الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد عقد ابن حجر الهتيمي في ((الزواجر)) باباً خاصاً في لبس المرأة ثوباً رقيقاً يصف بشرتها، وأنه من الكبائر، ثم ساق فيه الحديث المتقدم، ثم قال:
((وذِكْرُ هذا من الكبائر ظاهر لما فيه من الوعيد الشديد، ولم أرَ من صرح بذلك. إلا أنه معلوم بالأولى مما مر في تشبههن بالرجال)).
قلت: وتأتي الأحاديث في لعن المتشبهات بالرجال عند الكلام على الشرط السادس.
الشرط الرابع
(أن يكون فضفاضاً غير ضيق فيصف شيئاً من جسمها)
لأن الغرض من الثوب إنما هو رفع الفتنة، ولا يحصل ذلك إلا بالفضفاض الواسع، وأما الضيق فإنه وإن ستر لون البشرة، فإنه يصف حجم جسمها، أو بعضه، ويصوره في أعين الرجال، وفي ذلك من الفساد والدعوة إليه ما لايخفى، فوجب أن يكون واسعاً، وقد قال أُسامة بن زيد:
((كساني رسول الله صلى الله عليه وسلم قبطيةً كثيفة مما أهداها له دحية الكلبي، فكسوتها امرأتي، فقال: ما لك لم تلبس القبطية؟ قلت: كسوتها امرأتي، فقال: مُرها فلتجعل تحتها غلالة، فإني أخاف أن تصف حجم عظامها)) رواه الضياء المقدسي في الأحاديث المختارة وأحمد والبيهقي بسند حسن.
فقد أمر صلى الله عليه وسلم بأن تجعل المرأة تحت القبطية غلالة ـ وهي شعار يلبس تحت الثوب ـ ليمنع بها وصف بدنها، والأمر يفيد الوجوب كما تقرر في الأصول، ولذلك قال الشوكاني في شرح هذا الحديث ما نصه:
((والحديث يدل على أنه يجب على المرأة أن تستر بدنها بثوب لا يصفه، وهذا شرط ساتر العورة، وإنما أمر بالثوب تحته لأن القباطي ثياب رقاق لا تستر البشرة عن رؤية الناظر بل تصفها)).
وهو كما ترى قد حمل الحديث على الثياب الرقيقة الشفافة التي لا تستر لون البشرة، فهو على هذا يصلح أن يورد في الشرط السابق، ولكن هذا الحمل غير متجه عندي، بل هو وارد علىالثياب الكثيفة التي تصف حجم الجسم من ليونتها، ولوكانت غبر رقيقة وشفافة، وذلك واضح من الحديث لأمرين:
الأول: أنه قد صرح فيه بأن القبطية كانت كثيفة، أي: ثخينة غليظة، فمثله كيف يصف البشرة ولا يسترها عن رؤية الناظر؟ ولعل الشوكاني رحمه الله ذهل عن هذا القيد ((كثيفة)) في الحديث، ففسر القبطية بما هو الأصل فيها.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صرح فيه بالمحذور الذي خشيه من هذه القبطية، فقال:
((إني أخاف أن تصف حجم عظامها)).
فهذا نص في أن المحذور إنما هو وصف الحجم لا اللون.
فإن قلت: فإذا كان الأمر كما ذكرت، وكانت القبطية ثخينة، فما فائدة الغلالة؟
قلت: فائدتها دفع ذلك المحذور، لأن الثوب قد يصف الجسم ولو كان ثخيناً، إذا كان من طبيعته الليونة والإنثناء على الجسد، كبعض الثياب الحريرية والجوخ المعروفة في هذا العصر، فأمر صلى الله عليه وسلم
بالشعار من أجل ذلك. والله تعالى أعلم.
وقد أغرب الشافعية فقالوا:
((أما لو ستر اللون ووصف حجم الأعضاء فلا بأس، كما لو لبس سروالاً ضيقاً))! قالوا:
((ويستحب أن تصلي المرأة في قميص سابغ وخمار، وتتخذ جلباباً كثيفاً فوق ثيابها ليتجافى عنها، ولا يتبين حجم أعضائها)) ذكره الرافعي في شرحه.
والقول بالإستحباب فقط ينافي ظاهر الأمر، فإنه للوجوب كما تقدم، وعبارة الإمام الشافعي رضي الله عنه في ((الأم)) قريب مما ذهبنا، فقد قال:
((وإن صلى في قميص يشف عنه لم تجزه الصلاة
…
فإن صلى في قميص واحد يصفه ولم يشف كرهت له، ولا يتبين أن عليه إعادة الصلاة
…
والمرأة في ذلك أشد حالاً من الرجل إذا صلت في درع وخمار يصفها الدرع، وأحب إليَّ أن لا تصلي إلا في جلباب فوق ذلك وتجافيه عنها لئلا يصفها الدرع)).
وقد قالت عائشة رضي الله عنها:
((لا بد للمرأة من ثلاثة أثواب تصلي فيهن: درع وجلباب وخمار، وكانت عائشة تحل إزارها، فتجلبب به)) رواه ابن سعد بإسناد صحيح على شرط مسلم.
وإنما كانت تفعل ذلك لئلا يصفها شيء من ثيابها، وقولها:((لا بد))، دليل على وجوب ذلك، وفي معناه قول ابن عمر رضي الله عنهما:
((إذا صلت المرأة فلتصل في ثيابها كلها: الدرع، والخمار، والملحفة)) رواه ابن أبي شيبة في المصنف بسند صحيح.
وهذا يؤيد ما سبق أن ذهبنا إليه من وجوب الجمع بين الخمار والجلباب على المرأة إذا خرجت.
ومما يحسن إيراده هنا استئناساً، ما روي عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر أن فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم قالت:
((يا أسماء! إني قد استقبحت ما يُصنع بالنساء ـ أي عند الموت ـ أن يطرح على المرأة الثوب فيصفها، فقالت أسماء: يا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! ألا أُريك شيئاً رأيته بالحبشة؟ فدعت بجرائد رطبة، فحنتها، ثم طرحت عليها ثوباً، فقالت فاطمة: ما أحسن هذا وأجمله، تُعرفُ به المرأةُ من الرجل. فإذا مت أنا فاغسليني أنت وعلي، ولا يدخل عليَّ أحدٌ، فلما توفيت غسلها علي وأسماء رضي الله عنهما) رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي.
فانظر إلى فاطمة بضعة النبي صلى الله عليه وسلم كيف استقبحت أن يصف الثوب المرأة وهي ميتة، فلا شك أن وصفه إياها وهي حية أقبح وأقبح، فليتأمل في هذا مسلمات هذا العصر اللاتي يلبسن من هذه الثياب الضيقة التي تصف نهودهن وخصورهن وألياتهن وسوقهن وغير ذلك من أعضائهن، ثم ليستغفرن الله تعالى، وليتبن إليه، وليذكرن قوله صلى الله عليه وسلم:
((الحياءُ والإيمان قُرنا جميعاً، فإذا رُفع أحدهما رُفع الآخر)) رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وهو كما قالا.
وبهذه المناسبة أقول: إن كثيراً من الفتيات المؤمنات يبالغن في ستر أعلى البدن ـ أعني الرأس ـ فيسترن الشعر والنحر، ثم لا يبالين بما دون ذلك فيلبسن الألبسة الضيقة والقصيرة التي لا تتجاوز نصف الساق أو يسترن النصف الآخر بالجوارب اللحمية التي تزيده جمالاً، وقد تصلي بعضهن بهذه الهيئة، فهذا لا يجوز، ويجب عليهن أن يبادرن إلى إتمام الستر كما أمر الله تعالى، أسوة بنساء المهاجرين الأُوَل، حين نزل الأمر بضرب الخُمُر؛ شققن مروطهن فاختمرن بها، ولكننا لا نطالبهن بشق شيء من ثيابهن! وإما بإطالته وتوسيعه حتى يكون ثوباً ساتراً لجميع ما أمرهن الله بستره. ولقد رأينا كثيراً من الفتيات
المغرورات ببعض من يزعمن أنهن من الداعيات! قد جعلن شعاراً لهن تقصير ثيابهن إلى نصف الساق، مع لبس الجوارب التي تحجم السيقان، مع وضع الخمار ـ الإيشارب ـ فقط على رؤسهن؛ دون الجلباب على الخمار كما هو نص القرآن الكريم على ما تقدم بيانه، وهن بذلك لا يشعرن أنهن يحشرن أنفسهن في زمرة من قال الله تعالى فيهم:{وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} ، فإلى المخلصات منهن أوجّه نصيحتي هذه أن لا يؤثرن على اتباع الكتاب والسنة تقليد حزب أو شيخ، بَلْهَ شيخة! والله عز وجل يقول:{اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذّكرون} [سورة الأعراف آية 3].