاجم ويقال أنه خاتم الأولياء، يزعم أنه يفسر العلم بوجهين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فسره بوجه واحد وأنه هو أكمل من النبي صلى الله عليه وسلم وهذا تلقاه من صاحب الفصوص وأمثال هذا في هذه الأوقات كثير، وسبب ضلال المتفلسفة وأهل التصوف والكلام الموافقة لضلالهم، وليس هذا موضع الأطناب في بيان ضلال هذا وإنما الغرض التنبيه على أن صاحب الفصوص وأمثاله قالوا قول هؤلاء.

فأما كفر من يفضل نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر صاحب الفصوص فظاهر ولكن من هؤلاء من لا يرى ذلك ولكن يرى أن له طريقاً إلى الله غير اتباع الرسول، ويسوغ لنفسه اتباع تلك الطريق وإن خالف شرع الرسول، ويحتجون بقصة موسى والخضر.

ولا حجة فيها لوجهين (أحدهما) أن موسى لم يكن مبعوثاً إلى الخضر ولا

ص: 67

كان يجب على الخضر اتباع موسى فإن موسى كان مبعوثاً إلى بني إسرائيل ولهذا جاء في الحديث الصحيح " أن موسى لما سلم على الخضر قال وأنى بأرضك السلام؟ قال أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال نعم، قال إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه. وأنا على علم من الله علمنيه لا تعلمه " ولهذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم " فضلنا على الناس بخمس: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأي رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة (1) " وقد قال تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً) وقال تعالى (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) الآية.

فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى جميع الثقلين: انسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، ملوكهم وزهادهم، الأولياء منهم وغير الأولياء. فليس لأحد الخروج عن مبايعته باطناً وظاهراً، ولا عن متابعة ما جاء به من الكتاب والسنة في دقيق ولا جليل، لا في العلوم ولا الأعمال، وليس لأحد أن يقول له كما قال الخضر لموسى، وأما موسى فلم يكن مبعوثاً إلى الخضر.

الثاني أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة، إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر، ولهذا لما بين أسبابها لموسى وافقه على ذلك، ولو كان مخالفاً لشريعته لم يوافقه بحال.

وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع. فإن خرق السفينة مضمونه أن المال المعصوم يجوز للإنسان أن يحفظه لصاحبه بإتلاف بعضه فإن ذلك خير من ذهابه بالكلية كما جاز للراعي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبح الشاة التي خاف عليها الموت. وقصة الغلام مضمونها جواز قتل الصبي الصائل، ولهذا قال ابن عباس: وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا تقتلهم. وأما إقامة الجدار

(1) لم يذكر الخامسة، وفي بعض الاحاديث هي " ونصرت بالرعب مسيرة شهر"

ص: 68

ففيها فعل المعروف بلا أجرة مع الحاجة إذا كان لذرية قوم صالحين.

الوجه الثامن أنه قال: ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط إلى آخر كلامه وهو متضمن أن العلم نوعان (أحدهما) علم الشريعة وهو يأخذه عن الله كما يأخذ النبي فإنه قال والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر وهو موضع اللبنة الفضية وهو ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه لأنه يرى الأمر على عليه فلا بد أن يراه هكذا.

وهذا الذي زعمه من أن الولي يأخذ عن الله في السر ما يتبع فيه الرسل كأئمة العلماء مع اتباعهم، فيه من الاتحاد ما لا يخفى على من يؤمن بالله ورسله، فإن هذا يدعي أنه أوتي مثل ما أوتي رسل الله، ويقول أنه أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ويجعل الرسل بمنزلة معلمي الطب والحساب والنحو وغير ذلك إذا عرف المتعلم الدليل الذي قال به معلمه فينبغي موافقته لمشاركته له في العلم لا لأنه رسول وواسطة من الله إليه في تبليغ الأمر والنهي. وهذا الكفر يشبه كفر مسيلمة الكذاب ونحو ممن يدعي أنه مشارك للرسول في الرسالة، وكان يقول مؤذنه أشهد أن محمد ومسيلمة رسولا الله.

والنوع الثاني علم الحقيقة وهو فيه فرق الرسول كما قال هو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول، فقد ادعى أن هذا العلم الذي هو موضع اللبنة الذهبية وهو علم الباطن والحقيقة هو فيه فوق الرسول لأنه يأخذه من حيث يأخذ الملك العلم الذي يوحي به إلى الرسول، والرسول يأخذه من الملك، وهو أخذه من فوق الملك، من حيث يأخذه الملك، وهذا فوق دعوى مسيلمة الكذاب، فإن مسيلمة لم يدع أنه أعلا من الرسول في علم من العلوم الإلهية، وهذا ادعى أنه فوقه في العلم بالله.

ص: 69

ثم قال: فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع. ومعلوم أن هذا الكفر فوق كفر اليهود والنصارى فإن اليهود والنصارى لا ترضى أن تجعل أحداً من المؤمنين فوق موسى وعيسى، وهذا يزعم هو وأمثاله ممن يدعي أنه خاتم الأولياء أنه فوق جميع الرسل، وأعلم بالله من جميع الرسل، وعقلاء الفلاسفة لا يرضون بهذا وإنما يقول مثل هذا غلاتهم وأهل الحق منهم الذين هم من أبعد الناس عن العقل والدين.

التاسع قوله: فكل نبي من لدن آدم - إلى آخر الفصل - تضمن أن جميع الأنبياء والرسل لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم النبيين، ليوطن نفسه بذلك أن جميع الأنبياء لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم الأولياء، وكلاهما ضلال، فإن الرسل ليس منهم من يأخذ من آخر إلا من كان مأموراً باتباع شريعته كأنبياء بني إسرائيل والرسل الذين فيهم الذين أمروا باتباع التوراة كما قال تعالى (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور) الآية.

وأما إبراهيم فلم يأخذ من موسى وعيسى، ونوح لم يأخذ عن إبراهيم، ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى لم يأخذوا عن محمد وأن بشروا به وآمنوا به كما قال تعالى (وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة) الآية قال ابن عباس: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنا.

العاشر قوله: فإن تحقيقه موجود، وهو قوله " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " بخلاف غيره من الأنبياء، وكذلك خاتم الأولياء كان ولياً وآدم بين الماء والطين. - كذب واضح مخالف لإجماع أئمة الدين، وإن كان هذا يقوله طائفة من أهل الضلال والإلحاد، فإن الله علم الأشياء وقدرها قبل أن يكونها

ص: 70

ولا تكون موجود بحقائقها إلا حين توجد ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم، ولم تكن حقيقته صلى الله عليه وسلم موجودة قبل أن يخلق إلا كما كانت حقيقة غيره بمعنى أن الله علمها وقدرها، لكن كان ظهور خبره واسمه مشهوراً أعظم من غيره فإنه كان مكتوباً في التوراة والإنجيل وقبل ذلك، كما روى الإمام أحمد في مسنده عن العرباض بن سارية، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إني لعبد الله مكتوب خاتم النبيين وأن آدم لمنجدل في طينته وسأنبئكم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني كأنها خرج منها نوراً ضاءت له قصور الشام " وحديث ميسرة الفجر: قلت يا رسول الله، متى كنت نبياً؟ وفي لفظ متى كتبت نبياً؟ قال " وآدم بين الروح والجسد " وهذا لفظ الحديث.

وأما قوله " كنت نبياً وآدم بين الماء والطين " فلا أصل له، لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث بهذا اللفظ وهو باطل، فإنه لم يكن بين الماء والطين إذ الطين ماء وتراب، ولكن لما خلق الله جسد آدم قبل نفخ الروح فيه كتب نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقدرها، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق " إن خلق أحدكم يجعل في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال: اكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح " وروي أنه كتب اسمه على ساق العرش ومصاريع الجنة (1) فأين الكتاب والتقدير من وجود الحقيقة؟ وما يروي في هذا الباب من الأحاديث هو من هذا الجنس مثل كونه كان نوراً يسبح حول العرش أو كوكباً يطلع في السماء ونحو ذلك كما ذكره ابن حمويه صاحب ابن عربي وذكر بعضه عمر الملا في وسيلة المتعبدين وابن سبعين وأمثالهم ممن يروي الموضوعات

(1) اشار بقوله " يروي" إلى أن هذا ضعيف غير صحيح كالذي قبله وأما " كنت نبيا وآدم بين الماء والطين " فانه باطل رواية ومعنى

ص: 71

المكذوبات باتفاق أهل المعرفة بالحديث. فإن هذا المعنى رووا فيه أحاديث كلها كذب حتى أنه اجتمع بي قديماً شيخ معظم من أصحاب ابن حمويه يسميه أصحابه سلطان الأقطاب وتفاوضنا في كتاب الفصوص وكان معظماً له ولصاحبه حتى أبديت له بعض ما فيه فهاله ذلك وأخذ يذكر مثل هذه الأحاديث فبينت له أن هذا كله كذب.

الحادي عشر قوله: وخاتم الولاية كان ولياً وآدم بين الماء والطين - إلى قوله - فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم للولاية كنسبة الأولياء والرسل معه - إلى آخر كلامه - ذكر فيه ما تقدم من كون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الختم المدعى كسائر الأنبياء والرسل معه يأخذ من مشكاته العلم بالله الذي هو أعلا العلم وهو وحدة الوجود أنه مقدم الجماعة وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة. فعين حالاً خاصاً ما عمم - إلى قوله - ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص فكذب على رسول اله صلى الله عليه وسلم في قوله: إنه قال: سيد ولد آدم في الشفاعة فقط لا في بقية المراتب " بخلاف الختم المفتري فإنه سيد في العلم بالله وغير ذلك من المقامات.

ولقد كنت أقول: لو كان المخاطب لنا ممن يفضل إبراهيم أو موسى أو عيسى على محمد صلى الله عليه وسلم لكانت مصيبة عظيمة لا يحملها المسلمون فكيف بمن يفضل رجلاً من أمة محمد على محمد وعلى جميع الأنبياء والرسل في أفضل العلوم ويدعي أنهم يأخذون ذلك من مشكاته؟ وهذا العلم هو غاية الإلحاد والزندقة. وهذا المفضل من أضل بني آدم وأبعدهم عن الصراط المستقيم، وإن كان له كلام كثير ومصنفات متعددة، وله معرفة بأشياء كثيرة، وله استحواذ على قلوب طوائف من أصناف المتفلسفة والمتصوفة والمتكلمة والمتفقهة والعامة، فإن هذا الكلام من أعظم الكلام ضلالاً عند أهل الكلام والإيمان والله أعلم.

ص: 72

وقد تبين أن في هذا الكلام من الكفر والتنقيص بالرسل والاستخفاف بهم والغض منهم والكفر بهم وبما جاؤوا به ما لا يخفى على مؤمن، وقد حدثني أحد أعيان الفضلاء أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري رحمة الله عليه يقول: رأيت ابن عربي وهو شيخ نجس يكذب بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي أرسله الله. ولقد صدق فيما قال، ولكن هذا بعض الأنواع التي ذكرها من الكفر، وكذلك قول أبي محمد بن عبد السلام: هو شيخ سوء مقبوح كذاب يقول بقدم العلم ولا يحرم فرجاً - هو حق عنه ولكنه بعض أنواع ما ذكره من الكفر، فإن قوله لم يكن قد تبين له حاله وتحقق، وإلا فليس عنده رب وعالم كما تقوله الفلاسفة الإلهيون الذين يقولون بواجب الوجود، وبالعالم الممكن الوجود بل عنده وجود العالم هو وجود الله، وهذا يطابق قول الدهرية الطبائعية الذين ينكرون وجود الصانع مطلقاً ولا يقرون بوجود واجب غير العالم كما ذكر الله عن فرعون وذويه، وقوله مطابق لقول فرعون، لكن فرعون لم يكن مقراً بالله وهؤلاء يقرون بالله، ولكن يفسرونه بالوجود الذي أقر به فرعون، فهم أجهل من فرعون وأضل، وفرعون أكفر منهم، في كفره من العناد والاستكبار ما ليس في كفرهم، كما قال تعالى (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً) وقال له موسى (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر) وجماع أمر صاحب الفصوص وذويه هدم أصول الإيمان الثلاثة فإن أصول الإيمان: الإيمان بالله والإيمان برسله والإيمان باليوم الآخر.

فأما الإيمان بالله فزعموا أن وجوده وجود العالم ليس للعالم صانع غير العالم، وأما الرسول فزعموا أنهم أعلم بالله منه ومن جميع الرسل، ومنهم من يأخذ العلم بالله الذي هو التعطيل ووحدة الوجود من مشكاته، وأنهم يساوونه في أخذ العلم بالشريعة عن الله. وأما الإيمان باليوم الآخر فقد قال:

ص: 73

فلم يبق إلا صادق الوعد وحده

وبالوعيد الحق عين تعاين

وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم

على لذة فيها نعيم يباين

وهذا يذكر عن بعض أهل الضلال قبله أنه قال: إن النار تصير لأهلها طبيعة نارية يتمتعون بها، وحينئذ فلا خوف ولا محذور ولا عذاب لأنه أمر مستعذب ثم إنه في الأمر والنهي عنده الآمر والناهي والمأمور والمنهي واحد، ولهذا كان أول ما قاله في الفتوحات المكية التي هي أكبر كتبه:

الرب حق والعبد حق

يا ليت شعري من المكلف

إن قلت عبد فذاك رب

أو قلت رب أني يكلف؟

وفي موضع آخر فذاك ميت، رأيته بخطه.

وهذا مبني على أصله فإن عنده ما ثم عبد ولا وجود إلا وجود الرب فمن المكلف؟ وعلى أصله هو المكلف كما يقولون أرسل من نفسه إلى نفسه رسولاً، وكما قال ابن الفارض في قصيدته التي نظمها على مذهبهم وسماها نظم السلوك:

إلي رسولاً كنت مني مرسلاً

وذاتي بآياتي علي استدلت

ومضمونها هو القول بوحدة الوجود ومذهب ابن عربي وابن سبعين وأمثالهم كما قال:

لها صلاتي بالمقام أقيمها

وأشهد فيها أنها لي صلت

كلانا مصل عابد ساجد إلى

حقيقة الجمع في كل سجدة (1)

وما كان لي صلى سواي فلم تكن

صلاتي لغيري في أداكل ركعة

إلى قوله:

وما زلت إياها وإياي لم تزل

ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت

ومثل هذا كثير والله أعلم.

(1) البيت في ديوانه الذي بين الايدي هكذا:

كلانا مصل ناظر إلى.... حقيقته بالجمع في كل سجدة

ص: 74

وحدثني صاحبنا الفقيه الصوفي أبو الحسن علي بن قرباص أنه دخل على الشيخ قطب الدين بن القسطلاني فوجده يصنف كتاباً فقال: ما هذا؟ فقال هذا في الرد على ابن سبعين وابن الفارض وأبي الحسن الجربي والعفيف التلمساني، وحدثني عن جمال الدين بن واصل وشمس الدين الأصبهاني أنهما كانا ينكران كلام ابن عربي ويبطلانه ويردان عليه وأن الأصبهاني رأى معه كتاباً من كتبه فقال: إن اقتنيت شيئاً من كتبه فلا تجيء إلي، أو ما هذا معناه. وأن ابن واصل لما ذكر كلامه في التفاحة التي انقلبت عن جوار معلم معها فقال: والله الذي لا إله إلا هو يكذب ولقد بر في يمينه.

وحدثني صاحبنا الفاضل أبو بكر بن سالار عن الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد شيخ وقته عن الإمام أبي محمد بن عبد السلام أنهم سألوه عن ابن عربي، لما دخل مصر، فقال: شيخ سوء مقبوح يقول بقدم العالم ولا يحرم فرجاً، وكان تقي الدين يقول: هو صاحب خيال واسع. حدثني بذلك غير واحد من الفقهاء ممن سمع كلام ابن دقيق العيد. وحدثني ابن بحير عن رشيد الدين سعيد وغيره أنه قال: كان يستحل الكذب، هذا أحسن أحواله، وحدثني الشيخ العالم العارف كمال الدين المراغي شيخ زمانه أنه لما قدم وبلغه كلام هؤلاء في التوحيد قال: قرأت على العفيف التلمساني من كلامهم شيئاً فرأيته مخالفاً للكتاب والسنة، فلما ذكرت ذلك له قال القرآن ليس فيه توحيد بل القرآن كله شرك، ومن اتبع القرآن لم يصل إلى التوحيد، قال فقلت له: ما الفرق عندكم بين الزوجة والأجنبية والأخت والكل واحدد؟ قال لا فرق بين ذلك عندنا وإنما هؤلاء المحجوبون اعتقدوه حراماً فقلنا هو حرام عليهم عندهم، وأما عندنا فما ثم حرام.

وحدثني كمال الدين بن المراغي أنه لما تحدث مع التلمساني في هذا المذهب قال: وكنت أقرأ عليه في ذلك فإنهم كانوا قد عظموه عندنا ونحن مشتاقون

ص: 75

إلى معرفة فصوص الحكم فلما صار يشرحه لي قول هذا خلاف القرآن والأحاديث، فقال ارم هذا كله خلف الباب واحضر بقلب صاف حتى تتلقى هذا التوحيد - أو كما قال - ثم خاف أن أشيع ذلك عنه فجاء إلي باكياً وقال استر عني ما سمعته مني.

وحدثني أيضاً كمال الدين أنه اجتمع بالشيخ أبي العباس الشاذلي تلميذ الشيخ أبي الحسن فقال عن التلمساني: هؤلاء كفار هؤلاء يعتقدون أن الصنعة هي الصانع، قال وكنت قد عزمت على أن أدخل الخلوة على يده فقلت أنا لا آخذ عنه هذا وإنما أتعلم منه أدب الخلوة، قال لي: مثلك مثل من يريد أن يتقرب إلى السلطان على يد صاحب الأتون والزبال فإذا كان الزبال هو الذي يقربه إلى السلطان كيف يكون حاله عند السلطان؟ وحدثنا أيضاً قال قال لي قاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد إنما استولت التتار على بلاد المشرق لظهور الفلسفة فيهم وضعف الشريعة، فقلت له ففي بلادكم مذهب هؤلاء الذين يقولون بالاتحاد وهو شر من مذهب الفلاسفة؟ فقال قول هؤلاء لا يقوله عاقل بل كل عاقل يعلم فساد قول هؤلاء - يعني أن فساده ظاهر فلا يذكر هذا فيما يشتبه على العقلاء بخلاف مقالة الفلاسفة فإن فيها شيئاً من المعقول وإن كانت فاسدة.

وحدثني تاج الدين الأنباري الفقيه المصري الفاضل أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول رأيت ابن عربي شيخاً مخضوب اللحية وهو شيخ نجس يكفر بكل كتاب أنزله الله، وكل نبي أرسله الله. وحدثني الشيخ رشيد الدين بن المعلم أنه قال كنت وأنا شاب بدمشق أسمع الناس يقولون عن ابن عربي والخسر وشاهى أن كلاهما زنديق - أو كلاماً هذا معناه - وحدثني عن الشيخ إبراهيم الجعبري أنه حضر ابن الفارض عند الموت وهو ينشد:

إن كان منزلتي في الحب عندكم

ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي

أمنية ظفرت نفسي بها زمناً

واليوم أحسبها أضغاث أحلام

ص: 76

وحدثني الفقيه الفاضل تاج الدين الزنباري أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول رأيت في منامي ابن عربي وابن الفارض وهما شيخان أعميان يمشيان ويتعثران ويقولن كيف الطريق؟ أين الطريق؟ وحدثني شهاب الدين المزي عن شرف الدين بن الشيخ نجم الدين بن الحكيم عن أبيه أنه قال قدمت دمشق فصادفت موت ابن عربي فرأيت جنازته كأنما ذر عليها الرماد فرأيتها لا تشبه جنائز الأولياء - أو قال - فعلمت أن هذا، وعن أبيه عن الشيخ إسماعيل الكوراني أنه كان يقول ابن عربي شيطان، وعنه أنه كان يقول عن الحريري أنه شيطان، وحدثني شهاب الدين عن القاضي شرف الدين الباربلي أن أباه كان ينهاه عن كلام ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين.

فصل

في بعض ما يظهر به كفرهم، وفساد قولهم. وذلك من وجوه (أحدها) أن حقيقة قولهم: أن الله لم يخلق شيئاً ولا ابتدعه ولا برأه ولا صوره، لأنه إذا لم يكن وجود إلا وجوده فمن الممتنع أن يكون خالقاً لوجود نفسه، أو بارئاً لذاته، فإن العلم بذلك من أبين العلوم وأبدهها للعقول أن الشيء لا يخلق نفسه، ولهذا قال سبحانه (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟) فإنهم يعلمون أنهم لم يكونوا مخلوقين من غير خالق، ويعلمون أن الشيء لا يخلق نفسه فتعين أن لهم خالقاً، وعند هؤلاء الكفار الملاحدة الفرعونية أنه ما ثم شيء يكون الرب قد خلقه وبرأه أو أبدعه إلا نفسه المقدسة، ونفسه المقدسة لا تكون مخلوقة مربوبة مصنوعة مبروءة لامتناع ذلك في بدائه العقول، وذلك من أظهر الكفر عند جميع أهل الملل، وأما على رأي صاحب الفصوص فما ثم إلا وجوده والذوات الثابتة في العدم الغنية عنه، ووجوده لا يكون مخلوقاً والذوات غنية عنه فلم يخلق الله شيئاً.

ص: 77

الثاني أن عندهم أن الله ليس رب العالمين ولا مالك الملك أو ليس إلا وجوده وهو لا يكون رب نفسه ولا يكون الملك المملوك هو الملك المالك، وقد صرحوا بهذا الكفر مع تناقضه وقالوا أنه هو ملك الملك، بناء على أن وجوده مفتقر إلى ذوات الأشياء، وذوات الأشياء مفتقرة إلى وجوده، فالأشياء مالكة لوجوده، فهو ملك الملك.

الثالث أن عندهم أن الله لم يرزق أحداً شيئاً، ولا أعطى أحداً شيئاً، ولا رحم أحداً، ولا أحسن إلى أحد، ولا هدى أحداً، ولا أنعم على أحد نعمة، ولا علم أحداً علماً ولا علم أحداً البيان، وعندهم في الجملة لم يصل منه إلى أحد لا خير ولا شر، ولا نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا إضلال أصلاً. وإن هذه الأشياء جميعها عين نفسه ومحض وجوده. فليس هناك غير يصل إليه، ولا أحد سواه ينتفع بها، ولا عبد يكون مرزوقاً أو منصوراً أو مهدياً.

ثم على رأي صاحب الفصوص أن هذه الذوات ثابتة في العدم، والذوات هي أحسنت وأساءت، ونفعت وضرت، وهذا عنده سر القدر. وعلى رأي الباقين ما ثم ذات ثابتة غيره أصلاً، بل هو ذام نفسه بنفسه، ولاعن نفسه بنفسه، وهو المرزوق المضروب المشتوم، وهو الناكح والمنكوح والآكل والمأكول، وقد صرحوا بذلك تصريحاً بيناً.

الرابع أن عندهم أن الله هو الذي يركع ويسجد ويخضع ويعبد ويصوم ويجوع ويقوم وينام. وتصيبه الأمراض والأسقام وتبتليه الأعداء ويصيبه البلاء وتشتد به اللأواء، وقد صرحوا بذلك وصرحوا بأن كل كرب يصيب النفوس فإنه هو الذي يصيبه. وأنه إذا نفس الكرب فإنما يتنفس عنه، ولهذا كره بعض هؤلاء الذين هم من أكفر خلق الله وأعظمهم نفاقاً وإلحاداً وعتواً على الله وعناداً أن يصبر الإنسان على البلاء لأن عندهم هو المصاب المبتلى. وقد صرحوا بأنه

ص: 78

موصوف بكل نقص وعيب فإن ما ثم من يتصف بالنقائض والعيوب غيره. فكل عيب ونقص وكفر وفسوق في العالم فإنه هو المتصف به لا متصف به غيره. كلهم متفقون على هذا في الوجود.

ثم صاحب الفصوص يقول: أن ذلك ثابت في العدم، وغيره يقول ما ثم سوى وجود الحق الذي هو متصف بهذه المعايب والمثالب.

الخامس أن عندهم أن الذين عبدوا اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى والذين عبدوا وداً وسواع ويغوث ويعوق ونسراً. والذين عبدوا الشعرى والنجم والشمس والقمر والذين عبدوا المسيح وعزيراً والملائكة وسائر من عبد الأوثان والأصنام: قوم نوح وعاد وثمود وقوم فرعون وبني إسرائيل وسائر المشركين والعرب ما عبدوا إلا الله. ولا يتصور أن يعبدوا غير الله، وقد صرحوا بذلك في مواضع كثيرة مثل قول صاحب الفصوص الكلمة النوحية:(ومكروا مكراً كباراً) لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، لأنه ما عدم من البداية فيدعي إلى الغاية (ادعوا إلى الله) هنا عدة المكر (على بصيرة) ففيه أن الأمر له كله فأجابوه مكراً كما دعاهم - إلى إن قال - فقالوا في مكرهم (لا تذرون آلهتكم ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً) فإنه إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء فإن الحق في كل معبود وجهاً خاصاً يعرفه من عرفه ويجهله من جهلة في المحمديين (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) أي حكم فالعالم يعلم من عبد وفي أي صورة ظهر حتى عبد وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية. فما عبد غير الله في كل معبود. فالأدنى من تخيل فيه الألوهية. فلولا هذا التخيل ما عبد الحجر ولا غيره. ولهذا قال تعالى (قل سموهم) فلو سموهم لسموهم حجراً وشجراً وكوكباً. ولو قيل من عبدتهم لقالوا إلهاً واحداً كما كانوا يقولون الله ولا الإله، والأعلى ما تخيل بل

ص: 79

قال هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر. فالأدنى صاحب التخيل يقول: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) والأعلى العالم يقول (إنما إلهكم إله واحد فله أسلموا) حيث ظهر (وبشر المخبتين الذين) خبت نار طبيعتهم فقالوا " إلهاً " ولم يقولوا " طبيعة ".

وقال أيضاً في فص الهارونية: ثم قال هارون لموسى (إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل) فتجعلني سبباً في تفريقهم، فإن عبادة العجل فرقت بينهم، وكان فيهم من عبده اتباعاً للسامري وتقليداً له، ومنهم من توقف عن عبادته حتى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك، فخشى هارون أن ينسب ذلك التفريق إليه، فكان موسى أعلم بالأمر من هارون لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن الله قد قضى أن لا يعبد إلا إياه وما حكم الله بشيء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون لما وقع الأمر في إنكاره وعدم اتساعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل يراه عين كل شيء، فكان موسى يربي هارون تربية علم وإن كان أصغر منه في السن، ولذلك لما قال له هارون ما قال رجع إلى السامري فقال (فما خطبك يا سامري) يعني فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل على الاختصاص - وساق الكلام - إلى أن قال - فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن تنفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل كما سلط موسى عليه - حكمة من الله ظاهرة في الوجود ليعبد في كل صورة، وإن ذهبت تلك الصورة فما ذهبت إلا بعدما تلبست عند عابدها بالأولوهية، ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد، إما عبادة تأله، وإما عبادة تسخير، ولا بدل من ذلك لمن عقل، وما عبد شيء من العام إلا بعد التلبيس بالرفعة عند العابد والظهور بالدرجة في قلبه، ولذلك تسمى الحق لنا برفيع الدرجات ولم يقل رفيع الدرجة فكثر الدرجات في عين واحدة فإنه قضى أن لا يعبد إلا إياه في درجات له كثيرة مختلفة أعطت كل درجة مجلى إلهياً عبد فيها وأعظم مجلى عبد فيه وأعلاه الهوى كما قال (أفرأيت من اتخذ إلهه

ص: 80

هواه) فهو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شيء إلا به ولا يعبد هو إلا بذاته. وفيه أقول:

وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى

ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى

ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله كيف تمم في حق من عبد هواء واتخذ إلهاً فقال (وأضله الله على علم) والضلالة الحيرة، وذلك أنه لما رأى هذا العبد ما عبد إلا هواه بانقياد لطاعته فيما يأمر به من عبادة من عبده من الأشخاص، حتى إن عبادة الله كانت عن هوى أيضاً فإنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس هوى وهو الإرادة بمحبة ما عبد الله ولا آثره على غيره، وكذلك كل من عبد صورة من صور العالم واتخذها إلهاً ما اتخذها إلا بالهوى، فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه ثم رأى المعبودات تتنوع في العابدين وكل عابد أمراً ما يكفر من يعبد سواه، والذي عنده أدنى تنبيه لا يحار لاتحاد الهوى بل لا حدية الهوى كما ذكر فإنه عين واحدة في كل عابد (فأضله الله) أي حيره على علم بأن كل عابد ما عبد إلا هواه، ولا استعبده إلا هواه، سواء صادف الأمر المشروع أو لم يصادف، والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه. ولذلك سموه كلهم إله مع اسمه الخاص شجر أو حجر أو حيوان أو إنسان أو كوكب أو ملك هذا اسم الشخصية فيه والألوهية مرتبة تخيل العابد له أنها مرتبة معبوده وهي على الحقيقة مجلى الحق لبصر هذا العابد المعتكف على هذا المعبد في هذا المحلى المختص بحجر ولهذا قال بعض من لم يعرف مقاله جهالة (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) مع تسميتهم إياهم آلهة، كما قالوا (اجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) فما أنكروه بل تعجبوا من ذلك فإنهم وقفوا على كثرة الصور ونسبة الألوهية لها، فجاء الرسول ودعاهم إلى إله واحد يعرف، ولا يشهد أيضاً بشهادتهم أنهم أثبتوه عندهم واعتقدوه في قولهم (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) لعلمهم بأن تلك الصور حجارة، ولذلك قامت الحجة عليهم بقوله (قل سموهم) فما يسمونهم إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم حقيقة. كحجر وخشب وكوكب

ص: 81

وأمثالها، وأما العارفون على ما هو عليه فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور لأن مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت لحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم الذي به سموا مؤمنين، فهم عباد الوقت، مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها وإنما عبدوا الله فيها بحكم سلطان التجلي الذي عرفوه منهم، وجهله المنكر الذي لا علم له بما يتجلى، وستره العارف المكمل من نبي أو رسول أو وارث عنهم، فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصور لما انتزح عنها رسول الوقت اتباعاً للرسول طمعاً في محبة الله إياهم بقوله (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) فدعا إلى إله يصمد إليه ويعلم من حيث الجملة ولا يشهد ولا تدركه الأبصار، بل هو يدرك الأبصار للطفه وسريانه في أعيان الأشياء، فلا تدركه الأبصار كما أنها لا تدرك أرواحها المدبرة أشباحها، وصورها الظاهرة، فهو اللطيف الخبير، والخبرة ذوق، والذوق تجلى والتجلي في الصور، فلا بد منها ولا بد منه، فلا بد أن يعبده من رآه بهواه. إن فهمت هذا.

فتدبر حقيقة ما عليه هؤلاء فإنهم أجمعوا على كل شرك في العالم وعدلوا بالله كل مخلوق وجوزوا أن يعبد كل شيء ومع كونهم يعبدون كل شيء فيقولون ما عبدنا إلا الله، فاجتمع في قولهم أمران: كل شرك، وكل جحود وتعطيل مع ظنهم أنهم ما عبدوا إلا الله، ومعلوم أن هذا خلاف دين المرسلين كلهم وخلاف دين أهل الكتاب كلهم، والملل كلها، بل وخلاف دين المشركين أيضاً وخلاف ما فطر الله عليه عباده مما يعقلونه بقلوبهم ويجدونه في نفوسهم، وهو في غاية الفساد والتناقض والسفسطة والجحود لرب العالمين.

وذلك أنه علم بالاضطرار أن الرسل كانوا يجعلون ما عبده المشركون غير الله، ويجعلون عابده عابداً لغير الله مشركاً بالله عادلاً به جاعلاً له نداً. فإنهم دعوا الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وهذا هو دين الله الذي أنزل به كتبه وأرسل به

ص: 82

رسله وهو الإسلام العام الذي لا يقبل الله من الأولين والآخرين غيره، ولا يغفر لمن تركه بعد بلاغ الرسالة كما قال (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك من يشاء) وهو الفارق بين أهل الجنة وأهل النار والسعداء والأشقياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " من كان آخر كلامه لا إله إلا الله وجبت له الجنة " وقال " من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله وجبت له الجنة " وقال " إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت إلا وجد لها روحاً وهي رأس الدين " وكما قال " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ".

وفضائل هذه الكلمة وحقائقها وموقعها من الدين فوق ما يصفه الواصفون ويعرفه العارفون، وهي حقيقة الأمر كله كما قال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) فأخبر سبحانه أنه يوحي إلى كل رسول بنفي الألوهية عما سواه وإثباتها له وحده. وزعم هؤلاء الملاحدة المشركون أن كل شيء يستحق الألوهية كاستحقاق الله لها، وقال تعالى (واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون؟) وزعم هؤلاء الملاحدة أن كل شيء فإنه إله معبود. فأخبر سبحانه أنه لم يجعل من دون الرحمن آلهة. وقال تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) فأمر الله سبحانه بعبادته واجتناب الطاغوت. وعند هؤلاء: أن الطواغيت جميعها فيها الله أو هي الله ومن عبدها فما عبد إلا الله. وقال تعالى (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم) الآيتين وأمر سبحانه بعبادة الرب الخالق لهذه الآيات. وعند هؤلاء الملاحدة الملاعين هو عين هذه االآيات. ونهى سبحانه أن يجعل الناس له أنداداً وعندهم هذا لا يتصور فإن الأنداد هي عينه فكيف يكون نداً لنفسه؟ والذين عبدوا الأنداد فما عبدوا سواه.

ثم أن هؤلاء الملاحدة احتجوا بتسمية المشركين لما عبدوه إلهاً كما قال

ص: 83

(أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟) واعتقدوا أنهم لما سموهم آلهة كانت تسمية المشركين دليلاً على أن آلهية الله لهم. وهذه الحجة قد ردها الله على المشركين في غير موضع كقوله سبحانه عن هود في مخاطبته للمشركين من قومه (أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) الآية هذا رداً لقولهم (أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا) فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسميتهم إياها آلهة ومعبودين تسمية ابتدعوها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من حجة ولا سلطان، والحكم ليس إلا لله وحده، وقد أمر هو سبحانه أن لا يعبد إلا إياه، فكيف يحتج بقول مشركين لا حجة لهم؟ وقد أبطل الله قولهم؟ وأمر الخلق أن لا يعبدوا إلا إياه دون هذه الأوثان التي سماها المشركون آلهة، وعند الملاحدة عابدو الأوثان ما عبدوا إلا الله.

ثم أن المشركين أنكروا على الرسول حيث جاءهم ليعبدوا الله وحده ويذروا ما كان يعبد آباءهم، فإذا كانوا هم ما زالوا يعبدون الله وحده كما تزعمه الملاحدة، فلم - يدعو إلى ترك ما يعبده آباؤهم هو وغيره من الأنبياء؟ وكذلك قال سبحانه في سورة يوسف عنه (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان - إلى قوله - ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وقال سبحانه (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى - إلى قوله - ولقد جاءهم من ربهم اله وهذه الثلاثة المذكورة في هذه السورة هي الأوثان العظام الكبار التي كان المشركون ينتابونها من أمصارهم، فاللات كانت حذو قديد بالساحل لأهل المدينة، والعزى كانت قريبة من عرفات لأهل مكة، ومناة كانت بالطائف لثقيف، وهذه الثلاثة هي أمصار أرض الحجاز.

أخبر سبحانه أن الأسماء التي سماها المشركون أسماء ابتدعوها لا حقيقة لها، فهم إنما يعبدون أسماء لا مسميات لها، لأنه ليس في المسمى من الألوهية ولا العزة

ص: 84

ولا التقدير شيء، ولم ينزل الله سلطاناً بهذه الأسماء، إن يتبع المشركون إلا ظناً لا يغني من الحق شيئاً في أنها آلهة تنفع وتضر ويتبعوا أهواء أنفسهم. وعند الملاحدة أنهم إذا عبدوا أهواءهم فقد عبدوا الله، وقد قال سبحانه عن إمام الأئمة وخليل الرحمن وخير البرية بعد محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبيه (يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً، يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك) إلى قوله (فتكون للشيطان ولياً) فنهاه وأنكر عليه أن يعبد الأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنه شيئاً.

وعلى زعم هؤلاء الملحدين فما عبدوا غير الله في كل معبود فيكون الله هو الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئاً وهو الذي نهاه عن عبادته وهو الذي أمر بعبادته. وهكذا قال أحذق طواغيتهم الفاجر التلمساني في قصيدة له:

يا عاذلي أنت تنهاني وتأمرني

والوجد أصدق نهاء وأمار

فإن أطعك وأعص الوجد عذرني

عمى عن العيان إلى أوهام أخبار (1)

وعين ما أنت تدعوني إليه إذا

حققته تره المنهي يا جاري

وقد قال أيضاً إبراهيم لأبيه (يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا) وعندهم أن الشيطان مجلى إلهي ينبغي تعظيمه ومن عبده فما عبد غير الله، وليس الشيطان غير الرحمن حتى تعصيه، وقد قال سبحانه (ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) إلى قوله (يعقلون) فنهاهم عن عبادة الشيطان وأمرهم بعبادة الله سبحانه، وعندهم عبادة الشيطان هي عبادته أيضاً، فينبغي أن يعبد الشيطان وجميع الموجودات إنها عينه.

وقال تعالى أيضاً عن إمام الخلائق خليل الرحمن أنه لما (رأى كوكباً قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي، فلما

(1) كذا في الأصل وليحرر

ص: 85

أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون، إن وجهت وجهي) إلى قوله (وهم مهتدون) وقال أيضاً (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براء منكم) إلى قوله (حتى تؤمنوا بالله وحده) وقال تعالى (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني) الآية. وقال تعالى (أفرأيتم ما كنتم تعبدون، أنتم وآباءكم الأقدمون) إلى قوله (إذ نسويكم برب العالمين) وقال تعالى (إذ قال لأبيه وقومه ما تبعدون، قالوا نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين) إلى قوله (قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين) .

فهذا الخليل الذي جعله الله إمام الأئمة الذين يهتدون بأمره من الأنبياء والمرسلين بعده وسائل المؤمنين قال (إنني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً) وعند الملاحدة الذي أشركوه هو عين الحق ليس غيره، فكيف يتبرأ من الله الذي وجه وجهه إليه؟ وأحد الأمرين لازم على أصلهم إما أن يعبده في كل شيء من المظاهر بدون تقيد ولا اختصاص وهو حال المكمل عندهم فلا يتبرأ من شيء، وإما أن يعبده في بعض المظاهر كفعل الناقصين عندهم.

وأما التبرئ منن بعض الموجودات فقد قال: إن قوم نوح لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا من تلك الأوثان، والرسل قد تبرأت من الأوثان فقد تركت الرسل من الحق شيئاً كثيراً وتبرؤوا من الله الذي دعوا الخلق إليه، والمشركون على زعمهم أحسن حالاً من المرسلين، لأن المشركين عبدوه في بعض المظاهر ولم يتبرءوا من سائرها، والرسل يتبرءون منه في عامة المظاهر.

ثم قول إبراهيم (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض) باطل على أصلهم، فإنه لم يفطرها إذ هي ليست غيره، فما أجدرهم بقوله (ألم تر إلى الذين أوتوا

ص: 86

نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) الآية.

ثم قول الخليل (وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون إنكم أشركتم بالله) الآية وهذه حجة الله التي أتاها إبراهيم على قومه بقوله: كيف أخاف ما عبدتموه من دون الله؟ وهي المخلوقات المعبودة من دونه، وعندهم ليست معبودة من دونه، ومن لم يقم بحقها فلم يخف الله، والرسل لم يخافوا الله.

وقول الخليل (إنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به سلطاناً) لم يصح عندهم فإنهم لم يشركوا بالله شيئاً إذ ليس ثم غيره حتى يشركوا به، بل المعبود الذي عبدوه هو الله وأكثر ما فعلوه أنهم عبدوه في بعض المظاهر وليس في هذا أنهم جعلوا غيره شريكاً له في العبادة.

وقوله (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) ورد في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح (لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) " فقد أخبر الله ورسوله أن الشرك ظلم عظيم، وأن الأمن هو لمن آمن بالله ولم يخلط إيمانه بشرك، وعلى زعم هؤلاء الملاحدة فإيمان الذين خلطوا إيمانهم بشرك هو الإيمان الكامل التام، وهو إيمان المحقق العارف عندهم، لأن من آمن بالله في جميع مظاهره وعبده في كل موجود هو أكمل ممن لم يؤمن بالأمر حيث لم يظهر، ولم يعبده إلا من حيث لا يشهد ولا يعرف (1) وعندهم

(1) يعنون بهذا الإيمان بالغيب الذي هو أساس دين الله في القرآن وسائر الكتب الالهية. وهذا عندهم أدنى وأنقص درجات الإيمان بل هو عندهم باطل، إذ لا موجود عندهم غير هذه المظاهر، فاكمل العبادة عبادتهم أو عبادة ما سمي الاله فيها كلها وهو هي، ودون ذلك عبادته في بعضها كعبادة المسيح وغيره من البشر وعبادة العجل والأصنام فكلما كثرت المعبودات كانت العبادة أكمل، ولا يسمى هذا شركا عندهم لان هذه كلها وسائر الموجودات شيء واحد في نفسه متعدد في مظاهره

ص: 87

لا يتصور أن يوجد إلا في المخلوق، فمن لم يعبده في شيء من المخلوقات أصلاً فما عبده في الحقيقة، وإذا أطلقوا أنه عبده فهو لفظ لا معنى له، أي إذا فسروه فيكون بالتخصيص بمعنى أنه خصص بعض المظاهر بالعبادة، وهذا عندهم نقص لا من جهة ما أشركه وعبده، وإنما من جهة ما تركه، فليس عندهم في الشرك ظلم ولا نقص إلا من جهة قلته، وإلا فإذا كان الشرك عاماً كان أكمل وأفضل.

وكذلك أيضاً قول الخليل لقومه (إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله) تبرأ عندهم من الحق الذي ظهر فيهم وفي آلهتهم، وكذلك كفره به ومعاداته لهم كفر بالحق عندهم ومعاداة له.

ثم قوله (حتى تؤمنوا بالله وحده) كلام لا معنى له عندهم، فإنهم كانوا مؤمنين بالله وحده، إذ لا يتصور عندهم غيره، وإنما غايتهم أنهم عبدوه في بعض المظاهر وتركوا بعضها من غير كفر به فيها، وكذلك سائر ما قصه عن إبراهيم من معاداته لما عبده أولئك هو عندهم معاداة لله لأنه ما عبد غير الله كما زعم الملحدون محتجين بقوله (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) قالوا: وما قضى الله شيئاً إلا وقع. وهذا هو الإلحاد في آيات الله، وتحريف الكلم عن مواضعه، والكذب على الله، فإن " قضى " هنا ليست بمعنى القدر والتكوين بإجماع المسلمين بل وبإجماع العقلاء حتى يقال ما قدر الله شيئاً إلا وقع، وإنما هي بمعنى أمر، وما أمر الله به فقد يكون وقد لا يكون. فتدبر هذا التحريف، وكذلك قوله ما حكم الله بشيء إلا وقع كلام مجمل فإن الحكم يكون بمعنى الأمر الديني وهو الأحكام الشرعية كقوله (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام) الآية، وقوله (ومن أحسن من الله حكماً) وقوله (ذلكم حكم الله يحكم بينكم) ويكون الحكم حكماً بالحق والتكوين والعقل كقوله (لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي) وقوله (قل رب احكم بالحق) .

ص: 88

ولهذا كان بعض السلف يقرؤون (ووصى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) وذكروا أنها كذلك في بعض المصاحف، ولهذا قال في سياق الكلام (وبالوالدين إحسانا) الآية وساق أمره ووصاياه إلى أن قال (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلهاً فتلقى في جهنم ملوماً مدحورا) فختم الكلام بمثل ما فتحه به من أمره بالتوحيد ونهيه عن الشرك ليس هو إخباراً أنه ما عبد أحد إلا الله وإن الله قدر ذلك وكونه، وكيف وقد قال (ولا تجعل مع الله إلهاً آخر) ؟ وعندهم ليس في الوجود شيء يجعل إلهاً آخر فأي شيء عبد فهو نفس الإله ليس آخر غيره.

ومثل معاداة إبراهيم والمؤمنين لله على زعمهم حيث عادى العابدين والمعبودين وما عبد غير الله، وما عبد الله غير الله، فهو عين كل عابد وعين كل معبود وقوله تعالى (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) وعلى زعمهم ما لله عدو أصلاً، وأنه ما ثم غير ولا سوى بحيث يتصور أن يكون عدو نفسه أو عدو الذوات التي لا يظهر إلا بها.

السادس أن عندهم أن دعوة العباد إلى الله مكر بهم كما صرح به حيث قال: إن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية.

وقال أيضاً صاحب الفصوص (وبشر المخبتين) الذين خبت نار طبيعتهم فقالوا إلهاً ولم يقولوا طبيعة (وقد أضلوا كثيرا) أي حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب (ولا تزد الظالمين) لأنفسهم المصطفين الذين أورثوا الكتاب فهم أول الثلاثة فقدمه على المقتصد والسابق (إلا ضلالاً) أي إلا حيرة. وفي المحمدي زدني فيك تحيراً (كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا) له فالمحير له الدور والحركة الدورية حول القطب فلا تبرح منه، وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود طالب ما هو فيه، صاحب خيال إليه غايته، فله " من " و " إلى " وما بينهما، وصاحب الحركة الدورية لا بدء له فيلزمه " من " ولا غاية فتحكم عليه " إلى " فله الوجود إلا ثم وهو المؤتى جوامع الكلم ".

ص: 89

وقال بعض شعرائهم:

ما بال عينك لا يقر قرارها

وإلام خطوك لا يني متنقلاً

فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن

إلا إليك إذا بلغت المنزلا

فعندهم الإنسان هو غاية نفسه، وهو معبود نفسه وليس وراءه شيء يعبده أو يقصده، أو يدعوه أو يستجيب له، ولهذا كان قولهم حقيقة قول فرعون.

وكنت أقول لمن أخاطبه أن قولهم هو حقيقة قول فرعون حتى حدثني بعض من خاطبته في ذلك من الثقات العارفين: أن بعض كبرائهم لما دعا هذا المحدث إلى مذهبهم وكشف له حقيقة سرهم قال: فقلت له هذا قول فرعون، قال: نعم، ونحن على قول فرعون، قلت له والحمد لله الذي اعترفوا بهذا، فإنه مع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينه.

وقد جعل صاحب الطريق المستطيل صاحب خيال، ومدح الحركة المستديرة الحائرة، والقرآن يأمر بالصراط المستقيم ويمدحه ويثني على أهله لا على المستدير. ففي أم الكتاب (اهدنا الصراط المستقيم) وقال (وإن هذا صراطي مستقميماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل) وقال (ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً) الآيتين (1) وقال تعالى في موسى وهارون (وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط المستقيم) وقال تعالى (وهذا صراط ربك مستقيماً، قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون) وقال عن إبليس (فيما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم) الآية وقال تعالى (ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين) وهؤلاء الملحدون من أكابر متبعيه، وأنه قعدهم على صراط الله المستقيم فصدهم عنه حتى كفروا بربهم، وآمنوا أن نفوسهم هي معبودهم وإلههم. وقال تعالى في حق خاتم الرسل (وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله) الآية.

وأيضاً فإن الله يقول (وردوا إلى الله مولاهم الحق) وقال تعالى (إن إلينا إيابهم

(1) أي أقرأ الآيتين بعد هذه إذ آخرهما (ولهديناهم صراط مستقيما)

ص: 90

ثم علينا حسابهم) وقال تعالى (إلى الله مرجعكم جميعاً) الآية وقال تعالى (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه) وهؤلاء عندهم ما ثم إلا أنت، وأنت من الآن مردود إلى الله، وما رأيت مردوداً إليه وليس هو شيء غيرك حتى ترد إليه أو ترجع إليه، أو تكدح إليه أو تلاقيه، ولهذا حدثونا أن ابن الفارض لما احتضر أنشد بيتين:

إن كان منزلتي في الحب عندكم

ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي

أمنية ظفرت نفسي بها زمناً

واليوم أحسبها أضغاث أحلام

وذلك أنه كان يتوهم أنه الله، وأنه ما ثم مرد إليه ومرجع إليه غير ما كان عليه، فلما جاءته ملائكة الله تنزع روحه من جسمه، وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، تبين له أن ما كان عليه أضغاث أحلام من الشيطان.

وكذلك حدثني بعض أصحابنا عن بعض من أعرفه وله اتصال بهؤلاء عن الفاجر التلمساني أنه وقت الموت تغير واضطرب، قال: دخلت عليه وقت الموت فوجدته يتأوه، فقلت له: مم تتأوه؟ فقال من خوف الفوت، فقلت سبحان الله، ومثلك يخاف الفوت وأنت تدخل الفقير إلى الخلوة فتوصله إلى الله في ثلاثة أيام؟ فقال ما معناه: زال ذلك كله وما وجدت لذلك حقيقة.

الثامن (1) أن عندهم من يدعي الإلهية من البشر كفرعون والدجال المنتظر، أو ادعيت فيه وهو من أولياء الله نبياً كالمسيح، أو غير نبي كعلي، أو ليس من أولياء الله كالحاكم بمصر وغيرهم، فإنه عند هؤلاء الملاحدة المنافقين يصحح هذه الدعوى، وقد صرح صاحب الفصوص أن هذه الدعوى كدعوى فرعون، وهم كثيراً ما يعظمون فرعون فإنه لم يتقدم لهم رأس في الكفر مثله، ولا يأتي متأخر لهم مثل الدجال الأعور الكذاب، وإذا نافقوا المؤمنين وأظهروا الإيمان قالوا أنه مات مؤمناً وأنه لا يدخل النار، وقالوا

(1) لم يذكر السابع

ص: 91

ليس في القرآن ما يدل على دخوله النار. وأما في حقيقة أمرهم فما زال عندهم عارفاً بالله، بل هو الله، وليس عندهم نار فيها ألم أصلاً كما سنذكره أن شاء الله عنهم، ولكي يتفطن بهذا لكون البدع مظان النفاق، كما أن السنن شعائر الإيمان.

قال صاحب الفصوص في فص الحكم التي في الكلمة الموسوية لما تكلم على قوله (وما رب العالمين)" وهنا سر كبير فإنه أجاب بالفعل لمن سأل عن الحد الذاتي فجعل الحد الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم أو ما ظهر فيه من صور العالم، فكأنه قال له في جواب قوله (وما رب العالمين) قال الذي يظهر فيه صور العالمين من علو وهو السماء وسفل وهو الأرض (إن كنتم موقنين) أو يظهر هو بها، فلما قال فرعون لأصحابه أنه لمجنون كما قلنا في معنى كونه مجنوناً أي لمستور عنه علم ما سألته عنه أو لا يتصور أن يعلم أصلاً، زاد موسى في البيان ليعلم فرعون رتبته في العلم الإلهي لعلمه بأن فرعون يعلم ذلك فقال (رب المشرق والمغرب) فجاء بما يظهر ويستر وهو الظاهر والباطن (وما بينهما) وهو قوله " وهو لكل شيء عليم " (إن كنتم تعقلون) أي إن كنتم أصحاب تقييد فإن العقل للتقييد.

" والجواب الأول جواب الموقنين وهم أهل الكشف والوجود، فقال له (إن كنتم موقنين) أي أهل الكشف ووجود فقد أعلمتكم ما تيقنتموه في كشفكم ووجودكم " فإن لم تكونوا من هذا النصف فقد أجبتكم بالجواب الثاني إن كنتم أهل عقل وتقييد وحصرتم الحق فيما تعطيه أدلة عقولكم، فظهر موسى بالوجهين ليعلم فرعون فضله وصدقه، وعلم موسى أن فرعون لكونه سأل عن ذلك من الماهية فعلم أنه سؤاله ليس على اصطلاح القدماء في السؤال فلذلك أجاب فلو علم منه غير ذلك لخطأ في السؤال، فلما جعل موسى المسؤول عنه عين العالم خاطبه فرعون بهذا اللسان والقوم لا يشعرون فقال له (لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين) والسين من حروف الزوائد، أي لأسترنك فإنك أجبت بما أيدتني به أن أقول مثل

ص: 92

هذا القول فإن قلت ليس بلسان الإشارة: فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي والعين واحدة فكيف فرعت فيقول فرعون إنما فرقت المراتب العين ما تفرقت العين ولا انقسمت في ذاتها، ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل، وأنا أنت بالعين، وأنا غيرك بالرتبة - وساق الكلام إلى أن قال: ولما كان فرعون في منصب الحكم صاحب الوقت وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي لذلك قال (أنا ربكم الأعلى) وإن كان الكل أرباباً بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم، ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لهم لم ينكروه وأقروا له بذلك وقالوا له (فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا) فالدولة لك فصح قوله (أنا ربكم الأعلى) وإن كان عين الحق فالصورة لفرعون فقطع الأيدي والأرجل وصلب بعين حق في صورة باطل لنيل مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل فإن الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها لأن الأعيان الثابتة اقتضتها، فلا تظهر في الوجود إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت إذ لا تبديل لكلمات الله، وليست كلمة الله سوى أعيان الموجودات ".

فصل

ومن أعظم الأصول التي يعتمدها هؤلاء الاتحادية الملاحدة المدعون للتحقيق والعفان ما يأثرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان " وهذه الزيادة وهو قوله " وهو الآن على ما عليه كان " كذب مفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم اتفق أهل العلم بالحديث على أنه موضوع مختلق، وليس هو في شيء من دواوين الحديث، لا كبارها ولا صغارها. ولا رواه أحد من أهل العلم بإسناد لا صحيح ولا ضعيف، ولا بإسناد مجهول، وإنما تكلم بهذه الكلمة بعض متأخري متكلمة الجهمية. فتلقاه هؤلاء الذين وصلوا إلى آخر التجهم

ص: 93

وهو التعطيل والإلحاد، ولكن أولئك قد يقولون: كان الله ولا مكان ولا زمان، وهو الآن على ما عليه كان، فقال هؤلاء: كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، وقد عرف بأن هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أعلم هؤلاء بالإسلام ابن عربي فقال " ما لا بد للمريد منه وكذلك، جاء في السنة " كان الله ولا شيء معه " قال: وزاد العلماء وهو الآن على ما عليه كان، ولم يرجع إليه من خلقه العالم وصف لم يكن عليه ولا عالم موجود، فاعتقد فيه من التنزيه مع وجود العالم ما يعتقده فيه ولا عالم ولا شيء سواه ". وهذا الذي قاله هو قول كثير من أهل القبلة. ولو ثبت على هذا لكان قوله من جنس قول غيره. لكنه متناقض، ولهذا كان مقدم الاتحادية الفاجر التلمساني يرد عليه في مواضع يقرب فيها إلى المسلمين، كما يرد عليه المسلمون المواضع التي خرج فيها إلى الاتحاد، وإنما الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاري ومسلم عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض " وهذه الزيادة الإلحادية، وهو قولهم: وهو الآن على ما عليه كان، قصد بها المتكلمة المتجهمة نفى الصفات التي وصف بها نفسه من استوائه على العرش ونزوله إلى السماء الدنيا، وغير ذلك فقالوا: كان في الأزل ليس مستوياً على العرش، وهو الآن على ما عليه كان، فلا يكون على العرش لما يقتضي ذلك من التحول والتغير، ويجيبهم أهل السنة والإثبات بجوابين.

أحدهما أن المتجدد نسبة إضافية بينه وبين العرش بمنزلة المعية ويسميها ابن عقيل الأحوال، وتجدد النسب والإضافات متفق عليه بين جميع أهل الأرض من المسلمين وغيرهم. إذا لا يقتضي ذلك تغيراً ولا استحالة.

والثاني أن ذلك وإن اقتضى تحولاً من حال إلى حال، ومن شأن إلى شأن، فهو مثل مجيئه وإتيانه ونزوله. وتكليمه لموسى وإتيانه يوم القيامة في صورة ونحو ذلك مما

ص: 94

دلت عليه النصوص. وقال به أكثر أهل السنة في الحديث. وكثير من أهل الكلام وهو لازم لسائر الفرق. وقد ذكرنا نزاع الناس في ذلك في قاعدة الفرق بين الصفات والمخلوقات والصفات الفعلية، وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية فقالوا: وهو الآن على ما عليه كان، ليس معه غيره كما كان في الأزل ولا شيء معه، قالوا: إذ الكائنات ليست غيره ولا سواه، فليس إلا هو، فليس معه شيء آخر لا أزلاً ولا أبداً بل هو عين الموجودات، ونفس الكائنات، وجعلوا المخلوقات المصنوعات هي نفس الخالق البارئ المصور، وهم دائماً يهذون بهذه الكلمة:" وهو الآن على ما عليه كان " وهي أجل عندهم من " قل هو الله أحد " ومن آية الكرسي لما فيها من الدلالة على الاتحاد الذي هو إلحادهم، وهم يعتقدون أنها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وأنها من كلامه ومن أسرار معرفته، وقد بينا أنها كذب مختلق، ولم يروها أحد من أهل العلم ولا في شيء من دواوين الحديث. بل اتفق العارفون بالحديث على أنها موضوعة، ولا تنقل هذه الزيادة عن إمام مشهور في الأمة بالإمامة، وإنما مخرجها ممن يعرف بنوع من التجهم، وتعطيل بعض الصفات، ولفظ الحديث المعروف عند علماء الحديث الذي أخرجه أصحاب الصحيح " كان الله ولا شيء معه، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء " وهذا إنما ينفي وجود المخلوقات من السموات والأرض. وما فيهما من الملائكة والإنس والجن. لا ينفي وجود العرش. ولهذا ذهب كثير من السلف والخلف إلى أن العرش متقدم على القلم واللوح. مستدلين بهذا الحديث وحملوا قوله " أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب. فقال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة " على هذا الخلق المذكور في قوله (وهو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وكان عرشه على الماء) وهذا نظير حديث أبي رزين العقيلي المشهور في كتب المسانيد والسنن أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ فقال

ص: 95

" كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء " فالخلق المذكور في هذا الحديث لم يدخل فيه الغمام، وذكر بعضهم أن هذا هو السحاب المذكور في قوله (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) وفي ذلك آثار معروفة.

والدليل على أن هذا الكلام وهو قولهم " وهو الآن على ما عليه الآن " كلام باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع والاعتبار وجوه.

أحدها أن الله قد أخبر بأنه مع عباده في غير موضع من الكتاب عموماً وخصوصاً مثل قوله (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش وهو معكم أينما كنتم) وقوله (ما يكون من نجوي ثلاثة إلا هو رابعهم - إلى قوله - أينما كانوا) وقوله (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، والله مع الصابرين) في موضعين وقوله (إنني معكما أسمع وأرى، لا تحزن إن الله معنا، وقال الله إني معكم، إن معي ربي سيهديني) وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول " اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا " فلو كان الخلق عموماً وخصوصاً ليسوا غيره ولا هم معه بل ما معه شيء آخر امتنع أن يكون هو مع نفسه وذاته، فإن المعية توجب شيئين كون أحدهما مع الآخر فكما أخبر الله أنه مع هؤلاء امتنع علم بطلان قولهم " هو الآن على ما عليه كان " لا شيء معه. بل هو عين المخلوقات، وأيضاً فإن المعية لا تكون إلا من الطرفين، فإن معناها المقارنة والمصاحبة، فإذا كان أحد الشيئين مع الآخر امتنع ألا يكون الآخر معه، فمن الممتنع أن يكون الله مع خلقه ولا يكون لهم وجود معه ولا حقيقة أصلاً بل هم هو.

الوجه الثاني أن الله قال في كتابه (ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً) وقال تعالى (فلا تدع مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذبين) وقال (ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه)

ص: 96

فنهاه أن يجعل أو يدعو معه إلهاً آخر، ولم ينهه أن يثبت معه مخلوقاً، أو يقول أن معه عبداً مملوكاً أو مربوباً فقيراً، أو معه شيئاً موجوداً خلقه، كما قال:(لا إله إلا هو) ولم يقل لا موجود إلا هو، ولا هو إلا هو، ولا شيء معه إلا هو، بمعنى أنه نفس الموجودات وعينها. وهذا كما قال (إلهكم إله واحد) فأثبت وحدانيته في الألوهية ولم يقل أن الموجودات واحد فهذا التوحيد الذي في كتاب الله هو توحيد الألوهية وهو أن لا تجعل معه ولا تدعو معه إلهاً غيره، فأين هذا من أن يجعل نفس الوجود هو إياه، وأيضاً فنهيه أن يجعل معه أو يدعو معه إلهاً آخر دليل على أن ذلك ممكن كما فعله المشركون الذين دعوا مع الله آلهة أخرى.

فهذه النصوص تدل على أن معه أشياء ليست بآلهة، ولا يجوز أن تجعل آلهة ولا تدعى آلهة، وأيضاً فعند الملحد يجوز أن يعبد كل شيء ويدعى كل شيء إذ لا يتصور أن يعبد غيره فإنه هو الأشياء، فيجوز للإنسان حينئذ أن يدعو كل شيء من الآلهة المعبودة من دون الله، وهو عند الملحد ما دعا معه إلهاً آخر فجعل نفس ما حرمه الله وجعله شركاً جعله توحيداً، والشرك عنده لا يتصور بحال.

الوجه الثالث أن الله لما كان ولا شيء معه لم يكن معه سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر، ولا جن ولا إنس ولا ذوات ولا شجر ولا جنة ولا نار ولا جبال ولا بحار. فإن كان الآن على ما عليه كان، فيجب أن لا يكون معه شيء من هذه الأعيان، وهذا مكابرة للعيان، وكفر بالقرآن والإيمان.

الوجه الرابع أن الله كان ولا شيء معه ثم كتب في الذكر كل شيء كما جاء في الحديث الصحيح فإن كان لا شيء معه فيما بعد فما الفرق بين حال الكتابة وقبلها، وهو عين الكتابة واللوح عند الفراعنة الملاحدة؟

ص: 97

فصل

وزعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته أن فرعون كان مؤمناً وأنه لا يدخل النار، وزعموا أنه ليس في القرآن ما يدل على عذابه بل فيه ما ينفيه كقوله (ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) قالوا فإنما أدخل آله دونه وقوله (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار) قالوا إنما أوردهم ولم يدخلها قالوا ولأنه قد آمن أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، ووضع جبريل الطين في فمه لا يرد إيمان قلبه.

وهذا القول كفر معلوم فساده بالاضطرار من دين الإسلام لم يسبق ابن عربي إليه فيما أعلم أحد من أهل القبلة ولا من اليهود ولا من النصارى بل جميع أهل الملل مطبقون على كفر فرعون. فهذا عند الخاصة والعامة أبين من أن يستدل عليه بدليل، فإنه لم يكفر أحد بالله ويدعي لنفسه الربوبية والإلهية مثل فرعون، ولهذا ثنى الله قصته في القرآن في مواضع فإن القصص هي أمثال مضروبة للدلالة على الإيمان، وليس في الكفار أعظم من كفره، والقرآن قد دل على كفره وعذابه في الآخرة في مواضع.

أحدها قوله تعالى في القصص (فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه أنهم كانوا قوماً فاسقين - إلى قوله - وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين) فأخبر سبحانه أنه أرسله إلى فرعون وقومه، وأخبر أنهم كانوا قوماً فاسقين، وأخبر أنهم (قالوا ما هذا إلا سحر مفترى) وأخبر أن فرعون (قال ما علمت لكم من إله غيري) وأنه أمر باتخاذ الصرح ليطلع إلى إله موسى وأنه يظنه كاذباً، وأخبر أنه استكبر فرعون وجنوده وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله، وأنه أخذ فرعون وجنوده فنبذهم في أليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، وأنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأنه

ص: 98

أتبعهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين.

لهذا نص في أن فرعون من الفاسقين المكذبين لموسى الظالمين الداعين إلى النار الملعونين في الدنيا بعد غرقهم المقبوحين في الدار الآخرة. وهذا نص في أن فرعون بعد غرقه ملعون، وهو في الآخرة مقبوح غير منصور. وهذا إخبار عن غاية العذاب، وهو موافق للموضع الثاني في سورة المؤمن وهو قوله (وحاق بآل فرعون سوء العذاب، النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) وهذا إخبار عن فرعون وقومه أنه حاق بهم سوء العذاب في البرزخ وأنهم في القيامة يدخلون أشد العذاب، وهذه الآية إحدى ما استدل به العلماء على عذاب البرزخ.

وإنما دخلت الشبهة على هؤلاء الجهال لما سمعوا آل فرعون فظنوا أن فرعون يخرج منهم. وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، بل فرعون داخل في آل فرعون بلا نزاع بين أهل العلم والقرآن واللغة يتبين ذلك بوجوه.

أحدها أن لفظ آل فلان يدخل فيها ذلك الشخص مثل قوله في الملائكة الذين ضافوا إبراهيم (إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين، إلا آل لوط لمنجوهم أجمعين، إلا امرأته) ثم قال (فلما جاء آل لوط المرسلون قال) يعني لوكاً (إنكم قوم منكرون) وكذلك قوله (إنا أرسلنا عليهم حاصباً إلا آل لوط نجيناهم بسحر) ثم قال بعد ذلك (ولقد جاء آل فرعون النذر، كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر) ومعلوم أن لوطاً داخل في آل لوط في هذه المواضع وكذلك فرعون داخل في آل فرعون المكذبين المأخوذين، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم " قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم " وكذلك قوله " كما باركت على آل إبراهيم " فإبراهيم داخل في ذلك، وكذلك قوله للحسن " إن الصدقة لا تحل لآل محمد ".

وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان القوم إذا أتوا رسول الله

ص: 99

صلى الله عليه وسلم بصدقة يصلي عليهم، فأتى أبي بصدقة فقال " اللهم صل على آل أبي أوفى " وأبو أوفى هو صاحب الصدقة.

ونظير هذا الاسم أهل البيت اسماً، فالرجل يدخل في أهل بيته كقول الملائكة (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " سلمان منا أهل البيت " وقوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) وذلك لأن آل الرجل من يتولى أباه ونفسه ممن يؤول إليه، وأهل بيته هم من يأهله وهو من يأهل أهل بيته.

فقد تبين أن الآية التي ظنوا أنها حجة لهم هي حجة عليهم في تعذيب فرعون ما سائر آل فرعون في البرزخ وفي القيامة، ويبين ذلك أن الخطاب في القصة كلها إخبار عن فرعون وقومه. قال تعالى (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب) إلى قوله (قال الذين استكبروا إنا كل فيها أن الله قد حكم بين العباد) فأخبر عقب قوله (ادخلوا آل فرعون أشد العذاب) عن محاجتهم في النار وقول الضعفاء للذين استكبروا وقول المستكبرين للضعفاء (إنا كل فيها) ومعلوم أن فرعون هو رأس المستكبرين، وهو الذي استخف قومه فأطاعوه، ولم يستكبر أحد استكبار فرعون فهو أحق بهذا النعت والحكم من جميع قومه.

الموضع الثاني وهو حجة عليهم لا لهم قوله (فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد، يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس لورد المورود) إلى قوله (بئس الرفد المرفود) أخبر أنه يقدم قومه ولم يقل يسوقهم وأنه أوردهم النار. ومعلوم أن المتقدم إذا أورد المتأخر النار كان هو أول من يردها وإلا لم يكن قادماً بل كان سائقاً. يوضح ذلك أنه قال (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) فعلم أنه وهم يردون النار وأنهم جميعاً معلونون في الدنيا والآخرة. وما أخلق

ص: 100

المحاج عن فرعون أن يكون بهذه المثابة فإن المرء مع من أحب (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) وأيضاً فقد قال تعالى (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس) يقول: هلا آمن قوم فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس. وقال تعالى (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراً في الأرض - إلى قوله - سنة الله التي قد خلت في عباده) فأخبر عن الأمم المكذبين للرسل أنهم آمنوا عند رؤية البأس وأنه لم يك ينفعهم إيمانهم حينئذ، وأن هذه سنة الله الخالية في عباده، وهذا مطابق لما ذكر الله في قوله لفرعون (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) فإن هذا الخطاب هو استفهام إنكار أي الآن تؤمن وقد عصيت قبل؟ فأنكر أن يكون هذا الإيمان نافعاً أو مقبولاً، فمن قال أنه نافع مقبول فقد خالف نص القرآن وخالف سنة الله التي قد خلقت في عباده.

يبين ذلك أنه لو كان إيمانه حينئذ مقبولاً لدفع عنه العذاب كما دفع عن قوم يونس، فإنهم لما قبل إيمانهم متعوا إلى حين، فإن الإغراق هو عذاب على كفره فإذا لم يك كافراً لم يستحق عذاباً. وقوله بعد هذا (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) فوجب أن يعتبر به من خلفه، ولو كان إنما مات مؤمناً لم يكن المؤمن مما يعتبر بإهلاكه وإغراقه. وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره ابن مسعود بقتل أبي جهل قال " هذا فرعون هذه الأمة " فضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل في رأس الكفار المكذبين له برأس الكفار المكذبين لموسى. فهذا يبين أنه هو الغاية في الكفر فكيف يكون قد مات مؤمناً؟ ومعلوم أن من مات مؤمناً لا يجوز أن يوسم بالكفر ولا يوصف لأن الإسلام يهدم ما كان قبله، وفي مسند أحمد وإسحاق وصحيح ابن أبي حاتم عن عوف بن مالك عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة " يأتي مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف " هذا آخر ما وجد من هذه الرسالة

ص: 101

عرش الرحمن

وما ورد فيه من الآيات والأحاديث

وكونه فوق العالم كله، ومعنى التوجه في الدعاء إلى جهة العلو وبطلان ما قيل من أن العرش هو الفلك التاسع عند علماء الهيئة اليونانية تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية قدس سره

ص: 103

بسم الله الرحمن الرحيم سئل شيخنا وسيدنا شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية أعاد الله تعالى من بركته آمين: ما تقول في العرش، هل هو كري أم لا؟ فإذا كان كرياً والله من ورائه محيط بائن عنه، فما فائدة أن العبد يتوجه إلى الله حين دعائه وعبادته فيقصد العلو دون غيره؟ فلا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي، ومع هذا نجد في قلوبنا قصداً بطلب العلو لا يلتفت يمينه ولا يساره، فأخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها، وابسطوا لنا الجواب في ذلك.

أجاب رضي الله تعالى عنه: الحمد لله رب العالمين، الجواب عن هذا بثلاث مقامات:

أحدها أن لقائل أن يقول لم يثبت بدليل يعتمد عليه أن العرش فلك من الأفلاك المستديرة الكرية الشكل لا بدليل شرعي ولا دليل عقلي، وإنما ذكر طائفة من المتأخرين الذين نظروا في علم الهيئة وغيره من أجزاء الفلسفة فرأوا أن الأفلاك تسعة وأن التاسع - وهو الأطلس - محيط بها مستدير كاستدارتها، وهو الذي يحركها الحركة المشرقية، وإن كان لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء ذكر عرش الله وذكر كرسيه وذكر السموات السبع، فقالوا بطريق الظن: أن العرش هو الفلك التاسع، لاعتقادهم أن ليس وراء ذلك التاسع شيء إما مطلقاً وإما أنه ليس وراءه مخلوق، ثم أن منهم من رأى أن التاسع هو الذي يحرك الأفلاك كلها فجعلوه مبدأ الحوادث وزعموا أن الله تعالى يحدث فيه ما يقدره في الأرض أو يحدثه في النفس التي زعموا أنها متعلقة به، أو في العقل الذي زعموا أنه صدر عنهاااا

ص: 104

هذا الفلك، وربما سماه بعضهم الروح، وربما جعل بعضهم ذلك النفس هو اللوح المحفوظ كما جعل العقل هو العلم، وتارة يجعلون اللوح هو العقل الفعال العاشر الذي لفلك القمر والنفس المتعلقة به. وربما جعلوا ذلك بالنسبة إلى الحق كالدماغ بالنسبة إلى الإنسان يقدر فيه ما يفعله قبل أن يكون، إلى غير ذلك من المقالات التي قد شرحناها وبينا فسادها في غير هذا الموضع. ومنهم من يدعي أنه علم ذلك بطريق الكشف والمشاهدة ويكون كاذباً فيما يدعيه، وإنما أخذ ذلك عن هؤلاء المتفلسفة تقليداً لهم أو موافقة لهم على طرقهم الفاسدة، كما فعل أصحاب رسائل أخوان الصفا وأمثالهم.

وقد ينتحل المرء في نفسه ما تقلده عن غيره فيظنه كشفاً كما ينتحل النصر أبي التثليث الذي يعتقده، وقد يرى ذلك في منامه فيظنه كشفاً، وإنما يخيل لما اعتقده (1) وكثير من أرباب الاعتقادات الفاسدة إذا ارتاضوا صقلت الرياضة نفوسهم فتتمثل لهم اعتقاداتهم فيظنونها كشفاً، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أن ما ذكروه من أن العرش هو الفلك التاسع قد يقال أنه ليس لهم عليه دليل لا عقلي ولا شرعي، أما العقلي فإن أئمة الفلسفة مصرحون بأنه لم يقم عندهم دليل على أن الأفلاك هي تسعة فقط، بل يجوز أن تكون أكثر من ذلك، ولكن دلتهم الحركات المختلفة والكسوفات ونحو ذلك ما ذكروه. وما لم يكن لهم دليل على ثبوته فهم لا يعلمون لا ثبوته ولا انتفاءه.

مثال ذلك أنهم علموا أن هذا الكوكب تحت هذا بأن السفلي يكسف العلوي من غير عكس، فاستدلوا بذلك على أنه من فلك فوقه، كما استدلوا بالحركات المختلفة على أفلاك مختلفة، حتى جعلوا في الفلك الواحد عدة أفلاك كفلك التدوير وغيره،

(1) لعل أصله: يخيل إليه ما اعتقده، وأن بعض النصارى يرون في المنام وفي حال تغلب الخيال عند أولى المزاج العصبي في اليقظة السيد المسيح أو السيدة مريم عليهما السلام أو غيرهما من الحواريين ومن دونهم ويسمعون منهم ما يوافق

عقائدهم كما يقع لكثير من المسلمين فيغترون بهذه الخيالات

ص: 105

فأما ما كان موجوداً فوق هذا ولم يكن لهم ما يستدلون به على ثبوته فهم لا يعلمون نفيه ولا إثباته بطريقه. وكذلك قول القائل أن حركة التاسع مبدأ الحوادث خطأ وضلال على أصولهم، فإنهم يقولون أن الثامن له حركة تخصه بما فيه من الثوابت، ولتلك الحركة قطبان غير قطبي التاسع، وكذلك السابع والسادس.

وإذا كان لكل فلك حركة تخصه والحركات المختلفة هي سبب الأشكال الحادثة المختلفة الفلكية، وتلك الأشكال سبب الحوادث السفلية، كانت حركة التاسع جزء السبب كحركته، فالأشكال الحادثة في الفلك كمقارنة الكوكب للكوكب في درجة واحدة ومقابلته له إذا كان بينهما نصف الفلك وهو مائة وثمانون درجة وتثليثه إذا كان بينهما ثلث الفلك مائة وعشرون درجة، وتربيعه له إذا كان بينهما ربعه تسعون درجة، وتسديسه له إذا كان بينهما ستون درجة - وأمثال ذلك من الأشكال - إنما حدثت بحركات مختلفة، وكل حركة ليست عن الأخرى، إذ حركة الثامن التي تخصه ليست عن حركة التاسع وإن كان تابعاً له في الحركة الكلية كالإنسان المتحرك في السفينة إلى خلاف حركتها. وكذلك حركة السابع التي تخصه ليست عن التاسع ولا عن الثامن، وكذلك سائر الأفلاك فإن حركة كل واحد التي تخصه ليست عما فوقه من الأفلاك، فكيف يجوز أن يجعل مبدأ الحوادث كلها مجرد حركة التاسع كما زعمه من ظن أنه العرش؟ كيف والفلك التاسع عندهم بسيط متشابه الأجزاء لا اختلاف فيه أصلاً، فكيف يكون سبباً لأمور مختلفة لا باعتبار القوابل وأسباب أخر، ولكن هم قوم ضالون يجعلونه مع هذا ثلثمائة وستين درجة، ويجعلون لكل درجة من الأثر ما يخالف الأخرى لا باختلاف القوابل، كمن يجيء إلى ماء واحد فيجعل لبعض أجزائه من الأثر ما يخالف الآخر لا بحسب القوابل بل يجعل أحد جزئيه مسخناً والآخر مبرداً، والآخر مسعداً، والآخر مشقياً، وهذا مما يعلمون هم وكل

ص: 106

عاقل أنه باطل وضلال، وإذا كان هؤلاء ليس عندهم ما ينفي وجود شيء آخر فوق الأفلاك التسعة كان يجزم (1) أن ما أخبرت به الرسل من العرش هو الفلك التاسع رجماً بالغيب وقولاً بلا علم.

هذا كله على تقدير ثبوت الأفلاك التسعة على المشهور عند أهل الهيئة، إذ في ذلك من النزاع والاضطراب وفي أدلة ذلك ما ليس هذا موضعه، وإنما نتكلم على هذا التقدير أيضاً (2) فالأفلاك في أشكالها وإحاطة بعضها ببعض من جنس واحد فنسبة السابع إلى السادس كنسبة السادس إلى الخامس. وإذا كان هناك فلك تاسع فنسبته إلى الثامن كنسبة الثامن إلى السابع.

وأما العرش فالأخبار تدل على مباينته لغيره من المخلوقات وأنه ليس نسبته إلى بعضها كنسبة بعضها إلى بعض، قال الله تعالى (الذين يحملون العرش ومن حوله يسحبون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا واتعبوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم) وقال تعالى (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) فأخبر أن للعرش حملة اليوم ويوم القيامة، وأن حملته ومن حوله يسحبون ويستغفرون للمؤمنين، والمعلوم أن قيام فلك من الأفلاك بقدرة الله تعالى كقيام سائر الأفلاك لا فرق في ذلك بين كرة وكرة، وإن قدر أن لبعضها في نفس الأمر ملائكة تحملها فحكمه حكم نظيره.

(1) لعل أصله: كان جزمه أو جزمهم بأن ما أخبرت الرسل إلخ

(2)

يعني الشيخ (رح) انه يبني ابطال قولهم على تقدير ثبوت الافلاك التسعة جدلا وهي غير ثابتة بدليل صحيح، ونقول إنه قد تبين بعده بما ارتقى إليه علم الهيئة الفلكية بالآلات الحديثة المقربة للابعاد بطلان القول بالافلاك التسعة التي

تخيلها اليونان وتبعهم فيها علماء العرب

ص: 107

قال الله تعالى (وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) فذكر هنا أن الملائكة تحف من حوله، وذكر في موضع آخر أن له حملة، وجمع في موضع ثالث بين حملته ومن حوله، فقال (الذين يحملون العرش ومن حوله) وأيضاً فقد أخبر أن عرشه كان على الماء قبل أن يخلق السماوات والأرض كما قال تعالى (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء) .

وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض " وفي رواية له " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء " وفي رواية لغيره صحيحة " كان الله ولم يكن شيء معه، وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء ".

وثبت في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء " فهذا التقدير بعد وجود العرش وقبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهو سبحانه وتعالى يتمدح بأنه ذو العرش المجيد كقوله سبحانه (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) وقوله تعالى (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق، يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء، لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار) .

وقال سبحانه (وهو الغفور الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد) وقد قرئ المجيد بالرفع صفة لله، وقرئ بالخفض صفة للعرش وقال تعالى (قل من

ص: 108

رب السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون لله قل أفلا تتقون) فوصف العرش بأنه مجيد وأنه عظيم.

وقال تعالى (فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم) فوصفه بأنه كريم أيضاً، وكذلك في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب " لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم " فوصفه في الحديث بأنه عظيم وكريم أيضاً.

فيقول القائل المنازع: إن نسبة الفلك الأعلى إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، فلو كان العرش من جنس الأفلاك لكانت نسبته إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، وهذا لا يوجب خروجه عن الجنس وتخصيصه بالذكر كما لم يوجب ذلك تخصيص سماء دون سماء، وإن كانت العليا بالنسبة إلى السفلى كالفلك على قول هؤلاء.

وإنما امتاز عما دونه بكونه أكبر كما تمتاز السماء العليا على الدنيا بل نسبة السماء إلى الهواء ونسبة الهواء إلى الماء والأرض كنسبة فلك إلى فلك. ومع هذا فلا يخص واحد من هذه الأجناس عما يليه بالذكر ولا بوصفه بالكرم والمجد والعظمة، وقد علم أنه ليس سبباً لذاتها ولا لحركاتها، بل لها حركات تخصها فلا يجوز أن يقال إن حركته هي سبب الحوادث، بل إن كانت حركة الأفلاك سبباً للحوادث فحركات غيره التي تخصه أكثر ولا يلزم من كونه محيطاً بها أن يكون أعظم من مجموعها، إلا إذا كان له من الغلظ ما يقاوم ذلك، وإلا فمن المعلوم أن الغليظ إذا كان متقارباً مجموع الداخل أعظم من المحيط بل قد يكون بقدره أضعافاً، بل الحركات المختلفة التي ليست عن حركته أكثر لكن حركته تشملها كلها.

وقد ثبت في صحيح مسلم عن جويرية بنت الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل----

ص: 109

عليها وكانت تسبح بالحصى إلى الضحى فقال " لقد قلت كلمة تعدل كلمات لو وزنت بما قلتيه لوزنتهن: سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله رضى الله نفسه، سبحان الله مداد كلماته"(1) فهذا يبين أن زنة العرش أثقل الأوزان، وهم يقولون إن الفلك التاسع لا خفيف ولا ثقيل، بل يدل على أنه وحده أثقل ما يمثل به كما أن عدد المخلوقات أكثر ما يمثل به.

وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد لطم وجهه فقال: يا محمد رجل من أصحابك لطم وجهي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ادعوه " فقال " لم لطمت وجهه؟ " فقال يا رسول الله إني مررت بالسوق وهو يقول: والذي اصطفى موسى على البشر، فقالت يا خبيث وعلى محمد؟ فأخذتني غضبة فلطمته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقته " فهذا فيه بيان أن للعرش قوائم وجاء ذكر القائمة بلفظ الساق والأفلاك متشابهة في هذا الباب.

وقد أخرجا في الصحيحين عن جابر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول " اهتز

(1) لهذا الحديث في مسلم وكذا في السنن لفظان عن جويرية (رض) أحدهما أن النبي (ص) خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة فقال"مازلت على الحال التي فارقتك عليها؟ قالت نعم. قال

النبي (ص) لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله بحمد، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته " واللفظ الآخر أنه قال " سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله

زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته " وليس في الرواية أنها كانت تسبح بالحصى ولعله قد ثبت عنها في رواية أخرى كما ثبت عن صفية (رض) والحديث ذكره أبو داود في باب التسبيح بالحصى ولكنه ذكر التسبيح بالحصى عن غيرها

ص: 110

عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ " قال فقال رجل لجابر أن البراء يقول اهتز السرير قال: إنه كان بين هذين الحيين الأوس والخزرج ضغائن. سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول " اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ " ورواه مسلم في صحيحه من حديث أنس أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال - وجنازة سعد موضوعة - " اهتز لها عرش الرحمن " وعندهم أن حركة الفلك التاسع دائمة متشابهة ومن تأول ذلك على أن المراد به استبشار حملة العرش وفرحهم فلا بد له من دليل على ما قال كما ذكر أبو الحسين الطبري وغيره أن سياق الحديث ولفظه ينفي هذا الاحتمال وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها " قالوا: يا رسول الله، أفلا نبشر الناس بذلك؟ قال " إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين بينهما كما بين السماء والأرض. فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة ".

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يا أبا سعيد، من رضي بالله وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وجبت له الجنة " فعجب لها أبو سعيد فقال: أعدها علي يا رسول الله، ففعل قال " وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض " قال وما هي يا رسول الله قال " الجهاد في سبيل الله " وفي صحيح البخاري أن أم الربيع بنت البراء وهي أم حارثة بن سراقة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ألا تحدثني عن حارثة، وكان قتل يوم بدر - أصابه سهم غرب (1) ، فإن كان في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء. قال " يا أم حارثة، إنها جنان في الجنة وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى ".

(1) بفتح الراء وسكونها، أي لا يعرف راميه

ص: 111

فهذا قد بين أن العرش فوق الفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها، وأن الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها. والحديث الثاني يوافقه في وصف الدرج المائة، والثالث يوافقه في أن الفردوس أعلاها.

وإذا كان العرش فوقه فلقائل أن يقول: إذا كان كذلك كان في هذا من العلو والارتفاع ما لم يعلم بالهيئة، إذ لا يعلم بالحساب أن بين التاسع والأول كما بين السماء والأرض مائة مرة، بل عندهم أن التاسع ملاصق للثامن. فهذا قد بين أن العرش فوق الفردوس الذي هو أوسط الجنة وأعلاها. وفي حديث أبي ذر المشهور قال: قلت يا رسول الله، أيما أنزل عليك أعظم؟ قال " آية الكرسي " ثم قال يا أبا ذر " ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة " والحديث له طرق وقد رواه أبو حاتم بن حبان في صحيحه وأحمد في المسند وغيرهما.

وقد استدل من استدل على أن العرش مقبب بالحديث الذي في سنن أبي داود وغيره عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس وجاع العيال، وهلك المال، فادع الله لنا. فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك. فسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال " ويحك، أتدري ما تقول؟ إن الله لا يستشفع به على أحد من خلقه. شأن الله أعظم من ذلك. إن الله على عرشه، وإن عرشه على سماواته، وسماواته فوق أرضه، لهكذا " وقال بأصابعه مثل القبة. وفي لفظ " وإن عرشه فوق سماواته، وسماواته فوق أرضه لهكذا " وقال بأصابعه مثل القبة (1) وهذا الحديث إن دل على

(1) لهذا الحديث بقية والفاظ مختلفة قال البيهقي بعد ايراده في الأسماء والصفات عن أبي داود: وهذا حديث ينفرد به محمد بن اسحاق بن يسار عن يعقوب بن عتبة، وصاحبا الصحيح لم يحتجا به انما استشهد مسلم بن الحجاج بمحمد بن اسحاق في احاديث معدودة اظنهن خمسة قد رواهن غيره.وذكره البخاري في الشواهد ذكراً من غير رواية، وكان مالك بن انس لا يرضاه، ويحيى بن سعيد القطان لا يروي عنه، ويحيى بن معين يقول ليس هو بحجة، وأحمد بن حنبل يقول يكتب عنه هذه الاحاديث - يعني المغازي ونحوها - فإذا جاء الحلال والحرام أردنا قوما هكذا - يريد أقوى منه - فاذا كان لا يحتج به في

الحلال والحرام فأولى أن لا يحتج به في صفات الله سبحانه. وانما نقموا عليه في روايته عن أهل الكتاب ثم عن ضعفاء الناس وتدليسه اساميهم. فإذا روى عن ثقة وبين سماعه منه فجماعة من الأئمة لم يروا به باسا. وهو انما روى هذا

الحديث عن يعقوب بن عتبة وبعضهم يقول عن عتبة وعن محمد بن جبير ولم يبين سماعه منهما. واختلف عليه في لفظه كما ترى اه فجملة القول أن هذا الحديث لا يصح ولعل الشيخ اورده استيفاء للروايات النافية لأقوال أهل الهيئة

ص: 112

التقبب وكذلك قوله عن الفردوس " إنها أوسط الجنة وأعلاها " مع قوله " وإن سقفها عرش الرحمن " أو " إن فوقها عرش الرحمن " والأوسط لا يكون الأعلى إلا في المستدير، فهذا لا يدل على أنه فلك من الأفلاك، بل إذا قدر أنه فوق الأفلاك كلها أمكن هذا فيه سواء قال القائل أنه محيط بالأفلاك أو قال أنه فوقها. وليس يحيط بها، كما أن وجه الأرض فوق النصف الأعلى من الأرض مثل القبة. ومعلوم أن الفلك مستدير مثل ذلك، لكن لفظ القبة يستلزم استدارة من العلوم لا يستلزم استدارة من جميع الجوانب إلا بدليل منفصل، ولفظ الفلك يستدل به على الاستدارة مطلقاً، فقوله تعالى (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) وقوله تعالى (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) يقتضي أنها في فلك مستديرة مطلقاً كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في فلكة مثل فلكة المغزل. وأما لفظ القبة فإنه لا يعترض هذا المعنى لا بنفي ولا إثبات، لكن يدل على الاستدارة

ص: 113

من العلو كالقبة الموضوعة على الأرض، وقد قال بعضهم أن الأفلاك غير السموات لكن رد عليه غيره هذا القول بأن الله تعالى قال (ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً) فأخبر أنه جعل القمر فيهن، وقد أخبر أنه في الفلك (1) .

وليس هذا موضع بسط الكلام في ذلك وتحقيق الأمر فيه وبيان أن ما علم بالحساب علماً صحيحاً لا ينافي ما جاء به السمع وأن العلوم السمعية الصحيحة لا تنافي معقولاً صحيحاً، إذ قد بسطنا الكلام على هذا وأمثاله في غير هذا الموضع، فإن ذلك يحتاج إليه في هذا ونظائره مما قد أشكل على كثير من الناس حيث يرون ما يقال أنه معلوم بالعقل مخالفاً لما يقال أنه معلوم بالسمع، وأوجب ذلك إن كذبت كل طائفة بما لم تحط بعلمه. حتى آل الأمر بقوم من أهل الكلام إن تكلموا في معارضة الفلاسفة في الأفلاك بكلام ليس معهم به حجة لا من شرع ولا من عقل، وظنوا أن ذلك من نصر الشريعة وكان ما جحدوه معلوماً بالأدلة الشرعية أيضاً.

وأما المتفلسفة وأتباعهم فغايتهم أن يستدلوا بما شاهدوه من الحسيات ولا يعملون ما وراء ذلك، مثل أن يعلموا أن البخار المتصاعد ينعقد سحاباً وأن السحاب إذا اصطك حدث عنه صوت (2) به ونحو ذلك، لكن علمهم بهذا كعلمهم بأن المني يصير

(1) الذي يفهمه أهل اللغة من الفلك هنا أنه مدار الكواكب وعبارة القاموس مدار النجوم قال: ومن كل شيء مستداره ومعظمه، وهذا غير المراد من الفلك عند الهيئة اليونانية فهو عندهم جسم مستدير صلب شفاف لا يقبل الخرق والالتئام، وكل فلك من الأول إلى السابع فيه كوكب من الدراري السبع يدور فيه والثامن للنجوم الثابتة كلها والتاسع أطلس ليس فيه شيء

(2)

يعنون بهذا الصوت الرعد، وهو قول باطل لم يجدوا ما يعللون به صوت الرعد غيره.وأما علماء الكون في هذا العصر فقد ثبت عندهم أن البرق والرعد يحدثان من اشتعال الكهربائية بالتقاء الايجابي منها والسلبي، وبهذا الاشتعال يحدث تفريغ في الهواء يكون له صوت بقدره كما يحدث باطلاق المدفع وهو صوت الرعد والصواعق

ص: 114

في الرحم (جنيناً) لكن ما الموجب للمني المتشابه الأجزاء أن يخلق منه هذه الأعضاء المختلفة والمنافع المختلفة على هذا الترتيب المحكم المتقن الذي فيه من الحكمة والرحمة ما بهر الألباب وكذلك ما الموجب لأن يكون الهواء أو البخار ينعقد سحاباً مقدراً بقدر مخصوص في وقت مخصوص على مكان يختص به وينزل على قوم عند حاجتهم إليه فيسقيهم بقدر الحاجة لا يزيد فيهلكوا ولا ينقص فيعوزوا. وما الموجب لأن يساق إلى الأرض الجرز التي لا تمطر أو تمطر مطراً لا يغنيها كأرض مصر أو كان المطر القليل لا يكفيها والكثير يهدم أبنيتها (1) قال تعالى (أو لم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعاً تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون) .

وكذلك السحاب المتحرك وقد علم أن كل حركة فإما أن تكون قسرية وهي تابعة للقاسر، أو طبيعية، وإنما تكون إذا خرج المطبوع من مركزه فيطلب عوده إليه أو إرادته وهي الأصل، فجميع الحركات تابعة للحركة الإرادية التي تصدر عن ملائكة الله تعالى التي هي المدبرات أمراً والمقسمات أمراً، وغير ذلك مما أخبر الله تعالى به عن الملائكة. وفي المعقول ما يصدق ذلك. فالكلام في هذا وأمثاله له موضع غير هذا.

والمقصود هنا أن نبين أن ما ذكر في السؤال زائل على كل تقدير فيكون الكلام في الجواب مبنياً على حجج علمية لا تقليدية ولا مسلمة، وإذا بينا حصول الجواب على كل تقدير كما سنوضحه لم يضرنا بعد ذلك أن يكون بعض التقديرات هو الواقع وأن كنا نعلم ذلك، لكن تحرير الجواب على تقدير دون تقدير وإثبات ذلك فيه طول لا يحتاج إليه هنا، فإن الجواب إذا كان حاصلاً على كل تقدير كان أحسن وأوجز.

(1) أن كون نزول المطر في كل أرض بقدر حاجة أهلها لا يزيد ولا ينقص غير مسلم والمعلوم بالمشاهدة خلافه فكثيراً ما يزيد فيحدث ضررا عظيما. أو ينقص فتهلك الزروع وتقل الغلال وتحدث المجاعات وقد علم البشر من سنن الله في ذلك

في عصرنا أكثر مما كان يعلم من قبلهم ولا يزالون يجهلون منها أضعاف ما عملوا

ص: 115

المقام الثاني

أن يقال: العرش سواء كان هذا الفلك التاسع، أو جسماً محيطاً بالفلك التاسع، أو كان فوقه من جهة وجه الأرض محيطاً به، أو قيل فيه غير ذلك، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر كما قال تعالى (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض؟ " وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن عبد الله بن عمر: قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يطوي الله السموات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟ " وفي لفظ في الصحيح عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي النبي صلى الله عليه وسلم قال " يأخذ الله سماوته وأرضه بيده ويقول: أنا الملك، ويقبض أصابعه ويبسطها، أنا الملك " حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى أني أقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم وفي لفظ قال " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول يأخذ الجبار سماواته وأرضه - وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها - ويقول أنا الرحمن، أنا الملك، أنا السلام، أنا المؤمن، أنا المهيمن، أنا العزيز، أنا الجبار المتكبر، أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئاً، أنا الذي أعدنها أين الملوك؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ " ويتميل رسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى أني لأقول أساقط

ص: 116

هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والحديث مروي في الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضاً، وفي بعض ألفاظه قال: قرأ على المنبر (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) الآية، قال " مطوية في كفه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة " وفي لفظ " يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده فيجعلها في كفه ثم يقول بها هكذا كما يقول الصبان بالكرة، أنا الله الواحد " وقال ابن عباس " يقبض عليهما فما يرى طرفاهما بيده " وفي لفظ عنه " ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن بيد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم " وهذه الآثار معروفة في كتب الحديث.

وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل يهودي، فقال: يا محمد إن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الملك، قال: فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر (1) ثم قال (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) إلى آخر الآية.

ففي هذه الآية والأحاديث الصحيحة المفسرة لها المستفيضة التي اتفق أهل العلم على صحتها وتلقيها بالقبول ما يبين أن السموات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمة الله تعالى أصغر من أن يكون مع قبضه لها إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا حتى يدحوها كما تدحى الكرة. (2)

(1) قوله تصديقا لقول الحبر قال بعض شراح الصحيحين أن هذه زيادة من الراوي قالها بحسب فهمه، وهي ليست في كل الروايات وانكروا أن يكون (ص) صدق اليهودي بل قالوا أنه أراد الانكار عليه وتلا الآية الدالة على ذلك. وخالفهم آخرون فراجع الأقوال في شرح الحديث من كتاب التوحيد في فتح الباري

(2)

دحا الكرة يدحوها دحرجها

ص: 117

قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون الإمام - نظير مالك - في كلامه المشهور الذي رد فيه على الجهمية ومن خلفها (1) قال: فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقاً وتكلفاً قد استهوته الشياطين في الأرض حيران، فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا، فعمي عن البين بالخفي، فجحد ما سمى البر من نفسه فصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يمثل له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى (وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة) فقال لا يراه أحد يوم القيامة فجحدوا الله أفضل كرامته التي أكرم الله أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونظرته له إياهم (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) وقد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون - إلى أن قال - وإنما جحدوا رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة، لأنه قد عرف إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحداً.

وقال المسلمون: يا رسول الله، هل نرى ربنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هل تضارن (2) في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا لا، قال " فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ " قالوا له، قال " فإنكم ترون ربكم كذلك " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض ".

(1) أي من جاء بعد الجهمية ممن يقول قولهم

(2)

يروي بتشديد الراء وتخفيفها. فالتشديد بمعنى لا تتخالفون ولا تتجادلون في صحة النظر إليه لوضوحه وظهوره. وقال الجوهري: أراد بالمضارة الاجتماع والازدحام عند النظر إليه وأما التخفيف فهو من الضير وهو لغة في الضر

ص: 118

وقال لثابت بن قيس " قد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة " وقال فيما بلغنا عنه " إن الله يضحك من أز لكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم "(1) وقال له رجل من العرب: إن ربنا يضحك؟ قال " نعم " قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً. وفي أشباه لهذا مما لم نحصه. وقال تعالى (وهو السميع البصير، واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا) وقال (ولتصنع على عيني) وقال (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي) وقال (والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) فو الله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه وما تحيط به قبضته الأصغر نظيرها منهم عندهم أن ذلك الذي ألقي في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم. فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه علم ما سواه لا هذا ولا هذا، لا تجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف. انتهى.

وإذا كان كذلك فإذا قدر أن المخلوقات كالكرة فهذا قبضه لها ورميه بها.

وإنما بين لنا من عظمته وصغر المخلوقات بالنسبة إليه ما يعقل نظيره منا.

ثم الذي في القرآن والحديث يبين أنه إن شاء قبضها وفعل بها ما ذكر كما يفعل ذلك يوم القيامة، وإن شاء لم يفعل ذلك، فهو قادر على أن يقبضها ويدحوها كالكرة، وفي ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى، وإن شاء لم يفعل ذلك، وبكل حال فهو مباين لها ليس بمحايث لها.

ومن المعلوم أن الواحد من - ولله المثل الأعلى - إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها فأحاطت بها قبضته، وإن شاء لم يقبضها بل حولها تحته فهو في الحالتين مباين لها، وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات كإحاطة الكرة بما فيها أو قيل

(1) قال في النهاية: هكذا يروي في بعض الطرق. والمعروف " من إلكم" والأول والازل بالفتح الشدة والضيق كأنه أراد من شدة يأسكم وقنوطكم

ص: 119

أنه فوقها وليس محيطاً بها كوجه الأرض الذي نحن عليه بالنسبة إلى جوفها وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها أو غير ذلك فعلى التقديرين يكون العرش فوق المخلوقات والخالق سبحانه وتعالى فوقه، والعبد في توجهه إلى الله يقصد العلو دون التحت.

وتمام هذا ببيان (المقام الثالث) وهو أن يقول لا يخلو إما أن يكون العرش كرياً كالأفلاك ويكون محيطاً بها، وأما أن يكون فوقها وليس هو كرياً، فإن كان الأول فمن المعلوم باتفاق من يعلم هذا أن الأفلاك مستديرة كرية الشكل وأن الجهة العليا هي جهة المحيط وهو المحدب، وأن الجهة السفلى هي المركز (1) وليس للأفلاك إلا جهتان العلو والسفل فقط.

وأما الجهات الست فهي للحيوان فإن له ستة جوانب يؤم جهة فتكون أمامه ويخلف أخرى فتكون خلفه، وجهة تحاذي يمينه وجهة تحاذي شماله، وجهة تحاذي رأسه، وجهة تحاذي رجليه. وليس لهذه الجهات الست في نفسها صفة لازمة، بل هي بحسب النسبة والإضافة، فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا، ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا. لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير، فالمحيط هو العلو والمركز هو السفل، مع أن وجه الأرض

(1) أي لمركز الوسط من الداخل وهو المقعر الذي تكون جوانب المحيط بالنسبة إليه متساوية إذا كان المحيط متساويا كمحيط الفلك عندهم لانه كرة تامة وأما الأرض فهي كرة غير تامة لان في محيطها تسطيحا وانبطاحا من جانبي قطبيها الشمالي والجنوبي فمركزها أقرب إليهما منه إلى سطح الاقاليم الاستوائية وناهيك بما فيها من الجبال، ولكن المركز هو جهة السفل لها من كل جانب والسطح محيطها وهو من جهة العلو من كل جانب، وأما جهة العلو لمن على سطحها كالانسان فهو ما فوق

رأسه من السماء أينما كان

ص: 120

التي وضعها الله للأنام وأرساها بالجبال هو الذي عليه الناس والبهائم والشجر والنبات والجبال والأنهار الجارية.

فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم. ولو قدر أن هناك أحد لكان على ظهر الأرض ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة، ولا من في هذه تحت من في هذه، كما أن الأفلاك محيطة بالمركز وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر، ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي ولا بالعكس، وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء، فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلاً كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة وهو الذي يسمى عرض البلد. فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها وجوانب الفلك المستدير ليس بعضها فوق بعض ولا تحته، فكذلك من يكون على الأرض من الحيوان والنبات لا يقال أنه تحت أولئك، وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان، وهو تحت إضافي، كما لو كانت نملة يمشي تحت سقف فالسقف فوقها وإن كانت رجلاها تحاذيه، وكذلك من علق منكوساً فإنه تحت السماء، وإن كانت رجلاه على السماء، وكذلك قد يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك أن الجانب الآخر تحته. (1)

(1) كل ما قاله شيخ الإسلام في الأرض فهو مبني على كونها كرة كما جزم به علماء الهيئة المتقدمون والمتأخرون ومن اطلع على هذا العلم وفهمه من علماء الإسلام الأعلام. وهذه مسألة قطعية لا ظنية، وصرح بها ابن القيم من علماء الحديث بالتبع لاستاذه المؤلف وللإمام ابن حزم واقتناعا بأدلتها ويدل عليه قوله تعالى (يكور الليل على النهار) الآية فان التكوير هو اللف على الجسم الكري المستدير كتكوير العمامة على الرأس، وكذا قوله تعالى (والأرض بعد ذلك دحاها) فان الدحو في أصل اللغة دحرجة الكرة وما في معناها. ولا يعارضه قوله تعالى (وإذا الأرض سطحت) كما توهم الجلال وغيره لأن وجه الكرة

سطح لها والسطح في اللغة أعم منه في عرف أهل الهندسة وكذلك الخط

ص: 121

وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان ممن يقول أن الأفلاك مستديرة، واستدارة الأفلاك كما أنه قول أهل الهيئة والحساب فهو الذي عليه علماء المسلمين كما ذكره أبو الحسين بن المنادى وأبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم أنه متفق عليه بين علماء المسلمين، وقد قال تعالى (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) قال ابن عباس في فلكة مثل فلكة المغزل، والفلك في اللغة هو المستدير (1) ومنه قولهم: تفلك ثدي الجارية إذا استدار. وكل من جعل الأفلاك مستديرة يعلم أن المحيط هو العالي على المركز في كل جانب. ومن توهم أن من يكون في الفلك من ناحيته يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر فهو متوهم عندهم.

وإذا كان الأمر كذلك فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها وسقفها وهو فوقها مطلقاً فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو لا من جهته الباقية أصلاً.

ومن توجه إلى الفلك التاسع أو الثامن أو غيره من الأفلاك من غير جهة العلو كان جاهلاً باتفاق العقلاء، فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه، وغاية

(1) هذا معناه العام. وأما معناه الخاص بالكواكب فهو مدار الكوكب كما تقدم في حاشية (ص 116) وهو مستدير على كل حال سواء كان كما قال المتقدمون من اليونان والعرب أم كان فضاء فما نقله شيخ الإسلام من اتفاق علماء المسلمين على استدارة الافلاك صحيح على كل حال فان الكواكب كلها مستديرة كرية الشكل وافلاكها التي تدور فيها كذلك، والعالم كله كري الشكل، وكل جرم من أجرامه يسبح دائراً في فلك له مستدير بنظام حسابي مطرد كما قال تعالى (الشمس والقمر بحسبان)

ص: 122

ما يقدر أن يكون كري الشكل والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله (1) فإن السموات السبع في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا.

وأما قول القائل: إذا كان كرياً والله من ورائه محيط به بائن عنه، فما فائدة أن العبد يتوجه إلى الله حين دعائه وعبادته فيقصد العلو دون التحت، فلا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي؟ ومع هذا نجد في قلوبنا قصداً بطلب العلو، لا نلتفت يمنة ولا يسرة فأخبرونا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها؟

فيقال له: هذا السؤال إنما ورد لتوهم المتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض وتحت ما على وجه الأرض من الآدميين والبهائم، وهذا غلط عظيم، فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة لكان تحتها من كل جهة، فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقاً، وهذا قلب للحقائق، إذ الفلك هو فرق الأرض مطلقاً، وأهل الهيئة يقولون: لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا وألقي في الخرق شيء ثقيل كالحجر ونحوه لكان ينتهي إلى المركز، حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر لالتقينا جميعاً في المركز (2) ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجر لالتقت رجلاهما ولم يكن أحدهما تحت الآخر بل كلاهما فوق المركز وكلاهما تحت الفلك كالمشرق والمغرب، فإنه لو قدر أن رجلاً بالمشرق

(1) أما دليل احاطته فقوله عز وجل (والله من ورائهم محيط) وأما قوله: احاطه تليق بجلاله فلنفي التشبيه باحاطة الاجسام بعضها ببعض، على قاعدة السلف التي قررها شيخ الإسلام مرراً وهي الإيمان بالنصوص من غير تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل

(2)

هذا متفق عليه بين المتقدمين والمتأخرين من علماء الفلك ويعللون به جاذبية الثقل فهي تختلف بمدى بعد المحيط عن المركز وهو يختلف في المنطقة الاستوائية عن منطقتي كما اشرنا إليه في حاشية (ص 122)

ص: 123

في السماء أو الأرض، ورجلاً بالمغرب في السماء أو الأرض لم يكن أحدهما تحت الآخر، وسواء كان رأسه أو رجلاه أو بطنه أو ظهره أو جنبه مما يلي السماء أو مما يلي الأرض، وإذا كان مطلوب أحدهما ما فوق الفلك لم يطلبه الآخر إلا من الجهة العليا، لم يطلبه من جهة رجليه أو يمينه أو يساره. لوجهين: أحدهما أن مطلوبه من الجهة العليا أقرب إليه من جميع الجهات، فلو قدر رجل أو ملك يصعد إلى السماء أو إلى ما فوق كان صعوده مما يلي رأسه إذا أمكنه ذلك ولا يقول عاقل أن يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية، ولا أنه يذهب يميناً أو شمالاً أو أماماً أو خلفاً إلى حيث أمكن من الأرض ثم يصعد، لأن أي مكان ذهب إليه كان بمنزله مكانه أو هو دونه، وكان الفلك هناك فوقه، فيكون ذهابه إلى الجهات الخمس تطويلاً وتعباً من غيره فائدة، ولو أن رجلاً أراد أن يخاطب الشمس والقمر فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا، مع أن الشمس والقمر قد تشرق وقد تغرب فتنحرف عن سمت الرأس، فكيف بما هو فوق كل شيء دائماً لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى؟ وكما أن الحركة كحركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق وهو الخط المستقيم، فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد كيف يعدل عن الصراط المستقيم القريب؟ ويعدل إلى طريق منحرف طويل؟ والله فطر عباده على الصحة والاستقامة إلا من اجتالته الشياطين فأخرجته عن فطرته التي فطر عليها.

الوجه الثاني أنه إذا قصد السفل بلا علو كان منتهى قصده المركز، وإن قصده أمامه أو وراءه أو يمينه أو يساره من غير قصد العلو كان منتهى قصده أجزاء الهواء فلا بد له من قصد العلو ضرورة، سواء قصد مع ذلك هذه الجهات أو لم يقصدها، ولو فرض أنه قال: أقصده من اليمين مع العلو، أو من السفل مع العلو كان هذا

ص: 124

بمنزلة من يقول، أريد أن أحج من الغرب فأذهب إلى خراسان (1) ثم أذهب إلى مكة، بل بمنزلة من يقول أصعد إلى الأفلاك فأنزل في الأرض لأصعد إلى الفلك من الناحية الأخرى، فهذا وإن كان ممكناً في المقدار، لكنه يستحيل من جهة امتناع إرادة القاصد له، وهو مخالف للفطرة، فإن القاصد يطلب مقصوده بأقرب طريق لا سيما إذا كان مقصوده معبوده الذي يعبده ويتوكل عليه. وإذا توجه إليه على غير السراط المستقيم كان مسيره منكوساً معكوساً.

وأيضاً فإن هذا الجمع في سيره وقصده بين النفي والإثبات بين أن يتقرب إلى المقصود ويتباعد عنه، ويريده وينفر منه، فإنه إذا توجه إليه من الوجه الذي هو عنه أبعد وأقصى، وعدل عن الوجه الأقرب الأدنى، كان جامعاً بين قصدين متناقضين، فلا يكون قصده له تاماً، إذ القصد التام ينفي نقيضه وضده، وهذا معلوم بالفطرة، فإن الشخص إذا كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم محبة تامة ويقصده أو يحب غيره مما يحب - سواء كانت محبة محمودة أو مذمومة - ومتى كانت المحبة تامة، وطلب المحبوب طلبه من أقرب طريق يصل إليه (2) بخلاف ما إذا كانت المحبة مترددة مثل أن يحب ما يكره محبته في الدين فتبقى شهوته تدعوه إلى قصده وعقله

(1) أي من الشام - حيث كان المؤلف - إلى خرسان، ومعلوم أن مكة في الجهة الجنوبية للشام وخراسان في الجهة الشرقية فالذهاب من الشام غربا إلى خراسان في الشرق ثم إلى مكة ممكن لان الأرض كرة ولكن هذا عمل لا يعمله من لا يريد بطواف أكثر محيط الأرض إلا مكة للحج إلا أن يكون مجنوناً، وإنما يفعله العاقل إذا كانت الرحلة إلى هذه الاقطار مقصودة لذاتها

(2)

قوله طلبه من أقرب طريق إلخ جواب إذا ومتى أي إذا كان يجب ما ذكر ومتى كانت محبته له تامة وطلبه بمقتضاها طلبه من أقرب طريق، وفيه ما ترى من التعقيد

ص: 125

ينهاه عن ذلك فتراه يقصده من بعيد، كما يقول العامة: رجل إلى قدام، ورجل إلى خلف (1) وكذلك إذا كان في دينه نقص وعقله يأمره بقصد المسجد أو الجهاد أو غير ذلك من المقصودات التي تحب في الدين، وتكرهها النفس، فإنه يبقى قاصداً لذلك من طريق بعيد: متباطئاً في السير، وهذا كله معلوم بالفطرة.

وكذلك إذا لم يكن القاصد يريد الذهاب بنفسه، بل يريد خطاب المقصود ودعاءه ونحو ذلك. فإنه يخاطبه من أقرب جهة يسمع دعاءه منها وينال به مقصوده إذا كان القصد تاماً، ولو كان رجلاً في مكان عال، وآخر يناديه لتوجه إليه وناداه ولو حط رأسه في بئر وناداه بحيث يسمع صوته لكان هذا ممكناً، لكن ليس في الفطرة أن يفعل ذلك من يكون قصده إسماعه من غير مصلحة راجحة ولا يفعل نحو ذلك إلا عند ضعف القصد نحوه.

وحديث الأدلاء الذي روي من حديث أبي هريرة وأبي ذر قد رواه الترمذي وغيره من حديث الحسن عن أبي هريرة وهو منقطع، فإن الحسن لم يسمع من أبي هريرة، ولكن يقويه حديث أبي ذر المرفوع، فإن كان ثابتاً فمعناه موافق لهذا (2) فإن قوله " لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله " إنما هو تقدير مفروض: لو وقع الإدلاء لوقع عليه، لكنه لا يمكن أن يدلي أحد على الله شيئاً لأنه عال بالذات، وإذا هبط شيء إلى جهة الأرض وقف في المركز ولم يصعد إلى

(1) مأخوذ من المثل العربي: مالي أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى

(2)

أن شيخ الإسلام يعلم أن الحديث غير ثابت وتقوية الضعيف للضعيف لا يعتد بها في ثبوت حكم شرعي فعدم الاعتداد بها في صفات الله أولى ولا سيما هذه المتشابهات. ولكنه يجيب عن الاشكال فيه بفرض وقوعه وعبر عنه بقوله إن كان

ثابتا لان الأصل في شرط "إن " عدم الوقوع لامتناعه أو لتنزيله منزلة الممتنع كما حققناه في تفسير (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا) من جزء التفسير الأول

ص: 126

الجهة الأخرى لكن بتقدير فرض الإدلاء، لا يكون ما ذكر من الجزاء.

فهكذا ما ذكره السائل إذا قدر أن العبد يقصده من تلك الجهة كان هو سبحانه يسمع كلامه، وإن كان متوجهاً إليه بقلبه، لكن هذا ما يمتنع من الفطرة لأن قصده للشيء التام ينافي قصد ضده. فكما أن الجهة العليا بالذات تنافي الجهة السفلى، فكذلك قصد الأعلى بالذات ينافي قصده من أسفل، فكما أن ما يهبط إلى جوف الأرض يمتنع صعوده إلى تلك الناحية لأنها عالية فترد الهابط بعلوها، كما أن الجهة العليا من عندنا ترد ما يصعد إليها من الثقيل فلا يصعد الثقيل إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من الهبوط، فكذلك ما يهبط من أعلى الأرض إلى أسفلها وهو المركز، لا يصعد من هناك إلى ذلك الوجه إلا برافع يرفعه يدافع به ما في قوته من تلك الناحية، وصعد به إلى الله.

وإنما يسمى هبوطاً باعتبار ما في أذهان المخاطبين أن ما يحاذي أرجلهم يكون هابطاً ويسمى هبوطاً مع تسمية إهباطه إدلاء، وهو إنما يكون إدلاء حقيقياً إلى المركز، ومن هناك إنما يكون مدخلاً للحبل والدلو لا إدلاء له (1) .

لكن الجزاء والشرط مقدران لا محققان، فإنه قال: لو أدلى لهبط، أي لو فرض أن هناك هبوطاً وهو يكون إدلاء وهبوطاً إذا قدر أن السموات تحت الأرض وهذا التقدير منتف ولكن فائدته بيان الإحاطة والعلو من كل جانب.

وهذا المفروض ممتنع في حقنا لا نقدر عليه، فلا يتصور أن يهبط على الله شيء

(1) كذا في الأصل والمدح ولا يظهر معناه هنا والذي يقتضيه المقام أن يقال إن ما يمد أو يدفع من مركز الكرة إلى أي جانب من المحيط يكون مده أو دفعه رفعا وإعلاء له لاادالاء لأن المركز هو الاسفل والمحيط هو الأعلى كما تقدم

ص: 127

لكن الله قادر على أن يخرق من هنا إلى هناك بحبل، ولكن لا يكون في حقه إدلاء فلا يكون في حقه هبوطاً عليه، كما لو خرق بحبل من القطب أو من مشرق الشمس إلى مغربها، وقدرنا أن الحبل مر في وسط الأرض فإن الله قادر على ذلك كله، ولا فرق بالنسبة إليه على هذا التقدير بين أن يخرق من جانب اليمين منا إلى جانب اليسار، أو من جهة أمامنا إلى جهة خلفنا، ومن جهة رؤوسنا إلى جهة أرجلنا إذا مر الحبل بالأرض. فعلى كل تقدير قد خرق بالحبل من جانب المحيط إلى جانبه الآخر مع خرق المركز وتقدير إحاطة قبضته بالسموات والأرض. فالحبل الذي قدر أنه خرق به العالم وصل إليه، ولا يسمى شيء من ذلك بالنسبة إليه لا إدلاء وهبوطاً.

وأما بالنسبة إلينا فإن ما تحت أرجلنا تحت لنا، وما فوق رؤوسنا فوق لنا، وما ندليه من ناحية رؤوسنا إلى ناحية أرجلنا نتخيل أنه هابط (1) فإذا قدر أن أحد أدلى بحبل كان هباطاً على ما هناك، لكن هذا تقدير ممتنع في حقنا.

والمقصود به بيان إحاطة الخالق تعالى كما بين أنه يقبض السموات ويطوي الأرض ونحو ذلك مما فيه بيان إحاطته بالمخلوقات، ولهذا قرأ في تمام هذا الحديث (وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم) .

وهذا كله كلام على تقدير صحته فإن الترمذي لما رواه قال: وفسره بعض أهل العلم بأنه هبط على علم الله.

وبعض الحلولية والاتحادية يظن أن في هذا الحديث ما يدل على قولهم الباطل وهو أنه حال بذاته في كل مكان، أو أن وجوده وجود الأمكنة ونحو ذلك.

والتحقيق أن الحديث لا يدل على شيء من ذلك إن كان ثابتاً، فإن قوله " لو

(1) قوله نتخيل أنه هابط - انما سمي هذا تخيلا لأن الجهات الست المذكورة أمور نسبية لا حقيقة ثابتة في نفسها

ص: 128

دلي بحبل لهبط " يدل على أنه (1) ليس في المدلي ولا في الحبل ولا في الدلو ولا في غير ذلك. وإنما يقتضي أنه من تلك الناحية.

وكذلك تأويله بالعلم تأويل ظاهر الفساد من جنس تأويلات الجهمية. بل تقدير ثبوته يكون دالاً على الإحاطة، والإحاطة قد علم أن الله قادر عليها، وعلم أنها تكون يوم القيامة بالكتاب والسنة (2) فليس في إثباتها في الجملة ما يخالف العقل ولا الشرع، لكن لا نتكلم إلا بما نعلم، وما لم نعلمه أمسكنا عنه، وما كان مقدمة دليله مشكوكاً فيها عند بعض الناس، كان حقه أن يشك فيه حتى يتبين له الحق، وإلا فليسكت عما لا يعلم.

وإذا تبين هذا، فكذلك قصده بقصده إلى تلك الناحية، ولو فرض أنا فعلناه قاصدين له على هذا التقدير لكن قصدنا له بالقصد إلى تلك الجهة ممتنع في حقنا لأن القصد التام الجازم يوجب طلب المقصود بحسب الإمكان.

ولهذا قد بينا في غير هذا الموضع لما تكلمنا على تنازع الناس في النية المجردة عن الفعل هل يعاقب عليها أم لا يعاقب؟ بينا أن الإرادة الجازمة توجب أن يفعل المريد ما يقدر عليه من المراد، ومتى لم يفعل مقدوره لم تكن إرادته جازمة بل يكون هماً " ومن هم بسيئة فلم يفعلها لم تكتب عليه فإن تركها لله كتب له حسنة " ولهذا وقع الفرق بين هم يوسف عليه السلام وهم امرأة العزيز كما قال الإمام أحمد: " الهم همان: هم خطرات، وهم إصرار، فيوسف عليه السلام هم هماً تركه لله

(1) الضمير راجع إلى الله تعالى يعني أنه لو كان تعالى في هذه الأشياء أو لو كان عينها لما صح التعبير الذي بني على أن هنالك حبلا ودلوا وانسانا مدليا للدلو المعلق بالحبل وأن غاية فعله وصول الحبل إلى الله الذي هو غير ما ذكر

(2)

قوله بالكتاب والسنة متعلق بعلم

ص: 129

فأثيب عليه، وتلك همت هم إصرار ففعلت ما قدرت عليه من تحصيل مرادها وإن لم يحصل لها المطلوب ".

والذين قالوا يعاقب بالإرادة احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم " إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار " قالوا يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال " إنه أراد قتل صاحبه " وفي لفظ " إنه كان حريصاً على قتل صاحبه " فهذا أراد إرادة جازمة وفعل ما يقدر عليه وإن لم يدرك مطلوبه، فهو بمنزله امرأة العزيز، فمتى كان القصد جازماً لزم أن يفعل القاصد ما يقدر عليه في حصول المقصود، وإذا كان قادراً على حصول مقصوده بطريق مستقيم امتنع مع القصد التام أن يحصله بطريق معكوس بعيد.

ولهذا امتنع في فطر العباد عند ضرورتهم ودعائهم لله تعالى وتمام قصدهم له أن يتوجهوا إليه إلا توجهاً مستقيماً، فيتوجهون إلى العلو دون سائر الجهات، لأنه الصراط المستقيم القريب، وما سواه فيه من البعد والانحراف والطول ما فيه، فمع القصد التام الذي هو حال الداعي العابد والسائر المضطر يمتنع أن يتوجه إليه إلا إلى العلو، ويمتنع أن يتوجه إليه إلى جهة أخرى، كما يمتنع أن يدلي بحبل يهبط عليه، فهذا هذا والله أعلم.

وأما من جهة الشريعة فإن الرسل صلوات الله عليهم بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتبديل الفطرة وتغييرها. قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه " كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء " أي مجتمع الخلق سوية الأطراف ليس فيها نقص كجدع وغيره " هل ترون فيها من نقص؟ هل تحسون فيها من جدعاء ".

وقال تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) . فجاءت

ص: 130

الشريعة بالعبادة والدعاء بما يوافق الفطرة، بخلاف ما عليه أهل الضلال من المشركين والصابئين المتفلسفة وغيرهم فإنهم غيروا الفطرة في العلم والإرادة جميعاً، وخالفوا العقل والنقل، كما قد بسطناه في غير هذا الموضع.

وقد ثبت في الصحيحين من غير وجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق قبل وجهه فإن الله قبل وجهه، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً، ولكن ليبصق عن يساره أو تحت رجله " وفي رواية أنه أذن أن يبصق في ثوبه.

وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم " أنه ما من أحد إلا سيخلو به ربه " فقال له أبو رزين: كيف يسمعنا يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع؟ فقال " سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر آية من آيات الله كلهم يراه مخلياً به، فالله أكبر " ومن المعلوم أن من توجه إلى القمر وخاطبه إذا قدر أن يخاطبه لا يتوجه إليه إلا بوجهه مع كونه فوقه. ومن الممتنع في الفطرة أن يستدبره ويخاطبه مع قصده التام له وإن كان كل ذلك ممكناً، وإنما يفعل ذلك من ليس مقصوده مخاطبته كما يفعل من ليس مقصوده الخطاب، فإما مع زوال المانع فإنما يتوجه إليه، فكذلك العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه يستقبل ربه وهو فوقه فيدعوه من تلقائه لا من يمينه ولا من شماله، ويدعوه من العلو لا من السفل، كما إذا قدر أنه يخاطب القمر.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال " لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم " واتفق العلماء على أن رفع المصلي بصره إلى السماء منهي عنه، وروى أحمد عن محمد بن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء حتى أنزل الله تعالى (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده.

ص: 131

فهذا مما جاءت به الشريعة تكميلاً للفطرة، لأن الداعي السائل الذي يؤمر بالخشوع - وهو الذل والسكون - لا يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ويسأله، بل يناسب حاله الإطراق وغض البصر أمامه. وليس نهي المصلي عن رفع بصره في الصلاة رداً على أهل الإثبات الذي يقولون أنه على العرش كما يظنه بعض جهال الجهمية، فإن الجهمية عندهم لا فرق بين العرش وقعر البحر فالجميع سواء. ولو كان كذلك لم ينه عن رفع البصر إلى جهة ويؤمر برده إلى أخرى لأن هذه وهذه عند الجهمية سواء.

وأيضاً فلو كان الأمر كذلك لكان النهي عن رفع البصر شاملاً لجميع أحوال العبد. وقد قال تعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء) فليس العبد بمنهي عن رفع بصره مطلقاً، وإنما نهي في الوقت الذي يؤمر فيه بالخشوع لأن خفض البصر من تمام الخشوع، كما قال تعالى (خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث) وقال تعالى (وتراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي) .

وأيضاً فلو كان النهي عن رفع البصر إلى السماء وليس في السماء إله لكان لا فرق بين رفعه إلى السماء ورده إلى جميع الجهات.

ولو كان مقصوده أن ينهى الناس أن يعتقدوا أن الله في السماء أو يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو لبين لهم ذلك كما بين لهم سائر الأحكام، فكيف وليس في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا في قول سلف الأمة حرف واحد يذكر فيه أنه ليس الله فوق العرش، أو أنه ليس فوق السماء، أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا محايث له، ولا مبين له، أو أنه لا يقصد العبد إذا دعاه العلو دون سائر الجهات؟ بل جميع ما يقوله الجهمية من النفي ويزعمون أنه الحق ليس معهم به حرف من كتاب الله ولا سنة رسوله ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة مملوءة بما يدل على نقض قولهم، وهم يقولون أن ظاهر ذلك كفر فنؤول أو نفوض.

ص: 132

فعلى قولهم ليس في الكتاب والسنة وأقوال السلف والأئمة في هذا الباب إلا ما ظاهره كفر، وليس فيها من الإيمان في هذا الباب شيء.

والسلب الذي يزعمون أنه الحق الذي يجب على المؤمن أو خواص المؤمنين اعتقاده عندهم، لم ينطق به رسول ولا نبي ولا أحد من ورثة الأنبياء والمرسلين، والذي نطقت به الأنبياء وورثتهم ليس عندهم هو الحق بل هو مخالف للحق في الظاهر، بل حذاقهم يعلمون (1) أنه مخالف للحق في الظاهر والباطن، لكن هؤلاء منهم من يزعم أن الأنبياء لم يمكنهم أن يخاطبوا الناس إلا بخلاف الحق الباطن فلبسوا أو كذبوا لمصلحة العامة.

فيقال لهم: فهلا نطقوا بالباطن لخواصهم الأذكياء والفضلاء إن كان ما تزعمونه حقاً؟ وقد علم أن خواص الرسل هم على الإثبات أيضاً وأنه لم ينطق بالنفي أحد منهم إلا أن يكذب على أحدهم كما يقال عن عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر كانا يتحدثان وكنت كالزنجي بينهما. وهذا مختلق باتفاق أهل العلم، وكذلك ما نقل عن علي وأهل بيته أن عندهم علماً باطناً يختلف عن الظاهر الذي عند جمهور الأمة.

وقد ثبت في الصحاح وغيرها عن علي رضي الله تعالى عنه أنه لم يكن عندهم عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء ليس عند الناس، ولا كتاب مكتوب إلا ما كان في الصحيفة، وفيها الديات وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر (2) .

ثم أنه من المعلوم أن من جعله الله هادياً مبلغاً بلسان عربي مبين إذا كان

(1) لعلي أصل هذه الكلمة يعتقدون لانه ليس للجهمية علم بذلك بل ظن ولدته نظرياتهم الباطلة التي بين الشيخ بطلانها في عدة مواضع من كتبه

(2)

وتحريم المدينة كمكة. وهذه الصحيفة كتب بها هذه المسائل التي سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم وكانت في سيفه وقد ذكر البخاري حديثه في عدة من كتبه أولها كتاب العلم

ص: 133

إلا يتكلم أبداً قط بما يخالف الحق الباطن الحقيقي فهو إلى الضلال والتدليس أقرب منه إلى الهدى والبيان، وبسط الرد عليهم له موضع غير هذا.

والمقصود أن ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وغيره كله حق يصدق بعضه بعضاً وهو موافق لفطرة الخلائق وما جعل فيهم من العقول الصريحة، وليس العقل الصحيح ولا الفطرة المستقيمة بمعارضة النقل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما يظن تعارضهما من صدق بباطل من المنقول وفهم منه ما لم يدل عليه، أو إذا اعتقد شيئاً ظنه من العقليات وهو من الجهليات، أو من المكشوفات وهو من المكسوفات، إذا كان ذلك معارضاً لمنقول صحيح، وإلا عارض بالعقل الصريح، أو الكشف الصحيح، ما يظنه منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ويكون كذباً عليه، أو ما يظنه لفظاً دالاً على معنى ولا يكون دالاً عليه، كما ذكروه في قوله صلى الله عليه وسلم " الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحة وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه " حيث ظنوا أن هذا وأمثاله محتاج إلى التأويل، وهذا غلط من هم لو كان هذا اللفظ ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا اللفظ صريح في أن الحجر الأسود ليس هو من صفات الله إذ قال هو " يمين الله في الأرض " فتقييده بالأرض يدل على أنه ليس هو يده على الإطلاق فلا يكون اليد الحقيقة. وقوله " فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه " صريح في أن مصافحه ومقبله ليس مصافحاً الله ولا مقبلاً ليمينه لأن المشبه ليس هو المشبه به، وقد أتى بقوله " فكأنما " وهو صريحة في التشبيه. وإذا كان اللفظ صريحاً في أنه جعله بمنزله اليمين لا أنه نفس اليمين، كان من اعتقد أن ظاهره أنه حقيقة اليمين، قائلاً للكذب المبين.

فهذا كله بتقدير أن يكون العرش كري الشكل سواء كان هو الفلك التاسع أو غير الفلك التاسع. وقد تبين أن سطحه هو سقف المخلوقات وهو العالي عليها من جميع الجوانب وأنه لا يجوز أن يكون شيء مما في السماء والأرض فوقه، وأن القاصد إلى ما فوق العرش بهذا التقدير إنما يقصد إلى العلو لا يجوز في الفطرة ولا في الشريعة مع تمام قصده أن يقصد جهة أخرى من جهاته الست، بل هو أيضاً

ص: 134

يستقبله بوجهه مع كونه أعلى منه كما ضربه النبي صلى الله عليه وسلم من المثل بالقمر ولله المثل الأعلى وبين أن مثل هذا إذا جاز في القمر وهو آية من آيات الله فالخالق أعلى وأعظم.

وأما إذا قدر أن العرش ليس كري الشكل بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه، وإنه فوق الأفلاك الكرية كما أن وجه الأرض الموضوع للأنام فوق نصف الأرض الكري، أو غير ذلك من المقادير التي يقدر فيها أن العرض فوق ما سواه وليس كري الشكل، فعلى كل تقدير لا يتوجه إلى الله إلا إلى العلو لا إلى غير ذلك من الجهات.

فقد ظهر أنه على كل تقدير لا يجوز أن يكون التوجه إلى الله إلا إلى العلو مع كونه على عرشه مبايناً لخلقه، وسواء قدر مع ذلك أنه محيط بالمخلوقات كما يحيط بها إذا كانت في قبضته أو قدر مع ذلك أنه فوقها من غير أن يقبضها ويحيط بها فهو على التقديرين يكون فوقها مبايناً لها.

فقد تبين أنه على هذا التقدير في الخالق وهذا التقدير في العرش لا يلزم شيء من المحذور والتناقض، وهذا يزيل كل شبهة. وإنما تنشأ الشبهة من اعتقادين فاسدين (أحدهما) أن يظن أن العرش إذا كان كرياً والله فوقه وجب أن يكون الله كرياً، ثم يعتقد أنه إذا كان كرياً فيصح التوجه إلى ما هو كري كالفلك التاسع من جميع الجهات.

وكل من هذين الاعتقادين خطأ وضلال فإن الله تعالى مع كونه فوق العرش ومع القول بأن العرش كري سواء كان هو التاسع أو غيره لا يجوز أن يظن أنه مشابه للأفلاك في أشكالها، كما لا يجوز أن يظن أنه مشابه لها في أقدارها، ولا في صفاتها (سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً) .

بل قد تبين أنه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك في الفلك وأنها أصغر عنده من الحمصة والفلفلة ونحو ذلك في يد أحدنا، فإذا كانت الحمصة أو الفلفلة بل الدرهم والدينار، أو الكرة التي يلعب بها الصبيان، ونحو ذلك في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك، هل يتصور عاقل إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته، هل يكون الإنسان كالفلك؟ فالله - وله المثل الأعلى - أعظم من أن يظن ذلك به، وإنما يظنه الذين لم يقدروا الله حق قدره (والأرض جميعاً

----

ص: 135

قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون) .

وكذلك اعتقادهم الثاني وهو أن ما كان فلكاً فإنه يصح التوجه إليه من الجهات الست الخطأ باتفاق أهل العقل الذين يعلمون الهيئة وأهل العقل الذين يعلمون أن القصد الجازم يوجب فعل المقصود بحسب الإمكان.

فقد تبين أن كل واحدة من المقدمتين خطأ في العقل والشرع، وأنه لا يجوز أن تتوجه القلوب إليه إلا إلى العلو لا إلى غيره من الجهات على كل تقدير يفرض من التقديرات، سواء كان العرش هو الفلك التاسع أو غيره، وسواء كان محيطاً بالفلك كري الشكل أو كان فوقه من غير أن يكون كرياً، وسواء كان الخالق سبحانه محيطاً بالمخلوقات كما يحيط بها في قبضته أو كان فوقها من جهة العلو منا التي تلي رؤوسنا دون الجهة الأخرى.

فعلى أي تقدير فرض به كان كل من مقدمتي السؤال باطلة وكان الله تعالى إذا دعوناه إنما ندعوه بقصد العلو دون غيره كما فطرنا على ذلك، وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة، والله سبحانه وتعالى أعلم.

تم كتاب العرش

ص: 136

فهرس رسالة

حقيقة مذهب الاتحاديين أو وحدة الوجود

نص السؤال عن حقيقة مذهب الاتحاديين 2

فصل في بيان أن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده 4

" " أن حقيقة قول هؤلاء أن وجود الكائنات هو عين وجود الله 5

المقالة الأولى مذهب ابن عربي – وله أصلان أولهما أن المعدوم شيء ثابت في العدم 6

الأصل الثاني لمذهب ابن عربي أن وجود الاعيان نفس وجود الحق وعينه 17

فصل فيما خالفه فيه صاحبه الصدر الرومي وكونه أعلم منه بالكلام وأقل علماً بالاسلام 18

" وأما التلمساني ونحوه فلا يفرق بين ماهية ووجود 23

" واعلم أن هذه المقالات لا أعرفها لأحد قبل هؤلاء 24

مذهب هؤلاء الاتحادية والرد عليها من وجوه يعلم بها أنهم ليسو مسلمين 26

الوجه الأول أن هذه الحقائق الكونية يمتنع أن تكون عين الحق 27

الوجه الثاني في قولهم أنه تجلى لها وظهر بها فلا تقع العين إلا عليه 29

الوجه الثالث والرابع في كلمة أنا وحقيقة النبوة والروح الاضافي 30

" الخامس في قولهم أن لهذه الحقيقة طرفين طرف إلى الحق وطرف إلى الخلق 31

" السادس في حيرتهم وتناقضهم فيها كالنصارى في الأقانيم 32

" السابع قوله أن العلويات جفنها الفوقاني والسفليات جفنها التحتاني 36

الوجوه:8و9و10 في بطلان هذا التشبيه وأخذهم مسألة النفس الكلية عن الفلاسفة 37

الوجوه 11 في زعمهم أن قولهم هو الحق المتبع وكونه لم يقل به أحد قبلهم 38

وأما ماحكاه عن الذي سماه الشيخ المحقق من أن العالم بمجموعه حدقة عين الله 39

فصل في بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين مذهبه مع بطلانها والرد عليها 46

أدعاؤه مرتبة خاتم الأولياء التي فضلها على مرتبة الأنبياء من بعض الوجوه 63

فصل في بعض ما يظهر به كفرهم 77

" ومن أعظم الأصول التي يعتمدها هؤلاء الاتحادية حديث " كان الله ولا شيء

معه " وهو موضوع بهذا اللفظ الذي يستدلون به على كفرهم 93

" في قولهم بايمان فرعون وتحريفهم ماورد في كفره من الآيات الصريحة 98

ص: 137

فهرس

كتاب عرش الرحمن

استفتاء شيخ الإسلام في العرش وما قيل من كونه هو الفلك التاسع عند أهل الهيئة،

وكيف يتفق ذلك مع صفة العلو لله تعالى والاستواء على العرش وما اتفقت عليه الملة

من أن السماء هي قبلة الدعاء وان الله تعالى لا يتوجه اليه إلا في جهة العلو

(جواب شيخ الإسلام وهو في ثلاثة مقامات)

104 المقام الأول أنه لم يثبت أن العرش هو الفلك التاسع، وأن الحوادث ناشئة

عن حركة الأفلاك

109 الأحاديث في صفة العرش المنافية لذلك كزنته واهتزازه وقوائمه

112 تشبيه العرش بالقبة لا يفيد كونه فلكا

114 ما جهل البشر من سنن الكون وعلومه أكثر مما يعلمون

116 المقام الثاني، العالم العلوي والسفلي في غاية الصغر بالنسبة إلى الخالق تعالى

120 المقام الثالث في الكلام على العرش وكريته وإحاطته

121 كرية الأرض قطعية لا ظنية أسفلها مركزها وأعلاها سطحها

123 كون أعلى الفلك وكل جسم كري محيطه وأسفله مركزه وغلط من توهم

أن نصف الفلك تحت الأرض

126 حديث " لو أدلى أحدكم بحبل إلخ "ومعناه على فرض صحته

131 اقتضاء الفطرة ما تأمر به الشريعة من توجه الداعي لله إلى العلو

132 مخالفة الجهمية للفطرة والشرع في انكار علو الله عز وجل

134 موافقة ما جاءت به الرسل للعقل الصحيح من التوجه إلى الله تعالى في جهة

العلو بغير تشبيه ولا تمثيل ولا حصر

135 ضلال من يشبه الله تعالى من خلقه في علو واحاطته بخلقه وغير ذلك من

صفاته في كتابه وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم

ص: 138