المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الأعراف مكية، مائتان وست آيات، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وأربع وأربعون - مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد - جـ ١

[نووي الجاوي]

الفصل: ‌ ‌سورة الأعراف مكية، مائتان وست آيات، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وأربع وأربعون

‌سورة الأعراف

مكية، مائتان وست آيات، ثلاثة آلاف وثلاثمائة وأربع وأربعون كلمة، أربعة عشر ألفا وأربعمائة وستة وثلاثون حرفا

المص (1) قيل: هي حروف مقطعة استأثر الله بعلمها وهي سره تعالى. في كتابه العزيز كِتابٌ أي هذا قرآن أُنْزِلَ إِلَيْكَ أي إن الملك انتقل به من العلو إلى أسفل فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي فلا يكن فيك شك من هذا الكتاب في كونه كتابا منزلا إليك من عنده تعالى. أو المعنى لا يكن فيك ضيق صدر من تبليغ هذا الكتاب. مخافة أن تقصر في القيام بحقه أو مخافة أن يكذبوك لِتُنْذِرَ بِهِ أي بهذا الكتاب الكافرين وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) فإن النفوس البشرية على قسمين نفوس جاهلة غريقة في طلب اللذات والشهوات، ونفوس شريفة مشرفة بالأنوار الإلهية فبعثة الرسل في حق القسم الأول تخويف، وفي حق القسم الثاني تنبيه اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي من كتابه وسنة رسوله وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أي من غير ربكم أَوْلِياءَ من الشياطين والكهان فيحملوكم على البدع والأهواء.

وقيل: الضمير للموصول مع حذف المضاف في أولياء أي ولا تتبعوا من دون ما أنزل أباطيل أولياء.

وقرأ مالك بن دينار ولا تبتغوا قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (3) أي تذكرا قليلا أو زمانا قليلا تذكرون وما مزيدة للتوكيد. قرأ ابن عامر يتذكرون بالياء والتاء. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء وتخفيف الذال. والباقون بالتاء وتشديد الذال وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أي كثير من أهل قرية أردنا إهلاكها فَجاءَها أي فجاء أهلها بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي نائمين في الليل كما في قوم لوط أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) أي نائمون في نصف النهار أو مستريحون فيه من غير نوم كما في قوم شعيب. والمعنى جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم أمارة تدلهم على نزول ذلك العذاب فكأنه قيل للكفار: لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ، فإن عذاب الله إذا وقع وقع دفعة من غير سبق أمارة فلا تغتروا بأحوالكم فَما كانَ دَعْواهُمْ أي استغاثتهم بربهم

ص: 361

واعترافهم بالجناية إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا أي عذابنا في الدنيا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فأقروا على أنفسهم بالشرك والإساءة حيث لم يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم وذلك حين لم ينفعهم الاعتراف والندامة، والمختار عند النحويين أن يكون محل أن قالوا رفعا ب «كان» و «دعواهم» نصبا بدليل تذكير كان كقوله تعالى فما كان جواب قومه إِلَّا أَنْ قالُوا وقوله تعالى فكان عاقبتهما أنهما في النار وقوله تعالى وما كان حجتهم إلا أن قالوا فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أي فلنسألن في موقف الحساب الأمم قاطبة قائلين ماذا أجبتم المرسلين وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) قائلين ماذا أجبتم وذلك للرد على الكفار إذا أنكروا التبليغ بقولهم ما جاءنا من بشير ولا نذير. فإذا أثبت الرسل أنهم لم يصدر منهم تقصير ألبتة فيتضاعف إكرام الله تعالى في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التقصير وتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار لما ثبت أن جميع التقصير كان منهم. فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي المرسلين والأمم لما سكتوا عن الجواب بِعِلْمٍ أي فلنخبرنهم بما فعلوا إخبارا ناشئا عن علم منا وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) عنهم في حال من الأحوال فيخفى علينا شيء من أحوالهم وَالْوَزْنُ أي وزن الأعمال يَوْمَئِذٍ أي كائن يوم إذ يسأل الله الأمم والرسل الْحَقُّ أي العدل. أو المعنى والوزن يوم إذ يكون السؤال والقص هو الحق ف «الحق» إما صفة للوزن أو خبر له، و «يومئذ» إما ظرف له أو خبر له فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بسبب ثقل الحسنات في الميزان فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) أي الفائزون بالنجاة والثواب وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بسبب خفة الحسنات في الميزان أو بسبب الأعمال التي لا اعتداد بها في الوزن فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) أي فأولئك الموصوفون بخفة الموازين الذين خسروا أنفسهم بسبب تكذيبهم بآياتنا والفائدة في وضع ذلك الميزان أن يظهر ذلك الرجحان لأهل القيامة، فإن كان ظهور الرجحان في طرف الحسنات ازداد سروره بسبب ظهور فضله وكمال درجته لأهل القيامة، وإن كان بالضد فيزداد حزنه وخوفه في موقف القيامة، ثم اختلفوا في كيفية ذلك الرجحان فبعضهم قال: يظهر هناك نور في رجحان الحسنات، وظلمة في رجحان السيئات. وآخرون قالوا: بل يظهر رجحان في الكفة.

قال العلماء: الناس في الآخرة ثلاث طبقات: متقون لا كبائر لهم، وكفار ومخلطون وهم الذين يأتون الكبائر. فأما المتقون: فإن حسناتهم توضع في الكفة النيّرة، وصغائرهم لا يجعل الله لها وزنا بل تكفر صغائرهم باجتنابهم الكبائر وتثقل الكفة النيرة ويؤمر بهم إلى الجنة ويثاب كل واحد منهم بقدر حسناته، وأما الكافر: فإنه يوضع كفره في الكفة المظلمة ولا توجد له حسنة توضع في الكفة الأخرى فتبقى فارغة، فبأمر الله تعالى بهم إلى النار ويعذب كل واحد منهم بقدر أوزاره، وأما الذين خلطوا فحسناتهم توضع في الكفة النيرة وسيئاتهم في الكفة المظلمة فيكون لكبائرهم ثقل فإن كانت الحسنات أثقل ولو بصؤابة دخل الجنة وإن كانت السيئات أثقل ولو

ص: 362

بصؤابة دخل النار إلا أن يعفو الله، وإن تساويا كان من أصحاب الأعراف هذا إن كانت الكبائر فيما بينه وبين الله وأما إن كان عليه تبعات وكانت له حسنات كثيرة جدا فإنه يؤخذ من حسناته فيرد على المظلوم، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فيحمل على الظالم من أوزار من ظلمه ثم يعذب على الجميع وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أي جعلنا لكم يا بني آدم فيها مكانا وأقدرناكم على التصرف فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أي وجوه المنافع وهي على قسمين ما يحصل بخلق الله تعالى ابتداء مثل خلق الثمار وغيرها، وما يحصل بالاكتساب وكلاهما بفضل الله وتمكينه فيكون الكل إنعاما من الله تعالى وكثرة الأنعام توجب الطاعة قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ (10) تلك النعمة ونعم الله على الإنسان كثيرة فلا إنسان إلا ويشكر الله تعالى في بعض الأوقات على نعمه، وإنما التفاوت في أن بعضهم يكون كثير الشكر وبعضهم يكون قليل الشكر

وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي خلقنا أباكم آدم طينا غير مصوّر ثم صورناه أحسن تصوير وتحسن هذه الكناية لأن آدم أصل البشر ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تعظيم فَسَجَدُوا أي الملائكة بعد الأمر إِلَّا إِبْلِيسَ فإنه أبو الجن كان مفردا مستورا بألوف من الملائكة متصفا بصفاتهم فغلبوا عليه في قوله تعالى للملائكة إلخ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) لآدم قالَ تعالى لإبليس ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أي ما صرفك إلى أن لا تسجد كما قال القاضي: ذكر الله المنع وأراد الداعي فكأنه تعالى قال: ما رعاك إلى أن لا تسجد لآدم لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل على الداعي إليها إِذْ أَمَرْتُكَ والمشهور أن كلمة لا لتأكيد معنى النفي في منعك والاستفهام للتوبيخ ولإظهار كفر إبليس و «إذ» منصوب ب «تسجد» أي ما منعك من السجود في وقت أمري إياك به؟ قالَ إبليس: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أي إنما لم أسجد لآدم لأني خير منه خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ فهي أغلب أجزائي وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) أي وهو أغلب أجزائه فالنار أفضل من الطين لأن النار مشرقة علوية لطيفة يابسة مجاورة لجواهر السموات والطين مظلم سفلى كثيف بعيد عن مجاورة السموات والمخلوق من الأفضل أفضل وقد أخطأ إبليس طريق الصواب لأن النار فيها الخفة والارتفاع والاضطراب، وأما الطين فشأنه الرزانة والحلم والتثبت، وأيضا فالطين سبب للحياة من إنبات النبات والنار سبب لهلاك الأشياء والطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفريقها.

قالَ تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها أي من الجنة وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم أو اخرج من زمرة الملائكة المعززين فَما يَكُونُ لَكَ أي فما ينبغي لك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها أي في الجنة أو في زمرة الملائكة فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) أي من الأذلاء قالَ أَنْظِرْنِي أي لا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) أي آدم وذريته وهو وقت النفخة الثانية وأراد إبليس أن يأخذ ثأره منهم بإغوائهم وأن ينجو من الموت لاستحالته بعد البعث ولأنه قد تمّ عند النفخة الأولى. قالَ تعالى: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) أي من المؤجلين إلى النفخة الأولى فيموت كغيره. قالَ إبليس: فَبِما أَغْوَيْتَنِي

ص: 363

لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ

(16)

أي فبسبب إغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك لأقعدن لآدم وذريته دينك الموصل إلى الجنة وهو دين الإسلام ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ

أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ

أي فأشككهم في صحة البعث والقيامة والحساب وألقي إليهم أن الدنيا قديمة لا تفنى وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي أفترهم عن الحسنات وأقوي دواعيهم في السيئات. ونقل عن شقيق أنه قال: ما من صباح إلا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع فيقول من قدامي: لا تخف فإن الله غفور رحيم. فأقرأ:

وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [طه: 82]، ومن خلفي يخوفني من وقوع أولادي في الفقر. فأقرأ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] ويأتيني بالثناء من قبل يميني.

فأقرأ: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] ويأتيني بالترغيب في الشهوات من قبل شمالي.

فأقرأ: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ [سبأ: 54] . والحاصل أن الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة إلا ويلقيها في القلب.

ويروى أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا: يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع كونه مستوليا عليه من هذه الجهات الأربع، فأوحى الله تعالى إليهم: إنه بقي للإنسان جهتان الفوق والتحت، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع، غفرت له ذنب سبعين سنة وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) أي مطيعين. وإنما قال هذا لأنه رأى منهم أن مبدأ الشر متعدد ومبدأ الخير واحد، وذلك أنه حصل للنفس قوة واحدة تدعو النفس إلى عبادة الله تعالى وطلب السعادات الروحانية وهي العقل، وتسع عشرة قوة تدعوها إلى اللذات الجسمانية والطيبات الشهوانية فخمسة منها هي الحواس الظاهرة، وخمسة أخرى هي الحواس الباطنة، واثنان الشهوة والغضب، وسبعة هي القوى الكامنة وهي: الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولدة. ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكمل من استيلاء القوة الواحدة، فيلزم القطع بأن أكثر الخلق يكونون طالبين لهذه اللذات البدنية معرضين عن معرفة الحق ومحبته قالَ اخْرُجْ مِنْها أي من الجنة ومن صورة الملائكة مَذْؤُماً أي محقورا مَدْحُوراً أي مبعدا من كل خير لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي ولد آدم لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أي منك ومنهم أَجْمَعِينَ (18) ففي اللام ومن في قوله تعالى: لَمَنْ تَبِعَكَ وجهان فالأظهر أن «اللام» لام التوطئة لقسم محذوف و «من» شرطية في محل رفع مبتدأ و «لأملأنّ» جواب القسم المدلول عليه بلام التوطئة، وجواب الشرط محذوف لسد جواب القسم مسده. والوجه الثاني أن اللام لام الابتداء ومن موصولة وتبعك صلتها وهي في محل رفع مبتدأ و «لأملأن» جواب قسم محذوف وذلك القسم وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ، والتقدير للذي تبعك منهم والله لأملأن جهنم منكم والعائد من الجملة القسمية الواقعة خبرا عن المبتدأ متضمن في قوله منكم لأنه لما اجتمع ضمير غيبة وخطاب غلب الخطاب.

ص: 364

وروى عصمة عن عاصم «لمن تبعك» بكسر اللام على أنه حبر لأملأن. والمعنى لمن تبعك هذا الوعيد. وهذه الآية تدل على أن جميع أصحاب البدع والضلالات يدخلون جهنم لأن كلهم متابعون لإبليس والله أعلم. وَيا آدَمُ اسْكُنْ هذه القصة معطوفة على قوله تعالى: للملائكة:

اسْجُدُوا أي وقلنا لآدم: يا آدَمُ اسْكُنْ أو معطوفة على «أخرج» أي وقال: يا آدَمُ اسْكُنْ بعد أن أهبط إبليس وأخرجه من الجنة أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ.

قال ابن إسحاق: خلقت حواء قبل دخول آدم الجنة. والمعنى أي ادخل فيها، وقال ابن عباس وغيره: خلقت في الجنة بعد دخول آدم فيها لأنه لما أسكن الجنة مشى فيها مستوحشا فلما نام خلقت من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليأنس بها والمعنى انزل في الجنة فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما أي فكلا من ثمار الجنة في أي مكان شئتما الأكل فيه وفي أي وقت شئتما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) أي فتصيرا من الضارين لأنفسكما فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أي ففعل إبليس الوسوسة لأجلهما لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي ليظهر لهما ما ستر عنهما بلباس النور أو بثياب الجنة من عورتهما. ف «اللام» إما للعاقبة لأن إبليس لم يقصد بالوسوسة ظهور عورتهما وإنما كان قصده أن يحملهما على المعصية فقط أو للعلة، فظهور العورة كناية عن زوال الجاه فإن غرضه من إلقاء تلك الوسوسة إلى آدم ذهاب منصبه.

وروي أن إبليس بعد ما صار ملعونا مطرودا من الجنة رأى آدم وحواء في طيب عيش ونعمة، ورأى نفسه في مذلة ونقمة فحسدهما- فهو أول حاسد- ثم أراد أن يدخل الجنة ليوسوس لهما فمنعه الخزنة فجلس على باب الجنة ثلاثمائة سنة من سني الدنيا وهي بقدر ثلاث ساعات من ساعات الآخرة فلقي آدم مرارا كثيرة ورغّبه في أكل الشجرة بطرق كثيرة فلأجل المداومة على هذا التمويه أثر كلامه في آدم عليه السلام وَقالَ أي إبليس لآدم وحواء ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ أي عن الأكل منها إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أي إلا كراهة أن تكونا كملكين في عدم الشهوة وفي القدرة على الطيران والتشكل وفي قراءة شاذة «ملكين» بكسر اللام أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) أي الذين لا يموتون ولا يخرجون من الجنة أصلا

وَقاسَمَهُما أي حلف لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) في حلفي لكما فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ أي فخدعهما بزخرف من القول الباطل حتى أكلا قليلا قصدا إلى معرفة طعم ذلك الثمر لغلبة الشهوة لا لكونهما صدقا قول إبليس فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي فلما تناولا من ثمر تلك الشجرة يسيرا لمعرفة طعمه ظهر لكل منهما قبل نفسه وقبل صاحبه ودبره وزال عنهما ثوبهما وزال النور عنهما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي وجعلا يلزقان على عورتهما من ورق التين للاستحياء وَناداهُما رَبُّهُما يا آدم ويا حواء أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أي عن الأكل من ثمر هذه الشجرة وَألم أَقُلْ لَكُما إِنَّ

ص: 365

الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ

(22)

أي ظاهر العداوة حيث أبى السجود، كما حكى الله تعالى هذا القول في سورة طه بقوله: فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ [طه: 117] .

روي أنه تعالى قال لآدم: ألم يكن فيما منحتك من شجر الجنة مندوحة عن هذه الشجرة فقال: بلى وعزتك، ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا. قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدا. فاهبط وعلّم صنعة الحديد وأمر بالحرث فحرث، وسقى وحصد، ودرس وذرى، وعجن وخبز. قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا أي ضررناها بمخالفة أمرك وطاعة عدونا وعدوك من أكل الشجرة التي نهيتنا عن الأكل منها وإنما اعترف آدم بكونه ظالما لأنه ترك الأولى فإن هذا الذنب صدر عنه قبل النبوة بطريق النسيان، ولأن القصد بذلك القول هضم النفس ونهج الطاعة على الوجه الأكمل وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) أي من المغبونين بالعقوبة. قالَ تعالى: اهْبِطُوا يا آدم وحواء وإبليس إلى الأرض فهبط آدم بسرنديب جبل في الهند وحواء بجدة وإبليس بالأبلة بضم الهمزة والموحدة وبتشديد اللام (جبل بقرب البصرة) بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فالعداوة ثابتة بين آدم وإبليس وذرية كل منهما وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي مكان عيش وقبر وَمَتاعٌ أي انتفاع إِلى حِينٍ (24) أي إلى انقضاء آجالكم قالَ تعالى: فِيها أي الأرض تَحْيَوْنَ أي تعيشون مدة حياتكم وَفِيها تَمُوتُونَ وتدفنون وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) إلى البعث للجزاء.

قرأ حمزة والكسائي تخرجون بفتح التاء وضم الراء وكذلك في الروم والزخرف والجاثية.

وقرأ ابن عامر هنا وفي الزخرف كذلك وفي الروم والجاثية بضم التاء وفتح الراء. والباقون بضم التاء في الجميع يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً أي قد خلقنا لكم بأسباب نازلة من السماء لباسين من قطن وغيره لباسا يغطي عوراتكم من العري ولباسا يزينكم فإن الزينة غرض صحيح.

وروي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال في النهار والنساء في الليل ويقولون:

لا نطوف بثياب عصينا الله تعالى فيها. فنزلت هذه الآية تذكيرا ببعض النعم لأجل امتثال أمر الله تعالى بالحذر من قبول وسوسة الشيطان في قوله تعالى: لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ [الأعراف: 27] .

والمقصود من ذكر قصص الأنبياء حصول العبرة لمن يسمعها وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ.

وقرأ نافع وابن عامر والكسائي بنصب «لباس» عطفا على «لباسا» أي وأنزلنا عليكم لباس التقوى وهو الإيمان كما قاله قتادة والسدي وابن جريج، أو العمل الصالح كما قاله ابن عباس أو السمت الحسن كما قاله عثمان بن عفان أو خشية الله كما قاله ابن الزبير، أو الحياء كما قاله معبد

ص: 366

والحسن ذلك أي اللباس الثالث خير لصاحبه من اللباسين الأولين لأنه يستر من فضائح الآخرة.

وقرأ الباقون و «لباس التقوى» بالرفع على الابتداء وخبره «ذلك خير» . والمعنى واللباس الناشئ عن التقوى وهو اللباس الأول، أو هو الملبوسات المعدة لأجل إقامة نحو الصلاة ذلك خير لأنه لبس المتواضع ذلِكَ أي إنزال اللباس مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على قدرته وعظيم فضله وعميم رحمته على عباده لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) أي فيعرفون عظيم النعمة في ذلك اللباس يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ أي لا يخرجنكم الشيطان عن طاعتي بفتنته فتمنعوا من دخول الجنة إخراجا مثل إخراجه أبويكم من الجنة بفتنته بأمره لهما بمخالفة أمري فمنعا من سكنى الجنة يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما بغروره وكان اللباس من ثياب الجنة أو من نور لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما أي ليرى آدم سوأة حواء وترى هي سوءة آدم إِنَّهُ أي الشيطان يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ أي أصحابه أو من كان من نسله مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إذا كانوا على صورهم الأصلية لكن قد يكونون مرئيين في بعض الأحيان لبعض الناس دون بعض.

وقال مجاهد: قال إبليس: جعل لنا أربع: نرى ولا نرى، نخرج من تحت الثرى، ويعود شيخنا فتى. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) أي إنا صيرنا الشياطين قرناء للذين لا يؤمنون بمحمد والقرآن مسلطين عليهم وَإِذا فَعَلُوا أي العرب فاحِشَةً كعبادة الأصنام وكشف العورة في الطواف قالُوا جوابا للناهي عنها معللين فعل الفاحشة بأمرين وَجَدْنا عَلَيْها أي على هذه الأشياء آباءَنا فاعتقدنا أنها طاعات واقتدينا بهم فيها وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها فإن أجدادنا إنما كانوا يفعلونها بأمر الله تعالى بها قُلْ لهم يا أكرم الرسل إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فإن عادته تعالى جارية على الأمر بمحاسن الأعمال والحث على نفائس الخصال أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) أي إنكم ما سمعتم كلام الله مشافهة ولا أخذتموه عن الأنبياء لأنكم تنكرون نبوة الأنبياء فكيف تقولون على الله ما لا تعلمون قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي بالتوحيد بلا إله إلا الله وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي واستقبلوا بوجوهكم القبلة عند كل صلاة وَادْعُوهُ أي اعبدوا الله بإتيان أعمال الصلاة مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) أي كما أوجدكم الله بعد العدم يعيدكم بعده أحياء يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أي ثبت الضلالة عليهم في الأزل والجملتان الفعليتان في محل نصب على الحال من فاعل «بدأكم» ، و «فريقا» الثاني منصوب بفعل مقدر موافق في المعنى للمذكور المفسر أي «بدأكم» حال كونه تعالى هاديا فريقا للإيمان ومضلا فريقا.

ويجوز أن تكون الجملتان الفعليتان في محل نصب على النعت «لفريقا وفريقا» ، وهذان على الحال من فاعل «تعودون» ، والعائد على المنعوت محذوف أي فريقا هداهم الله، وفريقا حق

ص: 367

عليهم الضلالة ويؤيد هذا الإعراب قراءة أبي بن كعب «تعودون» فريقين فريقا هدى، وفريقا حق عليهم الضلالة إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فقبلوا ما دعوهم إليه ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل وَيَحْسَبُونَ أي يظن أهل الضلالة أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) بدين الله ودلت هذه الآية على أن كل من شرع في باطل فهو مستحق للذم سواء حسب كونه هدى أو لم يحسب ذلك

يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ أي البسوا ثيابكم التي تستر عوراتكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي عند كل وقت طواف وصلاة وَكُلُوا من اللحم والدسم وَاشْرَبُوا من اللبن وَلا تُسْرِفُوا بالتعدي إلى الحرام أو بتحريم الحلال أو بالإفراط في الطعام إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) أي إنه تعالى لا يرتضي فعلهم.

قال ابن عباس: إن أهل الجاهلية من العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال، بالنهار والنساء بالليل، وكانوا إذا وصلوا إلى مسجد منى طرحوا ثيابهم وأتوا المسجد عراة. وقالوا: لا نطوف في ثياب أصبنا فيها الذنوب، ومنهم من يقول نفعل ذلك تفاؤلا حتى نتعرى عن الذنوب كما تعرينا عن الثياب، وكانت المرأة منهم تتخذ سترا تعلقه على حقويها لتستتر به عن قريش فإنهم كانوا لا يفعلون ذلك، وكانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم من الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون لحما ولا دسما يعظمون بذلك حجهم. فقال المسلمون: يا رسول الله فنحن أحق أن نفعل ذلك.

فأنزل الله تعالى هذه الآية: قُلْ يا أشرف الخلق لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يطوفون بالبيت عراة والذين يحرمون على أنفسهم في أيام الحج اللحم والدسم: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ من الثياب الَّتِي أَخْرَجَ الزينة لِعِبادِهِ من النبات كالقطن والكتان، ومن الحيوان كالحرير والصوف ومن المعادن كالدروع وَمن حرم الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ أي المستلذات من المآكل والمشارب قُلْ هِيَ أي الزينة والطيبات ثابتة لِلَّذِينَ آمَنُوا بطريق الأصالة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا غير خالصة لهم لأنه يشركهم فيها المشركون خالِصَةً لهم يَوْمَ الْقِيامَةِ أي لا يشاركهم فيها غيرهم.

قرأ نافع خالصة بالرفع على أنه خبر بعد خبر، أو خبر لمبتدأ محذوف أي وهي خالصة.

والباقون بالنصب حال من الضمير المستكن في الخبر كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي مثل هذا التبيين نبين سائر الأحكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) أن الله واحد لا شريك له فأحلوا حلاله وحرموا حرامه قُلْ للمشركين الذين يتجردون من ثيابهم في الطواف والذين يحرمون أكل الطيبات إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ أي الزنا ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي جهرها وسرها وَالْإِثْمَ أي شرب الخمر وَالْبَغْيَ أي الظلم على الناس بِغَيْرِ الْحَقِّ فالقتل والقهر بالحق ليس بغيا وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي وأن تسووا بالله في العبادة معبودا ليس على ثبوته حجة وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) بالإلحاد في صفاته والافتراء عليه من التحريم والتحليل، فالجنايات محصورة في خمسة أنواع:

ص: 368

أحدها: الجنايات على الأنساب وهي المرادة بالفواحش.

وثانيها: الجنايات على العقول وهي المشار إليها بالإثم.

وثالثها: الجنايات على النفوس، والأموال والأعراض وإليها الإشارة بالبغي.

ورابعها: الجنايات على الأديان وهي من وجهين: إما الطعن في توحيد الله تعالى وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ وإما القول في دين الله من غير معرفة وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وهذه الأشياء الخمسة أصول الجنايات وأما غيرها فهي كالفروع وَلِكُلِّ أُمَّةٍ كذبت رسولها أَجَلٌ أي وقت معين لهلاكها فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) أي فإذا جاء وقت هلاكهم لا يتركون بعد الأجل طرفة عين، ولا يهلكون قبل الأجل طرفة عين فالجزاء مجموع الأمرين لا كل واحد على حدته. والمعنى إن الوقت المحدود لا يتغير يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) أي يا بني آدم إن يأتكم رسول من جنسكم- بني آدم- يبين لكم أحكامي وشرائعي فمن اتقى كل منهي واتقى تكذيبه وأصلح عمله بأن يأتي كل أمره فلا يخاف في الآخرة من العذاب ولا يحزن على ما فاته في الدنيا أما حزنه على عقاب الآخرة فيرتفع بما حصل له من زوال الخوف وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا التي يجيء بها رسولنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي امتنعوا من قبولها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) لا يموتون ولا يخرجون أما الفاسق من أهل الصلاة فلا يبقى مخلدا في النار لأنه ليس موصوفا بذلك التكذيب والاستكبار فَمَنْ أَظْلَمُ أي أعظم ظلما مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي كإثبات الشريك والولد إليه تعالى وإضافة الأحكام الباطلة إليه تعالى أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كإنكار كون القرآن كتابا نازلا من عند الله تعالى وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أُولئِكَ يَنالُهُمْ في الدنيا نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي مما كتب لهم من الأرزاق والأعمار حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي ملك الموت وأعوانه يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي حال كونهم قابضين أرواحهم قالُوا لهم: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا ادعوها لتدفع عنكم ما نزل بكم قالُوا ضَلُّوا أي غابوا عَنَّا أي لا ندري مكانهم وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) أي وأقروا عند الموت بأنهم كانوا في الدنيا عابدين لما لا يستحق العبادة أصلا ولا تعارض بين هذا وبين قوله تعالى: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 28] . لأنه من طوائف

مختلفة أو في أوقات مختلفة. قالَ تعالى يوم القيامة: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ أي ادخلوا في النار فيما بين الأمم الكافرين الذين تقدم زمانهم زمانكم من هذين النوعين كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ أي أهل دين في النار لَعَنَتْ أُخْتَها في الدين وهي التي تلبست بذلك الدين قبلها فيلعن المشركون المشركين واليهود اليهود،

ص: 369

والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوس المجوس حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا أي اجتمعوا فِيها أي النار جَمِيعاً وأدرك بعضهم بعضا واستقر معه قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ أي قال آخر كل أمة لأولها رَبَّنا هؤُلاءِ أي الأولون أَضَلُّونا عن دينك بإخفاء الدلائل فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ أي عذبهم مثل عذابنا مرتين قالَ تعالى لهم لِكُلٍّ منهم ومنكم ضِعْفٌ فكل ألم يحصل له يعقبه ألم آخر، إلى غير نهاية فالآلام متزايدة من غير نهاية أما القادة فلكفرهم وإضلالهم وأما الأتباع فلكفرهم وتقليدهم وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) .

قرأه أبو بكر عن عاصم بالغيبة أي ولكن لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر.

والباقون بالتاء على الخطاب ولكن لا تعلمون أيها السائلون ما لكل فريق منكم من العذاب. أو المعنى ولكن لا تعلمون يا أهل الدنيا مقدار ذلك وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ مخاطبة لها حين سمعوا جواب الله تعالى لهم فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ في الدنيا أي إنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب لأنكم كفرتم اختيارا لا أنا حملناكم على الكفر إجبارا فلا يكون عذابنا ضعفا فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) أي تقولون وتعملون في الدنيا وهذا يحتمل أن يكون من كلام القادة للأتباع وأن يكون من قول الله تعالى للجميع إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بالدلائل الدالة على أصول الدين وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي ترفعوا عن الإيمان بها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ أي لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله ولا لأرواحهم وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ أي كما يستحيل دخول الذكر من الإبل في خرق الإبرة يستحيل دخول الكفار الجنة ويقال: حتى يدخل القلس الغليظ وهو الجبل الذي تشد به السفينة في خرق الإبرة وكل ثقب ضيق فهو سم وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) أي ونجزي المشركين جزاء مثل جزاء المكذبين المستكبرين من عدم فتح أبواب السماء وعدم دخولهم الجنة وإنما يدخلون النار بهذه الصفات

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي للذين كذبوا واستكبروا من جهنم فراش من تحتهم ومن فوقهم أغطية وهذه الآية إخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف.

تنبيه: تنوين غواش عوض من الياء المحذوفة على الصحيح فإن الإعلال بالحذف مقدم على منع الصرف فأصله غواشي بتنوين الصرف فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت فاجتمع ساكنان الياء والتنوين، فحذفت الياء، ثم لوحظ كونه على صيغة مفاعل في الأصل فحذف تنوين الصرف فخيف من رجوع الياء فيحصل الثقل فأتي بالتنوين عوضا عنها، فغواش المنون ممنوع من الصرف لأن تنوينه تنوين عوض كما علمت، وتنوين الصرف قد حذف وإنما كان الراجح تقديم الإعلال لأن سببه ظاهر وهو الثقل وسبب منع الصرف خفي وهو مشابهة الفعل وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) أي كالجزاء المذكور للمكذبين المستكبرين نجزي الكافرين وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) أي

ص: 370

والذين صدقوا الله ورسوله وأقروا بما جاءهم به من شرائع دينه وعملوا بما أمرهم به وأطاعوه في ذلك وتجنبوا ما نهاهم عنه لا نكلف نفسا إلا ما يسهل عليها من الأعمال وما يدخل في قدرتها ولا ضيق فيه عليها وقوله تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الأنعام: 152] . اعتراض وقع بين المبتدأ والخبر والتقدير والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. وإنما حسن وقوع هذا الكلام بين المبتدأ والخبر، لأنه من جنس ما قبله فإنه بيان أن ذلك العمل غير خارج عن قدرتهم وتنبيه على أن الجنة مع عظم قدرها يتوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي صفينا طباعهم من الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا ودرجات أهل الجنة متفاوتة بحسب الكمال والنقصان، فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى إن صاحب الدرجة النازلة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي تجري في الآخرة من تحت سررهم أنهار الخمر والماء والعسل واللبن زيادة في لذتهم وسرورهم. وَقالُوا إذا بلغوا إلى منازلهم أو إلى عين الحيوان: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي للعمل الذي ثوابه هذا المنزل وهذه العين التي تجري من تحتنا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ أي لولا هداية الله لنا موجودة ما اهتدينا إلى الإيمان والعمل الصالح.

قرأ ابن عامر «ما كنا» بغير واو كما في مصاحف أهل الشام وذلك، لأنه جار مجرى التفسير لقوله: هَدانا لِهذا فلما كان أحدهما عين الآخر وجب حذف الحرف العاطف لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ هذا إقسام من أهل الجنة، قالوا ذلك حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا تبجحا بما نالوه.

أي والله لقد جاءت رسل ربنا في الدنيا بالحق أي ما أخبرونا به في الدنيا من الثواب صدق فقد حصل لنا عيانا وَنُودُوا أي نادتهم الملائكة عند رؤيتهم الجنة من مكان بعيد أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أي تلك الجنة التي وعدتكم الرسل بها في الدنيا ف «أن» مفسرة لما في النداء وكذا في سائر المواضع الخمسة أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) أي أعطيتموها بسبب أعمالكم الصالحة في الدنيا فالجنة ومنازلها لا تنال إلا برحمة الله تعالى فإذا دخلوها بأعمالهم فقد ورثوها برحمته ودخلوها برحمته إذ أعمالهم رحمة منه لهم وتفضل منه عليهم وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ- تبجحا بحالهم وتنديما لأصحاب النار وذلك بعد استقرارهم في محالهم-: أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا على ألسنة رسله من الثواب على الإيمان به وبرسله وعلى طاعته حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ يا أهل النار ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العذاب على الكفر حَقًّا قالُوا أي أهل النار مجيبين لأهل الجنة نَعَمْ.

قرأ الكسائي «نعم» بكسر العين في كل القرآن فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قيل: هو إسرافيل. وقيل:

جبريل بَيْنَهُمْ أي نادى مناد أسمع الفريقين أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعون الناس من قبول الدين الحق تارة بالزجر والقهر وأخرى بسائر الحيل.

ص: 371

قرأ نافع وأبو عمرو وعاصم «أن لعنة» بتخفيف «أن» ورفع «لعنة» . والباقون بالتشديد وبالنصب وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون السبيل معوجة بإلقاء الشكوك في دلائل الدين الحق وَهُمْ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث بعد الموت كافِرُونَ (45) أي جاحدون وَبَيْنَهُما أي بين الجنة والنار أو بين أهلهما حِجابٌ أي سور وَعَلَى الْأَعْرافِ أي أعالي ذلك السور المضروب بين الجنة والنار رِجالٌ. قيل: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. وقيل: هم قوم قتلوا في سبيل الله وهم عصاة لآبائهم. وقيل: هم قوم كان فيهم عجب، وقيل: هم قوم كان عليهم دين فهذه الأقوال تدل على أن أصحاب الأعراف أقوام يكونون في الدرجة النازلة من أهل الثواب. وقيل: إنهم الأشراف من أهل الثواب. وقيل: إنهم الأنبياء وإنما أجلسهم الله على ذلك المكان العالي تمييزا لهم على سائر أهل القيامة. وقيل: إنهم الشهداء وهم شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية فهم يعرفون أن أهل الثواب وصلوا إلى الدرجات وأهل العقاب وصلوا إلى الدركات كما قال تعالى: يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة وأهل النار زيادة على معرفتهم بكونهم في الجنة وكونهم في النار بِسِيماهُمْ أي بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجه وسواده.

وقيل: إن أصحاب الأعراف كانوا يعرفون المؤمنين في الدنيا بظهور علامات الإيمان والطاعات عليهم، ويعرفون الكافرين في الدنيا أيضا بظهور علامات الكفر والفسق عليهم، فإذا شاهدوا أولئك الأقوام في محفل القيامة ميّزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدنيا وَنادَوْا أي رجال الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي حين رأوهم أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يا أهل الجنة وهذا بطريق التحية والدعاء أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره لَمْ يَدْخُلُوها حال من فاعل نادوا وَهُمْ يَطْمَعُونَ

(46)

حال من فاعل يدخلوها أي لم يدخل رجال الأعراف الجنة وهم في وقت عدم الدخول طامعون. وقيل: قوله: لَمْ يَدْخُلُوها مستأنف لأنه جواب سؤال سائل عن رجال الأعراف فقال: ما صنع بهم؟ فقيل: لم يدخلوها ولكنهم يطمعون في دخولها.

وقال مجاهد: أصحاب الأعراف قوم صالحون، فقهاء علماء، فعلى هذا القول: إنما يكون لبثهم على الأعراف على سبيل النزهة وليرى غيرهم شرفهم وفضلهم. والمراد من هذا الطمع طمع يقين أي وهم يعلمون أنهم سيدخلون الجنة وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ أي رجال الأعراف بغير قصد تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ أي إلى جهتهم قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) أي كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى في أن لا يجعلهم من زمرتهم. والمقصود من جميع هذه الآيات التخويف عن التقليد الرديء وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا كانوا عظماء في الدنيا من أهل النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا أي أصحاب الأعراف لهم وهم

ص: 372

في النار يا وليد بن المغيرة، ويا أبا جهل بن هشام، ويا أمية بن خلف، ويا ابن خلف الجمحي، ويا أسود بن عبد المطلب، ويا سائر الرؤساء ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ أي أيّ شيء دفع عنكم جمعكم في الدنيا من المال والخدم والأتباع وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) عن قبول الحق وعلى الناس المحقين.

وقرئ «تستكثرون» أي من الأموال والجند، ثم زادوا على هذا التبكيت بقولهم:

أَهؤُلاءِ الضعفاء الذين عذبتموهم في الدنيا كصهيب وبلال وسلمان وخباب وعمار وأشباههم الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ أي حلفتم في الدنيا يا معشر الكفار لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ أي لا يدخلهم الله الجنة وقد دخلوا الجنة على رغم أنوفكم. وقد قيل للذين أقسمتم على عدم دخولهم الجنة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بفضل الله فهذا من بقية كلام أصحاب الأعراف فهو خبر ثان عن اسم الإشارة أي أهؤلاء قد قيل لهم: ادخلوا الجنة، فظهر كذبكم في إقسامكم ويدل على ذلك قراءتان شاذتان «ادخلوا» بالبناء للمفعول و «دخلوا» . وعلى هاتين القراءتين تقع هذه الجملة خبرا، والتقدير دخلوا الجنة مقولا في حقهم لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ من العذاب وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) . وقيل: إن أصحاب الأعراف لما قالوا لأهل النار ما قالوا قال لهم أهل النار: إن دخل هؤلاء فأنتم لم تدخلوا الجنة، فلما عيّروهم بذلك قيل لأهل الأعراف: ادخلوا الجنة، وقيل: يقال لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة إلخ، بعد أن حبسوا وشاهدوا أحوال الفريقين وقالوا لهم ما قالوا، وعلى هذا فالمراد بأصحاب الأعراف المقصرون في العمل وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا أي ألقوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من ثمار الجنة وهذا الكلام يدل على حصول العطش الشديد والجوع الشديد لهم، وعن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة ثم يذكرون الشراب ويستغيثون فيدفع إليهم الحميم والصديد فيقطع ما في بطونهم، ويستغيثون إلى أهل الجنة كما في هذه الآية ويقولون لمالك: ليقض علينا ربك فيجيبهم بعد ألف عام ويقولون: ربنا أخرجنا منها فيجيبهم بقوله تعالى اخسئوا فيها ولا تكلمون فعند ذلك ييأسون من كل خير ويأخذون في الزفير والشهيق قالُوا أي أهل الجنة إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) أي منعهم من طعام الجنة وشرابها.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بالفرج بعد اليأس فقالوا: يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فيأذن لهم فينظرون إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم، وينظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل النار فلم يعرفوهم لسواد وجوههم فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة

ص: 373

بأسمائهم فينادي الرجل أباه وأخاه فيقول: يا أبي ويا أخي قد احترقت بشدة حر جهنم أفض عليّ من الماء فيقال لهم: أجيبوهم فيقولون: إن الله حرمهما على الكافرين

الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً أي باطلا وَلَعِباً أي فرحا فاللهو صرف الهم إلى ما لا يحسن أن يصرف إليه واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي شغلتهم بالطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال وقوة الجاه ونيل الشهوات فَالْيَوْمَ أي يوم القيامة نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا أي نتركهم في عذابهم تركا مثل تركهم العمل للقاء يومهم هذا. أو المعنى نعاملهم معاملة من نسي فنتركهم في النار لأنهم أعرضوا بآياتنا. والمراد من هذا النسيان أنه تعالى لا يجيب دعاءهم ولا يرحمهم وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) أي ولكونهم منكرين بآياتنا أنها من عندنا وذلك يدل على أن حب الدنيا مبدأ كل آفة، وقد يؤدي إلى الضلال والكفر وَلَقَدْ جِئْناهُمْ أي هؤلاء الكفار بِكِتابٍ أي بقرآن أنزلناه عليك يا أكرم الرسل فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ أي ميزناه مشتملا على علم كثير وفصل كثير مختلف. وقد نظم بعضهم الأنواع التسعة في قوله:

حلال حرام محكم متشابه

بشير نذير قصة عظة مثل

وقرأ الجحدري وابن محيصن بالضاد المعجمة أي «فضلناه» على غيره من الكتب السماوية عالمين بفضله هُدىً وَرَحْمَةً أي هاديا من الضلالة إلى الرشد وذا رحمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) به هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي ما ينتظر أهل مكة إذ لا يؤمنون إلا عاقبة ما وعدوا به في القرآن من حلول العذاب بهم يوم القيامة يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ أي يوم يأتي عاقبة ما وعد لهم في القرآن وهو يوم القيامة يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أي أعرضوا عنه مِنْ قَبْلُ أي من قبل إتيان ما يؤول إليه أمره وهو صدقه بما أخبر به. والمعنى أن هؤلاء الذين تركوا الإيمان بالقرآن في الدنيا يقولون يوم القيامة قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وكذبناهم أي إنهم أقروا يوم القيامة بأن ما جاءت به الرسل من ثبوت البعث والنشر والحشر والقيامة، والثواب والعقاب كل ذلك كان حقا فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا من العذاب اليوم أَوْ نُرَدُّ إلى الدنيا فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أي لما رأوا أنفسهم في العذاب قالوا: لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه من العذاب الشديد إلا أحد هذين الأمرين وهو أن يشفع لنا شفيع، فلأجل تلك الشفاعة يزول هذا العذاب أو أن يردنا الله تعالى إلى الدنيا حتى نوحد الله تعالى بدلا عن الكفر ونطيعه بدلا عن المعصية.

وقرئ شاذا بنصب «نرد» إما عطفا على «يشفعوا» فالمسؤول أن يكون لهم شفعاء لأحد الأمرين إما لدفع العذاب، أو للرد إلى الدنيا، وإما الدنيا، وإما بناء على أن أو بمعنى إلى أي فالمطلوب أن يكون لهم شفعا للرد إلى الدنيا فقط. وقرئ شاذة برفع «فنعمل» أي فنحن نعمل في الدنيا غير ما كنا نعمل فيها قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بذهاب الجنة ولزوم النار وَضَلَّ عَنْهُمْ ما

ص: 374

كانُوا يَفْتَرُونَ (53) أي وذهب عنهم دعوى نفع الشريك فإنهم كانوا يدعون أن الأصنام التي كانوا يعبدونها شركاء الله تعالى وشفعاؤهم عنده يوم القيامة إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. والمقصود من هذا الكلام أنه تعالى وإن كان قادرا على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنه جعل لكل شيء حدا محدودا ووقتا مقدرا فلا يدخله في الوجود إلا على ذلك الوجه، فهو تعالى وإن كان قادرا على إيصال الثواب إلى المطيعين في الحال وعلى إيصال العقاب إلى المذنبين في الحال إلا أنه يؤخرهما إلى أجل معلوم مقدر. فهذا التأخير ليس لأجل أنه تعالى أهمل العباد، بل لأنه تعالى خصّ كل شيء بوقت معين لسابق مشيئته وهذا معنى قول المفسرين من أنه تعالى إنما خلق العالم في ستة أيام ليعلم عباده الرفق في الأمور والصبر فيها ولأجل أن لا يحمل المكلف تأخر الثواب والعقاب على ترك العمل ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي حصل له تعالى تدبير المخلوقات على ما أراد أي بعد أن خلق السموات والأرض استوى على عرش الملك والجلال وصحّ أن يقال: إنه تعالى إنما استوى على ملكه بعد خلق السموات والأرض. بمعنى أنه إنما ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره له بعد خلق السموات والأرض وذلك لأن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك يقال: ثل عرش السلطان أي انتقض ملكه وفسد وإذا استقام له ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا: استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه هذا ما قاله القفال، ونظير هذا قولهم للرجل الطويل: فلان طويل النجاد. وللرجل الذي يكثر الضيافة: فلان كثير الرماد. وللرجل الشيخ: فلان اشتعل رأسه شيبا، وليس المراد في شيء من هذه الألفاظ إجراؤها على ظواهرها وإنما المراد منها تعريف المقصود على سبيل الكناية فكذا هنا فالمراد بذكر

الاستواء على العرش هو نفاذ القدرة وجريان المشيئة.

والواجب علينا أن نقطع بكونه تعالى منزها عن المكان والجهة، ولا نخوض في تأويل هذه الآية على التفصيل بل نفوض علمها إلى الله تعالى يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يأتي بالليل على النهار فيغطيه. واللفظ يحتمل العكس أيضا.

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وابن عامر، وعاصم في رواية حفص «يغشى» بتخفيف الشين وهكذا في الرعد. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم برواية أبي بكر بالتشديد وكذا في الرعد. وقرأ حميد بن قيس «يغشى الليل النهار» بفتح ياء «يغشى» ونصب «الليل» ورفع «النهار» أي يدرك النهار الليل. يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي يطلب كل من الليل والنهار الآخر طلبا سريعا فأخبر الله تعالى بما في تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة فإن بتعاقبهما يتم أمر الحياة وتكمل المنفعة والمصلحة وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أي مذللات لطلوع وغروب ومسير

ص: 375

ورجوع بإذنه. وقرأ ابن عامر برفع الأربعة على الابتداء والخبر. والباقون بنصب الثلاثة عطفا على «السموات» ، ونصب «مسخرات» على الحال من هذه الثلاثة أَلا لَهُ الْخَلْقُ أي المخلوقات وَالْأَمْرُ أي التصرف في الكائنات وفي هذه الآية رد على من يقول من أهل الضلال إن للشمس والقمر والكواكب تأثيرات في هذا العالم تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) أي كثر خير الله مالك العالمين وتعالى بالوحدانية في الألوهية ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي متذللين ومسرين والتضرع إظهار ذل النفس. قال الشيخ محمد بن عيسى الحكيم الترمذي: إن كان خائفا على نفسه من الرياء فالأولى إخفاء العمل صونا لعمله عن البطلان، وإن كان قد بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنا عن شائبة الرياء كان الأولى في حقه الإظهار لتحصل فائدة الاقتداء به إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) أي المجاوزين بترك هذين الأمرين التضرع والإخفاء أي إنه تعالى لا يثيبه ألبتة ولا يحسن إليه

وعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل»

«1» . ثم قرأ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي كإفساد النفوس بالقتل وقطع الأعضاء وإفساد الأموال بنحو الغصب، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة، وإفساد الأنساب بسبب الإقدام على نحو الزنا وبسبب القذف، وإفساد العقول بنحو تناول المسكرات بَعْدَ إِصْلاحِها بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب. وقيل بعد إصلاح الله تعالى إياها بالمطر والخصب فإن الله تعالى يمسك المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أي ذوى خوف نظرا إلى قصور أعمالكم وعدم استحقاقكم مطلوبكم، وذوى طمع نظرا إلى سعة رحمته ووفور فضله وإحسانه، وهذه الآية بيان فائدة الدعاء ومنفعته ففائدة الدعاء أحد هذين الأمرين أما الآية الأولى فهي بيان شرط صحة الدعاء وهي لا بد أن يكون الدعاء مقرونا بالتضرع وبالإخفاء والداعي لا يكون داعيا إلا إذا كان خائفا من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء وطامعا في حصول تلك الشرائط بأسرها، ومعنى قوله تعالى: خَوْفاً وَطَمَعاً أي حال كونكم جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في كل أعمالكم فلا تقطعوا أنكم أديتم حق ربكم وإن اجتهدتم إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) بالقول والفعل ومن الإحسان أن يكون الدعاء مقرونا بالخوف والطمع وكل من حصل له الإقرار والمعرفة كان من المحسنين كالصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر وكصاحب الكبيرة من أهل الصلاة وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر.

(1) رواه ابن حجر في الكاف والشاف في تخريج أحاديث الكشاف (64)، والقرطبي في التفسير (7: 226) ، والمتقي الهندي في كنز العمال (3295) . [.....]

ص: 376

قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الريح» على لفظ الواحد. والباقون «الرياح» على الجمع.

قرأ عاصم «بشرا» بضم الباء الموحدة وسكون الشين جمع بشير أي مبشرات. وقرئ بفتح الباء بمعنى باشرات. وقرأ حمزة والكسائي «نشرا» بالنون المفتوحة وسكون الشين بمعنى ناشرة للسحاب. أو بمعنى منشورة فكأن الرياح كانت مطوية فأرسلها الله منشورة بعد انطوائها- وهي كناية عن اتساعها- وقرأ ابن عامر بضم النون وإسكان الشين. وقرأ الباقون بضم النون والشين جمع نشور مثل رسل ورسول أي مفرقة من كل جانب أو طيبة لينة تنشر السحاب، والريح هواء متحرك يمنة ويسرة وهي أربعة:

الصبا: وهي الشرقية فتحرك السحاب. والدبور: وهي الغربية تفرقه. والشمال: التي تهب من تحت القطب الشمالي تجمعه. والجنوب: وهي التي تكثر إرسال المطر.

وعن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من ريح الجنة»

«1» . حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا أي حتى إذا رفعت هذه الرياح سحابا ثقيلا بالماء سُقْناهُ أي السحاب لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أي إلى مكان لا نبات فيه لعدم الماء فَأَنْزَلْنا بِهِ أي في ذلك البلد الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بذلك الماء أو في ذلك البلد مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فالله تعالى إنما يخلق الثمرات بواسطة الماء. وقال أكثر المتكلمين: إن الثمار غير متولدة من الماء بل الله تعالى أجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقب اختلاط الماء بالتراب كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى أي كما يخلق الله تعالى النبات بواسطة الأمطار فكذلك يحيي الله الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة.

وروي أنه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطرا كالمني أربعين يوما، وأنهم يصيرون عند ذلك أحياء. وقيل: المعنى إنه تعالى كما أحيا هذا البلد بعد خرابه فأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر فكذلك يحيي الموتى ويخرجهم من الأجداث بعد أن كانوا أمواتا.

والمقصود من هذا الكلام إقامة الدلالة على أن البعث والقيامة حق لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) أي لكي تعتبروا أيها المنكرون للبعث وتتذكروا أن القادر على إحياء هذه الأرض بالأشجار المزينة بالأزهار والثمار بعد موتها قادر على أن يحيي الأجساد بعد موتها وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ أي المكان الذي ليس بسبخة يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ أي بإرادة ربه وتيسيره كذلك المؤمن يؤدي ما أمر الله طوعا بطيبة النفس وَالَّذِي خَبُثَ أي المكان السبخة لا يَخْرُجُ أي نباته إِلَّا نَكِداً أي بتعب. وكذلك المنافق لا يؤدي ما أمر الله إلا كرها بغير طيبة النفس. وقيل: المراد أن الأرض

(1) رواه البخاري في كتاب الاستسقاء، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «نصرت بالصبا» ، ومسلم في كتاب الاستسقاء، باب: 17، وأحمد في (م 1/ ص 223) .

ص: 377

السبخة يقل نفعها ومع ذلك أن صاحبها لا يتركها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة فالطلب للنفع العظيم في الدار الآخرة بالمشقة في أداء الطاعات أولى من طلب هذا النفع اليسير بالمشقة العظيمة كَذلِكَ أي مثل ذلك التصريف نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نكررها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) نعمة الله تعالى فيتفكرون فيها لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ واسم نوح عبد الغفار وهو ابن لمكا بن متوشلخ بن أخنوخ وسمي نوحا إما لدعوته على قومه بالهلاك أو لمراجعته ربه في شأن ولده كنعان، أو لأنه مر بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح، فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب؟ فكثر نوحه على نفسه لذلك. فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي اعبدوه وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ أي من مستحق للعبادة غَيْرُهُ.

قرأ الكسائي بالجر على أنه نعت ل «إله» باعتبار لفظه. والباقون بالرفع صفة له باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية. وقرئ بالنصب على الاستثناء بمعنى ما لكم من إله إلا إياه إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) أي إني أعلم أن العذاب ينزل بكم إما في الدنيا أو في الآخرة إن لم يقبلوا ذلك الدين قالَ الْمَلَأُ مِنْ

قَوْمِهِ

أي قال الكبراء الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء: إِنَّا لَنَراكَ يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) في المسائل الأربع وهي: التكليف، والتوحيد، والنبوة، والمعاد.

قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أي ليس بي نوع من أنواع الضلالة ألبتة وَلكِنِّي رَسُولٌ إليكم مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي.

قرأ أبو عمرو بسكون الباء وَأَنْصَحُ لَكُمْ فتبليغ الرسالة هو أن يعرفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه والنصيحة هي أن يرغبهم في الطاعات ويحذرهم عن المعاصي بأبلغ الوجوه وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أي إنكم إن عصيتم أمره عاقبكم في الدنيا بالطوفان، وفي الآخرة بعقاب شديد خارج عما تتصوره عقولهم أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ أي استبعدتم وعجبتم من أن جاءكم وحي من مالك أموركم على لسان رجل من جنسكم أي فإنهم كانوا يتعجبون من نبوة نوح عليه السلام ويقولون: ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة لِيُنْذِرَكُمْ أي لأجل أن يخوفكم عاقبة الكفر والمعاصي وَلِتَتَّقُوا عبادة غير الله وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) أي ولكي ترحموا فلا تعذبوا وهذا الترتيب في غاية الحسن فإن المقصود من البعثة الإنذار. والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في دار الآخرة فَكَذَّبُوهُ أي نوحا في ادعاء النبوة وتبليغ التكاليف من الله وأصروا على ذلك التكذيب تلك المدة المتطاولة فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ من الغرق والعذاب وكان من صحبوه في الفلك أربعين رجلا وأربعين امرأة.

روي أن نوحا عليه السلام صنع السفينة بنفسه في عامين وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها

ص: 378

خمسين وسمكها ثلاثين. وجعل لها ثلاث بطون فحمل في أسفلها الدواب والوحوش، وفي وسطها الإنس، وفي أعلاها الطير، وركبها في عاشر رجب ونزل منها في عاشر المحرم وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي برسولنا نوح بالطوفان إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى عاد الأولى واحدا منهم في النسب لا في الدين هُوداً أما عاد الثانية وهم ثمود فقوم صالح وبينهما مائة سنة قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) أي أتغفلون فلا تتقون عذاب الله تعالى فإنكم تعرفون أن قوم نوح لما لم يتقوا الله ولم يطيعوه نزل بهم ذلك العذاب الذي اشتهر خبره في الدنيا قالَ الْمَلَأُ أي الرؤساء الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وإنما قال هنا الذين كفروا من قومه لأن الملأ من قوم هود كان فيهم من آمن ومن كفر، فممن آمن منهم مرثد بن أسعد أسلم وكان يكتم إيمانه بخلاف الملأ من قوم نوح فكلهم أجمعوا على ذلك الجواب فلم يكن أحد منهم مؤمنا في أول دعائهم إلى الإيمان إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أي إنا نتيقنك يا هود متمكنا في خفة عقل حيث فارقت دين آبائك فإن هودا نهاهم عن عبادة الأصنام ونسب من عبدها إلى السفه وهو قلة العقل وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) في ادعاء الرسالة قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ أي ليس بي شيء مما تنسبونني إليه وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أي فإنه غاية من الرشد والصدق أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي بالأمر والنهي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أي أحذركم من عذاب الله وأدعوكم إلى الإيمان والتوبة أَمِينٌ (68) أي موثوق على رسالة ربي وهذا رد لقولهم وإنا لنظنك من الكاذبين.

فكأن هودا قال لهم: كنت قبل هذه الدعوى أمينا فيكم ما وجدتم مني عذرا، ولا مكرا، ولا كذبا.

واعترفتم لي بكوني أمينا فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟! أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ أي أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم نبوة مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ أي على لسان آدمي مثلكم لِيُنْذِرَكُمْ أي ليحذركم عاقبة ما أنتم عليه من الكفر والمعاصي وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ بأن أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وما يتصل بها من المنافع والمصالح أو جعلكم ملوكا في الأرض فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شجر عمان وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ أي في الناس بَصْطَةً وهي مقدار ما تبلغه يد الإنسان ففضلوا على أهل زمانهم بهذا القدر. أو المراد أنهم متشاركون في القوة والشدة، ولأن بعضهم يكون ناصرا للبعض الآخر وأزال العداوة والخصومة من بينهم فلما خصّهم الله تعالى بهذه الأنواع فصح أن يقال: إنهم زادوا في الخلق بسطة.

قرأ نافع والبزي وشعبة والكسائي بالصاد. وأبو عمرو، وهشام، وقنبل، وحفص وخلف بالسين. وابن ذكوان وخلاد بهما فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعماء الله عليكم واعملوا عملا يليق بتلك الإنعامات لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) أي لكي تنجوا من الكروب وتفوزوا بالمطلوب. قالُوا

ص: 379

مجيبين عن تلك النصائح العظيمة أَجِئْتَنا يا هود لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ أي لنخصه بالعبادة وَنَذَرَ أي نترك ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام فَأْتِنا بِما تَعِدُنا أي بما تهددنا من العذاب بقولك أفلا تتقون إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) في إخبارك بنزول العذاب وغرضهم بذلك القول إذا لم يأتهم هود بذلك العذاب ظهر للقوم كونه كاذبا

قالَ أي هود: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ أي رين على قلوبهم عقوبة منه لكم بالخذلان لألفكم الكفر وَغَضَبٌ أي عذاب أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ عارية عن المسمى سَمَّيْتُمُوها أي سميتم بها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أصناما فإنهم سموا الأصنام بالآلهة مع إن معنى الألوهية فيها معدوم ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها أي بعبادتها مِنْ سُلْطانٍ أي برهان لأن المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل وأن الأصنام لو استحقت العبادة كان استحقاقها بجعله تعالى إما بإنزال آية أو نصب دليل وقوله تعالى: ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ عبارة عن خلو مذاهبهم عن الحجة والبينة فَانْتَظِرُوا ما يحصل لكم من عبادة هذه الأصنام وهو ما تطلبونه بقولكم فأتنا بما تعدنا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) لما يحل بكم فَأَنْجَيْناهُ أي هودا وَالَّذِينَ مَعَهُ في الدين بِرَحْمَةٍ عظيمة مِنَّا أي من جهتنا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي استأصلنا الذين كذبوا برسولنا هود وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) أي ما أبقينا أحدا من الذين لا يؤمنون فلو علم الله أنهم سيؤمنون لأبقاهم. وقصتهم أن عادا قوم كانوا باليمن بالأحقاف، وكانوا قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان إلى حضرموت، وكانت لهم أصنام ثلاثة يعبدونها سموا أحدها صمودا، والآخر صداء. والآخر هباء، فبعث الله تعالى إليهم هودا وكان من أفضلهم حسبا فكذبوه فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا وكان الناس إذ نزل بهم بلاء طلبوا من الله الفرج عند البيت الحرام، وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح عليه السلام، وسيدهم معاوية بن بكر، فلما توجهوا إلى البيت الحرام وهم سبعون رجلا من أماثلهم منهم: قيل بن عنز، ومرثد بن سعد نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا عن الحرم فأنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم قينتا معاوية اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة، فلما رأى معاوية ذهولهم باللهو عمّا قدموا له أحزنه ذلك وقال: قد هلك أخوالي وأصهاري، واستحى أن يكلمهم خشية أن يظنوا به ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا: قل شعرا نغنيهم به لا يدرون من قاله وهو قول هؤلاء الثلاثة:

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

لعل الله يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إن عادا

قد أمسوا لا يبينون الكلاما

من العطش الشديد فليس نرجو

به الشيخ الكبير ولا الغلاما

ص: 380

ومعنى فهينم أي أخف الدعاء والغمام هنا المطر فلما غنتا به أزعجهم ذلك وقالوا: إن قومكم يتغوثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم.

فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله تعالى سقاكم وأظهر إسلامه فقالوا لمعاوية: احبس عنا مرثدا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا. ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهم أسق عادا ما كنت تسقيهم فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء: يا قيل اختر لنفسك ولقومك، فقال: اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء، فخرجت على عاد من واد لهم يسمى وادي المغيث، فاستبشروا بها وقالوا: هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منها ريح عقيم وهي باردة ذات صوت شديد لا مطر فيها، وكان ابتداء مجيئها في صبيحة الأربعاء في الحادي والعشرين من شوال في آخر الشتاء وسخرت عليهم سبع ليال وثمانية أيام فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فعبدوا الله فيها إلى أن ماتوا.

وروي عن علي رضي الله عنه أن قبر هود بحضرموت في كثيب أحمر.

وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب لا في الدين صالِحاً وثمود قبيلة أخرى من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن غابر بن ارم بن سام بن نوح. وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى واد القرى قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي شاهدة بنبوتي وهي الناقة مِنْ رَبِّكُمْ خلقها بلا واسطة هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أي علامة على رسالة الله وإضافة الناقة إلى الله لتعظيمها وتخصيصها كما يقال: بيت الله أو لأنها لا مالك لها غير الله، أو لأنها حجة الله على القوم. ووجه كونها آية لخروجها من الجبل لا من ذكر وأنثى ولكمال خلقتها من غير تدريج «وناقة الله» عطف بيان لهذه أو مبتدأ ثان و «لكم» خبر عامل في آية في نصبها على الحال. ويجوز أن يكون عامل الحال معنى التنبيه، أو معنى الإشارة. وجملة قوله: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آية في محل رفع بدل من قوله بينة لأنها مفسرة له وجاز إبدال جملة من مفرد لأنها في معناه فَذَرُوها أي فاتركوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ في الحجر أي الناقة ناقة الله والأرض أرض الله فاتركوها تأكل من إنباتكم وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ أي ولا تضربوها ولا تقربوا منها شيئا من أنواع الأذى إكراما لآية الله تعالى فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أي بسبب أذاها وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ أي فلما أهلك الله عادا عمر ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض وكثروا وعمروا أعمارا أطوالا وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي أنزلكم في أرض الحجر بين الحجاز والشام تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تبنون من سهولة الأرض قصورا بما تعملون منها من الرهص واللبن والآجر للصيف وسميت

ص: 381

القصور بذلك لقصور الفقراء عن تحصيلها وحبسهم عن نيلها وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً أي وتنقبون في الجبال بيوتا للشتاء وذلك لطول أعمارهم فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم فكان عمر واحد منهم ثلاثمائة سنة إلى سنة كقوم هود فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعمة الله عليكم بعقولكم فإنكم متنعمون مترفهون وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) أي ولا تعملوا في الأرض شيئا من أنواع الفساد قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أي قال الجماعة الذين تكبروا عن الإيمان بصالح للمساكين الذين آمنوا به. فقوله تعالى: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الموصول بإعادة العامل بدل الكل وضمير «منهم» راجع «لقومه» . أي قالوا للمؤمنين الذين استرذلوهم بطريق الاستهزاء بهم. أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ إليكم قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) أي نحن مصدقون بما جاء به صالح قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عن امتثال أمر ربهم وهو الذي أوصله الله إليهم على لسان صالح بقوله فذروها تأكل في أرض الله إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أي قتلها قدار بن سالف بأمرهم في يوم الأربعاء فقال لهم صالح: إن آية العذاب أن تصبحوا غدا صفرا، ثم أن تصبحوا في يوم الجمعة حمرا، ثم أن تصبحوا يوم السبت سودا، ثم يصبحكم العذاب يوم الأحد وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي ارتفعوا فأبوا عن قبول أمر ربهم الذي أمرهم صالح وَقالُوا استهزاء يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا أي من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فإنهم كذبوا صالحا في قوله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة من الأرض والصيحة من السماء فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) أي فصاروا في بلدهم خامدين موتى لا يتحركون. والمراد كونهم كذلك عند ابتداء نزول العذاب من غير اضطراب ولا حركة.

روي أنه تعالى لما أهلك عادا قام ثمود مقامهم وطال عمرهم، وكثر تنعمهم، ثم عصوا الله وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحا- وكان منهم- فطالبوه بالمعجزة فقال: ما تريدون؟

فقالوا: تخرج معنا في عيدنا، ونخرج أصناما فتسأل إلهك ونسأل أصنامنا فإذا ظهر أثر دعائك اتبعناك، وإن ظهر أثر دعائنا اتبعتنا فخرج معهم ودعوا أوثانهم فلم تجبهم، ثم قال سيدهم جندع بن عمرو لصالح عليه السلام وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لتلك الصخرة كائبة: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة كبيرة جوفاء وبراء فإن فعلت ذلك صدقناك، فأخذ صالح عليهم المواثيق أنه إن فعل ذلك آمنوا فقبلوا، فصلى ركعتين ودعا الله تعالى، فتمخضت تلك الصخرة كما تتمخض الحامل، ثم انفرجت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء، وكانت في غاية الكبر، ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به فنهاهم ذؤاب بن عمرو والخباب صاحبا أوثانهم ورباب بن صمعر كاهنهم فمكثت الناقة مع

ص: 382

ولدها ترعى الشجر وتشرب الماء، وكانت ترده غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فما ترفعه حتى تشرب كل ما فيها، ثم تفرج بين رجليها فيحلبون ما شاءوا حتى تمتلئ أوانيهم فيشربون ويدخرون، وكانت إذا وقع الحر تصيفت بظهر الوادي فيهرب منها أنعامهم، وإذا وقع البرد تشتت ببطن الوادي فتهرب مواشيهم، فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم امرأتان: عنيزة وصدقة، لما أضرت به من مواشيهم، فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فرقى ولدها جبلا مسمى بقارة فرغا ثلاثا، وقال صالح عليه السلام لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه وانفتحت الصخرة بعد رغائه، فدخلها، فقال لهم صالح: تصبحون غدا وجوهكم مصفرة، وبعد غد وجوهكم محمرة، واليوم الثالث وجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين، ولما كان اليوم الرابع واشتد الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض فتقطعت قلوبهم وهلكوا فَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي خرج صالح من بينهم قبل موتهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ أي بالترغيب والترهيب وبذلت فيكم وسعي ولكن لم تقبلوا مني ذلك كما قال وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) أي لم تطيعوا الناصحين بل تستمروا على عداوتهم.

وروي أن صالحا خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعا، فعلم أنهم قد هلكوا، وكانوا ألفا وخمسمائة دار وَلُوطاً أي وأرسلنا لوطا ابن هاران إلى قومه. أي فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم وهي بلد بحمص إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أي وقت قوله لهم فإرساله إليهم لم يكن في أول وصوله إليهم أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي أتفعلون اللواطة ما سَبَقَكُمْ بِها أي بهذه الفاحشة مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) .

قال محمد بن إسحاق: كانت لهم ثمار وقرى لم يكن في الأرض مثلها فقصدهم الناس فآذوهم، فعرض لهم إبليس في صورة شيخ: إن فعلتم بهم كذا وكذا نجوتم منهم، فأبوا، فألح عليهم فقصدوهم فأصابوا غلمانا حسانا فاستحكم فيهم ذلك

إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ أي إنكم لتأتون أدبار الرجال لمجرد الشهوة لا للولد ولا للألفة متجاوزين فروج النساء اللاتي هن محال الاشتهاء.

وقرأ نافع وحفص عن عاصم «إنكم» بهمزة واحدة مكسورة على الخبر المستأنف، وهو بيان لتلك الفاحشة.

وقرأ ابن كثير بهمزتين بدون ألف بينهما. وبتسهيل الثانية، وأبو عمرو كذلك لكنه أدخل الألف بينهما. وهشام بتحقيق الهمزتين بينهما مد. والباقون بتحقيقهما من غير مدّ بينهما على

ص: 383

الأصل، وهذا الاستفهام معناه الإنكار بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) أي مجاوزين الحلال إلى الحرام، وأنتم قوم عادتكم الزيادة في كل عمل وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أي ما كان جوابا من جهة قومه شيء من الأشياء في المرة الأخيرة من مرات المحاورة بينه وبينهم إلا قولهم لبعضهم الآخرين المباشرين لتلك الأمور معرضين عن مخاطبة لوط عليه السلام أَخْرِجُوهُمْ أي لوطا وابنتيه زعورا وريثا مِنْ قَرْيَتِكُمْ سذوم إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) أي يتنزهون عن أدبار الرجال قالوا ذلك على سبيل السخرية بلوط وأهله، وعلى سبيل الافتخار بما هم فيه فَأَنْجَيْناهُ أي لوطا وَأَهْلَهُ وهم بنتاه إِلَّا امْرَأَتَهُ الكافرة واسمها واهلة كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) أي الباقين في ديارهم فهلكت في العذاب مع الهالكين فيها لأنها تسر الكفر موالية لأهل سذوم، وأما لوط فخرج مع بنتيه من أرضهم، وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم وهو في فلسطين وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي وأرسلنا عليهم إرسال المطر آجرا محروقا معجونا بالكبريت والنار.

قال مجاهد: نزل جبريل عليه السلام وأدخل جناحه تحت مدائن قوم لوط، فاقتلعها ورفعها إلى السماء ثم قلبها فجعل أعلاها أسفلها، ثم أتبعوا بالحجارة. وقيل: المعنى وأنزلنا على الخارجين من المداين الخمسة حجارة من السماء معلّمة عليها اسم من يرمى بها.

وروي أن تاجرا منهم كان في الحرم فوقف الحجر له أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) أي فانظر يا من يتأتى منه النظر كيف أمطر الله حجارة من طين مطبوخ بالنار متتابع في النزول على من يعمل ذلك العمل المخصوص، وكيف أسقط مدائنها مقلوبة إلى الأرض وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ أي وأرسلنا إلى أولاد مدين بن إبراهيم عليه السلام أخاهم في النسب لا في الدين شُعَيْباً بن ميكيل. وقيل:

شعيب بن ثويب بن مدين بن إبراهيم قالَ لقومه وهم أهل كفر وبخس للمكيال والميزان:

يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي معجزة مِنْ رَبِّكُمْ دالة على رسالة الله وعلى صدق ما جئت به ومن معجزات شعيب أنه دفع عصاه إلى موسى، وتلك العصا حاربت التنين وأنه قال لموسى: إن هذه الأغنام تلد أولادا فيها سواد في أوائلها وبياض في أواخرها، وقد وهبتها منك، فكان الأمر كما أخبر عنه، وأنه وقع على يده عصا آدم عليه السلام فإن جميع ذلك كان قبل استنباء موسى عليه السلام.

وقيل: إن المراد بالبينة نفس شعيب عليه السلام فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ أي أتموا كيل المكيال ووزن الميزان وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي ولا تنقصوا حقوق الناس بجميع الوجوه كالغصب والسرقة وأخذ الرشوة وقطع الطريق، وانتزاع الأموال بطريق الحيل. وقيل:

ص: 384

كانوا مكّاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوة كما يفعل أمراء الجور وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالمعاصي بَعْدَ إِصْلاحِها بعد أن أصلحها الله بتكثير النعم فيها. قال ابن عباس: كانت الأرض قبل أن يبعث الله شعيبا رسولا، تعمل فيها المعاصي وتستحل فيها المحارم وتسفك فيها الدماء فذلك فسادها، فلما بعث الله شعيبا ودعاهم إلى الله صلحت الأرض. وكان كل نبي يبعث إلى قومه فهو صلاحهم، وحاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى أصلين:

أحدهما: التعظيم لأمر الله ويدخل فيه الإقرار بالتوحيد والنبوة.

وثانيهما: الشفقة على خلق الله ويدخل فيه ترك البخس وترك الإفساد ذلِكُمْ أي هذه الأمور الخمسة خَيْرٌ لَكُمْ مما أنتم فيه في طلب المال، لأن الناس إذا علموا منكم الوفاء والصدق والأمانة رغبوا في المعاملات معكم فكثرت أموالكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) أي مصدّقين لي في قولي هذا وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ أي ولا تجلسوا على كل طريق فيه ممر الناس تهددون من مرّ بكم من الغرباء، فكانوا قطّاع طريق وكانوا مكّاسين وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ أي وتصرفون عن دين الله من آمن بالله وَتَبْغُونَها عِوَجاً أي وتطلبون سبيل الله معوجة بإلقاء الشكوك والشبهات فكانوا يجلسون على الطرق ويقولون لمن يريد شعيبا: إنه كذاب ارجع لا يفتنك عن دينك فإن آمنت به قتلناك.

وجملة الأفعال الثلاثة التي هي توعدون، وتصدون، وتبغون أحوال، أي لا تقعدوا موعدين وصادين وباغين وَاذْكُرُوا نعمة الله عليكم إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا بالعدد.

فَكَثَّرَكُمْ بالعدد قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت، فرمى الله تعالى في نسلهما بالبركة فكثروا وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) أي كيف صار آخر أمر المشركين قبلكم بالهلاك بتكذيبهم رسلهم وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ من الشرائع والأحكام وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا أي فانتظروا أيها المؤمنون والكافرون حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا جميعا من مؤمن وكافر بإعلاء درجات المؤمنين وبإظهار هوان الكافرين وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) أي إنه تعالى حاكم عادل منزّه عن الجور قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي قال الجماعة الذين أنفوا من قبول قوله وبالغوا في العتو: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا والظرف متعلق بالإخراج لا بالإيمان. أي والله لنخرجنك وأتباعك من مدين أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي أو لتصيرن إلى ملتنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) أي قال شعيب:

أتصيروننا في ملتكم وإن كنا كارهين للدخول فيها قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً عظيما حيث نزعم أن لله تعالى ندا إِنْ عُدْنا أي إن دخلنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها أي من ملتكم وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا أي وما يجوز لنا أن ندخل في ملتكم إلا أن يأمر الله بالدخول فيها

ص: 385

وهيهات ذلك وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي ربما كان في علمه تعالى حصول بقائنا في هذه القرية من غير أن نعود إلى ملتكم بل الله يجعلكم مقهورين تحت أمرنا ذليلين خاضعين تحت حكمنا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أي في أن يثبتنا على ما نحن عليه من الإيمان رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ أي يا ربنا احكم بيننا بالعدل وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) أي الحاكمين. أو المعنى أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبينهم بأن تنزل عليهم عذابا يتميز به المحق من المبطل وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي وقال الرؤساء من قوم شعيب للسفلة لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً في دينه إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) في الدين وفي الدنيا لأنه يمنعكم من أخذ الزيادة من أموال الناس وعند هذا المقال كمل حالهم في الضلال والإضلال فاستحقوا الإهلاك

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة المهلكة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) أي فصاروا في مساكنهم خامدين ساكنين بلا حياة الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي الذين كذبوا شعيبا استؤصلوا بالمرة وصاروا كأنهم لم يقيموا في قريتهم أصلا، أي عوقبوا بقولهم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا وصاروا هم المخرجين من القرية إخراجا لا دخول بعده أبدا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) دينا ودنيا دون الذين اتبعوه فإنهم الرابحون في الدارين فَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي خرج شعيب من بينهم قبل الهلاك.

وقال الكلبي: ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بينهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي بالأمر والنهي وَنَصَحْتُ لَكُمْ أي حذرتكم من عذاب الله ودعوتكم إلى الإيمان والتوبة، وإنما اشتد حزنه على قومه لأنهم كانوا كثيرين، وكان يتوقع منهم الاستجابة للإيمان فلما أن نزل بهم ذلك الهلاك العظيم بوجود علاماته كحبس الريح عنهم سبعة أيام حصل في قلبه الحزن من جهة القرابة والمجاورة وطول الألفة، ثم عزى نفسه وقال: فَكَيْفَ آسى أي أحزن حزنا شديدا عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر.

وقيل: قال شعيب ذلك اعتذارا من عدم شدة حزنه عليهم. والمعنى لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فكيف آسى عليكم، والمراد أنهم ليسوا مستحقين بأن يأسى الإنسان عليهم، وقرأ يحيى بن وثاب فكيف آسى، بإمالتين وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ فكذبه أهلها إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها أي عاقبناهم بِالْبَأْساءِ أي الشدة في أحوالهم كالخوف وضيق العيش وَالضَّرَّاءِ أي الأمراض والأوجاع لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) أي كي يتذللوا وينقادوا لله تعالى ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أي ثم أعطيناهم السعة والصحة بدل ما كانوا فيه من البلاء والمرض لأن ورود النعمة في المال والبدن يدعو إلى الاشتغال بالشكر حَتَّى عَفَوْا أي كثروا في أنفسهم وأموالهم وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ كما أصابنا وهذه عادة الزمان في أهله فمرة يحصل فيهم الشدة والنكد، ومرة يحصل لهم الرخاء والراحة

ص: 386

فصبروا على دينهم، فنحن مثلهم نقتدي بهم وليست عقوبة من الله بسبب ما نحن عليه من الدين والعمل فلما لم ينقادوا بالشدة وبالرخاء لم ينتفعوا بذلك الإمهال أخذهم الله بغتة أينما كانوا قال تعالى: فَأَخَذْناهُمْ بعد ذلك بَغْتَةً أي فجأة بالعذاب وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) أي وقت نزول العذاب ولا يخطرون ببالهم شيئا من المكاره وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى الذين أهلكناهم آمَنُوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وَاتَّقَوْا ما نهى الله عنه لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ بالمطر وَالْأَرْضِ بالنبات والثمار والمواشي وحصول الأمن والسلامة. وقرأ ابن عامر «لفتحنا» بتشديد التاء للتكثير وَلكِنْ كَذَّبُوا ذلك ولم يتقوا ما حرمه الله فَأَخَذْناهُمْ بالجدوبة والعذاب بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) من الكفر والمعاصي أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أي أبعد ذلك أمن أهل القرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي ليلا وَهُمْ نائِمُونَ (97) أي غافلون عن ذلك أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى أي نهارا وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أي يشتغلون بما ينفعهم، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بسكون الواو أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ أي عذاب الله فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) وهم الذين لا يعرفون ربهم لغفلتهم فلا يخافونه. وسمي العذاب مكرا لنزوله بهم من حيث لا يشعرون أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ

يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ.

قرأ الجمهور «يهد» بالياء من تحت، أي أولم يتبين للذين يرثون أرض مكة من المتقدمين بسكونها من بعد هلاك أهلها تعذيبنا إياهم بسبب ذنوبهم لو شئنا ذلك كما عذبنا من قبلهم، وفاعل «يهد» مصدر مؤول من «أن» وما في حيزها أن نزل «يهد» منزلة اللازم وإلا فمفعوله له محذوف والتقدير أولم يوضح للوارثين أرض مكة من بعد هلاك أهلها عاقبة أمرهم أن الشأن لو نشاء الإصابة أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا المورثين وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ أي إن لم نهلكهم بالعقاب نطبع على قلوبهم فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) أي لا يقبلون موعظة من أخبار الأمم المهلكة. والمراد إما الإهلاك وإما الطبع على القلب، لأن الإهلاك لا يجتمع مع الطبع على القلب فإذا أهلك شخص يستحيل أن يطبع على قلبه وإنما يحصل الطبع حال استمراره على الكفر فهو يكفر أولا ثم يصير مطبوعا عليه في الكفر، ولم يكن هذا التقرير منافيا لصحة عطف قوله: و «نطبع» على «أصبناهم»

تِلْكَ الْقُرى وهي قرى قوم نوح، وعاد وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب نَقُصُّ عَلَيْكَ يا أكرم الرسل مِنْ أَنْبائِها كيف أهلكت وإنما خصّ الله أنباء هذه القرى لأنهم اغتروا بطول الإمهال مع كثرة النعم فتوهموا أنهم على الحق فذكرها الله تعالى تنبيها لقوم محمد صلى الله عليه وسلم ليحترزوا عن مثل تلك الأعمال وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي وبالله لقد جاء كل أمة من تلك الأمم المهلكة أنبياؤهم الذين أرسلوا إليهم بالمعجزات الواضحة الدالة على صحة رسالتهم الموجبة للإيمان فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما

ص: 387

كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ

أي فبعد رؤية المعجزات ما كان أولئك الكفار ليؤمنوا بالشرائع التي كذبوها قبل رؤية تلك المعجزات. والمعنى كانت كل أمة من أولئك الأمم في زمن الجاهلية يتسامعون بكلمة التوحيد من بقايا من قبلهم فيكذبونها، ثم كانت حالهم بعد مجيء نبيهم الذي أرسل إليهم كحالتهم قبل ذلك كأن لم يبعث إليهم أحد كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) أي مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفار الأمم الخالية يطبع على قلوب الكافرين الذين كتب الله عليهم أن لا يؤمنوا أبدا وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ أي وما وجدنا أكثر الناس على إيمان كما قاله ابن مسعود أو على عهد أول وهو الذي عاهدهم الله وهم في صلب آدم حيث قال: ألست بربكم؟

قالوا: بلى، فلما أقروا بربوبية الله تعالى في عالم الذر ثم خالفوا ذلك في هذا العالم صار كأنه ما كان لهم عهد وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) أي وإن الشأن.

والحديث: «وجدنا أكثر الأمم في عالم الشهادة خارجين عن الطاعة صارفين عن الدين»

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي من بعد انقضاء الرسل المذكورين أو من بعد هلاك الأمم المحكية مُوسى بِآياتِنا التسع الدالة على صدقه إِلى فِرْعَوْنَ واسمه قابوس.

وقيل: اسمه الوليد بن مصعب بن ريان، وكان ملكه أربعمائة سنة، وعاش ستمائة وعشرين سنة ولم ير في تلك المدة مكروها قط من وجع، أو حمى، أو جوع، ولو حصل له ذلك لما ادعى الربوبية وَمَلَائِهِ أي عظماء قومه فَظَلَمُوا بِها أي بتلك الآيات أي وضعوا الإنكار في موضع الإقرار ووضعوا الكفر في موضع الإيمان وذلك ظلم منهم على تلك الآيات الظاهرة فَانْظُرْ أيها المخاطب بعين عقلك كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وكيف فعلنا بهم وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ إليك وإلى قومك مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ.

وقرأ نافع «على» بتشديد الياء، ف «حقيق» فحقيق مبتدأ وخبره ما دخلت عليه «أن» ، أي واجب على ترك القول على الله إلا بالحق. والباقون بمد اللام، والمعنى أنا ثابت بأن لا أقول على الله إلا الصدق. وقرأ أبي «بأن لا أقول بالباء» . وقرأ عبد الله والأعمش «أن لا أقول» بدون حرف جر قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ أي معجزة شاهدة على رسالتي مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) أي فخلهم حتى يذهبوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم مع أموالهم فكان فرعون عاملهم معاملة العبيد في الاستخدام. قالَ أي فرعون إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها أي إن كنت جئت بآية من عند من أرسلك فأحضرها عندي ليثبت صدقك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) في دعواك أنك رسول فَأَلْقى موسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ أي حية ضخمة صفراء ذكر مُبِينٌ (107) أي ظاهر لا يشك في كونه ثعبانا.

ص: 388

روي أنه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر، فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا، وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون ليبتلعه فوثب فرعون عن سريره هاربا، وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، فصاح فرعون: يا موسى، أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذه فعاد عصا وَنَزَعَ يَدَهُ أي أخرجها من طوق قميصه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ بياضا نورانيا غلب شعاعه شعاع الشمس لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أي الرؤساء منهم وهم أصحاب مشورته إِنَّ هذا أي موسى لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) أي حاذق بالسحر، فإنهم قالوا ذلك مع فرعون على سبيل التشاور يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ أي من أرض مصر فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قاله لفرعون خدمه والأكابر فإن الأتباع يفوضون الأمر والنهي إلى المخدوم والمتبوع أولا،

ثم يذكرون ما حضر في خواطرهم من المصلحة بقولهم: أرجه وأخاه. قال تعالى: قالُوا أَرْجِهْ فيه ست قراءات. ثلاثة بإثبات الهمزة التي بعد الجيم وهي كسر الهاء من غير إشباع لابن ذكوان عن ابن عامر، وضمها كذلك لأبي عمرو وبإشباع حتى يتولد من الضمة واو على الأصل لابن كثير، وهشام عن ابن عامر. وثلاثة بحذف الهمزة وهي سكون الهاء وصلا ووقفا لعاصم وحمزة، وكسر الهاء من غير إشباع لقالون وبه حتى يتولد منها ياء لنافع والكسائي. وورش أي أخر أمر موسى ولا تعجل في أمره بحكم. والمراد أنهم حاولوا معارضة معجزته بسحرهم ليكون ذلك أقوى في إبطال قول موسى وَأَخاهُ هارون وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) أي وأرسل في مدائن صعيد مصر شرطا يحشرون إليك ما فيها من السحرة وكان رؤساء السحرة ومهرتهم في أقصى مدائن الصعيد يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) أي ماهر في السحر.

وقرأ حمزة والكسائي «سحار» كما اتفقوا عليه في سورة الشعراء وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد ما أرسل الشرط في طلبهم قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً على الغلبة. قرأ نافع وابن كثير وحفص عن عاصم «أن» بهمزة واحدة. والباقون بهمزتين وأدخل أبو عمرو الألف بينهما إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) لموسى قالَ نَعَمْ. وقرأ الكسائي بكسر العين وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) أي نعم لكم الأجر ولكم المنزلة الرفيعة عندي زيادة على الأجر، أي فإني لا أقتصر بكم على الثواب بل أزيدكم عليه، وتلك الزيادة إني أجعلكم من المقربين إليّ بالمنزلة. قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك أولا وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) ما معناه من الحبال والعصي أولا، فلما راعوا حسن الأدب حيث قدموا ذكر موسى عليه السلام رزقهم الإيمان ببركة رعاية هذا الأدب قالَ موسى مريدا الإبطال ما أتوا به من السحر وإزراء شأنهم: أَلْقُوا ما تلقون فَلَمَّا أَلْقَوْا عصيا وحبالا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ أي صرفوها عن إدراك حقيقتها فتخيلوا أحوالا

ص: 389

عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان وفق ما تخيلوه. قيل: إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جدا، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي بالغوا في تخويف عظيم للعوام من حركات تلك الحبال والعصي وخاف موسى أن يتفرقوا قبل ظهور معجزته فكان خوفه لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوه من أمر تلك الحيات، وليس خوفه لأجل سحرهم لأنه كان على ثقة من الله تعالى أنهم لم يغلبوه وهو غالبهم وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) في باب السحر وعند السحرة وإن كان حقيرا في نفسه قيل:

كانت الحبال والعصي حمل ثلاثمائة بعير وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا وأخشابا طوالا فإذا هي حيات كأمثال الحبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا وكانت سعة الأرض ميلا في ميل فصارت كلها حيات وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ ولما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فكها فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعا، وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم أصلا كما قال تعالى فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي تلقم ما

يَأْفِكُونَ

(117)

أي الذي يقبلونه عن الحق إلى الباطل فَوَقَعَ الْحَقُّ أي فظهر الحق مع موسى وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) أي واضمحل ما عملوه من السحر وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا فلما فقدت ثبت أن ذلك حصل بخلق الله تعالى لا لأجل السحر فَغُلِبُوا أي فرعون وقومه هُنالِكَ أي في المكان الذي وقع فيه سحرهم وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) أي صاروا ذليلين مبهوتين وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) أي خروا سجدا لله تعالى أي فمن سرعة سجودهم كأنهم ألقوا.

قال ابن زيد: كان اجتماعهم بالإسكندرية وبلغ ذنب الحية وراء البحر، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا فكان تبتلع حبالهم وعصيهم واحدا واحدا حتى ابتلعت الكل، وقصدت القوم الذين حضروا ذلك المجمع ففزعوا ووقع الزحام، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، ثم أخذها موسى فصارت في يده عصا كما كانت، فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه ليس بسحر فعند ذلك خروا ساجدين

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) قال فرعون: إياي تعنون؟ قالوا: لا بل رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) ولما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله تعالى في الحال وجعلوا ذلك السجود شكرا لله تعالى على الفوز بالإيمان والمعرفة، وعلامة على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان، وإظهارا للخضوع والتذلل لله تعالى فكأنهم جعلوا ذلك السجود الواحد علامة على هذه الأمور الثلاثة على سبيل الجمع وأولئك القوم كانوا عالمين بحقيقة السحر، فلما وجدوا معجزة موسى خارجة عن حدّ السحر علموا أنها أمر إلهي فاستدلوا بها على أن موسى نبي صادق من عند الله تعالى فلأجل كمالهم في علم السحر انتقلوا من الكفر إلى الإيمان، فإذا كان حال علم السحر كذلك فما ظنك

ص: 390

بكمال حال الإنسان في علم التوحيد قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ أي برب موسى وهارون واختلف القراء في هذا الحرف هنا، وفي طه وفي الشعراء فإن القراء في ذلك على أربع مراتب.

الأولى: قراءة الأخوين وأبي بكر عن عاصم، وهي تحقيق الهمزتين في السور الثلاث من غير إدخال ألف بينهما، وهو استفهام إنكار، وأما الألف الثالثة فالكل يقرءونها كذلك وهي فاء الكلمة يجب قلبها ألفا لكونها بعد همزة مفتوحة، وأما الأولى فمحققة ليس إلا.

والثانية: قراءة حفص وهي «آمنتم» بهمزة واحدة بعدها ألف.

والثالثة: قراءة نافع وأبي عمرو وابن عامر والبزي عن ابن كثير، وهي تحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين.

والرابعة: قراءة قنبل عن ابن كثير، فقرأ في هذه السورة حال الابتداء «أآمنتم» بهمزتين أولاهما محققة والثانية مسهلة بين بين وألف بعدها، كقراءة البزي وحال الوصل يقرأ «قال فرعون» و «آمنتم» بإبدال الأولى واوا وتسهيل الثانية بين بين وألف بعدها. وقرأ في سورة طه كقراءة حفص وفي سورة الشعراء كقراءة البزي قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي بغير أن آذن لكم إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي إن إيمان هؤلاء حيلة احتلتموها مع مواطأة موسى في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد، وأن غرضهم بذلك إخراج القوم من مصر وإبطال ملكهم، وهاتان شبهتان ألقاهما فرعون إلى أسماع عوام القبط ليمنعهم بها عن الإيمان بنبوة موسى عليه السلام فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) ما أفعل بكم لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي من كل شق طرفا ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أي أعلقكم ممدودة أيديكم لتصير على هيئة الصليب أو حتى يتقاطر صليبكم وهو الدهن الذي فيكم أَجْمَعِينَ (124) قالُوا أي السحرة: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) أي راجعون بالموت بلا شك سواء كان بقتلك أو لا فيحكم بيننا وبينك وإنا إلى رحمة ربنا راغبون وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا أي ما تعب علينا إلا إيماننا آيات ربنا، أو ما لنا عندك ذنب تعذبنا عليه إلا لإيماننا بآيات ربنا حين جاءتنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي صبّ علينا صبرا كاملا تاما عند القطع والصلب لكيلا نرجع كفارا وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) أي مخلصين على دين موسى. قيل:

فعل فرعون ما توعدهم به، وقيل: لم يقع من فرعون ذلك بل استجاب الله تعالى الدعاء في قولهم وتوفنا مسلمين لأنهم سألوه تعالى أن يكون توفيهم من جهته تعالى لا بقتل فرعون وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ له لما خلى سبيل موسى أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ من بني إسرائيل لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي ليفسدوا على الناس في أرض مصر بتغيير دينهم. واعلم أن فرعون بعد وقوع هذه الواقعة كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف فلهذا السبب لم يتعرض له، إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك فحملوه على أخذه وحبسه وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ أي معبوداتك بكسر اللام جمع إله.

ص: 391

وقرأ ابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنس وعلي بن أبي طالب «وآلاهتك» بفتح اللام ومدة أي وعبادتك. وقرأ العامة بنصب «يذرك» عطف على «يفسدوا» أو جواب الاستفهام بالواو.

وقرأ الحسن ونعيم بن ميسرة بالرفع عطفا على «أنذر» أو استئنافا أو حالا. وقرئ بالسكون قالَ فرعون لما لم يقدر على موسى أن يفعل معه مكروها لخوفه منه سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ أي أبناء بني إسرائيل ومن آمن موسى صغارا كما قتلناهم أول مرة، وقرأ نافع وابن كثير «سنقتل» بفتح النون وسكون القاف. والباقون بضم النون وفتح القاف وتشديد التاء وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي ونتركهن أحياء للخدمة وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) كما كنا وهم مقهورون تحت أيدينا وإنما نترك موسى وقومه من غير حبس لعدم التفاتنا إليهم لا لعجز ولا لخوف، واختلف المفسرون، فمنهم من قال: كان فرعون يفعل ذلك، ومنهم من قال: لم يفعل ذلك لعدم قدرته لقوله تعالى:

أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ [القصص: 35] قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ بني إسرائيل حين تضجروا من قول فرعون على سبيل التسلية لهم اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ على فرعون وقومه وَاصْبِرُوا على ما سمعتم من أقاويله الباطلة إِنَّ الْأَرْضَ أي أرض مصر لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ.

وقرأ الحسن «يورثها» بفتح الواو وتشديد الراء المكسورة للتكثير. وقرئ «يورثها» بفتح الراء مبنيا للمفعول وَالْعاقِبَةُ أي الجنة أو فتح البلاد والنصر على الأعداء لِلْمُتَّقِينَ (128) أي الذين أنتم منهم فمن اتقى الله تعالى فالله يعينه في الدنيا والآخرة. وقرأ ابن مسعود بنصب العاقبة عطفا على الأرض، فالاسم معطوف على الاسم والخبر على الخبر فهو من عطف المفردات.

قالُوا أي بنو إسرائيل لموسى لما سمعوا تهديد فرعون بالقتل للأبناء مرة ثانية: أُوذِينا من جهة فرعون مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا رسولا. قالوا ذلك استكشافا لكيفية وعد موسى إياهم بزوال تلك المضار هل هو في الحال أو لا؟ لا كراهة لمجيء موسى بالرسالة. قالَ أي موسى مسليا لهم حين رأى شدة جزعهم مما شاهدوه من فعل فرعون:

عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ الذي توعدكم بإعادة فعله وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي يجعلكم خلفاء في الأرض مصر بعد هلاك أهلها فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) أي فيرى سبحانه وتعالى كيف تعملون في طاعته وهذا حث لهم على التمسك بطاعة الله تعالى، فالله تعالى يرى وقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازي عباده على ما يعلمه منهم في الأزل وإنما يجازيهم على ما يقع منهم وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ أي باحتباس المطر وبالجوع وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ أي ذهاب الثمرات بإصابة العاهات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) أي كي يقفوا على أن ذلك لأجل معاصيهم وينزجوا عمّا هم عليه من العتو والعناد

فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ أي الخصب والسعة في الرزق والسلامة قالُوا لَنا هذِهِ أي نحن مستحقون من كثرة نعمنا على العادة التي جرت وَإِنْ

ص: 392

تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ

أي جدوبة وشدة وبلاء يَطَّيَّرُوا أي يتشاءموا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ من المؤمنين، أي يقولوا: إنما أصابنا هذا الشر بشؤم موسى وقومه أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ أي حظهم عِنْدَ اللَّهِ أي كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله تعالى وبتقديره.

وقيل: المعنى إنما جاءهم الشر بقضاء الله تعالى وحكمه. وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير. وأصل الفأل: الكلمة الحسنة. كانت العرب مذهبها في الفأل

والطيرة واحد فأثبت النّبيّ صلى الله عليه وسلم الفأل وأبطل الطيرة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) أن ما يصيبهم من الله تعالى وَقالُوا أي آل فرعون وهم القبط لموسى عليه السلام مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) أي أيّ شيء تظهره لدينا من علامة من عند ربك لتصرفنا عمّا نحن عليه من الدين بذلك الشيء فما نحن لك بمصدقين بالرسالة وكان موسى رجلا حديدا فعند ذلك دعا عليهم فاستجاب الله له فقال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ أي الماء من السماء فدخل بيوت القبط وقاموا في الماء إلى تراقيهم ودام ذلك عليهم سبعة أيام من سبت إلى سبت، ولم يدخل ذلك الماء بيوت بني إسرائيل مع أنها كانت في خلال بيوت القبط فاستغاثوا بفرعون، فأرسل إلى موسى فقال: اكشف عنا العذاب فقد صارت مصر بحرا واحدا، فإن كشفت هذا العذاب آمنا بك. فأزال الله عنهم المطر وأرسل الرياح فجففت الأرض وخرج من النبات ما لم يروا مثله قط. فقالوا: هذا الذي جزعنا منه خير لنا لكنا لم نشعر فلا والله لا نؤمن بك ولا نرسل معك بني إسرائيل فنكثوا العهد وَأقاموا شهر في عافية فأرسل الله تعالى عليهم الْجَرادَ فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم ففزعوا إلى موسى، فدعا موسى عليه السلام فأرسل الله تعالى ريحا، فألقته في البحر بعد ما أقام عليهم سبعة أيام من سبت إلى سبت، فنظر أهل مصر إلى ما بقي من زرعهم فقالوا: هذا الذي بقي يكفينا ولا نؤمن بك وَأقاموا شهرا في عافية فأرسل الله عليهم الْقُمَّلَ أي الجراد الصغير بلا أجنحة من سبت، فلم يبق في أرضهم عود أخضر إلا أكله، فصاحوا ودعا موسى فأرسل الله عليه ريحا حارة فأحرقته وألقته في البحر.

وقرأ الحسن «والقمل» بفتح القاف وسكون الميم- وهو المعروف- وعن سعد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه موسى بعصاه فصار قملا، فأخذت في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم، فصرخوا وفزعوا إلى موسى، فدعا، فرفع الله عنهم القمل وقالوا:

قد تيقّنا اليوم أنك ساحر حيث جعلت الرمل دواب، وعزة فرعون لا نؤمن بك أبدا وَأقاموا شهرا في عافية، فأرسل الله تعالى عليهم الضَّفادِعَ فخرج من البحر مثل الليل الدامس، ووقع في الثياب والأطعمة فكان الرجل منهم يستيقظ وعلى رأسه ذراع من الضفادع، فصرخوا إلى موسى وحلفوا لئن رفعت عنا هذا العذاب لنؤمن بك، فدعا الله تعالى، فأمات الضفادع، وأرسل

ص: 393

عليها المطر فاحتملها إلى البحر بعد ما أقامت عليهم سبعة أيام من سبت إلى سبت، ثم أظهروا الكفر وَأقاموا شهرا في عافية، فأرسل الله عليهم الدَّمَ فصارت مياه قلبهم وأنهارهم دما، فلم يقدروا على الماء العذب حتى بلغ منهم الجهد، وبنو إسرائيل يجدون الماء العذب الطيب، وكان فرعون وأشراف قومه يركبون إلى أنهار بني إسرائيل، فجعل يدخل الرجل منهم النهر فإذا اغترف الماء صار في يده دما، ومكثوا سبعة أيام في ذلك لا يشربون إلا الدم. فقال فرعون لموسى عليه السلام: لئن رفعت عنا العذاب لنصدقن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل مع أموالهم آياتٍ مُفَصَّلاتٍ أي مبينات لا يخفى على كل عاقل أن هذه الخمسة من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، ومفرقات بعضها من بعض بزمان لامتحان أحوالهم: أيقبلون الحجة أو يستمرون على التقليد. وكان كل عذاب يبقى عليهم أسبوعا من سبت إلى سبت وبين كل عذابين شهر فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان بها وعن عبادة الله وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) مصرين على الذنب وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي كلما نزل عليهم العذاب من الأنواع الخمسة قالُوا في كل مرة:

يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بما أعلمك به وهو كشف العذاب عنا إن آمنا. أو المعنى أقسمنا بعهد الله عندك وهو النبوة لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ أي لئن رفعت عنا العذاب الذي نزل علينا لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) أي مع أموالهم فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ أي حدّ معين هُمْ بالِغُوهُ لا بدّ وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) أي فلما رفعنا عنهم العذاب فاجأوا نكث العهد من غير تأمل وتوقف، ثم عند حلول ذلك الأجل لا نزيل عنهم العذاب بل نهلكهم به فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي فلما بلغوا الأجل الموقت أهلكناهم فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي البحر الملح. والفاء تفسيرية بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا التسع الدالة على صدق رسولنا وَكانُوا عَنْها أي تلك الآيات غافِلِينَ (136) أي معرضين غير ملتفتين إليها وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بقتل أبنائهم وأخذ الجزية منهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة وهم بنو إسرائيل مَشارِقَ الْأَرْضِ أي أرض الشام ومصر وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها بالخصب وسعة الأرزاق، وبالنيل وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي ومضى وعده تعالى عليهم بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم على الشدائد. فمن قابل البلاء بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج، ومن قابله بالجزع وكله الله إليه. وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ ف «فرعون» اسم «كان» و «يصنع» خبر ل «كان» مقدم. أي وخربنا الذي كان فرعون يصنعه من المدائن والقصور وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) أي يرفعون من الشجر والكروم أو ما كانوا يرفعونه من البنيان كصرح هامان.

وقرأ ابن عامر وشعبة بضم الراء. والباقون بكسرها وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ مع السلامة بأن فلق الله البحر عند ضرب موسى البحر بالعصا. روي أن موسى عبر بهم يوم عاشوراء

ص: 394

بعد ما أهلك الله تعالى فرعون وصامه شكرا لله تعالى فَأَتَوْا أي فمروا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أي يواظبون على عبادة أصنام لهم وكانت تماثيل على صور البقر، وهم من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم.

وقرأ حمزة والكسائي بكسر الكاف. والباقون بالضم قالُوا عند ما شاهدوا أحوالهم يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً أي عين لنا تماثيل نتقرب بعبادتها إلى الله تعالى كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها. قالَ موسى: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) فلا جهل أعظم مما ظهر منهم فإنهم قالوا ذلك بعد ما شاهدوا المعجزة العظمى إِنَّ هؤُلاءِ أي القوم الذين يعبدون تلك التماثيل مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ أي مهلك ما هم فيه من الدين. أي إن الله يهدم دينهم عن قريب ويحطم أصنامهم وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) من عبادتها أي فلا يعود عليهم من ذلك العمل نفع ولا دفع ضرر. قالَ موسى: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) أي أأطلب لكم غير الله معبودا والحال أنه تعالى وحده فضّلكم على عالمي زمانكم بالإسلام. أو فضلكم على العالمين بتخصيصكم بنعم لم يعطها غيركم، كالتخصيص بتلك الآيات القاهرات فإنه لم يحصل مثلها لأحد من العالمين، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصال مثاله رجل تعلّم علما واحدا وآخر تعلّم علوما كثيرة سوى ذلك العلم، فصاحب العلم الواحد مفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحد. وفي الحقيقة إن صاحب العلوم الكثيرة مفضل على صاحب العلم الواحد والمعنى أآمركم أن تعبدوا ربا يتخذ ويطلب بل الإله هو الذي يكون قادرا على الإيجاد وإعطاء الحياة وجميع النعم

وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي واذكروا وقت إنجائنا إياكم من فرعون وقومه بإهلاكهم بالكلية.

وقرأ ابن عامر «أنجاكم» بحذف الياء والنون يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي يعطونكم أشد العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ صغارا وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي يستخدمون نساءكم كبارا وَفِي ذلِكُمْ أي الإنجاء بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) أي نعمة عظيمة من ربكم ويقال:

وفي ذلكم العذاب بلية عظيمة من ربكم وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً.

روي أن موسى وهو بمصر وعد بني إسرائيل إذا أهلك الله تعالى عدوهم فرعون أن يأتيهم بكتاب من عند الله تعالى فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما أهلك الله تعالى فرعون سأل موسى ربه أن ينزل عليه الكتاب الذي وعد به بني إسرائيل فأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامها وهي شهر ذي القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فمه فتسوك بعود خرنوب. فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك فأمره الله أن يصوم عشر ذي الحجة وقال له: أما علمت أن

ص: 395

خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك فكانت فتنة بني إسرائيل في تلك العشر التي زادها الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام. وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ

عند ذهابه إلى الجبل للمناداة: اخْلُفْنِي أي كن خليفتي فِي قَوْمِي وراقبهم فيما يأتون وما يذرون وَأَصْلِحْ أمور بني إسرائيل وأمرهم بعبادة الله تعالى وهي صلاحهم وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) أي ومن دعاك منهم إلى طريق المفسدين بالمعاصي فلا توافقه وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا أي لميعادنا في مدن في يوم الخميس يوم عرفة فكلمه الله تعالى فيه من غير واسطة وأعطاه التوراة صبيحة يوم الجمعة يوم النحر وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ أي أزال الحجاب بين موسى وبين كلامه فسمعه من كل جهة.

قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أي أرني ذاتك بأن تمكنني من رؤيتك فأراك. قالَ تعالى له: لَنْ تَرانِي أي لن تقدر أن تراني في الدنيا يا موسى وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ في مدين فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي أي فإن استقر الجبل مكانه لرؤيتي فلعلك تراني. والرؤية متأخرة عن النظر، لأنه تقليب الحدقة السليمة جهة المرئي التماسا لرؤيته، والرؤية الإدراك بالباصرة بعد النظر فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا أي فلما ظهرت عظمته تعالى لجبل زبير جعله مكسورا. قيل: إن جبل زبير أعظم جبل في مدين فإنه صار ستة أجبل، فوقع ثلاثة منها بالمدينة وهي: أحد، وورقان، ورضوى. وقع ثلاثة بمكة وهي: ثور وثبير وحراء، أي أمر الله تعالى ملائكة السماء السابعة بحمل عرشه، فلما بدا نور العرش انصدع الجبل من عظمة الله تعالى.

وقرأ حمزة الكسائي «دكاء» بالمد أي مستويا بالأرض. وقرأ ابن وثاب «دكا» بضم الدال وبالقصر جمع دكاء أي قطعا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً أي مغشيا عليه من هول ما رآه من النور فَلَمَّا أَفاقَ من غشيته قالَ سُبْحانَكَ أي تنزيها لك عن أن ترى في الدنيا تُبْتُ إِلَيْكَ من الجراءة على السؤال بغير إذن منك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) أي المقرين بأنك لا ترى في الدنيا لكل الأنبياء، وقد ثبتت الرؤية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على الصحيح أو يقال: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك قالَ تعالى له: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ أي فضلتك عَلَى النَّاسِ أي بني إسرائيل بِرِسالاتِي أي بكتب التوراة. وقرأ نافع وابن كثير «برسالتي» بالإفراد أي تبليغ رسالتي وَبِكَلامِي أي وبتكلمي معك بغير واسطة فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أي فاعمل ما أعطيتك من الرسالة أي الوحي وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) أي واشتغل بشكر الفوز بهذه النعمة وهو القيام بلوازمها علما وعملا، ولا يضق قلبك بسبب منعك الرؤية وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ أي وكتبنا لموسى في ألواح التوراة مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه موسى وقومه في دينهم من الحلال والحرام والمحاسن والقبائح مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ بدل من قوله تعالى «من كل شيء» باعتبار محله وهو النصب. أي كتبنا له كل شيء من المواعظ التي توجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية، ومن شرح أقسام الأحكام فَخُذْها أي فقلنا

ص: 396

اعمل بهذه الأشياء بِقُوَّةٍ أي بجد ونية صادقة وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي التوراة. أي يعملوا بمحكمها ويؤمنوا بمتشابهها وقال بعضهم: الحسن يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح، وأحسن هذه الثلاثة الواجبات والمندوبات سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) أي سأدخلكم الشام بطريق الإيراث، وأريكم منازل الكافرين الذين كانوا متوطنين فيها من الجبابرة والعمالقة لتعتبروا بها فلا تفسقوا مثل فسقهم. وقرئ «سأورثكم» بالثاء المثلثة سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أي سأزيل الذين يتكبرون في الأرض بالدين الباطل عن إبطال آياتي بإهلاكهم على يد موسى، وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون في إبطال ما رآه من الآيات فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها ولا على منع المؤمنين من الإيمان بها، أي وإنما يرى بنو إسرائيل دار الفاسقين بعد هلاكهم وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها أي وأن يشاهدوا كل معجزة كفروا بكل واحدة منها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي الدين الحق والخير لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي لا يسلكوا سبيله.

وقرأ حمزة والكسائي «الرشد» بفتح الراء والشين. والباقون بضم الراء وسكون الشين.

وروي عن ابن عامر بضمتين، وقال أبو عمرو بن العلاء:«الرشد» بضم وسكون: الصلاح في النظر. وبفتحتين: الاستقامة في الدين وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ أي الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي يختارونه مسلكا لأنفسهم ذلِكَ أي تكبرهم وعدم إيمانهم بشتى من الآيات وإعراضهم عن سبيل الرشد وإقبالهم التام إلى سبيل الغي بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي حاصل بسبب أنهم كذبوا بكتابنا الدال على بطلان اتصافهم بالقبائح وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) أي وكانوا جاحدين بها وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بكتابنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي وبلقائهم الآخرة التي هي موعد الجزاء حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي حسناتهم التي لا تتوقف على نية، كصلة الأرحام وإغاثة الملهوفين وإن نفعتهم في تخفيف العذاب، لكن التخفيف لا يقال له: ثواب. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) أي ما يجزون في الآخرة إلا على ما كانوا يعملون في الدنيا من الكفر والمعاصي وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا أي صاغ موسى السامري المنافق وهو من بني إسرائيل من بعد انطلاق سيدنا موسى عليه السلام إلى الجبل عجلا من ذهب جَسَداً أتى بهذا البدل لدفع توهم أنه صورة عجل منقوشة على حائط مثلا لَهُ خُوارٌ أي صوت.

وقرأ علي رضي الله عنه «جؤار» بالجيم والهمزة أي صياح. قيل: إن بني إسرائيل كان لهم، عيد يتزينون فيه ويستعيرون من القبط الحلي، فلما أغرق الله القبط بقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل وصارت ملكا لهم، فجمع السامري تلك الحلي. وكان رجلا مطاطا فيهم صائغا، فصاغ السامري عجلا وأخذ كفا من تراب حافر فرس جبريل عليه السلام فألقاه في جوف ذلك العجل،

ص: 397

فانقلب لحما ودما، وظهر منه الخوار مرة واحدة. فقال السامري: هذا إلهكم وإله موسى أَلَمْ يَرَوْا أي ألم يعلم قوم موسى أَنَّهُ أي العجل لا يُكَلِّمُهُمْ بشيء وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا بوجه من الوجوه اتَّخَذُوهُ أي عبدوه وَكانُوا ظالِمِينَ (148) لأنفسهم حيث أعرضوا عن عبادة الله تعالى واشتغلوا بعبادة العجل وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي لما اشتد ندمهم على عبادة العجل.

و «سقط» مبني للمجهول، وأصل الكلام: سقطت أفواههم على أيديهم ف «في» بمعنى على وذلك من شدة الندم، فإن العادة أن الإنسان إذا ندم بقلبه على شيء عضّ بفمه على أصابعه، فسقوط الأفواه على الأيدي لازم للندم فأطلق اسم اللازم وأريد الملزوم على سبيل الكناية وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا أي تبينوا ضلالهم تبيينا كأنهم أبصروه بعيونهم بحيث تيقنوا ضلالهم بعبادة العجل.

قالُوا أي قال بعضهم لبعض: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا فيعذبنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) بالعقوبة.

وقرأ حمزة والكسائي بتاء الخطاب في الفعلين حكاية لدعائهم وبنصب «ربنا» على النداء وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ من مناجاته غَضْبانَ على قومه لأجل عبادتهم العجل أَسِفاً أي حزينا لأن الله تعالى فتنهم قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أي بئسما قمتم مقامي وكنتم خلفائي من بعد انطلاقي إلى الجبل. وهذا الخطاب إما لعبدة العجل من السامري وأشياعه، أي بئسما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله تعالى، وإما لهارون والمؤمنين معه أي بئسما خلفتموني حيث لم تمنعوهم من عبادة غير الله تعالى والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم هذه أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي أعجلتم وعد ربكم من الأربعين فلم تصبروا له وذلك أنهم قدروا أن موسى لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة فقد مات فإنهم عدوا عشرين يوما بلياليها أربعين وَأَلْقَى الْأَلْواحَ أي وضع ألواح التوراة في موضع ليتفرغ لما قصده من مكالمة قومه فلما فرغ عاد إليها فأخذها بعينها وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي بشعر رأس هارون يَجُرُّهُ إِلَيْهِ أي إلى نفسه لا على سبيل الإهانة بل ليستكشف منه كيفية تلك الواقعة قالَ هارون ابْنَ أُمَّ.

قراه ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم بكسر الميم هنا وفي طه. والباقون بفتحها في السورتين إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي أي وجدوني ضعيفا وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي لأني نهيتهم عن عبادة العجل فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ أي فلا تسر الأعداء أصحاب العجل بما تفعل بي من المكروه وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) أي ولا تظن أني واحد من الذين عبدوا العجل مع براءتي منهم وإنما قال هارون تلك المقالة لأنه يخاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى عليه السلام غضبان عليه كما أنه غضبان على عبدة العجل.

قالَ موسى: رَبِّ اغْفِرْ لِي فيما

ص: 398

أقدمت على أخي هارون من هذا الغضب وَلِأَخِي في تركه التشديد على عبدة العجل وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ أي جنتك بمزيد الأنعام بعد غفران ما سلف منا وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ أي عبدوه واستمروا على عبادته كالسامري وأشياعه سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ عظيم كائن مِنْ رَبِّهِمْ في الآخرة وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهي الاغتراب والمسكنة المنتظرة لهم ولأولادهم جميعا والذلة التي اختص بها السامري هو الانفراد عن الناس والابتلاء بلا مساس، ويروى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك وإذا مس أحدهم أحدا غيرهم حما جميعا في الوقت وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) أي الكاذبين على الله.

والمعنى أن كل مفتر في دين الله فجزاؤه غضب الله والذلة في الدنيا.

قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا ويجد فوق رأسه ذلة لأن المبتدع مفتر في دين الله وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ أي التي من جملتها عبادة العجل ثُمَّ تابُوا عن تلك السيئات مِنْ بَعْدِها أي من بعد عملها وَآمَنُوا إيمانا صحيحا بالله تعالى بأن صدقوا بأنه تعالى لا إله غيره ولم يصروا على ما فعلوا كالطائفة الأولى إِنَّ رَبَّكَ أي يا أفضل الخلق مِنْ بَعْدِها أي من بعد تلك التوبة المقرونة بالإيمان لَغَفُورٌ للذنوب وإن عظمت وكثرت رَحِيمٌ (153) أي مبالغ في إفاضة فنون الرحمة الدنيوية والأخروية أي من أتى بجميع السيئات ثم تاب فإن الله يغفرها له وهذا من أعظم ما يفيد البشارة للمذنبين وَلَمَّا سَكَتَ أي زال عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ باعتذار أخيه وتوبة القوم. وقرئ «سكن» بالنون، و «أسكت» بالتاء مع الهمزة على أن الفاعل هو الله تعالى أو أخوه أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها أي وفي المكتوب فيها من اللوح المحفوظ هُدىً أي بيان للحق وَرَحْمَةٌ للخلق بإرشادهم إلى ما فيه الخير والصلاح لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) اللام الأولى متعلق بمحذوف وهو صفة لرحمة والثانية لتقوية عمل الفعل المؤخر وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا.

روي أن موسى اختار من اثني عشر سبطا ستة، فصاروا اثنين وسبعين، فقال: ليتخلف منكم رجلان. فتشاجروا، فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين وأمرهم أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، فخرج بهم إلى طور سيناء فلما دنوا من الجبل غشية غمام فدخل موسى بهم الغمام، وخروا سجدا فسمعوه تعالى يكلم موسى بأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إلى موسى وقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. أي لن نصدقك في أن الآمر بما سمعنا من الأمر بقتل أنفسهم هو الله تعالى حتى نراه فأخذتهم رجفة الجبل يوما وليلة.

تنبيه: «اختار» يتعدى إلى اثنين ثانيهما مجرور ب «من» ثم يحذف حرف الجر ويوصل الفعل إلى المجرور وسبعين مفعول أول فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة الشديدة. قالَ

ص: 399

موسى: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ أي من قبل خروجهم إلى الميقات وَإِيَّايَ معهم.

قاله تسليما لقضاء الله تعالى. أي إنا كنا مستحقين للإهلاك ولم يكن من موانعه إلا عدم مشيئتك إياه أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا أي ظن موسى إنما أهلكهم الله بعبادة قومهم العجل وقال هذا على طريق السؤال، وقال المبرد: «هو استفهام استعطاف، أي لا تهلكنا بسبب فعل عباد العجل إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أي ما الفتنة التي وقع فيها السفهاء إلا محنتك بأن أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به وأسمعتهم كلامك فافتتنوا بذلك حتى طمعوا فيما فوق ذلك تُضِلُّ بِها أي بتلك الفتنة مَنْ تَشاءُ إضلالة فلا يهتدي إلى التثبت وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ هدايته إلى الحق فلا يتزلزل في أمثالها فيقوى بها إيمانه أَنْتَ وَلِيُّنا أي أنت القائم بأمورنا الدنيوية والأخروية فَاغْفِرْ لَنا ما قارفناه من المعاصي وَارْحَمْنا بإفاضة آثار الرحمة الدنيوية والأخروية علينا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) لأنك تغفر ذنوب عبادك لا لغرض بل لمحض الفضل والكرم أما غيرك فإنما يتجاوز عن الذنب إما طلبا للثواب الجزيل أو للثناء الجميل أو دفعا للربقة الخسيسة عن القلب وَاكْتُبْ لَنا أي أثبت لنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً أي نعمة وطاعة وَفِي الْآخِرَةِ أي واكتب لنا في الآخرة حسنة وهي الجنة إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي رجعنا عمّا صنعنا من المعصية التي جئناك للاعتذار عنها قالَ تعالى: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وليس لأحد على اعتراض لأن الكل ملكي.

وقرأ الحسن «من أساء» فعل ماض من الإساءة. واختار الشافعي هذه القراءة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ أي إن رحمته في الدنيا عمّت الكل، وأما في الآخرة فرحمته مختصة بالمؤمنين كما أشار تعالى إليه بقوله تعالى: فَسَأَكْتُبُها أي فسأثبتها في الآخرة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي الكفر والمعاصي وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي يعطون زكاة أموالهم وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا أي دلائل وحدانيتنا وقدرتنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ أي الذي لم يمارس القراءة والكتابة ومع ذلك قد جمع علوم الأولين والآخرين الَّذِي يَجِدُونَهُ يلقون اسمه ونعته مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ اللذين تعبّد بهما بنو إسرائيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ أي بالتوحيد وبمكارم الأخلاق وبر الوالدين، وصلة الأرحام. وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ أي عبادة الأوثان والقول في صفات الله بغير علم، والكفر بما أنزل الله على النبيين وقطع الرحم وعقوق الوالدين وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ أي الأشياء المستطابة بحسب الطبع، فكل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع فهو حلال إلا لدليل منفصل وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ أي كل ما يستخبثه الطبع وتستقذره النفس. فكل ما يستخبثه الطبع حرام إلا لدليل منفصل وعلى هذا فرع الشافعي تحريم بيع الكلب لأنه

روي عن ابن عباس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الكلب خبيث وخبيث ثمنه وإذا ثبت أن ثمنه، خبيث ثبت أن يكون حراما، والخمر محرّمة لأنها رجس والرجس خبيث بإطباق أهل اللغة عليه

ص: 400

والخبيث حرام»

«1» . وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ أي يخفف عنهم ثقلهم، والشدائد التي كانت في عباداتهم: كقطع أثر البول من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم وتحريم السبي، وقتل النفس في التوبة، وتعيين القصاص في العمد والخطأ، وقطع الأعضاء الخاطئة.

وعن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قاموا إلى الصلاة لبسوا المسوح، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم تواضعا لله تعالى. فعلى هذا القول الأغلال غير مستعارة، أي وكانت هذه الأثقال في شريعة موسى عليه السلام فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم نسخ ذلك كله، ويدل عليه

قوله صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة»

«2» . وقرأ ابن عامر وحده آصارهم على الجمع فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أي بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه وَعَزَّرُوهُ أي أعانوه بمنع أعدائه منه وَنَصَرُوهُ أي على أعدائه في الدين بالسيف وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي واتبعوا القرآن الذي أنزل مع نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فإن نبوته ظهرت مع ظهور القرآن وعبر عنه بالنور الدال على كونه مظهرا للحقائق أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) أي الفائزون بالمطلوب في الدنيا والآخرة والناجون من السخط والعذاب لا غيرهم من الأمم قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الذي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ.

واعلم أن هذه الدعوى- وهي دعوى رسول الله- لا تظهر فائدتها إلا بتقرير أصول ثلاثة:

أولها: إثبات أن للعالم إلها حيا عالما قادرا، والذي يدل عليه ما في قوله تعالى: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البروج: 9] لأنه بتقدير عدم حصول مؤثر للعالم في وجوده، أو بتقدير كون المؤثر موجبا بالذات لا فاعلا بالاختيار لم يصح القول ببعثة الأنبياء عليهم السلام.

وثانيها: إثبات أن إله العالم واحد منزه عن الشريك والضد والند وإليه الإشارة بقوله تعالى لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، لأنه إذا لم يثبت كون الإله تعالى واحدا لم يكن إرسال الرسل، وإنزال الكتب جائزا لأنه بتقدير كون إلهين للعالم يجوز أن يكون الإنسان الذي يدعوه رسول أحدهما مخلوقا للإله الثاني، فإيجاب الطاعة للإله الذي لم يخلقه ظلم وباطل.

وثالثها: إثبات أنه تعالى قادرا على الحشر والنشر والبعث والقيامة وإليه الإشارة بقوله تعالى: يُحيِي وَيُمِيتُ لأنه تعالى لما أحيا أولا ثبت كونه تعالى قادرا على

الإحياء ثانيا، ويكون

(1) رواه مسلم في كتاب المساقاة، باب: 41، وأبو داود في كتاب البيوع، باب: في كسب الحجام، والترمذي في كتاب البيوع، باب: 46، والدارمي في كتاب البيوع، باب: في النهي عن كسب الحجام، وأحمد في (م 1/ ص 278) .

(2)

رواه أحمد في (م 5/ ص 266) .

ص: 401

قادرا على إيصال الجزاء لأنه بتقدير عدم ثبوت الإعادة كان الاشتغال بالطاعة والاحتراز عن المعصية عبثا ولغوا، ولما ثبت القول بصحة هذه الأصول الثلاثة ثبت أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف، لأن الخلق كلهم عبيده تعالى ولذلك قال تعالى:

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ.

واعلم أن هذا إشارة إلى المعجزات الدالة على كون محمد نبيا حقا، ومعجزات رسول الله كانت على نوعين:

الأول: المعجزات التي ظهرت في ذاته المباركة وأجلها أنه صلى الله عليه وسلم كان رجلا أمّيا لم يتعلم من أستاذ، ولم يطالع كتابا، ولم يتفق له مجالسة أحد من العلماء ومع ذلك فتح الله عليه باب العلم وأظهر عليه القرآن المشتمل على علوم الأولين والآخرين، فظهور هذه العلوم العظيمة على من كان صفته أميا أعظم المعجزات.

والثاني: المعجزات التي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر ونبوع الماء من بين أصابعه وهي تسمى بكلمات الله تعالى، لأنها لما كانت أمورا غريبة خارقة للعادة تسمى بكلمات الله، كما أن عيسى عليه السلام لما كان حدوثه أمرا غريبا مخالفا للمعتاد سماه الله تعالى كلمة.

وقال ابن عباس: ومعنى كلماته بالجمع كتابه- وهو القرآن- وإن قرئ «وكلمته» بالإفراد كان معناه عيسى، وهذا تنبيه على أن من لم يؤمن به لم يعتدّ بإيمانه وتعريض باليهود، ولما ثبت بالدلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ذكر الله الطريق الذي به يمكن معرفة شرعه بالتفصيل وهو الرجوع إلى أقواله وأفعاله فقال: وَاتَّبِعُوهُ أي في كل ما يأتي وما يذر من أمور الدين لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) أي رجاء لاهتدائكم إلى المطلوب وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ أي جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي يدعون الناس إلى الهداية بالحق وَبِهِ أي بالحق يَعْدِلُونَ (159) في الأحكام الجارية فيما بينهم، فقيل: هم اليهود الذين كانوا في زمان الرسول وأسلموا مثل عبد الله بن سلام وابن صوريا. وقيل: إنهم قوم مشوا على الدين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف في زمن تفريق بني إسرائيل وإحداثهم البدع.

وقال السدي وجماعة من المفسرين: إن بني إسرائيل لما كفروا وقتلوا الأنبياء بقي سبط من جملة الاثني عشر، فما صنعوا وسألوا الله تعالى أن ينقذهم منهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين عند مطلع الشمس على نهر رمل يسمى أردن وهم اليوم هناك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً أي فرقنا بني إسرائيل اثنتي عشرة فرقة، لأنهم كانوا من اثني عشر رجلا من أولاد يعقوب، وميزنا بعضهم من

ص: 402

بعض أسباطا قائم مقام قبيلة وهو تمييز أو بدل من اثنتي عشرة وأمما بدل من أسباطا أي وصيّرناهم أمما، لأن كل سبط كان أمة عظيمة وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ حين استولى عليهم العطش في التيه الذي وقعوا فيه بسوء صنيعهم واستسقاء موسى لهم أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ الذي معك فَانْبَجَسَتْ أي فضرب فانفجرت مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً بعدد الأسباط قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ أي كل سبط مَشْرَبَهُمْ أي عينهم الخاصة بهم وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ في التيه من حر الشمس تسير الغمام بسيرهم وتسكن بإقامتهم، وتضيء لهم في الليل مثل السراج وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وهو شيء حلو كان ينزل عليهم مثل الثلج من الفجر إلى طلوع الشمس ويأخذ كل إنسان صاعا وَالسَّلْوى أي الطير السماني بتخفيف الميم وبالقصر، وتسوقه الريح الجنوب عليهم فيذبح كل واحد منهم ما يكفيه وهو يموت إذا سمع صوت الرعد فيلهمه الله تعالى أن يسكن جزائر البحر التي لا يكون فيها مطر ولا رعد إلى انقضاء أوانهما، فيخرج من الجزائر وينتشر في الأرض، وخاصيته أن أكل لحمه يلين القلوب القاسية كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي وقلنا لهم: كلوا من مستلذاته من المن والسلوى، والمعنى قصر أنفسهم على ذلك المطعوم وعلى ترك غيره، فامتنعوا من ذلك وسئموا وسألوا غير ذلك وَما ظَلَمُونا بمقابلة تلك النعم بالكفران وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) بمخالفتهم ما أمروا به

وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ أي اذكر يا أكرم الرسل لبني إسرائيل وقت قوله تعالى لأسلافهم:

اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ أي قرية الجبارين قوم من بقية عاد رئيسهم عوج بن عنق أي قال الله تعالى على لسان موسى لهم: إذا خرجتم من التيه اسكنوا بيت المقدس أو قال لهم على لسان يوشع بعد خروجهم من التيه اسكنوا أريحاء وَكُلُوا مِنْها أي القرية حَيْثُ شِئْتُمْ ومتى شئتم وَقُولُوا حِطَّةٌ أي أمرك حطّة لذنوبنا وَادْخُلُوا الْبابَ أي باب القرية. وقيل: باب القبة التي كانوا يصلون إليها سُجَّداً شكرا على إخراجهم من التيه نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ.

وقرأ نافع وابن عامر «تغفر» بالتاء المضمومة. وقرأ نافع «خطيئاتكم» بجمع السلامة، وابن عامر «خطيئتكم» على التوحيد، والباقون «نغفر» بنون مفتوحة، وأبو عمرو خطاياكم بجمع التكسير. والباقون خطيئاتكم بجمع السلام وفي قراءة «يغفر» بالياء فعلى هذا لا يقرأ خطابا بالإفراد وعلى التاء لا يقرأ خطابا سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) بالطاعة في إحسانهم فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وهم أصحاب الخطيئة قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أي غير الذي أمروا به من التوبة وقالوا مكان حطة حنطة.

وروي أنهم دخلوا زاحفين على أدبارهم استخفافا بأمر الله تعالى واستهزاء بموسى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ عقب ما فعلوا من غير تأخير رِجْزاً مِنَ السَّماءِ أي عذابا كائنا منها وهو الطاعون بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) أنفسهم لأنهم خرجوا عن طاعة الله تعالى.

ص: 403

روي أنه مات منهم في ساعة واحدة أربعة وعشرون ألفا وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أي واسأل يا أشرف الخلق، اليهود المعاصرين لك، سؤال تقريع عن خبر أهل المدينة التي كانت قريبة من بحر القلزم، وهي أيلة قرية بين مدين والطور. وقيل: هي قرية يقال لها: مقنا بين مدين وعينونا، وسبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا: لم يصدر من بني إسرائيل كفر ولا مخالفة للرب فأمره الله تعالى أن يسألهم عن حال أهل هذه القرية في زمن داود عليه السلام تقريعا، فإنهم يعتقدون أنه لا يعلمه أحد غيرهم، فذكر الله لهم قصة أهل تلك المدينة فبهتوا وظهر كذبهم إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ أي يجاوزون حد الله تعالى بأخذ الحيتان يوم السبت وقد نهوا عنه إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ أي يوم تعظيمهم لأمر السبت بالتجرد للعبادة شُرَّعاً أي ظاهرة على وجه الماء قريبة من الساحل وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ.

وقرئ شاذا بضم الباء. وقرأ علي رضي الله عنه بضم الياء من الرباعي، وعن الحسن بالبناء للمفعول أي لا يدخلون في السبت لا تَأْتِيهِمْ.

قال ابن عباس ومجاهد: إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله به وحرم عليهم الصيد فيه، وأمروا بتعظيمه فإذا كان يوم السبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر، فإذا انقضى السبت ذهبت وما تعود إلا في السبت المقبل كَذلِكَ أي مثل ذلك البلاء نَبْلُوهُمْ أي نعاملهم معاملة من يختبرهم بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) أي بسبب فسقهم وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ أي جماعة من أهل القرية ومن صلحائهم الذين ركبوا الصعب في موعظة أولئك الصيادين حتى أيسوا من قبولهم لأقوام آخرين لا يقلعون عن وعظهم رجاء للنفع وطمعا في فائدة الإنذار لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي مخزيهم في الدينا أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً في الآخرة لعدم إقلاعهم عمّا كانوا عليه من الفسق قالُوا أي الواعظون: مَعْذِرَةً.

قرأه حفص عن عاصم بالنصب أي وعظناهم لأجل المعذرة. والباقون بالرفع أي موعظتنا معذرة إِلى رَبِّكُمْ لئلا ننسب إلى نوع تفريط في النهي عن المنكر وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) أي ورجاء لأن يتقوا بعض التقاة فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي فلمّا تركوا ما وعظوا به بحيث لم يخطر ببالهم شيء من تلك المواعظ أصلا أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ أي عن أخذ الحيتان يوم السبت وهم الفريقان المذكوران وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بأخذ الحيتان ذلك اليوم بِعَذابٍ بَئِيسٍ أي شديد. وقرأ أبو بكر «بيئس» على

وزن ضيغم وابن عامر «بئس» بوزن حذر بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) أي أخذناهم بالعذاب بسبب الفسق الذي هو الخروج عن الطاعة وهو الظلم فالباءان متعلقان بأخذنا فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي فلما أبوا عن ترك ما نهوا عنه قُلْنا لَهُمْ كُونُوا

ص: 404

قِرَدَةً خاسِئِينَ

(166)

أذلاء بعداء عن الناس وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ أي يذيقهم سُوءَ الْعَذابِ أي واذكر يا أكرم الرسل إذ أعلم الله أسلاف اليهود على ألسنة أنبيائهم إن لم يؤمنوا بأنبيائهم أن يسلط عليهم من يقاتلهم إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية وهو محمد صلى الله عليه وسلم وأمته إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ إذا جاء وقته لمن عصاه فيعاقبهم في الدنيا أما قبل مجيء وقت العذاب فهو شديد الحلم وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) لمن تاب من الكفر واليهودية ودخل في دين الإسلام وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً أي فرقنا اليهود الذين كانوا قبل زمن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الأرض فرقا كثيرة حتى لا تكون لهم شوكة فلا يوجد بلد إلا وفيه طائفة منهم مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وهم الذين آمنوا بالمدينة ومن يسير بسيرتهم أو الذين وراء نهر الرمل وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي ومنهم من ثبت على اليهودية وخرج من الصلاح وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ أي بالنعم والخصب والعافية وَالسَّيِّئاتِ أي بالجدوبة والشدائد لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) أي لكي يرجعوا عن معصيتهم إلى طاعة ربهم فإن كل واحد من الحسنات والسيئات يدعو إلى الطاعة بالترغيب والترهيب فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي جاء من بعد هؤلاء الذين وصفناهم بدل سوء وَرِثُوا الْكِتابَ أي أخذوا التوراة من أسلافهم يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أي متاع الدنيا على تحريف الكلام في صفة محمد صلى الله عليه وسلم وفي الأحكام وهم يستحقرون ذلك الذنب وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أي ويقولون: لا يؤاخذنا الله تعالى وإن يأتهم متاع مثل ما أتاهم أمس يأخذوه لحرصهم على الدنيا ولا يستمتعون منه. أو المعنى أنهم يتمنون المغفرة من الله تعالى، والحال أنهم مصرون على الذنب غير تائبين عنه أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي ألم يؤخذ عليهم ميثاق كائن في التوراة أن لا يقولوا على الله إلا الصدق، وقد منعوا فيها عن تحريف الكتاب وتغيير الشرائع لأجل أخذ الرشوة وللتمني ففيه افتراء على الله تعالى، ففيها من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة وأن لا يقولوا عطف بيان للميثاق وَدَرَسُوا ما فِيهِ أي ذكروا ما في الكتاب لأنهم قرءوه أو ذكروا ما أخذ عليهم لذلك وهذا عطف على ورثوا أو على ألم يؤخذ فإن المقصود من الاستفهام التقريري إثبات ما بعد النفي. والمعنى قد أخذ عليهم الميثاق ودرسوا ما في ذلك الميثاق وَالدَّارُ الْآخِرَةُ أي الجنة خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ عقاب الله من تلك الرشوة الخبيثة أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) أن الدنيا فانية والآخرة باقية.

وقرأ نافع وابن عامر وحفص بالتاء على الخطاب التفاتا لهم ويكون المراد إعلاما بتناهي الغضب وتشديد التوبيخ، أو يكون خطابا لهذه الأمة أي أفلا تعقلون حالهم. والباقون بالياء على الغيبة مراعاة لها في الضمائر السابقة وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ قرأه أبو بكر عن عاصم بسكون الميم.

والباقون بفتحها وتشديد السين بِالْكِتابِ أي والذين يعملون بما في الكتاب وَأَقامُوا الصَّلاةَ وإنما أفردت بالذكر لأنها أعظم العبادات بعد الإيمان إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وهذه

ص: 405

الجملة خبر للموصول والربط حاصل بلفظ المصلحين لأنه قائم مقام الضمير لا سيما وهو فيه الألف واللام فإنها تكفي في الربط عند الكوفيين. وقيل: الخبر محذوف والتقدير مثابون وقوله تعالى: إِنَّا لا نُضِيعُ اعتراض وهذه الآية نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي واذكر يا أشرف الخلق إذا قلعنا الجبل الذي سمع موسى عليه كلام ربه وأعطي الألواح وجعلناه فوق رؤوسهم كأنه سقيفة وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ إن لم يقبلوا أحكام التوراة خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أي وقلنا لهم: اعملوا بما أعطيناكم بجد على احتمال تكاليفه وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الثواب والعقاب ويقال: احفظوا ما فيه من الأمر والنهي ويقال: اعملوا بما فيه من الحلال والحرام لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) أي راجين أن تنتظموا في سلك المتقين وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وقرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر على الجمع. والباقون على التوحيد أي واذكر يا أكرم الخلق لليهود حين أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا وذكر هذه الآية يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين. والمقصود من ذكرها هنا الاحتجاج على اليهود بتذكير الميثاق العام المنتظم للناس كافة ومنعهم عن التقليد وحملهم على الاستدلال.

وفي تفسير هذه الآية طريقان: طريق السلف، وطريق الخلف. فطريق السلف: أن الله تعالى لما خلق آدم أخرج أولا ذرية آدم كالذر من ظهره أي من مسام شعر ظهره إذ تحت كل شعرة ثقبة دقيقة يقال لها: سم مثل سم الخياط في النفوذ فتخرج الذرة الضعيفة منها كما يخرج الصئبان من العرق السائل، ثم أخرج من هذه الذر الذي أخرجه من آدم ذريته ذرا، ثم أخرج من الذر الآخر ذريته ذرا، ثم أخرج من الذر الآخر ذريته ذرا، وهكذا إلى آخر النوع الإنساني وانحصر الجميع قدام آدم ونظر لهم بعينه، وخلق الله تعالى فيهم العقل والفهم والنطق، وجعل الذر المسلم أبيض والكافر أسود، وخاطب الجميع بقوله تعالى: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ فقال الجميع: بلى أي أنت ربنا، ثم أعاد الجميع إلى ظهر آدم. ويجب اعتقاد إخراج الذرية من ظهر آدم كما شاء الله ومعنى قوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ إلخ أي استنطقهم بربوبيته تعالى فأقروا بذلك.

وقال الحكيم الترمذي: إن الله تعالى تجلى للكفار بالهيبة، فقالوا: بلى مخافة منه تعالى، فلم يك ينفعهم إيمانهم. وتجلى للمؤمنين بالرحمة، فقالوا: بلى مطيعين مختارين، فنفعهم إيمانهم، وطريق الخلف أن الله تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى في أرحام الأمهات وجعلها علقة، ثم مضغة، ثم جعلهم بشرا سويا وخلقا كاملا، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقه وغرائب صنعه، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا: بلى وإن لم يكن هناك قول

ص: 406

باللسان فمحصل هذه الطريقة أنه لا إخراج ولا قول، ولا شهادة بالفعل وإنما هذا كله على سبيل المجاز التمثيلي فشبه حال النوع الإنساني بعد وجوده بالفعل بصفات التكليف من حيث نصب الأدلة على ربوبية الله المقتضية، لأن ينطق ويقر بمقتضاها بأخذ الميثاق عليه بالفعل بالإقرار بما ذكر وحينئذ فمعنى قوله تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ أي ونصب الله لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم:

أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم منه منزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل والله أعلم بحقيقة الحال أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ.

وقرأ أبو عمرو بالياء على الغيبة. والباقون بالتاء وفي قوله تعالى: شَهِدْنا قولان، فقيل: إنه من كلام الملائكة وذلك لأنهم لما قالوا: بلى قال الله تعالى للملائكة: اشهدوا، فقالوا: شهدنا عليهم لئلا يقولوا ما أقررنا، أو لئلا تقولوا أيها الكفرة، أو شهدنا عليهم كراهة أن يقولوا.

وقيل: إنه من بقية كلام الذرية أي وأشهدهم على أنفسهم بكذا وكذا لئلا يقولوا يوم القيامة عند ظهور الأمر إنا كنا عن وحدانية الربوبية لا نعرفه، أو كراهية أن يقولوا ذلك وعلى هذا التقدير فلا يجوز الوقف عند قوله: شَهِدْنا ولا يحسن على بلى. وقوله: أَوْ تَقُولُوا معطوف على أَنْ تَقُولُوا.

والمعنى أن المقصود من هذا الإشهاد لئلا يقول الكفار: إنما أشركنا لأن آباءنا أشركوا من قبل زماننا فقلدناهم في ذلك الشرك.

وقال الخلف: معنى هذه الآية أنا نصبنا هذه الدلائل وأظهرناها للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين فما نبهنا عليه منبه، أو كراهة أن يقولوا: إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا، لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم معهم فلا عذر لهم في الإعراض عنه والإقبال على الاقتداء بالآباء كما قالوا: وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ لا نقدر على الاستدلال بالدليل أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) من آبائنا المضلين فالمؤاخذة إنما هي عليهم، والمعنى لا يمكنهم الاحتجاج بذلك، لأنه قامت الحجة عليهم يوم القيامة لإخبار الرسل إياهم بذلك الميثاق في الدنيا فمن أنكره كان معاندا ناقضا للعهد ولزمتهم الحجة ولا تسقط الحجة بنسيانهم بعد إخبار الرسل وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ

الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ

(174)

أي مثل ما بيّنا خبر الميثاق في هذه الآية نبين سائر الآيات ليتدبروها فيرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) أي واتل يا أكرم الخلق على اليهود خبر

ص: 407

الذي آتيناه علوم الكتب القديمة والتصرف بالاسم الأعظم وهو أحد علماء بني إسرائيل فكان يدعو به حيث شاء فيجاب بعين ما طلب في الحال، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش، وكان في مجلسه اثنا عشر ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه، ثم صار بحيث كان أول من صنف كتابا أن ليس للعلم صانع وهذا معنى فانسلخ منها أي انسلخ من تلك الآيات انسلاخ الحية من جلدها بأن كفر بها فأدركه الشيطان فصار من زمرة الضالين.

قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم الله تعالى: نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء، وذلك لأن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه وغزا أهله وكانوا كفارا، فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه السلام وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم، فامتنع منه فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليه فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه فقال موسى: يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعم، فقال: كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه، ثم دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان، فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أي ولو شئنا رفعه لرفعناه للعمل بتلك الآيات، فكان يرفع منزلته بواسطة تلك الأعمال الصالحة وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي مال إلى الدنيا فآثر الدنيا الدنية على المنازل السنية وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار الدنيا معرضا عن تلك الآيات الجليلة فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي صفة بلعم كصفتي الكلب في حالتي التعب والراحة، فهذا الكلب إن شد عليه لهث وإن ترك أيضا لهث لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له فكذلك هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال طبيعة ذاتية له واللهث إدلاع اللسان بالتنفس الشديد أي فالكلب دائم اللهث سواء أزعجته بالطرد العنيف، أو تركته على حاله بخلاف سائر الحيوانات فإنها لا تحتاج إلى التنفس الشديد إلا عند التعب ذلِكَ أي المثل السيئ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وهم اليهود حيث أوتوا في التوراة ما أوتوا من نعوت النّبيّ صلى الله عليه وسلم، وبشروا الناس باقتراب مبعثه فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وانسلخوا من حكم التوراة فَاقْصُصِ الْقَصَصَ أي فاقصص يا أكرم الرسل على قومك قصص الذين كذبوا أنبياءهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) أي يتعظون ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا بعد قيام الحجة عليها وعلمهم بها وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) معطوف على كذبوا داخل معه في حكم الصلة، أي الذين جمعوا بين التكذيب في آيات الله وظلم أنفسهم خاصة.

وقرأ الجحدري ساء مثل القوم مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي أي من يخلق الله فيه الاهتداء فهو المهتدي لدينه بإثبات الياء وصلا ووقفا عند جميع القراء لثبوتها في الرسم بخلاف ما في

ص: 408

الكهف والإسراء وَمَنْ يُضْلِلْ أي بأن لم يخلق فيه الاهتداء بل خلق فيه الضلالة لصرف اختياره جهتها فَأُولئِكَ الموصوفون بالضلالة هُمُ الْخاسِرُونَ (178) أي الكاملون في الخسران في الدنيا والآخرة، فالهداية والضلالة من جهة الله تعالى وإنما العظة والتذكير من قبيل الوسائط العادية في حصول الاهتداء من غير تأثير لها فيه سوى كونها دواعي إلى صرف العبد اختياره جهة تحصيله كسائر أفعال العباد وَلَقَدْ ذَرَأْنا أي خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها بسبب امتناعهم عن صرفها إلى تحصيل الفهم فلهم وصف أو حال من كثيرا وقلوب فاعل به وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها شيئا من المبصرات إبصار اعتبار وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أي شيئا من المسموعات سماع تأمل فلا يفهمون بقلوبهم ولا يبصرون بأعينهم ولا يسمعون بآذانهم ما يرجع إلى مصالح الدين أُولئِكَ أي الموصوفون بالأوصاف المذكورة كَالْأَنْعامِ في انتفاء الشعور بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الأنعام لأنها تعرف صاحبها وتطيعه، وهؤلاء الكفار لا يعرفون ربهم ولا يطيعونه، وفي الخبر:«كل شيء أطوع لله من ابن آدم» أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) عمّا أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي الأسماء التي هي أحسن الأسماء وأجلها لدلالتها على أحسن المعاني وأشرفها فَادْعُوهُ بِها أي فسموه بتلك الأسماء وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أي واجتنبوا الذين يميلون في شأن أسماء الله تعالى عن الحق إلى الباطل إما بأن يسموه تعالى بما لا إذن فيه من كتاب وسنة، أو بما يوهم معنى فاسدا فلا يجوز أن يقال لله تعالى: يا سخي ولا يا عاقل، ولا يا طبيب، ولا يا فقيه، ولا يجوز أن يقال لله تعالى: يا نجي، يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، لأن أسماء الله تعالى توقيفية أي تعليمية من الشرع لا اصطلاحية، وقوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها يدل على أن الإنسان لا يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى وهذه الدعوة لا تتأتى إلا إذا عرف معاني تلك الأسماء، وعرف بالدليل أن له إلها وربا خالقا موصوفا بتلك الصفات الشريفة فإذا عرف بالدليل ذلك فحينئذ يحسن أن يدعو ربه بتلك الأسماء والصفات، ثم إنّ لتلك الدعوة شرائط كثيرة منها أن يستحضر الأمرين عزة الربوبية، وذلة العبودية فهناك يحسن ذلك الدعاء ويعظم موقع ذلك الذكر. وقرأ حمزة يلحدون بفتح الياء والحاء ووافقه عاصم والكسائي في النحل سَيُجْزَوْنَ في الآخرة ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وهذا تهديد لمن ألحد في أسماء الله تعالى

وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ أي طائفة كثيرة يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي يهدون الناس ملتبسين بالحق ويدلونهم على الاستقامة وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) أي وبالحق يحكمون في الحكومات الجارية فيما بينهم ولا يجورون فيها وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) أي والذين كذبوا بآياتنا التي هي معيار الحق وهو القرآن، سنقربهم إلى ما يهلكهم ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد به وذلك لأنهم كما أوتوا بجرم فتح الله عليهم بابا من أبواب النعمة والخير في الدنيا فيزدادون بطرا وانهماكا

ص: 409

في الفساد ويتدرجون في المعاصي بسبب ترادف تلك النعم، ثم يأخذهم الله تعالى دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكونون وَأُمْلِي لَهُمْ أي أمهلهم وأطيل مدة أعمارهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أي إن استدراجي قوي لا يدافع بقوة ولا بحيلة. وسمى العذاب كيدا لأن ظاهره إحسان ولطف وباطنه خذلان وقهر أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ أي أكذبوا بآياتنا ولم يتفكروا ليس بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم حالة قليلة من الجنون والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم بصاحبهم للإعلام بأن طول مصاحبتهم له صلى الله عليه وسلم مما يطلعهم على نزاهته صلى الله عليه وسلم عن شائبة جنون، ف «ما» نافية اسمها «جنة» وخبرها «بصاحبهم» والجملة في محل نصب معمولة ل «يتفكروا» إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أي ما هو إلا رسول مخوف مظهر لهم في التخويف بلغة يعلمونها أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي أكذبوا بها ولم ينظروا نظر تأمل فيما يدل عليه السموات والأرض من عظم الملك وكمال القدرة، وفيما خلق فيهما من جليل ودقيق ليدلهم ذلك على العلم بوحدانية الله تعالى وبسائر شؤونه التي تنطق بها تلك الآيات فيؤمنوا بها فإن كل فرد من أفراد الأكوان دليل لائح على الصانع المجيد وسبيل واضح إلى التوحيد وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ أي وفي أن الشأن عسى أن يكون أجلهم قد اقترب أي لعلهم يموتون عن قريب فما لهم لا يسارعون إلى التدبر في الآيات التكوينية الشاهدة بما كذبوه من الآيات القرآنية فيهلكوا على الكفر ويصيروا إلى النار فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) أي فبأي كتاب بعد القرآن يؤمنون إذا لم يؤمنوا به، أي لأنهم إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن مع ما فيه من هذه التنبيهات الظاهرة فكيف يرجى منهم الإيمان بغيره مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ فإن إعراضهم عن الإيمان لإضلال الله إياهم وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ أي ضلالهم يَعْمَهُونَ (186) أي يتحيرون.

وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر و «نذرهم» بالنون والرفع على طريقة الالتفات. وأبو عمرو بالياء والرفع. وحمزة والكسائي بالياء والجزم. وقد روي الجزم بالنون عن نافع وأبي عمرو في الشواذ. يَسْئَلُونَكَ يا أشرف الخلق سؤال استهزاء عَنِ السَّاعَةِ أي عن وقت القيامة منهم ممل بن أبي قشير، وشمويل بن زيد. والساعة: من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا، وسميت القيامة بالساعة لوقوعها بغتة على حين غفلة من الخلق، أو لأن حساب الخلق يقضى فيها في ساعة واحدة، أو لأنها مع طولها في نفسها كساعة واحدة عند الخلق أَيَّانَ مُرْساها أي متى حصولها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي إنه تعالى قد انفرد به بحيث لم يخبر به أحدا من ملك مقرب أو نبي مرسل لا

يُجَلِّيها لِوَقْتِها

أي لا يظهر أمرها الذي تسألونني عنه في وقتها المعين إِلَّا هُوَ أي لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإعلام إلا هو ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين على أهل السموات والأرض فلم يعلم أحد من الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين متى وقوعها لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً أي فجأة على غفلة.

قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن الساعة تفجأ

ص: 410

الناس فالرجل يصلح موضعه، والرجل يسقي ماشيته. والرجل يقوم بسلعته في سوقه، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه» .

يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أي يسألونك عن كنه ثقل الساعة مشبها حالك عندهم بحال من هو بالغ في العلم بها، وحقيقة الكلام كأنك مبالغ في السؤال عنها فإن ذلك في حكم المبالغة في العلم بها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) أي لا يعلمون السبب الذي لأجله أخفيت معرفة وقته المعين عن الخلق قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أي أنا لا أدعي علم الغيب إن أنا إلا نذير وبشير. ونظيره قوله تعالى في سورة يونس:

وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [يونس: 47، 48] . وقيل: إن أهل مكة قالوا: يا محمد ألا أخبرك ربك بالرخص والغلاء حتى نشتري فنربح، وبالأرض التي تجدب لنرتحل إلى الأرض الخصبة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقيل: لما رجع النّبيّ صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق جاءت ريح في الطريق ففرت الدواب منها فأخبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم بموت رفاعة بالمدينة وكان فيه غيظ للمنافقين، وقال صلى الله عليه وسلم:«انظروا أين ناقتي؟» فقال عبد الله بن أبي مع قومه: ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت الرجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته فقال صلى الله عليه وسلم: «إن ناسا من المنافقين قالوا: كيت وكيت، وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة» . فوجدوها على ما قال، فأنزل الله تعالى

: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ أي أن يفعل بي من النفع والضر وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي جلب منافع الدنيا ودفع مضراتها لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أي لحصلت كثيرا من الخير بترتيب الأسباب وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ لاحترازي عنه باجتناب الأسباب إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ من النار وَبَشِيرٌ بالجنة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) بالجنة والنار هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو آدم عليه السلام وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها حواء خلقها الله من ضلع آدم من غير أذى لِيَسْكُنَ إِلَيْها أي ليستأنس بها فَلَمَّا تَغَشَّاها أي جامعها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً في مبادئ الأمر فَمَرَّتْ بِهِ أي فاستمرت بالحمل على سبيل الخفة وكانت تقوم وتقعد وتمشي من غير ثقل فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي صارت ذات ثقل لكبر الولد في بطنها دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما أي آدم وحواء لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي ولدا سويا مثلنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) لنعمائك فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً أي ولدا آدميا مستوى الأعضاء خاليا من العوج والعرج جَعَلا لَهُ تعالى شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي في تسمية ما آتاهما من الولد.

وقيل: لما آتاهما ذلك الولد السوي الصالح عزما على أن يجعلاه وقفا على خدمة الله وطاعته وعبوديته على الإطلاق، ثم بدا لهما في ذلك فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدنيا ومنافعها، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته وهذا العمل وإن كان منا قربة وطاعة إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقيل: لما ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل، وقال: ما هذا يا حواء إني أخاف أن يكون كلبا أو بهيمة وما يدريك من أين يخرج أمن دبرك

ص: 411

فيقتلك، أو ينشق بطنك. فخافت حواء وذكرت ذلك لآدم عليه السلام فلم يزالا في همّ من ذلك، ثم أتاها وقال: إن سألت الله أن يجعله صالحا سويا مثلك ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحارث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فآدم وحواء سميا ذلك الولد بعبد الحارث، تنبيها على أنه إنما سلم من الآفات ببركة دعاء هذا الشخص المسمى بالحارث فلما حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم صار آدم عليه السلام معاتبا في هذا العمل بسبب الاشتراك الحاصل في مجرد لفظ العبد وهذا لا يقدح في كون الولد عبد الله من جهة كونه مملوكه ومخلوقه إلا أنا قد ذكرنا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) . قيل:

إن المشركين كانوا يقولون: إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها فذكر تعالى قصة آدم وحواء، وذكر أنه تعالى لو آتاهما ولدا سويا صالحا لاستقلوا بشكر تلك النعمة،

ثم قال تعالى: فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فقوله تعالى: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد والتقدير فلما آتاهما صالحا أجعلا له شركاء فيما آتاهما. ثم قال تعالى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم أَيُشْرِكُونَ بالله تعالى في العبادة ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً ومن حق المعبود أن يكون خالقا لعابده، والعبد غير خالق لأفعاله لأن من كان خالقا كان إلها، ولما كان ذلك باطلا علمنا أن العبد غير خالق لأفعال نفسه وَهُمْ أي الأصنام يُخْلَقُونَ (191) فهي منحوتة، أو المعنى والكافرون مخلوقون فلو تفكروا في ذلك لآمنوا ولا يشركون بالخالق شيئا وَلا يَسْتَطِيعُونَ أي الأصنام لَهُمْ أي لعبدتهم نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) أي إن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تدفع عن أنفسها مكروها فإن من أراد كسرها لم تقدر على دفعه عنها، والمعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع ودفع الضرر وهذه الأصنام ليست كذلك فكيف يليق بالعاقل عبادتها وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ أي وإن تدعوا يا معشر الكفار الأصنام إلى أن يهدوكم إلى الحق لا يجيبوكم كما يجيبكم الله سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) أي مستو عليكم في عدم الإفادة دعاؤكم لهم وسكوتكم فلا يتغير حالكم في الحالين كما لا يتغير حالهم عن حكم الجمادية إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ أي إن الذين تعبدونهم من دونه تعالى من الأصنام وتسمونهم آلهة مماثلة لكم من حيث إنها مملوكة لله تعالى مسخرة لأمره عاجزة عن النفع والضر فَادْعُوهُمْ في جلب نفع أو كشف ضر فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) في ادعاء أنها آلهة ومستحقة للعبادة أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أي بل ألهم أيد يأخذون بها ما يرون أخذه أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها؟ وقد قرئ إن الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم على إعمال إن النافية عمل ما الحجازية أي ما الذين تدعون من دون الله عبادا أمثالكم بل

ص: 412

أدنى منكم فيكون قوله تعالى: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ إلخ تقرير النفي المماثلة بإثبات النقصان قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ.

قال الحسن: إن مشركي أهل مكة كانوا يخوفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بآلهتهم فقال الله تعالى: قل يا أكرم الرسل لهم ادعوا آلهتكم واستعينوا بهم في عداوتي ثُمَّ كِيدُونِ أي اعملوا أنتم وآلهتكم في هلاكي وبالغوا في تهيئة ما تقدرون عليه من مكر فَلا تُنْظِرُونِ (195) أي اعجلوا أنتم وآلهتكم في كيدي ولا تؤجلون فإني لا أبالي بكم وبآلهتكم لاعتمادي على حفظ الله تعالى إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ أي إن ناصري هو الله الذي أنزل الكتاب المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) أي ينصرهم فلا تضرهم عداوة من عاداهم.

وروي أن عمر بن عبد العزيز ما كان يدخر لأولاده شيئا فقيل له في ذلك، فقال: ولدي إما أن يكون من الصالحين أو من المجرمين، فإن كان من الصالحين فوليه الله ومن كان الله له وليا فلا حاجة له إلى مالي، وإن كان من المجرمين فقد قال تعالى: فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ [القصص: 17] ومن رده الله لم أشتغل بإصلاح مهماته وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي والذين تعبدونهم من دون الله تعالى من الأصنام لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ في أمر من الأمور وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) أي يمنعون مما يراد بهم فكيف أبالي بهم وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا أي وإن تدعوا أيها المشركون تلك الأوثان إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم لا يجيبوا دعاءكم فضلا عن المساعدة، لأنهم أموات غير أحياء وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي وترى يا أشرف الخلق الأصنام يشبهون الناظرين إليك لأنهم مصوّرون بالعين والأنف والأذن وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) أي والحال أنهم غير قادرين على الإبصار لأنهم أموات غير أحياء خُذِ الْعَفْوَ أي اقبل الميسور من أخلاق الناس من غير تجسس لئلا تتولد العداوة، أو المعنى خذ ما تيسر من المال فما أتوك به فخذه ولا تسأل عما وراء ذلك وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بإظهار الدين الحق وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) من غير مماراة ولا مكافاة.

قال عكرمة: لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم: «يا جبريل ما هذا؟» . قال: «يا محمد إن ربك يقول هو أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك»

. قال أهل العلم: تفسير جبريل مطابق للفظ الآية لأنك لو وصلت من قطعك فقد عفوت عنه، وإذا آتيت من حرمك فقد أتيت بالمعروف، وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي إن يصيبنك وسوسة من الشيطان فالتجئ إليه تعالى في دفعه عنك إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) أي إنه تعالى سميع باستعاذتك بلسانك عليم في ضميرك من استحضاره معاني الاستعاذة، فالقول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر.

ص: 413

وروي أنه لما نزلت تلك الآية الكريمة قال صلى الله عليه وسلم: «كيف يا رب والغضب متحقق» «1» فنزل قوله تعالى

: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا أي اتصفوا بوقاية أنفسهم عمّا يضرها إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ أي إذا أصابهم وسوسة من الشيطان وغضب تَذَكَّرُوا ما أمرهم الله به من ترك إمضاء الغضب ومن أن الإنسان إذا أمضى الغضب كان شريكا للسباع المؤذية والحيات القاتلة، وإن تركه واختار العفو كان شريكا لأكابر الأنبياء والأولياء ومن أنه ربما انقلب ذلك الضعيف قويا قادرا على الغضب فحينئذ ينتقم منه على أسوأ الوجوه أما إذا عفا كان ذلك إحسانا منه إلى ذلك الضعيف فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) أي إذا حضرت هذه التذكرات في عقولهم ففي الحال يحصل الخلاص من وسوسة الشيطان ويحصل الانكشاف فينتهون عن المعصية وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ أي وإخوان الشياطين من الكفار يقوون الشياطين في الضلال، وذلك لأن شياطين الإنس إخوان لشياطين الجن. فشياطين الإنس يضلون الناس فيكون ذلك تقوية منهم لشياطين الجن على الإضلال ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) أي لا ينكف الغاوون عن الضلال والمغوون عن الإضلال وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ أي أهل مكة بِآيَةٍ كما طلبوا قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها أي هلا جمعتها من تلقاء نفسك تقولا فإنهم يزعمون أن سائر الآيات كذلك أو هلا اقترحتها على إلهك إن كنت صادقا في أن الله يقبل دعاءك ويجيب التماسك وعند هذا أمر الله رسوله أن يذكر الجواب الشافي بقوله تعالى: قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي أي ليس لي أن أقترح على ربي في أمر من الأمور وإنما أنتظر الوحي فكل شيء أكرمني به قلته وإلا فالواجب السكوت وترك الاقتراح فعدم الإتيان بالمعجزات التي اقترحوها لا يقدح في الغرض، لأن ظهور القرآن على وفق دعواه صلى الله عليه وسلم معجزة باهرة فإذا ظهرت هذه المعجزة الواحدة كانت كافية في تصحيح النبوة فكان طلب الزيادة من باب التعنت فذكر الله تعالى في وصف القرآن ثلاثة بقوله تعالى:

هذا أي القرآن بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ أي بمنزلة البصائر للقلوب فيه تبصر الحق وتدرك الصواب وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) بالقرآن في حق أصحاب عين اليقين وهم من بلغوا الغاية في معارف التوحيد بصائر وفي حق أصحاب علم اليقين وهم الذين وصلوا إلى درجات المستدلين هدى وفي حق عامة المؤمنين رحمة وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا وهذا خطاب مع الكفار عند قراءة الرسول عليهم القرآن في مسلك الاحتجاج بكونه معجزا على صدق نبوته فإنهم قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون، فأمروا بالاستماع حتى يمكنهم الوقوف على ما في القرآن ولذا قال تعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) أي لعلكم تطلعون على ما في القرآن من دلائل الإعجاز فتؤمنوا بالرسول فتصيروا مرحومين وَاذْكُرْ

(1) رواه السيوطي في الدر المنثور (3: 154) .

ص: 414

رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ أي اذكر ربك عارفا بمعاني الأذكار التي تقولها بلسانك مستحضرا لصفات الكمال والعز والعلو، والجلال والعظمة وذلك لأن الذكر باللسان إذا كان عاريا عن الذكر بالقلب كان عديم الفائدة تَضَرُّعاً وَخِيفَةً أي متضرعا وخائفا إما في تقصير الأعمال أو في الخاتمة، أو في أنه كيف يقابل نعمة الله التي لا حصر لها بالطاعة الناقصة والأذكار القاصرة وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أي متوسطا بين الجهر والمخافتة بأن يذكر الشخص ربه على وجه يسمع نفسه بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) . والمعنى أن قوله تعالى: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ دل على أنه يجب أن يكون الذكر حاصلا في كل الأوقات. وقوله تعالى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ يدل على أن الذكر القلبي يجب أن يكون دائما وأن لا يغفل الإنسان لحظة واحدة عن استحضار جلال الله بقدر الطاقة البشرية، وتحقيق القول أن بين الروح والبدن علاقة عجيبة، لأن كل أثر حصل في جوهر الروح نزل منه إلى البدن وكل حالة حصلت في البدن صعدت منه نتائج إلى الروح.

ألا ترى أن الإنسان إذا تخيّل الشيء الحامض ضرس سنة، وإذا تخيل حالة مكروهة وغضب سخن بدنه فهذه آثار تنزل من الروح إلى البدن.

واعلم أن قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ وإن كان ظاهره خطابا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه عام في حق كل المكلفين ولكل أحد درجة مخصوصة بحسب استعداد جوهر نفسه الناطقة إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ أي إن الملائكة مع غاية طهارتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والغضب وحوادث الحقد والحسد لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ بل يؤدونها حسب ما أمروا به وَيُسَبِّحُونَهُ أي ينزهونه تعالى عن كل سوء وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) أي لا يسجدون لغير الله تعالى. فالتسبيح يرجع إلى المعارف والعلوم والسجود يرجع إلى أعمال الجوارح، وهذا الترتيب يدل على أن الأصل في العبودية أعمال القلوب ويتفرع عليها أعمال الجوارح والله أعلم.

ص: 415