المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الإهداء أهدي هذا الكتاب لكل مسلم ينشد العزة، ويطلب السعادة في الدين - مراقي العزة ومقومات السعادة

[سليمان اللاحم]

فهرس الكتاب

الإهداء

أهدي هذا الكتاب

لكل مسلم ينشد العزة، ويطلب السعادة في الدين والدنيا والآخرة.

لكل أب، ولكل أم، ولكل أسرة،

ولكل معلم، ولكل معلمة، ولكل إمام، ولكل خطيب،

ولكل داع إلى الله تعالى،

ولكل ناصح لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

ص: 4

‌مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن أعظم نعم الله تعالى على العباد، بعد نعمة الخلق والإيجاد، نعمة بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وإنزال القرآن الكريم؛ الذي فيه الهدى والنور، وبه الفلاح والنجاح، واستقامة أحوال العباد، وصلاح أمر دينهم ودنياهم وأخراهم؛ من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن اتبعه ودعا إليه هَدى إلى صراط مستقيم.

قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1].

وقال الله تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].

وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16].

وعن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«أبشروا أبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟» ، قالوا: نعم، قال:«فإن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا»

(1)

.

(1)

أخرجه الترمذي في فضائل القرآن (2906)، وابن أبي شيبة (30006) - واللفظ له- وابن حبان في «صحيحه» (122)، والطبراني في «المعجم الكبير» (491). وصححه الألباني في «الصحيحة» (713)، وقال الأرنؤوط:«إسناده حسن» .

ص: 5

وقد سجلت في ثنايا تفسيري «عون الرحمن، في تفسير القرآن، وبيان ما فيه من الهدايات والفوائد والأحكام» أكثر من مئة وسبعين وقفة علمية تربوية، وجعلت مسك ختامه مئة وصية، وأربعين من الفوائد والفرائد، وحكم ومعان شعرية مختارة. وهي في مجملها عملية تطبيقية لمن رغب في الاهتداء والاستنارة بها بنفسه، أو توجيه أولاده، أو جماعة مسجده، أو طلابه، أو غيرهم.

ولأجل تقريبها وتسهيل تناولها وتوسيع الانتفاع بها والاستفادة منها، رأيت إفرادها في هذا الكتاب، وسميته:«مراقي العزة ومقومات السعادة» .

وجعلت ترتيبها وفق ترتيبها في التفسير؛ تيمنًا بكتاب الله تعالى؛ وهي كما يلي:

1 وقفة في: وجوب حسن التعامل مع الناس كلهم.

2 وقفتان في: مجمل القول بالنسخ.

3 وقفات أربع في: الجنائز.

4 وقفة في: وجوب حسن العشرة بين الزوجين.

5 وقفات ست في: الصلاة.

6 وقفة في: حل عقدة المؤامرة.

7 وقفتان في: فضل العفو والصفح، والحلم، وكظم الغيظ.

8 وقفة في: أعظم الأمانات: النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

9 وقفات ثلاث في: صلاة الجماعة.

10 وقفتان في: تقوى الله.

11 وقفة في: خطر الغلو في الدين.

12 وقفتان في: نعمة اللباس، وأخذ الزينة للصلاة.

ص: 6

13 وقفات أربع في: الدعاء

14 وقفات أربع في: إصلاح ذات البين.

15 وقفات ست في: الفتن وخطرها على الدين، وعلى العباد والبلاد.

16 وقفات ست في: تربية الأولاد.

17 وقفات ثلاث في: الرؤيا وتأويلها.

18 وقفة في: احفظ الله يحفظك.

19 وقفات أربع عشرة في: وجوب شكر نعم الله عز وجل.

20 وقفات ثلاث في: تحريم كفر نعم الله عز وجل.

21 وقفة في: أهل الجنة بين نزع الغل وإذهاب الحزن.

22 وقفة في: فضل التواضع.

23 وقفة في: مكمن السعادة والحياة الطيبة.

24 وقفات ثلاث في: بر الوالدين.

25 وقفة في: وجوب حفظ السمع والبصر والفؤاد.

26 وقفات ثلاث في: الرقية الشرعية.

27 وقفات أربع في: الصديق والأصدقاء.

28 وقفات ست في: أهمية الوقت ووجوب المحافظة عليه وتنظيمه.

29 وقفتان في: سلامة القلب، وانشراح الصدر.

30 وقفات ثلاث في: اللغة العربية بين عقوق وجهل أبنائها وعجز علمائها.

31 وقفة في: الأخذ بالعزم والحزم في الأمور كلها.

32 وقفتان في: أمانة المسؤولية في أعمال الأمة.

ص: 7

33 وقفات خمس في: تدبر القرآن الكريم وتحريم هجره.

34 وقفات ثلاث في: إنزال الناس منازلهم.

35 وقفة في: شهادة الجوارح على العبد يوم القيامة، ووجوب الاحتراز منها.

36 وقفات ست في: وجوب صلة الأرحام.

37 وقفة في: حقوق المسلمين بعضهم على بعض.

38 وقفات تسع في: تحريم العصبية القبلية وذمها.

39 وقفات خمس في: فضيلة اللسان، وخطورته، ووجوب حفظه.

40 وقفات ثلاث في: الكرم.

41 وقفة في: أهمية خطبة الجمعة، وعظم مسؤولية الخطيب.

42 وقفات خمس في: التفاؤل.

43 وقفات خمس في: حسن الخلق.

44 وقفتان في: مشروعية الوقف.

45 وقفة في: العدل والإنصاف من النفس.

46 وقفة في: فضل عشر ذي الحجة، وفضل الأعمال الصالحة فيها، والأعمال التي تتأكد مشروعيتها فيها.

47 وقفة في: التيمن.

48 وقفة في: تأمل معاني سورة العصر.

49 وقفة في: الاستعداد للقاء الله تعالى.

50 وقفتان في: الحسد.

51 وقفة في: وسوسة الشيطان للإنسان على أنواع ومراتب.

52 وقفة فيما يعتصم به الإنسان من الشيطان.

ص: 8

هذا، وأسأل الله العلي القدير، بمنه وجوده وكرمه، أن يكتب له القَبول، وأن يعم بنفعه، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أبو إبراهيم

ص: 9

‌وقفة في: وجوب حسن التعامل مع الناس كلهم

قال الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]

اعتنى الإسلام بحسن التعامل مع الناس كلهم، وجعل الدين المعاملة:

المعاملة أولًا مع الخالق عز وجل: بتقواه وإخلاص العبادة له عز وجل.

ثم المعاملة ثانيًا مع الناس كلهم: بأداء حقوقهم، بدعوتهم إلى الإسلام، والإحسان إليهم، والبر بهم، والعدل معهم، والإصلاح بينهم، وكف الأذى عنهم، ونحو ذلك، من غير اعتبار لأجناسهم وألوانهم، وعرقياتهم وأديانهم، وغير ذلك.

قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58].

وقال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، وقال تعالى:{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا مَن قتل نفسًا معاهدًا له ذمةُ الله وذمةُ رسوله، فقد أخفَرَ بذمةِ الله»

(1)

.

وعن ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن قتل معاهدًا لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرةِ أربعين عامًا»

(2)

.

(1)

أخرجه الترمذي في الديات (1403)، وابن ماجه في الديات (2687)، والحاكم (2/ 127) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح» . وضعفه الألباني في «بلوغ المرام» ص (260).

(2)

أخرجه البخاري في الجزية والموادعة (3166)، وابن ماجه في الديات (2686).

ص: 11

واستأذنت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدِمت عليها أمها، وهي مشركة، في عهد قريش، وهي راغبة في الوصل، هل تصلها؟ قال صلى الله عليه وسلم لها:«نعم، صِلِي أمَّكِ»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم في معاملة المماليك من المسلمين وغيرهم: «إخوانُكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخاه تحت يدِه فلْيُطْعِمْه مما يأكُل، ولْيُلْبِسْه مما يَلبَس، ولا تكلِّفوهم ما يَغلِبهم، فإن كلَّفتموهم فأعينوهم»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «للملوك طعامُه وكسوتُه، ولا يكلَّف من العملِ إلا ما يُطِيقُ»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا أتى أحدُكم خادمُه بطعامه، فإن لم يُجْلِسْه معه، فليناولْه لقمةً أو لقمتين أو أُكْلةً أو أُكلتين»

(4)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرءِ إثمًا أن يحبِس عمَّن يملِكُ قُوتَهم»

(5)

.

وقد فاق الإسلام بما جاء به من العدل والرحمة والإحسان جميعَ الأديان والمِلَل والنِّحَل والمذاهب، والقوانين والنظم الأرضية والوضعية، وما يتبجح به أدعياء منظمات حقوق الإنسان وغيرهم.

فقد شمل الإسلام الناس كلهم بعدله ورحمته وإحسانه، حتى من غير المسلمين:

قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ

(1)

أخرجه البخاري في الهبة للمشركين (2620)، ومسلم في الزكاة (1003)، وأبو داود في الزكاة (1668)، وأحمد 6/ 344 (26915).

(2)

أخرجه البخاري في الإيمان (30)، ومسلم في الإيمان (1661)، وأبو داود في الأدب (5158)، والترمذي في البر والصلة (1945)، وابن ماجه في الأدب (3690)، وأحمد 5/ 161 (21432) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم في الأيمان (1662)، ومالك في الاستئذان بلاغًا (2/ 980)، وأحمد 2/ 247 (7364) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البخاري في العتق (2557)، ومسلم في الإيمان (1663)، والترمذي في الأطعمة (1853)، وابن ماجه في الأطعمة (3289، 3290) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

أخرجه مسلم في الزكاة (996)، وأبو داود في الزكاة (1692) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

ص: 12

وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ على المشركين. قال: «إني لم أُبعَثْ لعَّانًا، وإنما بُعثتُ رحمةً»

(1)

، ومِصداق هذا قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].

ودعا صلى الله عليه وسلم لقومه، وهم يُوقِعون به وبأصحابه صنوف الأذى، فقال:«ربِّ اغفرْ لقومي فإنهم لا يعلمون»

(2)

.

وزار صلى الله عليه وسلم اليهودي الذي كان يخدمه لما مرض، فقعد عند رأسه، فقال له:«أَسلِمْ» ، فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه: أطعْ أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:«الحمدُ الذي أنقذه منَ النار»

(3)

.

وجلس الخليفة الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه يتحاكم مع اليهودي الذي وجد دِرعه عنده إلى القاضي شُرَيح، ولم يكن لديه بيِّنة، فقيل له: يحلف اليهودي، ويأخذ الدرع؟ فقال: هو ذاك. فلما رأى اليهودي أن خليفة المسلمين تحاكم معه إلى القضاء، اعترف بالدرع لعلي رضي الله عنه، وأعلن إسلامه

(4)

.

وكان لعبد الله بن المبارك رحمه الله جارٌ يهودي، فاحتاج اليهودي وأراد أن يبيع دارَه، فقيل له: بكم تبيعها؟ قال: بألفين. فقيل له: هي لا تساوي إلا ألفًا. فقال: صدقتُم، ولكن ألفٌ للدار، وألف لجوار عبد الله بن المبارك، فدعاه عبد الله وسأله: ما الذي دعاك لبيع دارك؟ قال: عليَّ دَين. فأعطاه ثمن الدار، وقال: لا تبعها

(5)

.

وبهذا ضرب الإسلام بتشريعاته العظيمة، ومبادئه السمحة، وسلوك أتباعه، أروع الأمثلة في العدل والرحمة والإحسان؟

(1)

أخرجه مسلم في البر والصلة (2599) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3477)، وفي استتابة المرتدين (6929)، ومسلم في الجهاد والسير (1792)، وابن ماجه في الفتن (4025)، وأحمد 1/ 380 (3611) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في «الجنائز» (1356)، وأبو داود في الجنائز (3095) من حديث أنس رضي الله عنه.

(4)

«تاريخ الخلفاء» للسيوطي ص (184 - 185).

(5)

انظر: «تذكرة أولي النهى» 5/ 272، و «موسوعة الأخلاق» 1/ 313.

ص: 13

قال ابن باز رحمه الله في بيان المشروع في معاملة غير المسلمين: «إن من المشروع للمسلم بالنسبة إلى غير المسلم أمورًا متعددة، منها:

أولًا: الدعوة إلى الله، بأن يدعوه إلى الله، ويبين له حقيقة الإسلام، حيث أمكنه ذلك، وحيث كانت لديه البصيرة؛ لأن هذا هو أعظم الإحسان، وأهم الإحسان الذي يهديه المسلم إلى مواطنه، وإلى من اجتمع به من اليهود أو النصارى أو غيرهم من المشركين؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«من دل على خيرٍ فله مثلُ أجر فاعلِه» رواه الإمام مسلم في صحيحه

(1)

، وقوله عليه الصلاة والسلام لعلي لما بعثه إلى خيبر، وأمره أن يدعو إلى الإسلام قال:«فوالله لأن يهديَ الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حُمْر النَّعَم» متفق على صحته

(2)

.

وقال عليه الصلاة والسلام: «من دعا إلى هُدًى، كان له من الأجر مثل أجور من تَبِعه، لا يَنقُصُ ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالةٍ، كان عليه من الإثمِ مثل آثام من تبِعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا» رواه مسلم في صحيحه

(3)

.

فدعوته إلى الله وتبليغه الإسلام ونصيحته في ذلك من أهم المهمات، ومن أفضل القُربات.

ثانيًا: لا يجوز أن يظلمه في نفسٍ ولا في مالٍ ولا في عِرضٍ، إذا كان ذميًّا أو مستأمنًا أو معاهدًا، فإنه يؤدي إليه الحق، فلا يظلمه في ماله لا بالسرقة ولا بالخيانة ولا بالغش، ولا يظلمه في بدنه لا بضربٍ ولا بغيره؛ لأن كونه معاهدًا أو ذميًّا في البلد أو مستأمنًا يعصِمه.

ثالثًا: لا مانع من معاملته في البيع والشراء والتأجير ونحو ذلك، فقد صح عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه اشترى من الكفار عُباد الأوثان، واشترى من اليهود، وهذه معاملة، وقد توفي عليه الصلاة والسلام ودرعه مرهونة عند يهودي في طعامٍ اشتراه لأهله.

(1)

أخرجه مسلم في الإمارة (1893)، وأبو داود في الأدب (5129)، والترمذي في الموضع السابق (2671)، وأحمد 4/ 120 (17084) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في أصحاب النبي (2942، 3071)، ومسلم في فضائل الصحابة (2406)، وأبو داود في العلم (3661) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم في العلم (2674)، وأبو داود في السنة (4609)، والترمذي في العلم (2674)، وابن ماجه في المقدمة (206) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 14

رابعًا: في السلام، لا يبدأْه بالسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تَبدَؤُوا اليهودَ ولا النصارى بالسلام» أخرجه مسلم في صحيحه

(1)

.

وقال: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: «وعليكم» ؛ فالمسلم لا يبدأ الكافر بالسلام، ولكن يرد عليه بقوله:«وعليكم» ؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتابِ فقولوا: وعليكم» ؛ متفَق على صحته

(2)

.

هذا من الحقوق المتعلقة بين المسلم والكافر، ومن ذلك أيضًا: حسن الجوار إذا كان جارًا تحسن إليه ولا تؤذيه في جواره، وتتصدق عليه إذا كان فقيرًا؛ تُهدِي إليه، وتنصح له فيما ينفعه؛ لأن هذا مما يسبب رغبته في الإسلام ودخوله فيه، ولأن الجار له حق، قال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما زال جبريلُ يُوصيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سيُوَرِّثُهُ» متفق على صحته

(3)

.

وإذا كان الجار كافرًا كان له حق الجوار، وإذا كان قريبًا وهو كافر صار له حقان: حق الجوار وحق القرابة.

ومن المشروع للمسلم أن يتصدق على جاره الكافر وغيره من الكفار غير المحاربين من غير الزكاة؛ لقول الله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، وللحديث الصحيح عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها: أن أمها وفدت عليها بالمدينة في صُلح الحُديبيَة، وهي مشركةٌ تريد المساعدة، فاستأذنت أسماء النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، هل تصلها؟ فقال:«صليها» .

(1)

أخرجه مسلم في السلام (2167)، وأبو داود في الأدب (5205)، والترمذي في السير (1602) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الاستئذان (6258)، ومسلم في السلام (2163)، وأحمد 3/ 99 (11948) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في الأدب (6014)، ومسلم في البر والصلة (2624)، وأبو داود في الأدب (5151)، والترمذي في البر والصلة (1942)، وابن ماجه في الأدب (3673) من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاري في الموضع السابق (6015) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وأخرجه الترمذي في الموضع السابق (1943) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

ص: 15

أما الزكاة: فلا مانع من دفعها للمؤلَّفة قلوبُهم من الكفار؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} الآية [التوبة: 60].

أما مشاركة الكفار في احتفالاتهم بأعيادهم، فليس للمسلم أن يشاركهم في ذلك»

(1)

.

تذييل: في وجوب الإحسان إلى الحيوان:

ولم يقف الإسلام في إيجاب حسن المعاملة بين الناس فقط، بل أوجب حسن المعاملة مع الحيوانات والبهائم، والرفق بها، وحلبها يوم وِردِها، وإحسان ذبحها، وتأمين أكلها وشربها، وعدم تحميلها ما لا تُطيق، وغير ذلك.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الإبل: «ومن حقِّها حَلبُها يوم وِردها»

(2)

.

وعن شدَّاد بن أوسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا قتلتم فأحسِنوا القِتلةَ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، ولْيُحِدَّ أحدكم شَفرتَه، ولْيُرِحْ ذبيحتَه»

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يمشي بطريقٍ اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنزل فيها فشرِب، ثم خرج، فإذا كلب يلهَث يأكل الثَّرَى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلبَ من العطشِ مثل الذي كان بَلَغَ مني. فنزل البئر فملأ خُفَّه ماءً، ثم أمسكه بفيه حتى رَقِيَ، فسقَى الكلب، فشكر الله له، فغفر له» . قالوا: يا رسولَ الله، وإن لنا في هذه البهائم لأجرًا؟ فقال صلى الله عليه وسلم:«في كل كبِدٍ رَطبةٍ أجرٌ»

(4)

.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عُذبت امرأة في هِرةٍ سجنتها حتى ماتتْ، فدخلتْ فيها النارَ، لا هي أطعمتها وسَقَتْها، إذ هي حَبَسَتْها، ولا هي تركتها تأكُلُ من

(1)

«مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز» 6/ 364.

(2)

أخرجه البخاري في الزكاة (1402)، ومسلم في الزكاة (987)، وأبو داود في الزكاة (1659)، والنسائي في الزكاة (2448) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم في الصيد والذبائح (1955)، وأبو داود في الضحايا (2815)، والنسائي في الضحايا (4405)، والترمذي في الديات (1409)، وابن ماجه في الذبائح (3170).

(4)

أخرجه مالك في اللباس (2/ 929)، والبخاري في المساقاة (2363)، ومسلم في السلام (2244)، وأبو داود في الجهاد (2550).

ص: 16

خَشاشِ الأرض»

(1)

.

وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: أن جملًا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يَلقَى من صاحبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«إنه شكا إلي أنك تُجيعُه وتُدئِبُه»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3482)، ومسلم في السلام (2242) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه أبو داود في الجهاد (2549)، وأحمد 1/ 205 (1754)، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (2297).

ص: 17

‌وقفتان في: مجمل القول في النَّسْخ

قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]

‌الوقفة الأولى في:

بيان مجمل القول في معنى النسخ في اصطلاح المتقدِّمين والمتأخِّرين

معنى النسخ في اللغة: الرفع والإزالة؛ يقال: نَسَخَتِ الشمسُ الظلَّ؛ أي: أزالتْه.

أ) معنى النسخ في اصطلاح المتقدمين:

توسع السلف رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم في مدلول النسخ، فكما يطلقونه على معناه المعروف عند الأصوليين وعند المتأخرين، فقد كانوا يطلقونه أيضًا على: تخصيص العام، وتقييد المطلَق، وتفصيل المجمَل، وإيضاح المبهَم، وعلى الاستثناء والشرط والصفة.

ويطلقونه على رفع البراءة الأصلية، وعلى رفع ما كان عليه أهل الكتاب، وعلى ما جاء في نسخة الآية؛ أي: في موضوعها، ونحو ذلك.

كما يطلقونه على آيات يمكن العمل بكلٍّ منها في وقته المناسب، كآيات العفو والصفح والإعراض عن المشركين وأهل الكتاب ومجادلتهم بالتي هي أحسن، ونحو ذلك. مع آيات القتال عامة، وهي لا تعارض بينها، فكلٌّ منها موقتة بمناسبتها، فتطبق الأمةُ ما قَدَرَت عليه منها حسب مراحل قوتها وضعفها، فتطبق الأمر بالقتال حال قوتها، وتطبق الأمر بالعفو حال ضعفها، وهكذا

(1)

.

ب) معنى النسخ في اصطلاح الأصوليين والمتأخرين:

عرَّف الأصوليون وغيرهم من المتأخرين النسخَ في الاصطلاح بتعاريفَ كثيرةٍ، وقفتُ على قريبٍ من عشرين منها.

(1)

انظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية 14/ 101، و «إعلام الموقعين» 1/ 35، و «البرهان، في علوم القرآن» 2/ 42 - 43، و «الموافقات» للشاطبي 3/ 107 - 117، و «مناهل العرفان» للزرقاني 2/ 150.

ص: 18

أصحها وأجمعها وأمنعها ما ذكره فضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في كتابه «الأصول، من علم الأصول»

(1)

، وهو:«رفعُ حكمِ دليلٍ شرعيٍّ أو لفظِه بدليلٍ من الكتابِ والسنَّةِ» .

‌الوقفة الثانية في:

مجمل القول في قضايا ودعاوى النسخ في القرآن الكريم

كثُرت دعاوى النسخ في القرآن الكريم بسبب توسع السلف والمتقدمين في إطلاق مدلول النسخ- كما سبق بيانه- حتى بلغت قريبًا من ثلاثمئة دعوى.

والحقيقة أن القضايا التي اشتهر فيها القول بالنسخ وَفق المعنى الاصطلاحي الصحيح للنسخ، لا تتجاوز إحدى عشرة قضية، يمكن تقسيمها على النحو الآتي:

‌أولًا: القضايا التي تَرَجح أو صح القول فيها بالنسخ:

وهي خمس قضايا، وهي كما يلي:

1 قوله تعالى في سورة البقرة: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الآية: 184].

فكان المسلم مخيَّرًا في أول فرض الصيام بين الصيام أو الإطعام، فنسخ هذا التخيير بقوله تعالى بعد هذه الآية:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [الآية: 185]

(2)

.

2 مفهوم قوله تعالى في سورة النساء: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [الآية: 43].

فمفهوم هذه الآية إباحة السكر في غير وقت الصلاة، وقد نُسخ هذا المفهوم بتحريم السكر مطلقًا في قوله تعالى في سورة المائدة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ

(1)

ص 35.

(2)

انظر: «الناسخ والمنسوخ» للنحاس بتحقيقنا 1/ 502.

ص: 19

وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [الآيتين: 90 - 91]

(1)

.

3 قوله تعالى في سورة الأنفال: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الآية: 65].

ففي هذه الآية كُلِّف الواحد من المؤمنين في المعركة بمصابرة عشرة من الكفار، ثم نُسخ بمصابرة المؤمن للاثنين من الكفار بقوله تعالى في الآية بعدها:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الآية: 66]

(2)

.

4 قوله تعالى في سورة المجادلة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [الآية: 12].

نُسخت هذه الآية بقوله تعالى في الآية بعدها: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الآية: 13].

فأوجب الله عز وجل على المؤمنين في الآية الأولى تقديم الصدقة بين يديْ مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم تخفيفًا عليه، ثم نسخها بالآية الثانية؛ تخفيفًا عليهم

(3)

.

5 قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1 - 4].

أوجب الله عز وجل في هذه الآية قيامَ الليل، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولًا كاملًا حتى انتفخت أقدامهم، ثم نُسخ وجوب ذلك بقوله تعالى في آخر السورة:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]

(4)

، وبقِي قيام الليل بعد ذلك مندوبًا

(5)

.

(1)

انظر المصدر السابق 2/ 212.

(2)

انظر المصدر السابق 2/ 388.

(3)

انظر المصدر السابق 3/ 55.

(4)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (746)، وأبو داود في قيام الليل (1342)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1601)، وأحمد 6/ 53 (24269) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(5)

انظر: «الناسخ والمنسوخ» للنحاس بتحقيقنا 3/ 129.

ص: 20

فهذه القضايا الخمس النسخ فيها ظاهرٌ ولله الحمد، ولا إشكال في فهم ذلك، ولا احتمال فيها لغير النسخ.

‌ثانيًا: القضايا التي تَرَجح أو صح القول فيها بالإحكام، وعدم النسخ، وهي ست قضايا، وهي كما يلي:

1 قوله تعالى في سورة البقرة: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [الآية: 180].

ذهب أكثر السلف وأهل العلم بعدهم إلى أن هذه الآية منسوخة بآيات المواريث، وحكى بعضهم الإجماع على ذلك.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن هذه الآية محكمة، خصصتها آيات المواريث بمن لا يرث من الوالدين لمانع من موانع الإرث، وهي: الرق، والقتل، واختلاف الدين، وبمن لا يرث من الأقربين؛ لكونه محجوبًا، وهذا هو الراجح

(1)

.

2 قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217].

ذهب كثير من السف وأهل العلم بعدهم إلى أن هذه الآية منسوخة بآية السيف، وهي قوله تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وبغيرها من آيات الأمر بالقتال.

وذهب بعضهم إلى أن الآية محكمة، وأن القتال في الأشهر الحرم لا يجوز، ما لم يكن هناك اعتداء من الكفار؛ لأنه لا تنافي بينها وبين آية السيف وآيات الأمر بالقتال؛ لأن آية السيف وآيات القتال عامة بجواز قتال المشركين في جميع الأمكنة والأزمنة، وهذه الآية خاصة بالمنع من القتال في الأشهر الحرم، ولا تعارض بين خاص وعام. وهذا هو الراجح، وإليه ذهب بعض المحققين

(2)

.

3 قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240].

(1)

انظر المصدر السابق 1/ 486.

(2)

انظر المصدر السابق 1/ 539.

ص: 21

فذهب أكثر العلم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى قبلها: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [الآية: 234].

وذهب بعض أهل العلم إلى أن الآيتين محكمتان، فالآية الأولى في وجوب التربص أربعة وعشرًا على وجه التحتيم على المرأة، والآية الثانية وصية لأهل الميت أن يبقوا زوجة ميتهم حولًا كاملًا؛ جبرًا لخاطرها، وبرًّا بميتهم، وهذا هو الراجح؛ لأنه إذا استقام عمل الآية على هذا المعنى فلا مُوجب للقول بنسخها بالآية التي قبلها

(1)

.

4 قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284].

جاء في بعض الآثار أن هذه الآية نُسخت بقوله تعالى بعدها: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286].

والصحيح أن الآيتين محكَمتان، وأن الآية الثانية لم تنسخ الآية الأولى، وإنما نسخت وأزالت ما وقع في نفوس بعض الصحابة من فهمهم أن في الآية الأولى التكليف بما لا يطاق، والمعاقبة على ما في أنفسهم، وهذا لم تدل عليه الآية، وإنما دلت فقط على المحاسبة على ذلك دون المعاقبة؛ ولهذا لا تنافيَ بينها وبين الآية الثانية يُوجِب القولَ بالنسخ.

قال ابن تيميَّة

(2)

: «وكذلك ينسخ الله ما وقع في نفوس من فهم المعنى، وإن كانت الآية لم تدل عليه، لكنه مُحتمل، وهذه الآية من هذا الباب، فإن قوله: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} الآيةَ، إنما يدل على أن الله يحاسب على ما في النفوس، لا على أنه يعاقب على كل ما في النفوس»

(3)

.

5 قوله تعالى في سورة النساء: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [الآيتين: 15 - 16].

ذهب أكثر أهل العلم- بل حكى بعضهم الإجماعَ- على نسخ هاتين الآيتين بالحدود، مع اختلافهم بالناسخ لهما.

(1)

انظر المصدر السابق 2/ 89.

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» 14/ 101.

(3)

انظر: «الناسخ والمنسوخ» بتحقيقنا 2/ 124.

ص: 22

وعند التأمل في هاتين الآيتين نجد الأولى منهما مُغيَّاةً بغايةٍ ينتهي حكمُها عند حلول تلك الغاية، وهي قوله:{أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} ، وقد جاء السبيل بوجوب رجم المحصن، وجلد غير المحصن مئة جلدة، وتغريب عام، وهذا لا يسمَّى نسخًا على المعنى الصحيح للنسخ.

ونجد الآية الثانية فيها الأمر بأذاهما، وما شرعه الله تعالى من رجم المحصَن، وجلد غير المحصن وتغريبه نوع من الأذى، فهو بيان للآية، والبيان لا يُعد نسخًا.

وهذا هو الراجح، فالآيتان محكَمتان

(1)

.

6 قوله تعالى في سورة النساء: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [الآية: 33].

أي: والذين تعاهدتم وتحالفتم وإياهم بالأيمان والمواثيق المؤكدة المغلظة، وكان هذا في الجاهلية، الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر، وكانوا يتوارثون بالحلف.

وقوله: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قال كثير من المفسرين: من الميراث.

قالوا: ونسخ هذا بقوله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75].

وقال بعضهم: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} من النصرة والمعونة، والنصيحة والرأي، والعقل، دون الميراث.

فالآية محكمة غير منسوخة؛ لأنه لا تعارض بينها وبين آية المواريث، وهذا هو الراجح

(2)

.

يضاف إلى هذا أن الإسلام قد أبطل الحِلف، كما جاء في حديث جُبير بن مُطعِم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا حِلفَ في الإسلام، وأيما حلفٍ كان في الجاهليةِ فإن الإسلام لم يَزِدْهُ إلا شدةً»

(3)

.

وبهذا يتبين أن الآيات التي نُسخت من القرآن الكريم لا تتجاوز خمس آياتٍ فقط، وما عداها مما قيل بنسخه فهو محكَم غير منسوخ، ولله الحمد.

(1)

انظر المصدر السابق 2/ 168 - 169.

(2)

انظر المصدر السابق 2/ 206.

(3)

أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2530)، وأبو داود في الفرائض (2925)، وأحمد 4/ 83 (16761).

ص: 23

‌وقفات أربع في: الجنائز

قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)} [البقرة: 155، 156]

‌الوقفة الأولى في:

ما ينبغي للمؤمن مراعاتُه عند المصيبة:

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} .

لقد اشتملت هذه الآيات على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها، وبيان ما تقابل به إذا وقعت، وما يقال عند ذلك، وما يعين على الصبر، وما للصابرين من الأجر، وبهذا يتبين- ولله الحمد- الفرق بين المؤمن الذي يثق بوعد الله ورحمته به، ويحتسب مصابه، وبين غيره، وخلاصة القول أنه ينبغي للمؤمن عند المصيبة مراعاة ما يأتي:

أولًا: الاستعانة بالصبر والصلاة والتسليم والرضا بقضاء الله وقدره، وأن يقارن ما أخذ الله منه بما أعطاه من النعم التي لا تحصى؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لما أرسلت له إحدى بناته أن ابنًا لها في الموت قال صلى الله عليه وسلم:«ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجلٍ مسمًّى، فمُرْها فلتصبر ولتحتسب»

(1)

.

وأن يقول: «{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها»

(2)

،

(1)

أخرجه البخاري في التوحيد (7377)، ومسلم في الجنائز (923) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه مسلم في الجنائز، ما يقال عند المصيبة (918/ 4).

ص: 24

معترفًا بقلبه أنه ملك لله عز وجل، يدبره كيف يشاء، ومرده إليه، واختياره سبحانه له أحسن من اختياره لنفسه، فيحتسب عند الله مصيبته؛ ليطمئن قلبه، وينشرح صدره، فإن الكثيرين منَّا يقولون هذه المقالة من غير تدبر لمعناها، والذي لو تدبرناه حقًّا، ووطَّنَّا أنفسنا عليه، لهوَّن علينا المصاب بإذن الله تعالى.

كما أن على المؤمن أن يتذكر ما وعد الله به الصابرين في هذه الآيات من معيَّته لهم، وبشارتهم، والثناء عليهم، ورحمتهم، وتأكيد هدايتهم، وما وعدهم به في غيرها؛ كما قال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وقال تعالى:{وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 96]، وقال تعالى:{إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} [المؤمنون: 111]، وقال تعالى:{أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 75، 76].

ولما قالت فاطمة رضي الله عنها: «واكرب أبتاه!» قال صلى الله عليه وسلم: «لا كرب على أبيك بعد اليوم»

(1)

.

وقوله عز وجل في الحديث القدسي: «ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه إلا الجنة»

(2)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه إبراهيم عليه السلام: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون»

(3)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن لا يقضي الله قضاءً إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر فكان خيرًا له»

(4)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا

(1)

أخرجه البخاري في المغازي (4462)، وابن ماجه في الجنائز (1629) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الرقاق (6424) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في الجنائز (1303)، ومسلم في الفضائل (2315)، وأبو داود في الجنائز (3126) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(4)

أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2999)، وأحمد 4/ 332، 333 (18934، 18939) من حديث صهيب رضي الله عنه.

ص: 25

غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه»

(1)

.

قال الشاعر:

فإذا بُلِيت بمحنة فاصبر لها

صبر الكريم فإن ذلك أحزمُ

وإذا بليت بكربة فالبَسْ لها

ثوب السكوت فإن ذلك أسلمُ

لا تشكونَّ إلى العباد فإنما

تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحمُ

(2)

ثانيًا: ينبغي للمصاب أن يتأمل في حقيقة الدنيا وطبيعتها، وأنها دار فناء، لا دار بقاء، دار غرور ومتاع قليل، وأن الدار الآخرة هي الدار الحقة؛ كما قال تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27]، وقال تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185، الحديد: 20]، وقال تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26].

وقال تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص: 60، الشورى: 36]، وقال تعالى:{فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38]، وقال تعالى:{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17]، وقال تعالى:{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} [الضحى: 4]، وقال تعالى:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء؟ فقال:«ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة

(1)

أخرجه البخاري في المرضى (5642)، ومسلم في البر والصلة (2573)، والترمذي في التفسير (3038)، وأحمد 2/ 303 (8027) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.

(2)

الأبيات لزين العابدين بن الحسين رضي الله عنهما، وتنسب للشافعي رحمه الله. انظر:«عيون الأخبار» (2/ 284)، «الدر الفريد وبيت القصيد» (1/ 154).

(3)

أخرجه الترمذي في الزهد (2377)، وابن ماجه في الزهد- مثل الدنيا (4109) - وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح» .

ص: 26

ماء»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر»

(2)

.

ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنهما: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء»

(3)

، قال الشاعر:

تعزَّ فلا شيء على الأرض باقيًا

ولا وزر مما قضى الله واقيَا

(4)

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

لا شيء مما ترى تبقى بشاشته

يبقى الإله ويفنى المال والولدُ

(5)

وقال أبو الحسن التهامي لما مات ابنه

(6)

:

حكم المَنيةِ في البريَّة جارِ

ما هذه الدنيا بدار قرارِ

طبعت على كدر وأنت تريدها

صفوًا من الأقذاء والأكدارِ

ومكلِّف الأيامِ ضدَّ طباعها

متلمس في الماء جذوةَ نارِ

وإذا رجوت المستحيل فإنما

تبني الرجاء على شفير هارِ

فالعيش نوم والمنية يقظة

والمرء بينهما خيال سارِ

والنفس إن رضيت بذلك أو أَبَتْ

منقادة بأزمَّة الأقدارِ

(1)

أخرجه الترمذي في الزهد (2320)، وابن ماجه في الزهد (4110). وقال الترمذي:«حديث صحيح غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (686، 943).

(2)

أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2956)، والترمذي في الزهد (2324)، وابن ماجه في الزهد (4113)، وأحمد 2/ 323 (8289) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في الرقاق (6416)، والترمذي في الزهد (2333).

(4)

البيت لم يسم قائله. انظر: «الجني الداني في حروف المعاني» ص (292)، و «أوضح المسالك» (1/ 275)، «المغني» (2/ 612).

(5)

انظر: «الإمتاع والمؤانسة» ص (347)، «العمدة في محاسن الشعر وآدابه» (1/ 34). والبيت ورد في عدة مصادر مع اختلاف فيه، ولم ينسب لقائل.

(6)

انظر: «ديوانه» ص (48).

ص: 27

فاقضوا مآربكم عجالًا إنما

أعماركم سفر من الأسفارِ

وتراكضوا خيل الشباب وبادروا

أن تسترد فإنهن عوارِ

وقال الآخر:

متاع غرور لا يدوم سرورها

وأضغاث حلم خادع ببهائهِ

فمن أكرمت يومًا أهانت له غدًا

ومن أضحكت قد آذنت ببكائهِ

فكم في كتاب الله من ذكر ذمها!

وكم ذمها الأخيار من أصفيائهِ!

(1)

وقال لبيد بن ربيعة

(2)

:

بَلِينا وما تبلى النجوم الطوالعُ

وتبقى الديار بعدنا والمصانعُ

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادًا بعد إذ هو ساطعُ

وما المال والأهلون إلا ودائع

ولا بد يومًا أن ترد الودائعُ

أليس ورائي إن تراخت منيتي

لزوم العصا تُحنَى عليه الأصابعُ

وقال الآخر:

فهن المنايا أي واد سلكته

عليها طريقي أو عليَّ طريقها

(3)

وقال الآخر:

ومن لم يمت بالسيف ما ت بغيره

تنوعت الأسباب والموت واحدُ

(4)

ثالثًا: ينبغي أن يعلم المصاب أن في طي المحنة منحةً، وفي البلية نعمة، وأن الخيرة فيما يختاره الله؛ كما قال تعالى:{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216]، وقال تعالى:{فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

(1)

الأبيات لابن مشرّف. انظر: «ديوانه» (ص 38).

(2)

انظر «ديوانه» ص (56)، ويوجد فيه اختلاف يسير.

(3)

البيت بلا نسبة. انظر: «مجموع الفتاوى» (15/ 215)، «بدائع الفوائد» (1/ 119).

(4)

البيت لابن نباتة السعدي. انظر: «الدر الفريد» (7/ 447)، «المحاضرات والمحاورات» للسيوطي ص (379).

ص: 28

قال أبو تمام

(1)

:

قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت

ويبتلي الله بعض القوم بالنعمِ

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه

(2)

:

لا تكره المكروه عند حلوله

إن العواقب لم تزل متباينهْ

كم نعمة لا يستهان بشكرها

لله في طي المكاره كامنهْ!

وقال الآخر:

فلرب أمر مسخط

لك في عواقبه الرضا

ولربما اتسع المضيـ

ـق وربما ضاق الفضا

(3)

ومن هنا ينبغي أن يعلم المصاب بفقد حبيب مِن ولد، أو والد، أو زوج، أو أخ، أو قريب، أو صديق أن ما عند الله خير للمؤمن؛ لأن الشيطان قد يأتي لأهل المصاب؛ ليحزنهم، ويزيد مصابهم، فيوسوس لهم أن ميتهم المسكين خسر حياته أو خسر شبابه، أو أن المسكين مات بهذا الحادث أو بهذا المرض الخطير، أو مات فجأة، ونحو ذلك؛ فينبغي أن يعلم أن المؤمن إذا مات بأي وقت من عمره، وبأي سبب فما عند الله خير له، وهو مأجور على ما أصابه، وبموته انتقل من الضيق إلى السعة، ومن العناء إلى الراحة، ومن الخوف إلى بر الأمان؛ كما قال تعالى:{الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13]، فلا خوف عليهم مما أمامهم، ولا هم يحزنون على مَن خلفهم، فالله يتولاهم ويتولى مَن خلفهم.

رابعًا: ينبغي أن يتذكر المصاب بمصيبته المصيبة العظمى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي من السماء.

(1)

انظر: «ديوانه» ص (577).

(2)

انظر: «الفرج بعد الشدة» (5/ 26)، «الصناعتين» ص (226)، «خزانة الأدب» (2/ 377)، مع اختلاف في بعض الكلمات.

(3)

البيتان لصفي الدين الحلي. «الغيث المنسجم» ص (113)، «الكشكول» (1/ 208).

ص: 29

قال أبو العتاهية

(1)

:

اصبر لكل مصيبة وتجلدِ

واعلم بأن المرء غير مخلدِ

أَوَما ترى أن المصائب جمة

وترى المنية للعباد بمرصدِ؟!

من لم يُصَبْ ممَّن ترى بمصيبة؟!

هذا سبيل لستَ فيها بأوحدِ

وإذا أُصِبت مصيبة تشجى بها

فاجبر مصابك بالنبي محمدِ

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت، فقالا لها: ما يبكيكِ؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم. فقالت: ما أبكي أن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها»

(2)

.

قال حسان رضي الله عنه

(3)

:

بطيبةَ رسمٌ للرسولِ ومعهدُ

منيفٌ وقد تعفو الرسومُ وتَهمدُ

ظللتُ بها أبكي الرسولَ فأسعدتْ

عُيون وَمِثْلاها مِنَ الجَفْنِ تُسعدُ

فَبُورِكتَ يا قبرَ الرَّسولِ وبورِكتْ

بِلَادٌ ثَوَى فيهَا الرّشِيدُ المُسَدَّدُ

وبوركَ لحدٌ منكَ ضُمِّنَ طيبًا

عليهِ بناءٌ من صفيحٍ مُنضَّدُ

تهيلُ عليهِ التُّربَ أيدٍ وأعينٌ

عليهِ وقدْ غارتْ بذلكَ أَسعُدُ

لقد غَيَّبوا حِلْمًا وعِلْمًا وَرَحمةً

عشيةَ علَّوْهُ الثرى لا يُوسَّدُ

وَرَاحُوا بحُزْنٍ ليس فيهِمْ نَبيُّهُمْ

وَقَدْ وَهَنَتْ منهُمْ ظهورٌ وأَعْضُدُ

يُبَكُّونَ مَن تبكي السمواتُ يومَهُ

ومَن قدْ بَكَتْهُ الأرضُ فالناس أَكْمَدُ

وهلْ عدلتْ يومًا رزيةُ هالكٍ

رزيةَ يومٍ ماتَ فيهِ محمدُ

(1)

انظر: «ديوانه» ص (129).

(2)

أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2454)، وابن ماجه مختصرًا في الجنائز (1635).

(3)

«ديوانه» ص (60 - 63).

ص: 30

تَقَطَّعَ فيهِ مُنزِلُ الوَحْيِ عَنهُمُ

وَقَد كان ذا نورٍ يَغورُ ويُنْجِدُ

فَبَيْنَا هُمُ في ذلكَ النُّورِ إذْ غَدَا

إلى نُورِهِمْ سَهْمٌ من المَوْتِ مُقصِدُ

فأصبحَ محمودًا إلى اللهِ راجعًا

يُبَكِّيهِ جفنُ المرسلاتِ ويحمدُ

وأمستْ بِلادُ الحَرْم وَحشًا بقاعُها

لِغَيْبَةِ ما كانَتْ منَ الوَحْيِ تعهدُ

قِفارًا سِوَى مَعْمورَةِ اللَّحْدِ ضَافَها

فَقِيدٌ يُبَكِّيهِ بَلاطٌ وغَرْقدُ

وَمَسْجِدُهُ فالموحِشاتُ لِفَقْدِهِ

خلاءٌ لهُ فيهِ مقامٌ ومقعدُ

فبكِّي رسولَ الله يا عينُ حسرةً

ولا أَعرِفَنْكِ الدهرَ دمعك يجمدُ

وما لي لا أبكي لذي النعمة التي

على الناس منها سابغ يُتغمدُ!

فجودي عليه بالدموع وأعولي

لفقد الذي لا مثله الدهر يُوجدُ

فما فقد الماضون مثل محمد

ولا مثله حتى القيامة يُفقدُ

خامسًا: أن يعلم المصاب أن المصيبة الكبرى والبلية العظمي أن يصاب الإنسان في دينه فيخسر دنياه وأخراه؛ كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].

قال شريح رحمه الله: «إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي، وأحمده إذ رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني»

(1)

؛ فإن من كل شيء عوضًا إلا الدين.

سادسًا: على المصاب انتظار الفَرَج من الله تعالى: كما قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الانشراح: 5، 6].

وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: «واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن

(1)

أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» 7/ 198 (9980)، وابن عساكر في «تاريخه» (23/ 42). وانظر:«الكبائر» للذهبي ص (195)، «سير أعلام النبلاء» (4/ 105).

ص: 31

مع العسر يسرًا»

(1)

.

ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لن يغلب عسرٌ يسرين»

(2)

.

قال الشاعر:

وكل الحادثات إذا تناهت

فموصول بها الفرج القريبُ

(3)

وقال الآخر:

ولرُبَّ نازلة يضيق بها الفتى

ذرعًا وعند الله منها المخرجُ

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها

فُرِجَت وكان يظنها لا تفرجُ

(4)

وقال الآخر:

عسى فرج يأتي به الله إنه

له كلَّ يوم في خليقته أمرُ

(5)

وقال أبو العتاهية

(6)

:

يا صاحب الهم إن الكرب منفرجٌ

أبشر بخير فإن الفارج اللهُ

أَلْيأس يقطع أحيانًا بصاحبه

لا تيأسنَّ فإن الكافي اللهُ

أَلله يحدث بعد العسر ميسرة

لا تجزعنَّ فإن الكاشف اللهُ

إذا بليت فثق بالله وارضَ به

إن الذي يكشف البلوى هو اللهُ

(1)

أخرجه أحمد 1/ 307 (2803)، والطبراني في «الكبير» 11/ 123 (11243)، قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» ص (257): وأصل الحديث بدون لفظ الترجمة عند الترمذي، وصححه من حديث حَنش عن ابن عباس مرفوعًا، بل أخرجه أحمد، والطبراني، وغيرهما من هذا الوجه أيضا بتمامه، وهو أصح وأقوى رجالًا.

قلت: أخرجه الطبراني من حديث ابن أبي مليكة عن ابن عباس به.

(2)

ذكره البخاري معلقا دون نسبة في تفسير سورة {ألم نشرح لك} قبل حديث (4952)، وأخرجه مالك في الجهاد (2/ 446)، والطبري في «جامع البيان» (6/ 334).

(3)

البيت لابن السكيت. انظر: «الكشكول» (2/ 52).

(4)

البيتان لإبراهيم بن العباس الصولي. انظر: «الفرج بعد الشدة» (5/ 15).

(5)

البيت لمحمد بن إسماعيل. انظر «الصاحبي في فقه اللغة» ص (157).

(6)

انظر: «المحاسن والأضداد» ص (157).

ص: 32

والله ما لك غير الله من أحد

فحسبك الله في كلٍّ لك اللهُ

سابعًا: ينبغي أن يتأسى المصاب ويتسلى بأحوال السلف عند المصائب وما هم عليه من قوة الصبر، والتسليم لقضاء الله وقدره، والرضا به.

والأخبار عنهم في هذا مستفيضة، فقد رُوي أن أبا ذر رضي الله عنه كان لا يعيش له ولد، فقيل له في ذلك، فقال:«الحمد لله الذي يأخذهم في دار الفناء، ويدخرهم في دار البقاء»

(1)

.

ولما حضرت بلالًا رضي الله عنه الوفاةُ أنشأ يقول: «غدًا نَلقى الأحبَّهْ؛ محمدًا وحزبَهْ» ، فقالت امرأته:«واويلاه!» . فقال: «وافرحاه!»

(2)

.

وقد روي أن عروة بن الزبير رضي الله عنه وقعت في رجله الآكلة، فقطعها من الساق، ولم يمسكه أحد وهو شيخ كبير، ولم يدَعْ وِرْده تلك الليلة، ومات أحد أبنائه، فقال رحمه الله:«اللهم إن كنت ابتليت فقد عافيت، وإن كنت أخذت فقد أبقيت، أخذت عضوًا وأبقيت أعضاءً، وأخذت ابنًا وأبقيت أبناءً» ، وتمثل بهذه الأبيات:

لعمري ما أهويت كفي لريبة

ولا نقلتني نحو فاحشة رِجْلِي

ولا قادني سمعي ولا بصري لها

ولا دلني رأيي عليها ولا عقْلِي

وأعلم أني لم تصبني مصيبة

من الدهر إلا قد أصابت فتًى مثْلِي

(3)

ولما مات عبد الملك بن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله قال عمر: «الحمد لله الذي جعلك في ميزاني، ولم يجعلني في ميزانك، رضينا بقضاء الله، وسلمنا لأمر الله، والحمد لله رب العالمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون» .

ومات ولد لعقبة اسمه يحيى، فلما أنزله في قبره قيل له:«والله لقد كان نعم القائد للجيش! فاحتسِبْه. فقال: وما لي لا أحتسبه وقد كان من زينة الحياة الدنيا، وهو اليوم من الباقيات الصالحات» .

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» 19/ 212 (35832)، والطبراني في «الكبير» 2/ 150 (1629)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 160).

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «المحتضرين» (294)، وانظر:«سير أعلام النبلاء» (1/ 359).

(3)

انظر: «الكبائر» للذهبي ص (192)، «تاريخ دمشق» لابن عساكر (59/ 429).

ص: 33

وقيل لرجل: كم لك من الولد؟ فقال: تسعة، فقيل له: نحن لا نعرف لك إلا ولدًا واحدًا. فقال: «الحمد لله كان لي عشرة من الولد فقدمت تسعة أحتسبتهم عند الباري -جل وعلا-، وبقي واحد، لا أدري هل أنا له، أم هو لي؟» .

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لمصابٍ: «إنك إن صبرت جرَتْ عليك المقادير؛ وأنت مأجور، وإن جزِعْت جرَتْ عليك المقادير؛ وأنت مأزور»

(1)

.

وروي في «مناقب الشافعي» للبيهقي

(2)

: أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ولد فجزع عليه جزعًا شديدًا؛ حتى امتنع من الطعام والشراب. فبلغ ذلك الشافعيَّ، فكتب إليه: أما بعد، فعزِّ نفسك بما تعزي غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من فعل غيرك، واعلم أن أمضَّ المصائب فَقْدُ سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزرٍ؟! ألهمك الله عند المصائب صبرًا، وأجزل لنا ولك بالصبر أجرًا. وكتب إليه:

إني معزِّيكَ لا أني على ثقة

من الخلود ولكن سُنة الدِّينِ

فما المعزَّى بباق بعد ميتهِ

ولا المعزِّي وإن عاشا إلى حينِ

ويشاء الله أن يموت بعدها ابن للشافعي رحمه الله الذي كان يعزِّي أصبح يعزَّى، فتمثل بهذا البيت:

ما الدهر إلا هكذا فاصطبر له

رزية مال أو فراق حبيبِ

ولما قتل أبناء الخنساء الأربعة في معركة القادسية وجاءها الخبر ما زادت على أن قالت: «الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته»

(3)

، وهي التي كادت تهلك جزعًا لما مات أخوها صخر في الجاهلية؛ حيث تقول:

يذكرني طلوع الشمس صخرًا

وأذكره لكل غروب شمسِ

ولولا كثرة الباكين حولي

على إخوانهم لقتلت نفسِي

(1)

أخرجه ابن المقرئ في «معجمه» (369) عن الفريابي.

(2)

(2/ 90 - 91).

(3)

انظر: «الاستيعاب في معرفة الصحاب» (4/ 1829) وما بعدها، «شرح ديوان الحماسة» (2/ 278)، «خزانة الأدب» (1/ 438).

ص: 34

فلا والله لا أنساك حتى

أفارق مهجتي ويشق رمسِي

فقد ودعت يوم فراق صخر

أبي حسان لذاتي وأنسِي

فيا لهفي عليه ولهف أمي

أيصبح في الضريح وفيه يمسي؟!

(1)

ثامنًا: ينبغي أن يُعلم أنه ما سلم أحد من المصائب، حتى الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكما قيل:

ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها

لكان رسول الله حيًّا مخلدَا

(2)

بل لم يسلم الوحوش في القفار، والأسود في الغابات، والحيتان في أعماق البحار، وكما قيل:

هي الليالي وقاك الله صولتها

تصول حتى على الآساد في الأجمِ

(3)

وقد روي أن الإسكندر المقدوني ويقال: ذا القرنين. لما حضرته الوفاة أمر أمه أن تصنع طعامًا إذا مات وتدعو له جميع الناس، وأن تكتب على الباب أنه لا يأتي إليها إلا من لم يصب بمصيبة قط، ففعلت ذلك، فلم يأتها أحد، فقالت: لِمَ لَمْ يأتِ إليَّ أحد؟ فقيل لها: إنك كتبت أنه لا يأتي إليك إلا مَن لم يُصَبْ بمصيبة قط، وما من أحد إلا وقد أصيب بمصيبة، فعلمت السر في وصية ابنها لها بذلك وقالت:«لقد عزيتني عن نفسك بنفسك»

(4)

.

(1)

انظر: «ديوان الخنساء» ص (84).

(2)

البيت ينسب لحسان. انظر: «الكشكول» (1/ 289) وليس في ديوانه.

(3)

البيت لأبي عبد الله العربي العقيلي. انظر: «نفح الطيب» (4/ 529).

(4)

انظر: «العقد الفريد» (3/ 233)، «المستطرف» (2/ 587)، «مروج الذهب» (1/ 292)، «مختار الحكم» ص (239)، وانظر:«تاريخ دمشق» (17/ 358)، «التبصرة» لابن الجوزي (1/ 173).

ص: 35

‌الوقفة الثانية في:

التحذير من بعض البدع والمخالفات في الجنائز:

استحدث الناس في الجنائز بِدعًا ومخالفاتٍ كثيرةً، دلت نصوص الكتاب والسنة على تحريمها، وحذر منها المحققون من علماء الأمة، يجب الحذر منها، والبُعد عنها، منها ما يلي:

1 النِّياحة على الميت والندب، ولطم الخدود، وشق الجيوب.

2 الدعاء للميت بطريقة جماعية بعد الفراغ من الصلاة عليه.

3 التهليل أثناء تشييع الجنازة.

4 الأذان عند القبر، عند دفن الميت.

5 تلقين الميت بعد دفنه الشهادتين، وما سوف يُسأل عنه: مَن ربُّك؟ ما دينُك؟ من نبيُّك؟

6 رفع القبور، وتجصيصها، والبناء عليها، والكتابة عليها.

7 وضع جريد النخل والشجر على القبر.

8 الاجتماع لقراءة القرآن للميت قبل دفنه، أو بعد دفنه، عند القبر، أو في أي مكان.

9 جعل المصاحف عند القبور للقراءة للأموات.

10 وقف الأوقاف لتلاوة القرآن، وجعل ثوابه للأموات.

11 استئجار من يقرأ القرآن للأموات.

12 اجتماع الناس في البيوت لقراءة القرآن على رُوح الميت، وختم القرآن وجعل ثوابه للميت.

13 ذبح الذبائح وصنع الطعام، واجتماع المعزين من الناس.

ص: 36

14 الذكرى الأربعينية بعد مرور أربعين يومًا من وفاة الميت.

15 تخصيص زيارة المقابر يوم العيد وليلته أو يوم الجمعة.

إلى غير ذلك من المخالفات والبِدع الكثيرة، التي أوصلها بعض أهل العلم إلى أكثر من مئتي مخالفةٍ وبدعة

(1)

.

‌الوقفة الثالثة في:

التنبيه على أمور تتعلق بالجنائز:

هناك أمور كثيرة مما يتعلق بالجنائز ينبغي التنبيه لها، ومراعاتها، منها ما يلي:

1 عدم تأخير الصلاة على الميت ودفنه لغير حاجةٍ؛ لأن في ذلك تعديًا على حقه، وتأخيرًا له عن الوصول إلى ما عند الله تعالى له من الخير، قال صلى الله عليه وسلم:«أسرعوا بالجنازة؛ فإنْ تكُ صالحةً فخيرٌ تقدِّمونها إليه، وإن تكن غير ذلك فشرٌّ تَضَعُونه عن رِقابِكم»

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رجلًا أسودَ- أوِ امرأةً سوداءَ- كان يَقُمُّ المسجدَ، فمات، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: مات. قال: «أفلا آذَنْتُمُوني به، دُلُّوني على قبرِه» أو قال: «قبرِها» فأتى قبرَها فصلى عليها

(3)

.

وفي بعض الروايات: قالوا: «إنه كان ليلًا»

(4)

؛ أي: أنه توفي ليلًا. وفي بعضها: «فكرِهنا أن نُوقِظَك» .

(1)

انظر: «أحكام الجنائز وبدعها» للألباني رحمه الله ص 303 - 336.

(2)

أخرجه البخاري في الجنائز (1315)، ومسلم في الجنائز (944)، وأبو داود في الجنائز (3181)، والنسائي في الجنائز (1910، 1911)، والترمذي في الجنائز (1015)، وابن ماجه في الجنائز (1477) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في الصلاة (458)، وفي الجنائز (1337)، ومسلم في الجنائز (956)، وأبو داود في (الجنائز 3203)، وابن ماجه في الجنائز (1527).

(4)

أخرجها أحمد 2/ 388 (9037).

ص: 37

فلم ينتظر الصحابة رضوان الله عليهم استيقاظَه صلى الله عليه وسلم ليصليَ عليها معهم، ولم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك عليهم، وإنما قال لهم:«أفلا آذنتموني» ؟ أي: أخبرتموني، فبيَّنوا له سبب ذلك، وهو أن ذلك كان ليلًا.

ولهذا لا ينبغي أن تؤخَّر الصلاةُ على الميت ودفنُه انتظارًا لمن كان بعيدًا أو مسافرًا من أقاربه أو معارفه وأصدقائه، أو لأجل حشد أكبر عددٍ من المصلين، ونحو ذلك، إلا في حدود وقت كافٍ لتجهيزه وتغسيله وتكفينه، وحفر قبره، أو انتظار وقت صلاةٍ قريبٍ، ونحوِ ذلك، كما قال الفقهاء رحمهم الله.

2 استبدال الكتابة للناس في وسائل الاتصال بأن العزاء في المقبرة بغيرها، كأن يكتب للناس: ليس هناك جلوس في البيت للتعزية، ونحو ذلك؛ لأن التعزية ليس لها مكان محدود ولا وقت محدود. قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله:«ليس للعزاء أيام محدودة، بل يُشرع من حين خروج الروح، قبل الصلاة على الميت وبعدها، وليس لغايته حد في الشرع المطهر، سواء كان ذلك ليلًا أو نهارًا، وسواء كان ذلك في البيت أو الطريق، أو المسجد، أو في المقبرة، أو في غير ذلك من الأماكن»

(1)

.

3 ينبغي لكل من دخل المقبرة من المشيِّعين وغيرهم الحرص على السلام على الأموات، والدعاء لهم، وعدم نسيان ذلك.

4 ينبغي لأهل الميت ومَن شيَّعه معهم تقديمُ دفنِه، والدعاء له بعد ذلك بالمغفرة والثبات، وعدم الانشغال عن ذلك بالتعزية؛ لأن دفنه والدعاء له بعد الدفن من حقه عليهم، وهو أولى وآكد، ويفوت وقته بخلاف التعزية.

عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرَغ من دفن الميت وقف عليه، فقال:«استغفِرُوا لأخيكم، وسَلُوا له التثبيتَ؛ فإنه الآنَ يُسأل»

(2)

.

(1)

«فتاوى اللجنة الدائمة وسماحة الشيخ ابن باز» رقم (7408).

(2)

أخرجه أبو داود في الجنائز (3221) من حديث عثمان رضي الله عنه. قال النووي في «الخلاصة» (2/ 1028): «رواه أبو داود بإسناد حسن» . وقال الألباني في «أحكام الجنائز» ص (156): «أخرجه أبو داود والحاكم (1/ 370)، والبيهقي (4/ 56) وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» ص (129). وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» . ووافقه الذهبي، وهو كما قالا».

ص: 38

5 التعزية إنما تكون لأهل الميت وأقاربه، ومَن أُصيب وتأثر بموته، لا لكل مَن شيع الجنازة وحضرها.

6 يُستحسن ممن ليس لديه القدرة على الصبر والتحمل، ومقابلة المعزين، من أقارب الميت، ويُخشى أن يتأثر أو يتضرر: عدم الجلوس للتعزية، ولا يُلزَم بذلك؛ لأن التعزية إنما شُرعت للمواساة، وتخفيف المصاب، والدعاء للميت، وهي في الأصل سُنة، فإذا ترتب عليها ضرر، وجب تركها.

7 اعتاد الناس في المدن والبلدان الكبيرة الصلاة في وقت واحد على عدة أموات، ووصيتي لكل مَن شيعهم وحضر دفنهم ألا يغادرَ المقبرة حتى يدعو لهم جميعًا بالمغفرة والثبات، فإن تمكن من الوقوف عند قبر كل واحدٍ منهم والدعاء له فحسَن، وإلا عمَّ بالدعاء لهم جميعًا. ولا يكتفي بالدعاء فقط لميته، كما هو حال كثير من الناس اليوم.

8 رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنائز واتباعها، فقال صلى الله عليه وسلم:«من شهد الجنازة حتى يصليَ فله قِيراط، ومن شهِدها حتى تُدفَنَ له قيراطان»

(1)

.

وهذا فضل عظيم ينبغي للمسلم أن يحرص ألا يفوته هذا الأجر، إذا قدَر على ذلك دون تعطيل سائر أعماله، والتخلي عما عليه من حقوق قد يكون بعضها لله عز وجل، أو لوالديه وأهله وأولاده، وأقاربه وجيرانه وإخوانه، أو للأمة عامة؛ لأن هناك أناسًا فرغوا أنفسهم للصلاة على الجنائز واتباعها، فجلسوا ينتظرون الجنائز، وفرطوا في كثيرٍ من الحقوق المذكورة وغيرها.

وهذا أمر لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا القرون المفضلة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ولا مَن بعدهم مِن خيرة هذه الأمة، وقد وصل الحال ببعض من ذُكر أنه يمر على الجنائز في بعض المساجد فيصلي عليها بمفرده قبل صلاة الناس عليها

(1)

أخرجه البخاري (1325)، ومسلم (945)، وأحمد في «مسنده» 2/ 2 (4453).

ص: 39

ليدرك الصلاة على الجنائز في المساجد الأخرى، وربما فاتته صلاة الجماعة بسبب ذلك، وهذا أمر لا ينبغي ولا يجوز، والصلاة على الجنائز مهما كثُرت لا تعوِّض فوات هذه الحقوق.

9 يتعاطف بعض أقارب الميت وأصدقائه ومعارفه معه فيقوم بعضهم بجمع التبرعات لأجل الصدقة عنه، أو الوقف له. وهذا العمل لم يُنقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه وأصحابه، والقرون المفضلة، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه. مع ما فيه من مجاملة البعض، وإحراجهم، والميت في غنًى عن هذا، ولو كان حيًّا ما رضي بذلك، فينبغي تركه.

10 يتوسع أقارب بعض الأموات في الثناء عليهم بعد موتهم، وإطرائهم، وامتداح سيرتهم، وتَعداد أعمالهم الخيرية، والمبالغة في ذلك، ويُخشى أن يدخل ذلك في باب النعي المذموم، فالأولى الحرص بدلًا من ذلك على ما ينفع الميت، وهو الدعاء له بالمغفرة والرحمة ونحو ذلك.

‌الوقفة الرابعة:

لا يجوز أن يترتب على الصلاة على الجنازة وتشييعها

التفريط فيما هو أهم

فلا يجوز أن يترتب على صلاة الجنازة تفويت صلاة الجماعة أو بعضها؛ لأن هذا العمل من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، وفاعله أشبه بمن يَعمُرُ قصرًا ويهدِم مِصرًا.

كما أنه لا يجوز أن تكون الصلاة على الجنازة مبررًا لترك بعض أهل المسؤوليات في الأمة مسؤولياتِهم من المؤذنين والأئمة والمدرسين والموظفين وغيرهم؛ لأن بإمكانهم الصلاة عليها في المقبرة قبل الدفن أو بعده، بعد أداء مسؤولياتهم، وإذا كان هذا مُسوَّغًا لأهل الميت وأقاربه الأدنَين الذين يتولون تجهيزه، فليس مسوغًا لغيرهم.

ص: 40

‌وقفة في: وجوب حسن العشرة بين الزوجين

قال الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]

يُعد عقد الزوجية من أغلظ العقود، وأشدها وأخطرها، رتَّب الله عز وجل عليه حقوقًا عظيمة بين الزوجين، يجب على كلٍّ منهما مراعاتها، والقيام بها، وأداؤها للآخر، على أكمل الوجوه وأتمها؛ لكي تصلح الحياة الزوجية بينهما وتستقر، ويكوِّنا أسرة صالحة آمنة مستقرة بإذن الله تعالى.

ومن أوجب الحقوق وأعظمها فيما بين الزوجين: أن يعاشر كلٌّ منهما الآخر بالمعروف، كما قال تعالى:{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]؛ أي: ليعاشر كلٌّ من الزوجين الآخر بما هو معروف وواجب في الشريعة الإسلامية من حسن المعاشرة؛ قولًا وفعلًا وبذلًا، واحترامًا وتقديرًا، لِينًا في القول، ومعاملة حسنة، وصحبة جميلة، وأداءً للحقوق، وبذلًا للندى، وكفًّا للأذى.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في حسن خُلقه صلى الله عليه وسلم وطيب مَعشَره في تعامله مع أزواجه رضي الله عنهن.

قالت عائشة رضي الله عنها: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمِلِ اللحمَ ولم أبدُن، فقال للناس:«تقدموا» فتقدموا. ثم قال لي: «تعالَيْ حتى أُسابِقَكِ» . فسابقته فسبقته، فسكت عني حتى إذا حملتُ اللحمَ وبدُنت ونسِيت خرجتُ معه في بعض أسفاره، فقال للناس:«تقدموا» فتقدموا، ثم قال:«تعالي حتى أسابقك» . فسابقته فسبقني، فجعل يضحك وهو يقول:«هذه بتِلكِ»

(1)

.

(1)

أخرجه أبو داود في الجهاد (2578)، وابن ماجه في النكاح (1979)، وأحمد 6/ 264 (26277). وصححه الألباني في «الإرواء» (1502).

ص: 41

وسألها الأسود بن يزيد رضي الله عنهما: ماذا كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: «كان يكون في مِهنة أهله- تعني خدمة أهله- فإذا حضرتِ الصلاةُ خرج إلى الصلاة»

(1)

.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»

(2)

.

ومن أوجب وأهم حقوق المعاشرة بالمعروف أن يسعى كلٌّ من الزوجين بكل ما استطاع إلى إعفاف الآخر وإشباع ميوله ورغبته الجنسية، والتودُّد والتحبُّب إليه بحُسن الخُلق، وطيب المَعشَر، ولين الحديث، وبالملاطفة والممازحة والملاعبة. وبظهور كلٍّ منهما أمام الآخر بأجمل صورة، وأزكى رائحة، وأنظف بدن، وأفضل ملبس، حتى ترى الزوجة في زوجها جمال يوسف بن يعقوب عليهما السلام، وحتى يرى الزوج في زوجته جمال العَنقاء، أو كما يقال:«بنت المطر» . فلا هي تبغي بزوجها بديلًا، ولا ترى في عالم الجمال سواه، ولا هو يبغي بزوجته بديلًا، ولا يرى في عالم الجمال سواها.

قال صلى الله عليه وسلم لجابر بن عبد الله رضي الله عنه: «هلَّا بِكْرًا أو جاريةً تُلاعِبُها وتُلاعِبُك!»

(3)

.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «إني أحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله يقول:{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}

(4)

[البقرة: 228]».

ومن أعظم التقصير من كلٍّ من الزوجين في حق الآخر البرود في هذا الجانب، والبلادة، بل الجفاء في معاملة أحدهما صاحبه، مما يؤدي في النهاية إلى نفور كلٍّ منهما من الآخر.

ويكون سببًا لكثير من مشكلات البيوت؛ بل سببًا للطلاق، وتفكك كثير من

(1)

أخرجه البخاري في الأذان (676)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2489)، وأحمد 6/ 49 (24226).

(2)

أخرجه الترمذي في المناقب (3895)، والدارمي في النكاح 2/ 212 (2260) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال الترمذي:«حديث حسن غريب صحيح» . وقال الألباني في «الصحيحة» (285): «إسناده صحيح على شرط الشيخين» . وأخرجه ابن ماجه في النكاح (1977) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه البخاري في البيوع (2097)، ومسلم في الرضاع (715).

(4)

أخرجه الطبري في «جامع البيان» 4/ 120، وابن أبي حاتم في «تفسيره» 2/ 417.

ص: 42

الأسر، فليس بصحيحٍ أن يرى الرجل أهم واجب عليه النفقة، وتأمين السكن والمأكل والملبس، ونحو ذلك، وأن ترى الزوجة أهم واجب عليها طهي الطعام، وغسل ملابسه، ونحو ذلك.

بل أهم من ذلك وأوجب أن يسعى كلٌّ منهما ما استطاع إلى إعفاف الآخر.

وليس بصحيحٍ أن تأتي الزوجة إلى فراش زوجها بقميص المطبخ، وثوب الغسيل، وتريد أن تدوم العشرة بينها وبين زوجها.

وليس بصحيحٍ أن يأتي الرجل إلى فراشه بثوب ورشة الحِدادة، أو قميص رحلة التنزه، وهو يريد دوام العشرة بينه وبين زوجته.

وليس بصحيحٍ إذا أراد الزوج زوجته أن يذهب يبحث عنها في زوايا البيت، أو يقودها بسلسلة إلى فراشه، وهي تريد ديمومة العشرة معه.

وليس بصحيحٍ ألا يهتم الرجل بإشباع رغبة زوجته، ويبتعد عنها وينساها، ثم يريد ديمومة العشرة معها، هذا أمر لا يكون.

وليس بصحيحٍ أن من يتعامل بهذا قد أدى ما يجب عليه في حق زوجه، بل هو مقصر أشد التقصير، ومسؤول أمام الله عن ذلك.

ومع أن البرود في هذا الجانب، وعدم إعطائه حقه سببٌ لكثير من مشكلات البيوت، وتفكك الأسر، وربما أدى بالزوجين أو أحدهما إلى التطلع إلى الحرام، قلَّ من يسعى إلى تبصير الناس في هذا الأمر؛ ليعود للبيوت جمال الحياة الزوجية، وتعود للأسر الألفة والمحبة، وتسلم من التفكك والتشرد والتشتت، بل ليسلم الزوجان من النظر والتطلع إلى الحرام، نسأل الله السلامة.

‌همسة:

ينبغي للزوجين لكي يتعاشرا بالمعروف أن يستشعرا أنه ما من شريكين أو متعاشرين يرضى كل منهما خُلق الآخر على التمام، وقد قيل:«ما تعاشر اثنان إلا وأحدهما يتغاضى عن الآخر» .

ص: 43

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْرَك مؤمنٌ مؤمنةً، إن كرِه منها خُلقًا، رضي منها آخرَ»

(1)

.

وهكذا ينبغي للزوجة، فلا تبحث عن بعض السلبيات، وتتناسى الإيجابيات الكثيرة لدى زوجها.

قال الشاعر:

وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ

جاءتْ مَحاسِنُه بألفِ شَفيعِ

(2)

وقال الآخر:

ومن لم يغمِّض عينَه عن صديقِه

وعن بعضِ ما فيه يَمُتْ وهْو عائبُ

ومَن يتتبع جاهدًا كل عثرةٍ

يَجِدْها ولا يَسلَمْ له الدهرَ صاحبُ

(3)

وقال الآخر:

إذا كنتَ تهوى العيشَ فاقنَعْ تَوسُّطًا

فعند التناهي يَقصُرُ المُتطاوِلُ

تُوَقَّ البدورُ النقصَ وهْي أَهِلَّةٌ

ويُدرِكها النقصانُ وهْي كوامِلُ

(4)

وقال زهير:

ومَن لم يُصانعْ في أمورٍ كثيرة

يُضرَّس بأنيابٍ ويُوطَأ بمَنسِمِ

(5)

(1)

أخرجه مسلم في الرَّضاع (1469)، وأحمد 2/ 329 (8363).

(2)

انظر: «زاد المعاد» (3/ 170).

(3)

البيتان لكُثَيِّر عزَّة. انظر: «ديوانه» ص 154.

(4)

البيتان لأبي العلاء المعري. انظر: «ديوانه، سقط الزند» ص 59.

(5)

انظر «شرح ديوان زهير بن أبي سُلمى» ص 29

ص: 44

‌وقفات ست في: الصلاة:

قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]

‌الوقفة الأولى في:

ذكر الأدلة على مشروعية الصلاة، ووجوبها

الأدلة على مشروعية الصلاة ووجوبها كثيرة معلومة؛ منها ما يأتي:

1 قوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103].

2 قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56].

3 قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 31].

4 قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].

5 قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238].

6 قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43].

7 وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«بُني الإسلام على خمسٍ؛ شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام لمنِ استطاع إليه سبيلًا»

(1)

.

8 وفي حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء: «أن الله عز وجل فرض عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أُمته خمسَ صلواتٍ في اليوم والليلة»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري في الإيمان (8)، ومسلم في الإيمان (16)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5001)، والترمذي في الإيمان (2609)، وأحمد 2/ 26 (4798).

(2)

أخرجه البخاري في التوحيد (7517) ومسلم في الإيمان (162)، والنسائي في الصلاة (449)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1399).

ص: 45

9 قول جَرير رضي الله عنه: «بايعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على إقامِ الصلاةِ، وإيتاء الزكاة، والنصحِ لكل مسلمٍ»

(1)

.

10 قوله صلى الله عليه وسلم وهو يَجُودُ بنفْسِه: «الصلاةَ، الصلاةَ، وما مَلَكَتْ أيمانُكم»

(2)

.

إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة الدالة على أن الصلاة أعظم شعائر الإسلام وآكدها وأوجبها بعد الشهادتين.

11 إجماع المسلمين على مشروعيتها، ووجوبها، وأنها أحد أركان الإسلام، بل الركن الثاني بعد الشهادتين.

قال ابن هُبيرة رحمه الله

(3)

: «وأجمعوا على أن الصلاة أحد أركان الإسلام، وعلى أنها خمس صلوات في اليوم والليلة

وعلى أنه لا يسقط فرضها في حق من جرى عليه التكليف».

‌الوقفة الثانية في:

ذكر الأدلة على كفر تارك الصلاة، وأنه لا حظ له في الإسلام

الأدلة على كفر تارك الصلاة، وأنه لا حظ له ولا نصيب في الإسلام كثيرة، منها ما يأتي:

1 قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11].

(1)

أخرجه البخاري في الإيمان (57)، ومسلم في الإيمان (56)، والنسائي في البيعة (4175)، والترمذي في البر والصلة (1925).

(2)

أخرجه ابن ماجه في الجنائز (1625)، وأحمد 6/ 290، 311 (26483، 26657) من حديث أم سلمة رضي الله عنها. وصححه الألباني في «الصحيحة» (868)، و «الإرواء» (7/ 238). وأخرجه أبو داود في الأدب (5156)، وابن ماجه في الوصايا (2698)، وأحمد 1/ 78 (585) من حديث علي رضي الله عنه.

(3)

في «الإفصاح، عن معاني الصحاح» 1/ 100.

ص: 46

ومفهوم هذا أنهم إن لم يتوبوا، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فليسوا بإخواننا في الدين، بل كفار.

2 قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]؛ أي: اتركوهم لا تقاتلوهم؛ لأنهم مسلمون.

3 قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم: 31].

4 قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة 31، 32].

5 قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 48، 49].

6 قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} [مريم 59، 60].

7 قوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر 42، 43].

8 وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن بين الرجلِ وبين الشرك والكفر تركَ الصلاةِ»

(1)

.

9 وعن بُريدة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمَن تركها فقد كفر»

(2)

.

10 وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«أُمرتُ أن أُقاتلَ الناسَ حتى يشهدوا أنْ لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسولُ الله، ويُقيموا الصلاةَ، ويؤتوا الزكاةَ، فإذا فعَلوا ذلك عَصَمُوا مني دماءَهم وأموالَهم إلا بحقِّ الإسلامِ، وحسابُهم على اللهِ عز وجل»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان (82)، وأبو داود في السنة (4678)، والترمذي في الإيمان (2620)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1078)، وأحمد 3/ 389 (15183).

(2)

أخرجه النسائي في الصلاة (463)، والترمذي في الإيمان (2621)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1079)، وأحمد 5/ 346 (22937). وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح غريب» . وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» (574).

(3)

أخرجه البخاري في الإيمان (25)، ومسلم في الإيمان (22).

ص: 47

11 وقال عبد الله بن شَقيق رحمه الله: «كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يَرَونَ شيئًا من الأعمال تركُه كفرٌ إلا الصلاة»

(1)

.

12 وكتب أبو بكر رضي الله عنه لعامله: «واعلَمُوا أن أهم أموركم عندي الصلاة، فمن ضيَّعها فهو لغيرها أضيعُ

»

(2)

.

13 وكان عمر رضي الله عنه يكتب إلى الآفاق

(3)

: «إن أهم أموركم عندي الصلاة، فمَن حفِظها حفِظ دِينَه، ومَن ضيَّعها فهو لما سواها أضيعُ، ولا حظ في الإسلامِ لمن ترك الصلاةَ»

(4)

.

14 وقال الإمام أحمد رحمه الله

(5)

: «فكلُّ مُستخِفٍّ بالصلاة، مستهينٍ بها، هو مستخفٌّ بالإسلام، مستهينٌ به، وإنما حظُّهم من الإسلام على قدْرِ حظهم من الصلاة، ورغبتهم في الإسلام على قدْرِ رغبتهم في الصلاة، فاعرِفْ نفسَك يا عبدَ الله، واعلم أن حظك من الإسلام، وقدر الإسلام عندك، بقدر حظك من الصلاة، وقدرها عندك، واحذَرْ أن تلقَى الله ولا قدْر للإسلام عندك، فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك» .

15 وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله

(6)

: «ومعلوم أن ترك الصلاة كفر وضلال، وخروج عن دائرة الإسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بين الرجل والشرك تركُ الصلاة» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«العهدُ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ، فمَن تركها فقد كَفَرَ» . والآيات والأحاديث في تعظيم شأن الصلاة، ووجوب المحافظة عليها، وإقامتها كما شرع الله، والتحذير من

(1)

أخرجه الترمذي في الإيمان (2622).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 40).

(3)

انظر: «كتاب الصلاة وحكم تركها» لابن القيم ص 9، تحقيق عبد الله المنشاوي، مكتبة الإيمان، المنصورة.

(4)

أخرجه مالك في وُقُوت الصلاة (1/ 6) عن نافع مولى ابن عمر عن عمر رضي الله عنه، وعنه عبد الرزاق في «المصنف» 1/ 536 (2038)، والبيهقي (1/ 445). وانظر:«مجموع الفتاوى» (22/ 40).

(5)

في «رسالة الصلاة» مراجعة محمود محمد شاكر ص (15 - 16)، الفِقرتين (19، 20).

(6)

في كتابه «رسالتان في الصلاة» ص 75.

ص: 48

تركها؛ كثيرةٌ معلومة، فالواجب على كل مسلم أن يحافظ عليها في أوقاتها، وأن يقيمها كما شرع الله».

16 وقال الشيخ محمود محمد شاكر رحمه الله في تقديمه لـ «رسالة الصلاة» للإمام أحمد رحمه الله

(1)

: «ولْيَعلَمِ امرُؤٌ أن صلاته إذا بَطَلَتْ بطَل عملُه كله، وأنه إذا استهان بشيءٍ مما فيها، استهان الله به، وأن إقامة الصلاة على وجهها أصلٌ في إقامة الدين كله على وجهه» .

‌الوقفة الثالثة في:

بيان مكانة الصلاة في الإسلام، وفي سائر الشرائع

للصلاة مكانة عظيمة، ومنزلة كبيرة في الإسلام، وفي سائر الشرائع، فهي عماد الدين، وأعظم مستلزمات الإيمان في الشرائع كلها؛ لهذا جاء الأمر بها، والترغيب فيها، والحث على إقامتها في الشرائع السابقة على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام.

قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40].

وقال تعالى عن إسماعيل عليه السلام: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55].

وقال تعالى مخاطبًا نبيه موسى عليه السلام: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].

وقالت الملائكة عليهم السلام لمريم عليها السلام: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران: 43].

وقال عيسى عليه السلام: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31].

(1)

ص 5.

ص: 49

وشأن الصلاة في الإسلام أعظم وأعظم، ومنزلتها فيه أهم، ومكانتها فيه أكبر؛ حيث «فرضها الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم بدون واسطة، من فوق سبع سموات، ليلة أُسرِيَ به صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، وعُرِجَ به إلى السماء»

(1)

.

وهي أول فرائض الإسلام، وأعظمها، وثاني أركانه بعد الشهادتين، وهي عمود الإسلام، وأجلُّ مبانيه العِظام، وركنه الرَّكين الذي لا يقوم بدونه، وقُطب رَحاه الذي يدور عليه.

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُه الصلاةُ، وذِروة سَنامِه الجهادُ»

(2)

.

قال الإمام أحمد رحمه الله

(3)

: «ألستَ تعلم أن الفُسطاط إذا سقط عموده سقط الفسطاط، ولم ينتفع بالطُّنُب، ولا بالأوتاد؟ فكذلك الصلاة من الإسلام» .

وهي أعظم العبادات، وأجلها، وأوجبها، وآكدها، وأفضل الذكر، وجماع الخيرات، وشعار التمسك بالقرآن، والصلاح، والإصلاح. قال الله تعالى مخاطبًا لنبيه موسى عليه السلام:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].

وقال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170].

وقال صلى الله عليه وسلم: «استقيموا، ولن تُحْصُوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاةُ، ولا يحافظ على

(1)

أخرجه البخاري في التوحيد (7517)، ومسلم في الإيمان (162)، والنسائي في الصلاة (450)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، والسنة فيها (1399)، وأحمد 2/ 148 - 149 (12505) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الترمذي في الإيمان (2616)، وابن ماجه في الفتن (3973)، وأحمد 5/ 231 (22016). قال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (3284)، وفي «الإرواء» (413).

(3)

في «رسالة الصلاة» ص 16 فقرة (20).

ص: 50

الوضوء إلا مؤمنٌ»

(1)

.

وهي آخر ما يُفقد من الدين، فهي أول الإسلام وآخره، قال صلى الله عليه وسلم:«أولُ ما تَفقِدون من دِينِكُمُ الأمانةُ، وآخرُ ما تفقدون من دينكم الصلاةُ»

(2)

.

قال الإمام أحمد رحمه الله

(3)

: «فصلاتنا آخرُ دِيننا، وهي أول ما نُسأل عنه غدًا من أعمالنا، فليس بعد ذهاب الصلاةِ إسلامٌ ولا دين، فإذا صارت الصلاة آخرَ ما يذهب من الإسلام، فكل شيءٍ يذهب آخِرُه فقد ذهب جميعُه، فتمسكوا رحمكم الله بآخرِ دِينكم» .

عظَّم الله عز وجل شأنها، فأوجب التطهر لها من الحدث الأصغر والأكبر، ومن النجاسات، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا يَقبَلُ الله صلاةً بغيرِ طهورٍ»

(4)

.

وجعلها عز وجل من أجلِّ صفات المؤمنين والمتقين في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه المبين، كما قال تعالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: 92]، وقال

(1)

أخرجه ابن ماجه في الطهارة وسننها (277)، وأحمد 5/ 276 - 277 (22378) من حديث ثوبان رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في الموضع السابق (278) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «الإرواء» (412).

(2)

أخرجه الخرائطي في «مكارم الأخلاق» (171)، وابن الجارود في «المنتقى» (77)، وتمام الرازي في «الفوائد» 1/ 84 (191)، والضياء في «المختارة» (1/ 495) من حديث أنس رضي الله عنه. وحسنه الألباني في «الصحيحة» (1739).

(3)

في «رسالة الصلاة» ص 17، فقرة (21).

(4)

أخرجه مسلم في الطهارة (224)، والترمذي في الطهارة (1)، وابن ماجه في الطهارة (272) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وأخرجه أبو داود في الطهارة (59)، والنسائي في الطهارة (139) من حديث أبي المَليح، عن أبيه أسامة بن عمير الهُذَلي رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في الطهارة وسننها (273) من حديث أنس رضي الله عنه، (274) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

ص: 51

تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9]، وفي المعارج:{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الآية: 34].

وهي الصلة بين العبد وبين ربه؛ ولهذا فإنها لا تسقُط بحالٍ من الأحوال، ما دام العقل موجودًا، لا في حال الخوف، ولا في حال المرض، أو غير ذلك، قال تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239]؛ أي: فصلوا رجالًا أو ركبانًا.

وقال صلى الله عليه وسلم لعِمرانَ بنِ حُصَينٍ رضي الله عنه: «صلِّ قائمًا، فإنْ لم تستطِعْ فقاعدًا، فإنْ لم تَستطِعْ فعلى جَنْبٍ»

(1)

.

وقال أبو بكر رضي الله عنه: «واعلَموا أن لله عملًا في الليل لا يَقبَلُه في النهار، وعملًا في النهار لا يقبله في الليل»

(2)

.

قال ابن تيميَّةَ رحمه الله بعد ذكره قول أبي بكر رضي الله عنه: «وأما عمل النهار الذي لا يقبله بالليل، وعمل الليل الذي لا يقبله بالنهار، فهما صلاة الظهر والعصر، لا يحِل للإنسان أن يؤخِّرَهما إلى الليل»

(3)

.

وقال أيضًا: «وبالجملة، فليس لأحدٍ قطُّ شُغلٌ يُسقِطُ عنه فعلَ الصلاة في وقتها، بحيث يؤخر صلاةَ النهار إلى الليل، وصلاةَ الليل إلى النهار، بل لا بد من فِعلِها في الوقت»

(4)

.

وبقية أركان الإسلام بعد الشهادتينِ قد تسقط، فالزكاة تسقط عمن لا مال عنده، والصوم يسقط عمن لا يستطيعه؛ لمرضٍ، أو كِبَر، أو غير ذلك، والحج يسقط عمن لا يستطيع إليه سبيلًا؛ ولهذا كانت الصلاة عمادَ الدين، وعموده؛ لأنها تقوم مقام جميع

(1)

أخرجه البخاري في الجمعة (1117)، وأبو داود في الصلاة (952)، والنسائي في قيام الليل (1660)، والترمذي في الصلاة (372)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1223)، وأحمد 4/ 426 (19819) من حديث عمران بن حُصين رضي الله عنه.

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنَّفه» 19/ 134 (35574)، وعمر بن شبة في «تاريخ المدينة» (2/ 672)، والآجُرِّيُّ في «الشريعة» 4/ 1739 (1202). وانظر:«مجموع الفتاوى» (22/ 38 - 40).

(3)

«الفتاوى الكبرى» (2/ 17).

(4)

«الفتاوى الكبرى» (2/ 16).

ص: 52

الأركان عند سقوطها، ما عدا الشهادتين.

قال الإمام أحمد رحمه الله

(1)

: «فالصلاة خطرها عظيم، وأمرها جسيم، وبالصلاة أمَر الله تبارك وتعالى رسولَه أول ما أَوحى إليه بالنبوة، قبل كل عمل، وقبل كل فريضة، وبالصلاة أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عند خروجه من الدنيا، قال: «اللهَ، اللهَ في الصلاة، وفيما مَلَكَتْ أيمانُكم»

(2)

في آخر وصيته إياهم.

وجاء الحديث أنها آخر وصية كل نبيٍّ لأُمته، وآخر عهده إليهم عند خروجه من الدنيا، وجاء في حديث آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يَجُودُ بنفسه ويقول:«الصلاةَ، الصلاةَ، الصلاةَ»

(3)

.

فالصلاة أول فريضة فُرضت عليه، وهي آخر ما وصى به أمته، وآخر ما يذهب من الإسلام، وهي أول ما يُسأل عنه العبد من عمله يوم القيامة، وهي عمود الإسلام، وليس بعد ذهابها إسلام ولادين».

وقال ابن القيم رحمه الله في «مفتاح دار السعادة»

(4)

في فضل الصلاة، وعِظم منزلتها: «فالصلاة قد وُضعت على أكمل الوجوه وأحسنها، التي تعبَّد الخالق تبارك وتعالى عباده؛ من تضمنها للتعظيم له، بأنواع الجوارح؛ من نطق اللسان، وعمل اليدين والرجلين، والرأس، وحواسه، وسائر أجزاء البدن، كلٌّ يأخذ حظه من الحكمة في هذه العبادة العظيمة المقدار، مع أخذ الحواسِّ الباطنة بخِطامها، وقيام القلب بواجب عبوديته فيها، فهي مشتمِلة على الثناء والمدح، والتحميد، والتسبيح، والتكبير، وشهادة الحق، والقيام بين يديِ الرب مقام العبد الذليل، الخاضع المدبَّر المربوب، ثم التذلُّل له في هذا المقام، والتضرع، والتقرب إليه بكلامه

».

ثم ذكر تذلُّلَه وخشوعه له عز وجل في كل أحوال الصلاة، في ركوعه، ورفعه، وسجوده، واستوائه، وجلوسه، وتشهده، وثنائه على ربه، وسلامه على نبيه، وعلى عباده الصالحين، وصلاته على رسوله، ثم سؤاله ربه من خيره، وبره، وفضله، ثم قال: «فأيُّ

(1)

في «رسالة الصلاة» ص (22)، فقرة (24).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه قريبًا.

(4)

/ 6، الطبعة الأولى 1414 هـ، 1994 م.

ص: 53

شيءٍ بعد هذه العبادة من الحُسن؟ وأي كمال فوق هذا الكمال؟ وأي عبوديةٍ أشرف من هذه العبودية؟!».

وقال فضيلة الشيخ صالح السدلان رحمه الله

(1)

: «نعم، إن الصلاة رأس الإسلام، وعموده، وهي الصلة بين العبد العارف لعبوديته، الناصح لنفسه، وبين ربه الذي يربِّيه ويربي جميع العالمين بنعمه وفضله، وهي آية محبة العبد لربه، وتقديره لنعمه، وشكره لفضله وإحسانه، وهي الفارق الحقيقي بين المؤمن والكافر، نعم، إن من ضيع الصلاة فهو لغيرها أضيع، وانقطعت كل صلة له بالله تعالى، ورأس العبادة وأهمها الصلاة؛ فهي إحدى فرائض الدين، وأركان الشريعة، ونظام شمل الإسلام، وهي الركن الثاني الذي يحقق الركن الأول: «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله» شعوريًّا وعمليًّا، وكل الإسلام بعد ذلك يأتي أثرًا عنها، ومن أجل هذا كان خير ما يفعله المسلم، وأعظم ما يقربه إلى الله الصلاة».

‌الوقفة الرابعة في:

ذكر فوائد الصلاة، وآثارها، وثمارها، ومنافعها

رتب الله عز وجل على حفظ الصلاة وإقامتها كما شرع، فوائدَ عظيمةً، وآثارًا جليلةً، وثمارًا كبيرةً، ومنافع كثيرة معلومة، من أهمها ما يأتي:

أولًا: أنه بإقامتها بعد الشهادتين يدخل المرء في الإسلام، وتثبُت الأخوة بينه وبين المسلمين، ويُعصم دمه، وماله، وعِرضه، كما قال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وقال تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5].

وقال صلى الله عليه وسلم: «أُمرتُ أن أُقاتلَ الناسَ حتى يَشهَدوا أنْ لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاةَ، ويؤتوا الزكاةَ، فإذا فعلوا ذلك عَصَمُوا مني دماءَهُم،

ص: 54

وأموالَهم، وأعراضَهم، وحسابُهم على الله عز وجل»

(1)

.

ثانيًا: أنها السبب الأول للتوفيق والسعادة، والفلاح والنجاح في الدين والدنيا والآخرة، وهي سُلَّم الوصول إلى معالي الأمور، وسفينة النجاة، وبوابة الخير، ومفتاح التيسير.

ثالثًا: أنها من أعظم أسباب العون على أمور الدين والدنيا والآخرة، واستقامة الأحوال، قال تعالى:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153]، «وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حَزَبَهُ أمرٌ صلَّى»

(2)

.

ولما أخبر ابن عباس رضي الله عنهما وهو في سفرٍ بموت أخيه «قُثَم» استرجع، ثم تنحى عن الطريق فأناخ، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]

(3)

.

رابعًا: أن حفظها وإقامتها من أعظم أسباب التوفيق لحفظ ما سواها من أمور الدين، وتقوى الله، والهداية لكل خير، قال تعالى:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة 1، 2]، وقال تعالى:{الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان 1 - 4]، وقال تعالى:{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ} [الأنعام: 72]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 170]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} [الشورى: 38]، وقال تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ} [الأنبياء: 73].

(1)

سبق تخريجه قريبًا.

(2)

أخرجه أبو داود في الصلاة (1319)، وأحمد 5/ 388 (23299) من حديث حذيفة رضي الله عنه. وحسنه الألباني في «صحيح أبي داود» (1192).

(3)

أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» 1/ 294 (398)، والطبري في «جامع البيان» (1/ 620)، وابن عساكر في «تعزية المسلم عن أخيه» (13). قال الحافظ في «الفتح» (3/ 172):«أخرجه الطبري في «تفسيره» بإسناد حسن».

ص: 55

فمَن حفِظها، وأقامها كما شرع الله، وُفِّق لحفظ ما سواها من الأعمال الصالحة، ومَن ضيعها، فهو لما سواها أضيع، كما جاء عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما

(1)

.

خامسًا: أن في حفظها وإقامتها الحفظَ من جميع الشرور والمعاصي؛ لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، واتباع الشهوات، وارتكاب المُوبِقات، قال تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، وقال تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59].

فتضييعهم الصلواتِ أدى بهم إلى اتباع الشهوات، وارتكابِ المعاصي والسيئات.

سادسًا: أنها السبب الأول والأعظم للراحة والطمأنينة والسعادة، وانشراح الصدر، والسياج المعنوي الروحي أمام تقلبات الحياة، ونوازع النفس، تمنح العبد بإذن الله تعالى الثباتَ والتوازن، في السراء والضراء، كما قال تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج 19 - 23]، وقال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]، والصلاة أعظم ذِكر الله تعالى.

وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22].

وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125].

والصلاة أعظم شعائر الإسلام.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «وجُعلت قُرَّةُ عيني في الصلاةِ»

(2)

، وكان صلى الله عليه وسلم يقول لبلال: «أرِحْنا

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه النسائي في عشرة النساء (3939، 3940)، وأحمد 3/ 128 (12293)، والحاكم (2/ 160) من حديث أنس رضي الله عنه. قال الحاكم:«صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» . وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (3124).

ص: 56

بالصلاة»

(1)

.

ولهذا فإن ما يصيب كثيرًا من الناس من الاضطراب والتذبذب، وفقدان التوازن في الحياة؛ سببُه الأعظمُ عدمُ المحافظة على الصلاة، وعدم إقامتها كما شرع الله عز وجل.

بل ما أصاب الأمةَ كلها من الضعف والهوان، وتسلطِ الأعداء، وتفرق الكلمة، أعظمُ أسبابِه وأهمُّها ضعفُ أمر الصلاة عند كثيرٍ من المسلمين، وعدم إقامتها كما شرع الله عز وجل!

سابعًا: أنها سبب الرزق، قال تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].

ثامنًا: أنها سبب للتمكين في الأرض والنصر والقوة؛ لقوله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 40، 41].

تاسعًا: أن في حفظ الصلاة وإقامتها كما شرع الله تعالى التجارة الرابحة مع الله عز وجل، والثواب العظيم، والزيادة من فضله عز وجل في الآخرة، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29، 30]، وقال تعالى:{وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 36 - 38].

عاشرًا: أن المحافظة عليها، والخشوع فيها، سبب للفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة، والفوز بالفردوس الأعلى من الجنة، والخلود فيها، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ

(1)

أخرجه أبو داود في الأدب (4986)، وأحمد 5/ 371 (23154) عن عبد الله بن محمد ابن الحنفية، عن صهر لهم من الأنصار، وأخرجه أبو داود في الموضع السابق (4985)، وأحمد 5/ 364 (23088) عن سالم بن أبي الجعد عن رجل من أسلم. وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» (1253)، و «صحيح الجامع» (7892).

ص: 57

الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 1 - 11].

وقال تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج 19 - 35].

فذكر عز وجل في هاتين السورتين عددًا من صفات المؤمنين المصلين، بدأها بامتداحهم بخشوعهم في صلاتهم، وديمومتهم عليها، وختمها بامتداحهم بالمحافظة عليها، ووعدهم على ذلك بالفلاح، والفوز بالفردوس الأعلى من الجنة، والكرامة في الجنات.

حادي عشر: أن في إقامتها تكفيرَ السيئات، ودخول الجنات، قال تعالى:{لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة: 12].

وقال صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس، والجُمُعة إلى الجمعة، كفَّاراتٌ لما بينهنَّ، ما لم تُغْشَ الكبائر»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم لو أنَّ نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ، هل يبقى من دَرَنِه شيءٌ؟» قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: «فذلك مَثَلُ الصلواتِ الخمسِ، يمحو الله بهنَّ الخطايا»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «مثلُ الصلواتِ الخمسِ كمثل نهرٍ جارٍ غَمْرٍ على باب أحدكم، يغتسل منه كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في الطهارة (233)، والترمذي في الصلاة (214)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1086)، وأحمد 2/ 359 (8715) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (528)، ومسلم في المساجد (667)، والنسائي في الصلاة (462)، والترمذي في الأمثال (2868)، وأحمد 2/ 379 (8924) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (668)، وأحمد 2/ 426 (9505) من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 58

ثاني عشر: أنها أول ما يحاسَب عليه العبدُ من أعماله يوم القيامة، وقبولها سبب لقبول سائر الأعمال الصالحة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن أولَ ما يحاسَبُ به العبدُ يومَ القيامةِ مِن عَمَلِه صلاتُه، فإن صلَحتْ فقد أفلح وأنجح، وإن فسدتْ فقد خاب وخسِر»

(1)

.

‌الوقفة الخامسة في:

ذكر أهم الأسباب المعينة على حفظ الصلاة وإقامتها

من أهم الأسباب، والوسائل المعينة على حفظ الصلاة وإقامتها، كما شرع الله تعالى، ما يلي:

أولًا: معرفة وتذكر عظمة الصلاة، ومكانتها من الدين، وأنها عمود الإسلام، وأعظم أركانه، وثانيها بعد الشهادتين، ومعرفة فوائدها، وآثارها، وثمارها، ومنافعها الكثيرة العظيمة في الدين، والدنيا والآخرة، وتقديرها قدرها.

ثانيًا: استحضار العبد لعظمة الله عز وجل وتقديره حق قدره، كما قال عز وجل:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، وقال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91]، وقال تعالى:{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 74]، وقال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].

ثالثًا: تذكُّر نعم الله تعالى العظيمة، وآلائه الجسيمة، التي لا تُعد ولا تُحصى؛ خَلَق، ورزق، وأنعم علينا بسائر النعم، التي أعظمها وأجلُّها نعمة الإسلام والإيمان، كما قال عز وجل:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم 34، والنحل 18].

(1)

أخرجه أبو داود في استفتاح الصلاة (864)، والنسائي في الصلاة (465)، والترمذي في الصلاة (413)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1425)، وأحمد 2/ 425 (9494) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي:«حديث حسن غريب» . وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (810)، و «الصحيحة» (1358).

ص: 59

وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]، وقال تعالى مخاطبًا الإنس والجن في إحدى وثلاثين آية في سورة الرحمن:{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .

ففي تعظيم الرب عز وجل، وتذكر نعمه سبحانه، ومعرفة مكانة الصلاة من الدين، أعظم مُعِينٍ على حفظ الصلاة، والعناية بها، والخشوع فيها؛ خوفًا من الله عز وجل ورجاءً لثوابه، وشكرًا لنعمه عز وجل؛ لأن في الصلاة كمال العبودية لله عز وجل، العظيم المنعم، والعبودية أشرفُ حالٍ، وأجلُّ وصفٍ يوصف به البشر؛ ولهذا لما نزل قوله تعالى:{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74، 96، والحاقة: 52]، قال صلى الله عليه وسلم:«اجعلوها في رُكُوعِكُم» ، ولما نزل قوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، قال صلى الله عليه وسلم:«اجعلوها في سُجُودِكم»

(1)

، وذلك تعظيمًا لله عز وجل في أشرف حال، وأعظم عبادة.

رابعًا: التهيؤ للصلاة من أول وقتها، بدءًا من متابعة المؤذن، والذكر والدعاء أثناء الأذان وبعده، والوضوء، والتزين للصلاة باللباس الحسن، والطيب، والسعي إليها بسكينة ووقار، وتقديم الرجل اليمنى عند دخول المسجد، والذكر عنده.

والتفرغ التام للصلاة من مشاغل الحياة كلها؛ فهي الزاد المعنوي والروحي للإنسان، قال تعالى:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور: 37].

خامسًا: المبادرة إليها بعد سماع النداء، والمسارعة والمسابقة إلى ذلك، والمنافسة على الصف الأول، وميامن الصفوف، والحذر من التأخر، ومزاحمة الناس، وتخطي رقابهم.

سادسًا: تأمُّل الفرق الشاسع، والبون الواسع بين صلاة حفظها صاحبها، وتهيأ لها، وتفرغ لها، وبادر إليها، واستحضر عظمة الله عز وجل فيها، وعظمة الصلاة وأهميتها، وبين

(1)

أخرجه أبو داود في الصلاة (869)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (887)، وأحمد 4/ 155 (17414) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. قال النووي في «خلاصة الأحكام» (1/ 396):«رواه أبو داود، وابن ماجه بإسناد حسن» . وضعفه الألباني في «الإرواء» (334)، و «ضعيف أبي داود» (152).

ص: 60

صلاة يؤديها كثير من الناس مجرد عادة، من غير تهيؤ، ولا تفرغ لها، مع انشغال البال، وتشوش الفكر، بلا طمأنينة ولا خشوع.

‌الوقفة السادسة في:

صفة الصلاة كما صلاها النبي صلى الله عليه وسلم

-

نقل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في الأحاديث الصحيحة المتواترة صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، من التكبير إلى التسليم، من غير زيادة ولا نقصان، كما نقلوا عنه صلى الله عليه وسلم و رضي الله عنهم سائر سنته من أقواله، وأفعاله، وتقريراته، وجميع أحواله.

وعُنِيَ العلماء رحمهم الله من السلف ومن بعدهم إلى يومنا هذا بدراسة الأحاديث الواردة في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم، وتناولها- بالجمع والتحقيق، والتلخيص والتدقيق- جَمْعٌ من المحققين في كتبهم، بل أفردها جمعٌ منهم بالتأليف في كتب ورسائل؛ منهم: الإمام أحمد رحمه الله، وابن تيميَّةَ، وابن القيم، وابن باز، وابن عثيمين، والألباني، وغيرهم رحمهم الله، وجزاهم عن الإسلام والمسلمين خيرًا.

ومن أخصر هذه الكتب والرسائل، وأوجزها، وأنفعها ما كتبه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، رحمه الله، في رسالته:«كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم» ، وقد رأيتُ إتمامًا للفائدة ذِكرَ ما جاء فيها، والاكتفاء به.

قال رحمه الله: «بسم الله الرحمن الرحيم، «كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم»

(1)

:

الحمد لله وحدَه، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمدٍ وآله وصحبِه، أما بعد:

فهذه كلمات موجزة في بيان صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أردتُ تقديمها إلى كل مسلمٍ ومسلمة؛ ليجتهد كل مَن يطلع عليها في التأسي به صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «صلُّوا كما

(1)

اعتمدت في هذا النقل على نسخة طبعة الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 1411 هـ، دار الهدى للنشر والتوزيع، الرياض.

ص: 61

رأيتُمُوني أُصلِّي»؛ رواه البخاري

(1)

.

وإلى القارئ بيان ذلك:

1 يُسبِغ الوضوء، وهو أن يتوضأ كما أمره الله؛ عملًا بقوله سبحانه وتعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تُقبَل صلاةٌ بغير طهورٍ، ولا صدقةٌ من غُلول» ؛ رواه مسلم في «صحيحه» .

2 يتوجه المصلي إلى القبلة- وهي الكعبة- أينما كان بجميع بدنه قاصدًا بقلبه فعل الصلاة التي يريدها من فريضة أو نافلة، ولا ينطق بلسانه بالنية؛ لأن النطق باللسان غير مشروع، بل هو بدعة؛ لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينطق بالنية، ولا أصحابه رضي الله عنهم

(2)

، ويُسَن أن يجعل له سُترةً يصلي إليها إن كان إمامًا أو منفردًا؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

3 يكبر تكبيرة الإحرام قائلًا: «الله أكبر» ، ناظرًا ببصره إلى محل سجوده

(3)

.

4 يرفع يديه عند التكبيرة إلى حَذو مَنكِبيه، أو إلى حِيال أُذنيه

(4)

.

5 يضع يديه على صدره؛ اليمنى على كفه اليسرى والرُّسْغ والساعد؛ لورود ذلك من حديث وائلِ بن حُجْرٍ، وقَبيصة بن هُلْب الطائي عن أبيه رضي الله عنهما

(5)

.

6 يُسن أن يقرأ دعاء الاستفتاح وهو: «اللهمَّ باعِدْ بيني وبين خطايايَ كما باعدتَ بين المشرقِ والمغربِ، اللهم نَقِّني من خطايايَ كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ من

(1)

أخرجه البخاري في الأذان (631)، والدارمي 1/ 318 (1253) من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.

(2)

انظر: «زاد المعاد» 1/ 201

(3)

انظر: «رسالة الصلاة» للإمام أحمد ص 31، قال ابن القيم في:«زاد المعاد» 1/ 265: «وكان صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة طأطأ رأسه» .

(4)

ممدودة الأصابع، مستقبلًا بها القبلة. انظر:«زاد المعاد» 1/ 202.

(5)

ولم يرد في الأحاديث، ولا في الآثار عن السلف رضي الله عنهم ذِكر حال القدمينِ أثناء القيام قبل الركوع ولا بعده، ولا حال الركوع، وهل يُفرج بينهما أو يضمهما، وحيث لم يرد في ذلك شيء، فينبغي أن يقف المصلي معتادًا، فلا يضم قدميه، ولا يفرج بينهما، كما يفعل بعض الناس. والدليل على هذا عدم الدليل.

ص: 62

الدَّنَسِ، اللهم اغسِلني من خطايايَ بالماء والثلج والبَرَد»؛ متفَقٌ عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن شاء قال بدلًا من ذلك:«سبحانك اللهم وبحمدِك، وتبارك اسمُك، وتعالى جَدُّك، ولا إلهَ غيرُك» ؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن أتى بغيرهما من الاستفتاحات الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا بأس، والأفضل أن يفعل هذا تارَةً وهذا تارَةً؛ لأن ذلك أكملُ في الاتباع، ثم يقول:«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، «بسم الله الرحمن الرحيم» ، ويقرأ سورة الفاتحة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«لا صلاةَ لمن لم يقرأْ بفاتحة الكتاب» ، ويقول بعدها:«آمين» جهرًا في الصلاة الجهرية، وسرًّا في السرية، ثم يقرأ ما تيسرَ من القرآن، والأفضل أن تكون القراءة في الظهر والعصر والعشاء من أوساط المفصَّلِ، وفي الفجر من طِوالِه، وفي المغرب من قِصارِه، وفي بعض الأحيان من طِواله أو أوساطه- أعني في المغرب- كما ثبَت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويُشرَعُ أن تكون العصر أخفَّ من الظهر.

7 يركع مكبرًا رافعًا يديه إلى حذو منكبيه أو أذنيه، جاعلًا رأسه حِيال ظهره، واضعًا يديه على ركبتيه، مفرِّقًا أصابعه

(1)

، ويطمئن في ركوعه ويقول:«سبحان ربي العظيم» ، والأفضل أن يكررها ثلاثًا أو أكثر، ويُستحب أن يقول مع ذلك:«سبحانك اللهم ربَّنا وبحمْدِكَ، اللهمَّ اغفِرْ لي» .

8 يرفع رأسه من الركوع، رافعًا يديه إلى حذو منكبيه أو أذنيه، قائلًا:«سمِع اللهُ لمَن حمِدَه» ، إن كان إمامًا أو منفردًا يقول بعد رفعه:«ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، مِلءَ السماواتِ وملءَ الأرضِ، وملءَ ما بينهما، وملءَ ما شِئتَ من شيءٍ بعدُ» ، وإن زاد بعد ذلك:«أهلَ الثناءِ والمجدِ، أحقُّ ما قال العبدُ، وكلُّنا لك عبدٌ، اللهمَّ لا مانعَ لِمَا أعطيتَ، ولا مُعطِيَ لِما مَنعتَ، ولا ينفَعُ ذا الجَدِّ منك الجدُّ» فهو حسن؛ لأن

ص: 63

ذلك قد ثبَت عن النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث الصحيحة، أما إن كان مأمومًا فإنه يقول عند الرفع:«ربَّنا ولك الحمد» إلى آخِرِ ما تقدم، ويُستحب أن يضع كل منهم يديه على صدره، كما فعل في قيامه قبل الركوع؛ لثبوت ما يدل على ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث وائل بن حُجر وسهل بن سعد رضي الله عنهما.

9 يسجد مكبرًا واضعًا ركبتيه قبل يديه إذا تيسر ذلك

(1)

، فإن شق عليه قدم يديه قبل ركبتيه، مستقبلًا بأصابع رجليه ويديه القبلة، ضامًّا أصابع يديه، ويكون على أعضائه السبع: الجبهة مع الأنف، واليدين، والركبتين، وبطون أصابع الرجلين، ويقول:«سبحان ربيَ الأعلى» ، ويكرر ذلك ثلاثًا أو أكثر، ويُستحب أن يقول مع ذلك:«سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي» ، ويكثِر من الدعاء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أما الركوع فعظِّمُوا فيه الربَّ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم»

(2)

، وقولِه صلى الله عليه وسلم:«أقربُ ما يكون العبد من ربه وهو ساجدٌ، فأكثروا الدعاءَ» ؛ رواهما مسلم في «صحيحه»

(3)

، ويسأل ربَّه له ولغيره من المسلمين من خير الدنيا والآخرة، سواء كانت الصلاة فرضًا أو نفلًا، ويجافي عَضُدَيه عن جنبيه وبطنه عن فَخِذيه، وفَخِذَيه عن ساقيه، ويرفع ذراعيه عن الأرض؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«اعتدِلوا في السجود، ولا يَبسُطْ أحدكم ذراعيه انبساطَ الكلبِ» ؛ متفق عليه

(4)

.

(1)

قال ابن القيم رحمه الله: «وكان صلى الله عليه وسلم يضع ركبتيه قبل يديه، ثم يديه بعدهما، ثم جبهته وأنفه، هذا هو الصحيح» . ثم ذكر الأحاديث، والخلاف في ذلك. انظر:«زاد المعاد» 1/ 223 - 232. وانظر: «رسالة الصلاة» للإمام أحمد ص 30، وهكذا اختار فضيلة الشيخ محمد بن صالح العيثمين رحمه الله في رسالته في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يضع ركبتيه قبل يديه، وقد اختار فضيلة الشيخ محمد بن ناصر الدين الألباني رحمه الله في رسالته في «صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم» أنه يضع يديه قبل ركبتيه. فقرة (88).

(2)

أخرجه مسلم في الصلاة (479)، وأبو داود في الصلاة (876)، والنسائي في التطبيق (1045)، وأحمد 1/ 219 (1900)، والدارمي 1/ 349 (1326) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه مسلم في الصلاة (482)، وأبو داود في الصلاة (875)، والنسائي في التطبيق (1137)، وأحمد 2/ 241 (9461) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (898)، وأحمد 1/ 315 (2895) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الألباني في «صفة صلاة النبي» ص (153):«أخرجه ابن ماجه بسند جيد» .

قال ابن القيم: «وكان إذا سجد مكَّن جبهته وأنفه من الأرض، ونحَّى يديه عن جنبيه، وجافى بهما حتى يُرى بياض إِبْطيه. وكان يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه. وكان يعتدل في سجوده، ويستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلةَ. وكان يبسط كفيه وأصابعه، ولا يُفرج بينها، ولا يقبِضها» . «زاد المعاد» 1/ 232. وانظر: «رسالة الصلاة» للإمام أحمد ص 31.

ص: 64

10 يرفع رأسه مكبرًا، ويفرش قدمه اليسرى ويجلس عليها، وينصِب رجله اليمنى ويضع يديه على فخِذيه وركبتيه

(1)

، ويقول:«ربِّ اغفر لي، ربِّ اغفر لي، ربِّ اغفر لي، اللهم اغفر لي وارحمني وارزقني وعافني واهدني واجبُرني»

(2)

، ويطمئن في هذا الجلوس حتى يرجع كل فَقَار إلى مكانه، كاعتداله بعد الركوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل اعتداله بعد الركوع، وبين السجدتين.

11 يسجد السجدة الثانية مكبرًا، ويفعل فيها كما فعل في السجدة الأولى.

12 يرفع رأسه مكبرًا، ويجلس جلسة خفيفة مثل جلوسه بين السجدتين، وتسمى جلسة الاستراحة، وهي مستحبة في أصح قولي العلماء، وإن تركها فلا حرج، وليس فيها ذكر ولا دعاء

(3)

، ثم ينهض قائمًا إلى الركعة الثانية معتمدًا على ركبتيه

(4)

إن تيسر ذلك، وإن شق عليه اعتمد على الأرض بيديه، ثم يقرأ الفاتحة وما تيسر له من القرآن

(1)

قال ابن القيم: «ثم كان صلى الله عليه وسلم يرفع رأسه مكبرًا، غير رافع يديه، ويرفع من السجود رأسه قبل يديه، ثم يجلس مفترشًا، يفرش رجله اليسرى ويجلس عليها، وينصِب اليمنى، وكان يضع يديه على فخِذيه، ويجعل مِرفَقه على فخِذه، وطرف يده على ركبته، ويقبض ثِنتينِ من أصابعه، ويحلِّق حلْقة، ثم يرفع أصبعه يدعو بها ويحركها» . «زاد المعاد» 1/ 238. وبنحوٍ من هذا قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين في رسالته في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم.

(2)

أخرجه البخاري في الأذان (822)، ومسلم في الصلاة (493)، والنسائي في التطبيق (1110) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

اختلف العلماء في جلسة الاستراحة؛ فمنهم من يرى أنها مستحبة، ومنهم من يرى أنها تُفعل عند الحاجة، وغير ذلك. انظر:«زاد المعاد» 1/ 240 - 242.

(4)

قال العثيمين: «ثم ينهض للركعة الثانية معتمدًا على ركبتيه بدون جلوس» ؛ أي: بدون جلسة استراحة. وقال الألباني: «ثم ينهض معتمدًا على الأرض بيديه المقبوضتين، كما يقبضهما العاجن إلى الركعة الثانية» فِقرة (125).

ص: 65

بعد الفاتحة، كما سبق في الركعة الأولى، ثم يفعل كما فعل في الركعة الأولى.

ولا يجوز للمأموم مسابقة إمامه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر أمته من ذلك، وتُكره موافقته للإمام، والسنة له أن تكون أفعاله بعد إمامه من دون تراخٍ، وبعد انقطاع صوته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا» الحديث متفق عليه

(1)

.

13 إذا كانت الصلاة ثنائيةً، أي: ركعتين؛ كصلاة الفجر، والجمعة، والعيد، جلس بعد رفعه من السجدة الثانية ناصبًا رجله اليمنى، مفترشًا رجله اليسرى، واضعًا يده اليمنى على فخِذه اليمنى، قابضًا أصابعه كلها إلا السبابة فيشير بها إلى التوحيد عند ذكر الله سبحانه، وعند الدعاء، وإن قبض الخنصر والبنصر من يده اليمنى وحلق إبهامها مع الوسطى وأشار بالسبابة فحسن؛ لثبوت الصفتين عن النبي صلى الله عليه وسلم. والأفضل أن يفعل هذا تارَةً وهذا تارة»

(2)

، ويضع يده اليسرى على فخذه اليسرى وركبته، ثم يقرأ التشهد في هذا الجلوس، وهو:«التحياتُ للهِ والصلواتُ والطيباتُ، السلامُ عليك أيها النبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، السلامُ علينا وعلى عبادِ اللهِ الصالحين، أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهَدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه» ، ثم يقول: «اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ،

(1)

أخرجه البخاري في الأذان (722)، ومسلم في الصلاة (417)، وأبو داود في الصلاة (603)، والنسائي في الافتتاح (921)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (846، 1239) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

قال ابن القيم: «فإذا جلس للتشهد وضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، ووضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وأشار بأصبعه السبابة، وكان لا ينصبها نصبًا، ولا ينيمها، بل يحنيها شيئًا، ويحركها شيئًا

وكان يقبض أصبعين وهما الخنصر والبنصر، ويحلِّق حلْقة، وهي الوسطى مع الإبهام، ويرفع السبابة يدعو بها، ويرمي ببصره إليها، ويبسط الكف اليسرى على الفخِذ اليسرى ويتحامل عليها

وكان صلى الله عليه وسلم يخفف هذا التشهد جدًّا».

وقال أيضًا: «وكان يبسط ذراعه على فخذه، ولا يجافيها، فيكون حد مرفقه عند آخر فخذه، وأما اليسرى فممدودة الأصابع على الفخذ اليسرى، وكان يستقبل بأصابعه القبلة في رفع يديه في ركوعه، وفي سجوده، وفي تشهده، ويستقبل أيضًا بأصابع رجليه القبلة في سجوده» . «زاد المعاد» 1/ 242، 245، 255 - 256، 265. وانظر:«رسالة الصلاة» للإمام أحمد (ص 30 الفقرة 33) وما بعدها.

ص: 66

كما صليتَ على إبراهيمَ وآلِ إبراهيمَ، إنك حميدٌ مجيدٌ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركت على إبراهيمَ وآلِ إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ»، ويستعيذُ باللهِ من أربعٍ، فيقول:«اللهمَّ إني أعوذُ بك من عذابِ جَهنمَ، ومن عذابِ القبرِ، ومن فتنةِ المحيا والممات، ومن فتنةِ المَسيحِ الدجال» ، ثم يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة، وإذا دعا لوالديه أو غيرهما من المسلمين فلا بأس-سواء كانت الصلاة فريضةً أو نافلةً- لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود لمَّا علمه التشهدَ:«ثم لْيَتَخَيَّرْ من الدعاء أعجَبَهُ إليه فيدعو»

(1)

، وفي لفظٍ آخر:«ثم لْيَخْتَرْ من المسألةِ ما شاء»

(2)

، وهذا يعم جميع ما ينفع العبد في الدنيا والآخرة، ثم يسلم على يمينه وشماله، قائلًا:«السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله» .

14 إن كانت الصلاة ثلاثية؛ كالمغرب، أو رباعية؛ كالظهر والعصر والعشاء، قرأ التشهد المذكور آنفًا، مع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نهض قائمًا معتمدًا على ركبتيه، رافعًا يديه إلى حذو منكبيه، قائلًا:«الله أكبر»

(3)

، ويضعهما- أي يديه- على صدره كما تقدم، ويقرأ الفاتحة فقط، وإن قرأ في الثالثة والرابعة من الظهر زيادة عن الفاتحة في بعض الأحيان فلا بأس؛ لثبوت ما يدل على ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيدٍ رضي الله عنه

(4)

، ثم يتشهد بعد الثالثة من المغرب، وبعد الرابعة من الظهر والعصر والعشاء، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويتعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، ويكثِر من الدعاء. ومن الدعاء المشروع في

(1)

أخرجه البخاري في الأذان (735)، والنسائي في السهو (1298).

(2)

أخرجه مسلم في الصلاة (402).

(3)

انظر: «زاد المعاد» 1/ 245. قال الألباني: «ولكنه قبل أن ينهض- يعني للركعة الرابعة- يستوي قاعدًا على رجليه معتدلًا حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يقوم معتمدًا على يديه، كما فعل في قيامه للركعة الثانية» فقرة (153).

(4)

أخرجه مسلم في الصلاة (452)، والنسائي في الصلاة (476)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، والسنة فيها (828).

قال ابن القيم: «فهديه الراتب صلى الله عليه وسلم إطالة الركعتين الأوليين من الرباعية على الأخريين، وإطالة الأولى من الأوليين على الثانية» . «زاد المعاد» 1/ 250 - 251.

ص: 67

هذا الموضع وغيره: «ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقنا عذاب النار» ؛ لما ثَبَتَ عن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «ربنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وقِنا عذابَ النار»

(1)

، كما تقدم ذلك في الصلاة الثنائية، لكن يكون في هذا الجلوس متورِّكًا، واضعًا رجلَه اليسرى تحت رجله اليمنى، ومِقعَدَتَه على الأرض، ناصبًا رجله اليمنى؛ لحديث أبي حُميد في ذلك

(2)

، ثم يسلم عن يمينه وشماله، قائلًا:«السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله» .

ويستغفر الله ثلاثًا، ويقول:«اللهم أنت السلامُ ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلالِ والإكرام، لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ له، له المُلكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير، اللهم لا مانعَ لِمَا أعطيتَ، ولا مُعطِيَ لِما مَنعتَ، ولا ينفعُ ذا الجَدِّ منك الجد، لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، لا إلهَ إلا الله، ولا نعبُدُ إلا إياه، له النعمةُ وله الفضل، وله الثناءُ الحَسَن، لا إلهَ إلا الله مخلصين له الدينَ ولو كرِه الكافرون» ، ويسبح الله ثلاثًا وثلاثين، ويحمده مثل ذلك، ويكبره مثل ذلك، ويقول تمام المئة:«لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قدير» ، ويقرأ آية الكرسي، و «قل هو الله أحد» ، و «قل أعوذ برب الفلق» ، و «قل أعوذ برب الناس» بعد كل صلاة، ويُستحب تكرار هذه السور الثلاث ثلاث مرات بعد صلاة الفجر وصلاة المغرب؛ لورود الحديث الصحيح بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما يُستحب أن يزيد بعد الذكر المتقدم بعد صلاة الفجر، وصلاة المغرب، قول:«لا إله إلا الله، وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ، وله الحمدُ، يُحيي ويُميت، وهو على كلِّ شيءٍ قدير» عشرَ مراتٍ؛ لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان إمامًا انصرف إلى الناس وقابلهم بوجهه بعد استغفاره ثلاثًا، وبعد قوله:

(1)

أخرجه البخاري في التفسير (4522)، وفي الدعوات (6389)، ومسلم في الذكر والدعاء (2690)، وأبو داود في الصلاة (1519)، وأحمد 3/ 101 (11981) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الأذان (828)، وأبو داود في استفتاح الصلاة (730)، والنسائي في السهو (1262)، والترمذي في الصلاة (304)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1061). وانظر:«زاد المعاد» (1/ 252).

ص: 68

«اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» ، ثم يأتي بالأذكار المذكورة، كما دل على ذلك أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث عائشة رضي الله عنها في «صحيح مسلم» . وكل هذه الأذكار سنة وليست فريضة.

ويُستحب لكل مسلم ومسلمة أن يصليَ قبل صلاة الظهر أربعَ ركعات، وبعدها ركعتين، وبعد صلاة المغرب ركعتين، وبعد صلاة العشاء ركعتين، وقبل صلاة الفجر ركعتين، الجميع اثنتا عشْرة ركعة، وهذه الركَعات تسمى الرواتب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحافظ عليها في الحضر، أما في السفر فكان يتركها إلا سنةَ الفجر والوتر، فإنه كان عليه الصلاة والسلام يحافظ عليهما حضرًا وسفرًا، ولنا فيه أُسوة حسنة؛ لقول الله سبحانه:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، وقوله عليه الصلاة والسلام:«صلُّوا كما رأيتُمُوني أصلي» ؛ رواه البخاري

(1)

.

والأفضل أن تُصلَّى هذه الرواتب والوتر في البيت، فإن صلاها في المسجد فلا بأس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أفضلُ صلاةِ المرءِ في بيتِه إلا الصلاةَ المكتوبةَ» ؛ متفَق على صحته، والمحافظةُ على هذه الركعات من أسباب دخول الجنة؛ لما ثبت في «صحيح مسلم» ، عن أم حَبيبة رضي الله تعالى عنها، أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«ما من عبدٍ مسلمٍ يصلى لله كلَّ يومٍ ثِنتي عشْرةَ ركعةً تطوعًا غيرَ فريضة، إلا بنى الله له بيتًا في الجنة» ، وقد فسرها الإمام الترمذي في روايته لهذا الحديث بما ذكرنا، وإن صلى أربع ركعات قبل العصر، واثنتين قبل صلاة المغرب، واثنتين قبل صلاة العشاء، فحسن؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«رحِم الله امرأً صلى أربعًا قبل العصر» ؛ رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسَّنه، وابن خُزيمة وصححه، وإسناده صحيح، ولقوله عليه الصلاة والسلام:«بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة» ثم قال في الثالثة: «لِمَن شاء» ؛ رواه البخاري. والله ولي التوفيق. قاله ممليه الفقير إلى ربه عبد العزيز بن عبد الله بن باز، سامحه الله، وغفر له، ولوالديه وللمسلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وآله وأصحابه أجمعين، وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين»

(2)

.

(1)

سبق تخريجه قريبًا.

(2)

«كيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم» لابن باز رحمه الله، وانظر:«صفة الصلاة» للإمام أحمد رحمه الله.

ص: 69

وأخيرًا:

فإنني أُتوج هذه الوقفات في الصلاة بكيفية صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لسماحة العلامة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله؛ وذلك لما لسماحته رحمه الله من جهود عظيمة مباركة، ومن أعمال جليلة في خدمة الإسلام والمسلمين؛ في التعليم، والدعوة، والنصح، والفتوى، والخير، والبذل.

ولما لسماحته من أثر عظيم في المسلمين في شتى بقاع المعمورة، فقلَّ أن تجد مسلمًا إلا وقد أفاد من علمه، ودعوته، ونصحه، وفتواه، وخيره، وبذله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وأعتبر هذا- مع ما أفدته منه، ومن غيره من أهل العلم- من الوفاء لهم، ومن نشر علمهم، وأسأل الله أن يجعل ذلك في موازين حسناتهم، وأن يُعظِمَ لهم الأجر والمثوبة.

لقد تأثرت في حياتي بسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله أكثر من غيره، وأحببته في الله عز وجل أكثر من غيره، مما أرجو به أن أكون معه، كما قال صلى الله عليه وسلم:«المرءُ مع مَن أحب»

(1)

مع قلة البضاعة، ولكن كما قال الشافعي رحمه الله

(2)

:

أُحِبُّ الصالحين ولستُ منهم

لعلي أن أنالَ بهم شفاعَهْ

وذلك لما حباه الله تعالى من النصح لله، ولدينه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، ومن العلم والحكمة، والكرم، والتواضع، وحسن الخُلق، والورع، والزهد، والتبشير، والإحسان والعطف على المساكين، وحب الخير للمسلمين.

ولما حباه الله من ذلك الصوت الندي الشجي، المميز الجميل، الذي يفيض بالعلم والحكمة، والصدق، والنصح، ومحبة الخير للناس، والغيرة على دين الله، الذي يأخذ

(1)

أخرجه البخاري في الأدب (6168، 6169)، ومسلم في البر والصلة (2640)، وأحمد 1/ 392 (3718) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود في النوم (5127)، والترمذي في الزهد (2385، 2386)، وأحمد 3/ 104 (12013) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

سبق.

ص: 70

بلُب السامع ومشاعره، فلا يملك إلا أن يُنصِت له، ويلهَج له بالدعاء بالمغفرة والرحمة.

رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

ص: 71

‌وقفتان في: فضل العفو والصفح، والحِلم وكظم الغيظ

قال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]

‌الوقفة الأولى في:

فضل العفو والصفح

العفو: التجاوز، وترك المؤاخذة على الذنب، وأعلى درجاته «الصفح» ، وهو الإعراض عما حصل كليةً، وترك اللوم والتثريب.

والعفو من أفضل الصفات وأعظمها وأجلها وأكملها، وصف الله عز وجل به نفسه في آيات كثيرة، وقرنه في عدد منها بالمغفرة؛ ليبين أن عفوه عز وجل مقرون بالستر، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60، والمجادلة: 2].

كما قرنه عز وجل بالقدرة؛ ليبين أن عفوه عز وجل مقرون بالقدرة التامة على العقوبة، لا عن عجز، فقال تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء: 149].

وقرنه عز وجل بالتوبة؛ ليبين أن عفوه عز وجل مقرون بالتوبة على من تاب من عباده، فقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25].

وبيَّن عز وجل عفوه سبحانه عن كثير من كسب العباد مما يستحقون عليه العقوبة، فقال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، وقال تعالى:{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34].

وأمر عز وجل به رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

وأمر عز وجل به المؤمنين، فقال تعالى:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109].

ص: 72

وقرنه عز وجل بصفات المسارعين إلى مغفرته عز وجل وجنته، المتقين المنفقين، الكاظمين الغيظ، المحسنين، الذين يحبهم الله عز وجل، فقال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134].

وقرنه عز وجل بالإصلاح، فقال تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].

وجعله عز وجل من الصبر الذي هو شطر الإيمان، فقال تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].

وهو من صفات المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3]؛ أي: عفا وتغافل عن بعضٍ صلواتُ الله وسلامُه عليه.

ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اغفِرْ لقومي فإنهم لا يعلمون»

(1)

، وفي المغفرة عفو وسَتر.

ولما سأله مَلَكُ الجبال أن يُطبِق عليهم الأَخْشَبَيْنِ، قال:«بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم مَن يَعبُدُ الله وحدَه، لا يشرك به شيئًا»

(2)

ولما دخل مكة فاتحًا عفا صلى الله عليه وسلم عن قريش.

وعفا عن غَوْرَث بن الحارث الذي استلَّ سيفه من الشجرة وأراد قتله

(3)

.

ونزل عليه صلى الله عليه وسلم ثمانون رجلًا من التنعيم يريدون قتله، فعفا عنهم لَما قَدَرَ عليهم

(4)

.

وقد تكفل عز وجل بأجر من عفا وأصلح، فقال تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ}

(1)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3477)، وفي استتابة المرتدين (6929)، ومسلم في الجهاد والسير (1792)، وابن ماجه في الفتن (4025)، وأحمد 1/ 380 (3611) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في بدء الخلق (3231)، ومسلم في الجهاد والسير (1795) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2910)، وفي المغازي (4135، 4136، 4139)، ومسلم في صلاة المسافرين (843)، وأبو داود في الطهارة (198)، وأحمد 3/ 364 (14928) من حديث جابر رضي الله عنه.

(4)

أخرجه مسلم في الجهاد والسير (1808)، وأحمد 3/ 122 (12227) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 73

[الشورى: 40]، فلا أحد يقدِّر قدْر أجره إلا مَن تكفل به، وهو الله عز وجل، كما قال تعالى في الصوم:«الصوم لي وأنا أَجْزي به»

(1)

.

وامتدح عز وجل من صبر وغفر بأنه من أهل عزائم الأمور، فقال تعالى:{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43]؛ وذلك لأنه جمع بين الصبر والعفو والستر.

ورغَّب عز وجل بالعفو، وبيَّن أنه أقرب للتقوى، فقال عز وجل:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237].

ورتَّب عز وجل على العفو والصفح المغفرة والرحمة، فقال تعالى:{وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22]، وقال تعالى:{وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14].

ورغَّب عز وجل بدفع السيئة بالحسنة مبينًا أثرها العظيم في جعل العدو صديقًا، وأنه لا يلقاها إلا أهل الصبر والحظ العظيم، فقال تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما نَقَصَ مالٌ من صدقة، وما زاد اللهُ عبدًا بعفوٍ إلا عِزًّا، وما تواضع أحدٌ لله إلا رَفَعَه الله»

(2)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يومُ القيامة نادى منادٍ يقول: أين العافون عن الناس؟ هلُمُّوا إلى ربكم وخُذوا أجورَكم، وحقٌّ على كل امرئٍ عفا أن يدخلَ

(1)

أخرجه مالك في الصيام (1/ 310)، والبخاري في الصوم (1904)، وفي التوحيد (7492)، ومسلم في الصيام (1151)، والنسائي في الصيام (2216 - 2218)، والترمذي في الصوم (764)، وابن ماجه في الصيام (1638)، والدارمي 2/ 40 (1770)، وأحمد 2/ 257 (7494) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه النسائي في الموضع السابق (2211) من حديث علي رضي الله عنه. وفي (2212) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وفي (2213) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم في البر والصلة (2588)، والترمذي في البر والصلة (2029)، وأحمد 2/ 235 (7206)، والدارمي 1/ 486 (1676) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 74

الجنة»

(1)

.

وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسولَ الله، أخبِرني بفواضل الأعمال، قال:«يا عقبةُ، صِلْ مَن قطعك، وأعطِ مَن حرَمك، وأعرِضْ عمن ظَلَمك»

(2)

.

وفي الأثر: «من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه»

(3)

.

قال الشاعر:

لما عفوتُ ولم أحقِدْ على أحدٍ

أرحتُ نفسيَ من همِّ العَداواتِ

(4)

فيا سعادة من وفقه الله تعالى للعفو والصفح والتسامح، فقضى حياته سليم القلب، منشرح الصدر، حسن المعشر، مرتاح البال.

ويا بشارته في الآخرة بما تكفل الله عز وجل به من الفوز العظيم، والثواب الجزيل، والأجر الكريم لمن عفا بقوله تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].

فليجعل كلٌّ منا العفو والصفح والتسامح ديدنه وشعاره، وليحذر كل الحذر من نزغات الشيطان، ومن النفس الأمَّارة بالسوء، ومن الحرج، وضيق الخلق، ومن فظاظة القلب وقساوته؛ فإن أبعد الناس من الله عز وجل القلب القاسي.

وليسأل كلٌّ منا ربه على الدوام أن يجازيَه عما له من حقوق على إخوانه المسلمين من

(1)

أخرجه ابن شاهين في «الترغيب في فضائل الأعمال» (519)، وأبو الشيخ في «الثواب» كما في «الجامع الكبير» للسيوطي (2701)، و «كنز العمال» للمتقي الهندي (7015).

(2)

أخرجه أحمد 4/ 148، 158 (17334، 17452)، والطبراني في «الكبير» 17/ 269 - 270 (739، 740). قال الهيثمي في «المجمع» (8/ 188): «رواه أحمد والطبراني، وأحد إسنادي أحمد رجاله ثقات» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (891).

(3)

أخرجه نعيم بن حماد في روايته «الزهد والرقائق» لابن المبارك (2/ 10) عن أُبَيٍّ رضي الله عنه بلفظ: «ما ترك عبد شيئًا لا يتركه إلا لله إلا آتاه الله مما هو خير منه من حيث لا يحتسب» . قال العجلوني في «كشف الخفاء» (2428): «قال في «الدرر» : «رواه أحمد [5/ 78، 79 (20739، 20746)] عن بعض أصحابه مرفوعًا بلفظ: «إنك لا تدع شيئًا اتقاء لله؛ إلا أعطاك خيرًا منه» .

(4)

البيت للشافعي. انظر: «روض الأخيار، المنتخب من ربيع الأبرار» ص (177).

ص: 75

قريب أو بعيد، وأن يعفو عنهم، كما يسأل ربه أن يجازيَ مِن فضلِه عز وجل مَن لهم عليه حقوقٌ، وأن يعفو عنه ويتجاوز، ففضله عز وجل واسع، وعفوه عظيم.

وشتان شتان بين من يَرِد غدًا على أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، ذي الفضل العظيم، فيوفيه أجره بغير حساب، وبين من يرد على الناس الضعفاء الفقراء المساكين من أقاربه وجيرانه وإخوانه المسلمين؛ ليقتص منهم، وربما اقتص من أقرب الأقربين إليه؛ من أمه وأبيه، وزوجه وولده وغيرهم، بسبب حرجه وشح نفسه.

فارفع رأسك أخي الكريم وأختي الكريمة، بطلب معالي الأمور، واجعل العفو والصفح والتسامح ديدنك؛ ابتغاء ما عند الله تعالى، تُوفَّق في دينك وتسعد في دنياك، وتجني بذلك عند لقاء الله عظيم الأجور.

على قدْرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ

وتأتي على قدْرِ الكرامِ المكارمُ

وتكبُر في عينِ الصغيرِ صِغارُها

وتصغُر في عين العظيم العظائمُ

(1)

‌الوقفة الثانية في:

فضل الحلم، وكظم الغيظ

الحِلم

(2)

؛ بكسر الحاء: ترك المعاجلة في العقوبة، والرفق والتثبت والأناة.

والغيظ: الغضب الشديد، وكظمه: حبسه، وهو من أعظم آثار الحلم.

والحلم من أفضل الصفات وأعظمها وأجلها وأكملها، وقد سمى الله عز وجل نفسه بـ (الحليم) ووصف نفسه بالحلم في آيات كثيرة من كتابه الكريم.

قال تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225]، وقال تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 235]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}

(1)

البيتان للمتنبي، انظر:«ديوانه» (2/ 272).

(2)

انظر: «لسان العرب» مادة «حلم» .

ص: 76

[البقرة: 263]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران: 155]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة: 101]، وقال تعالى:{إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44، وفاطر: 41]، وقال تعالى:{وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج: 56]، وقال تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} [الأحزاب: 51]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} [التغابن: 17].

فالحلم من أجل صفات الله عز وجل وأعظمها، و (الحليم) من أعظم أسمائه عز وجل؛ أي: الذي لا يعاجل من عصاه بالعقوبة.

قال ابن القيم

(1)

:

وهو الحليمُ فلا يُعاجِلُ عَبدَهُ

بعقوبةٍ؛ ليتوبَ مِن عِصيانِ

وقد وصَف عز وجل بالحلم خليلَه إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114]، وقال تعالى:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75].

وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أشد الناس حلمًا، كما تقدم في الكلام على صفة العفو.

فلقد لقِي من قومه من التكذيب والأذى ما لم يَلقَه نبي قبله من الأنبياء، وكان مع ذلك صلوات الله وسلامه عليه يقول:«اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون» .

وأبى على مَلَك الجبال أن يُطبِق على أهل مكة الأخشَبَين، وقال:«بل أرجو أن يُخرِجَ الله من أصلابهم مَن يعبد الله وحدَه، ولا يشرك به شيئًا» ، ولما دخل مكة فاتحًا عفا عن أهلها.

فالحلم وكظم الغيظ من أنبل وأجلِّ وأفضل الصفات، قال تعالى في مدح المتقين:{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]؛ أي: الذين يحبسون الغيظ، وهو الغضب، كما قال تعالى في وصف المؤمنين المتوكلين:{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37].

وقال صلى الله عليه وسلم لأَشَجِّ عبدِ القيسِ: «إن فيك خَصلتينِ يحبهما الله: الحِلم والأناة»

(2)

؛ والأناة:

(1)

«النونية» (ص 148).

(2)

أخرجه مسلم في الإيمان (17)، والترمذي في البر والصلة (2011) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم في الموضع السابق (18) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

ص: 77

التأني في الأمور، والتثبت والرفق والتؤدة.

قال الشاعر:

الرفق يُمنٌ والأناةُ سعادةٌ

(1)

وقال رجل: يا رسول الله، أوصني، قال:«لا تغضَبْ» ، قال: أوصني، قال:«لا تغضب» ، قال: أوصني، قال:«لا تغضب»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «الغضب جمرةٌ من جمْر جَهنمَ يُوقِدُها الشيطانُ في قلبِ ابنِ آدمَ»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيقٌ يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يُعطي على ما سواه»

(4)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزَع من شيءٍ إلا شانه»

(5)

.

وقد قيل: «في التأني السلامَة، وفي العجلة الندامة»

(6)

.

والحلم إنما يُمدح ويُستحق في مكانه المناسب؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصُّرَعَة، إنما الشديد الذي يملِك نفسه عند الغضب»

(7)

.

(1)

انظر: «لسان العرب» ، مادة «أني» .

(2)

أخرجه البخاري في الأدب (6116) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه الترمذي في الفتن (2191)، وأحمد 3/ 19، 61 (11143، 11587) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بلفظ: «الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم» . قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» .

(4)

أخرجه البخاري في الاستئذان (6256)، ومسلم في البر (2593)، وابن ماجه في الأدب (3689) من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه أبو داود في الأدب (4807)، وأحمد 4/ 87 (16802) من حديث عبد الله بن مغفَّل رضي الله عنه. وأخرجه مالك في الاستئذان (2/ 979) من حديث خالد بن معدان رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في الموضع السابق (3688) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

أخرجه مسلم في البر (2594)، وأبو داود في الجهاد (2478)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

(6)

انظر: «فتح ذي الجلال والإكرام، بشرح بلوغ المرام» للشيخ ابن عثيمين (6/ 411)، و «معجم اللغة العربية المعاصرة» للدكتور أحمد مختار عمر (2/ 1059).

(7)

أخرجه مالك في حسن الخلق (2/ 906)، والبخاري في الأدب (6114)، ومسلم في البر والصلة (2609)، وأحمد 2/ 236 (7219) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 78

ورأى صلى الله عليه وسلم رجلًا قد انتفخت أوداجه من شدة الغضب، فقال صلى الله عليه وسلم:«إني أعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»

(1)

.

قال النابغة الجَعْدِيُّ

(2)

:

ولا خيرَ في حلمٍ إذا لم تكنْ له

بوادرُ تَحمي صفوَه أنْ يُكَدَّرَا

ولا خيرَ في جهلٍ إذا لم يكن له

حَليمٌ إذا ما أوردَ الأمرَ أَصْدَرَا

وقال الآخر:

حليمٌ إذا ما الحلمُ زيَّنَ أهلَه

معَ الحلمِ في عينِ العدوِّ مَهيبُ

(3)

فلنأخذ بالحلم والعفو فعاقبتهما الحسنى، والأجر العظيم والنجاة، ولنحذرْ كل الحذر من الغيظ والغضب، فعاقبتهما الندامة، والإثم الكبير، والهلاك.

(1)

أخرجه البخاري في بدء الخلق (3282)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2610) من حديث سليمان بن صُرَد رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود في الأدب (4780)، والترمذي في الدعوات (3452) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.

(2)

انظر: «ديوانه» ص (69)، و «الشعر والشعراء» لابن قتيبة (1/ 280).

(3)

البيت لمحمد بن كعب الغنوي. انظر: «جمهرة أشعار العرب» (ص 560)، أو لكعب بن سعد. انظر:«ديوان المعاني» (2/ 178).

ص: 79

‌وقفة في: حل عقدة المؤامرة

قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]

في هذه الآية حل لعقدة المؤامرة التي يبرر بها كثير من المسلمين في العالم الإسلامي كله سببَ ضعفهم وتخاذلهم وتخلفهم عن ركب الحضارة، ويلقون فيها التبِعة في ذلك على غيرهم من أعداء الإسلام.

وفيه بيان أن ما أصاب المسلمين وما يصيبهم إنما هو بسبب أنفسهم؛ لقوله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} ، كما قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، وقال تعالى:{أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [القصص: 47].

فأعداء الإسلام منذ بزغت شمس الإسلام لا يألون جهدًا في الكيد له، ومحاولة النيل منه، ومن أهله، ولا يُتوقع منهم غير هذا، وأسوأ منه؛ إذ لا يُجنى من الشوك العنبُ.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه:

أين المسلمون الذين يتجاوز عددهم مليارًا ونصفًا؟

إن مصيبة الأمة على ضوء الآية الكريمة تتمثل في تخلي كثير من المسلمين عن مواقعهم، وعن مسؤولياتهم التي سيُسألون عنها أمام الله عز وجل؛ في ولاياتهم الكبيرة والصغيرة، وفي بيوتهم ومساجدهم وأعمالهم وأسواقهم وغير ذلك، وعدم قيامهم بها كما ينبغي، وبهذا صار كثير من المسلمين على اختلاف مواقعهم هم السببَ الأولَ في ضعف الأمة، وتخلفها بين الأمم!

إن الأعداء مهما تكالبوا على الأمة، وأجلبوا عليها بخيلهم ورجلهم، لا يستطيعون

ص: 80

النيل منها حين تصدُق مع الله عز وجل، وتعتصم بحبله، ويؤدي كل فرد فيها مسؤوليته؛ حاكمًا كان أو مسؤولًا، أو والدًا، أو قاضيًا، أو معلمًا، أو إمامًا، أو مؤذنًا، أو موظفًا، أو تاجرًا، أو غير ذلك.

قال تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [آل عمران: 111]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105].

فإذا صلحت الأمة وصدَقت مع الله عز وجل ما ضرها نباح الكلاب، فالكلاب تنبح والقافلة تسير بتوفيق الله عز وجل وعونه.

لكن إذا ضعُف سير القافلة أو توقفت، نهشتها الكلاب ونالت منها.

وهذا يحتِّم ويُوجِب على كل فرد من أفراد الأمة أيًّا كان موقعه أن يستشعر عِظم مسؤوليته أمام الله عز وجل، وأن يقوم بها خير قيام، وأن يعلم؛ كما قال الأوزاعي رحمه الله:«لِيَعْلَمْ كلٌّ منكم أنه على ثغرٍ من ثغور الإسلام، فاللهَ، اللهَ، أن يُؤتَى الإسلامُ من قِبَلِه»

(1)

!

علينا أن نصدُق مع الله عز وجل، ونوجه جهودنا وعملنا لإصلاح المجتمع، وإصلاح بيوتنا ومساجدنا وأسواقنا وأعمالنا ومؤسساتنا، وغير ذلك.

فهذا هو الذي به نجاتنا، وصلاح مجتمعاتنا، والذي سيحاسبنا الله تعالى عليه يوم القيامة.

علينا ألا ننشغل بتضخيم المؤامرة والترويج لكيد الأعداء، فنفت في عضُد الأمة بإظهار باطلهم، فكيدهم ضعيف لو صدَقنا مع الله عز وجل؛ كما قال تعالى:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].

وقد قصدتُ في هذه الوقفة القصيرة التنبيه على أمرين، كل منهما في غاية الأهمية، وكل منهما أهم من الآخر:

الأمر الأول: أن كل فرد من أفراد الأمة عليه مسؤولية، أيًّا كان موقعه، فيجب عليه

(1)

أخرجه محمد بن نصر المروزي في السنَّة (29).

ص: 81

تحمل مسؤوليته أمام الله عز وجل.

الأمر الثاني: أنه لا أحد يستطيع أن يبرر لنفسه السلامة من التبِعة، وعدم المسؤولية عما أصاب الأمة من الضعف والتخلف عن ركب الحضارة.

راجيًا من الله العلي القدير أن يوفق كل فرد من المسلمين لأخذ دوره في الأمة، والقيام بمسؤوليته؛ ليعود للأمة عزها وكرامتها وتأخذ مكانتها بين الأمم، وما ذلك على الله بعزيز!

ص: 82

‌وقفة في: أعظم الأمانات: النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم

قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]

عن تَميمٍ الداريِّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة» ، قلنا: لمن يا رسولَ الله؟ قال: «لله، ولكتابِه، ولرسوله، ولأئمةِ المسلمين، وعامتِهم»

(1)

.

قال النووي رحمه الله في «شرح صحيح مسلم» : «هذا الحديث عظيم، عليه مَدار الإسلام»

(2)

.

ومعنى: «الدين النصيحة» : أن عماد الدين وقِوامه النصيحة.

والنصيحة: إرادة الخير للمنصوح له. والنصيحة: هي الدين كله؛ لأن الدين يشمل الإسلام والإيمان والإحسان، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في آخر حديث جبريل عليه السلام الذي بيَّن فيه الإيمان والإسلام والإحسان، قال:«هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم»

(3)

.

فالنصيحة لله تعالى: شهادة أنه لا إله إلا الله، والإيمان به؛ أي: بوجوده، وبربوبيته وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وشرعه، وعبادته وحدَه لا شريكَ له، وتنزيهه من جميع النقائص، وصرف جميع أنواع العبادة له تعالى وحده؛ من المحبة والتعظيم والخوف

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان (55)، وأبو داود في الأدب (4944)، والنسائي في البيعة (4197) من حديث تميم الداري رضي الله عنه. وأخرجه النسائي في الموضع السابق (4199)، والترمذي في البر والصلة (1926) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

«المنهاج، شرح صحيح مسلم بن الحجاج» (2/ 37).

(3)

أخرجه مسلم في الإيمان (8)، وأبو داود في السنة (4695)، وأحمد 1/ 27 (184) من حديث ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما. وأخرجه النسائي في المواقيت (502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 83

والرجاء، والتوكل والاستعانة، وغير ذلك، وتقواه بفعل أوامره وطاعته، واجتناب نواهيه، والحذر من معصيته، والاعتراف بنعمه وشكره عليها، والدعوة إليه عز وجل، وإلى دينه، وشرعه، وصراطه المستقيم.

قال الخطابي في «معالم السنن» : «وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه لنفسه، فالله تعالى غني عن نصح الناصحين» .

وأما النصيحة لكتاب الله تعالى: فهي الإيمان بأنه كلام الله تعالى، منزل من عند الله تعالى، غير مخلوق، معجز بأقصر سورة منه، ليس بمقدور الخلق الإتيان بمثله ولا بعشر سور من مثله، ولا بسورة من مثله، وتعظيمه وتلاوته، وتعلمه وتعليمه، والتصديق بأخباره، والعمل بأحكامه، والاهتداء بما فيه من الهدى والنور، والاعتبار بمواعظه، والدعوة إليه، والذب والدفاع عنه من تأويل الجاهلين، وتحريف المبطلين، وشبهات الطاعنين والمكذبين.

وأما النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم: فهي شهادة أنه رسول الله حقًّا، وتعظيمه وتوقيره ومحبته، واتباع سنته، والإيمان بكل ما جاء به، وطاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأنْ لا يُعبد الله إلا بما شَرَع، والذبُّ والدفاع عنه صلى الله عليه وسلم، وتعلم سنته وتعليمها ونشرها، والدعوة إليها، والدفاع عنها؛ قال تعالى:{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91].

وأما النصيحة لأئمة المسلمين: فطاعتهم بالمعروف، ومعونتهم على الحق، ودعوتهم إليه بالتي هي أحسن وحثهم عليه، وتذكيرهم به، وتنبيههم بما خفِي عليهم من أحوال الرعية، وتأليف قلوب الناس على طاعتهم، والتحذير من الخروج عليهم، والدعاء لهم بالتوفيق والهداية والصلاح، وإكرامهم وتوقيرهم واحترامهم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يَرضَى لكم ثلاثًا: أن تَعبُدوه، ولا تشركوا به شيئًا، وأن تَعتصِموا بحبلِ اللهِ جميعًا، وأن تَناصَحُوا مَن

ص: 84

ولَّاه اللهُ أمرَكم»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لا يُغَلُّ عليهنَّ قلبُ مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة وُلاة الأمر، ولُزُوم جماعة المسلمين»

(2)

.

سئل ابن عباسٍ رضي الله عنهما عن أمر السلطان بالمعروف، ونهيه عن المنكر، فقال:«إن كنتَ فاعلًا ولا بد، ففيما بينك وبينه»

(3)

.

وأما النصيحة لعامة المسلمين، وهم مَن عدا وُلاة الأمر: فأداء حقوقهم، ومحبتهم، والشفقة عليهم، وحب الخير لهم كما يحبه المرء لنفسه، وكراهته لهم ما يكرهه لنفسه، وإرشادهم إلى مصالح دينهم ودنياهم وأخراهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وترغيبهم في الخير، وسد خَلَّاتهم، وستر عوراتهم، ورفع الظلم عنهم، والحذر من أذيتهم وحسدهم وسوء الظن بهم، أو غِشِّهم، ونحو ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«مَن غشنا فليس منَّا»

(4)

.

سئل ابن المبارك رحمه الله: أيُّ العمل أفضل؟ قال: «النصح لله»

(5)

.

وقال الفُضَيل بن عِيَاض رحمه الله: «لم يدركْ عندنا مَن أدرك بكثرة صيامٍ ولا صلاة، وإنما أدرك عندنا بسخاء النفس، وسلامة الصدر، والنصح للأمة»

(6)

.

والنصيحة هي منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام مع أممهم، من لَدُن نوح عليه الصلاة والسلام

(1)

أخرجه مسلم في الأقضية (1715)، وأحمد 2/ 367 (8799).

(2)

أخرجه الترمذي في العلم (2658) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في المقدمة (230)، وابن حبان 2/ 454 (680) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في المناسك (3056) من حديث جُبير بن مطعِم رضي الله عنه. وأخرجه أحمد 3/ 225 (13350) من حديث أنس رضي الله عنه. وصححه الألباني في «التعليقات الحسان» (679)، وفي «صحيح الجامع» (2309).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» 21/ 119 (38462)، وسعيد بن منصور في التفسير من «السنن» 4/ 1657 (746).

(4)

أخرجه مسلم في الإيمان (101)، والترمذي في البيوع (1315)، وأحمد 2/ 417 (9396) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (71)، وفي «العقوبات» (37).

(6)

أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 103)، والبيهقي في «شعب الإيمان» 7/ 439 (10891).

ص: 85

إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

قال نوح عليه الصلاة والسلام لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62].

وقال هود عليه الصلاة والسلام لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} [الأعراف: 68].

وقال صالح عليه الصلاة والسلام: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79].

وكان نبينا صلوات الله وسلامه عليه أعظم الأنبياء نصحًا لأمته، وأشفقهم وأشدهم حرصًا على هدايتهم، كما وصفه الله عز وجل بقوله:{النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6]؛ أي: أنصح لهم وأشفق عليهم من أنفسهم؛ ولهذا كادت نفسه أن تذهب على مَن لم يؤمن منهم حَسَرات، حتى نهاه الله تعالى بقوله:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8]، وقال:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].

وإذا كان الدين هو النصيحةَ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والنصيحة في ذلك كله هي الدين، وهي أفضل الأعمال، ومنهج الرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم- كانت النصيحة من أوجب الواجبات وأهمها، وأعظم أسباب التوفيق والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة.

فتأمَّلْ أخي الكريم، وأختي الكريمة:

أين نحن من النصيحة لله تعالى؟

وأين نحن من النصيحة لكتابه العزيز؟

وأين نحن من النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم؟

وأين نحن من النصيحة لأئمة المسلمين؟

وأين نحن من النصيحة لعامة المسلمين؟

وأين نحن من حمل همِّ الأمة والنهوض بها، وإصلاح المجتمع؟

إن كثيرًا من المسلمين اليوم لا يعنيه أمر النصح لله ولا لكتابه ولا لرسوله، ولا

ص: 86

لأئمة المسلمين وعامتهم، وإنما همه نفسه فقط، والركض وراء الدنيا وحظوظ النفس الفانية وشهواتها.

عن جَرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم»

(1)

.

الله أكبر .. «النصح لكل مسلم» !

وقال صلى الله عليه وسلم في حديث مَعقِلِ بنِ يَسَارٍ رضي الله عنه: «ما من والٍ يلي رعيةً من المسلمين، فيموت وهو غاشٌّ لهم، إلا حرَّم الله عليه الجنة»

(2)

.

وفي رواية: «ما من عبدٍ يَسترعيه الله رعيةً، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيتِه، إلا حرَّم الله عليه الجنةَ»

(3)

.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيتِه؛ فالأمير الذي على الناسِ راعٍ، وهو مسؤولٌ عن رعيتِه، والرجل راعٍ على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم، والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ بَعْلِها ووَلَده، وهي مسؤولةٌ عنهم، والعبد راعٍ على مال سيدِه، وهو مسؤول عنه، ألا فكلُّكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيتِه»

(4)

.

وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حق المسلمِ على المسلمِ سِتٌّ» ، وذكر منها:«وإذا استنصحَكَ فانصَحْ له»

(5)

؛ أي: إذا طلب منك النصيحةَ والمشورةَ فانصحه؛ أي: فابذُل له محضَ النصيحة وخالصها.

قال عمر بن الخطاب: «لا خير في قوم ليسوا بناصحين، ولا خير في قوم لا يحبون النصح»

(6)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري في الأحكام (7151).

(3)

أخرجها مسلم في الإيمان (142).

(4)

أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829)، وأبو داود في الخراج والإمارة (2928)، والترمذي في الجهاد (1705)، وأحمد 2/ 5، 54 (4495، 5167).

(5)

أخرجه مسلم في السلام (2162)، وأحمد 2/ 372 (8845).

(6)

انظر: «الاستقامة» لابن تيمية (ص 148).

ص: 87

فانظر أخي المسلم وأختي المسلمة في هذا، وتأملْ فيه غايةَ التأمل، واعلمْ أنك لن تنجوَ من كربِ الدنيا وشدائد الآخرة إلا بالنصحِ لله تعالى، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.

قال الأوزاعي رحمه الله: «لِيعلَمْ كلٌّ منكم أنه على ثغرٍ من ثغور الإسلام، فاللهَ، اللهَ، أن يُؤتَى الإسلامُ من قِبَله»

(1)

.

ولما حضرت أبا عُبيدةَ عامرَ بنَ الجرَّاحِ رضي الله عنه الوفاةُ، في الطاعون الذي وقع في الشام، ومات منه خلقٌ كثيرٌ، وكان واليًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه على الشام، أوصى جنده فقال: «إني موصيكم بوصيةٍ إن قبِلتموها لن تزالوا بخيرٍ: أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا شهر رمضان، وتصدقوا، وحُجوا، واعتمروا، وتواصَوا بالحق، وانصحوا لأمرائكم، ولا تغُشوهم، ولا تُلهِكُمُ الدنيا؛ فإن المرءَ لو عُمِّرَ ألفَ حولٍ ما كان له بُدٌّ من أن يصيرَ إلى مَصرعي هذا الذي ترون

إن الله كتب الموت على بني آدم، فهم ميِّتون، وأكيسُهم أطوعُهم لربه، وأعملُهم ليوم مَعادِه

والسلام عليكم ورحمة الله»

(2)

.

فكن أخي مباركًا أينما كنتَ، وقدِّم النصحَ والخير والإحسان لإخوانك المسلمين بالقول والفعل والبذل؛ بنصيحةٍ، أو هديةٍ، أو مساعدة، أو كلمة طيبة، أينما كنتَ، ومع مَن لقِيتَ.

يدُ المعروفِ خيرٌ حيثُ كانتْ

تَلَقَّفَها كَفُورٌ أم شَكُورُ

ففي شكرِ الشكورِ لها جزاءٌ

وعند اللهِ ما كَفَرَ الكَفورُ

(3)

وكن كالنخلة في بركتها وكثرة ثمرها وخيرها وعطائها ونفعها.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

انظر: «الإصابة» 2/ 252 ترجمة (4400)، و «حلية الأولياء» ، 1/ 100، و «تاريخ ابن عساكر» 7/ 157، و «صفة الصفوة» 1/ 124، و «أشهر مشاهير الإسلام» ص 504، و «الرياض النضرة» ص 307.

(3)

البيتان لابن المبارك. انظر: «ديوانه» ص (139)، و «اصطناع المعروف» لابن أبي الدنيا (46)، و «بهجة المجالس» ص (65). أو لابن عائشة. انظر:«المحاسن والأضداد» للجاحظ ص (25)، و «الجامع لأحكام القرآن» (5/ 384).

ص: 88

تقرب إلى الله عز وجل بمحبة إخوانك المسلمين، ومحبة الخير لهم، قال صلى الله عليه وسلم:«لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تَحَابُّوا، ألا أدلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم؟! أفشوا السلام بينكم»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحب لنفسِه»

(2)

.

اغسل قلبك من الحسد، والعداوة والبغضاء، والغِلِّ والحقد على أحدٍ من إخوانك المسلمين.

قال الشاعر:

لا يَحمِلُ الحقدَ مَن تَعلُو به الرُّتَبُ

ولا ينال الرضا مَن طَبعُهُ الغَضَبُ

(3)

كن مبتسمًا بشوشًا مع إخوانك المسلمين، وأحسن الظن بهم، وتعامل معهم بأخلاق أهل الجنة، تكنْ من أهلها بإذن الله تعالى.

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان (54)، وأبو داود في الأدب (5193)، والترمذي في الاستئذان والآداب (2688)، وابن ماجه في المقدمة (68) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي في صفة الجنة والقيامة والورع (2510) من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5016، 5017)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2515)، وابن ماجه في المقدمة (66) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

البيت لعنترة بن شداد. انظر: «ديوانه» ص (10).

ص: 89

‌ثلاث وقفات في: صلاة الجماعة

قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102]

‌الوقفة الأولى في:

بيان وجوب صلاة الجماعة

صلاة الجماعة في المساجد مع المسلمين بالنسبة للرجال واجبة، بل إنها من أوجب واجبات الصلاة، وآكدها، بل ذهب بعض العلماء إلى أن الجماعة شرط لصحة الصلاة

(1)

، فإن تركها من غير عذرٍ لم تُقبَلْ صلاتُه.

وقد دل الكتاب والسنة القولية، والفعلية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع على وجوبها

(2)

.

ومن الأدلة على ذلك:

1 قوله تعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102].

فأمر عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم في حال الحرب والخوف أن يصلي بأصحابه جماعة، ولو كانت صلاة الجماعة غير واجبة لكان لهم مندوحة أن يصلوا فُرادَى في هذه الحال.

(1)

انظر: «المحلى» (4/ 265)، و «المجموع» (4/ 77)، و «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (23/ 333)، و «كتاب الصلاة» لابن القيم (ص 460)، و «طبقات الشافعية» للسبكي (3/ 199)، و «صلاة الجماعة» للسدلان (64 - 65).

(2)

انظر: «الصلاة وحكم تاركها» لابن القيم (ص 82، 83).

ص: 90

قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله

(1)

: «فأوجب سبحانه أداء الصلاة في الجماعة في حال الحرب، فكيف بحال السِّلم؟! ولو كان أحد يُسامَحُ في ترك الصلاة في جماعة، لكان المُصافُّون للعدو، والمهدَّدون بهجومه عليهم، أولى بأن يُسمَحَ لهم في ترك الجماعة، فلما لم يقع ذلك عُلم أن أداء الصلاة في جماعةٍ من أهم الواجبات، وأنه لا يجوز لأحدٍ التخلف عن ذلك» .

2 قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، والأمر للوجوب. قال ابن باز رحمه الله

(2)

: «وهذه الآية الكريمة نصٌّ في وجوب صلاة الجماعة، والمشاركة للمصلين في صلاتهم، ولو كان المقصود إقامتها فقط لم تظهر مناسبة واضحة في ختم الآية بقوله سبحانه: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ}؛ لكونه قد أمر بإقامتها في أول الآية» .

3 قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف: 29]، والأمر هنا كذلك للوجوب.

4 قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 41، 42].

قال ابن القيم

(3)

: «ووجه الاستدلال بها أنه سبحانه عاقَبَهم يوم القيامة بأن حالَ بينهم وبين السجود، لمَّا دعاهم إلى السجود في الدنيا فأبَوا أن يجيبوا الداعيَ، إذا ثبت هذا فإجابة الداعي هي إتيان المسجد بحضور الجماعة، لا فِعلُها في بيته وحده، فهكذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإجابة. وقد قال غير واحد من السلف في قوله تعالى: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ}، قال: هو قول المؤذن: «حيَّ على الصلاة، حي على الفلاح» .

5 وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلًا أعمى أتي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه ليس لي قائد يلائمني إلى المسجد، فهل لي رخصةٌ أن أصليَ في بيتي؟ فقال له النبي

(1)

في كتابه: «رسالتان في الصلاة» (ص 13).

(2)

في كتابه: «رسالتان في الصلاة» (ص 13).

(3)

في كتاب: «الصلاة وحكم تاركها» (ص 72 - 73).

ص: 91

-صلى الله عليه وسلم: «هل تسمَع النداء بالصلاة؟» قال: نعم. قال: «فأجب»

(1)

. وفي رواية: «لا أجد لك رخصةً»

(2)

.

6 وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيدِه لقد هَمَمْتُ أن آمُرَ بحَطَبٍ فيُحطب، ثم آمُر بالصلاة فيؤذَّن لها، ثم آمُر رجلًا فيؤم الناس، ثم أُخالف إلى رجالٍ فأحرِّق عليهم بيوتَهم، والذي نفسي بيدِه لو يعلم أحدُهم أنه يجد عَرْقًا سمينًا، أو مِرماتَينِ

(3)

حسنتين، لشهِد العشاء»

(4)

. وفي رواية: « .... ثم أنطلق برجالٍ معهم حُزَمٌ من حطبٍ إلى قومٍ لا يشهدون الصلاة، فأحرِّق عليهم بيوتهم»

(5)

.

7 أن ترك صلاة الجماعة، والتساهل فيها من صفات المنافقين، كما قال تعالى في وصفهم:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 142].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أثقلَ صلاةٍ على المنافقين صلاةُ العشاء، وصلاةُ الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتَوْهُما ولو حَبْوًا، ولقد هممتُ أن آمُر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلًا فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجالٍ معهم حُزَمٌ من حَطَبٍ إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرِّق عليهم بيوتَهم بالنار»

(6)

.

(1)

أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (653)، والنسائي في الإمامة (850).

(2)

أخرجها أبو داود في الصلاة (552)، والحاكم (1/ 247) وسكت عنها، من حديث ابن أم مكتوم رضي الله عنه. وصححها الألباني في «صحيح أبي داود» (561).

(3)

العَرق: العظم الذي أُخذ منه معظم اللحم، والمِرماة: ظِلف الشاة، وقيل: ما بين ظلفيها. وهذا كناية عن قوة همتهم في طلب الدنيا، دون ما عند الله من الأجر والثواب.

(4)

أخرجه مالك في صلاة الجماعة (1/ 129)، والبخاري في الأذان (644)، والنسائي في الإمامة (848)، والدارمي في الصلاة 1/ 298 (1212)، وأحمد 2/ 244 (7328).

(5)

أخرجها مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (651)، وأبو داود في الصلاة (548)، وابن ماجه في المساجد والجماعات (791)، وأحمد 2/ 424 (9486).

(6)

أخرجه البخاري في الأذان (657)، ومسلم في المساجد (651)، وابن ماجه في المساجد والجماعات (797)، وأحمد 2/ 424 (9486).

ص: 92

وعلامات المنافقين لا تكون إلا بترك واجب، أو ارتكاب محرَّم.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال:«لقد رأيُتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافقٌ عُلم نفاقُه، أو مريض، وإن كان المريض ليمشيَ بين الرجلينِ حتى يأتيَ الصلاة»

(1)

.

8 وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «مَن سرَّه أن يَلقَى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث يُنادَى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سُنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلِّف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجلٍ يتطهر فيُحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجدٍ من هذه المساجد، إلا كتب الله له بكل خطوةٍ يخطوها حسنةً، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئةً، ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلومُ النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقامَ في الصف»

(2)

.

وعنه رضي الله عنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاةَ في المسجد الذي يؤذَّن فيه»

(3)

.

9 وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كانوا ثلاثةً فليؤمَّهم أحدُهم»

(4)

.

10 وعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ثلاثة نَفَرٍ في قرية، ولا بدو، لا يُؤذَّن، ولا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطانُ، فعليك بالجماعة،

(1)

أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (654)، وأبو داود في الصلاة (550)، والنسائي في الإمامة (849)، وابن ماجه في المساجد والجماعات (777)، وأحمد 1/ 414 (3936).

(2)

أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (654)، وأبو داود في الصلاة (550)، والنسائي في الإمامة (849)، وابن ماجه في المساجد والجماعات (777)، وأحمد 1/ 382 (3623).

(3)

أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (654).

(4)

أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (672)، والنسائي في الإمامة (782، 840)، وأحمد 3/ 24 (11190).

ص: 93

فإنما يأكل الذئبُ من الغنمِ القاصيةَ»

(1)

.

11 وعن مالكِ بنِ الحُويرث رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:«ارجعوا إلى أهليكم، فأقيموا فيهم، وعلموهم، ومروهم، فإذا حَضَرتِ الصلاةُ فليؤذنْ لكم أحدكم، ثم لْيؤمَّكم أكبرُكم»

(2)

.

12 وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سمع النداء فلم يأتِهِ فلا صلاة له إلا مِن عُذر»

(3)

. قال الترمذي

(4)

: «وقد رُوي عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: من سمع النداء، فلم يجب، فلا صلاة له. وقال بعض أهل العلم: هذا على التغليظ والتشديد، ولا رخصةَ لأحدٍ في ترك الجماعة إلا من عذرٍ» .

13 وعن أُبي بن كعب رضي الله عنه، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا الصبح، فقال:«أشاهدٌ فلان؟» قالوا: لا. قال: «أشاهدٌ فلان؟» قالوا: لا. قال: «إن هاتين الصلاتين أثقلُ الصلوات على المنافقين، ولو تَعلَمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حَبْوًا على الرُّكب

»

(5)

.

(1)

أخرجه أحمد 5/ 196 (21710)، والحاكم (1/ 211) من طريق زائدة بن قدامة عن السائب بن حبيش الكَلَاعي عن معدان بن أبي طلحة اليعمري عن أبي الدرداء. قال الحاكم:«هذا حديث صدوق رواته، شاهد لما تقدمه، متفَق على الاحتجاج برواته إلا السائب بن حبيش، وقد عُرف من مذهب زائدة أنه لا يحدث إلا عن الثقات» . وحسن الألباني إسناده في «الثمر المستطاب» (1/ 117).

(2)

أخرجه البخاري في الأذان (628، 631)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (674)، والنسائي في الأذان (635)، وأحمد 3/ 436 (15598).

(3)

أخرجه أبو داود في الصلاة (551)، وابن ماجه في المساجد والجماعات (793)، والدارقطني (1/ 420)، وابن حبان 5/ 415 (2064)، والحاكم (1/ 245)، والبيهقي (3/ 75، 185). قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» . ووافقه الذهبي، قال الألباني في «الإرواء» (1/ 245):«وهو كما قالا» . وضعف إسناد أبي داود في «ضعيف أبي داود» (560)، و «الإرواء» (551).

(4)

في كتاب الصلاة، ما جاء فيمن يسمع النداء ولا يجيب، بعد حديث (217).

(5)

أخرجه أبو داود في الصلاة (554)، والنسائي في الإمامة (843)، وأحمد 5/ 140 (21265)، والدارمي 1/ 326 (1269)، وابن حبان 5/ 405 (2056). وحسنه الألباني في «صحيح أبي داود» (563)، و «التعليقات الحسان» (2054).

ص: 94

وهذا يدل على وجوب الصلاة جماعةً من وجهين؛ الأول: تفقده صلى الله عليه وسلم للمصلين، والثاني: وصفه المتخلفين عن الصلاة جماعةً بالمنافقين.

14 وعن مجاهد، قال: سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجلٍ يصوم النهار، ويقوم الليل، ولا يشهد جمعةً ولا جماعة، فقال:«هو في النار»

(1)

.

15 أن النبي صلى الله عليه وسلم طول حياته داوم على صلاة الجماعة، وحافظ عليها، ولم يتركها لا حَضَرًا ولا سَفَرًا، وكان صلى الله عليه وسلم يكون في حاجة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة

(2)

.

وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم من بعده، والتابعون، وتابعوهم، وهم القرون المفضَّلة، كما قال صلى الله عليه وسلم:«خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»

(3)

.

16 أن الله عز وجل قد أذِن وأمر برفع المساجد، ببنائها وتشييدها حسيًّا، ورفعها بعمارتها معنويًّا بالصلاة، وذِكر الله تعالى فيها، فقال تعالى:{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ} [النور 36، 37].

فلو كانت صلاة الجماعة غير واجبة، لما أمر ببناء المساجد، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ} [التوبة: 18].

فامتدح عز وجل عُمَّار المساجد بحصر الإيمان بالله، واليوم الآخر، وإقام الصلاة، وإيتاء

(1)

أخرجه الترمذي في الصلاة (218)، وعبد الرزاق في «المصنف» 1/ 519 (1989، 1990)، وابن أبي شيبة في «المصنف» 3/ 199 (3494)، 4/ 171 (5583).

وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه عليه: «هذا إسناد صحيح، وهذا الحديث وإن كان موقوفًا ظاهرًا على ابن عباس، إلا أنه مرفوع حكمًا؛ لأن مثل هذا مما لا يُعلم بالرأي، وليس من القصص ينقل عن أهل الكتاب وغيرهم، ولا يجزم ابن عباس في رجل يصوم النهار ويقوم الليل بأنه في النار إلا عن خبر عنده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله» .

(2)

أخرجه البخاري (676)، وأحمد في مسنده (24226).

(3)

أخرجه البخاري في الشهادات (2652)، ومسلم في فضائل الصحابة (2533)، والترمذي في المناقب (3859)، وابن ماجه في الأحكام (2362) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

وأخرجه البخاري في الشهادات (2651)، ومسلم في فضائل الصحابة (2535)، وأبو داود في السنة (4657)، والنسائي في الأيمان والنذور (3809)، والترمذي في الفتن (2221) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

ص: 95

الزكاة، وخشية الله تعالى فيهم، وهذا يدل على عِظم أمر صلاة الجماعة، ووجوبها؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«من بنى لله مسجدًا يبتغي به وجه الله، بنى الله له مثله في الجنة»

(1)

.

17 إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على وجوب صلاة الجماعة

(2)

.

قال ابن هُبَيرة

(3)

: «وأجمعوا على أن صلاة الجماعة مشروعة، وأنه يجب إظهارها في الناس، فإن امتنع من ذلك أهل بلد قُوتلوا عليها» .

إلى غير ذلك من الأدلة الكثيرة الدالة على وجوب صلاة الجماعة، وأنها فرض عين.

وإنك لتعجب أن يذهب بعض أهل العلم رحمهم الله إلى خلاف ذلك مع كثرة أدلة وجوبها، ووضوحها، لكن العبرة بالدليل، واتباع الحق، لا بقول أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم من الخلق.

والحقيقة أنه ليس لدى القائلين بعدم وجوب صلاة الجماعة أي دليل؛ لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا غير ذلك؛ لأن غاية ما استدلوا به على عدم وجوبها الأحاديث الواردة في المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة الفَذِّ

(4)

، كما في حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الجماعة تَفضُلُ على صلاة الفذ بسبعٍ وعشرين درجة»

(5)

.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:«صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس وعشرين درجة»

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في الصلاة (450)، ومسلم في المساجد (533)، والترمذي في الصلاة (318)، وابن ماجه في المساجد والجماعات (736) من حديث عثمان رضي الله عنه. وأخرجه أحمد 1/ 241 (2157) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

وأخرجه ابن ماجه في المساجد والجماعات (738) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(2)

انظر كتاب: «الصلاة وحكم تاركها» لابن القيم ص (82 - 83).

(3)

في «الإفصاح عن معاني الصحاح» (1/ 142).

(4)

انظر: «معالم السنن» للخطابي (1/ 160).

(5)

أخرجه مالك في صلاة الجماعة (1/ 129)، والبخاري في الأذان (645)، ومسلم في المساجد (650)، والنسائي في الإمامة (837)، وأحمد 2/ 65 (5332).

(6)

أخرجه البخاري (646)، وأحمد 2/ 525 (10798).

ص: 96

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«تفضُل صلاةٌ في الجميع على صلاة الرجل وحده خمسًا وعشرين درجةً»

(1)

.

وأحاديث المفاضلة لا حجة فيها على عدم وجوب صلاة الجماعة؛ لأن المفاضلة بين صلاة الجماعة وصلاة الفذ لا تدل على عدم وجوب صلاة الجماعة، كيف وقد فاضل الله عز وجل بين الإيمان أوجب الواجبات، وبين الكفر، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 10، 11]، أفيقول قائل: إن الإيمان ليس بواجب؛ لأن الله فاضل بينه وبين الكفر؟ لا أحد يقول هذا.

كما أن المفاضلة قد ترِد بين أمرين ليس في أحدهما شيء من الفضل، كما في قوله تعالى:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]، ففاضل عز وجل بين مستقر أهل الجنة ومَقِيلهم، وبين مستقر أهل النار ومقيلهم، مع أنه لا شيء من الفضل البتة في مستقر أهل النار ومقيلهم.

وهكذا نص كثير من السلف، والعلماء المحققين على أن صلاة الجماعة فرض واجب على الأعيان. قال عطاء بن أبي رباح رحمه الله:«فحق واجب لا بد منه، ولا يحل غيره إذا سمع الأذان أن يأتي ويشهد الصلاة»

(2)

.

وقال ابن قُدامة رحمه الله: «وهي- أي: صلاة الجماعة- واجبة للصلوات الخمس على الرجال»

(3)

.

وقال ابن القيم رحمه الله

(4)

: «ومن تأمَّل السنة حق التأمل تبين له أن فعلها في المساجد فرض على الأعيان إلا لعارض يجوز معه ترك الجمعة والجماعة، فترك حضور المسجد

(1)

أخرجه مالك في صلاة الجماعة (1/ 129)، والبخاري في الصلاة (477)، وفي الأذان (648)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (649)، وأبو داود في الصلاة (559)، والنسائي في الصلاة (486)، والترمذي في الصلاة (216)، وأحمد 2/ 233 (7185).

(2)

«مختصر الفتاوى المصرية» (ص 50).

(3)

«المقنع» 1/ 193.

(4)

في كتاب: «الصلاة وحكم تاركها» صـ 89.

ص: 97

لغير عذر كترك أصل الجماعة لغير عذر، وبهذا تتفق جميع الأحاديث والآثار، فالذي ندين الله به أنه لا يجوز لأحد التخلف عن الجماعة إلا من عذر».

وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله

(1)

: «والأحاديث الدالة على وجوب الصلاة في الجماعة، وعلى وجوب إقامتها في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه كثيرة جدًّا، فالواجب على كل مسلم العناية بهذا الأمر، والمبادرة إليه، والتواصي به مع أبنائه وأهل بيته وجيرانه وسائر إخوانه المسلمين؛ امتثالًا لأمر الله ورسوله، وحذرًا مما نهى الله عنه ورسوله، وابتعادًا عن مشابهة أهل النفاق الذين وصفهم الله بصفات ذميمة، من أخبثها تكاسلهم عن الصلاة، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} [النساء: 142، 143]، ولأن التخلف عن أدائها في الجماعة من أعظم أسباب تركها بالكلية. ومعلوم أن ترك الصلاة كفر وضلال وخروج عن دائرة الإسلام» .

وقال أيضًا: «ولا يخفى ما في صلاة الجماعة من الفوائد الكثيرة، والمصالح الجمّة، ومن أوضح ذلك التعارف، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، وتشجيع المتخلف، وتعليم الجاهل، وإغاظة أهل النفاق، والبعد عن سبيلهم، وإظهار شعائر الله بين عباده، والدعوة إليه سبحانه بالقول والعمل، إلى غير ذلك من الفوائد» .

وقال فضيلة الشيخ صالح السدلان رحمه الله

(2)

بعد أن ذكر عددًا من الأدلة من القرآن الكريم، والسنة النبوية الدالة على وجوب صلاة الجماعة:«قال ابن القيم في كتابه: «الصلاة» : فدلت هذه النصوص السالفة الذكر من القرآن الكريم والسنة النبوية على وجوب صلاة الجماعة، وأنه لا يجوز التخلف عنها، إلا لعذر كالمرض أو الخوف،

(1)

في كتابه «رسالتان في الصلاة» . صـ 15 - 16، وانظر:«مجموع فتاوى» ابن باز 12/ 18، 38.

(2)

في كتابه: «صلاة الجماعة؛ حكمها وأحكامها» صـ 71 - 72، وانظر كتاب:«الصلاة وحكم تاركها» لابن القيم صـ 70 - 71.

ص: 98

وبهذا قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد، وبه قال الشافعي، وقد أُثر عنه أنه قال:«وأما الجماعة فلا أُرَخِّص في تركها إلا من عذر» نقل ذلك عنه المُزَنِيُّ رحمه الله».

قال الشيخ صالح بعد هذا: «ويتبين مما تقدم أن الأئمة الأربعة رحمهم الله اتفقوا على وجوب صلاة الجماعة، وأن تاركها بدون عذر آثم، وإن اختلفت عباراتهم.

ويشهد لذلك كلام الله سبحانه وتعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا كلام لأحدٍ مع كلام الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه عليه الصلاة والسلام».

وقال الشيخ صالح أيضًا

(1)

- بعد أن ذكر القول بأن صلاة الجماعة فرض، ومن قال به وأدلتهم، وعباراتهم-:«وعلى هذا لو تركها المسلم بدون عذر يأثم، وصلاته صحيحة؛ استدلالًا بالنصوص الواردة من القرآن والسنة» .

وقال أيضًا

(2)

- بعد أن ذكر الأقوال في حكم صلاة الجماعة، وذكر من قال بذلك من المتقدمين والمتأخرين، وفصَّل أقوالهم وأدلتهم-:«يتضح والله أعلم أن أقرب الأقوال إلى الصواب القول الرابع، وهو: أن صلاة الجماعة فرض عين؛ أي: واجبة على الأعيان؛ وذلك لقوة أدلة هذا القول وصراحتها، وإعمال النصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية» .

‌الوقفة الثانية في:

ذكر آداب صلاة الجماعة، والأسباب المعينة على المحافظة عليها

لصلاة الجماعة آداب كثيرة، وأسباب تعين على إقامتها، كما شرع الله عز وجل.

ومن أهمها ما يلي:

(1)

في كتابه: «صلاة الجماعة؛ حكمها وأحكامها» (ص 67).

(2)

(ص 72).

ص: 99

1 التفرغ التام للصلاة إذا حضر وقتها بالقلب، والبدن، والحزم كل الحزم في ذلك، والحذر كل الحذر من المشاغل والقواطع. ولنعلم أن الظبي أسرع من الكلب، لكنه إذا التفت إلى الكلب لحِق به وأدركه فأمسكه، وهكذا الإنسان إذا التفت بعد دخول وقت الصلاة إلى المشاغل والقواطع؛ من عمل، أو إكمال جلسة، أو قهوة، أو أي شاغل، قطعه ذلك عن الصلاة، ففاتته كلها أو بعضها، فما بعد الأذان إلا المبادرة إلى الصلاة. فينبغي التهيؤ للصلاة، وتحريها قبل دخول وقتها، والتفرغ التام لها بعد دخول وقتها؛ بدءًا من متابعة المؤذن، والذكر، والدعاء، مع الأذان وبعده، والوضوء

إلخ.

والحاجات لا تنتهي، ولا تنقضي، وقد أحسن القائل:

تموت مع المرءِ حاجاتُهُ

وتبقَى له حاجةٌ ما بَقِيْ

نروحُ ونغدو لحاجاتنا

وحاجاتُ من عاش لا تنقضِي

2 الحرص على التبكير إلى المساجد، والمنافسة في ذلك.

قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقال تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21]، وقال تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148]، وقال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الواقعة 10 - 12]، وقال تعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أُخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفَع به الدرجاتِ؟ إسباغُ الوضوء على المَكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرِّباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط»

(1)

.

(1)

أخرجه مالك في قصر الصلاة في السفر (1/ 161)، ومسلم في الطهارة (251)، والنسائي (143)، والترمذي في الطهارة (51)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (428)، وأحمد 2/ 235 (7209) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 100

وفي حديث السبعة الذين يُظِلهم الله في ظله، قال صلى الله عليه وسلم:«ورجل قلبه معلَّق بالمساجد»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تطهر في بيته، ثم مشى إلى بيتٍ من بيوت الله، ليقضيَ فريضةً من فرائض الله، كانت خُطواته إحداهما تَحُطُّ خطيئةً، والأخرى ترفع درجة»

(2)

.

وعن بُريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بشِّر المشائين في الظُّلَمِ إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة»

(3)

.

قال سعيد بن المسيَّب رحمه الله: «منذ أربعين سنةً ما سمِعت الأذان إلا وأنا في المسجد، وما رأيتُ ظهر مصلٍّ» يعني: أنه دائمًا في الصف الأول، قال:«وما خرجت من بيتي فقابلني الناس خارجين من الصلاة»

(4)

.

قال فضيلة الشيخ صالح السدلان، رحمه الله

(5)

: «وحبُّ الصلاة، والمسارعة إليها، على أكمل الوجوه، وإتمامها ظاهرًا وباطنًا، هي الآية على قدْر ما في القلب من حب الله، والشوق إلى لقائه.

والإعراض عنها، والتكاسل والتباطؤ عن تلبية داعيها، والتثاقل في القيام إليها، أو أداؤها على انفراد في غير المسجد مع جماعة المسلمين، من غير عذر، آية فراغ القلب من محبة الله، والزهد فيما عنده، قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى:{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59]، قال: «عطلوا

(1)

أخرجه البخاري في الأذان (660)، ومسلم في الزكاة (1031) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (666).

(3)

أخرجه أبو داود في الصلاة (561)، والترمذي في الصلاة (223). قال الترمذي:«هذا حديث غريب» . وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (570). وأخرجه ابن ماجه في المساجد والجماعات (781) من حديث أنس رضي الله عنه.

(4)

انظر: «حلية الأولياء» (2/ 163)، و «شعب الإيمان» (4/ 370).

(5)

في مقدمة كتابه: «صلاة الجماعة حكمها وأحكامها» صـ 9 - 10.

ص: 101

المساجد، واشتغلوا بالبضائع، والأسباب، وأخلدوا إلى اللَّذَّات والمعاصي، نعوذ بالله من ذلك»

(1)

.

3 أن يتوضأ، ويحسن الوضوء، ويخرج إلى الصلاة على أحسن حال، وأجمل هيئة، وأطيب رائحة، نظيفًا، متجملًا، متطيبًا، متسوكًا، متزينًا بأحسن لباس.

قال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31].

ولما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا؛ قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله جميل يحب الجمال»

(2)

.

وكثير من الناس لا يبالي بأي لباس جاء به إلى الصلاة، وبأي مظهر كان عليه، وهو يقف بين يدي ربه عز وجل فيناجيه، ولو ذهب لأدنى مناسبة أو لمقابلة الآخرين، أو خرج إلى السوق، لبِس أجمل ثيابه، واهتم بمظهره؛ خوفًا أن ينتقده الناس، فأين التعظيم لله عز وجل؟!

وشتان بين صلاة يتهيأ لها صاحبها، ويأتي إليها على أجمل وأحسن هيئة، وبين صلاة يأتي إليها بقميص النوم، ونحو ذلك!

4 أن يجتنب الروائح الكريهة، والخبيثة؛ من الثُّوم، والبصل، والكراث، والدخَان، ورائحة عرق الجسم؛ بسبب قلة الاغتسال، ونحو ذلك.

عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكل ثُومًا أو بصلًا فلْيعتزِلْنا، وليعتزِلْ مَسجدَنا، ولْيقعد في بيته»

(3)

.

5 أن يتجنب الأمور التي تتنافى مع آداب الصلاة؛ من تشبيك الأصابع، والهرولة، وسرعة المشي، وكثرة الالتفات يمينًا وشمالًا، ورفع الصوت، ونحو ذلك.

(1)

انظر: «الجامع لأحكام القرآن» 11/ 123.

(2)

أخرجه مسلم في الإيمان (91)، والترمذي في البر والصلة (1999)، وأحمد 1/ 399 (3789) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (855)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (564)، وأبو داود في الأطعمة (3822)، وأحمد 3/ 400 (15299).

ص: 102

عن كَعْب بن عُجرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا توضأ أحدكم، فأحسنَ وُضوءَه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد، فلا يُشبكن بين أصابعه؛ فإنه في صلاة»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا أُقيمتِ الصلاة فلا تأتوها تَسعَون، وأْتوها تمشُون وعليكمُ السكينةُ، فما أدركتم فصلُّوا، وما فاتكم فأتِموا»

(2)

.

6 أن يحافظ على الأدب والدعاء عند الخروج من البيت، فيقدم رجله اليمنى في الخروج ويدعو بما ورد.

عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا خرج الرجل من بيته، فقال: باسم الله، توكلتُ على الله، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، يقال حينئذ: هُديتَ، وكُفيتَ، ووُقيت. فتتنحى عنه الشياطين، فيقول له شيطان آخرُ: كيف لك برجلٍ قد هُدي، وكُفي، ووُقي»

(3)

.

وعن أم سَلَمة رضي الله عنها، أن النبي كان إذا خرج من بيتها، قال:«باسمِ الله، توكلتُ على الله، اللهم إني أعوذُ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَزِلَّ أو أُزَلَّ، أو أَظلِمَ أو أُظلَمَ، أو أَجهَلَ أو يُجهَلَ عليَّ»

(4)

.

7 أن يستشعر وهو مُقبِل إلى المسجد أنه مقبل على الله، وقاصد بيتًا من بيوت الله عز وجل، وإذا دخل المسجد أنه في بيت من بيوت الله، وذلك بلزوم السكينة، والوقار،

(1)

أخرجه الترمذي في الصلاة (386)، والدارمي 1/ 381 (1404). وصححه الألباني في «الصحيحة» (1294).

(2)

أخرجه مالك في الصلاة (1/ 68)، والبخاري في الأذان (636)، وفي الجمعة (908)، ومسلم في المساجد (602)، وأبو داود في الصلاة (572)، والنسائي في الإمامة (861)، والترمذي في الصلاة (327)، وابن ماجه في المساجد (775).

(3)

أخرجه أبو داود في الأدب (5095)، والترمذي في الدعوات (3426). قال الترمذي:«حسن غريب» . وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (499).

(4)

أخرجه أبو داود في الأدب (5094)، والترمذي في الدعوات (3427)، وأحمد 6/ 306 (26616). قال الترمذي:«حديث حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (3163)، و «مشكاة المصابيح» (2442).

ص: 103

والخضوع والخشوع. قال الإمام أحمد رحمه الله

(1)

: «ويُستحب للرجل إذا أقبل إلى المسجد أن يُقبِلَ بخوف ووَجَل، وخشوع وخضوع، وأن يكون عليه السكينةُ والوقار، فما أدرك صلى، وما فاته قضى» .

وقال أيضًا: «فاعلَمُوا رحِمَكم الله أن العبد إذا خرج من منزله يريد المسجد إنما يأتي لله الجبار، الواحد القهار، العزيز الغفار، وأنه إنما يأتي بيتًا من بيوت الله، يريد الله، ويتوجه إلى الله تعالى في هذه البيوت التي:{أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور 36، 37].

فإذا خرج من منزله فليحدِثْ لنفسه تفكرًا، وأدبًا غير ما كان عليه، وغير ما كان فيه قبل ذلك من حالات الدنيا وأشغالها، وليخرج بسكينةٍ ووقار؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أمر، ولْيخرج برهبةٍ ورغبة، وتخوُّفٍ ووَجَل، وخشوع وخضوع، وذل وتواضع لله عز وجل؛ فإنه كلما تواضع لله عز وجل وخشع وخضع وذَلَّ لله تعالى كان أزكى لصلاته، وأحرى لقبولها، وأشرف للعبد، وأقرب له من الله عز وجل، وإذا تكبر قَصَمَه الله، ورد عمله، وليس يقبل من المتكبرين عملًا».

8 أن يحافظ على الأدب والدعاء عند دخول المسجد وبعد دخوله، فإذا وصل إلى المسجد وضع نعليه يسار الباب أو يمينه، بحيث لا يؤذي الناس، ولا يضعهما في مدخل الباب، أو على عتباته، ثم قدم رجله اليمنى، وقال الدعاء الوارد عند دخول المسجد، «اللهم افتحْ لي أبوابَ رحمتِك»

(2)

.

فإذا وصل قرب الصف سلم بصوتٍ يسمَعُه القريب منه، ولا يجلس حتى يصليَ تحية المسجد ركعتين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا دخل أحدُكُمُ المسجدَ فلْيَركَعْ ركعتينِ قبل أن يجلِسَ»

(3)

.

(1)

في: «رسالة الصلاة» صـ 35 - 36.

(2)

أخرجه مسلم (713)، وأبو داود (465)، وابن ماجه (772).

(3)

أخرجه مالك في قصر الصلاة في السفر (1/ 162)، والبخاري في الصلاة (444)، ومسلم في صلاة المسافرين (714)، والنسائي في المساجد (730)، والترمذي في الصلاة (316)، وأحمد 5/ 295 (22523) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.

ص: 104

ويشتغل بذكر الله تعالى، والدعاء، وقراءة القرآن، ويتوجه بقلبه وقالبه إلى الله تعالى، ويبتعد عن الكلام في أمور الدنيا مع الآخرين، أو بالجوال، ونحو ذلك.

9 أن يحرص على الدنو من الإمام، والمنافسة على الصف الأول، وميامن الصفوف، بدون مزاحمة، ولا تخطٍّ لرقاب الناس، ولا منازعة أحد في مكانه، أو تضييق على أحد.

قال صلى الله عليه وسلم: «لو تعلم أُمتي ما في النداء، والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يَستهِموا عليه، لاسْتَهَموا»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته يصلون على مَيامن الصفوف»

(2)

؛ أي: يستغفرون لمن على يمين الإمام من الصفوف.

وينبغي الحذر كل الحذر من الجفاء، وترك المكان الأفضل، واستبداله بالمكان المفضول، لأي اعتبارٍ كان، فإن من الناس من يدركه الشيطان فيخدعه في اللحظات الأخيرة، بعد أن جاهد نفسه وتوضأ وأقبل إلى المسجد، فيُزهده من القرب من الإمام، وفي الصفِّ الأول، وفي مقدِّمات ومَيامن الصفوف، فيترك المكان الأفضل، كأنه مستوحش، فيفوته بسبب ذلك أجر عظيم، لا يقدر قدْره إلا الله عز وجل، وربما برر بعضهم لفعله ذلك بأن مقدمة الصف أو الصف الأول لكبار السن ونحوهم، أو لأن يمين الصف فيه فلان، أو فلان، ونحو ذلك من الذرائع الواهية، والخدع الشيطانية، التي تدل على ضعف الرغبة في المسابقة والمنافسة في الخير، وعلى الزهد في القرب من الله، ولا شك أن هذا من مكائد الشيطان؛ ليحرم الإنسان من الخير، والفضل، وهو من اختيار الذي

(1)

أخرجه مالك في الصلاة (1/ 68)، والبخاري (615)، ومسلم (437)، والنسائي في المواقيت (540)، وفي الأذان (671)، والترمذي في الصلاة (225)، وأحمد 2/ 236 (7226).

(2)

أخرجه أبو داود في الصلاة (676)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1005) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال النووي رحمه الله في «رياض الصالحين» (1094):«إسناده صحيح على شرط مسلم، وفيه رجل مختلف فيه» . وحسَّن الألباني إسناده في «صحيح أبي داود» (680).

ص: 105

هو أدنى وتقديمه على الذي هو خير، كما قال موسى عليه السلام لبني إسرائيل:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61].

وينبغي أن يعلم المسلم أنه إذا دخل بيتًا من بيوت الله فهو ضيفٌ على أكرم الأكرمين، وأجود الأجودِين، فالحزمَ كلَّ الحزم أن يُؤثِر القرب منه عز وجل بالقرب من الإمام، والتقدم ما أمكنه في الصف الأول، وفي ميامن الصفوف، حيث سيقف أمام ربه، وبين يديه، ويناجيه، وهذا المعنى لا يدركه إلا من وفَّقه الله عز وجل، وعظَّم القيام بين يدي ربه عز وجل.

ولله المثل الأعلى، لو أن شخصًا استضاف جماعة من الناس، فلما جاءوا جلسوا عند الباب، أو في أدنى المجلس، وأبَوُا القرب من مقدمته، لعُد ذلك جفاءً في عُرف الناس، وأي جفاء فوق جفاء من دخل المسجد، ووجد مكانًا في الصف الأول خلف الإمام، عن يمينه، أو عن يساره، فاختار مكانًا أبعد ولم ينافس في القرب من الله، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

10 أن يستحضر إذا دخل في الصلاة عظمة الله تعالى، ويستشعر أنه إذا كبَّر للصلاة أنه بذلك كشف الحجاب بينه وبين ربه، وأنه يقف بين يدي الله عز وجل، ملك الملوك، ذي الجبروت والملكوت، والكبرياء والعظمة.

ويستحضر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: «الإحسان: أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»

(1)

.

قال الإمام أحمد رحمه الله

(2)

: «فإنِ استطاع أحدكم رحمكم الله إذا قام في صلاته كأنه ينظر إلى الله عز وجل، فإنه إن لم يكن يراه، فإن الله يراه.

(1)

أخرجه البخاري في الإيمان (50)، ومسلم في الإيمان (9)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4991)، وابن ماجه في المقدمة (64) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مسلم في الموضع السابق (8)، وأبو داود في السنة (4695)، والنسائي في الموضع السابق (4990)، والترمذي في الإيمان (2610)، وابن ماجه في الموضع السابق (63) من حديث ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما.

(2)

في «رسالة الصلاة» ص (40، 41) فقرة (45).

ص: 106

وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أوصى رجلًا بوصية، فقال له في وصيته:«اتقِ اللهَ كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراهُ فهو يراك»

(1)

، فهذه وصية النبي صلى الله عليه وسلم للعبد في جميع حالاته، فكيف بالعبد في صلاته إذا قام بين يدي الله عز وجل، في موضعٍ خاص، ومقامٍ خاص، يريد الله ويستقبله بوجهه، ليس موضعه ومقامه وحاله في صلاته كغير ذلك من حالاته.

جاء الحديث: «إن العبد إذا افتتح الصلاة استقبله الله عز وجل بوجهِه، فلا يصرِفه عنه حتى يكون هو الذي ينصرف أو يلتف يمينًا وشمالًا»

(2)

.

فرحم الله من أقبل على صلاته خاشعًا، خاضعًا، ذليلًا لله عز وجل، خائفًا، داعيًا، راغبًا، وجِلًا، مشفِقًا، راجيًا، وجعل أكبر همته في صلاته لربه تعالى، ومناجاته إياه، وانتصابه بين يديه قائمًا وقاعدًا وراكعًا وساجدًا، وفرغ لذلك قلبه، وثمرة فؤاده، واجتهد في أداء فرائضه؛ فإنه لا يدري هل يصلي صلاة بعد التي هو فيها أو يعاجَل قبل ذلك، فقام بين يدي ربه عز وجل محزونًا، مشفِقًا، يرجو قبولها، ويخاف ردها، فإن قبِلها سعِد، وإن ردها شقِي، فما أعظمَ خَطَرَكَ أخي في هذه الصلاة، وفي غيرها من عملك.

عن سعيد بن معاذ رضي الله عنه، قال:«ما صليت صلاة قط، فحدثت نفسي فيها بشيء من أمر الدنيا، حتى انصرفت»

(3)

.

11 أن يستشعر عظمة الصلاة، ومكانتها في الدين، وما رتب الله عليها من السعادة والفلاح والنجاح، وصلاح أمر الدين والدنيا والآخرة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار، فيحفظها ويقيمها، ويشهَدها بقلبه وقالبه ما استطاع.

12 أن يحرص على متابعة الإمام؛ في التكبير، والقيام، والركوع، والسجود، والخفض، والرفع، قال صلى الله عليه وسلم:«إنما جُعل الإمام ليُؤتَمَّ به، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا ..... »

(4)

.

(1)

أخرجه أحمد في «الزهد» (770).

(2)

أخرجه الحاكم (1/ 236) من حديث الحارث الأشعري رضي الله عنه. قال الحاكم: «والحديث على شرط الأئمة صحيح محفوظ» .

(3)

«رسالة الصلاة» للإمام أحمد ص (39) فقرة (43).

(4)

أخرجه مالك في صلاة الجماعة (1/ 135)، والبخاري في الصلاة (378)، ومسلم في الصلاة (411)، وأبو داود في الصلاة (601)، والنسائي في الإمامة (794)، والترمذي في الصلاة (361)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1238)، وأحمد 3/ 162 (12656) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

ص: 107

فيبادر للائتمام بالإمام، والاقتداء به، والدخول معه بعد تكبيرة الإحرام مباشرة، ومتابعته من بداية الصلاة حتى انتهائها، ولا ينشغل عن ذلك بصلاة سُنة، أو غير ذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم:«إذا أُقيمت الصلاةُ فلا صلاةَ إلا المكتوبة»

(1)

.

وإن جاء بعد إقامة الصلاة دخل مع الإمام على أية حالٍ كان.

وينبغي الحذر من مسابقة الإمام؛ فإنها تُبطل الصلاة، كما تُكره موافقته، وتحرُم مخالفته إذا طالت، وقد تبطل الصلاة. وقد جاء الوعيد لمن يسابق الإمام، فيرفع رأسه قبله في الركوع، أو السجود، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما يَخشَى الذي يرفع رأسَه قبل الإمام أن يحوِّلَ الله رأسَه رأسَ حِمار»

(2)

.

قال الإمام أحمد رحمه الله

(3)

: «وليس لمن سبق الإمامَ صلاة، بذلك جاءت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابِه رضوان الله عليهم أجمعين» وذكر عددًا من الأحاديث، منها حديث:«أما يخافُ الذي يرفع رأسَه قبل إمامه» الحديث.

قال: «وذلك لإساءته صلاته؛ لأنه لا صلاة له، ولو كانت له صلاة لرُجِيَ له الثواب، ولم يخفْ عليه العقاب أن يحول الله رأسه رأس حمار» .

وقال أيضًا رحمه الله

(4)

: «قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كبَّر فكبِّروا» معناه: أن تنتظروا الإمام حتى يكبِّر، ويفرُغ من تكبيره، وينقطع صوته، ثم تكبرون بعده، والناس يغلطون في هذه الأحاديث، ويجهلونها، مع ما عليه عامتهم من الاستخفاف بالصلاة، والاستهانة بها،

(1)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (710)، وأبو داود في التطوع وركعات السنة (1266)، والنسائي في الإمامة (865، 866)، والترمذي في الصلاة (421)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1151)، وأحمد 2/ 455 (9873) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الأذان (691)، ومسلم في الصلاة (427)، وأبو داود في الصلاة (623)، والنسائي في الإمامة (828)، والترمذي في الجمعة (582)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (961)، وأحمد 2/ 260 (7534).

(3)

في: «رسالة الصلاة» ص (8) فقرة (2).

(4)

في: «رسالة الصلاة» ص (10 - 11) فقرة (9).

ص: 108

فساعةَ يأخذُ الإمامُ في التكبير يأخذون معه في التكبير، وهذا خطأ لا ينبغي لهم أن يأخذوا في التكبير حتى يكبِّر الإمام، ويفرغ من تكبيره، وينقطع صوته، ومن كبر قبل الإمام فليست له صلاة؛ لأنه دخل في الصلاة قبل الإمام، وكبر قبل الإمام، فلا صلاة له».

ولما تكلم رحمه الله عن معاني جمل الحديث قال: «وهذا تمام الصلاة فاعقلوه، وأبصِروه، وأحكِموه، واعلموا أن أكثر الناس اليوم ما يكون لهم صلاة؛ لسبقهم الإمام بالركوع والسجود والرفع والخفض، وقد جاء الحديث: «يأتي على الناسِ زمانٌ يصلُّون ولا يصلُّون» وقد تخوفتُ أن يكون هذا الزمان»

(1)

.

وقال أيضًا رحمه الله: «ولْيعلمِ المتهاونُ بصلاته، المستخِفُّ بها، المسابق الإمام فيها، أنه لا صلاة له، وأنه إذا ذهبت صلاتُه ذهب دينُه، فعظِّموا الصلاة رحِمكم الله وتمسَّكوا بها، واتقوا الله فيها خاصة، وفي أموركم عامة»

(2)

.

13 الحرص على تسوية الصفوف؛ لأن ذلك من كمال الصلاة، وذلك بإكمال الصف الأول فالأول، وتسويتها، والتراص فيها.

عن جابر بن سَمُرة رضي الله عنه، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا تَصُفُّون كما تَصُف الملائكة عند ربها؟» فقلنا: يا رسول الله، وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال:«يتمون الصفوفَ الأولى، ويتراصون في الصف»

(3)

.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من وصل صفًّا وصله الله، ومن قطع صفًّا قطعه الله»

(4)

.

(1)

في: «رسالة الصلاة» ص (13) فقرة (15).

(2)

السابق ص (17) فقرة (21).

(3)

أخرجه مسلم في الصلاة (430)، وأبو داود في الصفوف (661)، والنسائي في الإمامة (816)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، والسنة فيها (992)، وأحمد 5/ 101 (20964).

(4)

أخرجه أبو داود في الصلاة (666)، والنسائي في الإمامة (819)، وأحمد 2/ 97 (5724)، والحاكم (1/ 213). قال الحاكم:«صحيح على شرط مسلم بن الحجاج ولم يخرجاه» . ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (672).

ص: 109

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا صليتم فأقيموا صفوفَكم»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «والله لتُقيمُنَّ صُفوفَكم أو ليُخالِفَنَّ الله بين قلوبكم»

(2)

.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ولا تختلفوا فتختلِفَ قلوبُكم»

(3)

.

ومن الملاحظ أن بعض المصلين وهو واقف أو جالس في الصف يبدو وكأنه خارج الصلاة؛ لعدم استشعاره ما ينبغي من تسوية الصفوف، والتراص فيها.

ويلاحَظ تساهلُ النساء أكثر في تسوية صفوفهن إذا حضرنَ المسجد.

ولهذا ينبغي للإمام تنبيه المصلين إلى تسوية الصفوف قبل التكبير، والدخول في الصلاة، بقوله:«تراصُّوا، سوُّوا صفوفكَم، سُدُّوا الخَلَلَ، حاذوا بين المناكب والأقدام، لا تختلفوا فتختلفَ قلوبُكم» ، ونحوَ ذلك من العبارات المأثورة، ويلتفت يمينًا وشمالًا، ويُجِيل نظره في الصفوف، ويحرص على تسويتها.

14 التفاهم التام بين الإمام والمأمومين، والتناصح بينهم، وهذا من أهم آداب صلاة الجماعة:

فعلى الإمام مراعاة الوقت المناسب لإقامة الصلاة من غير تبكيرٍ ولا تأخير، وليعلم أن الوقت لله، وليس له، وعليه إعطاء الصلاة حقها من الطمأنينة من غير استعجال مُخِل، ولا تثقيل مُمِل، وعليه أن يكون للجماعة كالطبيب، في مراعاة أحوالهم وظروفهم كلها، يرفُق بهم، ويسعى لتعليم وإرشاد جاهلهم، ومساعدة محتاجهم، وزيارة مريضهم، ويحمد الله عز وجل على أن بوأه هذه المكانةَ العظيمة، والمنزلة الرفيعة.

وعلى المأمومين في المقابل مراعاة حق الإمام واحترامه، والانتظار حتى يأتيَ،

(1)

أخرجه مسلم في الصلاة (404)، وأبو داود في الركوع والسجود (972)، والنسائي في الإمامة (1064)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (847)، وأحمد 4/ 393 (19504).

(2)

أخرجه أبو داود في الصفوف (662)، وأحمد 4/ 276 (18430) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه مسلم في الأقضية (432)، والنسائي في الإمامة (807)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (976)، وأحمد 4/ 122 (17102).

ص: 110

وحتى يقيمَ الصلاة، وعدم التدخل في ذلك، باستعجاله بالكلام، أو بالإشارة، أو بكثرة الالتفات يَمنةً ويَسرةً وإلى الخلف، والقيام قبل إقامته الصلاة، ونحو ذلك.

وعليهم تشجيعه والتعاون معه والنصح له، والحذر من تتبع زلاته، وسبه والكلام فيه، فالكمال عزيز ونادر، وكما قيل:

ومن ذا الذي تُرضى سَجاياهُ كلُّها

كَفَى المرءَ نُبلًا أن تُعَدَّ معايبُهْ

(1)

15 التعاون بين الإمام، والمؤذن، وجماعة المسجد، وأهل الحي على البر والتقوى.

قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]، وقال صلى الله عليه وسلم:«المؤمن للمؤمن كالبنيان يشُد بعضُه بعضًا»

(2)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«مثل المؤمنين في توادِّهِم وتراحُمِهم وتعاطُفِهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالسهرِ والحُمَّى»

(3)

.

ومن أهم ذلك وألزمه أن يحرص أهل الحي كلهم على الصلاة في مسجدهم جميعًا، ويحذروا كل الحذر من التفرق والتشتت؛ بسبب علل واهية.

ولن يتأتى هذا إلا إذا قام الإمام بدوره كما ينبغي، وكان هو أولَ من يحرص على جمع شمل الجماعة، بالتزامه بالوقت، وإعطاء الصلاة حقها، والرفق بهم، وكونه لهم كالطبيب- كما سبق-. والحذر كل الحذر أن يكون هو السببَ في تفرق جماعة المسجد وتشتتهم بتثاقله، وكثرة غيابه وتخلفه، أو عدم إعطائه الصلاةَ حقَّها من العناية والاهتمام، أو بسبب سوء خلقه، وعدم احترامه وتقديره لجماعة مسجده، وعدم مراعاته لهم، وبخاصة كبار السن، ممن يجب إجلالهم، وإكرامهم، وإنزالهم منازلهم، فإن تفرق بعض جماعات المساجد سببه غالبًا يرجع إلى الإمام.

(1)

البيت يُنسب لبشار بن بُرد، ولعلي بن الجهم، وليزيد المهلبي، انظر:«جمهرة الأنساب المولدة» صـ 389.

(2)

أخرجه البخاري في الصلاة (481)، ومسلم في البر (2585)، والنسائي في الزكاة (2560)، والترمذي في البر والصلة (1928)، وأحمد 4/ 404 (19624) من حديث أبي موسى الأشعري رضي لله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2586)، وأحمد 4/ 270 (18373) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

ص: 111

فإذا بذل الإمام جهده بالقيام بدوره ومسؤوليته، من الالتزام بالوقت، وعدم التخلف أو التأخر أو التقدم، والعناية بإقامة الصلاة، ونظافة المسجد، وحسن الخلق في التعامل مع الجماعة، فلا عليه ممن يشذ منهم، فإن رضا الناس غاية لا تُدرك، فمن الناس من لا يعجبه العجب، فتراه لعلل واهية يترك مسجد الحي الذي هو فيه وجماعته، ويركب سيارته يبحث عن مسجد آخر، في جميع الصلوات، فيشق على نفسه، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ لفرط حساسية في نفسه، أو عجلة، أو علل واهية.

ولا شك أن هذا ليس من المروءة، ولا من حسن الخلق والأدب في حق جيرانه وإمام مسجدهم ومؤذنه وجماعته، وأهل حيِّه، بل من التقصير في حقهم؛ لأن هذا يؤلمهم ويفت في عضدهم؛ لما فيه من السلبية التي تُخِل بما ينبغي أن يكون بينهم من التعارف والتآلف، والتناصح والتآزر، والتعاون على البر والتقوى، ويد الله على الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصيةَ.

قال الشيخ صالح السدلان رحمه الله

(1)

في كلامه عن حكمة مشروعية صلاة الجماعة: «والخلاصة أن أداء الصلاة في جماعة ينشئ الاتحاد والمحبة والإخاء بين المسلمين، ويجعل منهم كتلة متراصة، وينشئ فيهم المواساة والتراحم، وائتلاف القلوب، وكذلك يربيهم على النظام والانضباط، والمحافظة على الأوقات» .

‌الوقفة الثالثة:

الأئمة، والمؤذنون، والعاملون في بيوت الله؛ بين التكليف والتشريف

يسر الله عز وجل لي سنة 1425 هـ كتابة رسالة بهذا العنوان المذكور، وطباعتها سنة 1426 هـ، وقد قدم لها معالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد،

ص: 112

الشيخ: صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ، ومعالي عضو هيئة كبار العلماء، فضيلة الشيخ: صالح بن فوزان الفوزان، جزاهما الله خيرًا.

وقد رأيت من تمام الحفظ لهذه الرسالة، والإفادة منها أن أختم هذه الوقفات في صلاة الجماعة بخلاصة ما جاء فيها، وهي كما يلي:

‌الإمامة فضلها، ومسؤولياتها، وواجبات الإمام:

‌أولًا: فضل الإمامة:

اعلم أخي الإمام- بارك الله فيك- أن إمامة المسلمين بالصلاة في المساجد من أفضل الأعمال لمن وفقه الله عز وجل وقام بها خير قيام، ويكفي الإمامة شرفًا وفضلًا أنها وظيفة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ويكفي الأئمة شرفًا وفضلًا أنهم مع توفيق الله في عداد أئمة المتقين، ووظيفتهم مطلب عباد الرحمن في دعائهم {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].

ولهذا استدل الصحابة رضي الله عنهم على أحقية أبي بكر الصديق رضي الله عنه للخلافة بتولية الرسول صلى الله عليه وسلم له إمامة الناس في الصلاة في حياته صلى الله عليه وسلم، وقالوا لمن طعن في توليته الخلافة:«رضِينا لدنيانا مَن رضِيه الله ورسوله لديننا»

(1)

.

‌ثانيًا: الإمامة مسؤولية كبيرة وأمانة عظيمة:

قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].

والأمانة والأمانات عامة في كل ما تحمَّله الإنسان من الأمانات فيما بينه وبين الله،

(1)

أخرجه أبو بكر الخلال في «السنة» 1/ 273 (333)، والآجري في «الشريعة» 4/ 1721 (1192 - 1194)، واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» 7/ 1372 (2455)، وابن بطة في «الإبانة» 9/ 755 (216)، وأبو نعيم في «فضائل الخلفاء الأربعة وغيرهم» (188، 190) عن علي رضي الله عنه. وانظر: «مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لمحمد بن عبد الوهاب» ص (469).

ص: 113

وفيما بينه وبين الخلق.

ومن ذلك، بل من أهم ذلك القيام بما وُكل إليه من مسؤوليات الأمة كالإمامة والأذان، والقضاء، والتدريس، والعمل الوظيفي، وغير ذلك أتم قيام.

وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث: «الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمَن، اللهم أرشد الأئمة، واغفِر للمؤذنين»

(1)

.

والمعنى: أن الإمام ضامن، يتحمل عن المأمومين ما يحصل من نقصٍ في الصلاة، فعليه أن يقيم بهم الصلاة على الوجه الأتم الأكمل؛ ولهذا لو أن أحد المأمومين نسي واجبًا من واجبات الصلاة تحمله عنه الإمام.

والمؤذن مؤتمن على الوقت، يجب عليه أن يؤذن بعد دخول وقت الصلاة من غير تقديمٍ أو تأخير.

ودعا صلى الله عليه وسلم للأئمة بالرشد، وهو الاهتداء لطرق الخير عامة في أمور الدين والدنيا، وهو مِلاك الخير كله دنيا وأخرى. نسأل الله التوفيق.

ودعا صلى الله عليه وسلم بالمغفرة للمؤذنين؛ لما قد يحصل منهم من سهو في التقديم أو التأخير للأذان عن الوقت.

والمغفرة هي: ستر الذنب عن الخلق والتجاوز عن عقوبته؛ كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في المناجاة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُدنَى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل، حتى يضع عليه كَنَفَه

(2)

، فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي ربِّ أعرِف. قال: فإني قد سترتُها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم»

(3)

.

(1)

أخرجه أبو داود في الصلاة (517)، والترمذي في الصلاة (207)، وأحمد 2/ 232 (7169). وصححه الألباني في «الإرواء» (217)، و «صحيح أبي داود» (530).

(2)

أي: ستره، ورحمته.

(3)

أخرجه البخاري في المظالم والغصب (2441)، وفي التفسير (4658)، ومسلم في التوبة (2768)، وابن ماجه في المقدمة (183)، وأحمد 2/ 74 (5436).

ص: 114

‌ثالثًا: أهم الواجبات على الإمام:

من أهم وأعظم واجبات الإمام ما يلي:

أ. العناية التامة بإقامة الصلاة؛ بشروطها، وأركانها، وواجباتها، وسننها:

قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وغيرها من الآيات.

وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5].

وعن جَرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم»

(1)

.

وقد جاء في هذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة الأمر بإقامة الصلاة، دون الأمر بالصلاة؛ لأن الأمر بإقامة الصلاة معناه أن تؤدى كاملة، تامة الشروط، والأركان، والواجبات، والسنن، فتكون قائمة معتدلة على التمام.

ولهذا يجب على الإمام استكمال شروط الصلاة، وأركانها، وواجباتها، ومن ذلك:

1 الطهارة: فيحرص كل الحرص على إتمام طهارته غسلًا ووضوءًا، بدنًا وثوبًا، وهذا أمرٌ بيْنه وبين الله عز وجل، فليتقِ الله في ذلك.

2 دخول الوقت: فلا يصليها قبل دخول وقتها، ولا يؤخرها عن وقتها، ويحسن أن يصلِّيَها في أول الوقت؛ لأن الملاحظ أن الناس يرغبون في الصلاة مع الإمام الذي يبادر إلى الصلاة في أول وقتها؛ شريطة أن يكون بين الأذان والإقامة وقتٌ كافٍ للوضوء والحضور إلى المسجد، وذلك في حدود ربع أو ثلث ساعة، أما التراخي والتأخير أكثر من ذلك فقد يكون سببًا لتأخر الناس وتفرقهم، وعدم انضباطهم في الحضور إلى الصلاة.

ويُستثنى من هذا صلاة المغرب فتكون الإقامة بعد عشر دقائق بعد الأذان؛ لأن السنة وردت بتعجيلها، ويحسُن أيضًا أن يزيد في الانتظار في صلاة الفجر، بحيث يكون

(1)

سبق تخريجه.

ص: 115

بين الأذان والإقامة 25 دقيقة؛ مراعاة لقيام الناس من النوم، وينبغي أن يعلم الإمام أن تحديد ما بين الأذان والإقامة قِصرًا وطولًا ليس من حقه هو ولا من حق المؤذن، ولا الجماعة، بل هو حق لله تعالى، يجب التوسط فيه، بحيث يتهيأ الناس ويتمكنون من الوضوء، والحضور إلى المسجد، فلا يجوز له أن يبادر بإقامة الصلاة، فيشُق على الناس، ويفوت عليهم الصلاة، كما لا يجوز له أن يتأخر، فيشق على الناس، ويربطهم عن مصالحهم، وينفرهم، وهو مسؤول أمام الله عز وجل في الحالين، وحيث إن إدارة المسجد هي الجهة المسؤولة عن المساجد، فيجب على الأئمة والمؤذنين الالتزام بما تحدده بهذا الخصوص؛ جمعًا للكلمة، ودرءًا للاختلاف والتفرق.

3 الطمأنينة: يجب على الإمام عندما يدخل في الصلاة أن يحرص على الطمأنينة، وإعطاء الأركان والواجبات حقها، وأدائها على الوجه الشرعي، من غير إخلال بها بنقص أو زيادة، ويُستحب أن يحرص على استكمال سنن الصلاة؛ لأن ذلك من تمامها.

والمطلوب الاعتدال في ذلك كله، فلا ينقرها نقر الغراب، ولا يطيل فيها إطالة تخرج عن الحد المطلوب شرعًا، وخير الأمور الوسط، وديننا الإسلامي في كل أحكامه وسط بين الغالي والجافي.

وكان من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم مراعاة حال المأمومين، وكان يقول صلى الله عليه وسلم:«إذا صلى أحدكم للناس فليخفِّفْ؛ فإن في الناس الضعيفَ والسقيم وذا الحاجة»

(1)

.

والأولى أن يقرأ الإمام في الفجر من طِوال المفصَّل، وفي المغرب من قِصاره، وفي الظهر والعصر والعشاء من أوساطه.

وفي التراويح والقيام في شهر رمضان المبارك ينبغي أن تحرص أخي الإمام- واعلم

(1)

أخرجه مالك في صلاة الجماعة (1/ 134)، والبخاري في الأذان (703)، ومسلم في الصلاة (467)، وأبو داود في استفتاح الصلاة (794)، والنسائي في الإمامة (823)، والترمذي في (236) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في العلم (90)، ومسلم في الموضع السابق (466)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (984) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.

ص: 116

أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يداوم على قيام الليل، وكان لا يزيد في رمضان ولا في غيره عن إحدى عشرة ركعة

(1)

.

وكان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا ليله، وأيقظ أهله، وجدَّ، وشدَّ المِئزَرَ

(2)

.

وكان يقول: «أحب الصلاة إلى الله صلاةُ داودَ عليه السلام؛ كان ينام نصفَ الليلِ، ويقوم ثُلُثَه، وينام سُدُسَه»

(3)

.

وعن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال: «أمر عمر بن الخطاب أُبي بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة. قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمِئِينَ، حتى كنا نعتمد على العِصِي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر

(4)

»

(5)

.

وفي رواية: «أن تميم بن أوس الداري وأُبي بن كعب صلَّيَا بالناس إحدى وعشرين ركعة»

(6)

.

وكان سلف هذه الأمة إلى عهدٍ قريبٍ يصلون عشرين ركعة، ويوترون بثلاث ركعات، فإذا دخلت العشر الأواخر قسموا القيام إلى عشر أول الليل صلاة التراويح،

(1)

أخرجه البخاري في التهجد (1147)، ومسلم في صلاة المسافرين (738) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر (2024)، ومسلم في الاعتكاف (1174)، وأبو داود في قيام الليل (1376)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1639)، وابن ماجه في الصيام (1768)، وأحمد 6/ 40 (24131) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(3)

أخرجه البخاري في الجمعة (1131)، ومسلم في الصيام (1159)، وأبو داود في الصوم (2448)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1630)، وابن ماجه في الصيام (1712) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(4)

أي: قرب الفجر.

(5)

أخرجه مالك في الصلاة في رمضان (1/ 115)، وابن أبي شيبة في «المصنف» 5/ 220 (7753)، والبيهقي (2/ 496). وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» (1302).

(6)

أخرجها عبد الرزاق في «المصنف» 4/ 260 (7730) بسند صحيح.

ص: 117

وعشر في آخره صلاة القيام، يطيلون فيها القراءة والصلاة.

ويؤخذ من هذا كله: فضل الصلاة بإحدى عشرة ركعة، وجواز الزيادة إلى ثلاث وعشرين ركعة، أو أكثر، كما يؤخذ من ذلك: أنه ينبغي زيادة الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان؛ كما قالت عائشة: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره»

(1)

.

كما يؤخذ من ذلك: أن الأَولى لمن اقتصر على صلاة إحدى عشرة ركعة أن يحسنها ويطيلها؛ كما قالت عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا، فلا تسأل عن حُسنهنَّ وطولهن، ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثًا»

(2)

.

كما ينبغي أن تحرص أخي الإمام- وفقك الله- في دعاء القنوت وختم القرآن على الأخذ بالأدعية الواردة في الكتاب والسنة، والمأثورة عن سلف الأمة، وأن تحذر من الاعتداء في الدعاء، والإطالة فيه، وتعمُّد السجع فيه، ورفع الصوت به، وتحذر الجماعة مع رفع الصوت بالتأمين على الدعاء، فإن ذلك كله خلاف السنة، وما عند الله لا يُنال بمخالفة السنة. وقد قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110].

وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه لما رفعوا أصواتهم بالدعاء: «اربَعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عُنق راحلته»

(3)

.

واعلم أخي الإمام- وفقك الله- أن تطبيق السنة مطلوب في الفرض والنفل، وشرط

(1)

أخرجه مسلم في الاعتكاف (1175)، والترمذي في الصوم (796)، وابن ماجه في الصيام (1767)، وأحمد 6/ 255 (26188).

(2)

أخرجه مالك في صلاة الليل (1/ 120)، والبخاري في التهجد (1127)، وفي صلاة التراويح (2013)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (738)، وأبو داود في الصلاة (1341)، والنسائي في قيام الليل (1697)، والترمذي في الصلاة (439)، وأحمد 6/ 36 (24073).

(3)

سيأتي تخريجه.

ص: 118

في صحتهما وقبولهما، والسنة هي الوسط- ولله الحمد- فإن أخذت بها، ووفيت للمأمومين حقهم، أحبك الله وأحبك الناس، وكان لك- إن شاء الله- بقدر أجور من يصلون خلفك.

ولا يضعف عزيمتك، ويفت في عضدك قلة المصلين خلفك، فأجرك تام بإذن الله تعالى كثُروا أم قلوا، بل قد يكون الأجر أكثر إذا قلوا؛ لأن ذلك أعظم في الاحتساب والإخلاص، ومجاهدة النفس.

ولا تغترَّ بهم إن كثُروا، واحرص على الإخلاص؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم:«إن أكثر منافقي أمتي قُرَّاؤها»

(1)

.

واحذر من مراعاة رغباتهم ولو كان ذلك على خلاف السنة؛ كالتخفيف في الصلاة والقراءة، والاعتداء في الدعاء، ونحو ذلك. وتذكر قوله صلى الله عليه وسلم:«الإمام ضامن»

(2)

.

واعلم أن من يصلون خلفك- إذا لم تعطِ الصلاة حقها- هم غرماؤك يوم القيامة، لهم الغُنم وعليك الغُرم؛ فاحرص- هداك الله ووفقك- على الأخذ بالسنة في الصلاة، والقراءة والدعاء، واسأل عما خفِي عليك منها، فذلك أحرى بالقبول، وأبشر بالخير إن شاء الله تعالى.

ب. يجب على الإمام الالتزام بالإمامة، وعدم التخلف إلا في حالات الضرورة، وما لا بد منه.

وليعلم الإمام أن الإمامة- كما سبق- مسؤولية عظيمة سيحاسَب عنها غدًا أمام الله عز وجل، وليعلم أن منهجه وطريقته في الالتزام بالإمامة أو عدمه ينعكس على جماعة المسجد

(1)

أخرجه أحمد 2/ 175 (6633)، والبخاري في «خلق أفعال العباد» ص (118)، وابن أبي شيبة في «المصنف» 19/ 71 (35476)، والطبراني في «الكبير» 13/ 17 (25) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه. قال الهيثمي في «المجمع» (6/ 230):«رواه أحمد والطبراني ورجاله ثقات، وكذلك رجال أحد إسنادي أحمد ثقات» . وأخرجه أحمد 4/ 151 (17367)، والبخاري في «خلق أفعال العباد» ص (118)، والطبراني في «الكبير» 17/ 305 (841) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. قال الهيثمي في «المجمع» (6/ 229):«رواه أحمد والطبراني، وأحد أسانيد أحمد ثقات أثبات» . وصححه أحمد شاكر في تحقيقه على «المسند» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (750).

(2)

سبق تخريجه.

ص: 119

سلبًا وإيجابًا، فإنِ التزم وداوم وحرص على إقامة الصلاة في وقتها، وكما شرع الله عز وجل أحبه الجماعة وانضبطوا في حضورهم، وأصبح المسجد حيًّا بسبب حياة الإمام القلبية، وهو مأجور مُثاب على هذا المنهج، وله- إن شاء الله- مثل أجور من تبِعه ومن يؤمهم من المصلين، فبشراه بالخير، وهو من أئمة المتقين بإذن الله عز وجل.

وأما إن كان الإمام يَكثُر تخلفه، فيتخلف الأيام، وربما الأسابيع، وربما لا يمر يوم إلا ويتخلف فيه عن صلاة وقت أو وقتين أو أكثر، فإن ذلك سيعود سلبًا على جماعته، في حضورهم إلى الصلاة، فتجدهم غير منضبطين، بل مضطربين ومختلفين بسبب ذلك؛ منهم من تفوته الصلاة كلية، ومنهم من لا يدرك منها إلا بعضها، ومنهم من يبحث عن مسجد آخر، وذلك بسبب عدم انضباط الإمام، وهو بهذا سيبوء بإثمه وإثمهم؛ لأنه هو السبب في ذلك، وتجد مسجده ميتًا بسبب ذلك.

وقد يتعلل بعض الأئمة بأنه ذاهب للعمرة، أو لصلاة جنازة، أو لاجتماع يقصد منه خيرًا ونحو ذلك.

وليت هؤلاء وأمثالهم تأملوا قول ابن القيم رحمه الله: «إن الشيطان يأمر بسبعين بابًا من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوت بها خيرًا أعظم من تلك السبعين بابًا وأجلَّ وأفضل»

(1)

.

فتأمل هذا يا أخي الكريم، وقل لي بربك: أيهما أحرى بعظيم الأجر، إمام ترك جماعته لأجل الأعمال المذكورة سواء أناب غيره أم لا، أو إمام احتسب وقال: صلاتي بالجماعة أهم وأولى وربط نفسه لأجل ذلك؟

لا شك أن الأخير أولى وأحرى بالأجر العظيم؛ لأجل مرابطته في عمله الواجب، والذي يتقاضى عليه رزقًا من بيت المال، وقد تحمل مسؤوليته، فأدى أمانته، ووفَّي لجماعته بحقهم عليه، وأحسن فيهم وأعانهم على أنفسهم، وكان عضوًا نافعًا في الأمة، وهو حري- بإذن الله عز وجل، بسبب مرابطته في إمامته، واهتمامه بمسؤوليته وخوفه أن يؤتى

(1)

انظر: «التفسير القيم» (ص 613).

ص: 120

الإسلام من قِبله- حري بأن يضاعف الله له الأجور، ويعطيه أجور تلك الأعمال التي لم يتمكن منها بسبب ما هو أوجب، وأهم من مصالح الأمة.

فإذا احتسب الإمام وقال: أنا أعرف أن العمرة فضلها عظيم- وبخاصة في رمضان- لكنني أُشفق على جماعة مسجدي أن يتفرقوا، ويؤثر فيهم غيابي عنهم، فإن الله قد يعطيه ثوابَ أكثر من عمرة؛ فإن من ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه، ومن لم يتمكن من القيام ببعض السنن لعذر، إما لانشغاله بما هو واجب، أو بما هو أهم، أو لعدم القدرة البدنية أو المالية على ذلك، فإن له أجر ذلك العمل بفضل الله تعالى.

فيا من تريد عظيم الأجر والثواب من الله، وتريد أن يعطيك الله أجر العمرة وغيرها من أعمال البر مما لا يمكنك القيام به؛ لانشغالك بإمامة المسلمين في أعظم فريضة فرضها الله عليهم، وهي الصلاة، أحسِن النية والقصد، واجتهد في مسؤوليتك، يعطك الله أجر ما لم تتمكن منه بسبب هذه المسؤولية.

واعلم أخي أنه كما يقال: «الأحدب يعرف كيف ينام» ، فمن الممكن أن تنتهز فرصةً قصيرةً أيامًا قليلةً تنيب فيها شخصًا تكون فيه الكفاية، يؤم الناس، تؤدي فيها مناسك العمرة، فأجرك على هذا في عمرتك وبقائك في مسجدك يفوق أضعاف أضعاف أجور من حكَّموا أهواءهم، وأكثروا من التخلف عن الإمامة بهذه التعليلات والحجج الواهية.

وعلى الإمام الناصح لنفسه ولجماعته، الحريص على أداء دوره في الأمة أن يجعل في حساباته أن أوجب الواجبات عليه ما تحمله من أمر المسلمين، وأن يجتهد للقيام بذلك على الوجه المطلوب؛ إبراءً للذمة، ونصحًا للأمة، وطلبًا للمثوبة والأجر من الله، وليبشر بالخير- إن شاء الله- وليحذر أن يحكِّم هواه ورغباته، ويفتي نفسه بأنه ما دام تخلفه عن الإمامة لعمل خيري فلا بأس بذلك.

وهل ضاعت كثير من مصالح الأمة إلا بسبب مثل هذه التبريرات والتعليلات الواهية، وذلك على مستوى جميع العاملين وأرباب المسؤوليات في الأمة. والله المستعان.

ص: 121

ج. أمور يجب على الإمام مراعاتها:

الإمام هو الحاكم الإداري في المسجد، فعليه مراعاة ما يلي:

1 التعاون والتفاهم مع المؤذن، والتناصح فيما بينهما، وأن يكونا أخوين متحابين، وعلى كل منهما نصح الآخر إذا قصَّر، وإرشاده بطريقة مهذبة، وبالتي هي أحسن، مع تحاشي الاختلاف والعداوة بينهما؛ فإن ذلك من الشيطان والنفس الأمارة بالسوء، ومن ثَم ذلك يعود ذلك بالضرر عليهما وعلى المسجد وعلى الجماعة، وهو فساد ذات البَيْن التي تحلِق الدين، وعلى الإمام في هذا مسؤولية أكبر؛ لأنه هو الراعي الأول في المسجد، فلا يجوز له أن يترك المؤذن يتقدم في الأذان أو يتأخر عن الوقت أو يتخلف عن الأذان، بل يرشده ويناصحه ويتابعه.

2 متابعة الفرَّاش والخادم في المسجد، وشكره، وتقديره، والدعاء له إذا قام بعمله على الوجه المطلوب من نظافة المسجد وفرشه ودورات المياه، وجميع ملحَقات المسجد، ومحاسبته إذا قصر ونصحه وإرشاده، وأن يبين له أنه يجب عليه القيام بعمله أتم قيام، ولا يجوز له أن يتساهل في ذلك كما هو حال الكثيرين.

3 الحرص على جمع شمل الجماعة بما أشرت إليه سابقًا من الصلاة في أول الوقت، والعناية بإقامة الصلاة على الوجه المشروع، والتوسط في ذلك دون التقصير المخل، أو التطويل الممل، وأن يحرص على مناصحة المتخلفين عن الصلاة والمتأخرين في المجيء إليها، وإرشادهم، وتوجيههم بالتي هي أحسن، وليحذر من التسرع معهم، والغلظة عليهم بما ينفرهم عنه، فقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

وقال عز وجل لموسى وهارون عليهما السلام لما أرسلهما إلى فرعون الذي ادعى الربوبية والألوهية قال: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44].

فعليه زيارة المتخلفين عن الصلاة والجلوس معهم، ودعوتهم لمنزله والتقرب إلى قلوبهم ومساعدة محتاجهم، ومن ثم نصحهم وإرشادهم بلين ورفق، ولا ييأس من

ص: 122

روح الله وهدايتهم.

4 العناية بمظهر المسجد، وتهويته وتبريده وتدفئته، وإعداده الإعداد اللائق؛ ليحصل للمصلين الاطمئنان في الصلاة.

5 العناية بدورات المياه ونظافتها ومتابعة الفرَّاش في هذا.

وإن مما يُؤسَف له أن تقع عين الداخل كثيرًا من دورات المساجد على ما تشمئز منه النفس من الأوساخ والقاذورات، مما يُوجِب توعية الناس في هذا، وتعاون العاملين في المسجد وجماعته للقضاء على هذه الظاهرة وآثارها، فالعناية بها من العناية ببيوت الله تعالى المساجد.

6 كما ينبغي للإمام تذكير الجماعة، ووعظهم، وتعليمهم ما يحتاجون إليه في العقيدة، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، والتفسير، والحديث، وغير ذلك، وتشجيع طلبة العلم لإلقاء الدروس والمحاضرات في مسجده، والترتيب معهم في ذلك، والتعاون مع الجماعة على البر والتقوى، وتجنيب المسجد الخلافات، ورفع الأصوات، ولعب الصبيان، والتشويش على المصلين، وغير ذلك.

وعودًا على بدء أقول: أيها الإمام- بارك الله فيك- احمد الله أن بوَّأك هذه المنزلة العظيمة، واقدُر لها قدرها، واعلم أنك على ثغرٍ عظيم من ثغور الإسلام، فاللهَ اللهَ أن يؤتى الإسلام من قِبلك؛ فأنت أشبه بالحاكم الإداري، تحت مسؤوليتك المسجد وتهيئته، والمؤذن والجماعة والفرَّاش، ومياه الشرب، ودورات المياه.

فأحط هذه المسؤوليات برعايتك وعنايتك، وأحسن التعامل مع جميع العاملين في المسجد، ومع الجماعة، وعوِّدهم ونفسك على القول والعمل، وكن كالطبيب الحاذق يتعرف بدقة على موضع الداء، ويصف له الدواء، ولا تتعجل جني ثمرة قبل أوانها، وليكن صدرك رحبًا في التعامل مع جميع هذه الأطراف، وخذهم بالحكمة والتوجيه والإرشاد بالتي هي أحسن، وحاول أن تسدد ما حصل منهم من نقص بقولك وفعلك وأخلاقك ومالك، واجعل تعاملك مع الله عز وجل في كل ذلك، تفز برضا الله عز وجل ثم برضا

ص: 123

الناس، وتكون لك العقبى في الأمور كلها، فالعاقبة للمتقين.

ولخطباء الجمعة خاصةً أقول:

احرص- أخي الخطيب وفقك الله- على ما يلي:

أولًا: من حيث الإطار العام للخطبة ينبغي مراعاة الأمور التالية:

1 الإخلاص وحسن النية، والنصح لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:«الدين النصيحة» ، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«ثلاث لا يُغَل عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم تحيط مِن ورائِهم»

(2)

.

وعن جَرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم»

(3)

.

2 قِصَرُ الخطبة، وطول الصلاة؛ اتباعًا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«إن طول صلاة الرجل وقِصر خطبته مَئِنَّة من فِقهه»

(4)

.

3 أخذ مادة الخطبة من المصادر الأصلية؛ الكتاب والسنة، وكتب التفسير، وشروح السنة، وكتب المحققين من علماء الأمة.

4 وفاء الخطبة بالمقصود منها، وهو: تعليم الناس أمور دينهم، وإرشادهم، وتوجيههم للعلم النافع، والعمل الصالح، والبر والخير، والتعاون على ذلك بأسلوب

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان (55)، وأبو داود في الأدب (4944)، والنسائي في البيعة (4197، 4198)، وأحمد 4/ 102 (16940) من حديث تميم الداري رضي الله عنه. وأخرجه النسائي في الموضع السابق (4199، 4200)، والترمذي في البر والصلة (1926)، وأحمد 2/ 297 (7954) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الترمذي في العلم (2658) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في المناسك (3056)، والدارمي في المقدمة 1/ 45 (236)، وأحمد 4/ 80 (16738) من حديث جُبير بن مُطعِم عن أبيه رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في المقدمة (230) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. وأخرجه أحمد 3/ 225 (13350) من حديث أنس رضي الله عنه. وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (6766).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

أخرجه مسلم في الجمعة (869)، وأحمد 4/ 263 (18317) من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما.

ص: 124

يدخل إلى سُويداء القلوب؛ فإن كثيرًا من الناس يخرج من الخطبة وكأن المراد بها غيرُه!

5 تحري الاعتدال في المنهج، والسداد في القول، والحرص على ما فيه تأليف قلوب المسلمين، وجمع كلمتهم على الحق، وتحذيرهم من أسباب الفرقة والاختلاف وفساد ذات البَين، فهي الحالقة؛ قال صلى الله عليه وسلم:«لا أقول: تحلِق الشعر، ولكن تحلق الدِّين»

(1)

.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأي من أُناسٍ ما لا ينبغي وهو يعرفهم ويعرف ما حصل منهم يقول: «ما بال أقوامٍ يقولون كذا أو يفعلون كذا»

(2)

.

6 التركيز في جميع الخطب على الجانب التربوي، وتربية الناس على القول والعمل معًا، فعلًا للواجبات، وبعدًا عن المنهيات؛ أداءً لحقوق الله، وحقوق الخلق، والتأكيد على ذلك على الدوام، فإن أعظم مصيبة أصيب بها كثير من المسلمين اليوم عدم تحقيق القول بالعمل، بل كثرة القول بلا عمل، وقد قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3].

فالتلاوم والتباكي على واقع الأمة، وكثرة القيل والقال، ونقد الآخرين مع تفريط كثيرٍ منا في حقوق الله، وحقوق الخلق، وفيما توليناه من مسؤوليات، كل ذلك لا يجدي عن أهله شيئًا!

ثانيًا: من حيث موضوعات الخطب ينبغي مراعاة ما يلي:

(1)

أخرجه أبو داود في الأدب (4919)، والترمذي في القيامة (2509)، وأحمد 6/ 444 (27508)، والبخاري في «الأدب المفرد» (391) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال الترمذي:«حسن صحيح» . وصححه الألباني في «غاية المرام» (414). لكن ليس فيه: «لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» . وهذا اللفظ أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (260) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الألباني في تحقيقه «الأدب المفرد» : «حسن لغيره» . وأخرجه الترمذي في القيامة (2510)، وأحمد 1/ 167 (1430) من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه. قال الألباني في «الإرواء» (3/ 238):«رجاله ثقات غير مولى الزبير فلم أعرفه، وأشار ابن أبى حاتم إلى إعلاله به، نقلًا عن أبي زرعة» .

(2)

أخرجه البخاري في النكاح (5063)، ومسلم في النكاح (1401)، والنسائي في النكاح (3217) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود في الأدب (4788) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 125

1 ترسيخ العقيدة الإسلامية الصحيحة في نفوس الناس؛ ببيان معنى الشهادتين والتوحيد، ووجوب إخلاص العبادة لله عز وجل، والتحذير من الشرك والبدع والخرافات.

2 بيان وشرح أركان الإيمان الستة، ووجوب الإيمان بها وبكل ما أخبر الله به ورسوله من المغيبات.

3 بيان وشرح أركان الإسلام الخمسة، مع العناية- بعد الشهادتين- بالصلاة، وأحكامها، وفضلها، وصفتها؛ كما جاءت في الأحاديث الصحيحة، وكما في كتب المحققين؛ كصفة الصلاة لابن باز، وابن عثيمين، والألباني رحمهم الله، وبيان أحكام صلاة الجمعة، وفضلها، وفضل الاغتسال، والتبكير لها، والسواك، والطيب، والدنو من الإمام، والتحذير من تخطي رقاب الناس، وغير ذلك.

4 بيان كل ما يجب على المسلم من حقوق الله عز وجل وحقوق الخلق، كحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وحق ولاة الأمر في الولاية الكبرى والولايات الصغرى، وحق الوالدين، والأولاد، والأزواج، وسائر الأقارب، والجيران، وحقوق المسلمين.

5 التأكيد على تعاهد القلوب، ومعالجة أمراضها، والحرص على سلامتها من النفاق، والغل، والحسد، والحقد، والعداوة، والبغضاء، وسوء الظن، وغير ذلك من أمراض القلوب.

6 بيان كل ما يحرم على المسلم؛ كالقتل العمد، والربا، وأكل مال اليتيم، والظلم، وشهادة الزور، والفواحش، وشرب الخمور، والغيبة، والنميمة، والرشوة، والغش في المعاملات، والنظر المحرم، والسماع المحرم، وغير ذلك. والتحذير من ذلك، وبيان آثاره السيئة.

7 العناية ببيان الأحكام التي يجهلها كثيرٌ من الناس؛ كبعض أحكام الطهارة، والمسح على الخفَّين، وبعض أحكام الصلاة، وأحكام البيع والشراء وسائر المعاملات، وأحكام الأوقاف والوصايا، وغير ذلك.

8 تفسير بعض قِصار السور، وبعض الآيات المشتملة على الأحكام والمواعظ،

ص: 126

وشرح بعض الأحاديث الجامعة، وبيان ما فيها من الحكم والأحكام، والتوجيهات والآداب، وربط الناس بالقرآن والسنة.

9 إبراز الصور المشرقة في سيرة المصطفي صلى الله عليه وسلم، وسير خلفائه وأصحابه رضي الله عنهم، وسلف علماء الأمة وأبطالها رحمهم الله، وغيرهم ممن سار على نهجهم.

10 شحذ الهمم، وتحريك الضمائر والقلوب إلى المسارعة والمسابقة إلى الصلاة في الصفوف الأولى وميامن الصفوف، إلى بر الوالدين، إلى صلة الأرحام، إلى الإنفاق في سبيل الله، إلى الدعوة إلى الله، إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة، إلى إفشاء السلام، إلى العفو والتسامح ولين الجانب، إلى الإحسان إلى الآخرين، إلى محبة الخير للمسلمين، إلى احترام العالم والكبير، إلى العطف على الصغير، إلى رحمة المساكين، إلى أعمال البر والخير كلها، إلى ما فيه السعادة في الدنيا والآخرة، والعزة والرفعة؛ مع استجلاء معاني كلام الله عز وجل:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الآية: 133 من آل عمران وما بعدها]، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21]، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10، 11]، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].

إلى غير ذلك من الجوانب والأساليب التي لا تخفى على الخطيب اللبيب، والتي قد يكون بعضها أهم من بعض ما ذُكر؛ إذ المقصود فيما ذكر التمثيل لا الحصر.

وأنت أخي المؤذن:

احمد الله تعالى على أن بوأك هذه المنزلة، ومنحك إياها، واعلم أن مسؤوليتك عظيمة فأعطها حقها؛ لتسلم من تبعتها، وتنال الأجر الموعود عليها بإذن الله عز وجل؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم، كما تقدم في الحديث:«المؤذن مؤتمَن»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا»

(2)

، وقال صلى الله عليه وسلم: «المؤذنون

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه مالك في الصلاة (1/ 68)، والبخاري في الأذان (615)، ومسلم في الصلاة (437)، وأبو داود في الأدب (5245)، والنسائي في المواقيت (540)، وفي الأذان (671)، والترمذي في الصلاة (225)، وأحمد 2/ 236 (7226) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 127

أطول الناس أعناقًا يوم القيامة»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يسمع مدى صوت المؤذن جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلا شهِد له يوم القيامة»

(2)

.

وقد رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «لو كنت أُطِيق الأذان مع الخلافة لأذَّنتُ»

(3)

.

وقد ذهب طائفة من أهل العلم والمحققين إلى أن الأذان أفضل من الإمامة، واختار هذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(4)

.

فاحمَدِ الله عز وجل أخي المؤذن، وارفع صوتك بالأذان، وارفع رأسك بطاعة الله عز وجل، وكنْ أمينًا على الأذان في وقته، وأحسِن النية والقصد، وأبشر بالخير إن شاء الله تعالى.

وأنت أخي الفرَّاش والمستخدم في المسجد:

اعلم أن عملك من أشرف الأعمال وأفضلها، كيف لا؟ وهو خدمة بيوت الله وتنظيفها، فقم بهذا العمل على الوجه المطلوب، وأبشر بالخير إن شاء الله، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا أسودَ أوِ امرأةً سوداءَ كان يَقُمُّ المسجد فمات، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: مات. قال: «أفلا كنتم آذنتُموني به، دُلوني على قبره- أو على قبرها» فأتى قبرها فصلى عليه

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في الصلاة (387)، وابن ماجه في فضل الأذان (725)، وأحمد 4/ 95 (16861) من حديث معاوية رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مالك في الصلاة (1/ 69)، والبخاري في الأذان (609)، والنسائي في الأذان (644)، وابن ماجه في الأذان والسنة فيه (723)، وأحمد 3/ 35 (11305) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(3)

أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» 1/ 486 (1869)، وابن أبي شيبة في «المصنف» 2/ 376 (2360)، والبيهقي في الصلاة (1/ 433)، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه، انظر:«فتح الباري» 2/ 77، و «التلخيص الحبير» 1/ 223.

(4)

انظر: «الاختيارات الفقهية» صـ 36.

(5)

أخرجه البخاري في الصلاة (458)، وفي الجنائز (1337)، ومسلم في الجنائز (956)، وأبو داود في (الجنائز 3203)، وابن ماجه في الجنائز (1527)، وأحمد 2/ 353 (8634).

ص: 128

وهذا بلا شك يدل على فضل تنظيف المساجد والقائمين على ذلك.

واحذر أخي الكريم من التساهل في هذه المسؤولية، وإن كنت لستَ قادرًا على القيام بها، ومضطرًّا أن تكلف بها غيرك ممن قد يقوم بها وقد لا يقوم، فاتركها لغيرك، اللهم إلا أن تكون الجهة التي كلفتك أذنت بذلك، واعلم أنك مسؤول عنها أمام الله يوم القيامة، ولا يغرك ما عليه كثير من الناس، فإن الناقد بصير، والحساب عسير إلا على مَن يسره الله تعالي عليه.

ص: 129

‌وقفتان في: تقوى الله تعالى:

قال الله تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131]

‌الوقفة الأولى في:

مكانة تقوى الله تعالى، وفضلها

تقوى الله عز وجل هي أعظم وصية أوصى الله عز وجل بها الأولين والآخرين، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].

وبها أرسل عز وجل جميع رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام ليأمروا بها أقوامهم، وأمرهم بها، فقال عز وجل لأفضلهم وخاتمهم:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب: 1].

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له»

(1)

.

ذكرها الله عز وجل في القرآن في نحو مئتين وخمسين موضعًا، أمرًا بها، وحضًّا عليها، وإنكارًا على من تركها، وامتداحًا لأهلها بأفضل وأعظم الصفات، ووعدًا وبشارة لهم، وبيانًا وتفضيلًا لما لهم عند الله من الكرامة، وغير ذلك.

ورتب الله عز وجل عليها التوفيق والعزة والسعادة، وصلاح أمر الدين والدنيا والآخرة، والفوز والفلاح، والنجاة والسلامة من الفتن ومن جميع الشرور في الدنيا والآخرة، وجعلها عز وجل خير الزاد، وخير لباس، وسببًا لكرامة المرء عند الله تعالى، وجعلها في آن واحد سببًا للإيمان والأعمال الصالحة، وثمرة للإيمان والأعمال الصالحة.

جعلها الله عز وجل سببًا للسمع والطاعة، والتوكل على الله، والأخذ بما أتى به

(1)

سيأتي تخريجه.

ص: 130

الرسول صلى الله عليه وسلم، والانتهاء عما نهى عنه، والتقرب إلى الله تعالى، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام، والقول السديد، والوفاء بالعهود، والتأمل في آيات الله، والتفريق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والحلال والحرام، والخير والشر، وغير ذلك، ومن ثم الموت على الإسلام.

ورتب عز وجل عليها ولايته للمتقين، ومحبته إياهم، ومعيته الخاصة لهم، ومغفرته لهم، ورضوانه عنهم، وتكفير سيئاتهم، وقبول أعمالهم.

وجعلها عز وجل من أخص صفات عباده المؤمنين، المهتدين بالقرآن، المتعظين المتذكرين به، السامعين المطيعين الأبرار، المنفقين في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، المحسنين، المستغفرين، الصابرين، المصابرين، المرابطين، الصادقين، المصدَّقين، المتصدقين، الذاكرين، الشاكرين، المفلحين، الفائزين، الذين جمعوا بين عبادة الله تعالى والإخلاص له، والتوكل عليه، وخشيته وخوفه ورجائه، والاستعداد للقائه، إلى غير ذلك من جليل الصفات، وجميل الخصال.

وجعلها سببًا للفلاح والعقبى الحسنة، والفوز في الدار الآخرة بالجنة، وما فيها من الأجر الكبير، والثواب العظيم، ومقعد الصدق، والمقام الأمين، والنعيم المقيم، والغرف العالية، والظلال الوارفة، والأنهار والعيون الجارية، والمفاوز والحدائق والأعناب، والمشتهيات من الفواكه والمآكل والمشارب، والكواعب الأتراب، والكأس الدهاق، وغير ذلك من أنواع النعيم.

وجعلها سببًا للوقاية والنجاة من عقاب الله الشديد، ومن القيامة وأهوالها العظيمة، ومن النار، وما فيها من الأغلال والأنكال، والجحيم، والعذاب المقيم، وغير ذلك.

ص: 131

‌الوقفة الثانية في:

حقيقة تقوى الله تعالى ومعناها، ومضمونها ومقتضاها

أ- حقيقة تقوى الله تعالى ومعناها:

عرف السلف رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أهل العلم تقوى الله تعالى بتعاريف فيها بيان حقيقتها، ومعناها، وتدل على سعة مضمونها ومقتضاها.

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «حق تقاته: أن يُطاعَ فلا يُعصَى، وأن يُشكَرَ فلا يُكفَر، وأن يُذكَر فلا ينسى»

(1)

.

وعن علي رضي الله عنه أنه قال: «التقوى: الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل»

(2)

.

وعن طَلْقِ بن حَبيب رحمه الله قال: «تقوى الله: أن تعمل بطاعة الله، على نورٍ من الله، ترجو ثوابَ الله، وأن تترك معصيةَ الله، على نورٍ من الله، تخاف عقاب الله»

(3)

.

وعرَّفها بعض أهل العلم بعدهم بقوله: «أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقايةً؛ بفعل ما أَمَرَ الله به، وترك ما نَهَى الله عنه» .

(1)

أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 1/ 129 (441)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» 19/ 170 (35695)، والطبري في «جامع البيان» (5/ 637)، وابن المنذر في «تفسيره» 1/ 317 (768)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» 3/ 722 (3908)، والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» بتحقيقنا (1/ 454) الأثر (21)، والطبراني في «الكبير» 9/ 92 (8501، 8502)، والحاكم (2/ 294). ورُوي مرفوعًا. قال ابن كثير في «تفسيره» (2/ 71، 72): «وهذا إسناد صحيح موقوف» .

(2)

انظر: «سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد» (1/ 421).

(3)

أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (1343)، وأبو نعيم في الحلية (3/ 64)، وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» الأثر 15/ 599، 19/ 357 (30993، 36308)، وفي «كتاب الإيمان» (99). وابن أبي حاتم في «تفسيره» 1/ 98 (453). وانظر:«مجموع الفتاوى» (7/ 63)، (20/ 132).

ص: 132

ب- مضمون تقوى الله تعالى ومقتضاها:

في التعاريف السابقة خلاصة ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة من حقيقة تقوى الله عز وجل ومعناها، وسَعة مضمونها ومقتضاها، وأنها تشمل الدين كله، فتشمل أركان الإيمان، وأركان الإسلام، والإحسان.

كما جاء في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أخبرني عن الإيمان. فقال:«الإيمان: أن تؤمنَ بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» فقال: أخبرني عن الإسلام. فقال: «الإسلام: أن تشهد أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إنِ استطعت إليه سبيلًا» قال عمر: فعجِبنا له يسأله ويصدِّقه. قال: أخبرني عن الإحسان. قال: «أن تعبدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» الحديث

(1)

.

فأركان الإيمان ستة، وهي:

الإيمان بالله تعالى؛ أي: الإيمان بوجوده وربوبيته وأُلوهيته وأسمائه وصفاته.

والإيمان بالملائكة؛ أي: الإيمان بوجودهم، وأنهم خلقٌ من خلق الله تعالى، خلقهم الله عز وجل من نور، كما قال صلى الله عليه وسلم:«خُلقت الملائكة من نورٍ»

(2)

.

والإيمان بما ذُكر من أسمائهم، وعبادتهم لله تعالى، وأحوالهم، وأعمالهم التي وكلهم الله تعالى بها على جهة الإجمال والتفصيل، كما جاء في القرآن والسنة.

والإيمان بالكتب؛ أي: الإيمان بجميع الكتب التي أنزلها الله تعالى على رسله، ما سمى الله تعالى لنا منها في القرآن الكريم، وما لم يسمِّه.

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان (8)، وأبو داود في السنة (4695)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (4990)، والترمذي في الإيمان (2610)، وابن ماجه في المقدمة (63) من حديث ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2996)، وأحمد 6/ 168 (25354) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 133

والإيمان بالرسل؛ أي: الإيمان بجميع الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الله تعالى، مَن قص الله تعالى علينا منهم في القرآن، ومن لم يقصصهم علينا.

والإيمان باليوم الآخر؛ أي: الإيمان بيوم القيامة وما فيه من بعث الناس من قبورهم، ومن الأهوال، والحساب، والجزاء على الأعمال، والإيمان به من أهم أركان الإيمان؛ ولهذا يقرن الله عز وجل الإيمان باليوم الآخر في القرآن الكريم بالإيمان به سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن الإيمان باليوم الآخر من أعظم ما يحفز على العمل؛ لأن فيه الحساب والجزاء على الأعمال، وربط الدنيا بالآخرة، مما يحمل على الاجتهاد في العمل والمنافسة والمسارعة والمسابقة، إضافة إلى تهوين مصائب الدنيا؛ قال الشاعر:

الأمر جِدٌّ وَهْوَ غيرُ مِزاحِ

فاعمَلْ لنفسِكَ صالحًا يا صَاحِ

(1)

وقال الآخر:

قد رشَّحوك لأمرٍ لو فطِنتَ له

فاربَأْ بنفسِكَ أن تَرعَى مع الهَمَلِ

(2)

والإيمان بالقدر خيره وشره؛ أي: الإيمان بأن الله قدر في الأزل مقادير كل شيء، قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما جاء في الحديث

(3)

.

والإيمان بأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما

(4)

.

(1)

البيت لنشوان الحِميري. انظر: «ملوك حمير وأقيال اليمن» ص 1.

(2)

البيت للطغرائي. انظر: «شرح لامية العجم» ص 124.

(3)

أخرجه مسلم في القدر (2653)، والترمذي في القدر (2156)، وأحمد 2/ 169 (6579) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(4)

أخرجه أحمد 1/ 307 (2803)، والطبراني في «الكبير» 11/ 123 (11243)، والحاكم (3/ 541، 542) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الحاكم: «هذا حديث كبير عالٍ من حديث عبد الملك بن عمير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش، ولا القداح في الصحيحين» . وقال السخاوي في «المقاصد الحسنة» ص (257): «وأصل الحديث بدون لفظ الترجمة عند الترمذي [في صفة القيامة والرقائق والورع (2516)]، وصححه من حديث حَنش عن ابن عباس مرفوعًا، بل أخرجه أحمد، والطبراني، وغيرهما من هذا الوجه أيضًا بتمامه، وهو أصح وأقوى رجالًا» .

ص: 134

وأركان الإسلام خمسة، وهي:

الأول: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.

ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله؛ أي: شهادة أن لا معبود بحق إلا الله، وهي نفي وإثبات، نفي الإلهية عن غير الله تعالى، وإثباتها لله تعالى وحده.

ومعنى شهادة أن محمدًا رسول الله؛ أي: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وألا يُعبد الله إلا بما شَرع.

الثاني: إقام الصلاة؛ أي: أداؤها والمحافظة عليها، وإقامتها كما شرع الله تعالى، بشروطها، وأركانها، وواجباتها، وسننها.

والصلاة في اللغة: الدعاء.

وفي الشرع: التعبد لله تعالى بأفعال وأقوال مخصوصة، مبتدأَة بالتكبير، مختتَمة بالتسليم.

الثالث: إيتاء الزكاة؛ أي: إعطاؤها لمستحقيها من الأصناف الثمانية، كما قال تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].

والزكاة في اللغة: النماء والزيادة.

وفي الشرع: حق مالي مخصوص، في مال مخصوص، لطائفة مخصوصة، في زمن مخصوص.

الرابع: صوم رمضان.

والصوم في اللغة: الإمساك.

وفي الشرع: التعبد لله تعالى بالإمساك عن المفطِرات الحسية والمعنوية، من

ص: 135

طلوع الفجر إلى غروب الشمس، طيلة شهر رمضان المبارك.

والخامس: حج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلًا.

والحج في اللغة: القصد.

وفي الشرع: قصد البيت الحرام، وأداء مناسك الحج لمن استطاع إلى ذلك سبيلًا.

والإحسان: ركن واحد: وهو: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .

كما تشمل تقوى الله تعالى: امتثال كل ما أمر الله تعالى به من الأقوال والأفعال.

هذا كله في جانب المأمورات والأفعال.

كما تشمل تقوى الله: ترك ما نهى الله تعالى عنه، والبراءة منه، ومن ذلك:

1 البراءة من الشرك بنوعيه:

أ- الشرك الأكبر: من عبادة القبور والأشجار والأحجار، ودعاء الأموات، والاستعانة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله، ونحو ذلك، وصاحبه مخلَّد في النار، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48، 116].

ب- الشرك الأصغر: كالرياء، والحلف بغير الله، ونحو ذلك.

قال صلى الله عليه وسلم: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر» فسئل عنه، فقال:«الرياء»

(1)

. وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك»

(2)

.

2 البراءة من النفاق بنوعيه:

أ- النفاق الاعتقادي: وهو أن يظهِر الإنسان الإيمان، ويبطِن الكفر، وهذا

(1)

أخرجه أحمد 5/ 428، 429 (23630، 23636) من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه. قال الهيثمي في «المجمع» (1/ 102): «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح» . وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (951).

(2)

أخرجه أبو داود في الأيمان والنذور (3251)، والترمذي في النذور والأيمان (1535) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الترمذي:«حديث حسن» . وصححه ابن حبان 10/ 199 - 200، 207 (4358، 4365)، والحاكم (1/ 18، 52، 4/ 297)، ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في «الصحيحة» (2042).

ص: 136

أشد من الكفر الصريح، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار، كما قال تعالى:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء: 145].

ب- النفاق العملي: من الكذب، والغدر، وخلف الوعد، وخيانة العهد، والفجور في الخصومة، ونحو ذلك. وهذا من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر لمخالفته صفات المؤمنين، ومشابهته صفات الكافرين.

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمن خان»

(1)

.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أربعٌ مَن كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يَدَعَها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذَب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»

(2)

.

3 ترك كل ما نهى الله تعالى عنه من الأقوال والأفعال:

كما قال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر: 7].

وبهذا يتبين أن مضمون تقوى الله تعالى ومدلولها يشمل الدين كله؛ فعلًا لما أمر الله تعالى به، وتركًا لما نهى الله عز وجل عنه.

فهي دين الله الذي بعث به رسله، وأنزل به كتبه، وهي الهدى ودين الحق الذي أرسل به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهي توحيد الله، واتباع شريعته، وتعظيم أمره، وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

هي عبادة الله تعالى التي خلق الله الثقلين لأجلها، هي الإيمان والإسلام والإحسان والبر، والاستقامة، ونحو ذلك.

(1)

أخرجه البخاري في الإيمان (33)، ومسلم في الإيمان (59)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5021)، والترمذي في الإيمان (2631).

(2)

أخرجه البخاري في الإيمان (34)، ومسلم في الإيمان (58)، وأبو داود في السنة (4688)، والنسائي (5020)، والترمذي (2632).

ص: 137

هي ضد الشرك والكفر، والنفاق والفسوق والعصيان، أمر الله عز وجل بها الناس عامة والمؤمنين خاصة.

‌همسة:

أخي الكريم المبارك، وأختي الكريمة المباركة وفقكما الله تعالى، تدبرَا وتأملَا جيدًا قول الله تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].

وقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83].

وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49]، وقوله تعالى:{وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].

وتدبرَا وتأملَا قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 54 - 55]، وقوله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان: 51 - 57].

وقوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم: 34]، وقوله تعالى:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: 17 - 20].

وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15، 16].

وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:

ص: 138

‌وقفة في: خطر الغُلُوِّ في الدين

قال الله تعالى: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء: 171]

‌أ- معنى: الغلو في الدين:

«الغلو» هو الزيادة في الشيء، والإفراط فيه والتشدد، ومجاوزة الحد المشروع

(1)

.

والغلو في الدين: هو التشدد فيه، وزيادة ما لم يَشرَعْه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وضده الجفاء والتفريط، والنقص في الدين.

‌ب- نشأة الغلو في الدين:

نشأ الغلو في الدين من عهد قوم نوح عليه السلام حيث غلوا بصالحيهم حتى عبدوهم، وأشركوهم مع الله عز وجل، وانتقل بعد ذلك إلى أهل الكتاب، قال تعالى:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30].

وكثر الغلو في النصارى خاصة، قال تعالى:{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171].

وقال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة: 77].

وقال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27].

ثم انتقل بعد ذلك إلى هذه الأمة؛ مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعنَّ سَنَنَ مَن كان قبلكم»

(2)

.

(1)

انظر: «لسان العرب» مادة «غلا» .

(2)

أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة (7320)، ومسلم في العلم (2669) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في الفتن (3994) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 140

‌ج- الحكمة من نهي أهل الكتاب في القرآن الكريم عن الغلو في الدين:

نهى الله عز وجل أهل الكتاب في القرآن الكريم عن الغلو في الدين؛ تحذيرًا لهم، وتحذيرًا أيضًا لهذه الأمة من الغلو في الدين، وسلوك مسلك أهل الكتاب، ولذا نحن نقول في الفاتحة:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7]؛ أي: ندعو الله بالسلامة من طريق اليهود الذين عرفوا الحق وتركوه، ومن طريق النصارى الذين عبدوا الله على جهل وضلال.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تُطْرُوني كما أطْرَتِ النصارى ابنَ مَريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله»

(1)

.

‌د- أقسام الغلو في الدين:

ينقسم الغلو في الدين إلى قسمين:

1 القسم الأول: الغلو في العقيدة: كقول اليهود: عُزَيرٌ ابن الله، وقول النصارى: المسيح ابن الله. تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.

وكقول بعضهم للنبي صلى الله عليه وسلم: «أنت سيدنا وابن سيدنا» ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«أيها الناس، قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله»

(2)

.

ومن هذا قول البوصيري في «البردة»

(3)

:

يا أكرمَ الخلقِ ما لي من أَلُوذُ به

سواك عند حلولِ الحادث العَمِمِ

(1)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3445)، وأحمد 1/ 23، 24 (154، 164) من حديث ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.

(2)

أخرجه أبو داود في الأدب (4806)، والنسائي في «الكبرى» 6/ 70 (10076). وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (155/ 211) من حديث مطرف بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه.

(3)

ص 22.

ص: 141

إن لم تكنْ في معادي آخِذًا بيدي

فضلًا وإلا فقُلْ يا زلةَ القدمِ

فإنَّ من جُودك الدنيا وضَرَّتها

ومن علومك علم اللوحِ والقَلَمِ

ومن ذلك الغلو بآل البيت كما يفعل الرافضة- أخزاهم الله تعالى- والغلو بالصالحين، والطواف حول قبورهم، كما يفعل غلاة المتصوفة وغيرهم في كثير من البلاد الإسلامية.

2 القسم الثاني: الغلو في العمل: كرهبانية النصارى، قال تعالى:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27].

ومن هذا ما أراده عثمان بن مظعون ومن معه رضي الله عنهم من التبتل بالصيام والقيام، وترك الزواج؛ ولذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:«أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له، وإني أصوم وأُفطِر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمَن رغِب عن سنتي فليس مني»

(1)

.

ولهذا نهى صلى الله عليه وسلم عن صوم الدهر، وقيام الليل كله، وبيَّن أن أفضل الصيام والقيام: صيام داود عليه السلام وقيامه: «كان ينام نصفَ الليل ويقوم ثُلُثَه، وينام سُدُسَه، ويصوم يومًا ويُفطِر يومًا»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في ختم القرآن: «اقرأْه في ثلاث ولا تزد على ذلك»

(3)

.

ومن هذا ما جاء في قصة أبي الدرداء وسلمان الفارسي رضي الله عنهما، لما زار سلمان أبا الدرداء وجد أم الدرداء متبذِّلة، وسألها، فقالت له: «أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في

(1)

أخرجه البخاري في النكاح (5063)، ومسلم في النكاح (1401)، والنسائي في النكاح (3217) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الجمعة (1131)، ومسلم في الصيام (1159)، وأبو داود في الصوم (2448)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1630)، وابن ماجه في الصيام (1712) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه البخاري في الصوم (1978) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

ص: 142

الدنيا». فأنكر عليه سلمان، وقال له:«إن لربِّك عليك حقَّا، ولزوجك عليك حقَّا، ولزَوْرِك عليك حقَّا، فأعطِ كل ذي حق حقَّه»

(1)

.

‌هـ- الخطر العظيم الذي يترتب على الغلو في الدين:

يترتب على الغلو في الدين بقسميه العقدي والعملي: الخروج عن الدين، والكفر، فهو أشد من الجفاء والتفريط والنقص؛ لأن الغلو في الدين، والزيادة فيه أشد من النقص منه؛ لأن الزيادة في الدين تشريع من دون الله، ومفادها أن الدين لم يكمل.

فمن غلا في الأنبياء والصالحين وغيرهم من دون الله، أو صرف لهم شيئًا من أنواع العبادة التي لا يجوز صرفها إلا لله، فهو مشرك كافر، خارج عن الدين.

ومن غلا في الدين بأن أوجب ما لم يوجبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو حرم ما لم يحرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو استحل ما حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الخروج على المسلمين وأئمتهم فهو كافر خارج عن الدين.

كما جاء في قصة ذي الخُويصرة التميمي حين اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين، وقال:«اتق اللهَ يا محمد» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من ضِئْضِئ هذا قومًا يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجِرَهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدَعون أهل الأوثان، يمرُقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتُهم لأقتلنهم قتل عاد»

(2)

.

وبسبب الغلو في الدين انتشر الشرك في كثيرٍ من بلاد المسلمين، وتعددت طوائف الغلاة، ومن أشد الغلاة كفرًا وشركًا وشرًّا:

الرافضة- أخزاهم الله تعالى- الذين غلوا بعلي رضي الله عنه وآل البيت، فعبدوهم من دون الله، وأشركوهم مع الله عز وجل في الربوبية والألوهية، وكفَّروا من عداهم من المسلمين، وجمعوا بين كل أنواع الكفر والشرك، فأشركوا آل البيت وأئمتهم ومعمَّميهم

(1)

أخرجه البخاري في الصوم (1968)، والترمذي في الزهد (2413) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3344)، ومسلم في (1064)، والنسائي في الزكاة (2578)، وأحمد 3/ 68 (11648) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ص: 143

مع الله تعالى، وزعموا أن جبريل عليه السلام خان في الرسالة، فقد كانت لعلي، فأعطاها لمحمد، وزعموا أن القرآن محرف، وأن الصحابة ارتدوا عن الإسلام، ورموا عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها بالفاحشة، وليس على وجه البسيطة أقذر ولا أنجس ولا أشر منهم، لا من اليهود ولا النصارى، ولا من الملحدين، ولا من غيرهم، كما قال القحطاني

(1)

رحمه الله:

إن الروافض شرُّ من وَطِئَ الحَصَى

من كل إنسٍ ناطقٍ أو جانِ

وصدق- واللهِ رحمه الله.

ومن طوائف الغلاة في الدين:

الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله عنه وعلى المسلمين في عهده، ومنهم الذين يخرجون على ولاة أمور المسلمين بين حينٍ وآخر، تحت مسميات مختلفة، ويفرقون صف المسلمين، ويستحلون دماءهم، بدعوى الانتصار للدين، ونحو ذلك من الذرائع الباطلة التي لا تجيز لهم الخروج على المسلمين، وهؤلاء مارقون وخارجون من الدين، وكفار، كما في قصة ذي الخُويصرة.

ومن طوائف الغلاة في الدين:

غلاة الصوفية الذين يعظمون قبور الأنبياء والصالحين، ويطوفون حولها، ويطلبون المدد من أصحابها، وهؤلاء أيضًا كفار ومشركون شركًا أكبر.

‌و- سبب الغلو في الدين في هذه الأمة:

سبب الغلو في الدين في الأمة الإسلامية: هو البعد عن كتاب الله تعالى، وعن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعن منهج سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وعن العلماء الربانيين المحققين، مع فشو الجهل، واتباع الهوى، وكثرة الفتن.

‌ز- السبيل للسلامة من الغلو في الدين:

لا سبيل للسلامة من الغلو في الدين، ومن الجفاء والإفراط والتفريط، ومن الحيرة

(1)

في «نونيته» ص (26) رقم (138).

ص: 144

والبلبلة والتذبذب، والعصمة من ذلك كله، إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة، ولزوم منهج سلف الأمة، وتقوى الله عز وجل وصدق اللجوء إليه سبحانه وتعالى، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29].

وقال تعالى: {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35].

وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40].

وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 - 7].

وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10].

وقال عز وجل في الحديث القدسي: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطِش بها، ورِجله التي يمشي عليها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعيذنَّه»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «احفظِ الله يَحفظْك»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسَه فمُعْتِقها أو مُوبِقها»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري في الرقاق (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516)، وأحمد 1/ 293، 303، 307 (2669، 2763، 2803)، والحاكم (3/ 541، 542). قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . وقال الحاكم: «هذا حديث كبير عالٍ من حديث عبد الملك بن عمير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش» . وصححه أحمد شاكر في شرحه لـ «المسند» (2669، 2763). وصححه الألباني في «الصحيحة» (2382).

(3)

أخرجه مسلم في الطهارة (223)، والترمذي في الدعوات (3517)، وابن ماجه في المقدمة (280)، وأحمد 5/ 342 (22902) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

ص: 145

‌وقفتان في: نعمة اللباس، وأخذ الزينة للصلاة:

قال الله عز وجل: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26]،

وقال تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]

‌الوقفة الأولى في:

نعمة اللباس، وأن الله جميل يحب الجمال

‌أ- اللباس نعمة عظيمة من الله عز وجل

-:

امتنَّ الله عز وجل على بني آدم بنعمة اللباس؛ فقال عز وجل: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف: 26]؛ أي: قد خلقنا وأوجدنا لكم لباسًا يستر عوراتكم وريشًا؛ أي: وزينة وجمالًا لكم يستر أبدانكم ويقيكم الحر والبرد.

وقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81].

فاللباس من أعظم نعم الله تعالى على العباد، ولا يعرف قدر اللباس إلا من فقده، فكانت عورته عرضة لأنظار الآخرين، وجسمه عرضة للسع الحر والبرد.

ولك أخي أن تتصور حال الإنسان عُريانًا، رجلًا كان أو امرأةً، لتحمد الله تعالى وتشكره، فكم من إنسان لا يجد ما يستر به عورته! فضلًا عما يستر به بدنه ويتقي به الحر والبرد.

وتأمل حال الأبوين لما وسوس لهما الشيطان وخدعهما فأكلا من الشجرة، وبدت لهما سوآتهما، فأخذا يخصِفان عليهما من ورق الجنة لستر سوآتهما.

ص: 146

‌ب- إن الله جميل يحب الجمال:

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخُل الجنةَ من كان في قلبِه مِثقال ذرةٍ من كِبر» ، قال رجل: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنًا. قال:«إن الله جميل يحب الجمال، الكِبر: بَطَرُ الحق، وغَمْطُ الناس»

(1)

؛ أي: رد الحق وإنكاره، واحتقار الناس والتعالي عليهم.

فالتجمل وأخذ الزينة والنظافة في الملبس والهيئة والمظهر محبوب إلى الله عز وجل.

وزينة اللباس تكون في كل ما يُلبس ويستر البدن؛ من قميص، ورداء، وإزار، وسراويل، وعمامة، ونعل، وغير ذلك.

ومن ذلك تغطية الرأس بعمامة، أو غير ذلك.

قال ابن القيم رحمه الله

(2)

: «كانت له- أي للنبي صلى الله عليه وسلم عمامة تسمى السحاب كساها عليًّا رضي الله عنه، وكان يلبسها ويلبس تحتها قَلَنْسُوة

(3)

، وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة، ويلبس العمامة بغير قلنسوة، وكان إذا اعتم سدَل عمامته بين كتفيه»

(4)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(5)

: «كشف الرؤوس، وتفتيل الشعر ليس هذا من شعار أحد من الصالحين، لا من الصحابة، ولا من التابعين، ولا شيوخ الإسلام» .

وقال الألباني رحمه الله

(6)

: «وليس من الهيئة الحسنة في عرف السلف اعتياد حسر الرأس، والسير كذلك في الطرقات، والدخول كذلك في أماكن العبادات، بل هذه عادة أجنبية

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان (91)، والترمذي في البر والصلة (1999)، وأحمد 1/ 416 (3947).

(2)

في «زاد المعاد» 1/ 94.

(3)

القلنسوة: لباس يوضع على الرأس، انظر:«لسان العرب» مادة «قلس» .

(4)

أخرجه الترمذي في اللباس (1736) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الترمذي: «حسن غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (717).

(5)

في «الفتاوى العراقية» ص 76.

(6)

في «إتمام المنَّة في التعليق على فقه السُّنَّة» ص 164، 165، وانظر:«أخطاء المصلين» للشيخ مشهور حسن سليمان ص 59.

ص: 147

تسربت إلى البلاد الإسلامية حين دخلها الكفار».

وليس من الزينة المشروعة إسبال الثياب، بل هو محرَّم لا يجوز، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من جرَّ ثوبه خُيَلاء لم ينظرِ الله إليه يوم القيامة»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار»

(2)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم» فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. قال أبو ذر: خابوا وخسِروا، من هم يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم:«المُسبِل، والمنَّان، والمنفِّق سلعتَه بالحلِف الكاذب»

(3)

، وفي رواية:«المُسبِل إزاره»

(4)

، والإسبال في الصلاة أشد تحريمًا وهي صحيحة مع الإثم.

‌الوقفة الثانية في:

أخذ الزينة للصلاة باللباس وغيره

قال الله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]؛ أي: تزينوا عند جميع المساجد وجميع الصلوات فرضِها ونفْلِها.

والأمر في الأصل للوجوب، وهو محمول على الوجوب في حدود ستر العورة بالإجماع، وهو للاستحباب فيما زاد على ذلك من الزينة باللباس، والطِّيب، والسواك، ويتأكد هذا في صلاة الجمعة، والعيدين، كما دلت على ذلك السنة.

وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]؛ أي: أن تُعظَّمَ بالعبادة فيها، وأخذ الزينة عندها، كما في الآية السابقة، وذلك بنظافة البدن، وارتداء الملابس الجميلة والنظيفة، والطيب، والسواك، وغير ذلك، واستشعار المسلم أنه سيقف في الصلاة أمام الله عز وجل ملك الملوك.

ومن الزينة للصلاة: تغطية الرأس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على ذلك، ولم يُنقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه

(1)

أخرجه البخاري (5784)، ومسلم (2085).

(2)

أخرجه البخاري (5787).

(3)

أخرجه البخاري (106).

(4)

أخرجه ابن ماجه (2208).

ص: 148

صلى حاسرًا رأسه ولا مرة واحدة، مع توافر الدواعي على نقله، اللهم إلا في حال الإحرام

(1)

.

عن نافع قال: «رآني ابن عمر أصلي في ثوبٍ واحدٍ فقال: ألم أكسُك ثوبين؟ فقلت: بلى. قال: أرأيتَ لو أرسلتُك إلى فلان أكنت ذاهبًا في هذا الثوب؟ فقلت: لا. فقال: الله أحقُّ مَن تَزيَّنُ له، أو مَن تزينتَ له»

(2)

.

وقد رُوي أن تميمًا الداري رضي الله عنه اشترى رداءً بألف، فكان يصلي فيه

(3)

.

فاحرص- أخي وفَّقك الله- أن تقف أمام ربك في الصلاة بأجمل لباس، وأحسن هيئة، وأزكى رائحة؛ تعظيمًا لله عز وجل، واهتمامًا بالصلاة وعناية بها، ولا تغترَّ بمن لا يبالون بذلك.

فشتان بين من يستحضر هذه المعانيَ العظيمة في تعظيم الخالق عز وجل، وتعظيم الصلاة، فتأتي صلاته تامة تامة تامة، بتوفيق الله عز وجل، وبين من لا يستحضرها، فيأتي إلى الصلاة بقميص النوم، أو بأي لباس كان، وعلى أية حالٍ كان.

ولو أنه أراد مقابلة أي شخص، أو الذهاب لأي مناسبة، ونحو ذلك لاهتم بلباسه ومظهره كل الاهتمام، فأي مناسبة تفوق الوقوف أمام الله عز وجل في الصلاة ومناجاته؟!

(1)

انظر: «الدين الخالص» 3/ 314، و «أخطاء المصلين» ص 59.

(2)

أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» 1/ 358 (1391)، والبيهقي (2/ 236).

(3)

أخرجه البغوي في مسند ابن الجعد 2/ 1106 (2616)، والطبراني 2/ 49 (1248) من طريق قتادة عن محمد بن سيرين به، وصحح إسناده إلى قتادةَ: ابنُ كثير في «تفسيره» (3/ 366).

ص: 149

‌وقفات أربع في: الدعاء

قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]

‌الوقفة الأولى في:

معنى الدعاء، وأنواعه، وفضله

‌أ- معنى الدعاء وحدُّه:

الدعاء في اللغة: النداء، يقال: دعاه

(1)

، إذا ناداه؛ قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} [الأعراف: 195]؛ أي: نادوا شركاءكم، وقال تعالى:{يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} [الحج: 13]؛ أي: ينادي.

قال عنترة

(2)

:

يَدعون عنترَ والرماحُ كأنها

أشطانُ بئرٍ في لَبَانِ الأدهَمِ

أي: ينادون عنتر ويقولون: يا عنتر.

والدعاء في الشرع يُطلَق على العبادة، وعلى المسألة والطلب.

‌ب- أنواع الدعاء:

الدعاء نوعان:

النوع الأول: دعاء عبادة، كما في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194]، وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73]؛ أي: الذين تعبدون من دون الله، وقوله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ

(1)

انظر: «لسان العرب» مادة «دعا» .

(2)

انظر: «ديوانه» ص 216.

ص: 150

مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14].

وقال تعالى مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} [الجن: 20]، أي: قل إنما أعبد ربي وحده، ولا أشرك به أحدًا.

النوع الثاني: دعاء مسألة وطلب؛ أي: سؤال العبد وطلبه من ربه حاجته من خير الدنيا والآخرة، من جلب نفع، أو دفع ضُرٍّ، كما في قوله تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 55، 56]، وقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180]؛ أي: نادوه، واسألوه بها، وتعبدوا له بها.

ودعاء العبادة ودعاء المسألة متلازمان، فدعاء العبادة: مستلزِم لدعاء المسألة، ودعاء المسألة: متضمِّن لدعاء العبادة؛ لأن السائل إنما سأل الله عز وجل وحدَه تعظيمًا له عز وجل، وإقرارًا واعترافًا بأن له الخلق والأمر والتفرد بالربوبية والألوهية.

‌ج- فضل الدعاء وثماره، وفوائده وآثاره:

للدعاء فضائل عظيمة، وثمار كثيرة، وفوائد جليلة، وآثار كبيرة، اجتمعت فيه أنواع الصبر كلها؛ الصبر على طاعة الله تعالى بالدعاء، وعظيم الرجاء، والصبر عن معصية الله تعالى بعدم التسخط والقنوط واليأس من رحمة الله تعالى، وترك الدعاء، والصبر على أقدار الله المؤلمة إن طال البلاء، وتأخرت إجابة الدعاء.

ومن أهم فضائل الدعاء وثماره وفوائده وآثاره ما يلي:

1 أن الدعاء طاعة وعبادة لله عز وجل، أمر به وحث عليه، وبه يخلص العبد من الكبر، وينجو من الوعيد الشديد، قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، وقال تعالى:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14]؛ أي: فاعبدوا الله مخلصين له العبادة.

وعن النعمان بن بَشير رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء هو العبادة» ، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ

ص: 151

دَاخِرِينَ}

(1)

[غافر: 60].

2 أنه أكرم شيء على الله تعالى؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء»

(2)

.

3 أنه سبب لمحبة الله تعالى، واندفاع غضبه عز وجل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يسأل الله يغضب عليه»

(3)

.

وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: «يا من أحبُّ عباده إليه من سأله فأكثرَ سؤالَه، ويا من أبغضُ عباده إليه من لم يسأله، وليس كذلك غيرك يا رب»

(4)

.

قال الشاعر:

لا تسألنَّ بُنَيَّ آدمَ حاجةً

وسَلِ الذي أبوابُه لا تُحجَبُ

فاللهُ يغضبُ إن تركتَ سؤالَهُ

وبُنَيُّ آدمَ حِينَ يُسألُ يَغضَبُ

(5)

قال ابن القيم

(6)

: «والرب تعالى كلما سألتَه كرُمت عليه، ورضي عنك وأحبك، والمخلوق كلما سألته هُنتَ عليه، وأبغضك، ومَقَتَكَ وقَلاك، وقبيحٌ بالعبد أن يتعرض لسؤال العبيد، وهو يجد عند مولاه كل ما يريد» .

(1)

أخرجه أبو داود في الوتر (1479)، والترمذي في التفسير (2969، 3247)، وفي الدعوات (3272) وابن ماجه في الدعاء (3828). قال الترمذي في المواضع الثلاثة:«حسن صحيح» . وصححه الألباني في «أحكام الجنائز» (124).

(2)

أخرجه الترمذي في الدعوات (3370)، وابن ماجه في الدعاء (3829)، وأحمد 2/ 362 (8748)، وابن حبان 3/ 151 - 152 (870)، والحاكم (1/ 490). وقال الحاكم:«هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . ووفقه الذهبي. وحسنه الألباني في «التعليقات الحسان» (867).

(3)

أخرجه الترمذي في الدعوات (3373)، وأحمد 2/ 442 (9701)، والبخاري في «الأدب المفرد» (658). وصححه الألباني في تحقيقه «الأدب المفرد» .

(4)

أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (2/ 284).

(5)

البيتان مجهولا النسبة، انظر:«شعب الإيمان» للبيهقي (2/ 35)، و «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (5/ 164)، و «تفسير ابن كثير» (1/ 39).

(6)

في «مدارج السالكين» (2/ 131).

ص: 152

4 أنه دليل على قوة الإيمان بالله عز وجل، والتوكل عليه، وتمام الثقة به سبحانه، واستمداد العزة والقوة منه عز وجل وحده، والتعلق به وحده، ورجائه وخوفه وحده، وقطع الطمع فيما سواه، من جميع الخلق، كما قال تعالى عن زكريا وابنه يحيى وزوجه عليهم السلام:{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

: «كلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته ودفع ضرورته قوِيت عبوديته لله، وحريته مما سواه» .

5 أن في الدعاء لذة المناجاة، وانشراح الصدر، وزوال الهموم والغموم، وتيسير الأمور، كما قال ابن تيمية رحمه الله:«وليكثر من الدعاء؛ فإنه مِفتاح كل خير»

(2)

.

فبملازمة الدعاء ينتقل العبد من الحزن واليأس والقنوط والجزع والضيق، إلى السعادة والتفاؤل والسعة والرضا والطمأنينة، وحسن الظن بالله عز وجل.

قال ابن وهيب الحِميري:

وإني لأدعو الله حتى كأنني

أرى بجميلِ الظنِّ ما اللهُ صانِعُ

(3)

وقال الآخر:

وإني لأدعو الله والأمرُ ضيِّقٌ

عليَّ فما يَنفَكُّ أنْ يَتفرَّجا

ورُبَّ فتًى ضاقتْ عليه وجوهُه

أصاب له في دعوةِ اللهِ مَخرَجا

(4)

6 أن الدعاء ملاذ المضطرين؛ قال الله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].

فبالدعاء أنجى الله نوحًا عليه السلام ومن معه في الفُلك، وأغرق المكذبين من قومه.

وبالدعاء وهب الله عز وجل لإبراهيم عليه السلام على الكِبَرِ إسماعيل وإسحاق، وكانت امرأته

(1)

انظر: «العبودية» (ص 94 - 95).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 661).

(3)

انظر: «عيون الأخبار» لابن قتيبة (2/ 310)، و «بهجة المجالس، وأنس المجالس» لابن عبد البر (2/ 380).

(4)

انظر: «عيون الأخبار» لابن قتيبة (2/ 311)، و «الفرج بعد الشدة» للتنوخي (5/ 69).

ص: 153

عقيمًا، وجعل كلًّا منهما نبيًّا.

وبالدعاء غفر الله لموسى عليه السلام، وأهلك فرعون وقومه.

وبالدعاء عصم الله عز وجل يوسف عليه السلام من الفاحشة.

وبالدعاء كشف الله عز وجل الضر عن أيوب عليه السلام.

وهو مفزع المظلومين، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضى الله عنه:«واتقِ دعوةَ المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»

(1)

.

قال الشاعر:

لا تظلِمنَّ إذا ما كنتَ مُقتدِرًا

فالظُّلمُ يَرجع عُقباه إلى النَّدَمِ

تنام عينُك والمظلومُ مُنتبِهٌ

يدعو عليك وعينُ اللهِ لم تَنَمِ!

(2)

وقال الشافعي

(3)

:

أتهزَأُ بالدعاءِ وتَزدَرِيهِ

وما تدري بما صنَع الدعاءُ؟!

سِهامُ الليلِ لا تُخطي ولكن

لها أمدٌ وللأمدِ انقضاءُ

والدعاء ملاذ المضطرين، حتى من المشركين، كما قال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65]، وقال تعالى:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [لإسراء: 67]، وقال تعالى:{قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63، 64]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا

(1)

أخرجه البخاري في الزكاة (1496)، وفي المظالم والغصب (2448)، ومسلم في الإيمان (19)، وأبو داود في الزكاة (1584)، والنسائي في الزكاة (2522)، والترمذي في الزكاة (625)، وابن ماجه في الزكاة (1783) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

البيتان لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: «ديوانه» (ص 406).

(3)

انظر: «ديوانه» (ص 109).

ص: 154

مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: 22، 23]، وقال تعالى:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32].

7 أنه سبب لدفع البلاء، ومنعه قبل نزوله، ورفعه بعد نزوله، ورد القدر بإذن الله عز وجل وتقديره.

عن ثَوبانَ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يَرُدُّ القَدَرَ إلا الدعاء، وإن الرجل ليُحرَمُ الرزقَ بالذنبِ يصيبه»

(1)

.

قال ابن القيم

(2)

: «والدعاء من أنفع الأدوية، وهو عدو البلاء، يدفعه ويعالجه، يمنع نزوله ويرفعه أو يخففه إذا نزل، وهو سلاح المؤمن» .

8 أنه سبب لتأكيد الأخوة الإيمانية بين المؤمنين، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبدٍ مسلمٍ يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملَك: ولك بمثل»

(3)

.

9 أنه يسير لا يحتاج إلى كُلفة وتعب، وفي الحديث:«أعجز الناس من عجز عن الدعاء، وأبخل الناس من بخِل بالسلام»

(4)

.

(1)

أخرجه ابن ماجه في الفتن (4022)، وأحمد 5/ 277 (22386)، وصححه ابن حبان 3/ 153 (872)، والحاكم (1/ 473). قال الحاكم:«هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . وضعفه الألباني في «ضعيف الجامع» (1452)، وفي «ضعيف الترغيب والترهيب» (1473، 1478).

(2)

في «الداء والدواء» (ص 1).

(3)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2732)، وأبو داود في الصلاة (1534).

(4)

أخرجه الطبراني في «الأوسط» 5/ 371 (5591)، وأبو الشيخ في «أمثال الحديث» (247)، والبيهقي في «شعيب الإيمان» (6/ 429) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. قال الهيثمي في «المجمع» (8/ 21):«رواه الطبراني في «الأوسط» ، وقال: لا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، ورجاله رجال الصحيح غير مسروق بن المرزبان، وهو ثقة». وحسن سنده الألباني في «الصحيحة» (601)، وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (1015)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» 13/ 197 (26261)، وأبو يعلى في «مسنده» 12/ 527 (6649)، وابن حبان في «صحيحه» 10/ 349 (4498) موقوفًا على أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 155

‌الوقفة الثانية في:

آداب الدعاء، وأسباب الإجابة

آداب الدعاء وأسباب الإجابة كثيرة، من أهمها ما يلي:

1 الحمد لله، والثناء على الله عز وجل:

كما علَّم الله عز وجل المؤمنين في قوله عز وجل في سورة الفاتحة: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 2 - 4] فهذه الآيات حمد وثناء وتمجيد لله تعالى، وهو إخبار وأمر للمؤمنين بأن يقدموا بين يدي دعائهم الحمد والثناء والتمجيد له عز وجل؛ ليجيبهم، ولهذا قال في الحديث القدسي عن قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]: «هذه بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل» . وقال عن قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر السورة، [6 - 7]، «وهذه لعبدي ولعبدي ما سأل»

(1)

.

وكما جاء في دعاء ذي النون عليه السلام، قال تعالى:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].

وعن شداد بن أوس الداري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيِّد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» ، قال:«من قالها من النهار مُوقِنًا بها فمات من يومه قبل أن يُمسيَ فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة»

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في الصلاة (395)، وأبوداود (821)، والنسائي في الافتتاح (872)، والترمذي في التفسير (2953)، وابن ماجه- في إقامة الصلاة (838) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الدعوات (6306)، والنسائي في الاستعاذة (5522)، والترمذي في الدعوات (3393).

ص: 156

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال:«قلِ: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، إنك أنت الغفور الرحيم»

(1)

.

وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، أرأيت إن وافقت ليلة القدر، ما أدعو، أو ما أقول؟ قال:«تقولين: اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعف عني»

(2)

.

وعن أنس رضي الله عنه قال: جاءت أم سليم رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، علمني كلماتٍ أدعو بهن. قال:«تسبحين الله عشرًا، وتحمدينه عشرًا، وتكبرينه عشرًا، ثم سلي حاجتكِ، فإنه يقول: قد فعلتُ»

(3)

.

2 الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:

فعن أُبَيِّ بن كعب رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، إني أُكثِر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال:«ما شئت» ، قال: قلت: الربع، قال:«ما شئتَ، فإن زدتَ فهو خير لك» ، قلت: النصف؟ قال: «ما شئت، فإن زدت فهو خير لك» ، قال: قلت: فالثلثين، قال:«ما شئت، فإن زدت فهو خير لك» ، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: «إذن تُكفى همَّك، ويُغفَر لك ذنبُك»

(4)

.

والمراد بقوله: كم أجعل لك من صلاتي؟ أي: من دعائي.

(1)

أخرجه البخاري في الأذان (834)، ومسلم في الذكر والدعاء (2705)، والنسائي في السهو (1302)، والترمذي في الدعوات (3531)، وابن ماجه في الدعاء (3835).

(2)

أخرجه الترمذي في الدعوات (3513)، وابن ماجه في الدعاء (3850)، وأحمد 6/ 171 (25384). قال الترمذي:«حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (3337).

(3)

أخرجه الترمذي في الوتر (481)، والنسائي في السهو (1299)، وأحمد 3/ 120 (12207). وصححه الألباني في «الصحيحة» (3338).

(4)

أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2457)، والحاكم (2/ 421). قال الترمذي:«هذا حديث حسن» . وقال الحاكم: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» . وحسنه الألباني في «مشكاة المصابيح» (929).

ص: 157

3 الطهارة:

عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجلٍ يذنب ذنبًا، ثم يقوم ويتطهر، ثم يصلي، ثم يستغفر، إلا غفر الله له» ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]»

(1)

.

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: لما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من حُنَين، وذكر الحديث، وفيه: فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه فقال:«اللهم اغفر لعبيد أبي عامر» . ورأيت بياض إِبْطَيْهِ»

(2)

.

ومن الطهارة: السواك قبل الدعاء تطهيرًا للفم.

4 استقبال القبلة:

عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المصلَّى يستسقي، فدعا واستسقى، واستقبل القبلة، وقلب رداءه

(3)

.

وفي يوم بدر لما رأى كثرة جيش المشركين استقبل القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتِ ما وعدتني، اللهم إن تهلِك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض» ، فما زال يهتف بربه، مادًّا يديه مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه

(4)

.

واستقبل صلى الله عليه وسلم القبلة لما دعا عند المشعر الحرام، كما جاء في حديث جابر رضي الله عنه، كما استقبلها لما دعا عند الجمرات في منًى؛ كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما

(5)

.

(1)

أخرجه أبو داود في الصلاة (1521)، والترمذي في الصلاة (406)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1395)، وأحمد 1/ 2 (2). قال الترمذي:«حسن» . وحسنه الألباني في «مشكاة المصابيح» (1324).

(2)

أخرجه البخاري في المغازي (4323)، ومسلم في فضائل الصحابة (2498).

(3)

أخرجه البخاري في الدعوات (6343)، ومسلم في الاستسقاء (894)، والنسائي في الاستسقاء (1505)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، والسنة فيها (1267).

(4)

أخرجه مسلم في الجهاد (1763) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(5)

سيأتي تخريجهما.

ص: 158

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فدعا على نفر من قريش

(1)

.

قال النووي في «شرح مسلم»

(2)

في شرح حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه: «فيه استحباب استقبال القبلة» ، يعني: في الدعاء.

5 الإخلاص في الدعاء:

قال الله تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14]، وقال تعالى:{هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65]

6 إظهار الرغبة والرهبة والضراعة والخشوع، والشكوى إلى الله تعالى، والافتقار إليه عز وجل:

قال تعالى في الثناء على زكريا وزوجه وابنه يحيى عليهم السلام: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، وقال موسى عليه السلام:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].

وقال أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83].

وقال زكريا عليه السلام: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89].

وكما في دعاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر

(3)

.

7 أن يعزم المسألة:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: «لا يقولنَّ أحدُكم: اللهم اغفر لي إن شئتَ، اللهم ارحَمْني إن شئت، لِيعزِمِ المسألة؛ فإن الله لا مُكرِهَ له»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في المغازي (3960)، ومسلم في الجهاد والسير (1794).

(2)

/ 189.

(3)

سيأتي تخريجه قريبًا.

(4)

أخرجه مالك في القرآن (1/ 213)، والبخاري في الدعوات (6339)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة (2679/ 9)، وأبو داود في الصلاة (1483)، والترمذي في الدعوات (3497).

ص: 159

وفي رواية: «فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه»

(1)

.

8 أن يكرر الدعاء ثلاثًا، ويُلِحَّ على الله تعالى في الدعاء:

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، من حديث طويل عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: فلما قضى صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، ثم قال:«اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش»

(2)

.

وفي قصة سحر النبي صلى الله عليه وسلم قالت عائشة رضي الله عنها: «فدعا ثم دعا ثم دعا»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء الرجل يعود مريضًا فليقلِ: اللهم اشفِ عبدك ثلاثًا»

(4)

.

قال ابن عبد البر

(5)

: «مَن أدمنَ قَرْعَ الباب يوشك أن يُفتح له، ولا يمل الله عز وجل من العطاء حتى يمل العبد من الدعاء، ومن عجِل وتبرم فنفسَه ظَلَمَ» .

9 رفع اليدين في الدعاء:

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: دعا النبي صلى الله عليه وسلم ثم رفع يديه، ورأيتُ بياض إِبْطَيه»

(6)

.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: «اللهم أبرَأ إليك مما فعل خالد»

(7)

.

وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إن ربكم تبارك وتعالى حَيِيٌّ يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صِفرًا خائبتينِ»

(8)

.

ورفع اليدين إنما يكون فيما ثبت رفع اليدين فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ كالاستسقاء، ولو كان في خطبة الجمعة، ويوم عرفة، وليلة مُزدلِفة، وعند الجمرتين الأولى والثانية أيام التشريق،

(1)

أخرجها مسلم (2679/ 8).

(2)

أخرجه البخاري في الصلاة (520)، ومسلم في الجهاد والهجرة (1794)، والنسائي في الطهارة (307).

(3)

أخرجه مسلم في السلام (2189)، وابن ماجه في الطب (3545).

(4)

سيأتي تخريجه قريبًا.

(5)

في الاستذكار 2/ 526.

(6)

سبق تخريجه قريبًا.

(7)

أخرجه البخاري في المغازي (4339)، والنسائي في آداب القضاة (5405)، وأحمد 2/ 150 (6382).

(8)

أخرجه أبو داود في الصلاة (1488)، والترمذي في الدعوات (3556)، وابن ماجه في الدعاة (3865). قال الترمذي:«حسن غريب» . وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1337).

ص: 160

وعلى الصفا والمروة، وغير ذلك.

ويكون أيضًا في الدعاء العام، دون الأدعية الموظَّفة بأوقات وأماكن وأحوال، ولم يرد رفع اليدين فيها؛ ولهذا لا يُشرع بعد الفريضة، ولم يُنقل رفعهما بعد النافلة، فالأولى عدم المداومة عليه، أو تركه.

أما مسح الوجه باليدين بعد الدعاء فالأحاديث فيه ضعيفة، وقال بعض أهل العلم:«لا يُنكَر على من فعله» .

10 تحري أوقات الإجابة وأحوالها وأماكنها:

كدبر الصلوات، وثلث الليل الآخِر، ويوم الجمعة، وكحال السجود، والصوم، والسفر، وحال حضور القلب وصفائه وإقباله على الله تعالى، وفي أماكن الإجابة كعرفة، وعند المشعر الحرام، وعند الجَمَرات، وعلى الصفا والمروة.

11 الاستعانة بالله تعالى:

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: «يا معاذ، والله إني لأحبك، والله إني لأحبك» فقال: «أوصيك يا معاذ لا تَدَعَنَّ في دُبُر كل صلاة تقول: اللهم أعِنِّي على ذِكرك وشكرك وحُسن عبادتك»

(1)

.

ومن عونه عز وجل على ذكره وشكره وحسن عبادته التوفيق للدعاء؛ إذ لا شيء يتم للعبد الا بعون الله تعالى وتوفيقه، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه

(2)

:

إذا لم يكن عونٌ من الله للفَتَى

فأولُ ما يَجني عليه اجتهادُهُ

12 الإقرار والاعتراف بالذنب والظلم للنفس، وسؤال الله تعالى المغفرة والرحمة:

قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي

(1)

أخرجه أبو داود في الصلاة (1522)، والنسائي في الصلاة (1303)، وأحمد 5/ 244 (22119)، والبخاري في «الأدب المفرد» (690). وصححه الألباني «الأدب المفرد» ، وفي «صحيح أبي داود» (1362).

(2)

انظر: «ديوان علي رضي الله عنه» ص (37)، و «الفرج بعد الشدة» (1/ 177)، و «محاضرات الأدباء» (1/ 532).

ص: 161

الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87، 88]، وقال موسى عليه الصلاة والسلام:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص: 16].

وقال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «أنت ربي وأنا عبدُك، ظلمتُ نفسي، واعترفتُ بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»

(1)

.

وقالت ملكة سَبَأ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].

وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، علمني دعاءً أدعو به في صلاتي، قال:«قلِ: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم»

(2)

.

وعن شدَّاد بن أوسٍ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خَلَقْتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعتُ، أعوذ بك من شر ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. فمن قالها في النهار مُوقِنًا بها فمات من يومه قبل أن يُمسيَ فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة»

(3)

.

13 أن يبدأ بالدعاء لنفسه، ولوالديه، ويُثَنِّي بالدعاء لإخوانه المؤمنين:

قال نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28]، وقال إبراهيم عليه السلام:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41].

وقال عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19].

وامتدح عز وجل المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

(1)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (771)، وأبو داود في استفتاح الصلاة (760)، والنسائي في الاستفتاح (897)، والترمذي في الدعوات (3421) من حديث علي رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه قريبًا.

(3)

سبق تخريجه قريبًا.

ص: 162

وعن أُبيِّ بنِ كعبٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذكر أحدًا فدعا له بدأ بنفسه

(1)

.

ولمشروعية دعاء الإنسان لغيره من إخوانه شُرع التأمين على الدعاء، كما في التأمين بعد الفاتحة، وكما جاء أن هارون عليه السلام كان يؤمِّن على دعاء أخيه موسى عليه السلام:{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ، ولهذا قال الله تعالى:{قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 88، 89]، بضمير التثنية.

14 اليقين بالإجابة وحضور القلب:

لقوله تعالى في الحديث القدسي: «ولعبدي ما سأل»

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء قلب غافل لاهٍ»

(3)

.

وعن أبي سعيد الخُدْري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما من مسلمٍ يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها؛ إما أن يعجل له دعوته في الدنيا، وإما أن يَدَّخِرَها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مِثلَها» . قالوا: إذن نُكْثِر. قال: «الله أكثرُ»

(4)

.

قال ابن القيم

(5)

: «قال يحيى بن معاذ: من جمع الله له قلبه في الدعاء لم يردَّه» .

(1)

أخرجه أبو داود في الحروف والقراءات (3984)، والترمذي في الدعوات (3385)، وأحمد 5/ 121 (21126). قال الترمذي:«هذا حديث حسن غريب صحيح» .

(2)

سبق تخريجه قريبًا.

(3)

أخرجه الترمذي في الدعوات (3479)، والحاكم (1/ 493). قال الترمذي:«هذا حديث غريب» . وقال الحاكم: «هذا حديث مستقيم الإسناد تفرد به صالح المري، وهو أحد زهاد أهل البصرة، ولم يخرجاه» . وأخرجه أحمد 2/ 177 (6655) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «الصحيحة» (594).

(4)

أخرجه أحمد 3/ 18 (11133)، والبخاري في «الأدب المفرد» (710). وصححه الألباني في تحقيقه «الأدب المفرد». وأخرجه الترمذي في الدعوات (3573) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. قال الترمذي:«حديث حسن صحيح غريب» .

(5)

في «الفوائد» (ص 47).

ص: 163

ثم قال ابن القيم: «قلتُ: إذا اجتمع عليه قلبُه، وصدقتْ ضرورتُه وفاقَتُه، وقوِي رجاؤُه، فلا يكاد يُرَدُّ دعاؤه» .

قال ابن حَجَر

(1)

: «كل داعٍ يستجاب له، لكن تتنوَّع الإجابة، فتارَةً تقع بعين ما دعا به، وتارَةً بعِوَضه» .

15 عدم استعجال الإجابة:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُستجاب لأحدكم ما لم يُعَجِّلْ، يقول: دعوتُ، ودعوتُ فلم يُستجَبْ لي»

(2)

.

وفي رواية: «لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعةِ رحِمٍ ما لم يَستعجِل» . قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال:«يقول: قد دعوتُ، وقد دعوتُ فلم أرَ يستجيب لي. فيستحسِر عند ذلك ويدَعُ الدعاء»

(3)

.

قال داود بن أبي هند: «الإجابة عند حلاوة الدعاء»

(4)

.

أي: عندما يستشعر العبد لذة مناجاة الله تعالى، ويجد الأنس والسعادة بالدعاء، يكرمه الله عز وجل بالإجابة والعطاء.

ومقام الدعاء مقام عظيم، فمن فتح الله عليه بالدعاء، فقد جمع له مفاتح الخير كلها؛ من قوة الإيمان واليقين، وحُسن الظن بربه، وأجر الدعاء وثوابه، والسلامة من القنوط واليأس والإحباط، والاستغناء عن الخلق.

ومن تأمل سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ظهر له ذلك، فهذا إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام صبر على الابتلاء ولازم الدعاء، ففاز بالإجابة وأعظم على ربه الثناء:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39].

(1)

في «فتح الباري» (11/ 95).

(2)

أخرجه البخاري في الدعوات (6340)، ومسلم في الذكر والدعاء (2735/ 90)، وأبو داود في الصلاة (1484)، والترمذي في الدعوات (3387)، وابن ماجه في الدعاء (3853).

(3)

أخرجها مسلم (2735/ 92).

(4)

أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (4/ 274)، وانظر:«سير أعلام النبلاء» (4/ 340).

ص: 164

وُلد له إسماعيل وعمره (90) عامًا، وولد له إسحاق وعمره (112) عامًا، وكانت امرأته عقيمًا، ومع ذلك لم يستعجل عليه السلام الإجابة، ولم ييأس من رحمة الله تعالى ويترك الدعاء.

16 خفض الصوت بالدعاء.

قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وقال تعالى:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110].

وقال تعالى عن زكريا عليه السلام: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3].

وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غَزاة، فجعلنا لا نصعد شَرَفًا، ولا نعلو شرفًا، ولا نهبط واديًا إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير، قال: فدنا منا فقال: «يا أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدْعون أصمَّ ولا غائبًا، إنما تدعون سميعًا بصيرًا، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عُنق راحلته، يا عبدَ الله بن قيس، ألا أُعلمك كلمةً من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله»

(1)

.

قال الحسن البصري رحمه الله: «بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفًا، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً}، وإن الله ذكر عبدًا صالحًا، ورضي بفعله فقال: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا}»

(2)

.

قال ابن تيمية رحمه الله: «وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة: أنه أعظم إيمانًا؛ لأن صاحبه يعلم أن الله يسمع الدعاء الخفي، وأنه أعظم في الأدب والتعظيم، وأنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولُبه ومقصوده، وأنه أبلغ في الإخلاص، وأنه أبلغ في جمعية القلب على الذلة في الدعاء، فإن رفع الصوت يفرِّقه، وأنه دال على قرب صاحبه من الله، وأنه لاقترانه منه وشدة حضوره يسأله مسألة مناجاة القريب للقريب، لا مسألة نداء البعيد للبعيد، وأنه أدعى بدوام الطلب والسؤال، فإن اللسان لا يمل والجوارح لا

(1)

أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2992)، وفي القدر (6610)، ومسلم في الذكر (2704)، وأبو داود في الصلاة (1526 - 1528)، والترمذي في الدعوات (3374).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (15/ 15)، و «بدائع الفوائد» (3/ 6).

ص: 165

تتعب، بخلاف ما إذا رفع صوته، وأنه أبعد له من القواطع والمشوِّشات، فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد، فسلِم من الممانع والمعارض والحاسد، وقد قال يعقوب ليوسف عليهما السلام:{لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5]»

(1)

.

17 أن يقدم بين يدي دعائه عملًا صالحًا يتقرب به إلى الله عز وجل، ويتوسل به:

من صدقة وصلاة وقراءة القرآن، فهذا أحرى للإجابة؛ كما جاء في حديث الثلاثة الذين أَوَوْا إلى غار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسل كل منهم بأفضل أعماله، فاستجاب الله تعالى لهم، فانفرجت الصخرة وخرجوا يمشون

(2)

.

18 أن يتوسل إلى الله تعالى بأمرٍ يرتَّب على إجابة دعائه:

كما في قوله صلى الله عليه وسلم لما كان يدعو قبيل معركة بدر: «اللهم أنجز لي ما وعدتَني، اللهم آتِ ما وعدتني، اللهم إن تهلِك هذه العصابةُ من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض»

(3)

.

ومن ذلك قول موسى عليه السلام: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه: 27 - 35].

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء الرجل يعود مريضًا فليقلِ: اللهم اشفِ عبدَكَ ثلاثًا، يَنكَأُ لك عدوًّا، أو يمشي لك إلى الصلاة»

(4)

.

19 البكاء:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (15/ 15 - 19)، و «بدائع الفوائد» لابن القيم (3/ 6 - 10).

(2)

أخرجه البخاري في البيوع (2215)، وفي الإجارة (2272)، ومسلم في الذكر والدعاء (2743)، وأبو داود في البيوع (3387)، وأحمد 2/ 116 (5973) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه أحمد 1/ 117 (948)، والبزار 2/ 296 (719)، والطبري في «جامع البيان» (11/ 62 - 63). وقال الهيثمي في «المجمع» (6/ 76):«رواه أحمد والبزار، ورجال أحمد رجال الصحيح غير حارثة بن مضرب وهو ثقة» .

(4)

أخرجه أبو داود في الجنائز (3107)، وأحمد 2/ 172 (6600)، والحاكم (1/ 344). قال الحاكم:«هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (1304، 1365).

ص: 166

مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36]، وقال عيسى:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فرفع يديه وقال:«اللهمَّ أمتي، أمتي» . وبكى، فقال الله عز وجل:«يا جبريل، اذهب إلى محمد- وربك أعلم- فسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال، وهو أعلم، فقال الله: يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك»

(1)

.

20 ألا يستحييَ الداعي أن يسأل الله كل ما يجوز سؤاله:

كبيرًا كان أو صغيرًا، فإن الله عز وجل يغفر الكبير كما يغفر الصغير، ويعطي الكثير كما يعطي القليل، ولا يتعاظمه شيء أعطاه.

قال سليمان عليه السلام: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35]، فأعطاه الله عز وجل ذلك بتسخير الريح له والشياطين.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه»

(2)

.

وعن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم، إنك ما دعوتَني ورجوتني غفرتُ لك على ما كان فيك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبُك عَنان السماء ثم استغفرتني، غفرتُ لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو أتيتني بقُرابِ الأرض خطايا، ثم لقِيتَني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مَغفرةً»

(3)

.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «سلوا الله كل شيءٍ حتى الشِّسْع

(4)

؛ فإن الله إن لم ييسِّرْه لم يتيسرْ»

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان (202)، والنسائي في «الكبرى» 6/ 373 (11269).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه الترمذي في الدعوات (3540). وقال: «حسن غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (127).

(4)

الشسع: سير النعل، انظر:«لسان العرب» مادة «شسع» .

(5)

أخرجه أحمد في «الزهد» (1138)، وأبو يعلي في «مسنده» 8/ 44 (4560)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (355)، والبيهقي في «شعب الإيمان» 2/ 42 (1119). قال الهيثمي في «المجمع» (10/ 150):«رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الله بن نمير، وهو ثقة» . وقال الألباني في «الضعيفة» (1/ 76): «أخرجه ابن السني بسند حسن» . وصححه في «الصحيحة» (213).

ص: 167

فاسأل أخي المسلم ربك ما بدا لك، وكن عاليَ الهمة طموحًا حريصًا على سؤال معالي الأمور، وأعلى المطالب الدينية والدنيوية والأخروية، وأعلى ذلك وأعظمه الفوز بالزحزحة عن النار، ودخول الجنة مع الأبرار، ورؤية العزيز الغفار.

قال الشاعر:

إذا غامرتَ في شَرَفٍ مَرُومٍ

فلا تَقنَعْ بما دونَ النجومِ

(1)

وقال الآخر:

على قَدْرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ

وتأتِي على قدرِ الكِرامِ المَكارمُ

وتعظُمُ في عينِ الصغيرِ صِغارُها

وتصغُر في عين العظيمِ العظائمُ

(2)

21 ملازمة الأدعية المقيَّدة في أوقاتها وأحوالها وأماكنها:

كالأدعية دُبُرَ الصلوات، وأدعية الصباح والمساء، وعند النوم، وغير ذلك، والأدعية عند دخول المسجد والخروج منه، وعند دخول المنزل والخروج منه، ودخول الخلاء والخروج منه، وبدعاء السفر، ودعاء هبوب الريح، ودعاء الكَرب، وغير ذلك، وفي عَرَفةَ وفي مُزدلِفة، وعند الجمرتينِ الأولى والثانية أيام التشريق، وفي المطاف، وعلى الصفا والمروة، وعند نزول منزل، وغير ذلك.

22 اختيار الأسماء والصفات المناسبة لكل دعاء، كأن يقول: يا غفور اغفر لنا، يا رحمن ارحمنا، يا كريم أكرِمنا، يا رزاق ارزقنا، يا تواب تُبْ علينا، يا حفيظ احفظنا، يا لطيف الطف بنا، وهكذا.

كما في قول موسى عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151]، وقوله عليه السلام:{فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف: 155]، وقول سليمان عليه السلام:{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35].

(1)

البيت لأبي الطيب المتنبي، انظر:«ديوانه» ص (232).

(2)

البيتان لأبي الطيب المتنبي، انظر:«ديوانه» ص (385).

ص: 168

وقول الراسخين في العلم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8].

وقوله عز وجل: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 109]، وقوله:{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118].

23 أن يختار من الأدعية أفضلها، وأحراها بالإجابة، ومن ذلك:

أ- الدعاء باسم الله الأعظم:

عن بُريدة رضي الله عنه قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يدعو ويقول: اللهم أسألك بأني أشهد أنك الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلدْ ولم يولد ولم يكن له كُفُوًا أحد، فقال:«والذي نفسي بيده لقد سأل اللهَ باسمِه الأعظمِ الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أَعطَى» .

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا يدعو: اللهم إني أسالك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنَّان، بديع السماوات والأرض، ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال:«لقد سأل الله باسمِه الأعظم»

(1)

.

‌جوامع الدعاء:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك

(2)

.

‌أولًا: جوامع الدعاء من القرآن الكريم:

من جوامع الدعاء من القرآن الكريم ما يأتي:

1 دعاء الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا

(1)

أخرجه أبو داود في الوتر (1495)، والنسائي في السهو (1300)، الترمذي في الدعوات (3544)، وابن ماجه في الدعاء (3858)، وأحمد 3/ 120 (12226)، وابن حبان 3/ 175 - 176 (890)، والحاكم (1/ 503 - 504)، وصححه، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1342).

(2)

أخرجه أبو داود في الصلاة (1482)، وأحمد 6/ 189 (25151). وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1332)، وقال في «أصل صفة الصلاة» (3/ 1013):«وسنده صحيح على شرط مسلم» .

ص: 169

الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]، فإنه إذا هداه الصراط المستقيم أعانه على طاعته، وترك معصيته، فلم يصبه شر؛ لا في الدنيا ولا في الآخرة»

(1)

.

2 الدعاء والاستعاذة بالمعوِّذتين: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}:

فقد «كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الجانِّ وعين الإنسان، فلما نزلت المعوذتان أخذ بهما وترك ما سواهما»

(2)

.

3 {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهمَّ ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقِنا عذاب النار»

(3)

.

4 {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].

عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، إنه لم يدعُ بها رجل مسلم في شيءٍ قطُّ إلا استجاب الله له»

(4)

.

5 الدعاء باسم الربِّ -جل وعلا-، وصفة الربوبية:

فقد كان أكثر دعاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين بذلك كما جاء في القرآن

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» 14/ 320.

(2)

أخرجه ابن ماجه في العين (3511)، والنسائي في الاستعاذة من عين الجان (5494)، (7877).

(3)

أخرجه البخاري في الدعوات (6389)، ومسلم في الذكر والدعاء (2690)، وأبو داود في الصلاة (1519)، وأحمد 3/ 101 (11981).

(4)

أخرجه الترمذي في الدعوات (3505)، وأحمد 1/ 170 (1462)، والنسائي في «الكبرى» 6/ 168 (10492)، والحاكم (1/ 505). قال الحاكم:«هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (3383).

ص: 170

الكريم؛ لأن معنى الرب: الخالق المالك المدبر، الذي بيده أفعال الربوبية كلها من الخلق والرزق والإحياء والإماتة والنفع والضر، وغير ذلك.

قال الأبوان عليهما الصلاة والسلام: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23].

وقال نوح عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28]، وقال:{رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنين: 29].

وقال إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].

وقال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} إلى قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 35 - 41] فتوسل بربوبية الله عز وجل في هذه الآيات تسع مرات.

وقال عليه السلام في سورة الأنعام: {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الآية: 77]، وقال عليه السلام:{رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100].

وقال موسى عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]، وقال عليه السلام:{رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24].

وقال عيسى عليه الصلاة والسلام: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 114].

وقال تعالى حكاية عن أيوب عليه الصلاة والسلام: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83].

وقال زكريا عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء: 89].

وقال سليمان عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].

وقالت آسية بنت مُزاحِم امرأة فِرعون عليها السلام: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ

ص: 171

فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11].

وقالت ملكة سبأ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النحل: 44].

وقال أصحاب الكهف: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10].

وقال حَمَلة العرش من الملائكة عليهم السلام: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} [غافر: 7، 8].

وقال المؤمنون: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 285، 286].

وقالوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 8، 9].

وقالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 193، 194].

وقالوا: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} [الفرقان: 65، 66].

وقالوا: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].

وقالوا: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

وقال عز وجل آمِرًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97، 98].

وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} [المؤمنون: 118].

وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ

ص: 172

وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 26، 27].

وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46].

وذكر عز وجل دعاء الإنسان بعد بلوغ أشده وبلوغ أربعين بقوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].

وقد اشتملت هذه الأدعية على حسنة الدنيا والآخرة، وعلى كل ما فيه صلاح العبد في دينه ودنياه وأخراه، من سؤال الله عز وجل الهداية إلى الصراط المستقيم والرشد والدخول في الإسلام والإيمان، والثبات على ذلك والوفاة عليه، والسلامة من الشرك، ومن طريق المغضوب عليهم والضالين، وسؤاله عز وجل دخول الجنة والوقاية من النار، ومن الخزي يوم القيامة، وسؤاله عز وجل قبول الأعمال، ومغفرة الذنوب وتكفير السيئات، والتوكل على الله والافتقار إليه، وسؤاله الحفظ والكفاية والرحمة وعدم المؤاخذة على النسيان والخطأ، وعدم تحميلهم إصرًا وما لا يطيقونه، وسؤاله التوفيق إلى إقام الصلاة والعمل الصالح وشكر النعم، والذرية الطيبة الصالحة، وقرة العين من الأزواج والذريات، وسؤاله بركة المنزل، وكشف الضر، والإعاذة من همزات الشياطين وحضورهم، ومن جميع شرور الخلق، ومن السحر والحسد والوسواس وغير ذلك.

‌ثانيًا: جوامع الدعاء من السنة النبوية المطهرة:

من جوامع الدعاء من السنة النبوية المطهرة ما يأتي:

1 دعاء عرفة:

عن طلحة بن عبيد الله بن كَريز رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«أفضلُ الدعاء دعاء عرفة، وأفضل ما قلتُ أنا والنبيون من بعدي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له»

(1)

.

(1)

أخرجه مالك في القرآن (1/ 214)، وفي الحج (1/ 422)، وعنه عبد الرزاق في «مصنفه» 4/ 378 (8125) عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أحد التابعين مرسلًا. قال الألباني في «الصحيحة» (4/ 7):«وهذا إسناد مرسل صحيح» . وأخرجه الترمذي في الدعوات (3585) من حديث عمرو بن شعيب عن أبي عن جده رضي الله عنه. وقال: «حديث غريب» . وقال الألباني في «الصحيحة» (4/ 7): «أخرجه الترمذي بسند فيه ضعف» .

ص: 173

2 سؤال الله تعالى ثبات القلب على الدين:

عن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: «يا مقلِّبَ القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك» ، فقلت: يا رسول الله، آمنَّا بك وبما جئت به، لأنت تخاف علينا؟ قال:«نعم، إن القلوب بين أصبعينِ من أصابع الله يقلبها كيف يشاء»

(1)

.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد يصرفه كيف يشاء» ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا مصرِّفَ القلوب صرِّفْ قلوبنا على طاعتك»

(2)

.

3 سؤال الله تعالى الهدى والتقى والعفاف والسَّداد والغنى:

عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاته إذا قام من الليل بقوله: «اللهم ربَّ جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطرَ السماواتِ والأرض، عالمَ الغيبِ والشهادة، أنت تحكُم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»

(3)

.

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أسألُكَ الهدى والتقى والعفاف والغنى»

(4)

.

(1)

أخرجه الترمذي في القدر (2140)، وابن ماجه في الدعاء (3834)، وأحمد 3/ 112 (12107)، والبخاري في «الأدب المفرد» (583). قال الترمذي:«حديث حسن» . وصححه الألباني في تحقيقه لـ «الأدب المفرد» .

(2)

أخرجه مسلم في القدر (2654)، وأحمد 2/ 168 (6569).

(3)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (770)، وأبو داود في الصلاة (767)، والنسائي في قيام الليل (1625)، والترمذي في الدعوات (3420)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1357).

(4)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2721)، والترمذي في الدعوات (3489)، وابن ماجه في الدعاء (3832)، وأحمد 1/ 416 (3950).

ص: 174

وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: «اللهم اهْدِني وسدِّدني»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أصلح لي ديني الذي هو عِصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخِرتي التي إليها مَعادي، واجعل الحياة زيادةً لي في كل خير، والموتَ راحةً لي من كل شر»

(2)

.

4 سؤال الله تعالى العفوَ والعافية في الدين والدنيا والآخرة، والحفظ في الأهل والمال:

عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: «اللهم إني أسألك العافيةَ في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفوَ والعافيةَ في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن رَوعاتي، اللهم احفظني من بين يديَّ، ومن خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أُغتالَ من تحتي»

(3)

.

5 سؤال الله تعالى المغفرة:

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء:«اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلمُ به مني، اللهم اغفر لي جِدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكلُّ ذلك عندي، اللهم اغفر لي ما قدمتُ وما أخرت، وما أسررتُ وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير»

(4)

.

6 دعاء السجود:

عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: «اللهم إني أعوذ برضاك من

(1)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2725)، وأبو داود في الخاتم (4225)، والنسائي في الزينة (5212)، وأحمد 1/ 154 (1321).

(2)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2720).

(3)

أخرجه أبو داود في الأدب (5074)، وابن ماجه في الدعاء (3871)، والبخاري في «الأدب المفرد» (1200)، وأحمد 5/ 25 (4785). وصححه الألباني في تحقيقه «الأدب المفرد» .

(4)

أخرجه البخاري في الدعوات (6398، 6399)، ومسلم في الذكر والدعاء (2719)، وأحمد 4/ 417 (19738).

ص: 175

سَخَطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: «اللهم اغفرْ لي ذنبي كله، دِقَّه وجِلَّه، وأوله وآخره، وعلانيَته وسره»

(2)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: «اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي سمعي نورًا، وفي بصري نورًا، وعن يميني نورًا، وعن شمالي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، واجعل لي نورًا»

(3)

.

7 دعاء قيام الليل:

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تهجد من الليل قال: «اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيِّم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهنَّ، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت»

(4)

.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطرَ السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم

(1)

أخرجه مالك في القرآن (1/ 214)، ومسلم في الصلاة (486)، وأبو داود في الصلاة (879)، والنسائي في الطهارة (169)، وفي التطبيق (1100)، والترمذي في الدعوات (3493)، وابن ماجه في الدعاء (3841).

(2)

أخرجه مسلم في الصلاة (483)، وأبو داود في الركوع والسجود (878).

(3)

أخرجه البخاري في الدعوات (6316)، ومسلم في صلاة المسافرين (763)، وأبو داود في الصلاة (1353)، والنسائي في التطبيق (1121).

(4)

أخرجه مالك في القرآن (1/ 215)، والبخاري في الدعوات (6317)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (769)، وأبو داود في استفتاح الصلاة (771)، والترمذي في الدعوات (3418)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1355).

ص: 176

بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»

(1)

.

7 دعاء الجلوس بين السجدتين:

عن أبي مالك الأشجعي، عن أبيه رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال: يا رسول الله، كيف أدعو حين أسأل ربي؟ قال:«قلِ: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وارزقني- ويجمع أصابعه إلا الإبهام- فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك»

(2)

.

8 الاستعاذة بالله تعالى من الشرك وغيره:

عن مَعقِل بن يَسَار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر رضي الله عنه: «قلِ: اللهم إني أعوذ بك أن أُشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم»

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال»

(4)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوِّذ الحسن والحسين، ويقول:«إن أباكما كان يعوِّذ بهما إسماعيل وإسحاق: أعوذ بكلمات الله التامَّة، من كلِّ شيطانٍ وهامَّة، ومن كل عينٍ لامَّة»

(5)

.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا هذه الكلمات كما

(1)

سبق تخريجه قريبًا.

(2)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2697)، وابن ماجه في الدعاء (3845)، وأحمد 2/ 472 (15877).

(3)

أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (716)، وأبو يعلى في «مسنده» 1/ 62 (60، 61). وقال الهيثمي في «المجمع» (10/ 224): «رواه أبو يعلى عن شيخه: عمرو بن الحصين العقيلي، وهو متروك» . وصححه الألباني في تحقيقه لـ «الأدب المفرد» .

(4)

أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (588)، وأحمد 2/ 477 (10180).

(5)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3371)، وأبو داود في السنة (4737)، والترمذي في الطب (2060)، وابن ماجه في الطب (3525).

ص: 177

تعلم الكتابة: «اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أُرَدَّ إلى أرذل العُمُر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وعذاب القبر»

(1)

.

وعن أنس رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم، والحزن، والكسل، والجُبن، والبخل، وضَلَع الدَّين، وغلبة الرجال»

(2)

.

وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل، والهَرَم، وعذاب القبر، اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علمٍ لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشع، ومن نفسٍ لا تشبع، ومن دعوةٍ لا يُستجاب لها»

(3)

.

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهَرَم، والمغرم والمأثم، اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، وفتنة النار، وفتنة القبر، وعذاب القبر، وشر فتنة الغنى، وشر فتنة الفقر، ومن شر فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرَد، ونقِّ قلبي من الخطايا كما يُنقَّى الثوب الأبيض من الدنَس، وباعِدْ بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب»

(4)

.

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعوذوا بالله من الفِتن، ما ظهر منها وما بطن»

(5)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم لك أسلمتَ، وبك آمنتَ، وعليك توكلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن

(1)

أخرجه البخاري في الدعوات (6390)، والنسائي في الاستعاذة (5445)، والترمذي في الدعوات (3507).

(2)

أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2893)، ومسلم في الذكر والدعاء (2706)، وأبو داود في الوتر (1541)، والنسائي في الاستعاذة (5449)، والترمذي في الدعوات (3484).

(3)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2722)، والنسائي في الاستعاذة (5458)، وأحمد 4/ 371 (19308).

(4)

أخرجه البخاري في الدعوات (6375)، والنسائي في الاستعاذة (5477) وأحمد 6/ 207 (25727).

(5)

أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2867).

ص: 178

تُضِلَّني، أنت الحي الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من سوء القضاء، ومن دَرَك الشقاء، ومن شماتة الأعداء، ومن جهد البلاء

(2)

.

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من شر ما عمِلتُ، ومن شر ما لم أعمَلْ»

(3)

.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نِقمتك، وجميع سخطك»

(4)

.

وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من البَرَص، والجنون، والجُذام، ومن سيئ الأسقام»

(5)

.

9 دعاء قضاء الدين والغنى من الفقر:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها: «قولي: اللهم ربَّ السماوات السبع، وربَّ العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، مُنزِلَ التوراة والإنجيل والقرآن العظيم، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخِر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقضِ عنا الدين وأغننا من الفقر»

(6)

.

10 دعاء الكرب:

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض وربَّ العرش العظيم»

(7)

.

وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر قال: «يا حيَّ يا قيوم برحمتك

(1)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2717).

(2)

أخرجه البخاري في الدعوات (6347)، ومسلم في الذكر والدعاء (2707).

(3)

أخرجه مسلم (2716).

(4)

أخرجه مسلم في الرقاق (2739)، وأبو داود في الرقاق (2739).

(5)

أخرجه أحمد (13004)، وأبو داود في الاستعاذة (1554).

(6)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2713)، والترمذي في الدعوات (3481)، وابن ماجه في الدعاء (3831).

(7)

أخرجه البخاري في الدعوات (6345)، ومسلم في الذكر والدعاء (2730) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 179

أستغيث»

(1)

.

إلى غير ذلك من جوامع أدعية السنة التي تجلُّ عن الحصر من الأدعية العامة، والأدعية المقيَّدة في الأوقات والأماكن والأحوال.

وقد اشتملت هذه الأدعية على توحيد الله تعالى وتعظيمه والثناء عليه وسؤاله الثبات على الدين والهدى والتقى والعفاف والسداد والغنى، والعفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، والحفظ في الأهل والمال، والتعوذ بالله وبرضاه من سخطه وبعفوه من عقوبته، وسؤال مغفرة الذنب والخطأ والجهل والعمد والإسراف والجد والهزل، وما قدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، وصلاح أمر الدين والدنيا والآخرة، وجعل الحياة زيادةً في كل خير، والموت راحة من كل شر، والتنقية من الذنوب والخطايا، والمباعدة بينه وبين الذنوب والخطايا كما بين المشرق والمغرب، وسؤال النور والهداية لما اختلف فيه من الحق والرحمة والرزق، والاستعاذة من الشرك، ومن عذاب النار وعذاب القبر وفتنتها، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال، والاستعاذة بكلمات الله التامَّة، من كل شيطان وهامَّة، ومن كل عين لامَّة، ومن الهم، والحزن، والكسل، والجبن، والبخل، وضَلَع الدين، وغلبة الرجال، والمغرم، والمأثم، والعجز، والهَرَم، وسؤال الله إيتاء النفس تقواها، وتزكيتها، والاستعاذة من علم لا ينفع، وقلبٍ لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعوة لا يستجاب لها، ومن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ومن الضلال، ومن شر فتنة الغنى والفقر، ومن سوء القضاء، ودَرَك الشقاء، وشماتة الأعداء، وجهد البلاء، ومن شر كل ما عمل، ومن شر كل ما لم يعمل، ومن زوال نعمة الله عز وجل، وتحول عافيته، وفُجاءة نقمته، وجميع سخطه، وسؤال قضاء الدين، والغنى من الفقر، وتفريج الكرب، والاستغاثة برحمة الله عز وجل، وغير ذلك.

(1)

أخرجه الترمذي في الدعوات (3524). وصححه الألباني في «الصحيحة» (3182). وأخرجه الحاكم (1/ 509) بنحوه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وقال: «صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» .

ص: 180

11 ملازمة الدعاء في الشدة والرخاء:

فإن من الناس من لا يعرف الدعاء إلا وقت الشدة، كما قال تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر: 8].

وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [الروم: 33].

وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].

12 طِيب المطعم:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعثَ أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمُه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك»

(1)

.

13 عدم الاعتداء في الدعاء، وهو أنواع، منها:

أ- التكلف بالتفصيل بالدعاء:

فعن عبد الله بن مغفَّل رضي الله عنه أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتُها، فقال: أي بنيَّ، سلِ اللهَ الجنة، وتعوَّذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء»

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في الزكاة (1015)، والترمذي في التفسير (2989)، والدارمي 2/ 389 (2717)، وأحمد 2/ 328 (8348).

(2)

أخرجه أبو داود في الطهارة (96)، وابن ماجه في الدعاء (3864)، وأحمد 4/ 86 (16796). وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (86).

ص: 181

وعن ابن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعني أبي وأنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها، وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها، وكذا وكذا. فقال: يا بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«سيكون قوم يعتدون في الدعاء، فإياك أن تكون منهم، إنك إن أُعطيت الجنة أعطيتها وما فيها من الخير، وإن أُعذت من النار أعذت منها وما فيها من الشر»

(1)

.

ب- التكلف في السجع في الدعاء:

فإن حال الداعي ينبغي أن تكون حال ذل وخضوع، والتكلف في السجع ينافي ذلك.

قال ابن عباس رضي الله عنهما لأحد أصحابه من نصيحةٍ له: «فانظر السجع من الدعاء فاجتنبْه؛ فإني عهِدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك» ؛ يعني: لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب

(2)

.

ج- الدعاء على النفس والأهل والولد والمال، أو على من لا يستحق ذلك:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدْعُوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يسأل فيها عطاء فيستجيب لكم»

(3)

.

د- الدعاء بإثم أو قطيعة رحم:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، ما لم يستعجل»

(4)

.

هـ- تحجير رحمة الله تعالى ومغفرته:

(1)

أخرجه أبو داود في الصلاة (1480)، وأحمد 1/ 172 (1483). وضعف إسناده أحمد شاكر في تخريجه لـ «المسند». وقال الألباني في «صحيح أبي داود» (1330):«حسن» .

(2)

أخرجه البخاري في الدعوات (6337).

(3)

أخرجه مسلم في الزهد (3009)، وأبو داود في الوتر (1532).

(4)

سبق تخريجه.

ص: 182

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي:«لقد حجَّرتَ واسعًا» . يريد رحمة الله

(1)

.

‌الوقفة الثالثة في:

الأوقات والأحوال والأماكن التي يُشرع فيها الدعاء

‌أ- الأوقات والأحوال التي يشرع فيها الدعاء:

الأوقات كلها محل للدعاء وللإجابة، وكذا الأحوال إلا ما استثني منها

(2)

، لكن من الأوقات والأحوال ما شُرع الدعاء فيها على وجه الخصوص بدلالة الكتاب والسنة، فعلى المسلم الاجتهاد في الدعاء في كل وقت وفي كل حال، وعليه أن يتحرى الأوقات والأحوال التي شُرع فيها الدعاء أكثر.

ومن الأوقات والأحوال التي شرع فيها الدعاء:

1 الوقت ما بين الأذان والإقامة:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء لا يُرَد بين الأذان والإقامة»

(3)

.

2 حال السجود:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في الأدب (6010)، وأبو داود في الركوع والسجود (882)، والنسائي في السهو (1216، 1217) والترمذي في الطهارة (147)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (530).

(2)

كحال قضاء الحاجة، ونحو ذلك.

(3)

أخرجه أبو داود في الصلاة (521)، والترمذي في الصلاة (212)، وأحمد 3/ 112 (12200). وصححه الألباني في «الإرواء» (244).

(4)

أخرجه مسلم في الصلاة (482)، وأبو داود في الصلاة (875)، والنسائي في التطبيق (1137)، وأحمد 2/ 412 (9461).

ص: 183

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما الركوع فعظِّموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يُستجاب لكم»

(1)

.

3 دُبُر الصلوات المكتوبات (قبل السلام):

عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله، أي الدعاء أسمع؟ قال:«جوف الليل الآخِر، ودُبُرَ الصلوات المكتوبات»

(2)

.

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال: «والله إني لأُحبك، والله إني لأحبك» فقال: «أوصيك يا معاذ لا تدعن دُبُرَ كل صلاة تقول: اللهم أعني على ذِكرِك وشكرك وحسن عبادتك»

(3)

.

وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم لما علم أصحابه التشهد قال: «ثم يَتَخَير من الدعاء أَعجَبَه إليه فيدعو»

(4)

.

4 جوف الليل وثلث الليل الآخِر:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيبَ له، ومن يسألني فأعطيَه، ومن يستغفرني فأغفرَ له»

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في الصلاة (479)، وأبو داود في الصلاة (876)، والنسائي في التطبيق (1045)، وأحمد 1/ 219 (1900)، والدارمي 1/ 349 (1326). ومعنى «فقمنٌ»؛ أي: فحَرِيٌّ.

(2)

أخرجه الترمذي في الدعوات (3499). وحسنه الألباني في تخريج «الكلِم الطيب» (114)، وفي «مشكاة المصابيح» (968، 1231).

(3)

أخرجه أبو داود في الصلاة (1522)، والنسائي في الصلاة (1303)، والبخاري في «الأدب المفرد» (690). وصححه الألباني «الأدب المفرد» ، وفي «صحيح أبي داود» (1362).

(4)

أخرجه البخاري في الأذان (835).

(5)

أخرجه مالك في القرآن (1/ 214)، والبخاري في الجمعة (1145)، ومسلم في صلاة المسافرين (758)، وأبو داود في الصلاة (1315)، والترمذي في الصلاة (446)، وفي الدعوات (3498)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1366).

ص: 184

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الليل ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله خيرًا إلا أعطاه الله إياه»

(1)

.

5 يوم الجمعة:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: «فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه»

(2)

.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة لا يوجد فيها عبد يسأل الله شيئًا إلا آتاه إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر»

(3)

.

وأرجى ساعات الإجابة يوم الجمعة عندما يجلس الإمام على المنبر إلى أن تُقضى الصلاة، وبعد العصر إلى غروب الشمس.

6 يوم عرفة:

عن طلحة بن عبيد الله بن كَريز مرسَلًا؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضلُ الدعاءِ دعاء يوم عرفة، وأفضلُ ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له»

(4)

.

7 إذا تعارَّ من الليل:

عن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تعارَّ من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي، أو دعا

(1)

أخرجه مسلم في الصلاة (757)، وأحمد 3/ 313 (14355).

(2)

أخرجه مالك في الجمعة (1/ 108)، والبخاري في الجمعة (935)، ومسلم في الجمعة (852)، والترمذي في الجمعة (491).

(3)

أخرجه أبو داود في الصلاة (1048)، والنسائي في الجمعة (1389)، والحاكم (1/ 279). قال الحاكم:«حديث صحيح على شرط مسلم، فقد احتج بالجلاح بن كثير، ولم يخرجاه» . وحسن إسناده الحافظ ابن حجر في «الفتح» (2/ 420).

(4)

سبق تخريجه قريبًا.

ص: 185

استُجيب له، فإن توضأ وصلى قُبلت صلاته»

(1)

.

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يبيت على ذكرٍ طاهرًا، فيتعار من الليل فيسأل الله خيرًا من الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه»

(2)

.

8 حال الصيام وعند الإفطار:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تُرَد دعوتهم: الصائم حتى يُفطِر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم»

(3)

.

9 حال السفر:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده»

(4)

.

10 عند الأذان:

عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثنتان لا تُردان، أو قلما تُردان: الدعاء عند النداء، وعند البأسِ حين يُلحِم بعضهم بعضًا» ، وفي روايةٍ قال:«ووقت المطر»

(5)

.

وفي رواية: «ساعتان تُفتح فيهما أبواب السماء: عند حضور الصلاة، وعند الصف في سبيل الله»

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في التهجد (1154)، وأبو داود في النوم (5060)، والترمذي في الدعوات (3414)، وابن ماجه في الدعاء (3878).

(2)

أخرجه أبو داود في الأدب (5042)، وأحمد 5/ 234 (22048). وصححه الألباني في «الصحيحة» (3288).

(3)

أخرجه الترمذي في الدعوات (3598)، وابن ماجه في الصيام (1752)، وأحمد 2/ 304 (8043). قال الترمذي:«حديث حسن» . وضعفه الألباني في «الضعيفة» (1358).

(4)

أخرجه أبو داود في الوتر (1536)، والترمذي في البر والصلة (1905)، وابن ماجه في الدعاء (3862). قال الترمذي:«هذا حديث حسن» . وحسنه الألباني أيضًا في «صحيح أبي داود» (1374).

(5)

أخرجه أبو داود في الجهاد (2540)، والدارمي 1/ 293 (1200)، والحاكم في الجهاد (1/ 198). وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (2290).

(6)

أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» 1/ 495 (1910)، وابن أبي شيبة في «المصنف» 15/ 123 (29852)، وابن حبان 5/ 5 (1720)، والطبراني في «الدعاء» (489)، والبيهقي (1/ 411).

ص: 186

11 عند نزول الغيث:

لِما جاء في بعض روايات حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: «وقت المطر»

(1)

.

12 عند التقاء الجيوش:

لما جاء في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: «وعند البأس حين يُلحِم بعضُهم بعضًا، وعند الصف في سبيل الله» .

‌ب- الأماكن التي يُشرع فيها الدعاء:

الدعاء مشروع في جميع الأماكن، وتُرجى إجابته، ما عدا الأماكن التي لا يجوز الدعاء فيها: كدورات المياه ونحوها، وكذا المقابر؛ لأن الدعاء عبادة، والعبادة لا تجوز في المقابر؛ لأنها وسيلة إلى الشرك، ويُستثنى من ذلك الدعاء للميت في الصلاة عليه أو على قبره وعند زيارة القبور.

وهناك أماكن شُرع فيها الدعاء على الخصوص، منها ما يأتي:

1 عرفة للحاج يوم عرفة:

عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»

(2)

.

2 عند المشعر الحرام ليلة جمع للحاج:

لِما جاء في حديث جابر رضي الله عنه الطويل، وفيه: «ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعاه وكبره وهلله ووحده، فلم يزل واقفًا حتى أسفر جدًّا،

(1)

سبق تخريجه في الحديث قبل السابق.

(2)

وأخرجه الترمذي في الدعوات (3585) من حديث عمرو بن شعيب عن أبي عن جده رضي الله عنه. وقال: «حديث غريب» . وقال الألباني في «الصحيحة» (4/ 7): «أخرجه الترمذي بسند فيه ضعف» .

ص: 187

فرفع قبل أن تطلُع الشمس»

(1)

.

3 الدعاء في الطواف بين الركن اليماني والحجر الأسود:

لما جاء أنه يقول بين الركنين: «ربَّنا آتنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار»

(2)

.

4 الدعاء على الصفا والمروة للمعتمِر والحاج:

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، «أبدأ بما بدأ الله به» ، فبدأ بالصفا فرقِيَ عليه حتى رأى البيت فاستقبل القبلة، فوحد الله وكبره، وقال:«لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجزَ وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات. الحديث، وفيه: ففعل على المروة ما فعل على الصفا

(3)

.

5 الدعاء عند رمي الجمرة الأولى والثانية أيام التشريق:

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رمى الجمرة التي تلي مسجد منًى يرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم تقدم أمامها فوقف مستقبل القبلة رافعًا يديه، وكان يطيل الوقوف، ثم يأتي الجمرة الثانية فيرميها بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم ينحدر ذات اليسار مما يلي الوادي فيقف مستقبل القبلة، رافعًا يديه ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة، ثم ينصرف ولا يقف عندها»

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في الحج (1218)، وأبو داود في المناسك (1905)، وابن ماجه في المناسك (3074).

(2)

أخرجه أبو داود في المناسك (1892)، وأحمد 3/ 411 (15398، 15399)، والحاكم (1/ 455، 2/ 277) من حديث عبد الله بن السائب رضي الله عنه. قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه» . وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1653).

(3)

أخرجه مسلم في الحج (2018)، وابن ماجه في المناسك (3074)، والدارمي 2/ 67 (1850) من حديث جابر رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البخاري في الحج (1753).

ص: 188

6 الدعاء داخل الكعبة:

عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها

(1)

.

7 الدعاء في الملتزَم، وهو ما بين الحجر الأسود والباب:

دعاء الملتزم لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكنَّ كثيرًا من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفعلونه، منهم ابن عباس رضي الله عنهما وغيره

(2)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وإنْ أحب أن يأتي الملتزم- وهو ما بين الحجر الأسود والباب- فيضع عليه صدره ووجهه وذراعيه وكفيه ويدعو ويسأل الله تعالى حاجته، فعل ذلك، وله أن يفعل ذلك قبل طواف الوداع، فإن هذا الالتزام لا فرق بين أن يكون حال الوداع أو غيره، والصحابة كانوا يفعلون ذلك حين يدخلون مكة

ولو وقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسنًا»

(3)

.

وقال ابن باز رحمه الله: «دعاء الملتزم لا بأس به، فعله كثير من الصحابة، ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، ولكن في سنده نظر، ولكن فعله بعض الصحابة، وهو ما بين الركن والباب، إن كان يقف فيه ويدعو ربه لا بأس بهذا، تُرجى فيه الإجابة»

(4)

.

وقال ابن عثيمين: «الالتزام لم ترد فيه سُنة، لكن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يفعلونه عند القدوم. والفقهاء قالوا: يفعله عند المغادرة. وعلى هذا فالالتزام لا بأس به ما لم يكن فيه أذية وضيق»

(5)

.

8 الدعاء في المسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى:

لأن الصلاة والعبادة فيها تضاعَف، وغير ذلك.

وقد يكون للدعاء في سائر المساجد فضل؛ لأنها بيوت الله، وأفضل بقاع الأرض.

(1)

أخرجه مسلم في الحج (1330)، والنسائي في مناسك الحج (2917)، وأحمد 5/ 201 (21754).

(2)

أخرجه الفاكهي في أخبار مكة (230).

(3)

«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (26/ 142 - 143).

(4)

انظر: «موقع ابن باز رحمه الله» صوتيًّا.

(5)

انظر: «الشرح الممتع» (7/ 372).

ص: 189

‌الوقفة الرابعة في:

إجابة الدعاء، وموانع الإجابة،

والتحذير من الدعاء على النفس والولد والأهل والمال،

ومن ترك الأدعية الواردة في الكتاب والسنة،

والأدعية المأثورة، والاعتداء بالدعاء

‌أ- إجابة الدعاء:

أمر الله عز وجل العباد كلهم أن يدعوه، ووعدهم بالاستجابة لهم، فقال تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

وقال عز وجل في الحديث القدسي: «من يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيَه»

(1)

.

وقال تعالى مخاطبًا المشركين: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 62، 63].

وقد وردت بعض الأدلة بالتخصيص بإجابة الدعاء، وممن ورد تخصيصهم بذلك، وبأن دعوتهم لا تُرَدُّ من يأتي:

1 من اتصف بما ذُكر في هذين الحديثين:

عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كم من أشعثَ أغبرَ ذي طِمرَينِ لا يُؤبَهُ له، لو أقسم على اللهِ لأبرَّه! منهم البرَاء بن مالك»

(2)

.

وعن أنس رضي الله عنه: أن أخت الرُّبَيِّع أم حارثة جَرحت إنسانًا، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه الترمذي في المناقب (3854)، وأحمد 3/ 145 (12476). قال الترمذي:«حديث حسن غريب» . وحسنه الألباني في «مشكاة المصابيح» .

ص: 190

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «القِصاص، القصاص» . فقالت أم الربيع: يا رسول الله، أيُقتص من فلانة؟! والله لا يُقتص منها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«سبحان الله يا أم الربيع، القِصاصُ كتابُ الله» . قالت: والله لا يُقتص منها أبدًا. قال: فما زالت حتى قبِلوا الديَةَ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من عبادِ اللهِ مَن لو أقسَمَ على اللهِ لَأَبَرَّه»

(1)

.

فهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم للبراء بن مالك وأم الربيِّع رضي الله عنهما بإجابة دعوتهما، كما أن في الحديثين دلالة على أن من نال هذه المكانة عند الله عز وجل فهو مجاب الدعوة.

2 المضطر:

قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].

3 المظلوم:

عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن، فقال:«واتقِ دعوةَ المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب»

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات يُستجاب لهن لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده»

(3)

.

وفي رواية: «ثلاثة لا تُرد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يُفطِر، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغَمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول الرب: وعزتي لأنصرنَّكِ ولو بعد حين»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2806)، ومسلم في القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1675)، وأبو داود في الديات (4595)، والنسائي في القسامة (4755)، وابن ماجه في الديات (2649).

(2)

سبق تخريجه قريبًا.

(3)

أخرجه أبو داود في الوتر (1536)، والترمذي في البر والصلة (1905)، وابن ماجه في الدعاء (3862). قال الترمذي:«هذا حديث حسن» . وحسنه الألباني أيضًا في «صحيح أبي داود» (1374).

(4)

أخرجها الترمذي في الدعوات (3598)، وابن ماجه في الصيام (1752)، وأحمد 2/ 304 (8043). قال الترمذي:«حديث حسن» .

ص: 191

4 المسافر.

5 الصائم حتى يفطر.

6 الإمام العادل.

7 دعوة الوالد على ولده: لِما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

8 دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب:

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكَّل، كلما دعا لأخيه بخيرٍ قال له الملك الموكل به: آمين ولك بمِثل»

(1)

.

9 دعوة من أطاب مطعمه:

لِما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في «الرجل يطيل السفر، أشعَث أغبر، يمُد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومَطعَمُه حرام، ومَشرَبه حرام، ومَلبَسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك؟!»

(2)

.

فمفهوم هذا أن من أطاب مطعمه فهو حريٌّ بإجابة دعوته.

‌ب- موانع الإجابة:

من موانع الإجابة ما يأتي:

1 أكل الحرام:

لما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعثَ أغبرَ يمُد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يُستجاب لذلك؟!»

(3)

.

2 الدعاء بإثم أو قطيعة رحم:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى الله عليه وسلم: «لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يَدْعُ بإثم أو

(1)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2733)، وأبو داود في الصلاة (1534).

(2)

سبق تخريجه قريبًا.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 192

قطيعة رحم»

(1)

.

3 الغفلة واللهو حال الدعاء:

لقوله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله وأنتم موقِنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب الدعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ»

(2)

.

4 التقصير في الواجبات، وارتكاب المنهيَّات، والظلم، وكثرة الذنوب والمعاصي:

فإن ذلك يحُول بين العبد وبين إجابة الدعاء.

5 استعجال الإجابة:

لقوله صلى الله عليه وسلم: «يستجاب لأحدكم ما لم يَعجَلْ، يقول: دعوتُ ودعوتُ فلم يُستجب لي»

(3)

.

قال ابن رجب

(4)

: «جعل ذلك من موانع الإجابة حتى لا يقطع العبد رجاءه من إجابة دعائه، ولو طالت المدة، فإنه سبحانه يحب الملحِّين في الدعاء» .

‌ج- التحذير من الدعاء على النفس والولد والأهل والمال:

عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلًا من المسلمين قد ضعف فصار مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:«هل كنت تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟» قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجِّلْه لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله! لا تُطيقه- أو لا تستطيعه- أفلا قلتَ: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار»

(5)

.

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم»

(6)

.

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شخص بصرُه،

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

في «جامع العلوم والحكم» 1/ 403.

(5)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2688)، والترمذي في الدعوات (3487)، وأحمد 3/ 107 (12049).

(6)

سبق تخريجه قريبًا.

ص: 193

فأغمضه ثم قال: «إن الروح إذا قُبض تبِعه البصرُ» . فضج ناس من أهله، فقال:«لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير؛ فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون»

(1)

.

‌د- التحذير من ترك الأدعية الواردة في الكتاب والسنة، والأدعية المأثورة، والاعتداء بالدعاء:

مما يجب التنبيه عليه، وهو من الأهمية بمكان، أنه ينبغي للمسلم أن يحرص كل الحرص على الأدعية الواردة في القرآن الكريم، وفي سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أُعطي جوامع الكلم والأدعية المأثورة، فإن هذه الأدعية جامعة مانعة، ومن دعا بها فهو حريٌّ بالإجابة بإذن الله عز وجل مع انتفاء الموانع.

وينبغي عدم الاغترار بما أحدثه الناس من تخصيص بعض الأدعية المسجوعة المتكلفة التي لا يخلو الكثير منها من الاعتداء بالدعاء الذي نهى الله عنه ورسوله، كما يفعل الكثير من أئمة المساجد في القنوت، وعند ختم القرآن، إضافة إلى المبالغة في رفع أصواتهم في الدعاء- مما يؤدي إلى مبالغة المأمومين برفع أصواتهم في التأمين- وكذا الإطالة في ذلك مما لا نسبة بينه وبين الصلاة، وكل هذا مما يخالف السنة، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء: 110]، وقال تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} [الأعراف: 205]، وقال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] أي: المعتدين في الدعاء.

ولما رفع الصحابة أصواتهم بالدعاء قال صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، ارْبَعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إن الذي تَدْعُونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عُنُق راحلته» وفي رواية: «إنه معكم، إنه سميع قريب، تبارك اسمه وتعالى جدُّه»

(2)

.

ولهذا ينبغي لأئمة المساجد- وفَّقهم الله وهداهم- أن يتقوا الله في أنفسهم وفيمن

(1)

أخرجه مسلم في الجنائز (920)، وابن ماجه في الجنائز (1454)، وأحمد 6/ 297 (26543).

(2)

أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2992)، ومسلم في الذكر والدعاء (2704)، وأبو داود في الصلاة (1526)، والترمذي في الدعوات (3374) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

ص: 194

يصلون خلفهم، فيحرصوا على أدعية الكتاب والسُّنة، والمأثور عن سلف الأمة، ويلزموا طريق القصد؛ فإن ذلك أحرى بالقبول والإجابة.

كما ينبغي أن يُعلم أن الشرع كله مبني على الاتباع لا على الابتداع، ولهذا لما علَّم النبي صلى الله عليه وسلم البراء بن عازب رضي الله عنه الدعاء الذي يُقال عند النوم:«اللهم أسلمت نفسي إليك»

إلى قوله: «آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت» قال البراء: ورسولك الذي أرسلت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا، ونبيك الذي أرسلت»

(1)

.

ومن هنا يُعلم أهمية الاتباع في الأذكار والأدعية وغيرها.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «والمشروع للإنسان أن يدعو بالأدعية المأثورة؛ فإن الدعاء من أفضل العبادات، وقد نهانا الله عن الاعتداء فيه، فينبغي لنا أن نتبع فيه ما شُرع وسُن، كما أنه ينبغي لنا ذلك في غيره من العبادات، والذي يعدل عن الدعاء المشروع إلى غيره- وإن كان من أحزاب بعض المشايخ- الأحسن له ألا يفوته الأكمل الأفضل، وهي الأدعية النبوية، فإنها أفضل وأكمل باتفاق المسلمين من الأدعية التي ليست كذلك، وإن قالها بعض الشيوخ، فكيف وقد يكون في عَيْنِ الأدعية ما هو خطأ أو إثم، أو غير ذلك.

ومن أشد الناس عيبًا من يتخذ حزبًا ليس بمأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان حزبًا لبعض المشايخ، ويدع الأحزاب النبوية التي كان يقولها سيد بني آدم، وإمام الخلق، وحجة الله على عباده، والله أعلم»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري في الدعوات (6311)، ومسلم في الذكر والدعاء (2710)، وأبو داود في الأدب (5046)، والترمذي في الدعوات (3574) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (22/ 525).

ص: 195

‌وقفات أربع في: إصلاح ذات البين

قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]

‌الوقفة الأولى في:

معنى إصلاح ذات البين، وحكمه، وفضله

‌أ- معنى: إصلاح ذات البين:

الإصلاح: نقيض الإفساد، وأصلح الشيء بعد فساده: أقامه

(1)

، و «ذات» بمعنى: صاحبة، فمعنى «ذات البين»؛ أي: صاحبة البين.

«البين» : البين في كلام العرب جاء على وجهين:

يكون البين بمعنى: الفُرقة، ويكون بمعنى: الوصل، وهو من الأضداد؛ قال تعالى:{لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 95]؛ أي: لقد تقطع وصلكم، أو ما بينكم

(2)

.

ومن إطلاق البين على الفرقة قول الشاعر:

شاب الفؤادُ وسال الدمعُ من عيني

لمَّا تَغنَّى غُرابُ البَينِ بالبينِ

فمعنى: إصلاح البين: إصلاح الأحوال والعلاقات بين الناس؛ أي: إصلاح ما فسد منها، والعمل على وصلها، وعدم قطعها.

‌ب- حكم إصلاح ذات البين:

إصلاح ذات البين من أوجب الواجبات على المسلمين فيما بينهم، قال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].

فأمَر الله عز وجل بتقواه، وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله، والأمر في هذا واجب،

(1)

انظر: «لسان العرب» مادة «صلح» .

(2)

انظر: «لسان العرب» مادة «بين» .

ص: 196

واكتنف الأمرَ بإصلاح ذات البين الأمرُ بتقوى الله وطاعته ورسوله؛ للدلالة على أن الإصلاح من تقوى الله وطاعته ورسوله، وبيَّن أن ذلك كله من شرط الإيمان بقوله:{إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} .

وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9، 10].

وهو واجب على الكفاية إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين.

‌ج- فضل إصلاح ذات البين:

إصلاح ذات البين من خير الأعمال وأفضلها، وأعظمها أجرًا، تكفل الله عز وجل للساعين به بالأجر العظيم، والرحمة، ووعدهم بالنجاة، والسلامة من الهلاك.

قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

وقال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 17]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].

وهو أفضل من نوافل العبادات؛ من الصلاة والصيام والصدقة، ونحو ذلك.

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟!» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمِله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقةٌ، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوةٍ تخطُوها إلى الصلاة صدقة»

(2)

.

وكان صلى الله عليه وسلم بنفسه يسعى للإصلاح، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه: أن أهل قُباء اقتتلوا حتى

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سيأتي تخريجه.

ص: 197

ترامَوا بالحجارة، فأُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال:«اذهبوا بنا نُصلح بينهم»

(1)

.

وقد أثنى صلى الله عليه وسلم على الحسن بن علي رضي الله عنهما بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين طائفتينِ عظيمتينِ من المسلمين»

(2)

.

ولهذا جعل الإسلام نصيبًا من الزكاة للغارمين، وهم كل من يتحمل غرامة لإصلاح ذات البين بين المسلمين، أو إصلاح نفسه.

كما أحل المسألة لمن تحمل حَمالةً لأجل الإصلاح بين الناس، قال صلى الله عليه وسلم: «إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تَحَمَّل حمالةً، فحلَّتْ له المسألةُ حتى يُصيبَها ثم يُمسِك

» الحديث

(3)

.

كما أباح الإسلام الكذب لأجل الصلح، قال صلى الله عليه وسلم:«ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فيَنمي خيرًا، أو يقول خيرًا»

(4)

.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وتعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البَين، فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]»

(5)

.

قال الشاعر:

إن الفضائلَ كلَّها لو جُمعت

رَجَعَتْ بجُملتِها إلى شيئينِ

تعظيمِ ذاتِ اللهِ جل جلاله

والسعيِ في إصلاحِ ذاتِ البَينِ

(6)

(1)

أخرجه البخاري في الصلح (2693).

(2)

أخرجه البخاري في الصلح (2704)، وأبو داود في السنة (4662)، والنسائي في الجمعة (1410)، والترمذي في المناقب (3773) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم في الزكاة (1044)، وأبو داود في الزكاة (1640)، والنسائي في الزكاة (2579) من حديث قَبيصة بن مخارق رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البخاري في الصلح (2692)، ومسلم في البر والصلة (2605)، وأبو داود في الأدب (4920 - 4921)، والترمذي في البر والصلة (1938) من حديث أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها.

(5)

انظر: «المنتخب من كتب شيخ الإسلام» (ص 153).

(6)

البيتان مجهولا النسبة، انظر:«روض الأخيار، المنتخب من ربيع الأبرار» لمحيي الدين ابن الخطيب (256).

ص: 198

‌الوقفة الثانية في:

عِظم مسؤولية الأمة عن إصلاح ذات البين

من أعظم المسؤوليات وأوجبها على الأمة الإسلامية، على مستوى الدول والشعوب، جماعاتٍ وأفرادًا: السعي لإصلاح ذات البَين بين المسلمين، والقضاء على أسباب النزاعات والخلافات والخصومات، وأسباب الشحناء والبغضاء والعداوات بين المسلمين؛ امتثالًا لقول الله تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]، وقوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، وقوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].

فهذا يُوجِب على جميع الدول الإسلامية التعاون فيما بينهم في الإصلاح والسعي بكل ما تملك من مقومات سياسية، واقتصادية، وغير ذلك؛ لإصلاح ما يحصل بين بعض الدول الإسلامية من نزاعات وحروب حسب استطاعتها.

فلا يجوز للدول الإسلامية أن تقف حيال ما يجري بين بعض الدول الإسلامية من نزاعات وحروب موقف المشاهد فقط، كما هو حال كثير من الدول اليوم، بل ربما سعى البعض إلى تأجيج الصراع والنزاع، بدلًا من السعي بالإصلاح، وقد قال الله عز وجل:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، وقال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].

وقال صلى الله عليه وسلم: «انصرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا» . قال: أنصره إذا كان مظلومًا، فكيف نصره إذا كان ظالمًا؟ قال:«تمنَعه من الظلم»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في المظالم (2443، 2444)، وفي الإكراه (6952)، والترمذي في الفتن (2255)، وأحمد 3/ 99 (11949) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 199

ولا شك أن أعداء الإسلام تمكنوا من تشتيت كلمة المسلمين، وتمزيق وحدتهم، ونشر العداوة بينهم، وما كان هذا ليحصل لو اعتصم المسلمون بحبل الله جميعًا، لكن هذا لا يعفي المسلمين أمام الله عز وجل من وجوب التعاون بينهم، وإصلاح ذات بينهم، ولقد كان لولاة الأمر في هذه البلاد جزاهم الله خيرًا منذ عهد المؤسس الملك عبد العزيز رحمه الله إلى يومنا هذا جهود مباركة في هذا المجال، تُذكر فتُشكر، سطرها التاريخ بمِداد من ذهب خلال أكثر من مئة وعشرين سنة.

كما يجب على المسلمين- جماعاتٍ وأفرادًا- التعاون بينهم في الإصلاح، والسعي في إصلاح ذات بينهم.

ولا يجوز لمسلم أن يتنصل من هذا الواجب العظيم، ويقف موقفًا سلبيًّا، وهو يرى فساد ذات البين يستشري بين إخوانه المسلمين؛ بين الأزواج، والإخوة، والأقارب، والجيران، والشركاء، والخصوم، وغيرهم.

فإن من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يصبح ويُمسِ ناصحًا للمسلمين فليس منهم

(1)

.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم»

(2)

.

وقال جَرير بن عبد الله رضي الله عنه: «بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم»

(3)

.

(1)

أخرجه الطبراني في «الأوسط» 7/ 270 (7473)، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (2/ 222) من حديث حذيفة رضي الله عنه. قال الهيثمي في «المجمع» (1/ 264):«رواه الطبراني في «الأوسط» و «الصغير» ، وفيه عبد الله بن أبي جعفر الرازي، ضعفه محمد بن حميد ووثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان».

(2)

أخرجه مسلم في الإيمان (55)، وأبو داود في الأدب (4944)، والنسائي في البيعة (4197) من حديث تميم الداري رضي الله عنه. وأخرجه النسائي في الموضع السابق (4199)، والترمذي في البر والصلة (1926) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 200

‌الوقفة الثالثة في:

الفوائد الجليلة، والمنافع العظيمة، والآثار الحميدة لإصلاح ذات البين

لإصلاح ذات البين فوائد جليلة، ومنافع عظيمة، وآثار حميدة، لا تُعد ولا تُحصى، من أهمها:

أولًا: أنه صِمام الأمان لجمع شمل المسلمين، وتوحيد كلمتهم، وقوتهم ووحدتهم، والقضاء على أسباب التنازع والاختلاف والفُرقة بينهم، الذي به قوام أمر دينهم، وسعادتهم في دنياهم وأخراهم؛ كما قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

وقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]، وقال تعالى:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46].

قال الشاعر

(1)

:

تأبى القِداحُ إذا اجتمعنَ تكسُّرًا

وإذا افترقنَ تكسَّرتْ أفرادَا

ثانيًا: أنه سبب لتثبيت الأخوَّة والمودة، والألفة والمحبة بين المسلمين، والقضاء على أسباب الشحناء والعداوات والبغضاء، والهجر والتقاطع بينهم.

ثالثًا: أنه سبب لغرس بذور العفو والصفح والتسامح، والإيثار بين المسلمين، والتحلي بأزكى الأخلاق، وأفضل الصفات.

رابعًا: أن السعي بالإصلاح بين الناس يُعد من تقوى الله تعالى وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن الإيمان وخير الأعمال؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1].

(1)

البيت للطغرائي. انظر: «ديوانه» (ص 137).

ص: 201

وقوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114].

خامسًا: أنه سبب للحيلولة دون استشراء فساد ذات البين، وفساد العلاقات بين المسلمين، وقساوة القلوب، واندثار كثير من الأخلاق والمُثُل الإسلامية العالية، والقيم الإنسانية الرفيعة.

سادسًا: الأجر العظيم من الله عز وجل والرحمة، قال تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

وقال تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وقال تعالى:{إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [الأعراف: 17].

وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].

سابعًا: الإعذار من الله تعالى، والنجاة من الهلاك، قال تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117].

ثامنًا: انتشال من وقع بينهم فساد ذات البين مما رُتب على ذلك من الوعيد الشديد، كما قال تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22، 23].

وقال صلى الله عليه وسلم: «من هجر أخاه سنةً فهو كسَفْك دمِه»

(1)

.

(1)

أخرجه أبو داود في الأدب (4915)، وأحمد 4/ 220 (17935) من حديث أبي خراش السلمي رضي الله عنه. وصححه الألباني في «الصحيحة» (928).

ص: 202

‌الوقفة الرابعة في:

مجالات إصلاح ذات البين

مجالات إصلاح ذات البين كثيرة لا تُحصى، وتزداد كثرةً، والله المستعان، كلما بَعُدَ المسلمون عن دينهم، وطغت الأنانية، وحب المال والأثرة، وقلَّ المصلحون، وكثر الانتهازيون والمتشمتون، وعندما أصبح النصح والسعي في الإصلاح عند البعض تدخلًا في الشؤون الخاصة للآخرين، وفيما لا يعني، وكثر التنازع والشحناء، وأُحضرت الأنفس الشح، وفشا التهاجر والتقاطع، مصداق قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»

(1)

.

و‌

‌مجالات إصلاح ذات البين على قسمين:

‌القسم الأول: الإصلاح بين الدول الإسلامية

فيما يقع بين بعضها من حروب، ومشكلات سياسية أو اقتصادية، أو غير ذلك.

وهذا مَنوط بالحكومات الإسلامية فيما بينها، فيجب عليها جميعًا التعاون؛ لنصرة المظلوم من المسلمين، والسعي في الإصلاح بين المتحاربين والمتنازعين منهم؛ امتثالًا لقوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الآية [الحجرات: 9].

‌القسم الثاني: الإصلاح لما يقع بين المسلمين داخل المجتمع أفرادًا أو جماعاتٍ

.

وهذا مَنوط بالمسلمين فيما بينهم، ومجالاته أكثر من أن تُحصى، ومن أهمها ما يلي:

1 الإصلاح لما يقع من تنازع بين ولاة الأمر وأصحاب المسؤوليات في الأمة، وبين عامة الناس، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59].

(1)

أخرجه مسلم في صفة القيامة (2812)، والترمذي في البر والصلة (1937)، وأحمد 3/ 313 (14366) من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 203

2 الإصلاح بين الزوجين؛ امتثالًا لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35].

وقوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128].

ويتولى هذا من يختاره ولي الأمر، أو أقارب الزوجين، أو من علم حالهما من المسلمين، شريطة أن يريد الحكمان الإصلاح، وأن يكونا من أهل الدين والخُلق، والحكمة والعقل والمعرفة، والعدل والنصح والستر، وغير ذلك من الصفات التي ينبغي أن تتوفر في الحَكم والمصلِح.

3 الإصلاح بين الأقارب؛ بين الآباء والأبناء، بين الإخوة، وغيرهم من أفراد الأسرة والأقارب.

4 بين الجيران.

5 بين الموصي والورثة والموصَى إليهم، قال تعالى:{فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182].

6 بين غيرهم من المسلمين، كالشركاء في العمل، أو في المال، أو غيرهم، قال تعالى:{وَلَا تَجْعَلُوا عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 224].

وكما تقدم، فإن مجالات الإصلاح لا يمكن حصرها، لكن المهم أن يتعاون المسلمون في ذلك، ويرشَّح لكل قضية بحسَبها من لديه القدرة على الإصلاح من ذوي الدين والعقل والحكمة، والعدل والنصح والستر، ونحو ذلك.

ص: 204

‌وقفات ست في:

الفتن وخطرها على الدين، وعلى العباد، والبلاد

قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]

‌الوقفة الأولى:

معنى الفتنة، وإطلاقاتها في القرآن الكريم

‌أ- معنى الفتنة:

الفتنة في اللغة: هي الابتلاء، والامتحان، والاختبار، وجمعها: الفتن.

وأصلها مأخوذ من قولك: فتنتُ الفِضةَ والذهبَ، إذا أذبتَهما بالنار؛ لتمييز الرديء من الجيد

(1)

.

قال ابن حجر

(2)

: «أصل الفتنة: إدخال الذهب بالنار لتظهر جودته من رداءته، ثم استُعملت في كل أمرٍ يكشفه الامتحان» .

والفتنة في الشرع: ما يعرِض للإنسان من الشر والخير، من مصيبةٍ أو نعمة، أو فقر أو غنًى، أو مرض أو صحة، أو شدة أو رخاء، ونحو ذلك.

قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].

فبالابتلاء بالشر يتميز من يصبر ومن يجزع، ومن يثبُت على الحق ممن يتزلزل عنه.

وبالابتلاء بالخير يتميز من يشكر نعمة الله تعالى ويثبت على الحق، ممن يكفرها ويخرج عن الحق.

بالابتلاء يظهر الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، كما قال تعالى: {الم (1)

(1)

انظر: «لسان العرب» مادة «فتن» .

(2)

في: «فتح الباري» (2/ 11).

ص: 205

أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 10، 11].

‌ب- إطلاقات الفتنة في القرآن الكريم:

أُطلقت الفتنة في القرآن الكريم على معانٍ كثيرة، منها ما يأتي:

1 الشرك والكفر:

قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة: 193]، وقال تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال: 39]، وقال تعالى:{وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191].

فالمراد بالفتنة في هذه الآيات: الشرك والكفر.

2 الابتلاء، والامتحان، والاختبار:

قال تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} [طه: 40]، أي: ابتليناك ابتلاء، وامتحناك، واختبرناك.

وقال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، أي: ابتلاء وامتحانًا لكم.

وقال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1، 2]، أي: وهم لا يُبتلون ولا يُمتحنون ويُختبرون.

وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3] أي: ابتلينا وامتحنا الذين من قبلهم.

3 العذاب والأذى:

قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} [النحل: 110]، أي: من بعد ما عُذبوا وأوذوا.

وقال تعالى: {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]، أي: جعل عذاب الناس.

ص: 206

4 الإثم:

قال تعالى: {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 149]، أي: في الإثم.

5 التعذيب والإحراق في النار:

قال تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14]، أي: احتراقكم في النار.

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10]، أي: عذبوهم بالإحراق بالنار.

6 القتال والقتل:

قال تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، أي: أن يقاتلوكم، أو يقتلوكم.

7 الصد عن الصراط المستقيم:

قال تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 73]، أي: ليصدونك.

وقال تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49]، أي: أن يصدوك.

8 الإضلال:

قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: 41]، أي: ومن يرد الله إضلاله.

9 العذر والعلة:

قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]، أي: لم تكن معذرتهم.

إلى غير ذلك من المعاني، مع وجود الاختلاف بين المفسرين في المراد بالفتنة في بعض هذه الآيات.

ص: 207

‌الوقفة الثانية في:

قضاء الله تعالى التام، وحكمته البالغة بوقوع الفتن

‌أ- فضل نعمة الإسلام:

نعمة الإسلام أعظم نعمة امتن الله تعالى بها على العباد، وأكمل دين وأرضاه، وهو الدين الحق الذي لا يُقبل دين سواه.

قال الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164].

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 102 - 105].

وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

وقال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78].

ص: 208

وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143].

وهذه النصوص كلها توجب حمد الله تعالى وشكره على نعمة الإسلام والإيمان، والاعتصام بحبل الله تعالى، وسؤاله عز وجل الثبات، والاستعاذة به سبحانه من مضِلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.

‌ب- قضاء الله تعالى التام، وحكمته البالغة بوقوع الفتن:

قضى الله عز وجل قضاءً قدريًّا تامًّا مبرَمًا بالابتلاء بالفتن، دل على ذلك القرآن الكريم، والسنة والنبوية المطهرة.

قال الله عز وجل: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1]، وقال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة: 16]، وقال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ستكون فِتَنٌ القاعدُ فيها خير من القائم، والقائمُ فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ومن يَستشرِف لها تَستشرِفه، ومن وجد ملجأً أو مَعاذًا فلْيَعُذْ به»

(1)

.

وعن عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنه لم يكن نبيٌّ قبلي إلا كان عليه حقًّا أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم بشر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخِرَها بلاءٌ وأمورٌ تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقِّق بعضها بعضًا، وتجيء

(1)

أخرجه البخاري في المناقب (3601)، ومسلم في الفتن وأشراط الساعة (2886)، وأحمد 2/ 282 (7796).

ص: 209

الفتنة فيقول المؤمن: هذه مُهلِكتي. ثم تنكشِف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه»

(1)

.

والحكمة في ذلك الابتلاء والامتحان؛ ليظهر الصادق من الكاذب، ويتميز المؤمن من المنافق، والصابر من غيره، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 3]، وقال تعالى:{وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11]، وقال تعالى:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 141]، وقال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 55]، وقال تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31]، وقال تعالى:{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأنفال: 37].

‌الوقفة الثالثة في:

الإخبار بوقوع الفتن وخطرها على الدين وشدتها،

وكثرتها في آخر الزمان، ووجوب اتقائها، والحذر منها،

والتعوذ بالله منها

قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25].

وعن الزُّبير بن العوام رضي الله عنه قال: إنَّا قرأنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم:{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} لم نكن نحسب أنَّا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في الإمارة (1844)، وأبو داود في الفتن والملاحم (4248)، والنسائي في البيعة (4191)، وابن ماجه في الفتن (3956).

(2)

أخرجه أحمد 1/ 165 (1414). قال الهيثمي في «المجمع» (7/ 27): «رواه أحمد بإسنادين، رجال أحدهما رجال الصحيح» .

ص: 210

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافةَ أن يدركَني، فقلت: يا رسول الله، كنا في جاهليةٍ وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال:«نعم» . قلتُ: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: «نعم، وفيه دخَن» . قلت: وما دخنُه؟ قال: «قوم يَستنُّون بغير سُنتي، ويَهدون بغير هَدْيِي، تعرف منهم وتنكر» . فقلت: وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: «نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» . قلت: يا رسول الله، صفهم لنا. قال:«هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا» . قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» . قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: «فاعتزل تلك الفِرَق كلها، ولو أن تعَضَّ بأصل شجرةٍ حتى يدركَك الموتُ وأنت على ذلك»

(1)

.

وعن العِرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعَظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وجِلت منها القلوب، وذَرَفتْ منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودِّعٍ فأوصنا. قال:«أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد، فإنه مَن يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدَثاتِ الأمور؛ فإن كلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة»

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم، وتكثُر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهَرْجُ- وهو القتل القتل- حتى يكثر فيكم المال فيفيض»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري في المناقب (3606)، ومسلم في الإمارة (1847)، وأبو داود في الملاحم (4244).

(2)

أخرجه أبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676)، وابن ماجه في المقدمة (43)، وأحمد 4/ 126 (17142). قال الترمذي:«حديث حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (937، 2735).

(3)

أخرجه البخاري في الاستسقاء (1036)، وأحمد 2/ 530 (10863).

ص: 211

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أشرف النبي صلى الله عليه وسلم على أُطُمٍ من آطام المدينة، فقال:«هل تَرَون ما أرى؟» ، قالوا: لا. قال: «فإني لأرى مواقع الفتن خِلالَ بيوتكم كمواقع القَطْر»

(1)

.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شَعَفَ الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن»

(2)

.

وعن حذيفة رضي الله عنه قال: والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول الله أسرَّ إليَّ في ذلك شيئًا لم يحدثه غيري، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يحدث مجلسًا أنا فيه عن الفتن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَعُد الفتن:«منهن ثلاث لا يكدن يذرنَ شيئًا، ومنهن فتن كرياح الصيف، منها صغار، ومنها كبار» قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بالأعمال فِتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرَضٍ من الدنيا قليل»

(4)

.

وعن كُرْز الخزاعي رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله، هل للإسلام من منتهى؟ قال:«نعم، أيما أهل بيت من العرب أو العجم أراد الله بهم خيرًا أدخل عليهم الإسلام» . قال: ثم مَهْ؟ قال: «ثم تقع الفتن كأنها الظُّلَل» . قال: كلا والله إن شاء الله. قال: «بلى والذي نفسي بيده، ثم تعودون فيها أساود صُبًّا، يضرب بعضكم رقاب بعض، وأفضل الناس يومئذ مؤمن معتزل في شِعب من الشِّعاب يتقي ربه تبارك وتعالى، ويدع الناس من شره» . قال

(1)

أخرجه البخاري في فضائل المدينة (1878)، وفي المظالم والغصب (2467)، ومسلم في الفتن (2885)، وأحمد 5/ 200 (21748).

(2)

أخرجه مالك في الاستئذان (2/ 970)، والبخاري في الإيمان (19)، وأبو داود في الفتن والملاحم (4267)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5036)، وابن ماجه في الفتن (3980)، وأحمد 3/ 30 (11254).

(3)

أخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة (2891)، وأحمد 5/ 407 (23460).

(4)

أخرجه مسلم في الإيمان (118)، والترمذي في الفتن (2195)، وأحمد 2/ 303 (8030).

ص: 212

سفيان: أساود صبًّا: الحية السوداء تنصب؛ أي: ترتفع

(1)

.

وعن عوف بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لَتفترِقَنَّ أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار» ، قيل: يا رسول الله، من هم؟ قال:«الجماعة»

(2)

.

وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَتتبعُنَّ سَنَنَ من كان قبلكم شبرًا شبرًا، وذِراعًا بذراعٍ، حتى لو دخلوا جُحْرَ ضَبٍّ تبِعتموهم» ، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال:«فمَن؟!»

(3)

.

إلى غير ذلك من الأحاديث والأخبار في الفتن التي يشيب من هولها الوليد، فتن كالظُّلَل، وكقِطَع الليل المظلم، تموج كموج البحر، ويرقق بعضها بعضًا، يكثُر فيها التفرق والاختلاف، ويلتبس فيها الحق بالباطل، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعَرَض من الدنيا قليل، فتن تذهب بعقول الرجال، وتدع الحليم حيرانَ، فتن لا تذر شيئًا، تُحرِق الدين والعقل والبدن، وكل خير، وتُهلِك الحرث والنسل، والرطب واليابس، وتذر الديار بلاقِعَ، وتعم الصالح والطالح، كما في حديث

(1)

أخرجه أحمد 3/ 477 (15917، 15918)، وابن أبي شيبة في «المصنف» 21/ 36 (38281)، والحاكم (1/ 34، 4/ 454). قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (3091).

(2)

أخرجه ابن ماجه في الفتن (3992). وأخرجه أبو داود في السنة (4596)، والترمذي في الإيمان (2640)، وابن ماجه في الموضع السابق (3991)، وأحمد 2/ 332 (8396) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي:«حسن صحيح» . وأخرجه ابن ماجه في الموضع السابق (3993)، وأحمد أيضًا 3/ 120، 145 (12208، 12501) من حديث أنس رضي الله عنه. وصححه الألباني في «الصحيحة» (1492).

(3)

أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة (7320)، ومسلم في العلم (2669). وأخرجه الترمذي في الفتن (2180) من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في الفتن (3994) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 213

زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، أنهلِك وفينا الصالحون؟! قال:«نعم، إذا كثُر الخَبَث»

(1)

.

ولهذا أمر الله عز وجل باتقائها، وحذر منها النبي صلى الله عليه وسلم وتعوذ منها، وأمر بالحذر، والتعوذ منها قبل وقوعها، وبعد وقوعها، وهذا يوجب على المسلم الحذر كل الحذر منها، والتعوذ بالله منها، والأخذ بأسباب النجاة والعصمة منها.

‌الوقفة الرابعة في:

أنواع الفتن وأقسامها، وأقسام القلوب، وأقسام الناس أمامها

‌أ- أنواع الفتن:

الفتن نوعان:

النوع الأول: فتن الشهوات؛ من النساء، والأولاد، والأموال، والأزواج، والمناصب، والرياسات، والجاه، ونحو ذلك.

قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14]، وقال تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15].

النوع الثاني: فتن الشبُهات، من الشرك، والشك، والبدع، والاختلاف، والتفرق، واختلاط الأمر على الإنسان، فلا يميز الحق من الباطل، والحلال من الحرام، والوقوع في الظلم، والجور، والكبائر، وهذه أشد وأعظم، وهي المقصودة أولًا في الفتن التي حذر منها الكتاب والسنة.

(1)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3346)، ومسلم في الفتن (2880)، والترمذي في الفتن (2187)، وابن ماجه في الفتن (3953).

ص: 214

قال ابن القيم

(1)

: «الفتنة نوعان: فتنة الشبهات، وهي أعظم الفتن.

وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما.

فتنة الشبهات؛ من ضعف البصيرة، وقلة العلم، لا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى، فهنالك الفتنة العظمى، والمصيبة الكبرى، فقل ما شئت في ضلال سيئ القصد، الحاكم عليه الهوى لا الهدى، مع ضعف بصيرته وقلة علمه بما بعث الله به رسوله، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم:{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23].

وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع

ولا ينجي من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول وتحكيمه في دِقِّ الدين وجُله، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه».

‌ب- أقسام الفتن:

الفتن قسمان:

القسم الأول: فتن خاصة بالإنسان، بنفسه، أو ولده، أو أهله، أو ماله، أو أقاربه، أو جيرانه، ومنها كون الفتنة خاصة بأناس معينين؛ من عائلة، أو قبيلة، أو مجموعة من الناس، أو محلة، أو بلدة، ونحو ذلك.

القسم الثاني: الفتن العامة في الأمة والمجتمع كله، وهي المقصودة في كثير من نصوص الكتاب والسنة، وهي الأمر العظيم، والشأن الخطير، والخطب الجَلَل.

عن حذيفة رضي الله عنه، قال: بينا نحن جلوس عند عمر إذ قال: أيكم يحفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قال: فتنة الرجل في أهله، وماله، وولده، وجاره، تكفرها الصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. قال: ليس عن هذا أسألك، ولكن التي تموج كموج البحر. فقال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها بابًا مغلقًا، فقال عمر: أيُكسر الباب أم يفتح؟ قال: لا بل يكسر. قال عمر: إذن لا يغلق أبدًا. قلت: أجل.

(1)

في: «إغاثة اللهفان» (2/ 239).

ص: 215

قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غد ليلة، وذلك أني حدثته حديثًا ليس بالأغاليط، فهِبنا أن نسأله: مَن الباب؟ فأمَرْنا مسروقًا فسأله، فقال: مَن الباب؟ قال: عمر

(1)

.

‌ج- أقسام القلوب أمام الفتن:

تنقسم القلوب عندما تُعرض عليها الفتن إلى قلبين:

قلب ثابت على الدين، قوي الإيمان واليقين، ينكرها، أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض.

وقلب مضطرب ضعيف الإيمان واليقين، أو خِلو من ذلك، يشربها فينقلب وينتكس.

قال صلى الله عليه وسلم: «تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشرِبها نُكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبَادًّا كالكُوز مُجَخِّيًا لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه»

(2)

.

‌د- أقسام الناس أمام الفتن:

بِناءً على انقسام القلوب أمام الفتن إلى قلبين، ينقسم الناس أمامها إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول: مؤمن قوي الإيمان واليقين، ذو علم بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهج السلف الصالح وأهل السنة والجماعة، حذِرٌ من الفتن ويستعيذ بالله منها، ويعرف كيفية التعامل معها، وأسباب النجاة منها، وهذا بإذن الله ينجيه الله تعالى منها.

القسم الثاني: من يخوض ويسعى في الفتن بلا علم ولا دراية، وإنما يردد وينشر ما يقوله الناس في المجالس وفي المنتديات والمواقع، وعبر وسائل الاتصال: «سمعت الناس

(1)

أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (525)، وفي الفتن (7096)، ومسلم في العلم (144)، والترمذي في الفتن (2258)، وأحمد 5/ 386 (23280).

(2)

أخرجه مسلم في الإيمان (144)، وأحمد 5/ 386 (23280) من حديث حذيفة رضي الله عنه.

ص: 216

يقولون شيئًا فقلته»، وعلى هذا أكثر الناس، وهذا على خطرٍ إن لم يتداركه الله ويوفقه، فيخرج منها ويبتعد عنها، ويلزم طريق السلامة، ويأخذ بأسباب النجاة منها.

القسم الثالث: من أُشربها وتلقفها، ووافقت هواه، وخاض فيها، وسعى فيها بسوء قصد، وتزعمها، فهذا كما قال صلى الله عليه وسلم:«من الدعاة على أبواب جهنم» .

‌الوقفة الخامسة في:

أسباب العصمة من الفتن والنجاة منها

أسباب العصمة من الفتن والنجاة منها قبل وقوعها وبعد وقوعها كثيرة جدًّا، بتوفيق الله تعالى وعونه، ومن أهمها ما يلي:

1 تحقيق التوحيد لله عز وجل:

توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، بتحقيق معنى قوله تعالى:{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18]، وقوله تعالى:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، وقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

فما ضل من ضل عن الإسلام، وما انحرف من انحرف عن الدين الصحيح، ووقع في الفتن إلا بسبب خلل في التوحيد والعقيدة.

قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، أي: لم يلبسوا إيمانهم وتوحيدهم بشرك، أولئك لهم الأمن المطلق؛ الأمن النفسي، والأمن الاجتماعي، الأمن في الدنيا من الفتن، والشرور، والضلال، وفي الآخرة من العذاب والأهوال.

2 الاعتصام بالكتاب والسنة:

قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ

ص: 217

آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 103 - 105]، وقال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء: 175].

وقال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 123، 124].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «تضمَّن الله لمن قرأ القرآن واتبع ما فيه: ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة» ثم تلا: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسُنة نبيه»

(2)

.

فالاعتصام بالكتاب والسنة ضمانة وأمان من الفتن والاختلاف والتنازع والتفرق.

قال الإمام مالك رحمه الله: «لن يصلح آخِرَ هذه الأمة إلا ما أصلح أولها» .

قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «والذي أصلح أولها هو تمسكهم بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وسيرهم على ذلك، والتواصي بذلك، والتعاون في ذلك، هذا هو الذي ساروا عليه، وهو الذي أصلحهم الله به، ولن يصلح آخِرُهم إلا بذلك»

(3)

.

3 الثبات عند الفتن وقوة الإيمان والتوكل على الله عز وجل:

والاستعانة به والإكثار من قول: «يا مقلِّبَ القلوب ثبِّت قلبي على دينك»

(4)

. فقد كان صلى الله عليه وسلم وهو أخشى الناس لله وأتقاهم له

(5)

- يكثر من هذا الدعاء.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» 15/ 446 (30576)، 19/ 243 (35926)، والطبري في «جامع البيان» (16/ 191).

(2)

أخرجه مالك بلاغًا في القدر (2/ 899). وحسنه الألباني في «المشكاة» (186).

(3)

«الفقه في الدين عصمة من الفتن» (ص 49)، لفضيلة الشيخ صالح الفوزان وتعليق الشيخ عبد العزيز بن باز.

(4)

أخرجه الترمذي في القدر (2140)، وابن ماجه في الدعاء (3834)، وأحمد 3/ 112 (12107)، والبخاري في «الأدب المفرد» (583) من حديث أنس رضي الله عنه. قال الترمذي:«حديث حسن» . وصححه الألباني في تحقيقه لـ «الأدب المفرد» .

(5)

كما قال صلى الله عليه وسلم: «والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له

» الحديث. وقد سبق تخريجه.

ص: 218

وقول: «حسبنا الله ونعم الوكيل» ؛ قال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173، 174].

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «حسبنا الله ونعم الوكيل» قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمد حين قالوا له:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} »

(1)

.

وقد وعد الله عز وجل بتثبيت المؤمنين، وأمرهم بالثبات، قال تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27]، وقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45].

4 الاستعانة بالصبر والصلاة:

قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [أل عمران: 200]، وقال تعالى:{ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 110].

وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزِع إلى الصلاة

(2)

.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري في التفسير (4563).

(2)

أخرجه أبو داود في الصلاة (1319)، وأحمد 5/ 388 (23299)، والطبري في «جامع البيان» (1/ 618) من حديث حذيفة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه الترمذي في الفتن (2260). قال الترمذي: «حديث غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (957).

ص: 219

وقال صلى الله عليه وسلم وذكر آخر الزمان: «المتمسك يومئذٍ بدينه كالقابض على الجمر، وأجرُه أجر خمسين» . قالوا: يا رسول الله، منَّا أو منهم؟ قال:«بل منكم»

(1)

.

وذلك لقلة المعين، وكثرة المخَذِّلين، ولهذا وصفهم صلى الله عليه وسلم بالغرباء، فقال:«طوبى للغرباء، الذين يصلحون إذا فسد الناس» . وفي رواية: «يُصلحون ما أفسد الناس»

(2)

.

5 التقوى، وملازمة العبادة، والعمل الصالح:

من صلاة وصدقة، وبر للوالدين، وصلة للأرحام، وصيام وذكر وقراءة القرآن وغير ذلك، وأعظم ذلك المحافظة على أداء الواجبات واجتناب المنهيات.

عن مَعقِلِ بن يَسَارٍ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«العبادة في الهَرْجِ كهجرة إليَّ»

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بادِروا بالأعمال فتنًا كقِطَعِ الليل المظلِم»

(4)

.

6 الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، والاستعاذة به من الفتن:

قال تعالى: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43]، وقال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا

(1)

أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» (1010). وأخرجه ابن وضاح في «البدع» 2/ 137 (192) بلفظ: «المتمسك بديني وسنتي في زمان المنكر كالقابض على الجمر، للعامل منهم يومئذ بسنتي أجر خمسين منكم» . وأخرجه أبو الشيخ في «الأمثال» (233)، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 49):«القائمون يومئذٍ بالكتاب والسنَّة لهم أجرُ خمسين صِدِّيقًا» جميعًا من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرج ابن بطة في «الإبانة» 1/ 344 (216) عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا: «المتمسِّك بديني وسنتي في زمان المنكر كالقابض على الجمر، للعامل منهم يومئذ بسنتي أجر خمسين منكم» .

(2)

أخرجه الترمذي في الإيمان (2630) من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه. قال الترمذي: «حديث حسن» . وضعفه الألباني في «مشكاة المصابيح» (170). وأخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد «المسند» 4/ 73 (16690) من حديث عبد الرحمن بن سَنَّة رضي الله عنه. وأخرجه أبو عمرو الداني في «السنن الواردة في الفتن» (288) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. وصححه الألباني في «الصحيحة» (1273).

(3)

أخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة (2948)، والترمذي في الفتن (2201)، وابن ماجه في الفتن (3985)، وأحمد 5/ 25 (20298).

(4)

سبق تخريجه قريبًا.

ص: 220

كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98]، وقال تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]، وقال تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62].

وقال صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون وهو في بطن الحوت: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]، إنه لم يدعُ بها مسلم في شيءٍ قطُّ إلا استجاب الله له بها»

(1)

.

وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعوَّذوا بالله من الفِتَن ما ظهر منها وما بطن»

(2)

.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر في التشهد بالتعوذ من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال

(3)

.

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الكسل، والهَرَم، والمأثم، والمَغرَم، ومن فتنة القبر، وعذاب القبر، ومن فتنة النار، وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من شر فتنة الفقر، وأعوذ بك من فتنة المَسيح الدجال»

(4)

.

وعن أنس رضي الله عنه: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهَرَم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات»

(5)

.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا هذه الكلمات كما تُعلَّم الكتابة: «اللهم أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أُرد إلى أرذل العُمُر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر»

(6)

.

(1)

سبق تخريجه من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم في صفة الجنة ونعيمها وأهلها (2867).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

أخرجه البخاري في الدعوات (6368)، ومسلم في الذكر والدعاء (589)، والنسائي في الاستعاذة (5466)، والترمذي في الدعوات (3495)، وابن ماجه في الدعاء (3838).

(5)

أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2823)، وفي الدعوات (6367)، ومسلم في الذكر والدعاء (2706)، وأبو داود في الوتر (1540)، والنسائي في الاستعاذة (5448).

(6)

سبق تخريجه.

ص: 221

وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته من فتنة المحيا والممات

(1)

.

7 لزوم جماعة المسلمين وإمامهم:

قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103]، وقال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].

وعن عُبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخَذ علينا: «أنْ بايَعَنا على السمع والطاعة، في مَنْشَطِنا ومَكْرَهِنا، وعُسْرِنا ويُسْرِنا، وأَثَرَةً علينا، وأنْ لا نُنَازِعَ الأْمرَ أهلَه، إلا أنْ ترَوْا كفرًا بَوَاحًا، عندكم من الله فيه بُرهانٌ»

(2)

.

وعنه رضي الله عنه قال: «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا ننازِعَ الأمرَ أهلَه، وأن نقومَ أو نقولَ بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم»

(3)

.

وفي حديث العِرباض بن سارية رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة»

(4)

يعني: لولاة أمور المسلمين؛ لما في ذلك من اجتماع كلمة المسلمين وقوتهم وهيبتهم أمام أعدائهم

(5)

.

وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: «وخير الحديث كتاب الله، وخير الهَدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»

(6)

.

قال فضيلة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله تعالى

(7)

: «كذلك من أعظم الفتن فتنة

(1)

أخرجه البخاري في الأذان (832)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (589)، وأبو داود في الصلاة (880)، والنسائي في السهو (1309).

(2)

أخرجه البخاري (7055)، ومسلم (1709).

(3)

أخرجه البخاري (7199)، ومسلم (1709).

(4)

سبق تخريجه.

(5)

انظر: «الفقه في الدين عصمة من الفتن» (ص 18 - 19).

(6)

أخرجه مسلم في الجمعة (867)، والنسائي في صلاة العيدين (1578)، وابن ماجه في المقدمة (45) من حديث جابر رضي الله عنه.

(7)

في كتابه: «الفقه في الدين عصمة من الفتن» (ص 18 - 19).

ص: 222

التفرق والاختلاف، وظهور الفِرَق والجماعات، هذا من أعظم الفتن، وهذا شيء أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم»، ثم ذكر حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه.

وقال أيضًا حفظه الله تعالى: «من أسباب النجاة: لزوم جماعة المسلمين، والبعد عن الانتماء للفِرق، والجماعات المخالفة لما كان عليه سلف هذه الأمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الفرقة الناجية: «هم من كان على مِثل ما أنا عليه وأصحابي» .

قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله»

(1)

.

نعم، سيكون هناك من يهون من شأنهم، من يجهلهم، من يستغفلهم، من يقول: هؤلاء ناس صالحون، ولكن ما يعرفون الواقع، ولا يعرفون كذا، كل هذا يجب على المسلم ألا يلتفت إليه، «وهم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» لا نجاة إلا بهذا: لزوم جماعة المسلمين «وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة» .

والنبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث حثنا على أن نكون مع الجماعة المتمسكة بطريقة النبي صلى الله عليه وسلم، وطريقة أصحابه، وطريقة سلف الأمة؛ لأن سلف هذه الأمة أدرى وأقرب للحق ممن جاء بعدهم»

(2)

.

وسأل عمرو بن ميمون التابعي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن الجماعة؟ فقال له عبد الله: «الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك»

(3)

.

8 التفقه في الدين:

التفقه في الدين أن يعقل المؤمن ويفهم ويعرف أحكام دينه، وما يجب عليه وما يحرُم، وما ينبغي وما لا ينبغي، حتى يتعبد لله تعالى على بصيرة من أمره، ويعرف الحكم فيما

(1)

أخرجه مسلم في الإمارة (1920)، وأبو داود في الفتن والملاحم (4252)، والترمذي في الفتن (2229)، وابن ماجه في المقدمة (10)، وأحمد 5/ 279 (22403) من حديث ثوبان رضي الله عنه.

(2)

«الفقه في الدين عصمة من الفتن» (ص 35 - 37).

(3)

أخرج الطبراني في «مسند الشاميين» 1/ 138 (220)، واللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» 1/ 121 (160) عن عمرو بن ميمون، أن ابن مسعود رضي الله عنه قال:«الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك» . وانظر: «الفقه في الدين عصمة من الفتن» للشيخ صالح الفوزان ص (51).

ص: 223

يعرِض له من مشكلات، وما يُعرض عليه من الفتن؛ لأن من أعظم أسباب الوقوع في الفتن الجهل في الدين.

وقد حث الله عز وجل ورغب في الفقه في الدين، فقال تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122].

وأثنى الله عز وجل على أهل الفقه في الدين الذين عرفوا الحق واتبعوه قال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7]، أي: أنعمت عليهم بمعرفة الحق واتباعه.

وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 69]، أي: أنعم الله عليهم بمعرفة الحق والأخذ به.

ووصف الله عز وجل المنافقين بأنهم لا يفقهون؛ أي: لا يفهمون أحكام الله عز وجل.

فعلى كل مسلم أن يتفقه في دينه، ليعرف الحق فيأخذ به ويكون مع أهله، ويحذر الباطل وأهله، فينجو بإذن الله تعالى من الفتن.

قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «فكل مؤمن وكل مؤمنة في هذه الدنيا في أشد الحاجة إلى التفقه في الدين، والتبصر، حتى يعلم حكم الله في جميع أعمال المكلَّفين، وحتى يسير على بصيرة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالتفقه في الدين بالعناية بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، كما تفقه من قبلنا من الصحابة ومن بعدهم»

(1)

.

وهذا يوجب العناية والاهتمام بتربية الأولاد والأهل على الفقه في الدين، وتبصيرهم في أمر دينهم، والثبات عليه حتى لا تعصف بهم الفتن التي تعرض لهم.

كما يوجب هذا العملَ على تبصير الناس كلهم في أمور دينهم للنجاة من الفتن؛ لأن من أعظم أسباب الوقوع في الفتن الخلل في منهج التلقي وعدم تربية الأجيال على العقيدة الصحيحة، والدين القويم.

9.

التوبة والإنابة إلى الله تعالى، وكثرة الاستغفار والذكر:

قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر:

ص: 224

54]، وقال تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]، وقال تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].

فبالتوبة والإنابة إلى الله عز وجل، وكثرة الاستغفار والذكر، يحفظ الله عز وجل العبد، ويعصمه من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

10 حفظ اللسان، والقلم، والبنان من الخوض في الفتنة إذا وقعت، إلا في خير؛ من التحذير منها، والتثبيت على الحق:

قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء: 53].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخِر فليقل خيرًا أو ليصمت»

(1)

.

فاللسان عدو الإنسان، ولربما كلمة كانت سببًا في الزيغ والهلاك، قال صلى الله عليه وسلم:«إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله، لا يُلقي لها بالًا، يَهوي بها في جهنم»

(2)

.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف»

(3)

.

قال الشاعر:

وإن النار بالعُودَين تُذكَى

وإن الحربَ أولُها كَلامُ

(4)

(1)

أخرجه البخاري في الأدب (6018)، ومسلم في الإيمان (47)، وأبو داود في الأدب (5154)، والترمذي في صفة القيامة (2500)، وابن ماجه في الفتن (3971) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مالك في صفة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 929)، والبخاري في الأدب (6019)، ومسلم في الإيمان (48) من حديث أبي شريح الكعبي رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مالك في الكلام (2/ 985)، والبخاري في الرقاق (6478)، ومسلم في الزهد (2988)، والترمذي في الزهد (2314)، وابن ماجه في الفتن (3970) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه أبو داود في الفتن والملاحم (4265)، والترمذي (2178)، وابن ماجه (3967)، وأحمد 2/ 211 (6980). وضعفه الألباني في «الضعيفة» (3229). وتستنظف العرب أي: تفنيهم.

(4)

البيت لنصر بن سيار. انظر: «عمدة الكتاب» ، للنحاس (1/ 39)، و «التذكرة الحمدونية» (1/ 432).

ص: 225

وقال الآخر:

احذَرْ لِسانَك أيها الإنسانُ

لا يَلدغنك إنه ثعبانُ

كم في المقابر من قتيلِ لسانه!

كانت تهاب لقاءه الفرسانُ

(1)

وقال الآخر:

ولئن ندِمت على سكوتك مرةً

فلَتندمن على الكلام مِرارَا

(2)

وقد قيل: «لو كان الكلام من فضة، لكان السكوت من ذهب» .

ومما ينبغي التنبيه عليه: أن الكتابة اليوم بالبنان في وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت أشد أثرًا وأعظم ضررًا من اللسان بأضعاف مضاعفة؛ إذ أصبحت مجالًا واسعًا ولغ فيها كل الذين يريدون إشعال الفتن بين المسلمين؛ مما يوجب على المسلم الحذر من ذلك ومحاسبة نفسه محاسبة دقيقة في كل ما يكتب على شاشات هذه الوسائل، فالأمر خطير، والناقد بصير، وقد أحسن القائل:

وما من كاتبٍ إلا سيَفنى

ويَبقَى الدهرَ ما كَتبتْ يداهُ

فلا تكتبْ بكفِّك غيرَ شيءٍ

يسُرُّك في القيامةِ أن تراهُ

11 الرجوع إلى أهل العلم من العلماء الربانيين، وأهل الذكر، وسؤالهم:

قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وقال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، والأنبياء: 7].

قال ابن القيم رحمه الله

(3)

: «كنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض، أتيناه- يعني شيخه ابن تيمية رحمه الله فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة، ويقينًا وطمأنينة» .

(1)

انظر: «اللطائف والظرائف» للثعالبي (ص 104).

(2)

انظر: «المُوَشَّى، الظرف والظرفاء» (ص 8).

(3)

في «الوابل الصيب» (ص 48).

ص: 226

12 الفرار من الفتن:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شَعَفَ الجبال، ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن»

(1)

.

وقد بوَّب البخاري رحمه الله باب «من الدين الفرار من الفتن» .

وفي حديث حذيفة رضي الله عنه في الفتن لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» . قال حذيفة: يا رسولَ الله، فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال صلى الله عليه وسلم:«فاعتزِلْ تلك الفرق كلها ولو أن تعَضَّ بأصل شجرة حتى يدركَك الموت وأنت على ذلك»

(2)

.

هذه هي أهم الأسباب التي بها- بإذن الله تعالى وتوفيقه- النجاة من الفتن والعصمة منها.

‌الوقفة السادسة في:

المنهجية والطريقة في مواجهة الفتن

سبق ذكر الأسباب في النجاة من الفتن والعصمة منها، قبل وقوعها وبعد وقوعها، وفي هذه الوقفة بيان المنهجية والطريقة في مواجهتها، وكيفية التعامل معها حتى تخمد أو تمر بسلام.

يجب على المسلم عند وقوع الفتنة الحرص على السلامة منها، والخلاص من شرها، ومن أهم الأسباب لذلك ما يلي:

أولًا: التثبت في الأمور كلها، وفي تلقي الأخبار:

والتمحيص والتدقيق فيها، والحذر كل الحذر من نقل الإشاعات، وتلقف الأخبار الكاذبة المضلِّلة، والحرص على عدم نشر أخبار الفتن، ولو صحت، كما قال بعض أهل العلم:«أميتوا الباطلَ بالسكوت عنه» .

(1)

سبق تخريجه قريبًا.

(2)

سبق تخريجه قريبًا.

ص: 227

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 94].

وبالتثبت يعرف المسلم حقيقة الأمر، فيَسلَم من الوقوع في الخطأ والإثم، وأذية الآخرين، ومن جر الشرور وجذبها إلى الأمة، وفيها من الجراح والمصائب ما يكفيها.

ثانيًا: الثبات على الحق، والاستعاذة بالله من الفتن، وسؤاله الثبات على الإسلام حتى الممات:

قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم: 27].

فيثبت المؤمن على دينه، ويقف أمام ما يقع من الفتن بقلب مطمئن، قوي الإيمان، راسخ العقيدة، ثابت كثبوت الجبال الراسيات أمام الأعاصير، حتى تذهب الفتنة وتنجلي.

وكثبوت النخلة من بين كثير من الأشجار أمام الرياح الشديدة والعواصف، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24].

ولهذا شبه صلى الله عليه وسلم المؤمن بالنخلة في الثبات وكثرة الخير

(1)

.

وعن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كَنَزَ الناس الدرهم والدينار فاكنِزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألُك الثباتَ في الأمر، والعزيمة على الرشد»

(2)

.

فالفتن كالأعاصير والعواصف سرعان ما تنقشع وتنجلي، فيبقى المؤمن المطمئن على

(1)

انظر تفسير هذه الآية في تفسيرنا «عون الرحمن» .

(2)

أخرجه النسائي في السهو (1304)، والترمذي في الدعوات (3407)، وأحمد 4/ 123 (17114). وصححه الألباني في «الصحيحة» (3228).

ص: 228

إيمانه، كما تبقى الجبال راسية في أماكنها، والنخلة ثابتة على أصلها.

ثالثًا: الرفق، والحلم، والتأني، وعدم الاستعجال:

فإذا ظهرت الفتنة وبرزت واستشرفت للناس، فعلى المسلم بالرفق والحلم والتأني، وعدم الاستعجال، في الأقوال والأفعال والأفكار والمواقف، والحكم على الأشياء، وفي اتخاذ القرار، قال صلى الله عليه وسلم:«إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانَه، ولا يُنزَع من شيءٍ إلا شانَه»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله رَفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم لأشَجِّ عبدِ القيس: «إن فيك لَخَصلتينِ يحبهما الله: الحلم والأَنَاة»

(3)

.

وقد جاء في القرآن الكريم التعريض بذم العَجلة والتحذير منها، فقال تعالى:{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11].

فمن خلال الرفق والحلم والتأني وعدم الاستعجال، يمكن للمسلم- بتوفيق الله تعالى- النظر في عواقب الأمور ومآلاتها، ورؤية الأشياء على حقيقتها، وكما هي.

ويمكنه- بتوفيق الله تعالى- الحكم عليها؛ لأن «الحكم في الشيء فرع عن تصوره» ، فيسلم بإذن الله تعالى من الوقوع في الخطأ والإثم، وفيما لا تحقيق فيه، مما لا يغني ولا ينفع، بل قد يضر؛ قال الله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

(1)

أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2594)، وأبو داود في الجهاد (2478)، وأحمد 6/ 58 (24307) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

أخرجه البخاري في الاستئذان (6256)، وفي استتابة المرتدين (6927)، ومسلم في البر (2593)، وابن ماجه في الأدب (3689) من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه أبو داود في الأدب (4807)، وأحمد 4/ 87 (16802) من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه. وأخرجه مالك في الاستئذان (2/ 979) من حديث خالد بن معدان رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في الموضع السابق (3688) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم في الإيمان (17)، والترمذي في البر والصلة (2011) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم في الموضع السابق (18) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

ص: 229

وقال صلى الله عليه وسلم: «دع ما يَريبك إلى ما لا يريبك»

(1)

.

وقال عليه الصلاة والسلام: «من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يَعنيه»

(2)

.

وقال الشاعر:

وأحزمُ الناسِ من لو مات من ظَمَأٍ

لا يقرَبُ الوِردَ حتى يَعرِفَ الصَّدَرَا

(3)

رابعًا: العدل والإنصاف والتجرد من الهوى في الأمر كله، في الأقوال، والأفعال، والأحكام، والآراء.

قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} [الأنعام: 152]، وقال تعالى:{وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8].

وذلك لأن عدم العدل والإنصاف، واتباع الهوى لا يعالج الفتنة إذا وقعت، بل يزيد من اتساعها، واشتعالها، وانتشارها.

خامسًا: الاعتصام بالكتاب والسنة، ولزوم الجماعة:

وهم أهل السنة والجماعة، طاعة لولاتهم بالمعروف، واقتداء بأئمتهم وعلمائهم ذوي العلم الراسخ، والعقيدة السليمة، والحذر كل الحذر من الاختلاف والتفرق في الدين فإنه سبب لكل فتنة.

(1)

أخرجه النسائي في الأشربة (5711)، والترمذي في صفة القيامة (2518)، وأحمد 1/ 200 (1723)، والحاكم (2/ 13، 4/ 99) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه. قال الترمذي: «حديث صحيح» . وصححه الألباني في «الإرواء» (12، 2074).

(2)

أخرجه مالك في حسن الخلق (2/ 903)، والترمذي في الزهد (2318) مرسلًا من حديث علي بن الحسين رضي الله عنه. وأخرجه أحمد 1/ 201 (1737) من طريق علي بن الحسين عن أبيه رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي أيضًا (2317)، وابن ماجه في الفتن (3976) من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي عن حديث أبي هريرة:«غريب» . وقال عن حديث علي بن الحسين: «وهذا أصح عندنا من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة» . وقد ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 40) عن الطبراني في المعاجم الثلاثة، وقال:«رجال أحمد و «الكبير» ثقات». وقال أحمد شاكر في تخريج «المسند» (1737): «إسناد صحيح» . وانظر: «جامع العلوم والحكم» ص (79 - 84). وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (5911).

(3)

البيت لصفي الدين الحلي، انظر:«ديوانه» (ص 69).

ص: 230

قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]، وقال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].

وفي حديث حذيفة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَلزَم جماعة المسلمين وإمامهم»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالجماعة وإياكم والفُرقة»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «الجماعة رحمة، والفرقة عذاب»

(3)

؛ أي: الجماعة رحمة للعباد في الدنيا والآخرة، والفرقة عذاب في الدنيا والآخرة لمن تفرقوا وخالفوا أمر الله تعالى.

ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما أتم الصلاة خلف عثمان رضي الله عنه، وكان عبد الله لا يرى الإتمام في السفر، ولما سئل عن ذلك قال:«يا هذا، الخلاف شر، الخلاف شر، الخلاف شر» ، كررها ثلاث مرات رضي الله عنه

(4)

.

وصدق رضي الله عنه؛ فالاختلاف والفرقة بين الأمة أكبر شر وأعظم بلية، وأكبر وأعظم عون لأعداء الأمة لتمزيق وحدتها، والتغلب عليها، وإضعافها وسلب خيراتها.

قال ابن تيمية: «وبلاد الشرق من أسباب تسليط الله عليهم الترك: كثرة التفرق بينهم في المذاهب، وكل ذلك من الاختلاف الذي ذمه الله، فإن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول الدين»

(5)

.

(1)

سبق تخريجه قريبًا.

(2)

أخرجه الترمذي في الفتن (2165)، والحاكم (1/ 113). قال الترمذي:«حديث حسن صحيح غريب» . وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين» . ووافقه الذهبي. قال الألباني في «الإرواء» (6/ 215): «وهو كما قالا» . وأخرجه أحمد 5/ 370 (23145) من حديث زكريا بن سلام عن أبيه عن رجل.

(3)

أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد «المسند» 4/ 278 (18449). قال ابن كثير في «تفسيره» (8/ 414): «إسناده ضعيف» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (667).

(4)

أخرجه أبو داود في المناسك (1960)، وعبد الرزاق في «مصنفه» 2/ 516 (4269)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» 8/ 343 (14174)، والبيهقي (3/ 143، 144) عن عبد الرحمن بن زيد عنه. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1712).

(5)

انظر: «الفتاوى المصرية» (ص 43).

ص: 231

سادسًا: حفظ اللسان والقلم والبنان، وضبط الأقوال والأفعال؛ فليس كل ما يُعلم يقال، ولا كل ما يقال يقال في كل الأحوال، وليس كل فعل بدا حُسنه يُفعل في كل حال.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لهم فتنة»

(1)

.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يكذَّب الله ورسوله؟!»

(2)

.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «ألم تَرَيْ أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم» . قالت: فقلت: يا رسول الله، أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لولا حِدْثان قومك بالكفر لفعلتُ»

(3)

.

سابعًا: وَزْنُ كل ما يرفع من رايات يزعم أربابها أنها إسلامية، ولنصرة الإسلام والمسلمين بميزان الشرع، من حيث التوحيد وسلامة العقيدة، ومن حيث عدم استباحة ترك شيء من الواجبات، أو استحلال شيء من المحرمات، سواء كانت هذه الرايات رايات دول، كما زعم الخميني الهالك في ثورته المشؤومة، أو رايات أحزاب وجماعات، كما يقع بين حينٍ وآخر في كثير من البلاد الإسلامية.

ثامنًا: يجب على العلماء الراسخين في العلم، وطلاب العلم الذين يدركون عواقب الفتن، وأضرارها العظيمة، ونتائجها الوخيمة على الدين، وعلى العباد والبلاد: أن يسعوا جهدهم في تجنيب عامة الناس مزالق الفتن، وأوضارها، وخاصة الشباب، ومن لديهم الحماس للخير، وهم لا يدركون عواقب الفتن، وذلك باحتوائهم وتوجيههم إلى الطريق الصحيح في مواجهة الفتن، وفق الضوابط الشرعيَّة، والقواعد المرعيَّة، ومنهج السلف الصالح والقرون المفضلة؛ من الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأهل السنة والجماعة؛ حتى لا تجتالهم هذه الفتن،

(1)

أخرجه مسلم في المقدمة (1/ 11).

(2)

أخرجه البخاري في العلم (127).

(3)

أخرجه البخاري في العلم (126)، ومسلم في الحج (1333)، وابن ماجه في المناسك (2955)، وأحمد 6/ 102 (24709).

ص: 232

ويكونوا وقودًا لها، ويعود ذلك بالضرر على الأمة في ثباتها على دينها ووحدتها.

والشواهد على هذا المنهج من حياة السلف من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم كثيرة معلومة:

فعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: يا أيها الناس، اتهموا أنفسكم؛ فإنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبيَة، ولو نرى قتالًا لقاتلنا، فجاء عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، ألسنا على الحق، وهم على الباطل؟ قال:«بلى» . قال: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال:«بلى» . قال: فعلام نعطي الدَّنيَّةَ في ديننا؟ أنرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: «يا ابنَ الخطابِ، إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدًا» . فانطلق عمر إلى أبي بكر، فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه رسول الله، ولن يضيعه الله أبدًا. فنزلت سورة الفتح، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر إلى آخرها، فقال: وفتحٌ هو؟ قال: «نعم»

(1)

.

وفي حديث المِسْوَر بن مَخْرَمة ومَرْوان بن الحكم: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ألست نبي الله حقًّا، قال:«بلى» ، قلت: ألسنا على الحق، وعدونا على الباطل؟ قال:«بلى» ، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذًا؟ قال: «إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري» ، قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: «بلى، فأخبرتُك أنَّا نأتيه العام؟» قال: قلت: لا. قال: «فإنك آتيه ومطوِّف به» ، قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقًّا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذًا؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغَرْزِه، فوالله إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال الزهري: قال عمر: فعمِلت لذلك أعمالًا

(2)

.

وفي رواية أحمد: «ثم قال عمر: ما زلت أصوم، وأتصدق، وأصلي، وأُعتِق من الذي صنعتُ؛ مخافةَ كلامي الذي تكلمتُ به يومئذ، حتى رجوت أن يكون خيرًا» .

(1)

أخرجه البخاري في الجزية (3182)، ومسلم في الجهاد والسير (1785)، وأحمد 3/ 485 (15975).

(2)

أخرجه البخاري في الشروط (2731)، وأحمد 4/ 325 (18928).

ص: 233

ولهذا قال عمر رضي الله عنه لقبيصة بن جابر: «إن في الإنسان- أو في الشاب- عشرة أخلاق، تسعة حسنة، أو صالحة، وواحد سيئ، ويفسدها ذلك السيئ، فإياك وعثرة الشباب، أو عثرات الشباب، أو فاتقِ طيرات الشباب، أو غرات الشباب»

(1)

.

وكأنه رضي الله عنه يشير إلى ما يوجد عند الكثيرين من العجلة والتسرع، وعدم تقدير العواقب، بسبب عدم اكتمال العقل والحكمة، كما يحصل من تصرفات بعض الأولاد مع والديهم، وبعض الطلاب مع معلميهم، وبعض الصغار مع الكبار.

لهذا ذكر صلى الله عليه وسلم من ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله: «شابًّا نشأ في طاعة الله»

(2)

.

وعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس صنعوا، وأنت ابن عمر، وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: يمنعني أن الله حرم دم أخي، فقالا: ألم يقل الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله

(3)

.

وقد حصل الأذى لكثير من علماء الإسلام على مر العصور، وثُرِّب عليهم في مواقفهم الثابتة أمام الفتن، وعدم انجرارهم إليها، أو تحذيرهم الشديد من الوقوع في فخاخها ومستنقعاتها، وثباتهم أمامها.

تاسعًا: لا يجوز إيقاع وتطبيق أحاديث الفتن على واقع معين، سواء ما نعيشه اليوم، أو ما بعده، أو ما قبل ذلك.

(1)

أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» 4/ 406، 407 (8239، 8240)، والطبري في «جامع البيان» (8/ 691)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» 4/ 1206 (6804)، والحاكم (3/ 310)، والبيهقي (5/ 181). قال الحاكم:«صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» .

(2)

أخرجه مالك في الشعر (2/ 952)، والبخاري في الأذان (660)، ومسلم في الزكاة (1031)، والنسائي في آداب القضاة (5380)، والترمذي في الزهد (2391)، وأحمد 2/ 439 (9665) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في التفسير (4513).

ص: 234

‌وقفات ست في: تربية الأولاد

قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 28]

‌الوقفة الأولى:

الأولاد فتنة؛ بين المنحة والمحنة

الأولاد من أعظم المنح وأكبر النعم التي امتنَّ الله عز وجل بها على العباد، قال تعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72]، وقال تعالى:{وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6]، وقال تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].

وقال نوح عليه الصلاة والسلام مرغِّبًا قومه باستغفار الله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح: 10 - 12].

وقال هود عليه الصلاة والسلام مذكرًا قومه بنعم الله عليهم: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [الشعراء: 132 - 133].

فالأولاد من أجلِّ المِنح والنعم الدنيوية وأعظمها، وهم زينة الحياة الدنيا، كما ذكر الله عز وجل.

قال الشاعر

(1)

:

نِعَمُ الإلهِ على العبادِ كثيرةٌ

وأجلُّهنَّ نجابةُ الأولادِ

لكن الأولاد قد يكونون فتنة ومحنة، وابتلاءً ونقمة، إذا أُهملوا، ولم يُعتنَ بتعليمهم وتربيتهم على الإسلام، كما قال تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}

(1)

انظر: «طبائع النساء» لابن عبد ربه الأندلسي (89).

ص: 235

[الأنفال: 28]، وقال تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14]

فاحرص أيها الوالد الكريم على تعليم أولادك وتربيتهم التربية الصالحة؛ ليكونوا لك بتوفيق الله تعالى منحة ونعمة، واحذر من إهمالهم والانشغال عنهم؛ لئلا يكونوا محنة لك ونقمة، فالجزاء من جنس العمل.

‌الوقفة الثانية:

الأولاد أمانة عظيمة في أعناق والديهم

من أعظم الأمانات، وأكبر المسؤوليات الملقاة على عاتقي الوالدين، وأهمها، وأوجبها: مسؤوليتهما عن أولادهما؛ لهذا أوصى الله عز وجل الوالدين بأولادهما، فقال تعالى:{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11].

وقد قال بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27]: إن المراد بالأمانات في قوله: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} : أمانات الأولاد.

ولا شك أن الأولاد من أول من يدخل تحت الأمانات في الآية، وهي أعم من ذلك.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، وقال تعالى مخاطبًا نبينا صلى الله عليه وسلم:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].

وامتدح عز وجل إسماعيل عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم: 55]؛ والأولاد من أخص الأهل.

ص: 236

وقال صلى الله عليه وسلم: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «الرجل راعٍ في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها»

(2)

.

فاحمل أيها الوالد الكريم هذه الأمانة بقوة، وأدِّها بأمانه وإحسان، تجنِ ثمرة ذلك في دينك ودنياك وأخراك، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.

‌الوقفة الثالثة:

من أهم حقوق الأولاد على والديهم

حقوق الأولاد على والديهم كثيرة، من أهمها ما يلي:

1 اختيار أمهم من ذوات الدين والخُلق، كما قال صلى الله عليه وسلم:«فاظفَر بذات الدين ترِبت يداك»

(3)

.

2 الدعاء لهم بالصلاح قبل وجودهم، وبعد وجودهم:

كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100]، وقال عليه الصلاة والسلام:{وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]، وقال عليه الصلاة والسلام:{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40].

(1)

أخرجه أبو داود في الصلاة (495)، وأحمد 2/ 180، 187 (6689، 6756) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه. وصححه الألباني في «الإرواء» (247، 298).

(2)

أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829)، وأبو داود في الخراج والإمارة (2928)، والترمذي في الجهاد (1705)، وأحمد 2/ 5، 54 (4495، 5167) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه البخاري في النكاح (5090)، ومسلم في الرضاع (1466)، وأبو داود في النكاح (2047)، والنسائي في النكاح (3230)، وابن ماجه في النكاح (1858) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 237

وقال هو وابنه إسماعيل عليهما الصلاة والسلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128].

وقال عباد الرحمن: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن أحدَكم إذا أراد أن يأتيَ أهلَه قال: اللهم جنِّبْنا الشيطان، وجنِّبِ الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدَّر بينهما ولدٌ في ذلك، لم يضرَّه الشيطان أبدًا»

(1)

.

3 تسميتهم بأحسن الأسماء، مما هو مستحسَن شرعًا، أو عُرفًا، ولا محذورَ فيه.

4 الإنفاق عليهم، والعناية بتغذيتهم، ونمو أجسامهم، وصحتهم؛ فالعقل السليم في الجسم السليم، و «المؤمن القوي خير وأحب الله من المؤمن الضعيف» ؛ كما جاء في الحديث

(2)

.

5 تربيتهم التربية الصالحة منذ الصغر، وتعليمهم العقيدة الإسلامية الصحيحة؛ بتعليمهم التوحيد بأقسامه الثلاثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، وأنهم خُلقوا لعبادة الله تعالى وحده، وتحذيرهم من الشرك والكفر والنفاق، وسيئ الأخلاق.

وتعليمهم أركان الإيمان الستة، وكل ما يجب على المسلم الإيمان به، وأركان الإسلام الخمسة، وكل ما يجب على المسلم العمل به، وتعليمهم كل ما يجب عليهم من حقوق لله تعالى، وحقوق للخلق، وتعليمهم الأخلاق والآداب، وغير ذلك؛ فإن العلم في الصغر كالنقش في الحجر، والطفل على ما نُشِّئَ عليه، والعود كما قيل على ما حُنِيَ عليه.

(1)

أخرجه البخاري في الوضوء (141)، ومسلم في النكاح (1434)، وأبو داود في النكاح (2161)، والترمذي في النكاح (1092)، وابن ماجه في النكاح (1919).

(2)

أخرجه مسلم في القدر (2664)، وابن ماجه في المقدمة (79)، وفي الزهد (4168)، وأحمد 2/ 366 (8791) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 238

قال الشاعر:

وينشَأُ ناشئُ الفتيانِ منَّا

على ما كان عوَّده أبوهُ

وما دان الفتى بحجًا ولكنْ

يعوِّده الديانةَ أقربوهُ

(1)

وقال الآخر:

قد ينفعُ الأدبُ الأولادَ في صِغَرٍ

وليس يَنفَعُهم من بعدِه أدبُ

إنَّ الغُصون إذا عدَّلتها اعتدلتْ

ولا يَلينُ- ولو ليَّنتَه- الخشبُ

(2)

وقال الآخر:

ليس اليتيمُ الذي قد مات والدُه

إن اليتيمَ يتيمُ العلم والأدبِ

(3)

وقال أحمد شوقي

(4)

:

ليس اليتيمُ مَنِ انتهى أبواه من

همِّ الحياةِ وخلَّفاه ذليلَا

إن اليتيمَ هو الذي تَلقَى له

أمًّا تخلَّت أو أبًا مَشغولَا

6 تربيتهم ذكورِهم وإناثهم على تمام الثقة بالله تعالى، وعلى قوة الشخصية، وعلى الحزم والعزم، والتفاؤل، والأخذ بمعالي الأمور؛ جمعًا بين عبادة الله تعالى، والتوكل عليه عز وجل، بين الاستعانة بالله عز وجل، وفعل الأسباب، كما قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وقال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].

وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباسٍ رضي الله عنهما: «احفَظِ اللهَ يحفظْك»

(5)

.

لينشأ الأولاد كلهم- ذكورُهم وإناثهم- كل منهم قوي الثقة بربه، وبتوفيقه له وحفظه لا يخاف إلا الله، ولا يرجو إلا الله، ولا يعتمد إلا على الله، ولا يؤمن إلا بالله، ثابتًا على ذلك ثبات الجبالِ الراسيات، لسانُ حاله ومقاله كما قال الشاعر:

(1)

البيتان لأبي العلاء المعري، انظر:«ديوانه» ص (1458).

(2)

البيتان مجهولا النسبة، انظر:«علو الهمة» لمحمد إسماعيل المقدم ص (366).

(3)

البيت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، انظر:«ديوانه» جمع وترتيب: عبد العزيز الكرم ص (16).

(4)

«الشوقيات» (1/ 183).

(5)

سيأتي تخريجه

ص: 239

سأعيش رغمَ الداءِ والأعداءِ

النورُ في جنبي وبين جَوانحي

كالنَّسرِ فوق القمةِ الشَّمَّاءِ

فعلامَ أخشى السيرَ في الظلماءِ؟!

(1)

والحَذَرَ كلَّ الحذرِ من تربيتهم التربية العقيمة السقيمة، المتداعية المتهالكة، التي تهدم ولا تبني، وهي تربية الأولاد على التشاؤم والمخاوف، فينشأ الواحد منهم- ذكرًا كان أو أنثى- مذبذب الشخصية، ضعيف الإرادة، خائر العزيمة، يخاف من كل شيء، يخاف كما يقال: حتى من ظله؛ يخاف من الفقر، ومن المرض، ومن العين والسحر والجن، ومن الموت، وغير ذلك أكثر من خوفه من الله تعالى.

7 العدل بينهم في تقريبهم ومحبتهم، وفي إعطاء كل منهم ما يحتاجه ذكورهم وإناثهم، كما جاء في حديث النعمان بن بَشيرٍ رضي الله عنه لما نحَلَ أحد أولاده نِحلةً، وجاء ليُشهد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، قال له:«أكُلَّ أولادك نحلتَ هذا؟» قال: لا. قال: «اتقوا اللهَ واعدِلوا بين أولادكم» .

وفي روايةٍ قال: «أشهِد على هذا غيري» . وفي روايةٍ قال: «لا أَشهَد على جَور»

(2)

.

8 التواصل المستمر من الوالدين مع أولادهم وأحفادهم، والتواصي معهم بالحق، والإرشاد والنصح لهم ما داموا على قيد الحياة.

‌الوقفة الرابعة:

العناية بالبنات

البنات من أعظم النعم المُسداة؛ لأنهن الآنسات المؤنسات، زينة البيوت وجمالها، البارات، العطوفات الحنونات، الرحيمات المشفِقات؛ ولهذا قيل: من لم يولد له بنات

(1)

سيأتي تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري في الشهادات (2650)، ومسلم في الهبات (1623)، والنسائي في النحل (3682)، وأحمد 4/ 268 (18363).

ص: 240

فهو عقيم!

وقدِ اعتنى الإسلام بهنَّ؛ نظرًا لضعفهن، فقال صلى الله عليه وسلم:«إني أُحرِّج حق الضعيفين: المرأة واليتيم»

(1)

.

وبيَّن صلى الله عليه وسلم عِظَم أجر وثواب مَن عالهن، وقام عليهن، فقال صلى الله عليه وسلم:«مَن عال جاريتين حتى تبلُغا، جاء يوم القيامة أنا وهو» وضم أصابعه

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جِدَتِه كنَّ له حجابًا من النار يوم القيامة»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلمٍ تدركه ابنتان فيحسن صحبتهما إلا أدخلتاه الجنة»

(4)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«من كان له ثلاث بنات: يؤويهن ويكفيهن ويرحمهن، وجبت له الجنة البتة» . فقال رجل من بعض القوم: واثنتين يا رسول الله؟ قال: «واثنتين»

(5)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن ابتُلي من البنات بشيءٍ، فصبر عليهن، وأدَّبهن، وأحسنَ تأديبهن، وربَّاهن، فأحسنَ تربيتهنَّ، كنَّ له سترًا من النار»

(6)

.

(1)

أخرجه ابن ماجه في الأدب (3678)، وأحمد 2/ 439 (9666)، والحاكم (1/ 63) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الحاكم:«هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (1015).

(2)

أخرجه مسلم في البر والصلة (2631)، والترمذي في البر والصلة (1914)، وأحمد 3/ 147 (12498) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

أخرجه ابن ماجه في الأدب (3669)، وأحمد 4/ 154 (17403) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. وصححه الألباني في «الصحيحة» (294).

(4)

أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (77) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وحسنه الألباني في تحقيقه «الأدب المفرد» لغيره.

(5)

أخرجه أحمد 3/ 303 (14247)، والبخاري في «الأدب المفرد» (78) من حديث جابر رضي الله عنه. وصححه الألباني في «الصحيحة» (1027، 2679).

(6)

أخرجه البخاري في الزكاة (1418)، ومسلم في البر والصلة (2629)، والترمذي في البر والصلة (1915)، وأحمد 6/ 33 (24055) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 241

ومن العناية بهن: رعايتُهن رعايةً تامةً، وكفالتُهن، وتربيتهن التربية الصالحة، وإعطاؤهن حقَّهنَّ من العطف، والحنان القلبي والنفسي، بالجلوس معهن، والانبساط إليهن، والتبسم لهن، والحديث معهن، والإنصات لحديثهن، والتحبب إليهن، والثناء على خُلقهن وجمالهن، ونحو ذلك.

ومن ذلك أيضًا: توريثهن وتزويجهن، وعدم حرمانهن من الميراث، أو منعهن من الزواج، أو تحجيرهن لأبناء عمومتهن أو لغيرهم كما يفعله أهل الجاهلية.

ومن ذلك أيضًا: إكرامهن، وإشعارهن بمكانتهن في الإسلام.

ومن ذلك: تذكيرهن بأن منهن فاطمة رضي الله عنها التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: «سيدة نساء أهل الجنة»

(1)

.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخلت عليه رضي الله عنها قام إليها فأخذ بيدها، وقبَّلها، وأجلسها في مجلسه

(2)

.

ومنهن: أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أزواجه صلى الله عليه وسلم.

ومنهن: مريم بنة عِمران، وآسية بنت مُزاحِم عليهما السلام.

ومنهن: بنات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهن، وقد كان جل ذرية الأنبياء عليهم السلام من البنات، ولم يعش لنبينا صلى الله عليه وسلم من الأولاد إلا البنات.

ومن العناية بهن أيضًا: حسن التعامل معهن بعد زواجهن، والاحتفاء بهن وبأولادهن، وإكرام أزواجهن وتقديرهم، واستضافتهم، والإحسان لمن مات زوجها ولأولادها، ولمن طلقت منهن، إلى غير ذلك من وجوه الإكرام، فأكرموهن تُكرَموا، فما أكرمهن إلا الكريم.

(1)

أخرجه البخاري في المناقب (3623، 3624)، ومسلم في فضائل الصحابة (2450)، وأحمد 6/ 282 (26413) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

أخرجه أبو داود في النوم (5217)، والترمذي في المناقب (3872) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال الترمذي:«حسن صحيح غريب» . وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» (4689).

ص: 242

‌الوقفة الخامسة:

ثمرات العناية بتربية الأولاد

للعناية بتربية الأولاد تربية صالحة، والقيام بحقوقهم، ثمراتٌ عظيمة، وفوائد كثيرة، ومنافع جمة، في الدين والدنيا والآخرة:

فهي في المقام الأول: أداء لواجب من آكد الواجبات وأعظمها وأهمها، ووفاء بأمانة من أثقل الأمانات، وتخلُّص من تبِعتها.

وهي سبب لقرة أعين والديهم بهم في الحياة قبل الممات، والأجر العظيم في الآخرة. قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

وهي سبب لانتفاع والديهم بدعائهم في حياتهم وبعد مماتهم، قال صلى الله عليه وسلم:«إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «إن الرجل لتُرفع درجته في الجنة، فيقول: أنى هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك»

(2)

.

وهي سبب للحاقهم به في الآخرة، واجتماعهم معه في جنات عدن، كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21]، وقال تعالى:{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد: 23].

(1)

أخرجه مسلم في الوصية (1631)، وأبو داود في الوصايا (2880)، والنسائي في الوصايا (3651)، والترمذي في الأحكام (1376)، وأحمد 2/ 372 (8844) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه ابن ماجه في الأدب (3660)، وأحمد 2/ 509 (10610). وصححه الألباني في «الصحيحة» (1598).

ص: 243

وذكر تعالى دعاء حَمَلة العرش لهم بقولهم: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [غافر: 8].

فمن اعتنى بتربية أولاده تربية صالحة، وأدى حقوقهم، وبذل جهده في تعليمهم وتوجيههم ونصحهم، وأدى الأمانة فيهم، برِئت ذمته أمام الله عز وجل يوم القيامة، وقرَّت عينه ببرهم به في حياته، وانتفع بدعائهم له بعد مماته، وألحقهم الله تعالى به في الآخرة، وجمعهم معه في جنات عدن، فحصل له قرة العين بهم في الدارين، وشتان ما بين القُرتين والدارين، وتحقق له ما دعا به المؤمنون:{رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74].

‌الوقفة السادسة في:

خطر إهمال تربية الأولاد،

وأن الفساد إنما جاء كثيرًا منهم من قبل آبائهم

التقصير في تربية الأولاد، وإهمالهم، وعدم توجيههم والنصح لهم وتعليمهم ما ينفعهم وتحذيرهم عما يضرهم في دينهم ودنياهم وأخراهم: خيانة من أعظم الخيانات وأكبرها، رتب عليها الشرع أشد الوعيد والتهديد، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، والأولاد من أخص الأهل.

وعن مَعقِل بن يَسَارٍ رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «ما من عبدٍ يَسترعيه الله رعيةً، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة»

(1)

.

ومن حُرمت عليه الجنة فمصيره إلى النار وبئس القرار، فلا وعيد أشد من هذا

(1)

أخرجه البخاري في الأحكام (7151)، ومسلم في الإيمان (142)، والدارمي 2/ 417 (2796)، وأحمد 5/ 25 (20291).

ص: 244

الوعيد!

والمصيبة أن كثيرًا من الآباء لا يستحضر هذا الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب، ولا يعير مسؤوليته عن تربية أولاده أي اهتمام، بل قصرها على تربية أبدانهم فقط، بتوفير الأكل والمتاع لهم. وانشغل عنهم بما لا ينفعه ولا ينفعهم، بإزجاء الأوقات باللهو والغفلات، والتنقل في الأسفار والفلوات، وبين المتنزَّهات والاستراحات، أو بالركض وراء الدنيا، وجمع حطامها، والمكاثرة فيها، مما لا تدعو الحاجة إليه، أو ربما انشغل بما هو أسوأ من ذلك، متناسيًا أن أولاده له غدًا بالمرصاد:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس 34 - 37].

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «كل مولودٍ يُولد على الفِطرة، فأبواه يهوِّدانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه»

(1)

.

فقوله: «فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه» معناه: أنهما ينحرفان به عن الفطرة إلى ما هما عليه من الديانة: اليهودية، أو النصرانية، أو المجوسية.

أو أنهما يهملان تربيته، وينشغلان عنه، كما هو حال كثير من الآباء، فينحرف عن الفطرة، ويتلقف أي ديانة كانت؛ يهودية، أو نصرانية، أو مجوسية، أو غير ذلك، من إلحادٍ، أو غلوٍّ، أو إفراط، أو تفريط، أو انحلال وفساد أخلاق، أو غير ذلك.

أو أنهما يربيانه على غير فطرة الله التي فطر الله الناس عليها؛ لأن من الآباء من يكون قدوة سيئة لأولاده، بارتكابه المعاصيَ والمُوبِقات بمرأى ومنظر منهم؛ من ترك الصلاة، أو ترك صلاة الجماعة، أو عقوق والديه، أو قطيعة رحمه، أو التعامل بالربا ونحوه، أو الظلم للناس والأذية لهم، أو تعاطي الدخان والمخدرات، أو غير ذلك.

مما يجعل الأولاد ينشؤون على هذا فتنتكس فطرهم، فلا يرون بأسًا في ترك الواجبات، أو ارتكاب المحرمات، ونحو ذلك.

(1)

أخرجه مالك في الجنائز (1/ 241)، والبخاري في الجنائز (1358، 1359)، ومسلم في القدر (2658)، وأبو داود في السنة (4714)، والترمذي في القدر (2138) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 245

قال الشاعر:

إذا كان ربُّ البيتِ بالدفِّ ضاربًا

فشيمةُ أهل البيتِ كلِّهم الرقصُ

(1)

كما أن من الآباء من يغرس في قلوب أولاده- بعد أن كانت سليمة- بذور الثارات والعداوات والتفاخر بالأحساب والأنساب، ويذكر لهم ما جرى في غابر الزمان بين القبائل بسبب ذلك، فيحيي في أولاده رُوح العصبية المقيتة؛ عصبية الجاهلية، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«دعوها فإنها مُنْتِنة»

(2)

.

ومنهم من يذكر لأولاده ما حصل فيما مضى بين الأقارب والأجداد والأعمام وأبنائهم والأخوال وغيرهم، مما ليس في ذكره إلا فساد القلوب، وإيغار الصدور، وإثارة الأحقاد والضغائن، والخسران المبين، والبعد عن الطريق المستقيم.

كما أن من الآباء من يحمل أولاده على التعلق بالدنيا والافتتان بها، بشدة حرصه وتحريصه لهم عليها، وجعله أكثر تشجيعهم وتوجيههم إليها، مما يغرس في قلوبهم حبها، والإقبال عليها إقبالًا قد يضر بآخرتهم، وقد قال الله عز وجل:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]، وهؤلاء عكسوا الأمر.

وكأن كثيرًا منهم يخشى الفقر على أولاده، مع ما هو فيه- هو وأبناؤه- من نعمة وخير، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسط عليكم الدنيا كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتُهلككم كما أهلكتهم»

(3)

.

والخلاصة أن فساد كثير من الأولاد بسبب والديهم.

فكم من أولاد انحرفوا عن الفطرة وضلوا بسبب اقتدائهم بآبائهم الضالين!

(1)

البيت مجهول النسبة، انظر:«معجم اللغة العربية المعاصرة» للدكتور: أحمد مختار عمر (1/ 267، 2/ 842)، و «مشكلة السرف في المجتمع المسلم» لعبد الله بن إبراهيم الطريقي ص (113).

(2)

أخرجه البخاري في تفسير القرآن (4905)، ومسلم في البر والصلة (2584)، والترمذي في تفسير القرآن (3315)، وأحمد 3/ 338 (14632) من حديث جابر رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في مناقب الأنصار (4015)، ومسلم في الزهد والرقائق (2961)، والترمذي في صفة القيامة (2462)، وابن ماجه في الفتن (3997) من حديث عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه.

ص: 246

وكم من أولاد ركِبوا موجة العصبية المقيتة وضاعت فيها أعمارهم بسبب آبائهم!

وكم من أولاد قطعوا أرحامهم وعادوا أقاربهم بسب آبائهم!

وكم من أولاد افتتنوا بالدنيا وحطامها بسبب آبائهم!

وكم من أولاد فشلوا في الحياة في أمر دينهم ودنياهم بسبب تربية آبائهم العقيمة!

وكم، وكم، من أولادٍ فسدوا بسبب إهمال آبائهم لهم!

قال ابن القيم في «تحفة الودود، في أحكام المولود»

(1)

: «فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم» ، قال تعالى:{وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31].

فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه، وتركه سدى، فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قِبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كبارًا.

كما عاتب بعضهم ولده على العقوق فقال: «يا أبتِ، عققتني صغيرًا، فعققتُ كبيرًا، وأضعتني وليدًا، فأضعتُك شيخًا» .

صدق ابن القيم رحمه الله، وصدق الولد في رده على عتاب والده!

(1)

ص 229.

ص: 247

‌وقفات ثلاث في: الرؤيا وتأويلها

قال الله تعالى: {قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا

ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37]

‌الوقفة الأولى:

تأويل الرؤيا وتعبيرها فتوى يجب أن يُبنى على العلم

تأويل الرؤيا وتعبيرها فتوى يجب أن يبنى على العلم لا على الظن والتخرص، قال يوسف عليه الصلاة والسلام:{ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37].

وذكر تعالى قول الملك: {يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43]؛ أي: إن كنتم من أهل العلم بتعبير الرؤيا.

وقال ملؤه حيث لا علم عندهم: {أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ} [يوسف: 44].

وهذا يُوجِب تقوى الله عز وجل على كل من يتصدر لتفسير الأحلام، والحذر كل الحذر من الخوض في هذا الباب بغير علم- حبًّا للمال أو للشهرة- احتياطًا لدينه، وسلامةً لعقيدته، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن، وبينهما أمور متشبِهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمَنِ اتقى الشبهاتِ فقدِ استبرأ لدينه وعِرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام»

(1)

.

قال الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ مفتى عام المملكة العربية

(1)

أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599)، وأبو داود في البيوع (3329)، والنسائي في الأشربة (5710)، والترمذي في البيوع (1205)، وابن ماجه في الفتن (3984) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

ص: 248

السعودية حفظه الله تعالى

(1)

: «أما المعبِّرون فالواجب عليهم تقوى الله عز وجل، والحذر من الخوض في هذا الباب بغير علم، فإن تعبير الرؤى فتوى؛ لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43].

ومعلوم أن الرؤيا بابها العلم لا الظن والتخرص، ثم أيضًا: تأويل الرؤى ليس من العلم العام الذي يحسن نشره بين المسلمين ليصححوا اعتقاداتهم وأعمالهم، وهي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مبشرات» ، وكما قال بعض السلف:«الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره» .

هذا، وإن التوسع في باب تأويل الرؤيا حتى سمعنا أنه يخصَّص لها في القنوات الفضائية، وكذلك على الهواتف، وفي الصحف والمجلات، والمنتديات العامة من المنتجعات وغيرها، أماكن خاصة بها؛ جذبًا للناس، وأكلًا لأموالهم بالباطل، كل هذا شر عظيم وتلاعب بهذا العلم الذي هو جزء من النبوة.

قيل لمالك رحمه الله: أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: «أبالنبوة يلعب؟!» .

وقال مالك: «لا يعبر الرؤيا إلا من يُحسِنها، فإن رأى خيرًا أخبر به، وإن رأى مكروهًا فليقل خيرًا أو ليصمت» ، قيل: فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه؛ لقول من قال: إنها على ما أُولتْ عليه؟ قال: «لا» ، ثم قال:«الرؤيا جزءٌ من النبوة، فلا يُتلاعب بالنبوة» .

فيجب على المسلمين التعاون في منع هذا الأمر كل حسَب استطاعته، ويجب على ولاة الأمور السعي في غلق هذا الباب؛ لأنه باب شر وذريعة إلى التخرص، والاستعانة بالجن، وجر المسلمين في ديار الإسلام إلى الكهانة، والسؤال عن المغيبات.

زيادة على ما فيها من مضارَّ لا تخفى من إحداث النزاعات والشقاق والتفريق بين المرء وزوجه، والرجل وأقاربه وأصدقائه، كل هذا بدعوى أن ما يقول المعبر هو تأويل الرؤيا، فيؤخذ على أنه حق محض لا جدال فيه، وتُبنى عليه الظنون، وهذا من أبطل الباطل، ونحن لا نعلم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم خير القرون وأحرصهم على هدي

(1)

في مقال طويل له ضمن مجلة البحوث الإسلامية (67 - 16 - 18)، تحت عنوان: تأويل الرؤى والحذر من التوسع فيها.

ص: 249

نبينا صلى الله عليه وسلم وأتقاهم لله وأخشاهم له- لا نعلم أنهم عقدوا مجالس عامة لتأويل الرؤى، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.

وإني- إبراءً للذمة، ونصحًا للأمة- لأحذر كل من يصل إليه هذا البيان من التعامل مع هؤلاء أو التعاطي معهم، والتمادي في ذلك، بل الواجب مقاطعتهم، والتحذير من شرهم، عصمنا الله وإياكم من مضِلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وألزمنا وإياكم كلمة التقوى، ورزقنا اتباع سنة سيد المرسلين، واقتفاء آثار السلف الصالحين، وحشرنا وإياكم في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. آمين. انتهى.

وقد سئل فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله: ما حكم تفسير الأحلام؟

فأجاب: «أولًا: ينبغي للإنسان ألا يتعلق بالأحلام ولا يهتم بها، وليعرض عنها؛ لأنه إذا اهتم بها واغتم عند المكروه منها لعب به الشيطان وصار يوريه في منامه أشياء تزعجه، وتشوش عليه، فالأَولى للإنسان أن يتناسى الأحلام، وألا يباليَ بها، وألا يتذكرها إذا استيقظ»

(1)

.

‌الوقفة الثانية:

أقسام ما يراه النائم، والتوجيه النبوي الكريم لمن رأى رؤيا

‌أ- أقسام ما يراه النائم:

ما يراه النائم لا يخرج عن أقسام ثلاثة:

القسم الأول: أن يرى الإنسان ما يحزنه ويغمه، وهذا من الشيطان، فينبغي اطِّراحه، والإعراض عنه، وعدم الالتفات إليه؛ لأن الشيطان حريص على إدخال الغم والهم والحزن على المسلم، كما قال تعالى:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10].

(1)

فتاوى نور على الدرب 2/ 24، الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ابن عثيمين، فتاوى نور على الدرب الشريط 349، فتوى بعنوان:«حكم تفسير الأحلام» .

ص: 250

ومن هذا أن يرى الإنسان ما لا يمكن وقوعه، فهذا من الشيطان، كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، رأيت في المنام كأن رأسي قطع أو ضرب فتدحرج، فاشتددت على أثره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا تحدِّث بتلعب الشيطان بك في المنام»

(1)

. فجعل صلى الله عليه وسلم هذا من تلاعب الشيطان.

القسم الثاني: ما يراه النائم في منامه مما يحدث به نفسه في اليقظة، فإذا كان الإنسان يفكر في شيء، ويحدث به نفسه كثيرًا في يقظته، فإنه قد يعرض له في منامه وهذا أمر معلوم، ولهذا قالوا: أحلام الناس من حديث قلوبهم.

القسم الثالث: الرؤيا التي لها أصل، وهي لا تخلو إما أن تكون مما يحبه الإنسان، أو مما يكرهه.

واشترط لها العلماء شروطًا ثلاثة:

الشرط الأول: ألا تكون مخالفة للشرع والواقع، فإن كانت مخالفة لهما فهي من الشيطان.

الشرط الثاني: أن يتذكرها الإنسان كلها، فإن ضيَّع شيئًا منها فليست بشيء.

الشرط الثالث: ألا تدخِل عليه الحزن والأذى في البدن، وإلا فهي من الشيطان.

‌ب- التوجيه النبوي الكريم لمن رأى رؤيا:

عن أبي سلمة قال: لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت أبا قتادة رضي الله عنه يقول: وأنا كنت لأرى الرؤيا تمرضني حتى سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا الحسنة من الله، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدِّث به إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذْ بالله من شرها ومن شر الشيطان، ويتفل ثلاثًا، ولا يحدث بها أحدًا؛ فإنها لا تضره»

(2)

.

وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها، فليبصق

(1)

أخرجه مسلم في الرؤيا (2268).

(2)

أخرجه مالك في الرؤيا (2/ 957)، والبخاري في التعبير (7044)، ومسلم في الرؤيا (2261).

ص: 251

عن يساره ثلاثًا، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثًا، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه»

(1)

.

قال ابن باز رحمه الله: «أيها المسلم، وأيتها المسلمة، إذا رأى الإنسان ما يحب مثل أن يرى أنه يصلي على الوجه الشرعي، يرى أنه يتعلم علمًا يتفقه في الدين، يرى أنه دخل الجنة، وما أشبه ذلك من المرائي الطيبة، يرى أنه يجالس الصالحين والأخيار، يرى أنه في حلقات العلم، هذه رؤيا طيبة، يقول إذا استيقظ: الحمد لله، يسر بهذا الشيء، يخبر بها أحبابه ومن أحب لا بأس.

أما إذا رأى ما يكره، رأى أنه يضرب، أو يتوعد، أو أنه مع الأشرار، أو أنه دخل النار، أو أنه مريض، أو ما أشبه ذلك من الأشياء المكروهة إذا استيقظ فزِع منها، كرهها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد أوصاه أن يتفل عن يساره ثلاث مرات، ويقول: أعوذ بالله من الشيطان، ومن شر ما رأيت، ثلاث مرات، ثم ينقلب على جنبه الآخر، فإنها لا تضره، ولا يخبر بها أحدًا.

وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن هذه الرؤيا من الشيطان ليحزن الإنسان، ليؤذيَه، فلا ينبغي أن يقر الشيطان ويسره، لا، بل ينبغي له أن يكون عدوًّا للشيطان، يتعوذ بالله من الشيطان، يتفل عن يساره ثلاث مرات، ويتعوذ بالله من الشيطان، ومن شر ما رأى، حتى يغيظ الشيطان، ثم ينقلب على جنبه الآخر كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخبر به، لا يقول: رأيت، رأيت، يتركها؛ فإنها لا تضره، والحمد لله»

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في الرؤيا (2262)، وأبو داود في الأدب (5022)، وابن ماجه في التعبير (3908)، وأحمد 3/ 350 (14780).

(2)

موقع الإمام ابن باز الإلكتروني، فتوى بعنوان: حكم قراءة كتب تفسير الأحلام.

ص: 252

‌الوقفة الثالثة:

شروط المعبِّر للرؤيا، وبيان أنه قد يصيب، وقد يخطئ وهو الأكثر، والتحذير من اقتناء كتب تفسير الأحلام وقراءتها

‌أ- شروط المعبر للرؤيا:

يُشترط في المعبر للرؤيا شروط ثلاثة:

الأول: المعرفة بدلالات اللغة التي تُحكى بها الرؤيا.

الثاني: المعرفة بنصوص الكتاب والسنة ومعانيها.

الثالث: أن يكون له فِراسة.

وهذه الشروط قل أن تجتمع فيمن يتصدرون اليوم لتفسير الرؤيا.

‌ب- المعبر للرؤيا قد يصيب وقد يخطئ، وهو الأكثر:

تعبير الرؤيا ليس وحيًا، والمعبر لا يعلم الغيب، وقد يصيب وقد يخطئ، حتى لو كان على علمٍ وبصيرة، ولهذا لا ينبغي الجزم بصواب التعبير، لا من العابر، ولا من المعبَّر له.

ولهذا لما عبر أبو بكر رضي الله عنه الرؤيا التي رآها رجل وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحدثه بها، وقال أبو بكر بعد أن عبرها: فأخبرني يا رسول الله بأبي أنت، أصبت أم أخطأت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أصبتَ بعضًا، وأخطأت بعضًا»

(1)

.

وإذا كان أبو بكر رضي الله عنه وهو أفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين، والذي هو منه في علمه رضي الله عنه، وفي إيمانه الذي لو وُزن بإيمان الأمة لرجح بها، إذا كان رضي الله عنه أخطأ بعضًا، فغيره من باب أولى وأولى بالخطأ، وبخاصة من خاض بهذا الأمر بلا علم ولا هدى ولا بصيرة، وبقصد جمع المال، أو الشهرة؛ كحال كثير من المعبرين اليوم، فهذا حريٌّ ألا يوفَّق

(1)

أخرجه البخاري في التعبير (7046)، ومسلم في الرؤيا (2269)، وأبو داود في الأيمان والنذور (3268)، وفي السنة (4632)، والترمذي في الرؤيا (2293)، وابن ماجه في تعبير الرؤيا (3918).

ص: 253

للصواب، فلا ينبغي الاغترار به.

‌ج- التحذير من اقتناء كتب تفسير الأحلام وقراءتها:

كتب تفسير الأحلام كثير منها غير معروف المصدر، ومبني كثير منها على الظنون الكاذبة، والتخرصات والتخمينات التي لا أصل لها، ولا تستند إلى علم، ولا يخلو كثير منها من الأباطيل والشركيات، والأساطير والخرافات، التي قد تضر مَن يكثِر القراءة فيها، فيقع بسببها في شيء من الشبهات والشكوك في العقيدة، وغير ذلك.

أو تدخله في دوامة من الأوهام والوساوس النفسية، لا يستطيع الخروج منها، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«دع ما يَريبك إلى ما لا يريبك»

(1)

.

وسئل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله عن مدى صحة كتب تفسير الأحلام مثل كتاب ابن سِيرين رحمه الله، فقال:

«الجواب على هذا أني أنصح إخواني المسلمين عن هذه الكتب؛ لأنها ليست وحيًا مُنزلًا، وإنما هي رأي قد يكون صحيحًا، وقد يكون غير صحيح، ثم إن الرؤى قد تتفق في صورتها، وتختلف في حقيقتها، بحسب من رآها، وبحسب الزمن، وبحسب المكان، فإذا رأينا رؤيا على صورة معينة فليس معنى ذلك أننا كلما رأينا رؤيا على هذه الصورة يكون تأويلها كتأويل الرؤيا الأولى، بل تختلف، فإذا كان هذا فإني أنصح إخواني المسلمين عن اقتناء هذه الكتب والمطالعة فيها»

(2)

.

وصدق فضيلته رحمه الله، فالسلامة لا يَعدِلها شيء.

(1)

أخرجه النسائي في الأشربة (5711)، والترمذي في صفة القيامة (2518)، وأحمد 1/ 200 (1723)، والحاكم (2/ 13، 4/ 99) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما. قال الترمذي: «حديث صحيح» . وصححه الألباني في «الإرواء» (12، 2074).

(2)

مجموع فتاوى ورسائل العثيمين 26/ 360 - 362.

ص: 254

‌وقفة في: احفَظِ الله يحفظْك

قال الله تعالى: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64]

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا غلام، إني أعلِّمك كلماتٍ: احفظ الله يحفظْك، احفظ الله تجدْه تُجاهَكَ، إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعِنْ بالله، واعلَمْ أن الأمةَ لوِ اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اج 3 تمعوا على أن يَضُروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلامُ، وجَفتِ الصحفُ»

(1)

.

وفي روايةٍ زيادةُ: «وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكَرْب، وأن مع العسر يسرًا»

(2)

.

هذه وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وهي وصيته صلى الله عليه وسلم للأمة كلها، وهي وصية الله تعالى في كتابه للأولين والآخرين؛ بتقواه، والتوكل عليه وحده، وسؤاله، والاستعانة به، والإيمان بقضائه وقدره، ووعده عز وجل على ذلك بالحياة الطيبة، والأجر العظيم، والفوز الكبير.

وقد اشتمل هذا الحديث العظيم على أمر، ووعد:

(1)

أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516)، وأحمد 1/ 293، 303، 307 (2669، 2763، 2803)، والحاكم (3/ 541). قال الترمذي:«حديث حسن صحيح» . وقال الحاكم: «هذا حديث كبير عالٍ من حديث عبد الملك بن عمير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش» . وصححه أحمد شاكر في شرحه لـ «المسند» (2669، 2763). وقال ابن تيمية في «التوسل والوسيلة» ص (52): «حديث مشهور» . وحسنه ابن حجر في «موافقة الخبر الخبر» (1/ 327)، وقال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (1/ 459):«حسن جيد» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (2382).

(2)

أخرجها أحمد 1/ 307 (2803)، والطبراني في «الكبير» 11/ 123 (11243)، والحاكم (3/ 542).

ص: 255

الأول: الأمر بحفظ الله تعالى بالاستقامة على دينه وشرعه، وسؤاله وحده، والاستعانة به وحده، وبيان أن الخلق كلهم ليس بأيديهم شيء من النفع أو الضر، إلا ما كتبه الله تعالى وقدَّره، وأن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا.

الثاني: الوعد بحفظ الله تعالى لمن حفظه في دينه ودنياه وأخراه، وأنه عز وجل مع من حفظه وقريب منه.

وهذا يضع الجميع- أخي الكريم وأختي الكريمة- أمام خيارينِ لا ثالث لهما:

الخيار الأول: وهو أفضل الخيارين وأكيسهما، وهو الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه، ويحب من اختاره ويتولاه.

وهو: أن تحفظ الله؛ أي: تحفظ الله عز وجل بتقواه، وحفظ حدوده، وحقوقه، بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، والاستقامة على طاعته، والبعد عن معصيته، والمسارعة والمسابقة إلى مغفرته وجنته، وتحفظ الجوارح من السمع، والبصر، والفؤاد، واللسان، والبطن، والفرج، وسائر الجوارح باستعمالها في طاعة الله تعالى، والاستعانة بها على مرضاته، وحفظها عما حرم الله تعالى.

فيحفظك الله ويوفقك في دينك ودنياك وأخراك، كما قال تعالى:{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64].

يحفظك أولًا: في دينك الذي هو رأس مالك، وسبب سعادتك في دنياك وأخراك، فيحفظك من الشرك، والشك، والنفاق، وسيئ الأخلاق، ومن الشبهات، والشهوات المحرمة، ومن الحيرة، والتذبذب، وغير ذلك.

ويحبب إليك الإيمان، ويزينه في قلبك، ويكرِّه إليك الكفر والفسوق والعصيان، ويجعلك من الراشدين، ويجعل لك نورًا تفرق به بين الحق والباطل، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29].

وييسرك لليسرى، ويجنبك العسرى، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ

ص: 256

بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل 5 - 7].

ويحفظك في دنياك، بنفسك، وأهلك، وأولادك، ومالك، ومن تحب، كما قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

ويحفظك عند الاحتضار ومفارقة الحياة بالثبات على الإيمان، والسلامة من الخوف والحزن، والبشارة بالجنة وما فيها من النعيم، كما قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت 30 - 32]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف 13 - 14].

ويحفظك في عقِبك، وذريتك؛ فإن صلاح الوالدين سبب لصلاح عقبهم وذرياتهم، كما قال تعالى:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف: 82].

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «ما من مؤمن يموت إلا حفظه الله في عقبه وعقب عقبه»

(1)

.

ويحفظك ويسعدك في أخراك، فينجيك من النار، ويدخلك الجنة مع الأبرار؛ ووالديك وأهلك وذريتك وأحبابك؛ كما قال تعالى:{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 31 - 35].

وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «الاعتبار وأعقاب السرور والأحزان» (71)، وانظر:«جامع العلوم والحكم» لابن رجب الحنبلي (1/ 467).

ص: 257

بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور 17 - 21].

وقال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد 23، 24].

ويدعو لهم حملة العرش بقولهم: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر: 8].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب»

(1)

.

الخيار الثاني: وهو الذي يكرهه الله ويُبغِضه، ولا يرضاه، ويُعرِض عز وجل عمن اختاره وسلكه ولا يتولاه.

وهو عدم حفظ الله عز وجل، وتضييع أوامره، وعدم امتثالها، وارتكاب نواهيه، فمن اختار هذا الطريق، تخلى الله عنه، ولم يحفظه، ووَكَلَه لنفسه، فاستهوته الشياطين، وذهبت به كل مذهب، وضاع في مَهَب الريح، وخسِر دينه ودنياه وأخراه، وصار مصيره إلى النار، وبئس القرار.

قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه 124 - 126].

فالكون كله يسير وَفق نظام محكَم دقيق، ونواميس وسنن كونية لا تتخلف، فمن حفظ الله حفظه الله، ومن ضيع أمر الله وَكَلَه الله إلى نفسه فهلك.

وكما يدين المرء يدان، كما قال تعالى:{جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26]، وقال تعالى:

(1)

أخرجه البخاري في الأدب (6168)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2640) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في الموضع السابق (6170)، ومسلم في الموضع السابق (2641) من حديث أبي موسى رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود في النوم (5127)، والترمذي في الزهد (2385، 2386) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي في الموضع السابق (3535، 3536) من حديث صفوان بن عَسَّال رضي الله عنه.

ص: 258

{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل 5 - 10].

وقال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60].

والمصيبة أن تصوُّر هذه الحقيقة غائب عند كثير من الناس، وهو الذي يجب أن يكون حاضرًا عند كل مسلمٍ ومسلمة، وهو بإذن الله تعالى صمام الأمان، وعنوان السعادة في الدارين، الذي ينبغي أن تُربَّى عليه الأجيال المسلمة، وأنه بقدر ما تحفظ الله عز وجل يحفظك الله، وبقدر ما تكون مع الله يكون الله معك، هذا خلاصة ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، فانتبِهْ لهذا، ولا تغفل، وتبصر في مسيرتك وخطاك، وكن مع الله يكن الله معك.

تأمل قول الله تعالى لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وقول موسى عليه الصلاة والسلام:{قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].

وتأمل قول المصطفى صلوات الله وسلامه عليه لأبي بكر رضي الله عنه، وهما في الغار:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].

وتأمل قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128].

وقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق 2، 3]، وقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4].

وقوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

وقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].

وقوله عز وجل في الحديث القدسي: «مَن تقربَ إليَّ شبرًا تقربتُ منه ذراعًا، ومن تقرب إليَّ ذراعًا تقربت منه باعًا، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يَبطِش بها، ورجله التي يمشي

ص: 259

عليها، ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه»

(1)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكله، لَرَزَقَكم كما يرزق الطير، تغدو خِماصًا وتَرُوح بِطانًا»

(2)

.

وتأمل كيف حفظ الله عز وجل يوسف وردَّه إلى أبيه يعقوب عليهما الصلاة والسلام لما حفظا الله عز وجل وتوكلا عليه، ووثقا بحفظ الله تعالى لهما، ورحمته، كما قال يعقوب عليه السلام:{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64].

وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم: «احفَظِ الله يحفظْك» .

(1)

أخرجه البخاري في الرقاق (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الترمذي في الزهد (2344)، وابن ماجه في الزهد (4164)، وأحمد 1/ 30 (205) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال الترمذي:«حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (310).

ص: 260

‌أربع عشرة وقفة في: وجوب شكر نعم الله عز وجل

-

قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]

‌الوقفة الأولى في:

معنى الشكر، وأدواته التي يقع بها

‌أ- معنى الشكر:

قال ابن منظور: «الشكر: عرفان الإحسان، ونشره، والثناء على المحسِن بما أولاكه من المعروف، يقال: شكرته، وشكرت له، وباللام أفصح، والشكر هو الشُّكور، والشكران خلاف الكُفران.

والشكر من الله: المجازاة والثناء الجميل.

والشَّكور معناه: أنه يزكو عنده القليل من أعمال العباد، فيضاعَف لهم الجزاء، وشكره لعباده: مغفرته لهم.

وأما الشَّكور من عباد الله، فهو الذي يجتهد في شكر ربه بطاعته، وأدائه ما وُظف عليه من عبادته»

(1)

.

ونعم الله عز وجل تشمل جميع نعمه سبحانه وتعالى التي لا تُحصى؛ من نعمة الخلق، ونعمة الإسلام، ونعمة الرزق، ونعمة الأمن، ونعمة الصحة والفراغ، ونعمة الأزواج والأولاد، وغيرها من النعم الظاهرة والباطنة.

‌ب- أدوات الشكر التي يقع بها:

جاء في لسان العرب

(2)

: «والشكر: مقابلة النعمة بالقول والفعل والنية، فيُثني على المنعِم

(1)

«لسان العرب» مادة «شكر» .

(2)

«لسان العرب» مادة «شكر» .

ص: 261

بلسانه، ويذيب نفسه في طاعته، ويعتقد أنه مُولِيها».

فالشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح، كما قال الشاعر:

وما كان شُكري وافيًا بنَوالكم

ولكنني حاولتُ في الجهدِ مذهبَا

أفادتكمُ النَّعماءُ مني ثلاثةً

يدي ولساني والضميرَ المُحَجَّبَا

(1)

فالشكر بالقلب بالاعتراف بالنعمة باطنًا، ونسبتها إلى المنعم بها ومُسدِيها.

والشكر باللسان بالاعتراف بالنعمة ظاهرًا، والتحدث بها باللسان، كما قال تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]؛ أي: وأما بنعمة ربك عليك بالنبوة فحدث، وبغيرها من النعم.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لَيَرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمَده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها»

(2)

.

والشكر بالجوارح: استعمالها في طاعة الله تعالى والاستعانة بها على مرضاته، قولًا وعملًا، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، وقال تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13]، وقد قام صلى الله عليه وسلم حتى تورمتْ قدماه، وقال:«أفلا أكون عبدًا شكورًا»

(3)

.

قال ابن قُدامه رحمه الله: «الشكر يكون بالقلب واللسان والجوارح.

أما بالقلب، فهو أن يقصد الخير، ويُضمِره للخلق كافة.

وأما باللسان، فهو إظهار الشكر بالتحميد، وإظهار الرضا عن الله تعالى.

وأما بالجوارح، فهو استعمال نعم الله تعالى في طاعته، والتوقي من الاستعانة بها على

(1)

البيت في «ربيع الأبرار ونصوص الأخيار» 5/ 277 بلا نسبة، ونسب في «المفضليات» ص 344 لبشر.

(2)

أخرجه مسلم في الذكر (2734)، والترمذي في الأطعمة (1816).

(3)

أخرجه البخاري في التهجد (1130)، ومسلم في صفة القيامة (2819)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1644)، والترمذي في الصلاة (412)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1419) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في التفسير (4837)، ومسلم في صفة القيامة (2820) من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه ابن ماجه في الموضع السابق (1419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 262

معصيته

»

(1)

.

قال ابن القيم رحمه الله في «طريق الهجرتين»

(2)

: «فإن أصل الشكر الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له، والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة، بل كان جاهلًا بها، لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها، لم يشكرها أيضًا، ومن عرف النعمة والمنعم، لكن جحدها، كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها، فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم بها وأقرَّ بها ولم يجحدها، ولكن لم يخضع له ويحبه ويرض به وعنه، لم يشكره أيضًا، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها، وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه، واستعملها في مَحابِّه وطاعته، فهذا هو الشاكر لها، فلا بد في الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم، وهو الميل إلى المنعم، ومحبته والخضوع له» .

فانتبه أخي المبارك وأختي المباركة لهذا، وليسخرْ كلٌّ فِكرَه وعقله ولسانه، وجميع جوارحه في ذكر الله تعالى وشكره {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].

‌الوقفة الثانية:

النعم كلها من الله تعالى، ولا يمكن إحصاؤها

قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]؛ أي: وما بكم من جميع النعم فمن الله تعالى؛ من نعمة العلم والإيمان والإسلام، ونعمة الخلق، والرزق، والأمن، والصحة، والفراغ، ونعمة الأزواج والأولاد، وغير ذلك من سائر النعم التي لا تُعد ولا تُحصى، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20].

وقال تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وقال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 18].

ص: 263

و «نعمة» نكرة مضافة إلى لفظ الجلالة «الله» ، وهو معرفة، فتعم جميع نعم الله تعالى؛ أي: وإن تعدوا نعم الله تعالى لا تستطيعون إحصاءها ولا حصرها.

ومثل هذا في عموم كل نعمه عز وجل قوله تعالى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150]؛ فالمعنى: ولأتم جميع نعمي عليكم.

وقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} ؛ فالمعنى: وأتممت عليكم جميع نعمي.

فكل ما يتقلب فيه الخلق، إنسهم وجنهم، ومؤمنهم وكافرهم، ناطقهم وبهيمهم من النعم، هو من الله تعالى، وليس بمقدورهم كلهم إحصاء نعمه عز وجل عليهم، ولا القيام بشكره عليها حق شكره، كما قال صلى الله عليه وسلم:«لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك»

(1)

.

قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: «فالواجب على كل إنسان أن يشكر نعمة الله على ما أعطاه، وأن يحمد الله، وأن يثنيَ عليه، لولا فضل الله لكنت أسوأ من حالك التي أنت عليها، إن كنت فقيرًا، لولا فضل الله لكنت أسوأ، وإن كنت قصيرًا لولا فضل الله لكنت أسوأ، وإن كنت ذميمًا، لولا فضل الله لكنت أسوأ»

(2)

.

‌الوقفة الثالثة في:

وجوب الشكر لله عز وجل

-

الشكر لله عز وجل من أوجب الواجبات التي أوجبها الله عز وجل على عباده، وأمر عز وجل به جميع أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين.

(1)

أخرجه مالك في القرآن (1/ 214)، ومسلم في الصلاة (486)، وأبو داود في الصلاة (879)، والنسائي في الطهارة (169)، وفي التطبيق (1100)، والترمذي في الدعوات (3493)، وابن ماجه في الدعاء (3841) من حديث عائشة رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود في الوتر (1427)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1747)، والترمذي في الدعوات (3566)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1179) من حديث عليٍّ رضي الله عنه.

(2)

في «تأملات في سورة الحجرات» من موقع الإمام ابن باز.

ص: 264

والشكر لله عز وجل يكون بما يلي:

أولًا: بالإيمان بالله تعالى، وعبادته وتقواه، واستعمال البدن، وجميع الجوارح الظاهرة والباطنة، وجميع النعم فيما خُلقت له، وفي عبادة الله تعالى وطاعته، والاستعانة بها على مرضاته، وذكره، وشكره؛ قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

وقال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، وقال تعالى:{وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114].

فالشكر شرط العبادة وحقيقتها، وهي لب الشكر وثمرته.

وقال إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37]؛ أي: لعلهم يشكرونك؛ بإقام الصلاة، وعبادتك.

وقال تعالى مخاطبًا آل داود عليهم السلام: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ: 13]؛ أي: اعملوا في عبادة الله تعالى، وطاعته شكرًا لله عز وجل.

وقال تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام: {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144]؛ أي: وكن من الشاكرين لله تعالى بالأخذ بما آتيتك من الرسالة والتوراة عملًا بذلك، وتبليغًا له.

وقال تعالى لنبينا صلوات الله وسلامه عليه: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66]؛ أي: بل الله وحده فاعبد، وكن من الشاكرين له عز وجل بعبادته وحده.

وقال تعالى ممتنًّا على النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]، فامتنَّ عليهم بنعمة نصرهم ببدر، وهم أذلة، وأمرهم بتقواه عز وجل؛ ليتحقق شكرهم له سبحانه.

وقال تعالى للمؤمنين: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، وقال تعالى:{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]،

ص: 265

فمن شكره عز وجل ذكره وإكمال عدة الصيام، وتكبيره عز وجل على هدايته إياهم.

وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14]، فأمر عز وجل بشكره، وجعل منه شكر الوالدين بالقيام بحقوقهما، فحقيقة الشكر وثمرته عبادة الله تعالى وطاعته.

وقال تعالى في الثناء على نبيه نوح عليه الصلاة والسلام: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]؛ أي: إنه كان عبدًا شكورًا لربه عز وجل، معترِفًا بنعمه، مثنِيًا بها عليه، مستعملًا لها في مرضاته، حامدًا ربه على كل حال، وفي كل حين.

وكما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الناس يوم القيامة

» الحديث، وفيه:«فيأتون نوحًا فيقولون: إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا؛ اشفع لنا إلى ربك»

(1)

.

وكل نعمة من نعم الله التي لا تُعد ولا تُحصى تَستوجب شكرًا خاصًّا؛ كنعمة الخلق، ونعمة الإسلام، ونعمة الرزق والأمن، والصحة، والفراغ، والأزواج، والأولاد، وغيرها من النعم، وسيأتي تفصيل شيء من هذا في الوقفات التالية.

ثانيًا: الاعتدال في النفقة، والمأكل، والمشرب، والملبس، والمسكن، والمركب وغير ذلك:

الاعتدال في النفقة في المأكل والمشرب، والملبس والمسكن والمركب، وفي جميع شؤون الحياة، من أعظم أوجه الشكر، وصفات الشاكرين.

قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29].

وقال تعالى في مدح عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]؛ أي: حسب ما تقوم به الحال، فلا إسراف ولا تقتير، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لما سأله عبد الملك بن مَرْوان حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ فقال له

(1)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3340)، وفي التفسير (4712)، ومسلم في الإيمان (194)، والترمذي في صفة القيامة (2434)، وأحمد 2/ 435 (9623).

ص: 266

عمر: «الحسنة بين سيئتين» ثم تلا هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67]

(1)

.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلوا واشربوا وتصدقوا والْبَسوا في غير مَخِيلة ولا سَرَف»

(2)

، وفي رواية:«كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف، أو مخيلة»

(3)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «كلْ ما شئت، والبسْ ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سَرَف، أو مخيلة»

(4)

.

قال الشاعر:

ولا تغلُ في شيءٍ من الأمرِ واقتصدْ

كِلا طرفي قصدِ الأمور ذميمُ

(5)

وقال الآخر:

إذا كنتَ تهوى العيشَ فاقنَعْ توسطًا

فعند التناهي يَقصُر المتطاولُ

تَوقَّى البدورُ النقصَ وَهْيَ أهلَّةٌ

ويدركها النقصانُ وَهْيَ كواملُ

(6)

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في إصلاح المال (334)، وانظر:«البسيط» للواحدي (16/ 584)، و «تفسير السمعاني» (4/ 31).

(2)

أخرجه أحمد 2/ 181، 182 (6695، 6708)، والحاكم (4/ 135). قال الحاكم:«صحيح الإسناد ولم يخرجاه» .

(3)

أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم في اللباس، قبل (5783)، والنسائي في الزكاة (2559)، وابن ماجه في اللباس (3605)، وأحمد 2/ 181 (6695). قال المنذري في «الترغيب والترهيب» (3/ 142):«رواه النسائي وابن ماجه، ورواته إلى عمر ثقات يُحتج بهم في الصحيح» . وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» (4505)، و «مشكاة المصابيح» (4381).

(4)

ذكره البخاري معلقًا بصيغة الجزم في اللباس، قبل (5783). ووصله ابن أبي شيبة في «المصنف» 12/ 516 (25375)، 13/ 545 (27133). صححه الألباني في «مشكاة المصابيح» (4380).

(5)

البيت لأبي سليمان الخطابي، كما في كتاب «العزلة» له (ص 97)، وفي «قرى الضيف» لابن أبي الدنيا (4/ 385).

(6)

البيتان لأبي العلاء المعري. انظر: «شرح نهج البلاغة» 3/ 163، «حياة الحيوان الكبرى» 2/ 173، «زهر الأكم في الأمثال والحكم» 2/ 203.

ص: 267

وقال القحطاني:

كن في أمورك كلها متوسطًا

عَدلًا بلا نقصٍ ولا رُجحانِ

ثالثًا: التحدث بنعمة الله تعالى، وذِكرها، وظهور أثرها على العبد.

من شكر نعمة الله تعالى على العبد التحدث بها، وذكرها، وظهور أثرها عليه، كما قال تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]؛ أي: فحدث بنعمة الله تعالى عليك بالنبوة، وبغيرها من نعم الله تعالى عليك.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»

(1)

.

وعن أبي الأحوص عن أبيه رضي الله عنه، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوبٍ دُون، فقال:«ألك مال؟» قلت: نعم. قال: «من أي المال؟» قلت: آتاني الله من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال: «فإذا آتاك الله مالًا فليُرَ أثرُ نعمة الله عليك وكرامته»

(2)

.

ورُوي أنه قرأ سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الآية: 13]، فقال:«ما لي أسمع الجن أحسن جوابًا لربها منكم!» قالوا: ماذا يا رسول الله؟ قال: «ما أتيتُ على قول الله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالتِ الجن: لا بشيءٍ من نعمةِ ربِّنا نكذِّب»

(3)

.

قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «ذِكر النعم شكرٌ»

(4)

.

(1)

أخرجه الترمذي في الأدب (2819)، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه. وقال:«حديث حسن» . وأخرجه أحمد 2/ 311 (8107) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي 4/ 438 (19934) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. وصححه الألباني في «الصحيحة» (1290).

(2)

أخرجه أبو داود في اللباس (4063)، والنسائي (5223، 5224)، والترمذي في البر والصلة (2006)، وأحمد 3/ 473 (15888). وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» (4352)، و «صحيح الجامع» (254).

(3)

أخرجه الترمذي في التفسير (3291)، والطبري في «جامع البيان» (22/ 190). قال الترمذي:«حديث غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (2150).

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» 16/ 336 (36234)، وسعيد بن منصور كما في «الدر المنثور» للسيوطي (8/ 546)، والبيهقي في «الشعب» 4/ 102 (4420).

ص: 268

وقال الفُضيل بن عِياض: «وإن من شكر النعمة أن يحدّث بها»

(1)

.

وقال ابن القيم في تعريف الشكر: «الشكر: ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبةً، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعةً»

(2)

.

وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله

(3)

: «والله سبحانه إذا أنعم على عبد نعمة يحب أن يرى أثرها عليه؛ في ملابسه، وفي أكله، وفي شربه، فلا يكون في مظهر الفقراء، والله قد أعطاه المال، ووسع عليه، ولا تكون ملابسه ولا مأكله كالفقراء، بل يظهر نعم الله في مأكله، ومشربه، وملبسه، ولكن لا يفهم من هذا الزيادة التي فيها الغلو وفيها الإسراف والتبذير» .

وقال أيضًا: «والتحدث بالنعم كأن يقول المسلم: إننا بخير والحمد لله، وعندنا خير كثير، وعندنا نعم كثيرة، نشكر الله على ذلك» .

رابعًا: حمد الله تعالى بعد الأكل، والشرب، وعندما يستجد ثوبًا، وعندما تَجدَّد النعم.

فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا طعِم حمِد الله تعالى، وإذا استجد ثوبًا حمد الله تعالى؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقنا معه، فلما طعِم وغسل يده- أو قال: يديه- قال: «الحمد لله الذي يُطعِم ولا يُطعَم، منَّ علينا فهدانا، وأطعمنا وسقانا، وكل بلاءٍ حسنٍ أبلانا، الحمد لله غير مودع ربي ولا مكافَأ ولا مكفور، ولا مستغنًى عنه، الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وأسقى من الشراب، وكسا من العُري، وهدى من الضلالة، وبصر من العمى، وفضل على كثير ممن خلقه تفضيلًا، الحمد لله رب العالمين»

(4)

.

وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الحمد لله الذي أطعم وسقى، وسوغه، وجعل له مَخرجًا»

(5)

.

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «الشكر» (56).

(2)

«مدارج السالكين» (2/ 244).

(3)

في كتابه «التحذير من الإسراف والتبذير» ص (23).

(4)

أخرجه النسائي في «الكبرى» 6/ 82 (10133)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» (485)، وابن حبان 12/ 23 (5219)، والحاكم (1/ 546). قال الحاكم:«صحيح على شرط مسلم» . ووافقه الذهبي، وحسن الألباني إسناده في «التعليقات الحسان» (5196).

(5)

أخرجه أبو داود في الأطعمة (3851)، والنسائي في «الكبرى» 4/ 201 (6894)، 6/ 79 (10117)، وابن حبان 12/ 23 - 24 (5220). وصححه الألباني في «التعليقات الحسان» (5197)، و «مشكاة المصابيح» (4207).

ص: 269

وعن الحسن البصري رحمه الله أنه استأجر حمَّالًا؛ ليحمل متاعه من السوق إلى البيت، وكان يسمعه طول الطريق يردد كلمتين لا يزيد عليهما: الحمد لله، أستغفر الله، أستغفر الله، الحمد لله، فلما وصل إلى البيت أعطاه أجره، وسأله عن ذلك، فقال الحمَّال: أنا حياتي كلها مع الله بين أمرين: نعمة لله تَستحق مني الحمد، وتقصير في حق الرب يستحق الاستغفار، فضرب الحسن كفًّا بكفٍّ، وقال:«حمال أفقه منك يا حسن!» .

خامسًا: الدعاء بحفظها، وعدم زوالها.

فعن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك»

(1)

.

سادسًا: مساعدة المحتاجين.

فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنعم الله على عبد نعمة إلا كثُرت مُؤْنة الناس عليه، فإن لم يتحمل مؤَنهم فقد عرَّض تلك النعمة لزوالها»

(2)

.

سابعًا: سجود الشكر لله عز وجل عند حصول نعمة أو اندفاع نقمة.

فقد سجد كعب بن مالك رضي الله عنه شكرًا لله عز وجل، لما جاءته البشارة بتوبة الله تعالى عليه، وعلى صاحبيه

(3)

.

ورُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال له كعب الأحبار: إنا لنجد: ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء. قال عمر: إلا من حاسب نفسه. فقال كعب: إلا من حاسب نفسه. فكبر عمر رضي الله عنه، وخرَّ ساجدًا

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في الرقاق (2739)، وأبو داود في الوتر (1545).

(2)

أخرجه الخرائطي في «مكارم الأخلاق» (89)، و «فضيلة الشكر لله على نعمته» (56).

(3)

أخرجه البخاري في التفسير (4677)، ومسلم في التوبة (2769)، وأبو داود في الجهاد (2773)، والترمذي في تفسير سورة التوبة (3102)، وأحمد 3/ 456 - 459 (15789). وانظر:«فضيلة الشكر» للخرائطي (60).

(4)

أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في «الرد على الجهمية» (89)، والخرائطي في «فضيلة الشكر» (67)، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 89)، والبيهقي في «الشعب» 6/ 23 (7393).

ص: 270

ورُوي أن الحسن البصري رحمه الله كان متواريًا في منزل أبي خليفة العبدي، فجاء رجل فقال: يا أبا سعيد، تُوفي الحجاج، فخر ساجدًا

(1)

.

‌الوقفة الرابعة في:

فضل الشكر، وجزائه في الدنيا والآخرة

الشكر من أفضل الأعمال، وأجلها عند الله عز وجل؛ ولهذا سمى عز وجل نفسه الشاكر، والشكور، ووصف نفسه بذلك، كما قال تعالى:{وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147]، وقال تعالى:{فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158]، وقال أهل الجنة:{إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34].

وبين عز وجل علمه بالشاكرين، وتكفل عز وجل بجزائهم العظيم، وثوابهم الجزيل، فقال تعالى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، وقال تعالى:{وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، وقال تعالى:{وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145].

وقال تعالى في إهلاك قوم لوط، وإنجائه وآله:{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر 34 - 35].

فجزاء الشكر في الدنيا توفيق الله تعالى للشاكرين، وحفظ النعمة عليهم، وزيادتهم منها، كما قال تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

قال علي رضي الله عنه لرجل من همدان: «إن النعمة موصولة بالشكر، والشكر متعلق بالمزيد، وهما مقرونان في قرن، فلن ينقطع المزيد من الله عز وجل حتى ينقطع الشكر من العبد»

(2)

.

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «الشكر» (134)، والخرائطي في «فضيلة الشكر» (66).

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «الشكر» (18).

ص: 271

وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «قيدوا النعم بالشكر لله عز وجل»

(1)

.

وقال أبو قِلَابة: «لا تضركم دنياكم إذا شكرتموها»

(2)

.

وقال الفُضيل بن عِيَاض: «من عرف نعمة الله بقلبه، وحمِده بلسانه، لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة»

(3)

، وقال أيضًا:«عليكم بالشكر فإنه قلَّ قوم كانت عليهم من الله نعمة فزالت عنهم ثم عادت إليهم»

(4)

، وقال أيضًا:«خَلتان لا أبيع إحداهما بشيء: قول الناس: قد أحسنت لو أعطيت رجلًا ألف دينار، فقال: أحسنت، جزاك الله خيرًا، كان الذي أعطاك خيرًا من الذي أخذ، والأخرى: لا تشتري بشيء قول الناس: قد أسأت»

(5)

.

وقال بعضهم: «لو لم يكن من فضل الشكر إلا أنه لا يُرى إلا بين نعمةٍ مقصورة عليه، وزيادة منتظرة منه»

(6)

.

وقد سمى العلماء شكر النعم بـ «الحافظ الجالب» ، فهو يحفظ النعم في الدنيا من أسباب زوالها، ويجلب الزيادة منها بإذن الله عز وجل.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه

(7)

:

إذا كنتَ في نعمةٍ فارْعَها

فإنَّ المعاصيْ تُزيلُ النِّعَمْ

وحافظْ عليها بشكرِ الإله

فإنَّ الإلهَ سَريعُ النقَمْ

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَا رجل بفَلاةٍ من الأرض، فسمع صوتًا في سحابة: اسقِ حديقة فلان. فتنحَّى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حَرَّةٍ، فإذا شَرجة من

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «الشكر» (27)، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 340).

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «الشكر» (59).

(3)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «الشكر» (56)، ومن طريقه البيهقي في «شعب الإيمان» 4/ 127 (4533).

(4)

أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» 4/ 131 (4556).

(5)

أخرجه الخرائطي في «فضيلة الشكر» (99).

(6)

أخرجه الخرائطي في «فضيلة الشكر» (98) كتب محمد بن عبد الملك الزيات كتابًا عن المعتصم بالله إلى عبد الله بن طاهر.

(7)

انظر: «ديوانه» (ص 131).

ص: 272

تلك الشِّراج قد استوعبتْ ذلك الماء كله، فتتبع الماء، فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمِسحاته، فقال له: يا عبدَ الله، ما اسمك؟ قال: فلان- للاسم الذي سمع في السحابة- فقال له: يا عبد الله، لمَ تسألني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتًا في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسقِ حديقة فلان. لاسمك، فما تصنع فيها؟ قال: أما إذ قلت هذا، فإني أنظر إلى ما يخرج منها، فأتصدق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثًا، وأرد فيها ثلثه»

(1)

.

فهذا دليل على حفظ النعمة، ودوامها، وزيادتها بشكرها، فحفظ الله عز وجل لهذا الرجل حديقته من الجفاف والتلف بسبب شكره لله تعالى بأداء حق الله تعالى فيها، والاعتدال في توزيع الخارج منها.

كما تكفل عز وجل بجزاء الشكر، وثوابه في الآخرة، فقال تعالى:{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].

وقال تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 19 - 22].

ووعد تعالى برفع العذاب عمن شكر وآمن، فقال تعالى:{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147].

قال ابن القيم

(2)

: «قرن الله سبحانه وتعالى الشكر بالإيمان، وأخبر أنه لا غرض له في عذاب خلقه إن شكروا وآمنوا به، فقال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ}؛ أي: إن وفيتم ما خلقكم له، وهو الشكر والإيمان، فما أصنع بعذابكم؟!» .

(1)

أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2984)، وأحمد 2/ 269 (7941).

(2)

في «عدة الصابرين» صـ 118.

ص: 273

‌الوقفة الخامسة في:

شكر نعمة الخلق

تُعد نعمة خلق الإنسان أولى نعم الله تعالى على الإنسان، وأعظمها بعد نعمة الإسلام؛ لأنه لو لم يخلق لكان عدمًا لا ذكر له، ولم يعد شيئًا، كما قال تعالى:{أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67]، وقال تعالى:{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1].

وقال تعالى لزكريا عليه السلام: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9].

ولو لم يخلق الله عز وجل الإنسان ويبتليه، ويجعله سميعًا بصيرًا، لم يكن أهلًا لهداية السبيل، والاختيار بين الشكر والكفر، كما قال تعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3].

ولو لم يخلق الله تعالى الإنسان، لما عرف الحياة، وتمتع فيها، وأخذ نصيبه منها.

ولو لم يخلق الله تعالى الإنسان، لما عرف الله تعالى، ولما عرف دينه، بما جعل الله تعالى له من السمع، والبصر، والفؤاد، وبما أنزل من الآيات البينات.

ولهذا امتن الله عز وجل في مواضع كثيرة من القرآن الكريم على الإنسان بخلقه، وتسويته، وتعديله، وتحسين صورته، وذكر أصل خلقه، وأطواره؛ فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6 - 8]، وقال تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، وقال تعالى:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [التغابن: 3].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12 - 14].

وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}

ص: 274

[الطارق: 5 - 7]، وقال تعالى:{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 17 - 20].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} [الحج: 5].

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر: 67].

ولعِظَم مِنته عز وجل على العباد بخلقهم، وجعل السمع والأبصار، والأفئدة لهم، قرن ذلك في آيات كثيرة في القرآن الكريم بوجوب شكره، وتقواه، وعبادته، والتذكير بالرجوع إليه، قال تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]، وقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78].

وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23]، وقال تعالى:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 7 - 9].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]، وقال تعالى:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 6].

ص: 275

وبين عز وجل أن الحكمة من خلق الثقلين هي عبادته، فقال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58].

وقال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف: 191، 192]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].

ولهذا لما سمع جُبير بن مُطعِم رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور 35 - 37] قال: «كاد قلبي أن يطير» ، فأسلم، وحسُن إسلامه رضي الله عنه

(1)

.

ولهذا يجب على الإنسان أن يشكر الله عز وجل الذي خلقه فسواه فعدل خلقه في أحسن تقويم، وصوره فأحسن صورته، وجعل له السمع، والبصر، والفؤاد، باستعمال بدنه، وجوارحه، وحواسه لما خُلقت له من عبادة الله تعالى، والاستعانة بها على مرضاة الله عز وجل، وطاعته، وعلى ما يعود عليه بالنفع في أمر دينه، ودنياه، وأخراه، قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58].

وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة: 36 - 39].

وقال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].

وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسَه فمُعتِقها أو مُوبِقها»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري في التفسير (4854)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (832).

(2)

أخرجه مسلم في الطهارة (223)، والترمذي في الدعوات (3517)، وابن ماجه في المقدمة (280)، وأحمد 5/ 342 (22902) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

ص: 276

قال الشاعر:

قد رشحوك لأمرٍ لو فطِنتَ له

فارْبَأْ بنفسِك أن ترعى مع الهَمَلِ

(1)

‌الوقفة السادسة في:

شكر نعمة الإسلام

أكبر نعمة أنعم الله بها على العباد، وأعظمها وأجلها، وأفضلها وأعلاها، وأكملها وأتمها، هي نعمة الإسلام الذي هو الدين الحق، كما قال عز وجل:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19].

والإسلام هو دين الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام جميعًا:

قال نوح عليه السلام: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 72].

وقال تعالى عن إبراهيم الخليل عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 131 - 133]، وقال تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 127، 128].

وقال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67].

وقال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} [آل عمران: 20].

وقال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ

(1)

سبق.

ص: 277

وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136].

وقال يوسف عليه السلام: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف: 101].

وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44].

وقال موسى عليه السلام: {يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس: 84].

وقال سليمان عليه السلام: {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل: 42].

وقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} [المائدة: 111].

وقال تعالى لخاتم الرسل نبينا محمد عليه الصلاة والسلام: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163]، وقال تعالى له صلى الله عليه وسلم:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14]، وقال صلى الله عليه وسلم فيما حكى الله تعالى عنه:{وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [النمل: 91]، وقال:{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 12]، وقال:{وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 66].

وعن الحارث الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من جُثا جهنَّم» . فقال رجل: يا رسول الله، وإن صلى وصام؟ قال:«وإن صلى وصام، فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله»

(1)

.

ولهذا امتن الله عز وجل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته بالإيمان، والإسلام، وإنزال القرآن، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى

(1)

أخرجه الترمذي في الأمثال (2863)، وأحمد 4/ 202 (17800)، والنسائي في «الكبرى» 6/ 412 (11349)، وابن حبان 14/ 124 - 126 (6233). قال الترمذي:«حديث حسن صحيح غريب» . وصححه الألباني في «التعليقات الحسان» (6200).

ص: 278

اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى 52، 53].

وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم: 1]، وقال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 9].

وامتن عز وجل على الأمة، فقال:{كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151، 152]، وقال تعالى:{رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق: 11].

وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89].

وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].

وقال تعالى ممتنًّا عليهم بإكماله لهم دينهم، وإتمامه عليهم نعمته، ورضاه لهم الإسلام دينًا:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وقال تعالى:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231].

وقال تعالى مغريًا لهم بالإسلام، ومرغبًا لهم فيه:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22]، وقال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125].

وقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35].

إلى غير ذلك من الآيات التي فيها الامتنان بهذا الدين العظيم.

ص: 279

قال وهب بن منبِّه: «رؤوس النعم ثلاث: فأولها: نعمة الإسلام، التي لا تتم النعمة إلا بها، والثانية: نعمة العافية، التي لا تطيب الحياة إلا بها، والثالثة: نعمة الغنى، التي لا يطيب العيش إلا بها»

(1)

.

فلله الحمد والمنة على الهداية لهذا الدين العظيم:

دين الإسلام أعظم الأديان، وأولها وخاتمها، دين الفطرة المستقيمة، والدين الخالص، كما قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وقال تعالى:{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3].

دين العلم النافع، والعمل الصالح، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33، والفتح: 28، والصف: 9]؛ أي: بالعلم النافع، والعمل الصالح.

دين العدل والإحسان، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90].

دين اليسر والسماحة، كما قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه»

(2)

.

دين العزة والقوة، كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].

دين الفضيلة ومكارم الأخلاق، قال صلى الله عليه وسلم:«إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق»

(3)

.

دين الأمن والأمان والحفظ، كما قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]، وقال صلى الله عليه وسلم:«احفَظِ اللهَ يَحفَظْك»

(4)

.

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «الشكر» (169)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 68).

(2)

أخرجه البخاري في الإيمان (39)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5034) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه أحمد 2/ 381 (8952)، والبخاري في «الأدب المفرد» (273)، والحاكم (2/ 613)، والبيهقي (10/ 191، 192) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الحاكم: «صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» . ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في «الصحيحة» (45).

(4)

أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516)، وأحمد 1/ 293، 303، 307 (2669، 2763، 2803)، والحاكم (3/ 541، 542). قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . وقال الحاكم: «هذا حديث كبير عالٍ من حديث عبد الملك بن عمير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش» . وصححه أحمد شاكر في شرحه لـ «المسند» (2669، 2763). وصححه الألباني في «الصحيحة» (2382).

ص: 280

دين الوسطية، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143].

دين الكمال والتمام، كما قال تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

دين الشمول، كما قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89].

ودين الخلود والبقاء والحفظ، قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي قائمةً بأمر الله، لا يضرهم مَن خَذَلهم أو خالفهم، حتى يأتيَ أمر الله وهم ظاهرون على الناس»

(1)

.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال:«ما أجلسكم؟» قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا. قال:«آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟» قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة»

(2)

.

ولعظم المنة من الله عز وجل، وتمام النعمة بهذا الدين العظيم، كان لزامًا على كل مسلم ومسلمة أن يقوم بواجب الشكر، والحمد لله عز وجل على ذلك خير قيام، وأن يلهج بذكر الله عز وجل، وشكره، وحمده ليلًا ونهارًا، وسرًّا وجهارًا على أن هداه الله عز وجل، واصطفاه للإسلام، الذي حُرِمه أكثر البشر، وعليه أن يحرص كل الحرص على الاستقامة على الإسلام، وامتثال ما أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، واجتناب ما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويبذل وسعه وطاقته بتقوى الله

(1)

أخرجه البخاري (3641)، ومسلم في الإمارة (1037)، وأحمد 4/ 97 (16881).

(2)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2701)، والنسائي في آداب القضاة (5426)، والترمذي في الدعوات (3379)، وأحمد 4/ 92 (16835) من حديث أبي سعيد عن معاوية رضي الله عنهما.

ص: 281

-عز وجل؛ امتثالًا لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].

وأن يجتهد بالدعوة إلى الإسلام، ونشر تعاليمه.

ونسأل الله الثبات عليه حتى الممات، فإنه سبحانه لا يرد دعاء من دعاه، ولا يخيب رجاء من رجاه.

‌الوقفة السابعة في:

شكر نعمة الرزق والمال

امتن الله عز وجل على عباده بأنه عز وجل خلق لهم ما في الأرض جميعًا، فقال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].

كما امتن عليهم بأنه سبحانه سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا، فقال تعالى:{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان: 20]، وقال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13].

وذلك لأن من أعظم نعم الله تعالى على العباد بعد خلقهم وإعدادِهم، إمدادَهم بما يكفل وييسر لهم سبل العيش والحياة؛ من الرزق والمال، وغير ذلك، ولهذا امتن الله عليهم بذلك كله، وقرنه بشكره وعبادته وحده لا شريك له، وبتقواه، وبتذكير الخلق ببعثهم بعد موتهم، ورجوعهم إليه عز وجل للحساب والجزاء، وغير ذلك، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} [الروم: 40]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، وقال تعالى:{فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114].

وقال تعالى: {فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26]،

ص: 282

وقال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 17].

وقال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس 33 - 35].

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} [سبأ: 15].

وقال إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37].

وقال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22].

وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [إبراهيم: 32]، وقال تعالى:{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 67].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وقال تعالى:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132].

وقال تعالى ممتنًّا على أهل الحرم: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13]، وقال تعالى:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 9 - 11].

ص: 283

وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24 - 32].

وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29].

وقال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل 5 - 8].

وقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} [النحل: 81].

ومن شكر نعمة الرزق شكر نعمة الله تعالى في إنزال الماء للشرب، وحياة كل شيء، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30]، وقال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 68 - 70].

ومن ذلك شكر نعمة الله تعالى في تسخير البحار يستخرجون منها اللحوم الطرية، وحلية يلبسونها، وتجري فيها الفلك، ويطلبون فيها الرزق، وغير ذلك من المنافع، كما قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14]، وقال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الجاثية: 12].

وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ

ص: 284

تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12].

ومن ذلك شكر نعمة الله تعالى في إرسال الرياح للبشارة بالمطر، وإجراء الفلك بأمره عز وجل، وغير ذلك من المنافع، كما قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم: 46].

ومن ذلك شكر نعمة الله تعالى في جعل الليل للسكن، والنهار لابتغاء الرزق، كما قال تعالى:{وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73]، وقال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ} [النحل: 12].

إلى غير ذلك من النعم التي لا تُعد ولا تُحصى، كما قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم 32 - 34].

وهذا كله يوجب على المسلم أن يشكر الله عز وجل بمراعاة الأمور التالية:

أولًا: باستعمال هذه النعم كلها في عبادة الله تعالى وطاعته، وفيما خُلقت له، والاستعانة بها على مرضاة الله عز وجل، وما يقرب إليه سبحانه، ويكون سببًا لحفظ هذه النعم.

ثانيًا: الحرص كل الحرص على كسب الرزق والمال من الطرق الحلال، يبارك الله فيه، ويكون عونًا له على أمر دينه، ودنياه، وأخراه، وصلاحًا له في نفسه، وولده وأهله؛ قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقال صلى الله عليه وسلم:«ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده»

(1)

.

ثالثًا: الحذر كل الحذر من أن يشغله طلب المال وجمعه عن طاعة الله تعالى،

(1)

أخرجه البخاري في البيوع (2072)، وابن ماجه في التجارات (2138) من حديث المقدام رضي الله عنه.

ص: 285

والقيام بحقوقه عز وجل، وحقوق العباد من الوالدين والأولاد، والأزواج، والأقارب، والجيران، وحقوق المسلمين، وعن الاستعداد لما أمامه؛ فإن المال فتنة، قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، وقال صلى الله عليه وسلم:«والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسَط عليكم الدنيا كما بُسطت على مَن قلبكم، فتَنَافَسُوها كما تنافسوها، فتُهلِككم كما أهلكتهم»

(1)

.

رابعًا: أداء الحقوق الواجبة والمستحَبة في المال لله عز وجل، أو للعباد؛ من الزكاة، والكفارات، والنفقات، والصدقات، وغير ذلك، مما يكون في أدائه وإخراجه من المال تزكية له، وتطهير، وسبب لنموه وبركته وسلامته من الجوائح والآفات.

خامسًا: الاعتدال في الإنفاق في المأكل والمشرب، والملبس والمسكن والمركب، وغير ذلك، كما قال تعالى في وصف عباد الرحمن:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

سادسًا: البذل والإنفاق من المال في وجوه الخير والبر كلها، وخاصة ممن وسَّع الله عليه في الرزق والمال؛ في بناء المساجد والمدارس والمستشفيات ودور الرعاية والإغاثة، وافتتاح المشاريع الخيرية في الخدمات العامة للناس؛ فالمال مال الله، وهو وديعة عند الإنسان استخلفه الله تعالى فيه، ولا بد من رده، قال تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7].

وقال صلى الله عليه وسلم: «يقول ابن آدم: مالي، مالي. قال: وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبِستَ فأبليتَ، أو تصدقتَ فأمضيتَ؟»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري في مناقب الأنصار (4015)، ومسلم في الزهد والرقائق (2961)، والترمذي في صفة القيامة (2462)، وابن ماجه في الفتن (3997)، وأحمد 4/ 137 (17234) من حديث عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2958)، والنسائي في الوصايا (3613)، والترمذي في الزهد (2342، 2354)، وأحمد 4/ 24 (16306) من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه.

ص: 286

قال لَبيد

(1)

:

وما المالُ والأهلون إلا ودائعٌ

ولا بدَّ يومًا أن تُرَدَّ الودائعُ

وقال الآخر:

المال كالماء إن تُحبَسْ سواقِيهِ

يأسَنْ وإن يَجرِ يعذُبْ منه سلسالُ

الله أعطاك فابذلْ من عطيتهِ

فالمال عاريةٌ والعمر رحَّالُ

(2)

‌الوقفة الثامنة في:

شكر نعمة الأمن

نعمة الأمن والأمان من أعظم النعم التي أنعم الله بها على العباد، التي يجب شكرها حق الشكر؛ لأنه لا قيام للناس في دينهم ودنياهم، وفي جميع حياتهم إلا بالأمن، كما قال تعالى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة: 97]؛ أي: جعل الله الكعبة البيت الحرام سببًا لقيام الناس، حيث يأمنون في الحرم فتقوم أمور دينهم ودنياهم، وتستقيم حياتهم.

ولهذا امتن الله عز وجل على العباد في مواضع كثيرة في القرآن الكريم بنعمة الأمن، وربطها بنعمة الرزق؛ لأنهما قرينتان ولا غنى للناس عنهما، كما قال تعالى:{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال: 26].

وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ

(1)

«ديوانه» ص (88).

(2)

البيت دون نسبة في «موارد الظمآن لدروس الزمان» لعبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن السلمان (3/ 74)، «لا تحزن» للشيخ عائض القرني ص (251).

ص: 287

(112)

وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 112 - 114].

وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 126]، وقال تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35].

وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [القصص: 57]، وقال تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67].

وقال تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [سورة قريش].

وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].

وقال صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنًا في سِربِه، مُعافًى في جسدِه، عنده قُوتُ يومِه، فكأنما حِيزتْ له الدنيا»

(1)

، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال:«اللهم أهِلَّه علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله»

(2)

.

ولشكر نعمة الأمن والأمان بمعناه الشامل في النفس والمجتمع، يجب الحفاظ على

(1)

أخرجه الترمذي في الزهد (2346)، وابن ماجه في الزهد (4141) من حديث سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي عن أبيه، وكانت له صحبة. قال الترمذي:«حسن غريب» . وحسنه الألباني في «الصحيحة» (4328) لشواهده عن أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم.

(2)

أخرجه الدارمي 2/ 7 (1687)، وابن حبان 3/ 171 (888) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «التعليقات الحسان» (885). وأخرجه الدارمي 2/ 7 (1688)، والحاكم (4/ 285) وسكت عنه من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.

ص: 288

مقومات الأمن والأمان، التي من أهمها ما يلي:

أولًا: الإيمان بالله تعالى، والاستقامة علي دينه وعبادته وحده لا شريك له، كما قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82]؛ أي: الذين صدَّقوا بربوبية الله تعالى، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وشرعه بقلوبهم وألسنتهم، وانقادوا له بجوارحهم، فأخلصوا له العبادة والطاعة، واستقاموا على دينه، ولم يخلطوا إيمانهم بشرك، أولئك لهم خاصة الأمن، وهم مهتدون إلى الحق، وإلى الطريق المستقيم، لهم الأمن النفسي في حال السراء والضراء، والشدة والرخاء.

كما في قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه، وهما في الغار:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، وقوله صلى الله عليه وسلم له:«ما ظنُّك يا أبا بكرٍ باثنينِ اللهُ ثالِثُهما»

(1)

، فهذا يجسد الأمن في أسمى معانيه، وأعلى مراتبه.

ولهم الطمأنينة والأمن القلبي، كما قال تعالى:{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

قال صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمرَه كله خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابتْه سرَّاء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له»

(2)

.

حاله كما قال الشاعر:

سأعيشُ رغمَ الداءِ والأعداءِ

كالنَّسرِ فوقَ القمةِ الشمَّاءِ

النورُ في جَنبي وبينَ جَوانحي

فعلامَ أخشَى السيرَ في الظلماءِ

(3)

وصدق القائل:

إذا الإيمانُ ضاع فلا أمان

ولا دُنيا لمن لم يُحْيِ دينَا

(1)

أخرجه البخاري في المناقب (3653)، ومسلم في فضائل الصحابة (2381)، والترمذي في تفسير القرآن (3096)، وأحمد 1/ 4 (11) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

البيتان لأبي القاسم الشابي. انظر: «ديوانه» ص 11.

ص: 289

ومن رَضِيَ الحياة بغيرِ دينٍ

فقد جعلَ الفناءَ له قَرينَا

(1)

ثانيًا: الاعتصام بحبل الله جميعًا، والاجتماع على الحق، والحفاظ على وحدة الأمة، كما قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103].

ثالثًا: الأخذ بأسباب القوة المادية، اقتصاديًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، قال تعالى:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60].

فلا محل للضعيف بين الأمم اليوم، وقد سادت شريعة الغاب!

قال الشاعر

(2)

:

فلا مُنعت دارٌ ولا عَزَّ أهلُها

من الناسِ إلا بالقَنَا والقَنابل

وقال زُهير

(3)

:

ومن لم يَذُدْ عن حوضِه بسلاحهِ

يُهَدَّمْ، ومن لا يظلمِ الناسَ يُظلَمِ

رابعًا: التعاون على حفظ الأمن بين ولاة الأمور، وبين أفراد المجتمع كلهم، كل في موقعه؛ لأنهم جميعًا في سفينة واحدة، إذا غرِقت غرق الجميع.

فيجب أن يكون الجميع عيونًا ساهرة؛ لحفظ الأمن في البلاد، وألا نسمح لأي متربصٍ يريد إيجاد الفُرقة بيننا، والإخلال في أمن بلادنا بقول أو فعل، ونقف له بالمرصاد، وننبذ الشائعات والأراجيف، نُميتها في مهدها، ونتعاون على البر والتقوى، ونتواصى بالحق ونتواصى بالصبر، فالأمن مسؤولية الجميع.

(1)

البيتان لمحمد إقبال. انظر: «ديوانه» (ص 103).

(2)

انظر: «شرح حماسة أبي تمام» للفارسي (2/ 157).

(3)

انظر: «ديوانه» (ص 111).

ص: 290

‌الوقفة التاسعة في:

شكر نعمة الصحة والفراغ

نعمة الصحة ونعمة الفراغ من أعظم نعم الله تعالى على الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم:«نعمتان مَغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة، والفراغ»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«من أصبح منكم آمنًا في سربِه، معافًى في جسدِه، عنده قُوتُ يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا»

(2)

.

فالصحة والعافية نعمة من أكبر النعم على العبد، بها تطيب الحياة والعيش، وبها يستطيع الإنسان العمل لدينه ودنياه، وبدونها لا يستطيع شيئًا.

وقد قيل: «الصحة تاج على رؤوس الأصحاء، لا يراه إلا المرضى» .

كما أن الفراغ، وسعة الوقت نعمة عظيمة من أعظم النعم، ولهذا امتن الله على العباد بذلك، فقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]، فالليل والنهار خزائنُ للأعمال الصالحة، لمن وفقه الله للذكر والشكر.

ولهذا أقسم عز وجل بالعصر، وبالليل والنهار، والضحى، ونحو ذلك؛ تعظيمًا لشأن الوقت والزمن، ليعرف المسلم قدره، فلا يُضيَّع بما لا ينفع، أو بما يضر، ولا يعرف قدر قيمة الوقت إلا مَن شُغل طيلة يومه وليلته بالبحث عن لقمة يسد بها جوع أهله وولده، أو يسد بها رمقه، ونحو ذلك.

فعمر الإنسان في هذه الحياة قصير، وهو ثمين ولا يقدَّر قدره، وصحته ثمينة؛ لأن عمره هو أيام صحته، لذا يجب على المسلم أن يشكر الله على نعمة الصحة والعافية، وعلى نعمة الفراغ، ويقدر كل منهما قدره، ويغتنمهما بالعمل بما فيه صلاح أمر دينه

(1)

أخرجه البخاري في الرقاق (6412)، والترمذي في الزهد (2304)، وابن ماجه في الزهد (4170)، وأحمد 1/ 344 (3207) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه الترمذي في الزهد (2346)، وابن ماجه في الزهد (4141) من حديث سلمة بن عبيد الله بن محصن الخطمي عن أبيه، وكانت له صحبة. قال الترمذي:«حسن غريب» . وحسنه الألباني في «الصحيحة» (4318) لشواهده عن أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم.

ص: 291

ودنياه وأخراه، ويحذر كل الحذر أن يضيع عمره سُدًى، وصحته سَبَهْلَلًا، وفي الحديث:«اغتنِمْ خمسًا قبل خمسٍ: شبابك قبل هَرَمِك، وصحتك قبل سَقَمك، وفراغك قبل شُغلك، وغناك قبل فقرك، وحياتك قبل موتك»

(1)

.

‌الوقفة العاشرة في:

شكر نعمة الأزواج والأولاد

امتن الله عز وجل على العباد بنعمة الأزواج والأولاد في آيات عدة من القرآن الكريم، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54]، وقال تعالى في سورة النحل:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [الآية: 72]، وقال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]

وقال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} [فاطر: 11]، وقال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 36].

فنعمة الأزواج من أجلِّ النعم على العباد، بها يأنَس كل من الزوجين بالآخر، ويعف نفسه، ويقضي وَطَره، ويحصل بها الإنجاب وتكوين الأسرة، التي تطيب معها الحياة، والزواج سنة من سنن المرسلين عليهم الصلاة والسلام.

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «قصر الأمل» (111)، والحاكم (4/ 306)، والبيهقي في «الشعب» 7/ 263 (10248) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال العراقي في «تخريج أحاديث إحياء علوم الدين» (6/ 2488):«رواه ابن أبي الدنيا في قصر الأمل بإسناد حسن، ورواه ابن المبارك في الزهد من رواية عمرو بن ميمون الأودي مرسلًا» . قال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» . ووافقه الذهبي. وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» 1/ 2 (2)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» 19/ 58 (35460)، والنسائي في «الكبرى» 1/ 400 (11832)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 148)، والبيهقي في «الشعب» 7/ 263 (10250) عن عمرو بن ميمون مرسلًا. وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (1077).

ص: 292

وقد رد صلى الله عليه وسلم على المتبتِّلين تبتُّلَهم، وقال:«وأتزوج النساء، فمَن رغِب عن سنتي فليس مني»

(1)

.

كما أن نعمة الأولاد من أعظم النعم على العباد؛ فهم زينة الحياة الدنيا، كما قال تعالى:{الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].

ولا يقدر قدر نعمة الأولاد إلا من ابتُلي بالعقم، وحُرم الإنجاب.

ولهذا يجب على المسلم شكر نعمة الله تعالى بالأزواج والأولاد بطاعته، وحسن العشرة بين الأزواج

(2)

، والقيام على الأولاد وأداء حقوقهم

(3)

.

‌الوقفة الحادية عشرة في:

الأسباب المعينة على شكر الله عز وجل

-

الأسباب المعينة على شكر نعم الله تعالى كثيرة، ومن أهمها ما يلي:

أولًا: سؤال الله عز وجل، ودعاؤه التوفيق والعون على شكر نعمته، كما قال تعالى عن سليمان عليه السلام:{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19].

وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15].

وعن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَدَعَنَّ دُبُرَ كل صلاة أن تقول: اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»

(4)

، وعن ابن المنكدِر قال: كان دعاء

(1)

أخرجه البخاري في النكاح (5063)، ومسلم في النكاح (1401)، والنسائي في النكاح (3217)، وأحمد 3/ 241 (13534) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

سبق الكلام في وجوب حسن العشرة بين الزوجين، بعد نهاية فوائد الآية (228) من سورة البقرة.

(3)

سبق الكلام على حقوق الأولاد بعد نهاية فوائد الآيات (27 - 29) من سورة الأنفال.

(4)

أخرجه أبو داود في الصلاة (1522)، والنسائي في الصلاة (1303)، وأحمد 5/ 244 (22119)، والبخاري في «الأدب المفرد» (690)، وصححه الألباني «الأدب المفرد» ، وفي «صحيح أبي داود» (1362).

ص: 293

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم أعني على ذِكرِك وشكرك وحُسن عبادتك»

(1)

.

ثانيًا: معرفة العبد أن ما كتب الله تعالى له من الرزق وغيره آتيهِ لا مَحالةَ؛ فعليه بذل السبب والتوكل على الله تعالى، كما قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

وكما قال صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: «واعلَمْ أن الأمةَ لوِ اجتمعت على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف»

(2)

.

ثالثًا: القناعة والرضا التام بما قسم الله تعالى للعبد، قليلًا كان أو كثيرًا، والاطمئنان والسكون إلى ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:«قد أفلح من أسلم، ورُزِقَ كَفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه»

(3)

، وفي الحديث:«إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب»

(4)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كن وَرِعًا تكن أعبد الناس، وكن قنِعًا تكن أشكر الناس، وأحِبَّ للناس ما تحب لنفسك تكنْ مؤمنًا، وأحسِن جوار من جاورك تكن مسلمًا، وأقِلَّ الضحِك فإن كثرة الضحك تميت القلب»

(5)

، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لو كان

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2516)، وأحمد 1/ 293، 303، 307 (2669، 2763، 2803)، والحاكم (3/ 541، 542). قال الترمذي: «حديث حسن صحيح» . وقال الحاكم: «هذا حديث كبير عال من حديث عبد الملك بن عمير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، إلا أن الشيخين رضي الله عنهما لم يخرجا شهاب بن خراش» . وصححه أحمد شاكر في شرحه لـ «المسند» (2669، 2763). وصححه الألباني في «الصحيحة» (2382).

(3)

أخرجه مسلم في الزكاة (1054)، والترمذي في الزهد (2348)، وابن ماجه في الزهد (4138)، وأحمد 2/ 168 (6572) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

(4)

أخرجه ابن حبان 2/ 460 - 461 (685)، والحاكم (4/ 327) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. قال الحاكم: على شرط البخاري ولم يخرجاه بهذه السياقة. وصححه الألباني في «التعليقات الحسان» (684).

(5)

أخرجه الترمذي في الزهد (2305)، وابن ماجه في الزهد (42017)، وأحمد 2/ 310 (8095). قال الترمذي:«غريب» . وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (4580)، و «الصحيحة» (930).

ص: 294

لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوفَ ابنِ آدمَ إلا التراب، ويتوب الله على من تاب»

(1)

.

فمن رضي وقنع بما آتاه الله سعِد في حياته، وعاش مسرورًا مطمئنًّا هاديَ البال، بخلاف غيره.

قال الشاعر

(2)

:

ما كل ما فوق البسيطةِ كافيًا

وإذا قنعتَ فبعضُ شيءٍ كافي

وقال الآخر

(3)

:

خذِ القناعةَ من دنياك وارضَ بها

لو لم يكن لك فيها إلا راحةُ البدنِ

ولهذا قيل: «القناعة كَنز لا يَفنى» .

رابعًا: العلم بأن ما يؤتيه الله عز وجل للعبد هو فضل من الله سبحانه لا حول للعبد فيه ولا طَول، كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 29]، وقال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58].

فالإنسان وما يملك ملك لله تعالى، وما عنده من جميع النعم من الله تعالى، وهو مستخلَف فيه، وهو وديعة عنده، كما قال تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]، وقال تعالى:{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33].

خامسًا: مقارنة العبد حاله بحال من دونه، حتى يرى فضل الله تعالى عليه، سواء

(1)

أخرجه البخاري في الرقاق (6436)، ومسلم في الزكاة (1049)، وأحمد 1/ 370 (3501) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه البخاري في الموضع السابق (6439)، ومسلم في الموضع السابق (1048)، والترمذي في الزهد (2337) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه مسلم الموضع السابق (1050) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما.

(2)

البيت لأبي فِراس الحَمْداني. انظر: «ديوانه» (ص 223).

(3)

البيت من القصيدة المشهورة: «ليس الغريب» واختلفوا في قائلها.

ص: 295

في الصحة أو في الرزق، أو الأهل والولد، أو غير ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:«انظروا إلى من أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدرُ ألا تَزدروا نعمةَ الله عليكم»

(1)

.

سادسًا: شكر صانع المعروف من الناس:

شكر صانع المعروف من الناس شكر لله عز وجل، وهو أيضًا سبب لشكر الله تعالى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«لا يشكُر الله من لا يشكر الناس»

(2)

.

وفي لسان العرب

(3)

: «معناه: أن الله لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس، ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر.

وقيل: معناه: أنه من كان طبعه وعادته كفر نعمة الناس، وترك الشكر لهم، كان من عادته كفر نعمة الله، وترك الشكر له.

وقيل: معناه: أن من لا يشكر الناس كمن لا يشكره، وإن شكره، كما تقول: لا يحبني من لا يحبك؛ أي: أن محبتك مقرونة بمحبتي. وهذه الأقوال مبنية على رفع اسم الله تعالى ونصبه».

وقال صلى الله عليه وسلم: «ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له حتى ترَوْا أنكم قد كافأتموه»

(4)

.

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن أُعطي عطاءً فوجد فلْيجزِ به، فإن لم يجدْ

(1)

أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2963)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2615)، وابن ماجه في الزهد (4142)، وأحمد 2/ 254 (7449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أبو داود في الأدب (4811)، والترمذي في البر والصلة (1954)، وأحمد 2/ 258 (7504) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي:«حديث حسن صحيح» . وأخرجه الترمذي (1955)، وأحمد 3/ 73 (11703) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الترمذي:«هذا حديث حسن» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (416).

(3)

«لسان العرب» مادة «شكر» .

(4)

أخرجه أبو داود في الزكاة (1672)، والنسائي في الزكاة (2567)، وأحمد 2/ 68 (5365)، والبخاري في «الأدب المفرد» (216) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «الإرواء» (1617)، و «صحيح أبي داود» (1469).

ص: 296

فلْيُثنِ به، فمن أثنى به فقد شكره، ومن كتمه فقد كفره»

(1)

.

وعن أنس رضي الله قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قومًا أبذل من كثيرٍ ولا أحسن مواساةً من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم، لقد كَفَونا المُؤنةَ وأشركونا في المَهنَأ حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم»

(2)

.

‌الوقفة الثانية عشرة في:

عجز الإنسان عن شكر الله تعالى حقَّ شكره

إذا كانت النعم كلها من الله تعالى، وليس بمقدور الخلائق كلهم أن يعدوها ويحصوها، وإذا كان التوفيق للشكر هو نعمة من الله تعالى تستوجب الشكر، فلا أحد يستطيع أن يشكر الله تعالى حق شكره، وعلى المسلم أن يعترف بذلك ويقول كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:«لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك»

(3)

.

قال محمود الوراق:

إذا كان شكري نعمةَ الله نعمةً

علَيَّ له في مِثلِها يجبُ الشكرُ

(1)

أخرجه أبو داود في الأدب (4813)، والترمذي في البر والصلة (2034)، وابن حبان 8/ 203 - 204 (3415). وصححه الألباني في «الصحيحة» (617)، و «التعليقات الحسان» (3406).

(2)

أخرجه أبو داود في الأدب (4812)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2487)، وأحمد 3/ 200 (13076)، والبخاري في «الأدب المفرد» (217). وصححه الألباني في تحقيقه «الأدب المفرد» (217).

(3)

أخرجه مالك في القرآن (1/ 214)، ومسلم في الصلاة (486)، وأبو داود في الصلاة (879)، والنسائي في الطهارة (169)، وفي التطبيق (1100)، والترمذي في الدعوات (3493)، وابن ماجه في الدعاء (3841) من حديث عائشة رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود في الوتر (1427)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1747)، والترمذي في الدعوات (3566)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1179) من حديث عليٍّ رضي الله عنه.

ص: 297

فكيف بلوغُ الشكرِ إلا بفضلِهِ

وإنْ طالتِ الأيامُ واتَّصلَ العمرُ

إذا مسَّ بالسرَّاءِ عمَّ سُرُورها

وإنْ مَسَّ بالضرَّاء أَعقَبَها الأجرُ

ولا منهما إلا له فيه مِنَّةٌ

تَضيقُ بها الأوهامُ والبَرُّ والبحرُ

(1)

وقال يزيد بن المهلَّب بن أبي صُفرة:

وكيف بشُكرِ ذي نِعمٍ إذا ما

شكرتُ له فشُكري منه نعمَهْ

(2)

والمؤمن في جميع أحواله بين نعمتين في السراء والضراء، كما قال صلى الله عليه وسلم:«عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراءُ شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضراءُ صَبَر، فكان خيرًا له»

(3)

.

قال محمود الوراق:

عطيَّتُهُ إذا أعطى سرورٌ

وإن أخذَ الذي أعطى أثابَا

فأيُّ النعمتينِ أحقُّ شكرًا

وأحمدُ عند مُنقَلَبٍ إيابَا

أنعمتُهُ التي أهدتْ سرورًا

أم الأخرى التي أهدتْ ثوابَا؟

(4)

‌الوقفة الثالثة عشرة في:

الابتلاء والاستدراج بالنعم

من سنن الله تعالى الكونية ابتلاء العباد بالسراء والضراء، والشدة والرخاء، والنعم والنقم؛ ليتميز من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يجزع؛ كما قال تعالى:{فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15، 16].

(1)

«الشكر لله عز وجل» لابن أبي الدنيا ص 39، و «المستطرف» 1/ 53، و «تاريخ دمشق» 5/ 190

(2)

«فضيلة الشكر» للخرائطي ص 47.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

«فضيلة الشكر» للخرائطي ص (34).

ص: 298

وقال سليمان عليه الصلاة والسلام: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40].

وعن عُقبة بن عامر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إذا رأيتَ الله يعطي العبد من الدنيا- على معاصيه- ما يحب، فإنما هو استدراج» ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم:{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}

(1)

.

قال أبو حازم: «كل نعمة لا تقرِّب إلى الله تعالى فهي بلية»

(2)

.

وقال أيضًا: «نعمة الله على العبد فيما زَوَى عنه من الدنيا، أعظم من نعمته فيما أعطاه منها، إني رأيته أعطى قومًا فهلكوا»

(3)

.

وذلك لأن الشكر على النعمة قد يكون أشد من الصبر علي البلية؛ لأن كثيرًا من الناس لا يقدر النعمة قدرها ويغتر بها، فيطغى ويبطر، كما قال تعالى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7].

والسلامة لا يعدلها شيء، والعافية غنيمة؛ لهذا قال صلى الله عليه وسلم:«لا تتمنَّوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية»

(4)

.

نسأل الله العافية والسلامة.

(1)

أخرجه أحمد 4/ 145 (17311)، وابن جرير في «جامع البيان» (9/ 248، 249)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» 4/ 1290 (7288)، والطبراني في «الكبير» 17/ 330 (913)، وفي «الأوسط» 9/ 110 (9272)، والبيهقي في «الشعب» 4/ 128 (4540). قال العراقي في «المغني عن حمل الأسفار في الأسفار» ص (1477):«رواه أحمد والطبراني، والبيهقي في الشعب بسند حسن» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (413).

(2)

«الشكر لله عز وجل» لابن أبي الدنيا ص 68، و «فضيلة الشكر» للخرائطي ص 60.

(3)

«الشكر لله عز وجل» ص 50.

(4)

أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2965، 2966)، ومسلم في الجهاد والسير (1742)، وأبو داود في الجهاد (2631)، وأحمد 4/ 353 (19114) من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما.

ص: 299

‌الوقفة الرابعة عشرة في:

قلة الشاكرين

مع سعة إفضال الله تعالى على الناس، وترادف إحسانه إليهم، وإسباغه نعمه عليهم ظاهرة وباطنة، فإن أكثرهم له عز جل غير شاكرين، وأكثرهم بنعمه كافرين، كما قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة 243، وغافر: 61].

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} [يونس: 60]، وقال تعالى:{وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} [النمل: 73].

وقال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10]، وقال تعالى:{ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9].

وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23] وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78].

وقال يوسف عليه الصلاة والسلام: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [يوسف: 38].

ومن الناس من يشكر حال الشدة، ويكفر في الرخاء، كما قال تعالى عن المشركين:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: 22، 23]، وقال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].

قال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6]؛ قال:

ص: 300

«هو الكفور، الذي يعُد المصائب، وينسى نِعَم ربه»

(1)

.

وقلة الشكر لله من ضعف الإيمان، بل هي حقيقة ضعف الإيمان، أو فقدانه، وهو ما عليه أكثر الخلق، كما قال إبليس لعنه الله:{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف 16 - 17].

ولهذا حذر عز وجل من الاغترار بما عليه أكثر الخلق، فقال تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].

وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة: 49]، وقال تعالى:{إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [غافر: 59].

وبين صلى الله عليه وسلم أن بعث النار من كل ألف تسعمئة وتسعة وتسعون، وواحد إلى الجنة

(2)

.

قال ابن القيم رحمه الله:

يا سِلعةَ الرحمنِ لستِ رَخيصةً

بل أنتِ غاليةٌ على الكسلانِ

يا سلعةَ الرحمنِ ليسَ ينالُها

في الألفِ إلا واحدٌ لا اثنانِ

(3)

قال بعض السلف: «لا تغترَّ بالباطل لكثرة الهالكين، ولا تستوحِش من الحق لقلة السالكين»

(4)

.

(1)

أخرجه الطبري في «جامع البيان» (24/ 585)، والبيهقي في «شعب الإيمان» 4/ 153 (4629)، 7/ 217 (10061).

(2)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3348)، ومسلم في الإيمان (222)، وأحمد 3/ 32 (11284) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. وأخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة (2940)، وأحمد 2/ 166 (6555) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وأخرجه الترمذي (3019)، وأحمد 4/ 432 (19884) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

(3)

في «النونية» ص (1037).

(4)

انظر: «مدارج السالكين» (1/ 46)، وقد ذُكر نحو من هذا عن الفضيل بن عياض رحمه الله. انظر:«الأذكار» للنووي ص (196)، و «الآداب الشرعية» (1/ 263)، وذكر نحوه عن سفيان بن عيينة. انظر:«الزهد الكبير» للبيهقي (238 - 239).

ص: 301

‌وقفات ثلاث في: تحريم كفر نعم الله عز وجل

-

قال الله تعالى: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]

‌الوقفة الأولى في:

معنى الكفر، وأدواته، ودرجات كفر النعم

‌أ- معنى الكفر:

قال ابن منظور

(1)

: «والكفر: كفر النعمة، وهو نقيض الشكر، والكفر: جحود النعمة، وهو ضد الشكر، وقوله تعالى: {وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص: 48]؛ أي: جاحدون، وكفَر نعمةَ الله يكفُرها، كُفورًا، وكُفرانًا، وكفر بها: جَحدها، وسترها» .

‌ب- أدوات الكفر:

كما أن الشكر يكون بالقلب، واللسان، والجوارح، فكذا الكفر يكون بالقلب واللسان بجحود نعم الله تعالى، وإنكارها، والتكذيب بها، وعدم الإقرار والاعتراف بها، ونسبتها إلى غير الله تعالى، ونحو ذلك، ويكون بالجوارح باستعمالها، والاستعانة بها على معصية الله عز وجل، ومخالفة أوامره، وارتكاب نواهيه.

‌ج- درجات كفر النعم:

كفر النعم درجتان:

1 كفر أكبر، وهو كفر نعمة الإسلام، ولا يُقبل معه شكر ولا عمل، قال تعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3].

2 كفر دون ذلك، وهو كفر النعم الدنيوية، من نعمة الرزق والمال، والأمن

(1)

«لسان العرب» مادة «كفر» .

ص: 302

والصحة، والفراغ، والأزواج والأولاد، وغير ذلك من النعم، وهو من أشد المحرمات، وأعظم الموبقات.

‌الوقفة الثانية في:

عقوبات كفر نعم الله عز وجل، وآثارها

توعد الله عز وجل على كفر نعمه بأشد العقوبات العاجلة والآجلة، في الدنيا والآخرة، فهو سبب لزوال النعم، وحلول النقم، والعذاب العاجل والآجل، وهلاك الحرث والنسل، وخراب الديار، ومحو الآثار، قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، وقال تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 53].

وقال تعالى: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة: 211]، وقال تعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، وقال تعالى:{وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12].

ص: 303

‌الوقفة الثالثة:

الإسراف، والتبذير من أشد أنواع كفر نعم الله عز وجل

-

‌أ- معني الإسراف والتبذير:

الإسراف في اللغة: مجاوزة الحد، والقصد؛ أي: مجاوزة الحد والقصد في الحلال؛ بما يضر بالبدن، أو بالمال، أو بهما معًا، أو في مجاوزة الحلال إلى الحرام.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «من أنفق درهمًا في غير حقه، فهو مسرف»

(1)

.

وقال سفيان: «ما أنفقت في غير طاعة الله فهو سَرَف، وإن كان قليلًا»

(2)

.

ومثله التبذير: فهو تفريق المال، وإنفاقه في السرف

(3)

.

وقيل: التبذير خاص في إنفاق المال في المعاصي، وفي غير حقه.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: «كنا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نتحدث أن التبذير: النفقة في غير حق»

(4)

.

والتبذير خاص بالمال، والإسراف يكون بالمال وفي غير ذلك كالقتل والمعاصي، وغير ذلك.

‌ب- حكم الإسراف والتبذير، والتحذير منهما:

الإسراف والتبذير من كبائر الذنوب، ومن أعظم المحرمات التي نهى الله تعالى عنها، ونفى محبته لأهلها؛ كما قال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقال تعالى:{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].

(1)

انظر: «الجامع لأحكام القرآن» (14/ 567).

(2)

انظر: «المفردات في غريب القرآن» صـ 230 ـــ، مادة «سرف» .

(3)

انظر: «لسان العرب» ، مادة «بذر» ومادة «سرف» .

(4)

أخرجه الطبري في «جامع البيان» (14/ 567)، والبيهقي (6/ 63).

ص: 304

وإذا كان عز وجل لا يحب المسرفين فهو يُبغِضهم، ومن أبغضه الله عذبه، كما قال تعالى:{فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]؛ ولهذا قال تعالى: {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43].

وقال تعالى ذامًّا لفرعون: {إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ} [الدخان: 31].

وقال تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26، 27].

قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كرِه لكم قيل وقال، وكثرةَ السؤال، وإضاعةَ المال»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن عُمُرِه فيم أفناه، وعن علمِه فيمَ فعل، وعن مالِه من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما ملأ ابنُ آدمَ وِعاءً شرًّا من بطنٍ، بحسْبِ ابنِ آدمَ أُكلاتٌ يُقِمْنَ صُلبَه، فإن كان لا محالةَ فثُلُثٌ لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفَسه»

(3)

.

قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه: «ما رأيت سرفًا قط إلا وإلى جانبه حقٌّ مُضيَّع»

(4)

.

وقال علي رضي الله عنه: «ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك من غير سرفٍ ولا تبذيرٍ وتصدقتَ لك، وما أنفقتَ رياءً وسمعةً فذلك حظ الشيطان»

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في الزكاة (1477)، ومسلم في الأقضية (593)، وأحمد 4/ 246 (18147) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2417) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه. قال الترمذي: «حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (946).

(3)

أخرجه الترمذي في الزهد (2380)، وابن ماجه في الأطعمة (3349)، وأحمد 4/ 132 (17186) من حديث المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه. وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الإرواء» (1983).

(4)

«عيون الأخبار» 3/ 332.

(5)

أخرجه معمر بن راشد في «جامعه» 10/ 458 (19695)، والبيهقي في «شعب الإيمان» 5/ 251 (6548).

ص: 305

‌ج- صور الإسراف والتبذير:

للإسراف والتبذير صور كثيرة يجب التخلي عنها والبعد عنها، من أشدها وأكثرها انتشارًا ما يأتي:

1 الإسراف، والتبذير، والمبالغة في الإكثار من الأطعمة، والمآكل، والمشارب في المناسبات، والحفلات، والولائم، والضيافات، ونحو ذلك مما يزيد أضعافًا عن حاجة المدعوين والضيوف.

2.

الإسراف والتبذير في الحياة اليومية في البيوت:

في الأطعمة، والمأكولات، والملابس، والأثاث، والرِّيَاش، وغير ذلك مما يزيد كثيرًا عن حاجة البيوت وأهلها.

وفي هذا وذاك إهدار للنعم، وصرف للمال في غير موضعه، وقد قال الله عز وجل:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقال تعالى:{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26، 27].

وقال تعالى في مدح المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67].

وقال صلى الله عليه وسلم: «كلْ والبَسْ وتصدقْ من غير سَرَفٍ ولا مَخِيلة»

(1)

.

ويزيد الأمر سوءًا أن يعمد البعض إلى تصوير هذه النعم، ونشرها؛ مباهاةً ومفاخرةً مما ينافي شكرها، ويزيد من خطر تعرضها للزوال.

فالفضل كله لله عز وجل، كما قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].

وأشد من هذا وأخطر أن تُمتهن هذه النعم، ويوضع ما تبقى من الأطعمة وغيرها مع الأذى والقاذورات في أكياس القُمامة، وصناديق النفايات، مما قد يوجب مقت الله وسخطه ونقمته، وزوال نعمته، فإن النعم إذا شُكرت قرَّت، وإذا كُفرت فرَّت.

(1)

سيأتي تخريجه.

ص: 306

قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه

(1)

:

إذا كنتَ في نعمةٍ فارْعَها

فإنَّ المعاصيْ تُزيل النِّعَمْ

وحافظ عليها بشُكرِ الإلهِ

فإنَّ الإلهَ سَريعُ النقَمْ

وعلى المسلم والمسلمة الانتباه لهذا، والحذر كل الحذر من العقوبة؛ فإن الله يغار أن تُمتهن نعمته.

وعلينا ألا نضع من الطعام ما يزيد عن حاجة أهل البيت؛ طلبًا لرضا الله عز وجل، وخوفًا من عقابه، وندع العادات.

وعلينا إذا بقي شيء من الطعام أن نلتمس له من يأكله من ذوي الحاجة، فإن لم نجد فلنضعه للحيوانات والطيور، فإن لم يمكن ذلك فلا أقل من أن يوضع في مكان نظيف تأكله الدواب والطيور والخشاش.

3.

المباهاة والمفاخرة بالنعم وكثرة المال:

المباهاة والمفاخرة بالنعم وكثرة المال أشد أنواع الإسراف والتبذير حرمة، وأسرعها وأشدها عقوبة في الدنيا والآخرة.

وذلك لأن المُباهِيَ والمُفاخِر بالنعم وكثرة المال- غالبًا- لا غرض له صحيح إلا المباهاة والمفاخرة، ويشتري الشيء الذي لا تزيد قيمته الحقيقية عن بضعة آلاف بالملايين، كمن يشتري ناقة بعشرات الملايين، أو يشتري تيسًا بمئات الآلاف، ونحو ذلك، فأي هدف لهذا في هذه المبالغة في القيمة إلا المباهاة والمفاخرة!

ومتى كانت نعم الله عز وجل محلًاّ للمباهاة والمفاخرة؟! ولكنه ضعف اليقين، ونسيان الموت وسَكَراته، والقبر وظُلماته، والقيامة وأهوالها، والنار وعذابها، فنسأل الله الهداية.

(1)

سبق.

ص: 307

وكأنَّ مَن يفعل هذا يعتقد أن المال ماله يفعل به ما يشاء، بلا رقيبٍ ولا حَسيب، وما علم أن المال مال الله تعالى، وهو عاريَّة عنده، استخلفه الله تعالى فيه لينظر كيف يتصرف به، وأين ينفقه، كما قال تعالى:{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7]

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عن

» وذكر منها: «وعن مالِه من أين اكتسبه، وفيم أنفقه»

(1)

.

فلا يجوز التخبُّط في مال الله بما لا يرضي الله تعالى، وعلى المسلم أن يشكر الله تعالى على ما أولاه من نعمة الصحة والمال، ويراقب الله في تصرفاته، ويضبطها بضابط الشرع، ولا يصرف المال في غير محله، والناس في أمسِّ الحاجة إليه.

وعليه أن يخشى من عقوبة عاجلة تصيبه في نفسه أو أهله أو ولده أو ماله، لا يستطيع لها دفعًا، ولا منعًا، ولا رفعًا.

قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

وليعلم المفاخر والمباهي بالنعم أن الأيام دُوَل، وأن النعم لا تدوم، وأن السلامة لا تدوم، فما أهون الخلقَ على الله إذا هم عصَوه وكفروا نعمه.

قال الشاعر

(2)

:

وهي الليالي وقاك اللهُ صَولَتَها

تَصُول حتى على الآسادِ في الأَجَمِ

كنَّا ملوكًا لنا في أرضنا دُوَل

نِمنا بها تحت أفنانٍ منَ النِّعَمِ

فأيقظتنا سِهامٌ للرَّدَى صُيُبٌ

يُرمى بأفجعِ حَتْفٍ مَنْ بِهِنَّ رُمِي

‌د- مفاسد الإسراف والتبذير:

الإسراف والتبذير من الإفساد في الأرض، وقد قال الله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 81]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77].

(1)

سبق تخريجه قريبًا.

(2)

الأبيات لأبي عبد الله الغفيلي. انظر: «نفح الطيب» 4/ 529.

ص: 308

ومفاسد الإسراف والتبذير كثيرة جدًّا، ومن أخطرها ما يلي:

1 أن الإسراف والتبذير مجاوزة لحدود الله تعالى، وقد الله تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، وقال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1].

2 أن الإسراف والتبذير كفر بنعمة الله تعالى، وطغيان في الأرض ومتابعة للشيطان ومؤاخاة له، قال تعالى:{وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26، 27].

3 أن الإسراف والتبذير تأصيل للأنانية والتعالي على الآخرين، والبعد عن الخير والبذل.

4 أنهما سبب لنزع البركات، وحلول النقم والآفات.

5 أن فيهما حرمانًا للمستحقين من هذا المال المهدَر في سبيل الشيطان.

قال الشاعر

(1)

:

إذا أنت قد أعطيتَ بطنَك سُؤْلَه

وفَرْجَك، نالا مُنتهَى الذمِّ أجمعَا

‌هـ- عقوبات الإسراف والتبذير:

للإسراف والتبذير عواقب وخيمة، وعقوبات عظيمة في الدنيا والآخرة؛ منها ما يأتي:

1 حرمان المسرفين من هداية الله تعالى، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28].

ومن حُرم هداية الله تعالى خاب وخسر دينه، ودنياه، وأخراه، ونفسه، وأهله، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].

(1)

البيت لحاتم الطائي. انظر: «الشعر والشعراء» (1/ 242).

ص: 309

2 تزيين أعمالهم السيئة لهم، كما قال تعالى:{كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12].

قال المفسرون: من الانهماك في الشهوات، والإعراض عن العبادات.

3 المعيشة الضنك في الدنيا، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه 124 - 127].

4 تغيير ما هم فيه من حال الأمن والطمأنينة، والعيش الرغيد، إلى الجوع والخوف، كما قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

5 إهلاكهم، كما حصل لقارون، قال تعالى:{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص: 81].

وكما قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16]، وقال تعالى:{وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} [الأنبياء: 9].

6 حشرهم عميًا، كما قال تعالى في الآيات السابقة في سورة طه:{وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [الآية: 124].

7 مصيرهم إلى النار، كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43].

‌و- أسباب الإسراف والتبذير:

للإسراف والتبذير أسباب كثيرة، منها ما يلي:

1 الجهل بشدة حرمة الإسراف والتبذير، والغفلة عما رُتب عليه من الوعيد الشديد، والعقوبات في الدنيا والآخرة.

2 حب الظهور والشهرة، وحب المدح والثناء، والمباهاة والفخر والخُيَلاء والتعالي

ص: 310

على الآخرين.

3 الكبر، والأشَر، والبطَر، كما قال قوم شعيب عليه السلام:{أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87].

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر»

(1)

.

4 صحبة المسرفين، ومحاكاتهم، ومجاراتهم، والتفاخر بينهم.

5 الاغترار بالمال، والجاه، والسلطان، والصحة، والقوة، والغفلة عن طبيعة الحياة والأيام، وأنها دول، فمن غنى إلى فقر، ومن عز إلى ذل، ومن صحة إلى مرض، ومن حياة إلى موت، كما قال عز وجل:{وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].

6 ضعف الإيمان واليقين، وغياب مراقبة الله تعالى، والخوف منه سبحانه.

إلى غير ذلك.

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان (91)، والترمذي في البر والصلة (1999)، وأحمد 1/ 416 (3947) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 311

‌وقفة في: أهل الجنة بين نزع الغِل، وإذهاب الحزن

قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]،

وقال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر: 34]

امتن الله عز وجل على أهل الجنة بنزع الغل من صدورهم، فقال تعالى:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف: 43]، وقال تعالى:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47].

ومعنى قوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} أي: قلعناه من أساسه من صدورهم وقلوبهم، فلا يمكن أن يتسلل إليها، وبهذا كانوا إخوانًا على سُرُرٍ متقابلين.

أي: إخوانًا متحابين في الله عز وجل، جلوسًا على سرر، يقابل بعضهم بعضًا، ويتوجه بعضهم إلى بعض بوجهه وقلبه وقالبه، ويُصغِي له ويستمع إليه بسمعه وقلبه؛ كما قال تعالى:{عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة: 15، 16]، وقال تعالى:{يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ} [الدخان: 53].

فلا يمكن أن يدير أحدهم قفاه لأخيه؛ محبةً وأدبًا، وتقديرًا واحترامًا، وإجلالًا وإكرامًا.

كما امتن عليهم بإذهاب الحزن، فقال تعالى:{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 34].

فهم في سرور وحبور دائم، كما قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15]، أي: يسرون.

وقال تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11]؛ أي: ومنحهم وأعطاهم في الظاهر نضارة وجمالًا في وجوههم، وفي الباطن سرورًا وحبورًا في قلوبهم.

والنضرة في وجوههم علامة السرور في قلوبهم، والسرور في قلوبهم سبب النضرة

ص: 312

في وجوههم، كما قال تعالى:{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24]، وقال تعالى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38 - 39].

فجمع الله عز وجل لهم بين نزع الغل وإذهاب الحزن فكمل نعيمهم، سلموا من الغل في صدورهم، الذي السلامة منه في الدنيا أمر بعيد المنال، والذي أفسد ونكد على أهل الدنيا صفو حياتهم، فأشعل نار الكراهية والعداوات بينهم، والخلافات والنزاعات، وجعل بعضهم يظلم بعضًا، ويعتدي بعضهم على بعض في الأنفس والأعراض والأموال.

وسلموا من الحزن الذي لم يدع لذي لب في الدنيا فرحًا، والذي نغص وكدر على الناس صفو عيشهم، كما قال الشاعر:

لا طِيبَ للعيش ما دامت منغَّصةً

لذَّاتُهُ بادِّكار الموت والهَرَمِ

(1)

وقال الآخر:

طُبِعَت على كَدَرٍ وأنتَ تُريدُها

صَفْوًا منَ الأقذاءِ والأكدارِ

(2)

فحُق لدارٍ مُلئت بالغل والأحقاد والأحزان أن يُزهد فيها، ولا يُغتر بها، وحُق لدار الصفاء والسرور والحبور أن يسارَع ويسابَق إليها، ويُتنافَس فيها، قال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 123]، وقال تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21].

قال ابن القيم رحمه الله:

فحيَّ على جناتِ عدنٍ فإنها

منازِلُكَ الأولى وفيها المخيم

(3)

نسأل الله تعالى الكريم من فضله.

(1)

البيت مجهول القائل. انظر: «أوضح المسالك» (1/ 242).

(2)

البيت لأبي الحسن التهامي. انظر: «ديوانه» (ص 48).

(3)

انظر: «حادي الأرواح» ص (7، 196)، و «طريق الهجرتين» ص (92)، و «مدارج السالكين» (1/ 123، 3/ 200).

ص: 313

‌وقفة في: فضل التواضع

قال الله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88]

التواضع: هو التذلل، وخفض الجناح، ولِين الجانب

(1)

، وهو قسمان:

القسم الأول: التذلل والخضوع لله عز وجل بعبادته وحده، وصرف جميع أنواع العبادة له وحده لا شريك له.

والقسم الثاني: التذلل، وخفض الجناح، ولين الجانب في التعامل مع عباد الله، وهو من أفضل مظاهر حسن الخلق، ومن أعظم الخصال، وأنبل الصفات، به أمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88].

ولنا به أسوة صلوات الله وسلامه عليه، حيث وصفه عز وجل بقوله:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

كما وصفه عز وجل بقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].

وعن عِيَاض بن حِمَار المُجاشِعِي رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيبًا، فقال:«وإن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا؛ حتى لا يفخَرَ أحد على أحد»

(2)

.

وهو سبب للرفعة، ونيل الدرجات في الدنيا والآخرة، كما قال صلى الله عليه وسلم:«وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله»

(3)

.

قال الشاعر:

(1)

انظر: «لسان العرب» مادة «وضع» .

(2)

أخرجه مسلم في الجنة (2865)، وأبو داود في الأدب (4895)، وابن ماجه في الزهد (4179).

(3)

أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2588)، والترمذي في البر و الصلة (2029) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 314

تواضع إذا ما نلتَ في الناس رِفعةً

فإن رفيعَ القومِ مَن يَتواضع

(1)

وقال الآخر:

تواضَعْ تكنْ كالنجمِ لاحَ لناظرٍ

على صَفحاتِ الماءِ وَهْوَ رَفيعُ

ولا تك كالدخانِ يعلو بنفسِه

على طبقاتِ الجوِّ وهْو وَضيعُ

(2)

وقال الآخر:

ولا تمشِ فوق الأرضِ إلا تواضعًا

فكم تحتها قومٌ همُ منك أرفعُ!

وإن كنتَ في عزٍّ وحرزٍ ونعمةٍ

فكم مات من قوم همُ منك أمنعُ!

(3)

وضد التواضع: الكبر والإعجاب والغرور، وهي من أعظم أمراض القلوب، ومن أكبر الذنوب، وآكدها جُرمًا، وأسوئها عاقبة، وأشدها عقوبة.

نهى الله عز وجل عنها، وتوعد عليها، وحذر منها رسوله صلى الله عليه وسلم، وذمها.

قال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37].

أي: لا تمشِ في الأرض بَطَرًا، مختالًا، متبختِرًا، متعاليًا، متكبرًا، متعاظمًا، معجَبًا بنفسك.

وقال تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].

أي: ولا تُمِل خدك للناس إذا كلمتَهم أو كلموك استكبارًا، أو تعاظمًا عليهم، واحتقارًا لهم.

وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36]، وقال تعالى:{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23].

أي: لا يحب كل مختال في مِشيته، متكبرًا على الناس بفعله وهيئته، فخورًا، متعاظمًا

(1)

البيت بلا نسبة في «جواهر الأدب» 2/ 480.

(2)

البيتان لموسى بن علي بن موسى الزرزاري. انظر: «أعيان العصر وأعوان النصر» 5/ 479.

(3)

البيت للكريزي. انظر: «روضة العقلاء» ص 61.

ص: 315

عليهم بقوله.

وقال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32].

أي: بمدحها بما ليس فيها.

وقال صلى الله عليه وسلم: «الكِبر: بَطَر الحق، وغَمْط الناس»

(1)

؛ أي: رد الحق، واحتقار الناس.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل يمشي في حُلة، تُعجبه نفسُه، مرجِّلٌ جُمَّتَه، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة»

(2)

.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن جرَّ ثوبه خُيَلَاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إياك وإسبالَ الإزار؛ فإنه من المَخِيلة، وإن الله لا يحب المخيلة»

(4)

.

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذرِّ في صُوَر الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان»

(5)

.

ويكفي في تحريم الكبر وذمه أنه صفة إبليس اللعين، وبسببه أُخرج من الجنة، وأَبلَس من رحمة الله تعالى؛ لامتناعه من السجود لآدم عليه السلام؛ تكبرًا، وغرورًا منه، وإعجابًا بنفسه، قال تعالى:{إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34].

ولهذا قال مكابرًا: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61]، وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري في اللباس (5789)، ومسلم في اللباس (2088)، وأحمد 2/ 267 (7630).

(3)

أخرجه مالك في اللباس (2/ 419)، والبخاري في اللباس (5783، 5784)، ومسلم في اللباس (2085)، والترمذي في اللباس (1730).

(4)

أخرجه أبو داود في اللباس (4084)، والترمذي في الاستئذان والأدب (2721)، وأحمد 5/ 63 (20632)، وابن حبان 2/ 279، 281 (521، 522) من حديث جابر بن سليم رضي الله عنه. وصححه الألباني في «الصحيحة» (770، 1109).

(5)

أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (557)، والترمذي في صفة القيامة (2492)، وأحمد 2/ 179 (6677). وصححه الألباني في تحقيقه على «الأدب المفرد» .

ص: 316

‌وقفة في: مَكْمَن السعادة، والحياة الطيبة

قال الله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]

يسعى كل إنسان في هذه الحياة لينال السعادة، وينعم بالحياة الطيبة، وقليل من يُوفَّق إلى ذلك؛ لأن أكثر الناس يطلب ذلك في غير مكانه، وبدون طرق أسبابه، فيظن كثير منهم أن ذلك بكثرة المال، أو بكثرة الأزواج، والأولاد، أو بالمناصب، والرياسات، أو بتنويع المآكل والمشارب، أو بزخرفة المساكن، أو رفاهية العيش والمراكب، والأثاث والرِّياش، أو بالأسفار والتنزه هنا وهناك، في الأجواء الباردة والمعتدلة، وغير ذلك.

وهذا كله لا يجلِب السعادة، ولا الحياة الطيبة، بل قد يكون سببًا لسلب ذلك؛ لأن الله عز وجل أبى أن تكون السعادة إلا تحت مِظلة:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وقوله:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

وأبى أن يكون انشراح الصدر والنور والهدى إلا بالإسلام، كما قال تعالى:{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]، وقوله:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125].

وقوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35]، إلى قوله:{وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [40].

وأبى أن تكون الحياة الطيبة إلا بالإيمان والعمل الصالح، كما قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

وأبى أن يكون الربح إلا بالإيمان وعمل الصالحات، والتواصي بالحق والتواصي

ص: 318

بالصبر، كما قال تعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].

وأبى أن تكون العزة إلا له عز وجل ولرسوله وللمؤمنين، كما قال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، وقال تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].

فالسعادة والحياة الطيبة، وانشراح الصدر، ونور القلب، والربح والعزة والكرامة، كل ذلك مرهون بعبادة الله تعالى، والاستعانة به، والتوكل عليه، مرهون بالإيمان والعمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، مرهون بالقناعة فهي كنز لا يفنى.

قال صلى الله عليه وسلم: «من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافًى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «قد عُوفي مَن رُزق كَفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لو كان لابن آدم واديان من مالٍ لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب»

(3)

.

قال الشاعر:

خُذِ القناعةَ من دنياك وارضَ بها

لو لم يكنْ لك فيها إلا راحةُ البدنِ

(4)

وقال الآخر:

إذا كنتَ تَهوَى العيشَ فاقنَعْ تَوسُّطًا

فعند التناهي يَقصُر المُتطاوِلُ

تَوَقَّى البُدُورُ النقصَ وهْي أهِلَّةٌ

ويُدرِكُها النقصانُ وَهْيَ كَواملُ

(5)

السعادة والحياة الطيبة مرهونة بتصور الإنسان الهدفَ الذي خُلق من أجله، وربط تصرفاته كلها بما يعود عليه بالنفع في دينه ودنياه وأخراه، وبسلامته من الخواء الروحي،

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

البيت لزين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنهما، انظر:«الدرر المنتقاة من الكلمات الملقاة» لأمين بن عبد الله الشقاوي (1/ 161)، «مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار» لعبد العزيز بن محمد السلمان (1/ 217).

(5)

سبق تخريجهما.

ص: 319

الذي يفسد عليه حياته، ويجعل عمره كله يضيع في مَهَبِّ الريح، بالأسفار، والتنزهات، والخلوات، والفلوات بعيدًا عن مسجده، وعن والديه، وعن زوجته وأولاده وأقاربه وجيرانه، بعيدًا عن محيطه ومجتمعه.

قال بعض السلف: «مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها وما ذاقوا ألذَّ ما فيها» ، قيل: وما ألذ ما فيها؟ قال: «معرفة الله والأُنس به»

(1)

.

وقال الحسن: «تفقدوا حلاوة الإيمان في ثلاث: في الصلاة، وذِكر الله، وقراءة القرآن، فإن لم تجدوها فاعلموا أن الباب مغلَق»

(2)

.

نعم، والله، هنا اللذة، هنا الحلاوة، هنا الحياة الطيبة، هنا السعادة؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«مَن أراد السعادة الأبديَّة، فلْيَلْزَمْ عتبة العبوديَّة»

(3)

.

وقال رحمه الله: «إن في الدنيا جنةً، من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة»

(4)

.

فقل لمن يسابق في زيادة رصيده في البنك: قد سبقك الفقير الذي يسارع في زيادة رصيده عند الله تعالى من الأعمال الصالحة!

وقل لمن يسابق ليكون أعلى الناس مرتبةً وجاهًا في الدنيا: قد سبقك من هو أشعث أغبر ذو طِمرين، لو أقسم الله لأَبَرَّه!

وقل لمن يسابق ليطأ بقدمه كثيرًا من بلاد العالم، والمنتزَّهات والمصائف: قد سبقك من يسابق إلى المساجد، وإلى الحرمين الشريفين!

قال الشاعر:

ولستُ أرى السعادةَ جمعَ مالٍ

ولكنَّ التقيَّ هو السعيدُ

وتقوى الله خيرُ الزادِ فخرًا

وعند اللهِ للأتقى مَزيدُ

(5)

(1)

أخرج أبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 167) نحوه عن ابن المبارك، وانظر «الداء والدواء» (1/ 186)، «إغاثة اللهفان» (1/ 119) لابن القيم.

(2)

انظر: «مدارج السالكين» (2/ 396).

(3)

انظر: «مدارج السالكين» (1/ 429).

(4)

انظر: «الوابل الصيب من الكلم الطيب» ص (69).

(5)

البيتان للحطيئة. انظر: «ديوانه» ص (321).

ص: 320

وأخيرًا أقوال لمن يطلب السعادة، والحياة الطيبة حقًّا:

1 تصور واستحضر الهدف الذي خُلقت من أجله، وهو عبادة الله تعالى، واعمل لذلك.

2 توكل على الله تعالى، وثِقْ به يكفك كل شيء.

3 كن مخلِصًا، واستحضر النية الصالحة في جميع أقوالك وأفعالك وأحوالك.

4 تأمل في عظمة الله تعالى، ونعمه التامة عليك، وتأمل ضعفك وفقرك إليه.

5 كن صادقًا مع الله، تفُزْ برضاه، وكن صادقًا في طلب النجاة لنفسك وإعتاقها.

6 تأمل عظمة الآخرة، وحقارة الدنيا.

7 سارع إلى مغفرة الله تعالى وجنته.

8 سابق لأداء حقوق الله تعالى، وحقوق الخلق؛ لأداء الواجبات، والبعد عن المنهيات.

9 لا يسبقك أحد إلى المسجد، فإن عجزت لا تقام الصلاة إلا وأنت في المسجد.

10 لا يسبقك أحد في برك لوالديك.

11 كن من أحسن الناس خلقًا.

12 كن ناصحًا لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فالدين النصيحة.

13 سلِّم لقضاء الله تعالى وقدره، وارضَ به.

14 اترك ما لا يعنيك، ودع ما يَريبك إلى ما لا يريبك.

15 كن تقيًّا، ورِعًا، زاهدًا، عابدًا.

16 تذوق حلاوة الإيمان؛ بمحبة الله تعالى، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، والمحبة في الله، وطاعته.

17 تمتع بالجلوس مع القرآن طويلًا؛ تلاوةً له، وتفهمًا، وتدبرًا.

ص: 321

18 احرص على إفشاء السلام، والمصافحة، وكن مبتسِمًا بشوشًا.

19 أحب الخير للناس كما تحبه لنفسك، تكن مؤمنًا.

20 كن عفوًّا متسامحًا، حليمًا صبورًا.

21 كن سليم القلب، نقي السريرة، تعِشْ قَريرَ العين.

22 كن متواضعًا، منصِفًا من نفسك.

23 كن جوَادًا منفقًا متصدقًا، مسابقًا إلى الخيرات.

24 كن خدومًا لأصحابك ورفاقك ولغيرهم.

25 كن حسن الظن بالآخرين.

26 كن وافيًا بوعدك وعهدك، صدوقًا بقولك.

27 أحسن لغيرك بقولك، وفعلك، وبَذْلِك، ما استطعت.

28 كن قدوةً صالحةً في أخلاقك وأقوالك وأفعالك.

29 كن الرجل الراحلة، الذي يسد مكانه، ويملأ فراغه.

30 كن حازمًا في أمور دينك ودنياك، عصاميًّا، عزيز النفس.

31 وطِّن نفسك على لزوم الحق، والتمسك به، واسأل الله الثبات عليه.

32 لا تستوحش من قلة المعين على الحق، والرفيق في الطريق، ولا تغترَّ بما عليه أكثر الخلق.

33 استحضر دائمًا مراقبة الله تعالى، وحاسب نفسك، وانظر في العواقب.

34 نظِّم عملك في اليوم والليلة.

35 كن قنوعًا بما يسر الله لك من الدنيا، ونافسْ في الآخرة مَن نافسك في الدنيا.

36 اختر الجلساء الصالحين، واحذر من جلساء السوء، ومجالس السوء.

37 احترم الآخرين، وأنزل الناس منازلهم؛ كولاة الأمر، والمعلمين، والوالدين،

ص: 322

والعلماء، وكبار السن، والأقارب، والجيران، والمسؤولين، وغيرهم.

38 احترز من آفات اللسان والقلم والبنان.

39 التزم التأصيل والتوازن في الطرح عند المناقشة.

40 احذر من أدعياء علم الغيب، من أهل الشعوذة والدجل، من السحرة والكهان، ومن تشبه بهم في ذلك من بعض القُراء، ومفسري الأحلام، ونحوهم.

41 شاور عند الحاجة من تثق بدينه وعقله وورعه.

42 احذر من أمراض القلوب كلها؛ من الحسد والحقد والغل والعداوة، ومن الظلم والمعاصي كلها، فهي سبب كل بليَّة، وجالبة كل رزيَّة.

43 كن متفائلًا دائمًا حتى في أَحْلَك الظروف؛ كما كان المصطفى صلى الله عليه وسلم.

44 تحمَّلِ المسؤولية، وأدِّ الأمانة.

45 اعلم أن النفس وديعة عندك، فزكِّها، واحملها على ما فيه نجاتها.

46 اتبع القول بالعمل، واعمل بما علِمت.

47 كن ذا قلب حي واعٍ، متدبرًا لما تقرأ وتسمع وتشاهد.

48 كن مقتصدًا ولا تسرف.

49 احترز واحذر من الأثر السلبي لوسائل التواصل والإعلام.

50 وأخيرًا: تدارك ما فات من عمرك بما بقي منه، ولا تغفل.

ص: 323

‌وقفات ثلاث في: وجوب بر الوالدين، وتحريم عقوقهما

قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].

‌الوقفة الأولى في:

وجوب بر الوالدين

تقدم في الكلام على الآيات السابقة: ذكر الأدلة من الكتاب والسنة على عِظم مكانة بر الوالدين في الإسلام، وفي الأديان كلها، وأنه من أوجب الواجبات، وأعظم فرائض الدين، ومن أزكى الأعمال وأفضلها، وأجلها، وهو مقدم على الجهاد في سبيل الله تعالى؛ وذلك لما للوالدين من الفضل والإفضال على الأولاد، فهما- بعد الله تعالى- السبب الظاهر في وجود الأولاد في هذه الحياة، وقد عانيا من المشقة في سبيل الولد ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.

فالأم حملته في حشاها تسعة أشهر، وعانت من وحم الحمل، وآلامه، وثقله، ومن آلام الوضع، والولادة، وكُرب الطلق، مما يكاد يطير معه قلبها، وتشرف بسببه على الموت، كما عانت ما لا يخفى من التعب والسهر في رعايته، والعناية به بعد ولادته، في إرضاعه، وتربيته، وحضانته، ونظافته، وغير ذلك.

ومن أراد أن يعرف معاناة الأم، فليتأمل في قصة أم موسى عليهما السلام في سورة القَصَص.

كما أن الأب يظل يكدح طوال يومه؛ بحثًا عن لقمة العيش للأولاد ولأمهم، ويتفانى في تعليمهم، وتربيتهم، وتوجيههم، وحفظهم، والذب عنهم، ويبذل- في سبيلهم وما يصلحهم- الغاليَ والنفيس، حتى يكبَروا، ويعتمدوا- بعد الله تعالى- على أنفسهم.

ومن أراد أن يعرف معاناة الأب، فليتأمل في قصة يعقوب عليه السلام مع أولاده عليهم السلام، في سورة يوسف عليه السلام.

ص: 324

وفيما يلي ذكر أهم الأسباب المعينة على بر الوالدين، وأهم وجوه البر بهما، وبيان التفاوت بين حق الوالدين في البر، واستمرار البر بهما بعد موتهما، وثمار البر، وآثاره:

‌أ- الأسباب المعينة على البر بالوالدين، والإحسان إليهما:

وهي كثيرة، من أهمها ما يأتي:

1 توفيق الله عز وجل الولد، واصطفاؤه إياه لهذا العمل الجليل، وإرادته به الخير.

2 تقوى الله عز وجل؛ فهي سبب توفيق الله للعبد لكل عمل رشيد في دينه ودنياه.

3 التدبر والتأمل بما جاء في الكتاب والسنة من تأكيد الأمر ببر الوالدين، والإحسان إليهما، والترغيب في ذلك.

4 سؤال الولد ربه عز وجل أن يوفقه لبر والديه، ويعينه على ذلك.

5 الصدق في طرق أبواب الخير، وفي طلب النجاة من النار، ودخول الجنة، فالبر بالوالدين من أوسع أبواب التوفيق للخير، في الدين والدنيا والآخرة، والنجاة من النار، ودخول الجنة.

6 تذكر الولد دائمًا ما قدمه له والداه من الجميل، وما أسدياه له من الإحسان في صغره وهو أحوج ما كان إلى ذلك، وما عانته أمه من شدائد وآلام بسببه، حملًا ووحمًا، وثقلًا طيلة تسعة أشهر، ثم كربًا وولادة، ثم إرضاعًا وتربية ورعاية ونظافة، وتعبًا وسهرًا، إلى غير ذلك، مما تنوء بحمله الجبال، وما عاناه أبوه من أجل إسعاده من السعي والكد والتعب وراء لقمة عيشه، والنفقة عليه وعلى أمه، وفي تربيته وتعليمه، وتوجيهه وتأديبه، وغير ذلك؛ ليكون ولده أسعد الناس.

7 تيقُّن الولد أن ما يقدمه من البر بوالديه لن يضيع، وسيجد ثوابه مضاعفًا عند الله تعالى، ويجد أثره عاجلًا في سعادته، وفي بر أولاده به في الحياة، قال ابن تيمية:«وفي الحديث: «بَرُّوا آباءكم تَبَرَّكُم أبناؤكم»

(1)

.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (32/ 121). والحديث أخرجه الحاكم (4/ 154) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه. وقال السيوطي في «الدر المنثور» (5/ 269):«وضعفه الذهبي» . وأخرجه أيضًا الحاكم (4/ 154) من حديث جابر رضي الله عنه. وفي سنده علي بن قتيبة الرفاعي، قال ابن عدي:«حدث عن مالك بأحاديث باطلة» ثم ذكر هذا الحديث. انظر «الكامل» لابن عدي (5/ 207)، و «تهذيب التهذيب» (4/ 245)، وقد ضعفه الألباني في «الضعيفة» (2039، 2043).

والحديث معناه صحيح؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكما يدين المرء يدان.

ص: 325

8 حرص الوالدين على تربية الأولاد، وتنشئتهم النشأة الصالحة، وعدم التقصير في ذلك، وفي أداء حقوقهم.

9 توفيق الله للابن أو للبنت بزوج صالح يكون عونًا له على البر بوالديه، ويشجعه عليه.

10 العناية في مناهج التعليم، وفي الخطب والمحاضرات بغرس البر بالوالدين مبكرًا في نفوس الأجيال والناشئة، وحرص المعلمين والمربين والموجهين على ذلك.

‌ب- وجوه البر بالوالدين:

وجوه البر بالوالدين كثيرة جدًّا، منها ما يأتي:

1 الإحسان إليهما بكل ما تحمله كلمة الإحسان من معنى؛ بالقول الكريم اللين اللطيف، وبالفعل الطيب الحسن الجميل، وأداء حقوقهما الواجبة والمستحبة؛ امتثالًا لقول الله تعالى:{وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة 83، والنساء: 36، والأنعام: 151، والإسراء: 23].

2 توقيرهما واحترامهما، وخفض الجناح لهما، والتواضع لهما بكل ما تحمله كلمة التواضع، وعدم التقدم بينهما في الكلام والمشي، وخفض الصوت عندهما، واستعمال ألطف العبارات عند الحديث معهما، قال تعالى:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء: 24].

3 رحمتهما، والشفقة عليهما، والعطف عليهما، والتحبب والتودد لهما؛ لقوله تعالى:{مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24]؛ أي: من الرحمة بهما، أي: رحمة بهما؛ لرحمتهما للولد التي لا يكاد يبلغ كنه عظمتها؛ فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فُرق بينهما وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبيًّا من السبي أخذته فألصقته بصدرها،

ص: 326

وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليها، وألقمته ثديها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتَرَون هذه طارحةً وَلَدَها في النار، وهي تقدِر على ألا تطرحه؟» قالوا: لا يا رسول الله. قال: «فوالله، لله أرحم بعباده من هذه بولدها»

(1)

.

4 الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما؛ جزاءَ تربيتهما له صغيرًا، قال تعالى:{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24].

5 شكرهما، والاعتراف بالقلب واللسان بفضلهما، وإفضالهما، وذكر معروفهما وجميلهما السابق- كما ربياه صغيرًا، ومكافأة الجميل بمثله.

6 المبادرة إلى قضاء حوائجهما دون انتظار طلب منهما؛ فهذا ألذ لهما، ولأنهما قد لا يُبديان حاجتهما؛ شفقة على الولد ورحمه له، ورفقًا به وتخفيفًا عليه، ولأن الولد إذا لم يبادر قد لا يسلم من التبرم، واستثقال طلبهما، وقد يخشى أن يرد طلبهما، وهذا أشد وأخطر.

7 طاعتهما بالمعروف في أمرهما ونهيهما، وتقديم طاعتهما على طاعة من سواهما من الخلق، في طاعة الله ورسوله، ومعرفة الأولاد أن ما يقدمه والداهما لهم من تعليمات وتوجيهات مع أنها مصلحة صرفة لهم، فهي أيضًا تعليم لهم كيف يربون أولاهم، ويعلمونهم، ويوجهونهم.

8 مشاركتهما في بعض الوجبات الغذائية مما يُدخِل السرور عليهما، والحذر من التشاجر أمامهما؛ فإن ذلك يؤذيهما.

9 الإنفاق عليهما إذا احتاجا؛ فالولد من كسب أبيه، وهو وماله لأبيه.

10 الزيادة في البر بهما، والإحسان إليهما بعد كبرهما؛ لتأكد حاجتهما إلى ذلك في حال الكبر.

11 صلة رحمهما في حياتهما وبعد مماتهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وإكرام صديقهما.

12 مصاحبتهما بالمعروف، والدعاء لهما، والحرص على هدايتهما، ولو كانا كافرين. قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا

(1)

أخرجه البخاري في الأدب (5999)، ومسلم في التوبة (2754).

ص: 327

مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].

وقال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَاأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 41 - 45].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يدعو أمه إلى الإسلام فتأبى، وأسمعته في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره، وجاء يبكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وسأله أن يدعو الله أن يهديَ أم أبي هريرة، فدعا لها، فأسلمت

(1)

.

‌ج- تفاوت حق الوالدين في البر:

لا خلاف في وجوب البر بكل من الوالدين؛ الأب والأم، وإعطاء كل منهما ما يستحقه من البر، لكن حق الأم أعظم وأعظم وأعظم؛ لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك» . قال: ثم من؟ قال: «أمك» . قال: ثم من؟ قال: «أبوك»

(2)

.

وفي رواية قال: «من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: «أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك»

(3)

.

ولهذا فصَّل عز وجل في وصيته بالوالدين في حق الأم، فقال تعالى في سورة لقمان:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ، ثم قال:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14]، وقال تعالى في سورة الأحقاف:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الآية: 15].

(1)

أخرجه مسلم في فضائل الصحابة (2491)، وأحمد 2/ 319 (8259).

(2)

أخرجه البخاري في الأدب (5971)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2548)، وابن ماجه في الأدب (3658).

(3)

جاء هذا في رواية مسلم رحمه الله.

ص: 328

وإنما عظَّم الشرع حق الأم لما عانته من آلام الحمل والولادة، ومن التعب والسهر على العناية بالولد وحضانته، وإزالة الأذى عنه، وإرضاعه وتربيته.

ومع عِظم حق الأم في البر والإحسان، فلا ينبغي أن يكون ذلك على حساب حق الأب في البر، فالبر بالأب من أعظم الواجبات، وحقه من أعظم الحقوق.

فعليه الحمل الأكبر في الإنفاق على الأم، وعلى ولده، وتربيته، وتوجيهه، وتعليمه وتأديبه، فهو يبذل الغاليَ والنفيس في سبيل تنمية عقول أولاده، وأرواحهم، وأبدانهم، وصلاح أمر دينهم ودنياهم.

ويخطئ أشد الخطأ مَن ينظِّرون للناس، ويقارنون بين البر بالأم والبر بالأب، بزعم أن البر بالأم يكون على حساب البر بالأب، أو العكس، فيغمطون الأم حقها الذي أعطاه الشرع لها، أو يغمطون الأب، وهؤلاء يفتقدون العلم، كما يفتقدون الحكمة، وليتهم يسكتون!

وكما يختلف ويتفاوت البر بالوالدين بين الأم والأب، فكذلك يختلف الأولاد في الواجب عليهم من البر، فيجب على القوي والغني والقادر ما لا يجب على الضعيف والفقير والعاجز، ويجب على الابن من حيث العموم ما لا يجب على البنت؛ لأنه أقدر منها؛ لأن البنت وخاصة إذا كانت متزوجة مَهيضة الجناح، كالأسيرة عند زوجها.

ومع ذلك تجد البنات غالبًا أعظم برًّا من الأبناء بوالديهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

‌د- استمرار البر بالوالدين بعد موتهما:

وذلك بالدعاء والاستغفار لهما، والصدقة والحج والعمرة عنهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا تُوصَل إلا بهما، وغير ذلك.

قال نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28]، وقال إبراهيم عليه السلام:{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} .

ص: 329

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر؟ فقال: «اقضِهِ عنها»

(1)

. وفي روايةٍ: فقال: يا رسول الله، إن أمي توفيت، وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إن تصدقتُ بشيءٍ عنها؟ قال:«نعم» قال: فإني أُشهِدك أن حائطي المِخراف

(2)

صدقة عليها

(3)

.

وعن عائشة رضي الله عنها: أن رجلًا قال: يا رسول الله، إن أمي افتُلِتَتْ نفسها، ولم توصِ، وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقتُ عنها، ولي أجر؟ قال:«نعم، فتصدقْ عنها»

(4)

.

وعن بُريدة رضي الله عنه، أن امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أمي ماتت وكان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال:«صومي عنها» قالت: إنها لم تحجَّ قطُّ، أفأحج عنها؟ قال:«حُجي عنها»

(5)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات وترك مالًا، ولم يوصِ، فهل يكفِّر عنه أن أتصدق عنه؟ قال:«نعم»

(6)

.

وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل لتُرفع درجته في الجنة، فيقول: أنى لي

(1)

أخرجه مالك في النذور والأيمان (2/ 472)، والبخاري في الوصايا (2761)، ومسلم في النذر (1638)، وأبو داود في الأيمان والنذور (3307)، والنسائي في الوصايا (3656، 3663)، وأحمد 6/ 7 (23846) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

«المخراف» ؛ أي: المثمر.

(3)

أخرجه البخاري في الوصايا (2756، 2762)، وأحمد 1/ 333 (3080).

(4)

أخرجه مالك في الأقضية (2/ 760)، والبخاري في الجنائز (1388)، ومسلم في الزكاة (1004)، وأبو داود في الوصايا (2881)، والنسائي في الوصايا (3649)، وابن ماجه في الوصايا (2717)، وأحمد 6/ 51 (24251).

(5)

أخرجه مسلم في الصيام (1149)، وأبو داود في الوصايا (2877)، والترمذي في الزكاة (667)، وابن ماجه في الصيام (1759)، وأحمد 5/ 349 (22956).

(6)

أخرجه مسلم في الوصية (1630)، والنسائي في الوصايا (3652)، وابن ماجه في الوصايا (2716)، وأحمد 2/ 371 (8841).

ص: 330

هذا؟ فيقال: باستغفار ولدِك لك»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا مات ابنُ آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»

(2)

.

وعن أبي بُردة قال: قدمت المدينة، فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتُك؟ قال: قلت: لا. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أحب أن يصلَ أباه في قبره، فليصِلْ إخوان أبيه بعده» ، وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء ووُد، فأحببتُ أن أصل ذلك

(3)

.

وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من البر أن تصل صديق أبيك»

(4)

.

ومن حقوق الوالدين بعد موتهما: إنفاذ عهدهما من بعدهما، وتنفيذ وصيتهما، والعمل على إصلاحها وتنميتها؛ ليجري عليهم نفعُها وأجرُ ريعها؛ وذلك واجبٌ على الوصيِّ، فإن لم يقم بذلك، ولم يتبرع للقيام بذلك أحد من الورثة بأجر أو بغير أجر، استؤجر من يقوم عليها من ريعها، ولا تترك فتضيعَ؛ كما هو حال كثير من الوصايا والأوقاف.

‌هـ- ثمار البر بالوالدين، وآثار الإحسان إليهما:

يتبين من الآيات والأحاديث الدالة على وجوب الإحسان إلى الوالدين وفضل البر بهما أن بر الوالدين من أوسع أبواب التوفيق للخير والسعادة في الدنيا والآخرة، وثماره عظيمة، وآثاره ومنافعه كثيرة ظاهرة عاجلًا وآجلًا، ومن ذلك ما يأتي:

1 أنه سبب لإجابة الدعاء وحصول الرحمة.

(1)

أخرجه ابن ماجه في الأدب (3660)، وأحمد 2/ 509 (10610). وصححه الألباني في «الصحيحة» (1598).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه أبو يعلى في «مسنده» 10/ 37 (5669)، وابن حبان 2/ 175 (432)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (1432).

(4)

أخرجه الطبراني في «الأوسط» 7/ 213 (7303). قال الهيثمي في «المجمع» (8/ 147): «رواه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه عنبسة بن عبد الرحمن القرشي وهو متروك». وصححه الألباني في «الصحيحة» (2303).

ص: 331

2 أنه وسيلة للتقرب إلى الله عز وجل لطلب رضاه ودخول جنته، وتفريج الكروب، ودفع الخطوب، والنجاة من المصائب، والخروج من المضائق.

3 أنه سبب للتوفيق والسعادة، وانفتاح أبواب الخير.

4 أنه سبب لنيل أعظم الأجر والثواب.

5 أنه سبب لدخول الجنة، والنجاة من النار.

6 أنه سبب للبركة في العمر والرزق.

7 أنه سبب لبر الأولاد، والذكر الحسن؛ لأن الجزاء من جنس العمل.

‌الوقفة الثانية في:

تحريم عقوق الوالدين

‌أ- عقوق الوالدين من أكبر الكبائر:

عقوق الوالدين محرم، بل من أشد المحرمات، وأكبر الكبائر وأعظم الموبقات، قال تعالى:{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف: 17، 18].

وقال تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23].

وعن أبي بَكرة نُفيع بن الحارث رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال:«الإشراك بالله، وعقوق الوالدين» وجلس وكان متكئًا فقال: «ألا وقول الزُّور» . قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت

(1)

.

(1)

سيأتي تخريجه.

ص: 332

وعن أنس رضي الله عنه قال: ذكرت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر، فقال:«الشرك بالله، وعُقوق الوالدين»

(1)

.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة مَنَّان، ولا عاق، ولا مدمن خمر»

(2)

.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أكبر الكبائر: شتم الرجل والديه» . قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال:«نعم، يسبُّ الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه، فيسب أمه» .

وفي رواية: «إن من الكبائر أن يلعن الرجل والديه» . قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجلُ والديه؟ قال:«يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه، فيسب أمه»

(3)

.

وعن علي رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه بأربع كلمات:«لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى مُحدِثًا، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غيَّر المَنار»

(4)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعواتٍ مُستجابات، لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده»

(5)

.

‌ب- الأسباب المؤدية إلى عقوق الوالدين:

وهي كثيرة، منها ما يلي:

(1)

أخرجه البخاري في الأدب (5977)، ومسلم في الإيمان (88)، والنسائي في تحريم الدم (4010)، والترمذي في البيوع (1207)، وأحمد 3/ 131 (12336).

(2)

أخرجه النسائي في الأشربة (5672)، والدارمي 2/ 153 (2093). وصححه الألباني في «الصحيحة» (673).

(3)

أخرجه البخاري في الأدب (5973)، ومسلم في الإيمان (90)، وأبو داود في الأدب (5141)، والترمذي في البر والصلة (1902)، وأحمد 2/ 216 (7029).

(4)

أخرجه مسلم في الأضاحي (1978)، وأحمد 1/ 108 (855).

(5)

أخرجه أبو داود في الوتر (1536)، والترمذي في البر والصلة (1905)، وابن ماجه في الدعاء (3862)، وأحمد 2/ 258 (7510). قال الترمذي:«هذا حديث حسن» . وحسنه الألباني أيضًا في «صحيح أبي داود» (1374).

ص: 333

1 خِذلان الله عز وجل للولد، ذكرًا كان أو أنثى، وعدم توفيقه له.

2 ضعف الوازع الديني عند الولد، وضعف خوفه من الله تعالى.

3 نكران الجميل الذي أسداه إليه والداه، والمعروف الذي قدَّماه له، وأنهما سبب وجوده بعد الله في هذه الحياة، وما لاقيا بسببه من المتاعب والمشاق.

4 عدم تدبر الولد ما جاء في القرآن والسنة من عِظم حق الوالدين، وما رتب الله على برهما من الأجر، وما توعد به أهل العقوق.

5 غرور الولد، وسفهه، وجهله في عواقب الأمور، وأن الجزاء من جنس العمل، وكما يدين المرء يدان.

وقد قيل:

يُقضى على المرء في أيام مِحنته

حتى يرى حسنًا ما ليس بالحَسَنِ

(1)

6 حيلولة أحد الزوجين بين الزوج الآخر وبر والديه، وحمله على عقوقهما.

7 اقتران الولد بصحبة سيئة لا تعينه على البر بوالده، بل تزهده في ذلك.

8 تقصير الوالدين في تربية أولادهما، وإهمالهما لهم صغارًا، فعقوهما كبارًا.

9 كما أن من الأسباب أن يكون الوالد عاقًّا لوالديه، وهو من أعظم الأسباب، وأصدقها وقوعًا؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكما يدين المرء يدان، قال ابن الجوزي:«وكان بعض العاقين ضرب أباه وسحبه إلى مكان، فقال له الأب: حسْبُك، إلى هاهنا سحبتُ أبي!»

(2)

.

10 شماتة الوالدين بأولاد غيرهما، فيبتليهما الله بعقوق أولادهما جزاءً وفاقًا. وفي الأثر:«لا تُظهِرِ الشماتةَ لأخيك، فيعافيه الله، أو في رحمه الله، ويَبتليك»

(3)

.

(1)

البيت ينسب للأمير يحيى بن علي باشا الإحسائي. انظر: «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر» (4/ 475، 476). وانظر: «أبيات سارت بها الركبان» ص (4).

(2)

«صيد الخاطر» ص (734).

(3)

أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2506). والطبراني في «المعجم الكبير» 22/ 53 (127)، والبيهقي في «شعب الإيمان» 5/ 315 (6777) من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. قال الترمذي:«حسن غريب» . وضعفه الألباني في «الضعيفة» (5426).

ص: 334

11 وأخيرًا فإن من أعظم الأسباب ما يُنشر عبر وسائل الإعلام والاتصال على اختلافها وتنوعها من التزهيد في حق الوالدين، وإضعاف مكانتهما، ووضعهما أحيانًا في قفص الاتهام.

‌ج- صور من عقوق الوالدين وأشكاله:

صور عقوق الوالدين وأشكاله كثيرة، وهو ضد البر بهما والإحسان إليهما. وكل ما نقص من البر بهما، والإحسان إليهما فهو من العقوق، ومن ذلك ما يأتي:

1 عدم الإحسان إليهما بالقول والفعل والبذل.

2 الإساءة إليهما والأذية لهما بقول أو فعل.

3 التأفف منهما.

4 نهرهما وزجرهما.

5 الجفاء والغِلظة معهما، والتكبر عليهما، وعدم توقيرهما واحترامهما وتقديرهما.

6 رفع الصوت عليهما.

7 عدم الرحمة لهما، والعطف عليهما.

8 عدم طاعتهما في أمرهما ونهيهما بالمعروف.

9 نكران حقهما، ونسيان جميلهما، وعدم الاعتراف بفضلهما وإفضالهما.

10 قطيعتهما وعدم صلتهما بالزيارة والسلام والمساعدة، ونحو ذلك في حياتهما، ونسيانهما، وعدم تنفيذ عهدهما بعد موتهما، وعدم صلة رحمهما.

11 التسبب في لعنهما وشتمهما.

12 ومن عقوق الوالدين بعد موتهما: عدم تنفيذ وصيتهما، أو إهمالها، وعدم القيام عليها وإصلاحها وتنميتها والحفاظ عليها، فكم من وصايا وأوقاف من عقارات وغيرها

ص: 335

اندثرت وضاعت بسبب إهمال ورثة الميت لها.

‌د- عقوبات عقوق الوالدين وآثاره:

عقوق الوالدين أمره خطير، وضرره كبير، وعقوباته عظيمة، وآثاره سيئة، وعواقبه وخيمة، عاجلًا وآجلًا، في الدنيا والآخرة، منها ما يأتي:

1 الوعيد بعدم دخول الجنة، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة عاقٌّ»

(1)

.

وكما في حديث أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما: «رغم أنف امرِئٍ، ثم رغم أنف امرئ، ثم رغم أنف امرئ، أدرك أبويه، أحدهما أو كلاهما، فلم يدخل الجنة»

(2)

.

2 التهديد بدخول النار، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك أبويه، أو أحدهما، فلم يَبَرَّهما، فمات، فدخل النار، فأبعده الله. قل: آمين» . فقلت: آمين

(3)

.

وعن جابر بن سَمُرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك أحد أبويه فمات فدخل النار فأبعده الله. قل: آمين» . فقلت: آمين

(4)

.

3 أن عقوق الوالدين سبب لعدم التوفيق، وانغلاق أبواب الخير، وفقدان السعادة في الحياة.

4 أنه سبب لعدم البركة في العمر والرزق.

5 أنه سبب مؤكد لعقوق الأولاد؛ لأن الجزاء من جنس العمل؛ كما قال تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26].

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2551).

(3)

أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (646)، وأبو يعلى في «مسنده» 10/ 328 (5922)، وابن حبان 3/ 188 (907)، والطبراني في «الأوسط» 8/ 113 (8131). وصححه الألباني في تحقيقه على «الأدب المفرد» ، و «التعليقات الحسان» (904).

(4)

أخرجه الطبراني في «الكبير» 2/ 243 (2022). وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (75).

ص: 336

وهذا أمر معلوم يشهد له الواقع، فكم كان البر سببًا للنجاة والسعادة والتوفيق! وكم كان العقوق سببًا للهلكة والشقاء، وعدم التوفيق!

ومن هنا يُعلم أن إهمال تربية الأولاد، وعدم النصح لهم وتوجيههم عقوق لهم، ينتج عنه لا محالة ويترتب عليه عقوقهم لوالديهم.

‌الوقفة الثالثة في:

وصيتي للوالدين

جبل الله عز وجل الوالدين على محبة الأولاد، والعطف والشفقة عليهم، والرحمة بهم، وجعلهما ينظران إلى أولادهما أشد من نظر الزارع إلى زرعه، ينتظر استواءه ليقطف ثمرته.

حكمة بالغة؛ ليكثر النسل، ويَعمُر الكون، وهو عز وجل العليم الحكيم.

ولكن في كثير من الحالات سرعان ما تتبدد آمال الوالدين، وتضمحل أحلامهما، فلا يجدان من أولادهما ما أمَّلاه فيهم من البر، بل قد يحصل لهما عكس ذلك، ويتمنيان السلامة، فتصير الآمال آلامًا، ويتحول ما أمَّلاه من السعادة بأولادهما، وقرة العين بهم إلى شقاء، وارتفاع في ضغط الدم، وزيادة السكري.

فتُظلم الدنيا في أعين الوالدين، وتتكدر حياتهما، ويتنكد عيشهما، ويتذكران قول آدم عليه الصلاة والسلام فيما قيل- حينما قتل أحد أولاده أخاه:

تغيَّرت البلادُ ومَن عليها

ووجهُ الأرضِ مُغبَرٌّ قبيحُ

والإنسان عندما يأتيه المُصاب من الآخرين فقد يجد سبيلًا للانفكاك عنه، والتخلص منهم، وقد يهون عليه ذلك. لكن عندما يأتي المصاب من الولد الذي هو قطعة من والده لا ينفك عنه، فإنه مهما حاول الوالد أن يبتعد عنه ويتناسى فإن الشعور بذلك يبقى يؤرقه، ويكدر عليه عيشه، وينكد عليه حياته، كالعلة في البطن.

ص: 337

وكم من أبٍ وأمٍّ عانى كل منهما الأمرين، وفقدا لذة الحياة وطعمها بسبب ذلك!

ولهذا أوصيك أيها الوالد؛ أبًا كنت أو أمًّا بما يأتي:

أولًا: اعلم أيها الوالد أنت وغيرك، أن إلى الله وحده المشتكى، لا إلى غيره، فتعلق به عز وجل وحده يكفِك كل شيء، فبيده عز وجل النفع والضر دون غيره؛ قال تعالى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]، وقال تعالى:{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3].

ثانيًا: توسَّطْ في توقع البر من الأولاد، ولا ترفع سقف التوقعات، وتأمل في أحوال الناس من حولك؛ لكي تقنع بما تيسر وتطمئن وترتاح، ولا تذهب نفسك حسرات.

ثالثًا: تذكر ما قد يكون سببًا في ضعف البر من الأولاد في نفسك أولًا، من تقصير منك في تربيتهم، أو عقوق منك لوالديك؛ فالجزاء من جنس العمل، واسأل الله العفو والعافية.

رابعًا: تذكر أيضًا ما يمر به الأولاد من طفولة، ثم مراهقة قد تطول أحيانًا عند البعض، يكون فيها الشاب أحيانًا كالسكران، أو فاقد العقل.

وتذكر أيضًا: ما ابتُلي به الناس من أمور وبلِيات قصروا بسببها حتى في حق خالقهم ومالكهم ومدبرهم ومربيهم بسائر النعم، يهُن عليك الأمر.

خامسًا: اعلم قلة الشاكرين حتى لربهم، كما قال عز وجل:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، كما أن المؤمن منهم قليل، والضال كثير، قال تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، وقال تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116].

سادسًا: ينبغي أن يعلم الوالد: أن الولد لا يحمل من المشاعر، والأحاسيس، والمحبة، والعطف، والشفقة تجاه والده مثل ما يحمله الوالد تجاهه، وشتان بين الثَّرَى والثُّرَيَّا! وكما يقال:«قلبي على ولدي انْفَطَر، وقلب وَلَدي عليَّ حَجَر» !

ص: 338

فمن تأمل في هذه الأمور الستة وغيرها، هان عليه الأمر، وقنع بما تيسر من البر، وصبر على ضد ذلك، والعاقبة للمتقين.

وأخيرًا: همسة للولد:

تذكر أيها الولد- بارك الله فيك ووفقك الله وهداك- أن الجزاء من جنس العمل، وكما تدين تدان، كما قال تعالى:{جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26]، وقال تعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وقال تعالى:{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40].

واعلم أن ما فعلت سيُفعل معك برًّا أو عقوقًا، وأن برك بوالديك دَين يُسدِّد عاجله أولادك لك في حياتك، كما في الأثر:«بَرُّوا آباءكم تَبَرَّكم أبناؤكم»

(1)

.

مع ما رتب الله عز وجل لك على ذلك من التوفيق، وعظيم الأجر والثواب في الدنيا والآخرة.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 339

‌وقفة في: وجوب حفظ السمع والبصر والفؤاد

قال الله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]

هذه الجوارح الثلاث من أعظم ما امتن الله به على العباد كما أوضح ذلك في كتابه الكريم، قال تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].

وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: 78].

وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 9].

وقال تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23].

وإنما خص الله عز وجل هذه الجوارح الثلاث؛ لفضلها وعظيم أثرها؛ نفعًا أو ضرًّا.

فالسمع والبصر طريقَا وصولِ العلم والمعرفة والحق إلى القلوبِ، والقلوبُ هي محل الإدراك والفهم والعقل، ومناط التكليف، وعليها مدار صلاح الأعمال وفسادها، كما جاء في الحديث

(1)

.

وقد أكد عز وجل وجوب حفظ هذه الجوارح الثلاث، ونهى الإنسان عن اتباع ما ليس له به علم، وأكد مسؤوليتها ومسؤولية الإنسان عنها؛ فقال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].

وقدَّم عز وجل في الآيات ذكر السمع والبصر على ذكر الفؤاد؛ لأن السمع والبصر- كما تقدم- هما طريقَا وصول العلم والمعرفة إلى القلب، وإلا فإن القلب هو سيد الأعضاء

(1)

وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مضغة» ، وسيأتي تخريجه قريبًا.

ص: 340

ورئيسها والحاكم عليها ومدبرها، وبه صلاحها أو فسادها، وصلاح البدن كله أو فساده، كما جاء في الحديث.

كما قدَّم عز وجل السمع على البصر؛ لأن السمع أوسع وأعم من البصر.

وحفظ هذه الجوارح كل بحسبه.

فالسمع يُحفظ من الاستماع إلى ما حرم الله تعالى:

من الكلام الباطل والكفر.

ومن الاستهزاء بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وآياته وبالحق وأهله، ونحو ذلك.

ومن استماع الغيبة، والنميمة، والكذب، والزور.

ومن استماع حديث قوم وهم له كارهون، قال صلى الله عليه وسلم:«من استمع إلى حديث قوم يكرهونه صُبَّ في أُذُنيه الآنُك يوم القيامة»

(1)

؛ وهو الرَّصاص المذاب.

ومن استماع الغناء والمزامير ونحو ذلك.

والبصر يُحفظ من النظر إلى المحرم، وما لا يجوز النظر إليه، فيحفظ الرجال أبصارهم عن النظر إلى النساء الأجنبيات، وتحفظ النساء أبصارهن عن النظر إلى الرجال الأجانب، ويحفظ الجميع أبصارهم عن كل ما يُعرض على الشاشات من الفُحش، والعُرْي، والفجور، ونحو ذلك، وعن كل ما يثير الفتنة، من النظر إلى المُردان، ومن النظر إلى المرأة بشهوة، ونحو ذلك.

كما يحفظ الجميع أبصارهم عن النظر إلى ما لا فائدة في النظر إليه من أحوال الناس الخاصة، وأموالهم، وممتلكاتهم، ونحو ذلك.

قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30، 31].

وغض البصر: خفضه إلى الأرض، أو صرفه يمينًا وشمالًا، وكفه عن النظر إلى

(1)

أخرجه البخاري في التعبير (7042)، وأبو داود في الأدب (5024)، والترمذي في اللباس (1751)، وأحمد 1/ 359 (3383) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 341

المحرمات، وما لا ينبغي النظر إليه.

وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19].

وعن جَرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفُجاءة، فأمرني أن أصرِف بصري

(1)

.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والجلوسَ في الطرُقات» قالوا: يا رسول الله، ما لنا بُدٌّ من مجالسنا نتحدث فيها. قال:«فإذا أبيتم إلا المجالس، فأعطوا الطريق حقها» . قالوا: وما حق الطريق؟ قال: «غضُّ البصر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، وأمرٌ بالمعروف، ونهيٌ عن المنكر»

(2)

.

وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله أن حفظ البصر عن الصور التي نُهي عن النظر إليها؛ كالمرأة، والأمرد الحسن، يُورث ثلاث فوائد جليلة:«حلاوة الإيمان، التي هي أحلى وأطيب مما تركه لله، فإن من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، وثانيها: نور القلب وفراسته، وثالثها: قوة القلب وثباته وشجاعته»

(3)

.

قال الشاعر:

كلُّ الحوادثِ مَبداها من النظرِ

ومُعظمُ النارِ مِن مُستصغَرِ الشَّرَرِ

كم نظرةٍ فتكت في قلبِ صاحبِها

فَتْكَ السِّهامِ بلا قوسٍ ولا وَتَرِ

والمرءُ ما دام ذا عَينٍ يقلِّبها

في أعيُنِ الغِيدِ موقوفٌ على الخَطَرِ

يُسِرُّ مُقْلَتَه ما ضَرَّ مُهْجَتَه

لا مرحبًا بسرورٍ عاد بالضَّرَرِ

(4)

والفؤاد- وهو القلب- يُحفظ من أمراض القلوب كلها، ومن الفساد، الذي به فساد الجسد كله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إن في الجسد مُضغة إذا صلَحتْ صلَح الجسدُ كله، وإذا

(1)

أخرجه مسلم في الآداب (2159)، وأبو داود في النكاح (2148)، والترمذي في الأدب (2776)، وأحمد 4/ 358 (19160).

(2)

أخرجه البخاري في المظالم (2465)، ومسلم في اللباس (2121)، وأبو داود في الأدب (4815).

(3)

انظر: «دقائق التفسير» 4/ 466 - 469

(4)

انظر: «التفسير القيم» ص (624 - 629).

ص: 342

فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»

(1)

.

فيُحفظ القلب من مرض الشبهة، والشك، والكفر، والنفاق، ونحو ذلك.

ويحفظ من مرض الشهوة بأنواعه الثلاثة: شهوة البطن، وشهوة الفرج، وشهوة اتباع الهوى، قال تعالى منكرًا ومحذرًا:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23].

ويحفظ من الكبر، والإعجاب، والغل والحقد والحسد، والعداوة والبغضاء والشحناء والغش، وسوء الظن ونحو ذلك.

ويتمثل ذلك كله في صدق الإيمان بالله عز وجل، والإخلاص له، والاستقامة على دينه وشرعه، وخوفه ورجائه، وملازمة العبد دعاء ربه، وسؤاله انشراح صدره، وثبات قلبه، وصلاحه وسلامته، وفي تعاهد قلبه ومراقبته، والحرص على سلامته، وفي إفشاء السلام، والنصح للمسلمين، ومحبة الخير لهم، وحسن الظن بهم، والتماس الأعذار، وإقالة العثرات، والتغافل عن الزلات، والحرص على إصلاح ذات البَين بين المسلمين، مع قوة الرجاء فيما وعد الله به سليم القلب من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، والحياة السعيدة، والتوفيق في الدين والدنيا والآخرة.

وفي «عون الرحمن» في تفسير قوله تعالى في سورة الشعراء: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]- بسط الكلام في أسباب سلامة القلب، وانشراح الصدر، وفضيلة ذلك.

(1)

أخرجه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599)، وأبو داود في البيوع (3329)، والنسائي في البيوع (4453)، والترمذي في البيوع (1205)، وابن ماجه في الفتن (3984) من حديث النعمان بن بَشير رضي الله عنهما.

ص: 343

‌وقفات ثلاث في: الرقية الشرعية

قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]

‌الوقفة الأولى:

حكم الرقية الشرعية وصفتها

‌أ- حكم الرقية الشرعية:

الرقية الشرعية مستحبة بدلالة القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، وقال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقال تعالى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44].

فبيَّن عز وجل أن القرآن الكريم شفاء لما في الصدور، وشفاء للمؤمنين، فهو شفاء لأمراض القلوب والأبدان المعنوية والحسية والنفسية، وفي هذا دلالة على مشروعية الاستشفاء به من كل داء.

وعن أبي سعيد رضي الله عنه: أن جبريل عليه السلام رقى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «باسمِ الله أرقيك، من كل شيءٍ يؤذيك، من شر كل نفسٍ، أو عينِ حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك»

(1)

.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوِّذات وينفُث، فلما اشتد وجعه كنتُ أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده، رجاءَ بركتها

(2)

.

(1)

أخرجه مسلم في السلام (2186)، والترمذي في الجنائز (972)، وابن ماجه في الطب (3523)، وأحمد 3/ 28 (11225).

(2)

أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5016)، ومسلم في السلام (2192)، وأحمد 6/ 114 (24831).

ص: 344

وعنها رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا آوى إلى فراشه كل ليلة، جمع كَفيه ثم نفث فيهما، فقرأ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه، وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات

(1)

.

وعنها رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرِض أحد من أهله نفَث عليه بالمعوِّذات، فلما مرِض مرضَه الذي مات فيه جعلتُ أنفُث عليه، وأمسحه بيد نفسه؛ لأنها أعظم بركةً من يدي

(2)

.

وعنها رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى مريضًا يدعو له، قال:«أذهِبِ الباس، ربَّ الناس، واشفِ أنتَ الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سَقَمًا»

(3)

.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لدغتْ رجلًا منا عقرب، ونحن جلوس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله، أرقي؟ قال:«مَنِ استطاع أن ينفعَ أخاه فليفعلْ»

(4)

.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إن سيد الحي سَليم

(5)

، وإن نفرنا غُيَّب، فهل منكم راقٍ؟ فقام معها رجل ما كنا نأبِنُه

(6)

برقية، فرقاه، فبرأ، فأمر لنا بثلاثين شاةً، وسقانا لبنًا، فلما رجع قلنا له: أكنت تُحسن رقية، أو كنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيت إلا بأم الكتاب. فقلنا: لا تحدِثوا شيئًا حتى نأتيَ أو نسأل النبي صلى الله عليه وسلم. فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: «وما يدريه أنها رقية؟

(1)

أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5017)، وأبو داود في النوم (5056)، والترمذي في الدعوات (3402)، وأحمد 6/ 116 (24853).

(2)

أخرجه البخاري في المرضى (5675)، ومسلم في السلام (2191)، وابن ماجه في الجنائز (1619).

(3)

أخرجه مسلم في السلام (2192).

(4)

أخرجه مسلم في السلام (2199)، وأحمد 3/ 302 (14231).

(5)

سليم؛ أي: لديغ، وكان العرب يسمون اللديغ سليمًا؛ تفاؤلًا بسلامته، وهو في الغالب هليك.

(6)

نأبِنُه؛ أي: نعلم أنه يرقي فنعيبه بذلك، «النهاية» مادة «أبن» .

ص: 345

اقسموا، واضربوا لي بسهم»

(1)

.

ومن هذا الحديث أخذ أهل العلم جواز أخذ الأجرة على الرقية.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء»

(2)

.

وعن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لكل داءٍ دواء، فإذا أُصيب دواءُ الداءِ برَأَ بإذن الله تعالى»

(3)

.

فهذه النصوص كلها تدل على مشروعية طلب الشفاء واستحبابه، والتداوي بالرقية الشرعية، وبمراجعة الأطباء المختصين، وغير ذلك من الأسباب المباحة.

‌ب- صفة الرقية الشرعية:

الرقية الشرعية هي ما كان بالآيات القرآنية، والأدعية النبوية الصحيحة كما في الأحاديث السابقة، وغيرها.

وذلك بقراءة الفاتحة وتَكرارها سبع مرات، وقراءة آية الكرسي، وما تيسر من القرآن، وقراءة سورة الإخلاص، والمعوِّذتين، وتَكرارها ثلاثًا، وينفث على المريض على محل المرض، ويمسح عليه بيده.

ويدعو بقوله: «باسم الله أرقيك، من كل شيءٍ يؤذيك، من شر كل نفسٍ أو عينِ حاسد، الله يشفيك، باسم الله أرقيك» .

وبقوله: «أذهِبِ الباس، ربَّ الناس، واشفِ أنتَ الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤك، شفاءً لا يُغادر سَقَمًا» .

وإن دعا ببعض الأدعية المأثورة عن السلف، وغيرها مما لا محذور فيه، فلا بأس بذلك.

(1)

أخرجه البخاري في الإجارة (2276)، وفي فضائل القرآن (5007)، ومسلم في السلام (2201)، وأبو داود في البيوع (3418، 3419)، والترمذي في الطب (2063، 2064)، وابن ماجه في الإجارات (2156).

(2)

أخرجه البخاري في الطب (5178)، وابن ماجه في الطب (3439).

(3)

أخرجه مسلم في السلام (2204)، وأحمد 3/ 335 (14597).

ص: 346

سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن الأدعية التي تُقرأ على المريض، فأجاب رحمه الله بقوله:

«ينفث على المريض على محل المرض، ويدعو له، ينفُث عليه من ريقه، ويقرأ الفاتحة، ويكررها سبع مرات، ويقرأ آية الكرسيِّ، ويقرأ ما تيسر من القرآن، ويقرأ:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، والمعوِّذتين، يكررها ثلاثًا.

هذه هي الرقية، وينفث معها ويدعو:«اللهم أذهبِ الباس، ربَّ الناس، واشفِ أنتَ الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا» ؛ كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول:«باسمِ الله أرقيك، من كل شرٍّ يؤذيك، من شرِّ كلِّ نفس، أو عين حاسد، الله يشفيك، باسمِ الله أرقيك» .

هكذا رَقَى جبرائيلُ النبي عليه الصلاة والسلام كما أخبر بذلك النبي عليه الصلاة والسلام.

فكل هذا حسن، وإذا قال:«اللهم اشفِه، اللهم عافِه، اللهم يسِّر له العافية» . والدعوات المناسبة، لا بأس»

(1)

.

‌الوقفة الثانية:

ما ينبغي للمريض

ينبغي للمريض الأمور التالية:

أولًا: ينبغي للمريض أن يكون أول باب يطرقه لطلب الشفاء باب المهيمن -جل وعلا-، الذي لا يرُد من دعاه، ولا يخيب من رجاه، ولا يضام ولا يضار من توكل عليه ولاذ بحماه، الذي قال وقوله الحق:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]، وقال تعالى:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وقال تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}

ص: 347

[البقرة: 186]، وقال تعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].

فله عز وجل الخلق والأمر، وهو الشافي، وهو الكافي، وهو المعافي، كما قال خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80].

وهو عز وجل الحافظ الواقي، كما قال يعقوب عليه الصلاة والسلام:{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64].

فلا يليق أن يُطرقَ باب قبل بابه عز وجل لطلب الشفاء أو غيره.

ثانيًا: أن يعلم المريض وغيره أن القرآن الكريم شفاء من كل داء، كما قال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]، وقال تعالى:{قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، وقال تعالى:{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44].

فيُكثِر من قراءة القرآن، ويرقي نفسه بالرقية الشرعية، فيقرأ حسب قدرته، وينفث على نفسه، ويدعو الله عز وجل، ويسأله أن يشفيه ويعافيه.

وقراءة الإنسان على نفسه أولى وأفضل من قراءة غيره عليه، وأحرى وأقرب للشفاء بإذن الله تعالى مع الإخلاص، وصدق اللجوء إلى الله تعالى، والانطراح بين يديه.

وقد سُئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله: ماذا يقول الإنسان إذا أراد أن يرقيَ نفسه؟

فأجاب رحمه الله بقوله: «يقول ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقول: «ربَّ الناس، أذهِبِ الباس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، باسمِ الله أرقي نفسي من كل شر يؤذيني، ومن كل نفسٍ أو عينِ حاسدٍ، الله يشفيني» . ويتعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق»

(1)

.

ثالثًا: لا بأس أن يبحث المريض عمن يرقيه من أهل الصلاح والتُّقَى والورع والخوف من الله عز وجل، الذين يلتزمون بضوابط القراءة الشرعية، والذين تنفع قراءتهم وتؤثر بإذن الله عز وجل.

ص: 348

رابعًا: يحسن بالمريض أن يجمع بين العلاج بالقرآن والرقية الشرعية، وبين مراجعة الأطباء المختصين بالأمراض البدنية والنفسية، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«ما أنزل الله داءً إلا وأنزل له شفاءً» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«لكل داءٍ دواء، فإذا أُصيبَ دواءُ الداءِ برَأَ بإذن الله تعالى»

(1)

.

فيجتمع العلاجان الشرعي والطبي، فيحصل الشفاء بإذن الله عز وجل.

‌الوقفة الثالثة:

ما ينبغي للراقي

ينبغي للراقي مراعاة عدة أمور، من أهمها ما يأتي:

أولًا: ينبغي للراقي أن يكون على درجة من الصلاح، والتقوى، والورع، والخوف من الله عز وجل، ومحاسبة النفس، والإخلاص، وحسن النية، والحرص على نفع من يتردد إليه من المرضى، والصدق في الدعاء لهم بالشفاء.

ثانيًا: ينبغي للراقي الالتزام بضوابط الرقية الشرعية بكونها بالقرآن الكريم، والأدعية الثابتة بالأحاديث الصحيحة، والآثار الواردة عن السلف، أو غيرها مما لا محذور فيه، فهذا أسلم له، وأنفع للمريض، وأقرب للشفاء بإذن الله عز وجل.

ثالثًا: يحسن بالراقي أن يطلب الأجر من الله تعالى، ويقصد بعمله نفع إخوانه، كما قال صلى الله عليه وسلم:«من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل»

(2)

.

وهذا أولى وأفضل وأحرى بحصول الشفاء، وما عند الله خير وأبقى.

وللراقي أخذ الأجرة على الرقية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة رضي الله عنهم لما استأذنوه في أخذ القطيع من الغنم الذي جعل لهم جعلًا، مقابل قراءتهم على اللديغ، قال صلى الله عليه وسلم:«وما يدريه أنها رقية؟ اقسِموا، واضربوا لي بسهم»

(3)

.

(1)

سبق تخريجهما.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 349

رابعًا: على الراقي أن يحرص على توجيه المريض إلى التعلق بالله عز وجل، وأن يعظم رجاءه بربه، ويستبشر خيرًا بأن الله عز وجل سيشفيه، ويعافيه، فهذا بإذن الله تعالى يخفف عليه المرض، ويعينه بتوفيق الله تعالى على تحمله، ومقاومته، ومن ثم بإذن الله زواله وشفاؤه، وهو بهذا التوجيه مأجور بإذن الله عز وجل.

خامسًا: على الراقي الاحتياط كل الاحتياط لسلامة دينه وعقيدته، والحذر كل الحذر مما يقع فيه بعض الرقاة- هداهم الله- من إيهام المريض بأن فيه سحرًا أو عينًا أو مسًّا، وربما تدرج الأمر ببعضهم بزعم أن الذي عمل لك السحر أو الذي أصابك بالعين فلان أو فلانة، وهذا أمر محرَّم لا يجوز؛ لما فيه من المحاذير والمفاسد العظيمة، ومن ذلك ما يلي:

الأول: أنه رجم بالغيب، وهو كبيرة من كبائر الذنوب، بل يُخشى على قائله ما هو أشد من ذلك؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى، كما قال تعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65]، وقال تعالى عن خدمة سليمان عليه السلام من الجن:{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14].

الثاني: أن في هذا ظلمًا لمن اتُّهم بهذا العمل، بغير بينة، ولا دليل صحيح، وإنما لمجرد تخمينات وتخرصات وتوقعات وهمية، والظلم ظلمات يوم القيامة.

الثالث: أن في هذا إفسادًا للعلاقات الاجتماعية بين الأقارب والجيران والإخوان والأصدقاء والمعارف، وإيغار صدور بعضهم على بعض، مما يصعب جبره كما قيل:

إن القلوبَ إذا تنافرَ وُدُّها

شبه الزجاجةِ كَسرُها لا يُجبَر

(1)

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تَحابُّوا»

(2)

.

(1)

البيت لصالح بن عبد القدوس، أو لعلي رضي الله عنه. انظر:«اللطائف والظرائف» لأبي منصور الثعالبي (ص 196)، و «السحر الحلال في الحكم والأمثال» لأحمد بن إبراهيم الهاشمي ص (68).

(2)

أخرجه مسلم في الإيمان (54)، وأبو داود في الأدب (5193)، والترمذي في الاستئذان والآداب (2688)، وابن ماجه في المقدمة (68) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي في صفة الجنة والقيامة والورع (2510) من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه.

ص: 350

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه»

(1)

.

رابعًا: أن في هذا الأمر إدخالًا للمريض المسكين في دوامة لا يعلمها إلا الله تعالى، قد لا يخرج منها طول حياته؛ من الوساوس والأوهام، والشكوك بمن حوله، نسأل الله الهداية والعافية والسلامة.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 351

‌وقفات أربع في: الصديق والأصدقاء

قال الله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61]

‌الوقفة الأولى في:

مكانة الصديق في الإسلام، وقيمته

الدين الإسلامي دين المُثل العليا، والمبادئ السامية، دين الوفاء والصفاء، واحترام العهود والعقود، وإعطاء كل ذي حق حقه؛ ولهذا رفع مكانة الصديق، وعظَّمها، وجعل حقه من آكد الحقوق وأهمها، ولا أدل على هذا من إباحة الإسلام للإنسان أن يأكل من بيت صديقه، كما يأكل من بيته، وبيت أبيه، وبيت أمه، وبيوت أقاربه، قال تعالى:{وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61].

وأمر عز وجل بالإحسان إلى الصاحب بالجنب في قوله تعالى في سورة النساء: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36]، وقد ذهب غير واحد من المفسرين إلى أن المراد به: الصديق، أو الصاحب في السفر.

وحث صلوات الله وسلامه على الجليس الصالح كما سيأتي، قال جعفر بن محمد رضي الله عنه:«صحبة عشرين يومًا قَرابةٌ»

(1)

.

وتقول العرب: «الصديق إحدى القرابتَينِ»

(2)

، وقال أعرابي: «الصداقة قرابة

(1)

انظر: «الصداقة والصديق» ص 39.

(2)

المصدر السابق ص 128.

ص: 352

مستفادة»

(1)

. وقال شَبيب بن شَيبةَ: «إخوان الصدقِ خيرُ مَكاسبِ الدنيا، هم زينة في الرخاء، وعُدةٌ في البلاء»

(2)

.

وقال بلال بن سعد: «أخٌ لك كلما لقِيَك ذكَّرك برؤيته بربِّك، خيرٌ لك من أخٍ لك كلما لقِيَك وضع في كفِّك دِينارًا»

(3)

.

وسئل حكيم عن الصديق، فقال:«إنسان هو أنت، إلا أنه بالشخص غيرك»

(4)

.

فإذا وجد الإنسان أصدقاء ذوي ثقة، وجد بهم عيونًا وآذانًا وقلوبًا كلها له.

‌الوقفة الثانية في:

حاجة الإنسان إلى الصديق

الصديق مَن تَصدُقه في مودتك له، ويَصدُقك في مودته لك، والصداقة أمر جِبِلِّي بين البشر، بل إنها موجودة بين الحيوانات.

والإنسان مدني بالطبع، لا يعيش وحده؛ ولهذا لا بد من صديقٍ أو أكثر؛ يأنَس به، ويقضي معه بعض أوقات فراغه وراحته، ويشاركه في آماله وآلامه، ويعينه على أمر دينه ودنياه وأخراه، ولا طعم للحياة ولا لذة لها بدون صديق، كما قال الشافعي رحمه الله

(5)

:

سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن بها

صديقٌ صَدوقٌ صادقُ الوعدِ مُنصِفَا

لأن تقلب الحياة بين السراء والضراء، والشدة والرخاء، يجعل الإنسان بأمس الحاجة إلى صديق يبثه أشجانه وتطلعاته، ويستشيره، ويفضي إليه بسره، ويشاركه في سروره وأفراحه، ويخفف عنه آلامه؛ بقوله الطيب، الذي يدخِل السرور على قلبه، ويشرح صدره، ويهون عليه مُصابه، وبفعله الحقيقي الذي يواسيه ويمده به.

(1)

المصدر السابق ص 263.

(2)

المصدر السابق ص 56.

(3)

المصدر السابق ص 99.

(4)

المصدر السابق ص 69.

(5)

انظر: «ديوانه» ص 85.

ص: 353

كما قال أكثم بن صَيفي: «العيش في سبعة أشياء: «الولد البار، والزوجة الصالحة، والأخ المساعد، والخادم العاقل، والعافية السابغة، والقوت الكافي، والأمن الشامل»

(1)

.

وقال أعرابي: «الغريب مَن ليس له حبيب»

(2)

.

وقال الخليل: «الرجل بلا صديق، كاليمين بلا شمال»

(3)

.

وقال الشاعر

(4)

:

لَعَمْرُكَ ما مال الفتى بذخيرةٍ

ولكن إخوان الثقاتِ الذخائر

وقال المتنبي

(5)

:

شر البلادِ مكانٌ لا صديقَ به

وشرُّ ما يكسب الإنسانُ ما يَصِمُ

وحاجات الإنسان إلى صديقه كثيرة، قد تفوق حاجاته إلى غيره، من أقرب الأقربين إليه، ومن أهمها ما يلي:

1 عونه له على تقوى الله تعالى، وتشجيعه له على المسارعة إلى الخير، والمسابقة إليه، والمنافسة فيه.

2 أُنسه به، وقضاؤه معه أوقات فراغه وراحته، ومشاركته له في أفراحه ومسراته.

3 عونه له على أمور دنياه، وعلى ظروف الحياة ومتاعها، ومشاركته له تطلعاته وآماله، وتخفيف آلامه ومصابه.

4 إرشاده له وتعليمه ما أشكل عليه، ونصحه، وتنبيهه إلى ما خفِي عليه، كما ثبت في الحديث أن سلمان الفارسي زار أخاه أبا الدرداء رضي الله عنهما، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد آخى بينهما. فوجد سلمان رضي الله عنه أم الدرداء رضي الله عنها متبذِّلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء فصنع له طعامًا، فقال: كُلْ. قال: فإني صائم.

(1)

انظر: «الصداقة والصديق» ص (267).

(2)

المصدر السابق ص (39).

(3)

المصدر السابق ص (45).

(4)

البيت بلا نسبة في: «المحاسن والأضداد» (ص 73)، و «ربيع الأبرار» (1/ 389).

(5)

انظر: «ديوانه» (ص 333).

ص: 354

قال: ما أنا بآكِلٍ حتى تأكل. قال: فأكل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قمِ الآن. فصلَّيا. فقال له سلمان: «إن لربِّك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كل ذي حق حقه» . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«صَدَقَ سلمانُ»

(1)

.

وذكر أحد الثقات أن أحد الإخوة تنكرت له أم أولاده بعد عشرة طيبة طويلة، فشق ذلك عليه، واستشار أحد إخوانه من ذوي العقل والمعرفة، فقال له: كيف حالك معها في أمر النساء؟ فقال: لقد ركِبتني ديون وهموم حتى أصبحت لا أهنأ بنوم، فكيف بأمر النساء، أي: ليس لي فيه عهد منذ زمن طويل، فقال أخوه: هذا هو السبب فيما حصل من زوجتك، فعاد الزوج معها في هذا الأمر بما تيسر له من أسباب، فعادت العِشرة الطيبة بينهما.

والأمثلة على هذا كثيرة جدًّا.

‌الوقفة الثالثة في:

اختيار الصديق

اختيار الصديق واستخلاصه ليس بالأمر السهل، ولا البسيط؛ لأن من يظهِر الصداقة في الناس كثير، لكن الصديق الوفي منهم قليل، ولهذا نجد القرآن الكريم أفرد الصديق في قوله تعالى:{أَوْ صَدِيقِكُمْ} ، في حين أن ما قبله في الآية جاء على صيغة الجمع.

كما أفرد الصديق في قول أهل النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء 100، 101]، قال المفسرون: وفي هذا إشارة إلى قلة الصديق المخلص.

قال أعرابي: «الصاحب كالرقعة في الثوب، فلينظر الرجل بم يرقعه»

(2)

.

وقال إبراهيم بن أدهم: «أنا منذ عشرين سنة في طلب أخ إذا غضب لم يقل إلا الحق،

(1)

أخرجه البخاري في الصوم (1968)، والترمذي في الزهد (2413) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه.

(2)

انظر: «الصداقة والصديق» ص 352.

ص: 355

فما أجده»

(1)

.

وقيل لحكيم: من أطول الناس سفرًا؟ قال: «من سافر في طلب صديق»

(2)

.

وقال الشاعر:

إن كنتَ تطلُبُ في الزمانِ مُهذَّبًا

فَنِيَ الزمانُ وأنتَ في الطلباتِ!

(3)

وقال الآخر:

وإذا صفا لك من زمانِكَ واحدٌ

فهْوَ المرادُ وعِشْ بذاك الواحد

(4)

وقال اليزيدي:

ألا إن إخوان الصفاء قليل

فهل لي إلى ذاك القليلِ سبيلُ؟

قِسِ الناسَ تعرِفْ غثَّهم وسَمِينَهم

فكلٌّ عليه شاهدٌ ودليلُ

(5)

وقال الآخر:

الأخلاء في الرخاء كثير

فإذا ما بلوتَ كانوا قليلَا

وإذا ما أصبتَ خلا حفيظًا

راعيًا للإخاءِ برًّا وصولَا

فتمسَّك بحبله أبدَ الدهـ

ر وأكرِمْ به أخًا وخليلَا

(6)

وقال الآخر:

وما بقِيتْ من اللَّذاتِ إلا

محادثةُ الرجالِ ذوي العقولِ

وقد كانوا إذا عُدوا قليلًا

فقد صاروا أقلَّ من القليلِ

(7)

ولهذا يجب أن يُعنى المرء كل العناية بمن يختاره صديقًا، ويصطفيه، ويستخلصه، من ذوي الخُلق النبيل، والأدب الرفيع، والصفات الكريمة، والخصال الحميدة، والتقى والصلاح، وأن تُبنى الصداقة على أساس متين من المحبة في الله تعالى، والتعاون على

(1)

المصدر السابق ص 47.

(2)

المصدر السابق ص 68.

(3)

المصدر السابق ص 261.

(4)

المصدر السابق ص 135.

(5)

المصدر السابق ص 130.

(6)

المصدر السابق ص 269.

(7)

المصدر السابق ص 95.

ص: 356

البر، والتقوى، والصدق، والإخلاص، بعيدًا عن الأهداف المادية، التي تنقطع الصداقة بزوالها، وربما انقلبت عداوة.

قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، قال ابن كثير

(1)

: «أي: كل صداقة وصحابة لغير الله، فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة، إلا ما كان لله عز وجل، فإنه دائم بدوامه» .

وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء؛ كحامل المِسْكِ ونافخِ الكِير، فحامل المسك إما أن يُحذِيَك، وإما أن تبتاعَ منه، وإما أن تجدَ منه ريحًا طيبةً، ونافخ الكير إما أن يُحرِقَ ثيابَكَ، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثةً»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «المرء على دين خليلِه، فلْينظُرْ أحدُكم مَن يُخالِل»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تصحَبْ إلا مؤمنًا، ولا يأكلْ طعامَك إلا تقيٌّ»

(4)

.

وذكر صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: «ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه»

(5)

.

قال الشاعر:

(1)

في «تفسيره» 7/ 224.

(2)

أخرجه البخاري في الذبائح والصيد (5534)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2628)، وأحمد 4/ 404 (19624) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود في الأدب (4829) من حديث أنس رضي الله عنه.

(3)

أخرجه أبو داود في الأدب (4833)، والترمذي في الزهد (2378)، وأحمد 2/ 303، 334 (8028، 8417) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: «حسن غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (927).

(4)

أخرجه أبو داود في الأدب (4832)، والترمذي في الزهد (2395)، والدارمي 2/ 140 (2057)، وأحمد 3/ 38 (11337)، وابن حبان 2/ 315 (555) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وحسنه الألباني في «التعليقات الحسان» (556)، و «صحيح الجامع» (7340).

(5)

أخرجه مالك في الشعر (2/ 952)، والبخاري في الأذان (660)، ومسلم في الزكاة (1031)، والنسائي في آداب القضاة (5380)، والترمذي في الزهد (2391) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 357

كن ما استطعت عن الأنام بمَعزِلٍ

إن الكثيرَ من الورى لا يُصحبُ

واجعَلْ جَليسَكَ سيدًا تحظى به

حَبْر لَبيب عاقل متأدِّبُ

(1)

وقال الآخر:

اختر صديقَك واصطفيه تفاخُرًا

إنَّ القَرينَ إلى المُقارَنِ يُنسَبُ

فعلى العاقل اللبيب أن يختار من الأصحاب والأصدقاء من كان عونًا له على تقوى الله، وعلى جميع أمور دينه ودنياه وأخراه، كما قال الشاعر:

أخ كان لي نعمَ المُعين على التُّقَى

به تَنجلي عني الهمومُ وتَذهَبُ

فطَورًا بأخبارِ الرسولِ وصَحبِه

وطورًا بآدابٍ تَلِذُّ وتعذُبُ

على ذا مضى عُمري كذاك وعمرُه

صَفِيَّيْنِ لا نجفو ولا نتعتَّبُ

(2)

وقال ابن عائشة: «مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب صَدَأَ الذنوب، ومجالسة أهل المروءات تدل على مكارم الأخلاق، ومجالسة العلماء تزكي النفوس»

(3)

.

ولْيحذَر المرء كلَّ الحذر من صحبة الأشرار؛ فإنها خطر على الإنسان في دينه، ودنياه، وأخراه، ومآلُها إلى الزوال والانقطاع، والعداوة والندامة، كما قال تعالى:{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67]، وقال تعالى:{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان 27 - 29].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ومثل الجليس السوء كنافخِ الكِير، إما أن يُحرِق ثيابك، وإما أن تجدَ منه ريحًا خبيثة»

(4)

.

قال الشاعر:

(1)

انظر: «السحر الحلال» (ص 11).

(2)

الأبيات للشاعر محمد بن عثيمين انظر: «موسوعة الشعر الإسلامي» 1/ 148، «ديوان الشعر العربي على مر العصور» 8/ 91.

(3)

«الصداقة والصديق» ص 293.

(4)

سبق تخريجه قريبًا.

ص: 358

ما عاتب المرء الكريم كنفْسِه

والمرءُ يُصلحه الجليسُ الصالحُ

(1)

وقال عَدِيُّ بن يزيد

(2)

:

إذا كنت في قومٍ فصاحِبْ خِيارَهم

ولا تصحَبِ الأرْدَى فتَردَى مع الردِي

وقال طَرَفةُ بن العبد

(3)

:

عن المرءِ لا تَسَلْ وسَلْ عن قَرينِه

فكلُّ قرينٍ بالمُقارَنِ يَقتدي

وقال الآخر:

وابلُ الرجالَ إذا أردتَ إخاءَهم

وتوسَّمنَّ أمورَهم وتفقَّدِ

فإذا ظفرتَ بذي الديانةِ والتُّقَى

فيه اليدينِ قَرير عينٍ فاشْدُدِ

ومتى يزلَّ ولا محالةَ زَلةً

فعلى أخيك بفضلِ حِلمِك فارْدُدِ

(4)

وقال أسامة بن منقذ:

واحذر مصاحبة السفيه فشرُّ ما

جلبَ الندامةَ صحبةُ الأشرارِ

والناس كالأشجارِ هذي يُجتنى

منها الثمارُ، وذي وقودُ النارِ

وقال أبو بكر الخوارزمي

(5)

:

لا تصحَبِ الكسلانَ في حالاته

كم صالحٍ بفسادِ آخرَ يفسُدُ

عدوى البليدِ إلى الجليد سريعةٌ

والجمرُ يُوضعَ في الرمادِ فيخمُدُ

وقال بعضهم: «صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخبار»

(6)

.

وقال لقمان: «من يصحب صاحب الصلاح يسلم، ومن يصحب صاحب السوء لا يسلم»

(7)

.

وفي قصة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاةُ، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي

(1)

«الصداقة والصديق» ص 48.

(2)

انظر: «ديوانه» (ص 107).

(3)

انظر: «ديوانه» (ص 41).

(4)

انظر: «الصداقة والصديق» ص 270.

(5)

انظر: «بهجة المجالس» ص 151.

(6)

انظر: «الصداقة والصديق» ص 262.

(7)

انظر: «الصداقة والصديق» ص 67.

ص: 359

أُمية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:«أي عمِّ، قل: لا إله إلا الله، كلمة أُحاجُّ لك بها عند الله» فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب؟! فأعاد النبي صلى الله عليه وسلم له القول، فأعادا، فكان آخر ما قال: بل على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلا الله

(1)

.

فهذه أبلغ صورة لصحبة الأشرار!

‌الوقفة الرابعة في:

حقوق الصديق، وكيفية التعامل بين الأصدقاء

حقوق الصداقة كثيرة وعظيمة، من أهمها ما يلي:

1 أن يصدُق كل من الصديقين مع صديقه في المودة، ويخلص في الصداقة، ويكون كل منهما صريحًا صادقًا مع صديقه، ناصحًا له كل النصح، إذا لقيه سُر وفرح بلقياه، وأنس به، وإذا غاب عنه اشتاق له، وسأل عنه، يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكرهه لنفسه.

قال صلى الله عليه وسلم: «خير الأصحاب خيرهم لصاحبه، وخير الجيران خيرهم لجاره»

(2)

.

وقال ابن عمر رضي الله عنهما لصديق له: «إني لأغيب عنك بتَوْقٍ، وألقاك بشوق» ، فسمعه أعرابيٌّ فقال: لو كان كلامًا يُؤتَدَم، لكان هذا

(3)

.

وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله إني لأحبك، قال:«لو كنت تحبني لأهديت إليَّ عيوبي»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في مناقب الأنصار (3884)، وفي تفسير سورة التوبة (4772)، ومسلم في الإيمان (24)، والنسائي في الجنائز (2035) من حديث ابن المسيب عن أبيه رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الترمذي في البر والصلة (1944)، وأحمد 3/ 167 (6566)، والبخاري في «الأدب المفرد» (115)، والدارمي 2/ 284 (2437)، والحاكم (1/ 443، 2/ 101، 4/ 164) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال الترمذي: «حديث حسن غريب» . وقال الحاكم: «صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» . وصححه الألباني في تحقيقه «الأدب المفرد» .

(3)

ذكره ابن عبد ربه في «العقد الفريد» (2/ 10)، عن عقال بن شبة لأبي عبيد الله كاتب المهدي.

(4)

انظر: «الصداقة والصديق» ص (243)، وأخرج الدارمي (1/ 65) عن عمر رضي الله عنه قال:«رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي» .

ص: 360

وكان رضي الله عنه يسأل سلْمان الفارسي رضي الله عنه عن عيوبه، فلما قدم عليه سلمان رضي الله عنه قال له:«يا أخي، أبلَغَكَ عني شيء تكرهه لما أخبرتني به؟»

(1)

.

وقال ميمون بن مِهران لجعفر بن بُرقان: «قل لي فيَّ ما أكره؛ فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره»

(2)

. وقد قيل: «المؤمن مرآة أخيه»

(3)

.

قال أعرابي: «السؤال عن الصديق أحد اللقاءين»

(4)

.

وقال عمر بن الطاب رضي الله عنه: «إن مما يصفي لك ود أخيك ثلاثًا: تبدؤه بالسلام إذا لقِيته، وتدعوه بأحب أسمائه إليه، وتوسع له في المجلس»

(5)

.

وقال علي بن الهيثم: «يجب للصديق ثلاث خِلال: كتمان حديث الخلوة، والمواساة عند الشدة، وإقالة العثرة»

(6)

.

2 أن يكون كل منهما وفيًّا مع الآخر غاية الوفاء، يشاركه آماله وآلامه، ويقف معه في السراء والضراء، والشدة والرخاء.

قال الشاعر:

إن الكريمَ الذي تَبقى مَودتُه

ويحفَظُ السرَّ إنْ صافَى وإنْ صَرَما

ليس الكريمُ الذي إنْ ذلَّ صاحبُه

بثَّ الذي كان من أسرارِه عَلِمَا

(7)

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لأن أمشيَ في حاجة أخي أحبُّ إليَّ من

(1)

أخرجه البيهقي في «الشعب» 7/ 378 (10653).

(2)

أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (4/ 86، 8/ 354).

(3)

أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (238، 239) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وحسن الألباني إسناده. وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» 1/ 222 (662) عن الحسن، 1/ 485 (1378) عن بلال بن سعد.

(4)

انظر: «الصداقة والصديق» ص (243).

(5)

أخرجه ابن وهب في «جامعه» (222)، وابن المبارك في «الزهد» 1/ 119 (352)، وابن أبي الدنيا في «مكارم الأخلاق» (316).

(6)

انظر: «الصداقة والصديق» ص (64).

(7)

انظر: «الصداقة والصديق» ص (277).

ص: 361

أن أعتكِفَ في هذا المسجد شهرًا»

(1)

؛ يعني مسجد المدينة.

وذُكر أن طاوسًا رحمه الله كان له صديق فمرض وطال به المرض، حتى جاء الحج، وكان طاوس يحج كل سنة، فترك الحج، وجلس على تمريض صديقه، ومواساته

(2)

.

قال الشاعر:

ما ودني أحدٌ إلا بذلتُ له

صَفْوَ المودةِ مِني آخِرَ الأبدِ

ولا قَلَاني وإن كنتُ المُحِبَّ له

إلا دعوتُ له الرحمنَ بالرشدِ

ولا ائتُمنتُ على سرٍّ فبُحتُ به

ولا مدَدتُ إلى غير الجميل يدي

(3)

وكثير من الأصدقاء يكون مع صديقه في وقت الرخاء والسراء، فإذا حصل لصديقه شدة وضراء تخلى عنه؛ ولهذا لما سئل أحدهم: بم يُعرف الصديق؟ قال: «بالشدائد؛ لأن كل أحد في الرخاء صديق»

(4)

.

قال الشاعر:

جَزَى اللهُ الشدائدَ كلَّ خَيرٍ

عرَفتُ بها عَدُوِّي من صَديقي

وقال الآخر:

كم من صديقٍ لنا أيامَ دَولَتِنا

قد كان يَمدَحُنا فصار يَهْجُونا

(5)

وقال الآخر:

فأنت أخي ما لم تكن ليَ حاجةٌ

فإن وُجِدتْ أيقنتُ أنْ لا أخا لِيَا

(6)

وقال الآخر:

صديقك حين تستغني كثير

وما لك عند فقرِك من صديقِ

(1)

أخرجه الطبراني في «الكبير» 12/ 453 (13646)، وفي «الأوسط» 6/ 139 (6026)، وفي «الصغير» 2/ 106 (861)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (906)، و «صحيح الجامع» (176).

(2)

أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» 7/ 87 (9573).

(3)

«الصداقة والصديق» ص 108.

(4)

المصدر السابق ص 71.

(5)

انظر: المصدر السابق ص 253.

(6)

المصدر السابق ص 137.

ص: 362

فلا تغضَبْ على أحدٍ إذا ما

طَوَى عنك الزيارةَ عند ضِيقِ

(1)

وهذا في الحقيقة لا يُعد صديقًا، ولا خير في صحبته، بل هو إلى العداوة أقرب، كما قال الشافعي رحمه الله

(2)

:

صديق ليس ينفَع يوم بُؤسٍ

قريبٌ من عدوٍّ في القياسِ

وقال أيضًا:

ولا خيرَ في خِلٍّ يَخُونُ خَليلَه

ويَلقاهُ من بعدِ المودةِ بالجَفَا

(3)

بل إن من الأصدقاء من لا يعرف صديقه إلا وقتَ الحاجة، فلا يزوره، ولا يدعوه، ولا يتصل به، ولا يسأل عنه، بل ينقطع عنه الأسابيع والشهور، وربما الأعوام، فإذا بدا له حاجةٌ سارع إلى الاتصال به، وهذا أسوأ حالًا من الأول.

3 أن يتوسط ويتوازن كل منهما مع الآخر، في الزيارات والاتصال، والمتطلبات، ونحو ذلك.

فإن كثرة الزيارات، وإطالة الجلوس، وكثرة الاتصال، وكثر المتطلبات والإلحاح تحدِث مَلَلًا، حتى إن بعض الأصدقاء يود أنه لم يعرف صديقه بسبب ذلك.

والعرب تقول: «زُرْ غِبًّا، تَزْدَدْ حُبًّا»

(4)

.

ورُوي في هذا حديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه

(5)

، وغيره.

(1)

المصدر السابق ص 273.

(2)

انظر: «ديوانه» (ص 68).

(3)

سيأتي.

(4)

انظر: «الصداقة والصديق» ص 120.

(5)

أخرجه أبو داود الطيالسي 4/ 268 (2658)، والحارث بن أبي أسامة كما في «بغية الباحث» 2/ 862 (920)، والبزار 16/ 191 (9315)، والخرائطي في «اعتلال القلوب» 2/ 295 (585)، وابن الأعرابي في «معجمه» 2/ 752 (1526)، والطبراني في «الأوسط» 2/ 210 (1754)، 6/ 9 (5641). وأخرجه البزار 9/ 380 (3963) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وأخرجه الطبراني في «الكبير» 4/ 21 (3535)، والحاكم (3/ 347) من حديث حبيب بن مسلمة. وأخرجه الطبراني في «الكبير» 13/ 70 (173) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال الهيثمي في «المجمع» (8/ 321):«رواه الطبراني وإسناده جيد» . وقد رُوي عن علي وجابر ومعاوية بن حيدة مرفوعًا، وعن عائشة موقوفًا. قال البزار:«ليس في «زر غِبًّا تَزدَدْ حبًّا» عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح».

ص: 363

قال الشاعر:

إذا شئتَ أن تُقلَى فزُرْ متتابعًا

وإن شئتَ أنْ تَزدادَ حُبًّا فزُرْ غِبَّا

(1)

وقال الآخر:

أقلِلْ زيارتَك الصديـ

ـقَ يراك كالثوبِ استجَدَّهْ

إن الصديق يُمِلُّه

ألا يزالَ يراك عندَهْ

(2)

4 أن يحذر كل منهما من كثرة المِزاح، مع أن المزاح أمر مطلوب، ولا بد منه بين المتعاشرين من الأصدقاء وغيرهم؛ لإزالة الوحشة بينهم، ولإدخال السرور والأنس، وإيجاد الثقة بينهم، فإن من لا يتحمل المزاح من صديقه في حدود المعقول والوسط، فليس بصديق، ولن يجد له صديقًا.

لكن ينبغي عدم الإكثار من المزاح والهَزْل؛ لأنه قد يُحدِث شرخًا في الصداقة والمودة.

قال الشاعر

(3)

:

مازِحْ صديقك ما أراد مِزاحَا

فإذا أباه فلا تَزِدْهُ جِماحَا

فلربما مَزَحَ الصديقُ بمزحةٍ

كانت لبدءِ عداوةٍ مِفتاحَا

ويعزز هذا أن هناك من الأصدقاء من يمزح مع صديقه، ولكنه لا يتحمل المزح من صديقه.

5 ينبغي أن يعلم الأصدقاء أن الصداقة مع طول المدة لا بد أن يَشُوبَها شيء من الكَدَر، وهذه طبيعة البشر، بل هي هذه طبيعة الحياة كلها، كما قال الشاعر:

طُبعتْ على كَدَرٍ وأنت تُريدها

صَفوًا من الأقذاءِ والأقدارِ

ومكلِّفُ الأيامِ ضدَّ طباعِها

متلمِّسٌ في الماءِ جَذوةَ نَارِ

(4)

(1)

انظر: «الصداقة والصديق» ص 121.

(2)

انظر: المصدر السابق ص 120.

(3)

انظر: «فصل المقال» (ص 111)، و «نهاية الأرب» (4/ 74).

(4)

البيتان لأبي الحسن التهامي. انظر: «ديوانه» (ص 48).

ص: 364

ولهذا لا بد بين الأصدقاء من التغافل والتغاضي عن بعض الأخطاء، والتسامح عن الزلات، والبعد عن سوء الظن، والحساسية المفرطة.

قال أبو قِلابة: «إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمسْ له العذر جهدك، فإن لم تجد له عذرًا فقل في نفسك: لعل لأخي عذرًا لا أعلمه»

(1)

.

وقال الشاعر:

وإذا ما أتتْ من صاحبٍ لك زَلةٌ

فكنْ أنتَ مُحتالًا لزلَّتِه عُذرا

(2)

قال الآخر

(3)

:

ومن لا يُغمض عينه عن صديقه

وعن بعض ما فيه يمُت وهو عائبُ

ومن يتتبع جاهدًا كل عثرةٍ

يجدها ولا يسلَم له الدهرَ صاحبُ

وقال الآخر:

أُعاتب إخواني وأُبقي عليهم

ولستُ بمستبقٍ أخًا لا أعاتبه

(4)

وقال أبو زبيد الطائي:

وأُغمِضُ للصديق عن المساوي

مخافةَ أن أعيشَ بلا صديقِ

(5)

وقال الآخر

(6)

:

ومَن يبغ الصديقَ بغيرِ عيبٍ

سيبقى الدهرَ ليس له صديقُ

وقال النابغة:

ولستَ بمُسْتَبْقٍ أخًا لا تَلُمُّه

على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّبُ

(7)

وقال الآخر:

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «مداراة الناس» (40)، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/ 285).

(2)

انظر: «الصداقة والصديق» ص 58.

(3)

سيأتي.

(4)

انظر: «الصداقة والصديق» ص 239.

(5)

المصدر السابق ص 42.

(6)

انظر: «السحر الحلال» (ص 83).

(7)

انظر: «جمهرة أشعار العرب» (ص 68)، و «الصداقة والصديق» ص 208.

ص: 365

أتطلُبُ صاحبًا لا عيبَ فيه

وأي الناسِ ليس له عيوبُ؟

(1)

وقال بشَّار بن بُرد

(2)

:

إذا كنت في كل الأمور معاتبًا

صديقَك لم تلقَ الذي لا تعاتبُهْ

فعِشْ واحدًا أو صِلْ أخاك فإنه

مُقارِفُ ذنبٍ تارَةً ومُجانبُهْ

إذا أنتَ لم تشرَبْ مِرارًا على القَذَى

ظَمِئتَ وأيُّ الناس تصفو مَشاربُهْ؟

ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلُّها

كفى المرءَ نُبلًا أن تُعدَّ مَعايبُهْ

وقال الآخر

(3)

:

إذا ذهب العتابُ فليس وُدٌّ

ويبقى الودُّ ما بَقِيَ العتابُ

وهذا لا يتنافى مع ما قبله، فإن العتاب اللطيف بين الأصدقاء، والصراحة بينهم أحيانًا في بعض الأمور قد تكون أولى من المجاملة التي قد تنفجر يومًا؛ فتؤدي إلى قطع الصداقة بالكلية.

6 ينبغي عدم التكلف في طلب الأصدقاء، فمن أقبل منهم وصفا، فعلى العين والرأس، ومن أدبر منهم وجفا، فلا يحسن التكلف في لحاقه، والركض وراءه، فلا خير في ذلك، وقد قال العامة:«المغصوبة ما فيها لبن» .

قال الشاعر

(4)

:

لا أبتغي وَصْلَ مَن يَبغي مُفارقتي

ولا ألِينُ لمَن لا يبتغي لِيني

والله لو كرِهت كفي مُصاحبتي

يومًا لَقُلتُ لها عن ساعدي بِيني

ثم التفتُّ إلى الأخرى وقلتُ لها

إن تسعديني وإلا مِثلَها كُوني

وقال الآخر:

ولا خيرَ في ودِّ امرئٍ متكارهٍ

عليك ولا في صاحبٍ لا تُوافقه

(5)

(1)

انظر: «الصداقة والصديق» ص 143.

(2)

انظر: «ديوانه» ص 326.

(3)

انظر: «العقد الفريد» (2/ 163).

(4)

الأبيات لعروة بن أذينة. انظر: «المستجاد من فعلات الأجواد» ص 27.

(5)

انظر: «ديوان المعاني» لأبي هلال العسكري (ص 160).

ص: 366

وقال الآخر:

ألا إن خير الودِّ ود تطوعتْ

له النفسُ لا وُدٌّ أتى وهو مُتعَبُ

(1)

وقال الشافعي رحمه الله

(2)

:

إذا المرءُ لم يرعاك إلا تكلُّفًا

فدَعْهُ ولا تُكْثِرْ عليه التأسُّفَا

ففي الناسِ أبدالٌ وفي التركِ راحةٌ

وفي القلبِ صبرٌ للحبيبِ ولو جَفَا

فما كلُّ مَن تهواهُ يَهواك قلبُه

ولا كلُّ من صافيتَه لك قد صَفَا

إذا لم يكن صفوُ الودادِ طبيعةً

فلا خيرَ في ودٍّ يجيء تكلُّفَا

ولا خيرَ في خِلٍّ يَخُونُ خَليلَه

ويلقاه من بعدِ المودةِ بالجَفَا

ويُنكِرُ عيشًا قد تقادمَ عَهْدُه

ويُظهِر سرًّا كان بالأمسِ قد خَفَا

سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن بها

صديقٌ صدوقٌ صادقُ الوعدِ مُنْصِفَا

7 نظرًا لقلة الصديق الوفي، ولكون الصداقة إنما هي للحاجة، فالأولى عدم الإكثار من الأصدقاء، والاكتفاء بما خلص منهم وصفا، وبقدر الحاجة؛ لأن كثرتهم سبب لكثرة الدخيل فيهم، وعدم الموثوق، ولأن في كثرتهم ثقل ومشغلة للإنسان، وتضييع لكثير من حياته، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«إن لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإن لزَوْرِكَ عليك حقًّا»

(3)

.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «الإخوان بمنزلة النار، قليلها متاع، وكثيرها بَوَار»

(4)

.

وقال ابن الرومي

(5)

:

عدوُّك من صديقِك مُستفاد

فلا تَستكثرنَّ منَ الصحابِ

(1)

انظر: «الصداقة والصديق» ص 116.

(2)

انظر: «ديوانه» ص 81.

(3)

أخرجه البخاري في الصوم (1974، 1975)، وفي الأدب (6134)، ومسلم في الصيام (1159)، والنسائي في الصيام (2391)، وأحمد 3/ 198 (6867) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(4)

انظر: «الصداقة والصديق» ص (49).

(5)

انظر: «بهجة المجالس» ص (149).

ص: 367

فإن الداءَ أكثرَ ما تراه

يَحُول من الطعامِ أو الشرابِ

إذا انقلب الصديق غدَا عدوًّا

مُبينًا، والأمورُ إلى انقلابِ

ولو أن الكثيرَ يَطِيبُ كانت

مصاحبةُ الكثيرِ منَ الصوابِ

وما اللُّجَجُ المِلاحُ بمُرْوِيَاتٍ

وتَلقَى الرِّيَّ في النُّطَفِ العِذابِ

‌همسة:

إذا لم يجد الإنسان من الأصدقاء إلا من تضره صحبته وصداقته، فالوَحدةُ خير من جليس السوء، والسلامة لا يعدِلها شيء، فعلى المرء أن يجعل جليسه كتاب الله تعالى، ففيه غنية عن كل جليس، ويجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم في النظر في سنته وسيرته وشمائله، ويجالس أهل العلم والأدب في كتبهم، قال الشاعر:

اجعَلْ جليسَكَ مَجموعًا تُطالعه

لتستفيدَ من الآدابِ والحِكَمِ

واترُكْ مَجالسَ أقوامٍ تُجالسُهم

فتكسب الإثمَ من سمع ومن كَلِمِ

وقال الآخر:

أعزُّ مكانٍ في الدُّنا سَرْجُ سابحٍ

وخيرُ جليسٍ في الزمانِ كتابُ

وقال الشافعي رحمه الله

(1)

:

إذا لم أجد خِلًّا تقيًّا فوَحدتي

ألذُّ وأشهى من غَوِيٍّ أُعاشرُهْ

وأجلسُ وَحدِي للعبادةِ آمنًا

أقرُّ لعيني من جَليسٍ أُحاذرُهْ

وقال عبيد الله بن عبد الله:

وَحدةُ الإنسانِ خيرٌ

من جليسِ السَّوءِ عندَهْ

وجليسُ الصدقِ خيرٌ

من جلوسِ المرءِ وَحدَهْ

(2)

(1)

انظر: «ديوانه» ص (7).

(2)

«الصداقة والصديق» ص (309).

ص: 368

‌وقفات ست في: أهمية الوقت،

ووجوب المحافظة عليه، وتنظيمه

قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47]

‌الوقفة الأولى في:

أهمية الوقت، ووجوب المحافظة عليه

الوقت: هو عمر الإنسان في هذه الحياة، وهو رأس ماله الذي يجب أن يحافظ عليه محافظةً تامةً؛ ولهذا أقسم الله عز وجل به في القرآن الكريم، في آيات كثيرة، قال تعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].

وقال تعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 1 - 4]، وقال تعالى:{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس: 1 - 4]، وقال تعالى:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1، 2]، وقال تعالى:{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 1، 2].

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قَدَمَا عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن: عُمُره فيم أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مَغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ»

(2)

.

(1)

أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2417) من حديث أبي بَرْزة الأسلمي رضي الله عنه. قال الترمذي: «حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (946).

(2)

أخرجه البخاري في الرقاق (6412)، والترمذي في الزهد (2304)، وابن ماجه في الزهد (4170)، وأحمد 1/ 344 (3207) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 369

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اغتنِمْ خمسًا قبل خمس:

وفراغك قبل شُغلِك، وحياتك قبل موتك»

(1)

.

وبه أعذر الله عز وجل إلى الخلق، قال تعالى:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37].

وقال صلى الله عليه وسلم: «أعذرَ اللهُ إلى امرئٍ أخَّر أجَله، حتى بلَّغه ستين سنةً»

(2)

.

قال ابن الجوزي رحمه الله: «ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قُربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة، من غير فُتور، بما لا يعجز عنه البدء من العمل»

(3)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: «وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة المعيشة الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مر السحاب، فمن كان وقته لله وبالله، فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته، فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو، والأمانيِّ الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة، فموت هذا خير له من حياته»

(4)

.

قال الحسن البصري رحمه الله: «يا ابن آدم، إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضُك»

(5)

.

قال الشاعر:

يسرُّ المرءَ ما ذهب الليالي

وكان ذهابُهنَّ له ذهابَا

(6)

(1)

أخرجه الحاكم (4/ 306)، والبيهقي في «الشعب» 7/ 263 (10248). قال الحاكم:«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» . وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (1077).

(2)

أخرجه البخاري في الرقاق (6419)، وأحمد 2/ 275 (7713) من أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

«صيد الخاطر» ص (22).

(4)

«الجواب الكافي» ص (109).

(5)

أخرجه أحمد في «الزهد» (1609)، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 148).

(6)

البيت مجهول القائل، انظر:«المفصل في صنعة الإعراب» ص (429)، و «شرح تسهيل الفوائد» لابن مالك (1/ 225)، «المعجم المفصل في شواهد العربية» (1/ 105)، و «شرح الشواهد الشعرية في أمَّات الكتب النَّحْوية» (1/ 102).

ص: 370

وقال الآخر:

إنا لنفرَحُ بالأيام نقطَعُها

وكل يومٍ مَضَى جزء من العُمرِ

(1)

وقال الآخر:

المرءُ يفرَحُ بالأيامِ يَقطَعُها

وكل يومٍ يدنِّيه من الأَجَل

(2)

‌الوقفة الثانية في:

التحذير من التفريط في العمر، وإضاعة الوقت

عمر الإنسان في هذه الحياة أيام معدودة، وساعاته فيها محدودة، وأنفاسه فيها محسوبة، وكل وقت يمر عليه فيها بلا عمل يقربه إلى الله تعالى، فهو خسارة، كما قال تعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].

وقال صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس؛ الصحة والفراغ»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو مُوبِقُها»

(4)

.

وشتان شتان بين مُعتق نفسه باستغلال عمره ووقته بالأعمال الصالحة، وبما ينفعه، وبين موبقها بالتفريط في عمره، وإضاعة وقته باللهو واللعب والغفلة، أو بما يضره.

قال يحيى بن معاذ: «إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت انقطاع عن

(1)

البيت مجهول القائل، انظر:«الدر الفريد وبيت القصيد» (4/ 463، 9/ 460)، و «روض الأخيار، المنتخب من ربيع الأبرار» ص (352).

(2)

البيت مجهول القائل، انظر:«البصائر والذخائر» (5/ 102)، و «زهر الآداب» (1/ 367).

(3)

سبق تخريجه قريبًا.

(4)

أخرجه مسلم في الطهارة (223)، والترمذي في الدعوات (3517)، وابن ماجه في المقدمة (280)، وأحمد 5/ 342 (22902) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

ص: 371

الحق، والموت انقطاع عن الخلق»

(1)

.

وقد قيل: «الأيام ثلاثة: أمس قد مضى بما فيه، وغدًا لعلك لا تُدرِكه، وإنما هو يومك هذا، فاجتهد فيه»

(2)

.

قال الشافعي رحمه الله

(3)

:

إذا مرَّ بي يومٌ ولم أستفِدْ هُدى

ولم أكتسِبْ عِلمًا فما ذاك من عُمري

قال ابنئا إلى آخرها لا تساوي غمَّ ساعة، فكيف بغم العمر؟!

محبوبُ اليومِ يَعقُبه المكروه غدًا، ومكروه اليوم يعقبه المحبوب غدًا.

أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها وأنفع لها في معادها.

كيف يكون عاقلًا من باع الجنة بما فيها لشهوة ساعة؟!»

(4)

.

ولقد كان من أعظم أسباب تأخر العرب والمسلمين في الوقت الحاضر، وتخلفهم عن ركب الحضارة التفريط في الوقت، وإضاعته، وقتله، وعدم الاهتمام به.

‌الوقفة الثالثة في:

أعظم أسباب التفريط في العمر: الخواء الروحي، وعدم التصور التام للهدف الذي خُلق الإنسان من أجله

إن من نعمة الله عز وجل على المؤمن أن رسم عز وجل له أعظم هدف للحياة، وهو عبادة الله

(1)

انظر: «الفوائد» لابن القيم ص (33)، و «موارد الظمآن لدروس الزمان» لعبد العزيز بن محمد السلمان (4/ 468 - 469).

(2)

أورد ابن الجوزي في «صفوة الصفوة» (2/ 235) عن سفيان بن عيينة قال: «كان يقال: الأيام ثلاثة: فأمس حكيم مؤدب ترك حكمته وأبقاها عليك، واليوم صديق مودع كان عنك طويل الغيبة حتى أتاك ولم تأته، وهو عنك سريع الظعن، وغدًا لا تدري أتكون من أهله أو لا تكون» .

(3)

انظر: «غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب» للسفَّاريني (2/ 444).

(4)

انظر: «الفوائد» لابن القيم ص (31).

ص: 372

تعالى وحده، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]

هدف تقصُر دونه جميع الأهداف الدنيوية والمالية، على كثرتها واختلافها، وتنوعها وتعددها؛ اقتصادية، وسياسية، أو غيرها من اعتلاء المناصب، وتحقيق الرغبات النفسية، وغير ذلك.

هدف يَرقَى بصاحبه إلى الثريا، وإلى قمة السعادة في الدنيا والآخرة، ويجمع له بين خيريِ الدنيا والآخرة، كما قال تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} القصص: 77]، وقال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69].

وقال صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابتْه سرَّاء شكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبَر، فكان خيرًا له»

(1)

.

هدف به يسعد الإنسان في الدنيا، وبه في الآخرة يُزحزَح عن النار، ويدخل الجنة، دار القرار، ويفوز برؤية العزيز الجبار.

فانتبه لهذا بارك الله فيك، واعلم أن العمر غالٍ ونفيس، فاعمُرْه بما يقرِّبك إلى الله تعالى، وما ينفعك غدًا، ولا يكن همك تزجية الأوقات، وتقطيع أيام العمر في اللهو والغفلات، والأسفار والتنزهات، أو في جمع الأموال، تندم غدًا ولات ساعة مَندم، وتأملْ قوله صلى الله عليه وسلم:«كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسَهُ فمُعتِقها أو مُوبِقها» ؛ أي: كل الناس يسير ويقطع هذه الحياة، فمن سائرٍ في طريق الخير، فمعتق نفسه من النار، ومن سائر في طريق الشر، فموبقها في النار.

قال الشاعر:

(1)

سبق تخريجه.

ص: 373

قد رشحوك لأمرٍ لو فطِنت له

فارْبَأْ بنفسِكَ أن تَرعَى مع الهَمَلِ

(1)

وقال الآخر:

الأمر جدٌّ وهو غير مِزاح

فاعمَلْ لنفسِك صالحًا يا صاحِ

(2)

وقال الآخر:

سوف ترى إذا انجلى الغبارُ

أفرسٌ تحتك أم حِمارُ

(3)

رأى بعض السلف أخًا له مجتهدًا في العبادة، فقال له:«أتعبتَ نفسَك!» ، فأجابه بقوله:«راحتَها أُريد»

(4)

.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه

(5)

:

وما المرء إلا حيثُ يجعَلُ نفسَه

فكن طالبًا في الناسِ أعلى المراتبِ

وقال لَبِيد

(6)

:

وما الناس إلا عاملان فعاملٌ

يُتَبِّرُ ما يَبني وآخر رافعُ

وقال ابن هانئ

(7)

:

فلم أجدِ الإنسانَ إلا ابنَ سَعيِه

فمن كان أسعى كان بالمجدِ أجدرَا

ولم يتأخَّرْ مَن يريدُ تَقدُّمًا

ولم يتقدَّمْ مَن أراد تأخُّرَا

وقال الآخر:

إذا غامرت في شرفٍ مَرُومِ

فلا تَقنَعْ بما دونَ النُّجومِ

(8)

(1)

البيت للطغرائي، انظر:«لامية العجم» ص (124).

(2)

البيت لنشوان الحِميري، انظر:«ملوك حمير وأقيال اليمن» ص (1).

(3)

انظر: «الدر الفريد وبيت القصيد» (6/ 457)، و «الاستعداد للموت وسؤال القبر» ص (66)، و «زهر الأكم في الأمثال والحكم» (3/ 77).

(4)

أخرجه أبو بكر الدِّينَوري في المجالسة وجواهر العلم 4/ 47 (1204) عن الربيع بن خثيم والثوري.

(5)

«ديوانه» ص (15).

(6)

«ديوانه» ص (56).

(7)

«ديوانه» ص (140).

(8)

البيت للمتنبي، وهو في «ديوانه» ص (232)، «شرح ديوان المتنبي» للعكبري (1/ 166).

ص: 374

وقال الآخر:

ومَن تكنِ العلياءُ همةَ نفسِه

فكل الذي يَلقاه فيها مُحببُ

(1)

وقال الآخر:

إذا أنتَ لم تعرِفْ لنفسِك حقَّها

هوانًا بها كانت على الناسِ أهونا

(2)

وقال الآخر:

مَن يَهُنْ يسهلِ الهوانُ عليه

ما لجُرحٍ بميِّتٍ إيلامُ

(3)

وقال الآخر:

ومَن يتهيبْ صعودَ الجبالِ

يبِتْ أبدَ الدهرِ بينَ الحُفَرْ

(4)

‌الوقفة الرابعة في:

أن الوقت يمضي سريعًا

الوقت يمضي سريعًا كسرعة البرق الخاطف، فلا يمكن الإمساك بعقارب الساعة.

وقد قيل: «الوقت كالسيف، إن لم تقطعْه قطعك»

(5)

.

وقال الشاعر:

دقاتُ قلبِ المرءِ قائلةٌ له

إن الحياةَ دقائقٌ وثوانِي

(1)

البيت لمحمود سامي البارودي، انظر:«جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب» (2/ 277)، «صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال» للقاضي حسين بن محمد المهدي (2/ 329).

(2)

البيت مجهول النسب. انظر: «الدر الفريد» (2/ 367)، و «أدب الدنيا والدين» ص (320).

(3)

البيت للمتنبي، انظر:«ديوانه» ص (164).

(4)

البيت لأبي القاسم الشابي، انظر:«ديوانه» ص (70).

(5)

انظر: «مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح» للملا علي القاري (4/ 1581)، و «صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال» للقاضي حسين بن محمد المهدي (2/ 341).

ص: 375

فارفعْ لنفسِك بعد موتِك ذِكرَها

فالذِّكرُ للإنسانِ عُمرٌ ثاني

(1)

وهذا يوجب على المسلم الحزم في تنظيم الوقت، واستغلاله قبل أن يندم على التفريط، وضياع عمره.

قال بعض السلف: «ما ندِمت على شيء ندمي على يوم غربت عليَّ فيه شمسه، نَقَصَ فيه عمري، ولم يزدد عملي» .

وقال الشاعر:

فيا ليت الشبابَ يعودُ يومًا

فأُخْبِرَه بما فعل المَشيبُ

بكيتُ على الشبابِ بدمعِ عيني

فلم يُفِدِ البكاءُ ولا النَّحيبُ

(2)

‌الوقفة الخامسة في:

تنظيم الوقت

اهتم الإسلام بتنظيم الوقت، وهو ما يسميه أهل العلم رحمهم الله:«عمل اليوم والليلة» ، ويظهر هذا الاهتمام من جانبين:

الجانب الأول: من خلال عناية القرآن الكريم، والسنة النبوية؛ ببيان أهمية الوقت، وأهمية عمر الإنسان في هذه الحياة، كما سبق بيانه.

الجانب الثاني: من خلال تحديد أوقات العبادات البدنية؛ الفعلية والقولية؛ كالصلاة، والصيام، والحج، والذكر، والاستغفار، وتحديد أوقات العبادات المالية، ومن خلال جعل الأيام والليالي خزائن للأعمال الصالحة.

قال تعالى في الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103]، وقال تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، وقال: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ

(1)

البيتان لأمير الشعراء أحمد شوقي، انظر:«الشوقيات» (3/ 158).

(2)

البيتان لأبي العتاهية. انظر: «ديوانه» ص (23).

ص: 376

الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].

وفي هذا تنظيم أوقات الصلوات الخمس كلها، وقيام الليل، ومثله قوله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]، وقال تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} [الإنسان: 26]، وقال تعالى:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 7 - 8].

وقال صلى الله عليه وسلم: «من صلى البُردَينِ دخل الجنة»

(1)

؛ يعني: صلاة الفجر، وصلاة العصر.

وقال صلى الله عليه وسلم: «فإنِ استطعتم ألا تُغلَبوا على صلاةٍ قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، فافعلوا»

(2)

.

وعن جُندَب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى الصبحَ فهو في ذمةِ الله، فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيءٍ، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يُدرِكه ثم يكبه على وجهه في نار جهنم»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاة الصبح كان في جوار الله حتى يُمسيَ، ومن صلى العصر كان في جوار الله حتى يصبح»

(4)

.

وقال تعالى في الصيام: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]، وقال تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185].

وقال تعالى في الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وقال تعالى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203].

وقال تعالى في الذكر: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ

(1)

أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (574)، ومسلم في الموضع السابق (635) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في المواقيت (554)، ومسلم في المساجد (633)، وأبو داود في السنة (4729)، والترمذي في صفة الجنة (2551)، وابن ماجه في المقدمة (177) من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم في المساجد (657)، والترمذي في الصلاة (222)، وأحمد 4/ 312 (18803).

(4)

أخرجه نعيم بن حماد في «الفتن» 1/ 176 (468) عن زيد بن أسلم عمن حدثه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 377

كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].

وقال تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198].

وقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45].

وقال تعالى في التسبيح، وهو محمول على معناه، وعلى الصلاة في أكثر الآيات:{وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [آل عمران: 41]، وقال تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130]، وقال تعالى:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20].

وقال تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36]، وقال تعالى:{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17]، وقال تعالى:{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42]، وقال تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55]، وقال تعالى:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18]، وقال تعالى:{فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]، وقال تعالى:{وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9].

وقال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق 39 - 40]، وقال تعالى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور 48 - 49]، وقال تعالى:{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 26].

وقال تعالى في الاستغفار: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199]، وقال تعالى:{وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17].

ومن مجموع هذه الآيات في تحديد أوقات العبادات من الصلاة وغيرها، يؤخذ أهمية تنظيم الوقت، فوقت للعبادة، ووقت للعمل، ووقت للأكل، ووقت للراحة، ووقت

ص: 378

للنوم، وهكذا.

كما يؤخذ منها أن الهيكل الرئيس لتنظيم الوقت وعمل اليوم والليلة هي أوقات الصلاة الخمس، فإن المسلم- ولله الحمد والمنة- يجد بعد كل صلاة حيوية ونشاطًا- بفضل الله عز وجل وبركة الصلاة، وحسن مبادئ هذا الدين الحنيف، وكأن المسلم بعد الصلاة يستقبل يومًا جديدًا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، اللهم لك الحمد.

‌نموذج لتنظيم الوقت وعمل اليوم والليلة:

1 يبدأ المسلم يومه بعد القيام من الليل بالوتر، ثم بعد طلوع الفجر، يصلي راتبة الفجر، ثم يصلي الفجر، ثم يأتي بالأذكار بعدها، ثم أوراد الصباح.

2 الوقت بعد صلاة الفجر وقت مبارك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «بورك لأمتي في بكورها»

(1)

، فيحسن أن يستغله المسلم في الجلوس في مصلاه، في الذكر، وقراءة القرآن، ومذاكرة الدروس، ونحو ذلك، ومن ثَمَّ صلاة الضحى بعد ارتفاع الشمس قدر رُمح فأكثر، ومن ثم تناول الإفطار.

3 الوقت بعد ذلك يُستغل في الدراسة والعمل حتى دخول وقت الظهر.

4 صلاة الظهر والرواتب قبلها وبعدها، والأذكار بعدها.

5 تناول الغداء، والراحة بعد ذلك.

6 صلاة العصر، والأذكار بعدها، والأوراد المسائية.

7 ما بعد ذلك يُستغل في العمل، أو في القراءة، أو المذاكرة، وأخذ قسط من الرياضة.

8 صلاة المغرب، والأذكار بعدها، والراتبة، والأوراد إن لم يكن أتى بها بعد العصر.

9 بعد المغرب الجلوس مع الأهل، وزيارة الأقارب، أو الأصدقاء، أو المرضى.

10 صلاة العشاء، والأذكار بعدها، وراتبتها، والوتر لمن يشق عليه القيام من الليل.

(1)

أخرجه أبو داود في الجهاد (2606)، والترمذي في البيوع (1212)، وابن ماجه في التجارات (2236)، وأحمد 3/ 417 (15557) من حديث صخر الغامدي رضي الله عنه. قال الترمذي:«حديث حسن» . وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (2345).

ص: 379

11 بعد ذلك تناول العشاء، ومن ثم القراءة في كتب العلم والمذاكرة، دون إطالة، ثم الاسترخاء للراحة والنوم؛ قال صلى الله عليه وسلم:«يُكره النومُ قبلها، والحديثُ بعدها»

(1)

.

وهذا الترتيب والتنظيم من حيث العموم، والناس تختلف ظروفهم وأحوالهم وحاجاتهم، وأعمالهم، وقدارتهم، وغير ذلك، فما يناسب هذا قد لا يناسب هذا، وما يستطيعه هذا، قد لا يستطيعه غيره، وهكذا.

لكن على المسلم أن يحرص على تنظيم وقته بما يناسبه، ويحذر كل الحذر أن تنصرم أيام عمره وتضيع في اللهو والغفلات، واتباع هوى النفس والشهوات.

قال الوزير الصالح يحيى بن زهير:

والوقت أنفسُ ما عُنِيتَ بحِفظِه

وأُراه أسهلَ ما عليك يَضيعُ

(2)

‌الوقفة السادسة في:

أعظم أسباب ضياع الوقت وعدم القدرة على تنظيمه

من أعظم أسباب ضياع الوقت، وعدم القدرة على تنظيمه: قلب الفطرة بالسهر ليلًا، والنوم نهارًا.

فقد فطر الله عز وجل الخلائق؛ الإنس والجن والحيوانات، وسائر المخلوقات على الفطرة السوية، كما قال تعالى:{الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50]؛ أي: خلق كل شيء وسواه، ثم هدى كل مخلوق لما خلق له.

وقال تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3]؛ أي: قدر عز وجل مقادير الخلائق، وهدى كل مخلوق لما قدر له.

(1)

أخرجه البخاري في المواقيت (547)، ومسلم في المساجد (647)، وأبو داود في الصلاة (398)، والنسائي في المواقيت (495)، وابن ماجه في الصلاة (701) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه.

(2)

انظر: «الآداب الشرعية» (2/ 646)، و «ذيل طبقات الحنابلة» (2/ 167).

ص: 380

وجعل سبحانه الليل لباسًا، وسكنًا، ووقتًا للراحة والنوم، وجعل النهار مبصرًا ومضيئًا، ونشورًا ومعاشًا؛ لابتغاء الفضل والرزق من الله عز وجل.

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 67]، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12].

وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47]، وقال تعالى:{أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل: 86].

وقال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 73]، وقال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [غافر: 61]، وقال تعالى:{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ 10 - 11].

هكذا فطر الله الخلائق، وأنعم عليهم بالليل، وجعله مظلمًا ليسكنوا، ويستريحوا فيه، وأنعم عليهم بالنهار، وجعله مبصرًا مضيئًا؛ لينتشروا فيه؛ لطلب الرزق والمعاش، فاهتدى لذلك أكثر الخلائق، بما في ذلك العجماوات من الحيوانات، والطيور، وغيرها.

فكانت تغدو في الصباح الباكر لطلب المعاش خِمَاصَ البطون، وتَرُوح في المساء إلى مَراحها وأوكارها مليئة البطون.

وخالف هذه الفطرة السوية من انتكست فطرتهم من بني آدم، بالسهر ليلًا، والنوم نهارًا، فاضطربت حياتهم، وضاعت أوقاتهم، واختل كثير من أمر دينهم ودنياهم، وكان لذلك أثره في صحتهم؛ في أبدانهم، وعقولهم، ونفسياتهم، وفقدوا بسبب ذلك كثيرًا من لذة الحياة وسعادتها التي ظفر بها غيرهم، حتى العجماوات.

ص: 381

‌وقفتان في: سلامة القلب

قال الله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]

‌الوقفة الأولى في:

فضيلة سلامة القلب، وانشراح الصدر

سلامة القلب، وانشراح الصدر من أفضل الصفات، وأجلِّ الصفات، وأزكى الخِلال، وأعظم أسباب السعادة والتوفيق في الدين والدنيا والآخرة، وذلك لما يأتي:

1 أن سلامة القلب، وانشراح الصدر من أعظم أسباب الهداية والتوفيق من الله تعالى، كما قال تعالى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125].

وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22].

2 أن ذلك من أعظم أسباب التوفيق بإذن الله تعالى، للإخلاص لله، واجتناب الشرك والمعاصي، ومن أعظم أسباب شكر الله تعالى، امتدح الله عز وجل به خليله إبراهيم عليه السلام، وجعله قدوة في الخير، قانتًا لله تعالى، مستقيمًا على التوحيد، مائلًا عن الشرك، مجتنبًا له، شاكرًا لأنعُم الله عز وجل، اجتباه، وهداه إلى صراط مستقيم، وآتاه في الدنيا حسنة، وجعله في الآخرة من الصالحين، قال تعالى:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83، 84].

وقال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ

ص: 382

اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 120 - 122].

3 أن ذلك من أخص صفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأهم مطالبهم، وأعظم ما امتن الله عز وجل به عليهم، وصف الله عز وجل به إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى:{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83، 84].

وسأل موسى عليه السلام ربه ذلك، فقال:{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25].

وامتن الله عز وجل به على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقال:{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1].

4 أن الله عز وجل امتدح به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار رضي الله عنهم، فقال:{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

5 أن الله عز وجل امتدح به من جاء بعد الصحابة من المؤمنين، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

6 أنه سبب لسلامة القلب على جميع المسلمين، حُكامًا ومحكومين، ومحبتهم، والدعاء لهم، والنصيحة، ولزوم جماعتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:«ثلاث لا يُغَلُّ عليهم قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم»

(1)

.

7 صاحب القلب السليم قدوة صالحة عظيمة، في الدعوة إلى الخير والإصلاح، في تعامله وأخلاقه؛ لأن التربية بالفعل أقوى تأثيرًا من التربية بالقول.

8 أن من منحه الله سلامة الصدر وانشراح القلب من أقوى الناس- بعون الله تعالى

(1)

أخرجه الترمذي في العلم (2658)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في المقدمة (230)، وأحمد 4/ 183 (21590) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في المناسك (3056)، وأحمد 4/ 80 (16738) من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه. وصححه الألباني في «الصحيحة» (404).

ص: 383

وتوفيقه- على الصبر، والعفو، والصفح، وكظم الغيظ، وترك الغضب، والدفع بالتي هي أحسن، كما قال تعالى:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35، 36].

9 أن ذلك سبب للسلامة من العداوة، والبغضاء، والشحناء، والحقد، والحسد، وسوء الظن، وغير ذلك من أمراض القلوب.

قال ابن رجب

(1)

رحمه الله: «فأفضل الأعمال: سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها، وأفضلها: السلامة من شحناء الأهواء والبدع، التي تقتضي الطعن على سلف الأمة، وبغضهم والحقد عليهم، واعتقاد تكفيرهم، أو تبديعهم وتضليلهم، ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين، وإرادة الخير لهم، ونصيحتهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه» .

10 أنه سبب للسلامة من الغِيبة، والنميمة، فلا رواج لهما عند سليم القلب، منشرح الصدر، لا تحدثًا بهما، ولا نقلًا لهما، ولا استماعًا إليهما.

11 أن ذلك من علامات ودلائل حسن الدين، والاستمساك بالعروة الوثقى، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]، وقال تعالى:{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22].

عن سفيان بن دينار، قال: قلت لأبي بشر: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا؟ قال: «كانوا يعملون يسيرًا، ويؤجرون كثيرًا» . قال سفيان: ولم ذاك؟ قال أبو بشر: «لسلامة صدورهم»

(2)

.

12 أنه لا ينفع يوم القيامة سوى سلامة القلب، كما قال تعالى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89].

13 أنه سبب لدخول الجنة، والأجر، والسلامة من الخوف والحزن، كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ

(1)

في «لطائف المعارف» ص (139).

(2)

«الزهد» لهنَّاد بن السري 6/ 2000.

ص: 384

كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 111 - 112].

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا

» الحديث

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول زُمرةٍ تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والذين على آثارهم كأحسن كوكب دُرِّيٍّ في السماء إضاءة، قلوبهم على قلب رجل واحد، لا تباغض بينهم ولا تحاسد»

(2)

.

14 أنه من أعظم نعيم الجنة، كما قال تعالى:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]، وقال تعالى:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43].

15 أن من كان سليم القلب، منشرح الصدر، يعيش في جنة وسعادة ونعيم في الدنيا قبل الآخرة، مع ما عند الله تعالى له في الآخرة.

قال ابن القيم

(3)

: «القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة يوم المعاد» .

وهذا لا يدركه إلا من منحه الله تعالى سلامة القلب، وانشراح الصدر.

قال الشاعر:

من سالم الناسَ يَسلَم من غوائلهم

وعاش وهو قَريرُ العينِ جَذْلانُ

(4)

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري في بدء الخلق (3245، 3254)، وفي أحاديث الأنبياء (3327)، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها (2834)، والترمذي في صفة الجنة (2537).

(3)

انظر: «بدائع التفسير» 3/ 327.

(4)

البيت لأبي الفتح البستي. انظر: «تاريخ الإسلام» للذهبي (9/ 32)، و «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (5/ 295)، «حياة الحيوان الكبرى» للدميري (1/ 251).

ص: 385

‌الوقفة الثانية:

أسباب سلامة القلب، وانشراح الصدر

أسباب سلامة القلب، وانشراح الصدر كثيرة جدًّا، لمن وفقه الله تعالى للأخذ بها، من أهمها ما يلي:

أولًا: صدق الإيمان بالله تعالى، والإخلاص له وحده لا شريك له، والاستقامة على دينه، وشرعه، وخوفه، ورجائه.

ثانيًا: ملازمة العبد دعاء ربه عز وجل، وسؤاله الهداية، وانشراح صدره، وثبات قلبه وصلاحه، وسلامته من الشك، والكفر، والنفاق، ومن الحقد، والحسد، والغل، والزَّيغ، وغير ذلك من أمراض القلوب، كما قال موسى عليه السلام:{رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25]

وكما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: «يا مقلِّبَ القلوب، ثبِّت قلبي على دينك»

(1)

، ويقول صلى الله عليه وسلم:«يا مصرِّفَ القلوبِ صرِّف قلوبنا على طاعتك»

(2)

.

وكما امتدح عز وجل الراسخين في العلم بقولهم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8].

وامتدح عز وجل المؤمنين بقولهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

وهكذا كان دأب الصالحين ملازمة الدعاء بصلاح القلب؛ لمعرفتهم التامة أن في صلاح القلب صلاحَ الجسد كله، وبذلك صلاح أمر دينهم ودنياهم وأخراهم، وهكذا كان شأن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، كان لا يفتر في مجالسه، وفي تنقلاته، وتقلباته، وسائر أحواله من قوله:«اللهم أصلح لي قلبي» ، عرَف هذا عنه القريب والبعيد، والقاصي والداني، رحمه الله رحمة واسعة، وجمعنا وإياه وجميع المسلمين، في دار كرامته عز وجل.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه مسلم في القدر (2654)، وأحمد 2/ 168 (6569) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

ص: 386

ثالثًا: تعاهد القلب ومراقبته، والحرص على سلامته، التي بها النجاة يوم القيامة، كما قال تعالى:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89]؛ أي: سليم:

أولًا: من الشبهة، والشك، والشرك، والكفر، والنفاق، والرياء، والكبر، ونحو ذلك، مخلص العبادة لله تعالى وحده؛ لأن العمل لا يُقبل إلا إذا كان خالصًا لله تعالى، موافقًا لشرعه، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]؛ أي: أخلص العمل لله تعالى، وهو متبع شرع الله.

وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]؛ أي: أخلصه وأصوبه.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صُوَرِكم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»

(1)

.

وسليم ثانيًا: من الحسد، والحقد، والغل على عباد الله، نقي السريرة، سليم القلب والصدر على إخوانه المسلمين، لا يحمل على أحد منهم لا غلًّا، ولا حقدًا، ولا حسدًا، ولا عداوةً، ولا بغضاءَ، ولا شحناءَ، كما قال صلى الله عليه وسلم:«مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى»

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا؛ المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذُله، ولا يحقره، التقوى هاهنا» ويشير إلى صدره ثلاث مرات «بحسْب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعِرضه»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2564)، وابن ماجه في الزهد، القناعة (4143)، وأحمد 2/ 284 (2827).

(2)

أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2586)، وأحمد 4/ 270 (18373) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2564)، وأحمد 2/ 277 (7727).

ص: 387

قال الشاعر:

لا يحملُ الحقدَ من تعلو به الرتبُ

ولا ينال الرضا من طَبعُه الغضبُ

(1)

رابعًا: إفشاء السلام، فهو من أعظم أسباب سلامة القلوب وصفائها؛ قال صلى الله عليه وسلم:«ألا أدُلكم على شيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم»

(2)

.

خامسًا: النصح للمسلمين، وعدم الغش لأحدٍ منهم، كما قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه:«بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم»

(3)

.

وعن تميمٍ الداريِّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الدين النصيحة» قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم»

(4)

.

سادسًا: محبة الخير للمسلمين جميعًا؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»

(5)

.

سابعًا: حسن الظن بإخوانه المسلمين، وحمل ما يصدر منهم على المحمل الحسن ما أمكن ذلك، والحذر من سوء الظن، فإن سوء الظن يُوغِر الصدور، ويغرس في القلوب الحقد والغل والكراهية، على لا شيء؛ لهذا نهى الله عز وجل عنه وحرمه، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث»

(6)

.

(1)

البيت لعنترة بن شداد. انظر: «ديوانه» ص (10).

(2)

سبق تخريجه

(3)

سبق تخريجه.

(4)

أخرجه مسلم في الإيمان (55)، وأبو داود في الأدب (4944)، والنسائي في البيعة (4197). وأخرجه النسائي في الموضع السابق (4199)، والترمذي في البر والصلة (1926) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

في «تفسيره» 7/ 357.

(6)

أخرجه مالك في حسن الخلق (2/ 907)، والبخاري في النكاح (5143)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2563)، وأبو داود في الأدب (4917)، والترمذي في البر والصلة (1988).

ص: 388

قال ابن كثير رحمه الله

(1)

: «ورُوينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ولا تظنن بكلمةٍ خرجت من أخيك المسلم إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير مَحمَلًا»

(2)

.

ومن سلامة القلب، والنصح للمسلمين، ومحبة الخير لهم، وحسن الظن بهم: أن يكون المرء واضحًا مع إخوانه المسلمين، فلا يُضمِر لهم خلاف ما يُظهِر، ويحذر من صفة ذي الوجهين الذي إذا قابل أخاه أبدى له احترامًا وتقديرًا، فإذا غاب عنه بخل بالرد عليه على الهاتف، وما أكثر هؤلاء!

ويحذر أيضًا من أن يتقمص الشخصية الغامضة مع إخوانه، معتقدًا أن ذلك من الحِذق، والمهارة، والذكاء، والدهاء، والعقل، وما علم أن هذا من الجهل، وعدم التوفيق، وسوء الحظ والغباء.

وصدق القائل:

إذا ساء فِعلُ المرء ساءتْ ظُنونُه

وصدَّق ما يعتادُه مِن تَوَهُّمِ

وعادى مُحِبِّيه بقول عداتِه

وأصبح في ليلٍ من الشكِّ مُظلِمِ

(3)

ثامنًا: التماس الأعذار، وإقالة العَثَرات، والتغاضي عن الزلات. قال ابن سيرين:«إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرًا، فإن لم تجد له عذرًا فقل: لعل له عذرًا لا أعرفه»

(4)

.

قال الشاعر:

تأنَّ ولا تعجَلْ بلومِك صاحبًا

لعلَّ له عُذرًا وأنت تَلُومُ

(5)

(1)

«تفسيره» (7/ 352).

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «مداراة الناس» (45)، والمحاملي في «أماليه» (460)، والسخاوي في «البلدانيات» ص (251).

(3)

البيتان للمتنبي. انظر: «أبو الطيب المتنبي وما له وما عليه» للثعالبي ص (130)، «التذكرة الحمدونية» (5/ 66).

(4)

أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» 6/ 323 (8342). وأخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/ 285) عن أبي قلابة.

(5)

البيت لدعبل. انظر: «المنصف للسارق والمسروق منه» لابن وكيع ص (150).

ص: 389

تاسعًا: الحرص على صلاح ذات البين بين المسلمين؛ فإن فساد ذات البين كما قال صلى الله عليه وسلم: «هي الحالقة»

(1)

؛ أي: هي التي تُوغِر الصدور، وتُفسِد القلوب.

كما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم: «لا أقول: تحلِق الشعرَ، ولكن تحلِق الدين»

(2)

.

قال الشاعر:

إن القلوبَ إذا تنافرَ وُدُّها

شبه الزجاجة كسرُها لا يُجبَرُ

(3)

عاشرًا: قوة الرجاء فيما وعد الله به سليم القلب من الأجر العظيم، والثواب الجزيل، والسعادة، والتوفيق في الدين والدنيا والآخرة، ودخول الجنة.

(1)

أخرجه أبو داود في الأدب (4919)، والترمذي في صفة القيامة (2509)، وأحمد 6/ 444 (27508) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وقال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» . وصححه الألباني في «غاية المرام» (414).

(2)

ذكرها الترمذي في الموضع السابق بقوله: «ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» . وأخرجها (2510)، وأحمد 1/ 167 (1430) من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه. وقال الألباني في «الإرواء» (3/ 238):«رجاله ثقات غير مولى الزبير فلم أعرفه، وأشار ابن أبي حاتم إلى إعلاله به، نقلًا عن أبى زرعة» .

(3)

البيت لصالح بن عبد القدوس، أو لعلي رضي الله عنه. انظر:«اللطائف والطرائف» ص (196).

ص: 390

‌وقفات ثلاث في: اللغة العربية

بين عقوق أبنائها وجهلهم، وعجز علمائها

قال الله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]

‌الوقفة الأولى في:

أهمية اللغة عند الأمم

إن من أعظم ما تعتز به الأمم وتفتخر به من تراثها: لغتها، وهي من أهم مرتكزات نهضتها، ولا يمكن أن تُفلِحَ أمة أضاعت لغتها، وتاريخها، وحضارتها؛ فإضاعة اللسان واللغة تعني إضاعة الذات.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون»

(1)

.

وقال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله

(2)

: «ما ذَلتْ لغة شعب إلا ذَلَّ، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار» .

‌الوقفة الثانية في:

مكانة اللغة العربية بين اللغات، والاعتزاز بها، وأهميتها وأهمية تعلمها

‌أ- امتياز مكانة اللغة العربية بين سائر اللغات:

تحتل اللغة العربية المكانة الأولى بين اللغات؛ لأنها لغة القرآن الكريم أعظم الكتب

(1)

انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 519).

(2)

في كتابه «وحي القلم» (3/ 27).

ص: 391

السماوية، وأفضلها، والمهيمن عليها.

ولغة أفضل الرسل وخاتمهم، وأفصحهم لسانًا، وأقواهم بيانًا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولسان خير أمة أُخرجت للناس، فهي وعاء القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، وحاوية جميع العلوم الإسلامية.

قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192 - 195]، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى: 7].

وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وقال تعالى:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3]، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} [طه: 113]، وقال تعالى:{قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 38]، وقال تعالى:{كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 31]، وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} [الرعد: 37].

ولأنها أبقى اللغات، وأخلدها، باقية ما بقي القرآن الكريم الذي تكفل الله عز وجل بحفظه؛ كما قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

وهي أفصح اللغات وأظهرها بلاغة وبيانًا، وأجملها، وأكملها.

سُميت لغة الضاد لانفرادها بالضاد دون غيرها من اللغات.

امتدت على طول القرون منذ العصر الجاهلي وعصر الإسلام إلى يومنا هذا، وكانت من أغنى اللغات، وأوسعها؛ من حيث مفرداتها، وألفاظها، وصيغها، وأبنيتها، وتراكيبها، وخصائصها، ومصطلحاتها، وأساليبها.

وَسِعَت كتاب الله عز وجل في إعجازه، وبلاغته، وفصاحته، ودقة أسلوبه، وجماله، وروعته.

قال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله

(1)

: «وإن هذه العربية بنيت على أصل يجعل شبابها

(1)

في كتابه «تحت راية القرآن» (ص 26).

ص: 392

خالدًا عليها، فلا تَهرَم ولا تموت».

قال المستشرق الألماني يوهان فك: «إن العربية الفصحى لَتدين حتى يومنا هذا بمركزها أساسيًّا لهذه الحقيقة الثابتة، وهي أنها قد قامت في جميع البلدان العربية والإسلامية رمزًا لُغويًّا لوحدة عالم الإسلام في الثقافة والمدنية، الفصحى لغة القرآن» .

وقال جوستاف: «وما من لغة تستطيع أن تطاول اللغة العربية في شرفها» .

وقال الألماني فريتاغ: «اللغة العربية أغنى لغات العالم» .

وقال المستشرق بارتلمي هربلو: «اللغة العربية أعظم اللغات أدبًا، وأسماها بلاغة وفصاحة، وهي لغة الضاد» .

وقال المستشرق جاك بيرك: «اللغة العربية لغة المستقبل، ولا شك يموت غيرها، وتبقى خالدة»

(1)

. «والحق ما شهدت به الأعداء» .

‌ب- الاعتزاز باللغة العربية، وأهميتها:

يحق لكل مسلم ومسلمة أن يعتز ويفخر ويفاخر، ويرفع رأسه عاليًا باللغة العربية؛ لأنها لغة القرآن الكريم، ولسان النبي الكريم محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ولغة الإسلام، أفصح اللغات، وأبلغها، وأوسعها، وأبقاها، وأخلدها.

تستمد جميع مقوماتها من كتاب الله الكريم الذي هو كلامه عز وجل أنزله على أفصح الخلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى قومه قريش أفصح الناس، وأبلغهم لسانًا.

قال الشافعي رحمه الله

(2)

: «ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبًا، وأكثرها ألفاظًا، والعلم باللغة عند العرب، كالعلم بالسنة عند أهل الفقه» .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله»

(3)

.

وقال الأستاذ الأديب عبد الله بن حمد الحقيل

(4)

: «واللغة العربية من أهم مقومات

(1)

انظر: «اللغة العربية هوية وانتماء» (ص 103).

(2)

في «الرسالة» ص (34).

(3)

انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 519).

(4)

في كتابه: «اللغة العربية هوية وانتماء» (ص 9).

ص: 393

الأمة، نزل بها كتاب سماوي خالد، وقد جمعت العرب ووحدتهم، والحفاظ على الفصحى عمل عظيم، والالتزام بقواعدها في جميع الاستعمالات يحمل الاهتمام بلغة القرآن الكريم، التي تمتاز بدقة في الألفاظ، وسعة في المعاني، وفصاحة في التراكيب، واللغة العربية هي عنوان الهُوِيَّة العربية، شرفها ومجدها، عمودها وعمادها، وأساسها الراسخ المتين، فهي تجسيد للهوية العربية، والشخصية الحضارية العربية التي شرفها الله، وأنزل بها قرآنه الكريم، ووسيلة حفظه وانتشاره بين الناس، فهي اللغة الخالدة على وجه البسيطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها».

وقال أيضًا

(1)

: «إن اللغة العربية يحتاجها المسلمون في كل مكان لفهم دينهم، وتتجدد الرغبة إليها، والاهتمام بها، مع رغبة النفوس وتطلعها إلى الإسلام، والدخول فيه، وهي الوسيلة الفعالة، والمصدر القوي لفهم رسالة الإسلام، ومعرفة القرآن الكريم ومعانيه» .

وصدق حافظ إبراهيم رحمه الله في قوله على لسان اللغة العربية

(2)

:

أنا البحرُ في أحشائه الدرُّ كامنٌ

فهل ساءَلُوا الغوَّاص عن صَدَفاتي؟!

وَسِعتُ كتابَ الله لفظًا وغايةً

وما ضِقتُ عن آيٍ به وعظاتِ؟!

فكيف أضيقُ اليومَ عن وصف آلةٍ

وتنسيقِ أسماءٍ لمخترَعاتِ؟!

‌ج- أهمية تعلم اللغة العربية لكل مسلم:

تعلم اللغة العربية هو الطريق الوحيد لفهم القرآن والسنة، والعمل بهما، لذا كان لزامًا على كل مسلم أن يتعلم من اللغة العربية ما به يفهم من الكتاب والسنة ما يقيم به أمر دينه، ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «تفقهوا في الدين

وتعلموا العربية»

(3)

.

(1)

المصدر السابق ص 19.

(2)

ذكرت هذه القصيدة كاملة في بيان معنى الحروف المقطعة أوائل السور في مطلع سورة البقرة من «عون الرحمن في تفسير القرآن» .

(3)

أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» 4/ 323 (7948)، وابن أبي شيبة في «المصنف» 15/ 434 (30542)، وسعيد بن منصور في التفسير من «سننه» 2/ 314 (89)، والبيهقي في «شعب الإيمان» 2/ 547 (2678).

ص: 394

وقال الشافعي رحمه الله

(1)

: «فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، ويتلو به القرآن

وما ازداد من العلم باللسان الذي جعله الله لسان من ختم به نبوته».

وقال أيضًا: «اللسان الذي اختاره الله عز وجل لسان العرب فأنزل به كتابه العزيز، وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول: ينبغي لكل أحد يقدر على تعلم العربية أن يتعلمها؛ لأنها اللسان الأولى» .

وقال مالك رحمه الله: «لا أُوتى برجلٍ غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالًا»

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ومعلوم أن تعلم العربية، وتعليم العربية فرض على الكفاية، وكان السلف يؤدبون أولادهم على اللحن، ونحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي ونصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة، والاقتداء بالعرب في خطابها، فلو تُرك الناس على لحنهم كان نقصًا وعيبًا»

(3)

.

وقال أيضًا: «فإن اللسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يتميزون»

(4)

.

وقال أيضًا: «وما زال السلف يكرهون تغيير شعائر العرب حتى في المعاملات، وهو التكلم بغير العربية إلا لحاجةٍ، كما نص على ذلك مالك، والشافعي، وأحمد، بل قال مالك: «من تكلم في مسجدنا بغير العربية أُخرج منه» ، مع أن سائر الألسن يجوز النطق بها لأصحابها، ولكن سوغوها للحاجة، وكرهوها لغير الحاجة، ولحفظ شعائر الإسلام، فإن الله أنزل كتابه باللسان العربي، وبعث به نبيه العربي، وجعل الأمة العربية خير الأمم، فصار حفظ شعارها من تمام حفظ الإسلام».

وقال أيضًا: «واعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين تأثيرًا قويًّا بيِّنًا، ويؤثر

(1)

في «الرسالة» (ص 49).

(2)

انظر: «الإتقان» (2/ 229).

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (32/ 252).

(4)

انظر: «اقتضاء الصراط المستقيم» (1/ 519).

ص: 395

أيضًا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقل، والدين، والخلق، وأيضًا فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»

(1)

.

وقال ابن القيم رحمه الله: «إنما يعرف فضل القرآن من عرف كلام العرب، فعرف علم اللغة، وعلم العربية، وعلم البيان، ونظر في أشعار العرب وخطبها»

(2)

.

‌الوقفة الثالثة في:

الواجب على الأمة تجاه اللغة العربية لغة القرآن والسنة ولغة الإسلام

يجب على الأمة الإسلامية قاطبة، ممثلة بحكوماتها، وجامعاتها، وكليات اللغة العربية، ووزارات التعليم في جميع البلاد العربية، والإسلامية، وممثلة برجال التعليم، وخصوصًا معلمي اللغة العربية، وبجميع المربين، والموجهين، والوالدين، وبجميع أفراد الأمة ذكورهم وإناثهم: النهوض باللغة العربية، لغة القرآن والإسلام، والحفاظ عليها، والاعتزاز والفخر بها.

فهي أمانة في أعناقنا، والحفاظ عليها، ونشرها مسؤولية كل فرد من أفراد الأمة بقدر ما يستطيع.

فيجب غرس محبة اللغة العربية واحترامها في نفوس الأجيال الناشئة وتشويقهم إليها، من خلال تطوير مناهجها، وتيسيرها، ومن خلال الوسائل التعليمية، والثقافية، ومن خلال رفع شأنها، والاعتزاز بها، وتطبيقها في المدارس والجامعات والأندية، والاجتماعات، وفي وسائل الإعلام والاتصال، والقنوات وشبكة المعلومات، والدوائر والمؤسسات، وغير ذلك، ومن خلال جعلها لغة الحديث، والتخاطب والتعليم، وتدريس العلوم والتقنيات، والبحوث والدراسات، وفي الحياة اليومية في المتاجر والمصانع، وفي

(1)

انظر: المصدر السابق (1/ 5271).

(2)

انظر: «الفوائد المشوق إلى علوم القرآن، وعلم البيان» (ص 7).

ص: 396

جميع المرافق ومختلف المجالات.

ومن خلال العمل على نشرها؛ لأن في ذلك نشرًا للقيم والمثل العربية والإسلامية، ودعوة إلى الإسلام بين الأمم، يعكس أصالة الحضارة العربية والإسلامية.

إن الحفاظ على اللغة العربية لغة القرآن الكريم، ونشرها واجب عظيم، والدفاع عنها دفاع عن القرآن الكريم، والدين القويم، وهي أمانة في أعناق العرب والمسلمين.

قال الأستاذ الأديب عبد الله بن حمد الحقيل

(1)

: «وعلينا الاهتمام باللغة العربية أمام سيل التهديد من شتى المقوِّضات؛ كالعُجمة والعامية، وتفشي الانصراف عن تعلم العربية، بل يجب أن تكون الأولى في كل مجال في الاستعمال اليومي، وفي الخطاب الثقافي، وفي مجال الاستعمالات الحاسوبية والشبكية» .

وقال أيضًا

(2)

: «لغتنا العربية في عواصمنا العربية يجب أن تُفتح أمامها النوافذ المغلقة، والأبواب الموصدة، لتستطيع في هذا المناخ أن تبسط ظلالها الوارفة، ورسالتها السامية، وتسخو بعطائها الوفير في جامعاتنا، ومدارسنا، وإعلامنا، وأن نحترمها حق الاحترام، وأن نوقف المد الأجنبي على العربية، وأن نعززها في نفوس أبنائها، وفي التعليم، والتعاملات التجارية.

ففي كثير من العواصم العربية والخليجية جامعات لا تعلم بغير الإنجليزية، ونلاحظ شركات وفنادق وندوات ومؤتمرات لا نجد للعربية فيها أثرًا ولا ذكرًا، حيث أصبح العربي في دياره غريب الوجه واليد واللسان، بفعل تقاعس أبنائها من العناية بها، والمحافظة على مكانتها، والوقوف في موقف المتفرج أمام موجات العولمة والتغريب».

إن مصيبة لغتنا العربية- لغة القرآن الكريم الكبرى مع تسلط أعداء الإسلام وكيدهم للقضاء عليها من الخارج- هي عقوق أبنائها وجهلهم وعجز علمائها، وهدمها من الداخل على أيدي أبنائها:{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} [الحشر: 2].

(1)

في مقدمة كتابه: «اللغة العربية هوية وانتماء» (ص 10).

(2)

في المصدر السابق (ص 13).

ص: 397

وهو أشد مضاضة وأنكى، كما قال الشاعر:

وظُلمُ ذوي القربى أشد مضاضةً

على النفس من وقْعِ الحُسام المُهنَّدِ

(1)

وإن مما يؤسف له ويندى له جبين كل مسلم غيور على لغته ودينه أن يتبجح ويفتخر الكثيرون باستيراد مصطلحات ومسميات أجنبية لا تمت إلى لغتنا ولا إلى ديننا بصلة، فتجد كثيرًا من اللوحات واللافتات الإعلانية على المحلات التِّجارية، وعلى قاعات الأفراح والاستراحات، وغير ذلك بأسماء غربية أو شرقية، وهذا من علامات الذل والانهزام، والتبعية لأولئك الأقوام، ومن أكبر معاول هدم اللغة العربية لغة القرآن الكريم، فكأن اللغة العربية قد عَقِمت ولا يوجد فيها متسَع بدل هذه المسميات، وكأن من يعمل هذا فقد الانتماء للغته، ودينه، وأمته، وكأنه لم يعلم أنه لو استعاض عن ذلك بأسماء عربية إسلامية لكان في ذلك تشجيع للغته ودينه وأمته، يُؤجَر عليه بإذن الله تعالى، مع حسن النية، وأنه في استيراد تلك المسميات الأجنبية على خطر أن يؤزر، وأن بحثه عن اسم غريب أو شاذ لا يبرر له ذلك؛ لما في ذلك من التبعية لغير المسلمين على حساب لغته ودينه والولاء لأمته.

علينا أن نعمل جميعًا على إعادة الثقة بأنفسنا، وبلغتنا، وديننا، وألا نكون أذلاء تابعين لغيرنا، بل يجب علينا أن نكون أحرارًا ننظر من علو وبعين العزة والقوة، والفخر بلغتنا؛ لأنها لغة القرآن، والإسلام أعظم اللغات، وأفصحها وأوسعها وأبقاها، وأخلدها.

علينا أن نعلم أن إضاعة اللغة تعني إضاعة الذات والهُوية والانتماء، والطريق إلى عدم فهم القرآن وإضاعة الدين.

علينا أن نختار الأسماء العربية الجميلة الموشاة بنور القرآن وبهدي سنة خير الأنام، وبتراث آبائنا وأجدادنا وسلفنا المجيد التراث الخالد التليد.

علينا أن يحاسب كل فرد منا نفسه ماذا قدم للغة القرآن والإسلام، كل في مجاله، وقدر إمكانه.

(1)

البيت لطَرَفَةَ بن العبد، انظر:«ديوانه» ص 27.

ص: 398

وعلينا جميعًا الحذر كل الحذر من أن نكون معاول هدم للغتنا، لغة القرآن الكريم، بإبراز غيرها في الحوار، والمكاتبات، والكتابات، وفيما نختاره من المسميات وغير ذلك.

وأخيرًا أقول: للنهوض باللغة العربية لغة القرآن الكريم، ولغة الإسلام، وتعليمها، ونشرها: يجب أن تتضافر الجهود.

فعلى الحكومات العربية والإسلامية دعم ذلك ماديًّا ومعنويًّا، وألا تدخر في سبيل ذلك وُسعًا، فهو واجبها.

وعلى رجال التعليم في الجامعات، وفي وزارات التعليم بذل الجهد في ذلك، وتحمل مسؤوليتهم أمام الله تعالى، والقيام بواجبهم.

وعلى الوالدين غرس حب اللغة العربية في نفوس أولادهم، والاعتزاز بها، وتعليمها إياهم منذ الصغر، وعلى كل فرد من أفراد الأمة أن يستشعر دوره في ذلك، وأن يساهم بما يستطيع في رفع مكانة اللغة العربية لغة القرآن، والنهوض بها، والدفاع عنها، ليكسب الأجر في ذلك من الله تعالى.

على كل فرد من أفراد الأمة أن يحرص على الكتابة باللغة العربية قدر استطاعته بدلًا من العامية أو الإنجليزية، ويربي أولاده على ذلك.

عليه أن يتكلم باللغة العربية قدر استطاعته بدلًا من العامية أو الإنجليزية، ويربي أولاده على ذلك.

عليه أن تكون تعاملاته ورسائله وما يكتبه من إعلانات ولوحات، وغير ذلك بأسماء عربية، وباللغة العربية، وهذا بمقدور كل أحد، فلا يحقر أحد أن يساهم برفع شأن لغته، ولو بلوحة يكتبها بها، فهذا يسير.

وعلى كل مسلم غيور على كتاب الله عز وجل ولغته وعلى دينه: الحذر كل الحذر أن يكون له يد في إضعاف دور اللغة العربية لغة القرآن الكريم، وذلك من خلال ما يأتي:

تعمد الكتابة باللغة الإنجليزية دون حاجة.

تعمد التكلم والمحاورة باللغة الإنجليزية من غير حاجة.

ص: 399

تعمد كتابة الإعلانات واللوحات الخاصة بأسماء غير عربية، أو باللغة الإنجليزية، أو غيرها من اللغات.

فإن في ذلك كله إضعافًا لدور اللغة العربية لغة القرآن الكريم، ولغة الإسلام، وتقليلًا من شأنها، وإعزازًا وتقديمًا لغيرها عليها.

اللهم هل بلغت، اللهم اشهد!

ص: 400

‌وقفة في: الأخذ بالعزم والحزم في الأمور كلها

قال الله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]

العزم معناه: الجد وقوة الإرادة والعزيمة؛ قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21]؛ أي: إذا جد الأمر ولزم وحضر القتال.

وقال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159]؛ أي: فإذا صممت على أمر من الأمور، مما ظهر لك أنه عين الصواب، فاعتمد على الله، وامضِ فيه.

وقال تعالى ليحيى بن زكريا عليه السلام: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12].

وكتب عز وجل لموسى عليه السلام التوراة بالألواح، وقال له:{فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 145].

وقال تعالى لبني إسرائيل: {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 63، والأعراف: 171].

والحزم معناه: ضبط الأمر، والحذر من فواته. وفي الحديث في الوتر:«قيل لأبي بكر رضي الله عنه: أخذتَ بالحزم، وقيل لعمر رضي الله عنه: أخذتَ بالقوة» ؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه يوتر أول الليل؛ خوفًا ألا يقوم آخر الليل، وعمر رضي الله عنه يوتر آخر الليل؛ ثقة أنه سيقوم آخر الليل

(1)

.

والعزم لا ينفع إلا بالحزم، قال عبد الملك بن مَرْوان لعمر بن عبد العزيز: ما العزيمة على الرشد؟ قال: «إصداره إذا ورد بالحزم»

(2)

.

(1)

أخرجه أبو داود في الوتر (1434) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1288). وأخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة، والسنة فيها (1202)، وأحمد 3/ 309، 330 (14323، 14535) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «الصحيحة» (2596).

(2)

«محاضرات الأدباء» 1/ 34.

ص: 401

وقال ابن منظور

(1)

: «ولا خير في عزم بغير حزم؛ فإن القوة إذا لم يكن معها حذر أورطت صاحبها» .

وقد امتدح الله عز وجل المتصفين بالعزم من الرسل وغيرهم، وأثنى عليهم، وحث على العزم، ورغب فيه، فقال تعالى مخاطبًا نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35].

وقال تعالى مخاطبًا المؤمنين: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران: 186].

وقال تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43].

وقال لقمان لابنه فيما ذكر الله تعالى عنه: {يَابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].

وقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد»

(2)

.

وقال عليه الصلاة والسلام لابن عباس رضي الله عنهما: «احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز»

(3)

.

وقد قيل:

إذا كنتَ ذا رأيٍ فكنْ ذا عزيمة

فإن فسادَ الرأيِ أن تَتَرَدَّدا

(4)

فتأمل- أخي الكريم، وفَّقك الله وبارك فيك- هذه النصوص جيدًا، واعلم أن الحياة جدٌّ لا هزل فيها، وأنها أشبه بالبحر المتلاطم، من نزل فيه وهو لا يجيد السباحة

(1)

«لسان العرب» مادة «عزم» ، وانظر: مادة «حزم» .

(2)

أخرجه النسائي في السهو (1304)، والترمذي في الدعوات (3407)، وأحمد 4/ 123 (17114) من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه. وصححه الألباني في «الصحيحة» (3228).

(3)

أخرجه مسلم في القدر (2664)، وابن ماجه في المقدمة (79)، وفي الزهد (4168)، وأحمد 2/ 366 (8791) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

نسب لأبي جعفر المنصور، انظر:«الحماسة البصرية» لأبي الحسن البصري (2/ 57)، و «زهر الآداب، وثمر الألباب» للحصري القيرواني (1/ 257)، و «التذكرة الحمدونية» لأبي المعالي البغدادي (1/ 419).

ص: 402

غرِق، وأشبه بالمعركة، من دخل فيها من غير سلاح ولا تدرب هزم وهلك.

فشمِّر أخي المبارك عن ساعد الجد، وخذ بمعالي الأمور، واصدُق في طلب النجاة، والوقاية لنفسك وأهلك، واحذَرْ من العجز والتسويف والكسل، واعلم أن أيامك معدودة، وأنفاسك محدودة.

فخذْ نفسك وأهلك بالعزم والحزم؛ بامتثال أوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه، وأداء حقوق الله عز وجل على الوجه الشرعي، وحقوق الخلق.

وسارع إلى الخيرات، وسابق إليها، ونافس فيها، فالغُبن غدًا كبير، وليس باليسير، بل لا يكاد يوصف، ولا أحد يرضى لنفسه الغبن.

واعلم أن المرء حيث يجعل نفسه، قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10].

وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5، 10].

وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].

وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسَه فمُعْتِقها أو مُوبِقها»

(1)

.

قال لَبيد

(2)

:

وما الناس إلَّا عاملان فعاملٌ

يُتَبِّرُ ما يَبني وآخرُ رافعُ

وقال الآخر

(3)

:

وما المرءُ إلا حيث يجعَلُ نفسَه

فكنْ طالبًا في الناسِ أعلى المراتبِ

(1)

أخرجه مسلم في الطهارة (223)، والترمذي في الدعوات (3517)، وابن ماجه في المقدمة (280)، وأحمد 5/ 322 (22902) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

(2)

انظر: «ديوان لبيد» ص (56) اعتنى به: حمدو طمّاس، دار المعرفة، ط: 1، 1425 هـ، 2004 م.

(3)

البيت لعلى بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: «ديوانه» ص (15).

ص: 403

وقال الآخر

(1)

:

لأستسهلنَّ الصعبَ أو أُدرِكَ المُنَى

فما انقادتِ الآمالُ إلا لصابرِ

وقال الآخر

(2)

:

ومَن يتهيَّبْ صعودَ الجبالِ

يعشْ أبدَ الدهر بين الحُفَرْ

وقال الآخر

(3)

:

إذا أنت لم تعرفْ لنفسِك حقَّها

هوانًا بها كانت على الناسِ أهونَا

فنفسَك أكرِمْها وإنْ ضاق مسكنٌ

عليك بها دوِّر لنفسِك مَسكنَا

وإياك والسكنى بدار مَذَلَّةٍ

تَعُدْ مُسيئًا بعدما كنتَ مُحسِنَا

وقال الآخر

(4)

:

مَن يهُنْ يسهُلِ الهوانُ عليه

ما لجُرحٍ بميِّتٍ إيلامُ

وقال الآخر

(5)

:

الأمر جدٌّ وهو غير مِزاحِ

فاعمَلْ لنفسِك صالحًا يا صاحِ

وقال الآخر

(6)

:

سوف ترى إذا انجلى الغبارُس

أفرسٌ تحتك أم حِمارُ؟

وقال الآخر

(7)

:

(1)

انظر: «أوضح المسالك» لابن هشام (4/ 172)، و «اللمحة، في شرح الملحة» لابن الصائغ (2/ 839)، و «المقاصد النَّحْوية في شرح شواهد شروح الألفية» للعيني (4/ 1865).

(2)

البيت لأبي القاسم الشابي. انظر: «ديوانه» (ص 70).

(3)

انظر: «أدب الدنيا والدين» للماوردي ص (320)، و «الدر الفريد» للمستعصمي (2/ 367).

(4)

البيت للمتنبي. انظر: «ديوانه» ص (164).

(5)

البيت لنشوان الحميري، في «معجم الأدباء» لياقوت (6/ 2745)، و «ملوك حمير وأقيال اليمن» ص (1).

(6)

انظر: «التمثيل والمحاضرة» للثعالبي ص (345)، و «مجمع الأمثال» للميداني (1/ 344)، و «الدر الفريد» للمستعصمي (6/ 457).

(7)

البيتان للشافعي، انظر:«ديوانه» ص (97).

ص: 404

ومن طلب العلا من غير كدٍّ

أضاع العمرَ في طلب المُحالِ

تروم العزَّ ثم تنام ليلًا

يغوص البحر مَن طلبَ اللآلي

وقال الآخر

(1)

:

ومن زرع الحبوب وما سقاها

تأوَّه نادمًا يوم الحصادِ

(1)

انظر: «لطائف المعارف» لابن رجب (ص 148).

ص: 405

‌وقفتان في: أمانة المسؤولية في أعمال الأمة

قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} [الأحزاب: 72]

‌الوقفة الأولى في:

الاحتساب في أعمال الأمة

مما يؤسف له أن نظر كثير من العاملين في الأمة من المعلمين والموظفين وغيرهم إلى العمل من جانب مادي فقط، حتى في الوظائف الدينية؛ كالقضاء، والأذان والإمامة، ونحو ذلك، مع غياب الهدف الأسمى وهو الاحتساب الذي هو أعظم دافع معنوي للقوة والنشاط في العمل، وللفخر والاعتزاز.

وفي هذا- إضافة إلى تسببه في ضعف نتاجهم- خسارة عظيمة لا تشبهها خسارة، يظل الشخص يعمل طيلة عمره- أربعين سنة أو ثلاثين أو أقل أو أكثر- مدرسًا، أو قاضيًا، أو موظفًا، أو غير ذلك، ولم يحتسب عند الله شيئًا من ذلك، إلا أنه يعمل ليحصل على الرزق من ذلك؛ ليعف نفسه وأهله وولده، وهذا شيء طيب يؤجر عليه بإذن الله تعالى، لكنه خسر الكثير والكثير لما لم يستحضر مع ذلك ابتغاء وجه الله والدار الآخرة، والنصح للأمة، ورفع شأنها؛ لأن العمل في الأمة جهاد يؤجر عليه المرء إذا استحضر النية.

قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} [القصص: 77].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمَن كانت هجرتُه إلى الله

ص: 406

ورسوله، فهجرتُه إلى الله ورسولِه، ومن كانت هجرتُه لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ يَتزوجها، فهجرتُه إلى ما هاجَرَ إليه»

(1)

.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «احتسبوا أعمالكم؛ فإن من احتسب عمله كُتب له أجر عمله وأجر احتسابه»

(2)

.

وقال معاذ رضي الله عنه: «فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي»

(3)

.

والمصيبة أن كثيرًا من ذوي المسؤوليات في الأمة كبيرها وصغيرها من المدرسين والقضاة والموظفين وأئمة المساجد والمؤذنين، بل كثير من الآباء والأمهات، وغيرهم يخسرون أعمارهم، وما يقومون به من جهد في مسؤولياتهم بسبب غياب جانب الاحتساب لله تعالى في ذلك العمل.

فاحرص أخي المبارك، وأختي المباركة على استحضار الاحتساب لله تعالى في أي عملٍ تقوم به دينيًّا أو دنيويًّا، واحتسِبْ ذلك على الله تعالى، تصيد عُصفُورين أو ثلاثة بحجرٍ واحد: أجر الاحتساب من الله، وقيامك بالواجب، وأجر من بيت المال، مع عون الله وتوفيقه لك.

‌الوقفة الثانية في:

أمانة المسؤولية في أعمال الأمة

من أعظم الأمانات أمانة المسؤولية في أعمال الأمة، التي يتساهل فيها الكثيرون، ولا يحسبون لها حسابًا، فيخرجون منها بتبِعات عظيمة تَنُوءُ بحملها الجبال.

(1)

أخرجه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907)، وأبو داود في الطلاق (2201)، والنسائي في الطهارة (75)، والترمذي في فضائل الجهاد (1647)، وابن ماجه في الزهد (4227) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(2)

انظر: «النهاية في غريب الحديث» مادة «حسب» .

(3)

أخرجه البخاري في المغازي (4341، 4344) من حديث أبي بردة حفيد أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

ص: 407

وذلك لأنه اجتمع فيها ثلاثة حقوق عظيمة:

الأول: حق الله تبارك وتعالى، والثاني: حق ولي الأمر، والثالث: حقوق المسلمين.

وهذا كله مما يعظم شأن المسؤولية وخطرها، ويوجب الصدق والنزاهة فيها، والقيام بها خير قيام وعلى أكمل وجه وأتمه.

ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمُرة رضي الله عنه: «يا عبدَ الرحمن، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أُعطيتها عن مسألةٍ وُكلت إليها، وإن أُعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: «يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تَأمَّرَنَّ على اثنين، ولا تولين على مال يتيم»

(2)

.

وعن مَعقِل بن يَسار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من عبدٍ يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة»

(3)

.

وعدم القيام بما أُنيط بالمسؤول من عملٍ من أعظم الغش للرعية وللأمة؛ لما فيه من تضييع حقوق الناس، ومصالحهم، وأشد منه غشًّا وجرمًا وعقوبةً مَن جمع بين هذا وبين جعل المنصب طريقًا للتعالي والتعاظم على الناس، ومَطِيَّة للنهب والتكسب من بيت المال، أو من جيوب الناس بالمحاباة والرشوة، وغير ذلك.

فعلى من تولى أمرًا من أمور المسلمين الحرص كل الحرص على القيام به حق القيام، وإتقانه، قال صلى الله عليه وسلم:«إن الله يحب إذا عمِل أحدكم عملًا أن يُتقِنَه»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في الأيمان والنذور (6622)، وفي كفارات الأيمان (6722) ومسلم في الإمارة (1652)، وأبو داود في الخراج (2929)، والنسائي في آداب القضاة (5384)، والترمذي في النذور (1529) من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم في الإمارة (1826)، وأبو داود في الوصايا (2868)، والنسائي في الوصايا (3667)، وأحمد 5/ 180 (21563) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في الأحكام (7150، 7151)، ومسلم في الإيمان (142)، والدارمي في الرقاق 2/ 417 (2796)، وأحمد 5/ 25 (20291).

(4)

أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» 1/ 275 (897)، وأبو يعلى الموصلي في «مسنده» 7/ 349 (4386)، والبيهقي في «شعب الإيمان» 7/ 232 (4929) من حديث عائشة رضي الله عنها. قال الهيثمي في «المجمع» (4/ 98):«رواه أبو يعلى، وفيه مصعب بن ثابت وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (1113).

ص: 408

(1)

أخرجه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829)، وأبو داود في الخراج والإمارة (2928)، والترمذي في الجهاد (1705)، وأحمد 2/ 5، 54 (4495، 5167) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 409

‌وقفات خمس في: تدبر القرآن الكريم

قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]

‌الوقفة الأولى في:

وجوب تدبر القرآن الكريم، وتحريم هجره وأنواع تدبره

‌أ- وجوب تدبر القرآن الكريم، وتحريم هجره:

قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

فبين عز وجل أنه سبحانه أنزل القرآن الكريم لأجل أن يتدبر الناس آياته، ويكون تذكرة لأصحاب العقول الذين ينتفعون بعقولهم، قال الطبري رحمه الله

(1)

: «يعني: ليتدبر هذا القرآن من أرسلناك إليه من قومك يا محمد» .

وقال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

فأنكر عز وجل على من لم يتدبر القرآن، وهذا يدل على وجوب تدبر القرآن.

قال القرطبي رحمه الله

(2)

: «ودل قوله تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82] على وجوب التدبر في القرآن؛ ليعرف معناه، وفيه دليل على الأمر بالنظر والاستنباط» .

وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68]؛ أي: أفلم يدبروا القرآن، وهذا أيضًا إنكار عليهم.

وشكى صلى الله عليه وسلم هجر قومه للقرآن، كما قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا

(1)

في «جامع البيان» 20/ 79.

(2)

في «الجامع لأحكام القرآن» 5/ 290.

ص: 410

الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].

وفي هذا دلالة على تحريم هجر القرآن، والإعراض عنه، وعدم تدبره والإيمان به، وتأكيد لوجوب تدبره.

وهجر القرآن أنواع:

هجر تلاوته، وسماعه، والإصغاء إليه.

وهجر تدبره وتفهمه.

وهجر العمل به وتحكيمه، وغير ذلك

(1)

.

‌ب- أنواع تدبر القرآن الكريم:

تدبر القرآن أنواع ثلاثة:

‌النوع الأول: تدبر ألفاظ القرآن الكريم:

‌أ- معنى تدبر ألفاظ القرآن الكريم:

هو تلاوته تلاوة صحيحة، وقراءته قراءة سليمة، والإنصات عند سماعه وترتيله بإقامة حروفه وكلماته وجمله وآياته، وسلامته من اللحن جليِّه وخفيه، وحسن النطق به، وتزيين الصوت والتغني به، وحفظه أو ما تيسر منه.

قال تعالى في الأمر بتلاوة القرآن: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [العنكبوت: 45]، أي: اقرأ واتبع ما أُوحي إليك من القرآن.

وفي الآية الثانية: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ} [النمل: 92] أي: وأُمرت أن أتلوَ القرآن؛ أي: أتبعه، وأقرأَه على الناس.

والأمر للوجوب، وهو أمر له صلى الله عليه وسلم ولأمته، كما قال تعالى:{فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20].

(1)

انظر: «بدائع التفسير» 3/ 292 - 293.

ص: 411

وقال تعالى في الأمر بالتأني في قراءته والتمهل وترتيله وتحسين الصوت به: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]، أي: لتقرأه على الناس على مهل وتُؤدة.

وقال تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]، وهذا أمر له صلى الله عليه وسلم ولأمته؛ أي: واقرأ القرآن بتمهل وترسل وتدبر لألفاظه ومعانيه وأحكامه.

وهكذا كان يقرأ عليه الصلاة والسلام ويأمر أمته بذلك.

عن أنس رضي الله عنه قال: كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم مدًّا، ثم قرأ:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يمُد «باسم الله» ، ويمد بـ «الرحمن» ، ويمد بـ «الرحيم»

(1)

.

وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطِّع قراءته آية آية:

{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}

(2)

.

وعن البَرَاء بن عازب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بـ «التين والزيتون» ، فما سمِعت أحدًا أحسن صوتًا منه

(3)

.

وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «زيِّنوا القرآن بأصواتكم»

(4)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس مِنَّا مَن لم يتغنَّ بالقرآن يجهر به»

(5)

.

أي: من لم يحسن صوته بالقرآن يجهر به.

(1)

أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5406).

(2)

أخرجه أبو داود في الحروف (4001)، والترمذي في القراءات (2927)، وأحمد 6/ 302 (26583)، والدارقطني في الصلاة (1/ 312). قال الترمذي:«غريب» . وقال الدارقطني: «إسناده صحيح وكلهم ثقات» . وصححه الألباني في «الإرواء» (343).

(3)

أخرجه البخاري في الأذان (769)، ومسلم في الصلاة (464)، وأحمد 4/ 302 (18681).

(4)

أخرجه أبو داود في الوتر (1468)، والنَّسائي في الافتتاح (1015، 1016)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1342)، 4/ 283 (18494)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (771).

(5)

أخرجه البخاري في التوحيد (7527).

ص: 412

واستمع صلى الله عليه وسلم لقراءة أبي موسى الأشعري رضي الله عنه فقال له: «لقد أُوتيتَ مِزمارًا من مزامير آل دواد»

(1)

. فقال أبو موسى رضي الله عنه: لو كنتُ علِمتُ أنك تسمع لحبَّرته لك تحبيرًا

(2)

.

‌ب- فضل تلاوة القرآن الكريم وحفظه:

قال تعالى في الثناء على أهل تلاوة القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29، 30].

وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]، وقال تعالى:{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 112].

وقال تعالى في امتداح القرآن والترغيب في حفظه، والثناء على حَفَظته:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن قرأ حرفًا من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنةُ بعشرِ أمثالها، لا أقولُ: {الم} حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف»

(3)

.

وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيرُكم مَن تعلم القرآن وعلمه»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5048)، ومسلم في صلاة المسافرين (793)، والترمذي في المناقب (3855). وأخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة (1341) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أبو نعيم في «مستخرجه على مسلم» 2/ 384 (1803)، وأبو طاهر السلفي في «الطيوريات» 3/ 823 (735) من حديث أبي موسى. وأخرجه الكلاباذي في «بحر الفوائد» المشهور بـ «معاني الأخبار» ص (210) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» 1/ 216 (679)، والترمذي في فضائل القرآن (2910). قال الترمذي:«حسن صحيح غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (3327).

(4)

أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5027)، وأبو داود في الصلاة (1452)، والترمذي في فضائل القرآن (2907)، وابن ماجه في المقدمة (211).

ص: 413

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا حسد إلا على اثنتين: رجل آتاه الله الكتابَ، وقام به آناءَ الليل، ورجل أعطاه الله مالًا، فهو يتصدق به آناء الليل والنهار»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السَّكينة، وغَشِيَتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده»

(2)

.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه»

(3)

.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين»

(4)

.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتَقِ، ورتِّلْ كما كنتَ ترتل في الدنيا؛ فإن منزلك عند آخر آيةٍ تقرؤها»

(5)

.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السَّفَرة الكِرام البَرَرة، والذي يقرأ القرآن ويَتَتَعْتَعُ فيه، وهو عليه شاقٌّ، له أجران»

(6)

.

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأُتْرُجة، ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة، لا ريح

(1)

أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5025)، ومسلم في صلاة المسافرين (815).

(2)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2699)، وأبو داود في الصلاة (1455)، والترمذي في القراءات (2945)، وابن ماجه في المقدمة (225).

(3)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (804).

(4)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (817).

(5)

أخرجه أبو داود في الوتر (1464)، والترمذي في فضائل القرآن (2914). قال الترمذي:«حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (2240). وفي «صحيح أبي داود» (1317).

(6)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (798)، وابن ماجه في الأدب (3779)، وأحمد 6/ 98 (24667).

ص: 414

لها وطعمها حُلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة، ريحها طيب وطعمها مُر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر»

(1)

.

قال النووي رحمه الله

(2)

: «اعلم أن التلاوة أفضل الأذكار، والمطلوب القراءة بتدبر» .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما مَثل صاحب القرآن كمثل الإبل المُعقَّلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت»

(3)

.

وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتًا من قلوب الرجال من الإبل في عُقُلها»

(4)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمِل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة»

(5)

.

وفي تلاوة القرآن وتدبره الشفاء لأمراض القلوب والأبدان كلها، كما قال تعالى:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما أصاب أحدًا قط همٌّ ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أَمَتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حُكمُك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك سميتَ به نفسك، أو علمتَه أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجِلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجًا» . قال: قيل: يا رسول الله، ألا نتعلمها؟ فقال:«بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها»

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5020)، ومسلم في صلاة المسافرين (797).

(2)

في الأذكار ص (85).

(3)

أخرجه مالك في القرآن (1/ 202)، والبخاري في فضائل القرآن (5031)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (789)، والنسائي في الافتتاح (942).

(4)

أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5033)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (791).

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» 15/ 446 (30576)، 19/ 243 (35926)، والطبري في «جامع البيان» (16/ 191)، وابن أبي شيبة في «تفسيره» 7/ 2438 (13561).

(6)

أخرجه أحمد 1/ 391 (3712)، وأبو يعلى 9/ 198 (5297)، والطبراني في «الكبير» 10/ 169 (10352)، وفي «الدعاء» (1035)، وابن حبان في «صحيحه» 3/ 253 (972)، والحاكم (1/ 509 - 510). قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 186 - 187):«رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح، غير أبي سلمة الجهني، وقد وثقه ابن حبان» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (199).

ص: 415

‌النوع الثاني: تدبر معاني القرآن الكريم:

‌أ- معنى تدبر معاني القرآن الكريم:

هو تفهم معاني ألفاظ القرآن، وجمله، وآياته، والتفكر والتذكر فيما دلت عليه، ومعرفة المراد بها.

وهو مبني على تدبر ألفاظ القرآن وحُسن تلاوته.

ومن أهم ذلك الوقوف على مواضع الوقف الواجبة، والمستحسَنة، والجائزة، والوصل فيما لا يجوز أو لا يحسُن الوقف عليه؛ لأن هذا يعين على فهم الجمل والآيات، ولهذا لما أمر عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم بترتيل القرآن في قوله تعالى:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] قال بعده: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6].

وتدبر معاني القرآن الكريم هو المقصود الأول والأهم من النصوص الموجبة لتدبر القرآن التي سبق ذكرها، كقوله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82، ومحمد 24]، كما دل على ذلك كلام السلف رحمهم الله.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لا خير في عبادة لا علم فيها، ولا في علم لا فقه فيه، ولا قراءة لا تدبر فيها»

(1)

.

وقال الطبري: «إني لأعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته»

(2)

.

وقال الحكيم الترمذي عن حُرمة القرآن: «ومِن حُرمته: أن يَستعمل فيه ذهنه وفهمه حتى يعقل ما يخاطَب به، ومن حرمته: أن يقف على آية الوعد فيرغب إلى الله ويسأله من

(1)

أخرجه ابن الضريس في «فضائل القرآن» (69)، وأبو القسام بن بشير في «أماليه» كما في «الدر المنثور» للسيوطي (7/ 239). وانظر:«الجامع لأحكام القرآن» (14/ 344).

(2)

انظر: «معجم الأدباء» 18/ 68.

ص: 416

فضله، وأن يقف على آية الوعيد فيستجير بالله منه»

(1)

.

وقال ابن قدامة

(2)

: «وليعلم أن ما يقرؤه ليس كلام بشر، وأن يستحضر عظمة المتكلِّم سبحانه، ويتدبر كلامه؛ فإن التدبر هو المقصود من القراءة، وإن لم يحصلِ التدبر إلا بترديد الآية، ردَّدها» .

وقال النووي

(3)

: «ينبغي للقارئ أن يكون شأنه الخشوع والتدبر والخضوع، فهذا هو المقصود المطلوب، وبه تنشرح الصدور، وتستنير القلوب، ودلائله أكثر من أن تُحصر، وأشهر من أن تُذكر» .

وقال ابن تيمية: «المطلوب من القرآن هو فهم معانيه والعمل به، فإن لم تكن هذه هي همة حافظه، لم يكن من أهل العلم والدين»

(4)

.

وقال في قوله: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82]: «وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، ولذلك قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، وعقل الكلام متضمَّن لفهمه، ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك»

(5)

.

وقال الزركشي

(6)

: «القرآن كله لم ينزله مُنزله تعالى إلا ليفهِّمَه، ويُعلَّم ويُفهَّم، ولذلك خاطب به أُولي الألباب الذين يعقلون، والذين يعلمون، والذين يفهمون، والذين يتذكرون {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}» .

وقال أيضًا: «من لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر لم يدركْ من لذة القرآن شيئًا»

(7)

.

‌ب- فضل تدبر معاني القرآن الكريم وأهميته:

كل النصوص الدالة على وجوب تدبر القرآن وعلى فضل تلاوته هي دالة على فضل

(1)

انظر: «الجامع لأحكام القرآن» 1/ 27.

(2)

«مختصر منهاج القاصدين» ص 68.

(3)

في «الأذكار» ص 90، وانظر: ص 85، وانظر:«التبيان، في آداب حملة القرآن» ص 60.

(4)

انظر: «مجموع الفتاوى» 3/ 54.

(5)

انظر: المصدر السابق 13/ 332.

(6)

في «البرهان» 2/ 160.

(7)

المصدر السابق 2/ 171.

ص: 417

تدبر معانيه، بل والعمل به؛ لأن المقصود الأهم من التدبر هو تدبر المعاني والعمل، والمقصود من التلاوة: التلاوة بتدبر.

قال ابن الجوزي

(1)

: «لما كان القرآن العزيز أشرف العلوم، كان الفهم لمعانيه أوفى الفهوم؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم» .

وقال السِّعْدي في مقدمة «تفسيره»

(2)

: «وكان الذي ينبغي في ذلك أن يجعل المعنى هو المقصود، واللفظ وسيلة إليه» .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية

(3)

: «مَن أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بعقله، وتدبره بقلبه، وجد فيه من الفهم والحلاوة، والهدى، وشفاء القلوب، والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيءٍ من الكلام، لا في منظومه ولا منثوره» .

وقال أيضًا: «دخل في قوله صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» ، تعلم حروفه ومعانيه جميعًا، بل تعلم معانيه هو المقصود الأول من تعلم حروفه، وذلك الذي يزيد الإيمان، كما قال جُندَبُ بن عبد الله:«تعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانًا»

(4)

؛ ولهذا كانوا يبقَون مدةً في حفظ السورة»

(5)

.

وقال ابن القيم

(6)

: «التذكر والتفكر منزلتان يثمران أنواع المعارف، وحقائق الإيمان والإحسان، والعارف لا يزال يعود بتذكره على تفكره، حتى يفتح قلبه بإذن الفتاح العليم.

واعلم أن الرجل قد يكون له قلب وقَّاد مليء باستخراج العبر، واستنباط الحكم، فهذا قلبه يوقعه على التذكر والاعتبار، فإذا سمع الآيات كانت له نورًا على نور، وهؤلاء أكمل خلق الله وأعظمهم إيمانًا وبصيرة».

وقال أيضًا

(7)

: «سماع القرآن بالاعتبارات الثلاثة: إدراكًا، وفهمًا وتدبُّرًا، وإجابةً

(1)

في «زاد المسير» 1/ 3.

(2)

«مقدمة تيسير الكريم الرحمن» .

(3)

في «اقتضاء الصراط المستقيم» ص (384).

(4)

أخرجه ابن ماجه في المقدمة (61)، والبيهقي (3/ 120).

(5)

انظر: «مجموع الفتاوى» 13/ 304.

(6)

في «مدارج السالكين» 1/ 441 - 443.

(7)

المصدر السابق 1/ 484.

ص: 418

فلن تَعْدَم مِن هذا السّماع إرشادًا لحجَّة، وتبصرةً لعبرة، وتذكرةً لمعرفة، وفكرةً في آية، ودلالةً على رشد،

وحياة لقلب، وغذاء ودواء وشفاء، وعصمة ونجاة، وكشف شبهة».

وقال أيضًا

(1)

: «إذا أردتَ الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألقِ سمعك وأحضر حضور من يخاطبه ربه، من تكلم به سبحانه منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله» .

وقال أيضًا

(2)

: «فلا شيء أنفع للقلب من قراءة القرآن بالتدبر والتفكر، فإنه جامع لجميع منازل السائرين، وأحوال العاملين، ومقامات العارفين، وهو الذي يورث المحبة والشوق، والخوف والرجاء، والإنابة والتوكل، والرضا والتفويض، والشكر والصبر، وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله.

وكذلك يزجر عن جميع الصفات والأفعال المذمومة التي بها فساد القلب وهلاكه.

فلو علم الناس ما في قراءة القرآن بالتدبر لاشتغلوا بها عن كل ما سواها، فإذا قرأه بتفكر، حتى إذا مر بآية، وهو محتاج إليها في شفاء قلبه، كررها ولو مئة مرة، ولو ليلة

فقراءة القرآن بالتفكر هي أصل صلاح القلب».

وقال أيضًا

(3)

: «فليس أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن، وإطالة التأمل فيه، وجمع الفكر على معاني آياته، فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر

وتثبت قواعد الإيمان في قلبه، وتشيِّد بنيانه، وتوطد أركانه

وتعطيه قوة في قلبه وحياة وسَعة وانشراحًا وبهجة وسرورًا، فيصير في شأن والناس في شأن آخر

فلا تزال معانيه تنهض بالعبد الى ربه

وتثبت قلبه عن الزيغ والميل عن الحق

وتناديه كلما فترت عزماته، وونى في سيره: تقدم الركب، وفاتك الدليل

وفي تأمل القرآن وتدبره أضعاف أضعاف ما ذكرنا من الحكم والفوائد».

وقال في النونية

(4)

:

(1)

في «الفوائد» ص 1.

(2)

في «مفتاح دار السعادة» ص 221.

(3)

في «مدارج السالكين» 1/ 451 - 453.

(4)

انظر: «النونية مع الميمية» ص 36.

ص: 419

فتدبرِ القرآنَ إنْ رُمتَ الهُدى

فالعلمُ تحت تدبُّرِ القرآنِ

وقال السِّعدي

(1)

في كلامه على الآية: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]: «يأمر تعالى بتدبر كتابه، وهو التأمل في معانيه، وتحديق الفكر فيه، وفي مبادئه وعواقبه، ولوازم ذلك، فإن تدبر كتاب الله مِفتاح للعلوم والمعارف، وبه يُستنتج كل خير، وتُستخرج منه جميع العلوم، وبه يزداد الإيمان في القلب، وترسخ شجرته؛ فإنه يعرِّف بالربِّ المعبود، وما له من صفات الكمال، وما ينزَّه عنه من سمات النقص، ويعرِّف الطريق المُوصِلة إليه، وصفة أهلها، وما لهم عند القدوم عليه

وكلما ازداد العبد تأملًا فيه، ازداد علمًا وعملًا وبصيرة، ولذلك أمر الله بذلك وحث عليه وأخبر أنه هو المقصود بإنزال القرآن، كما قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

ومن فوائد التدبر لكتاب الله:

أنه يصل بذلك العبد الى درجة اليقين، والعلم بأنه كلام الله؛ لأنه يراه يصدق بعضه بعضًا، ويوافق بعضه بعضًا.

فترى الحكمة والقصة، والأخبار تعاد في القرآن، في عدة مواضع، كلها متوافقة متصادقة، لا ينقض بعضها بعضًا.

فبذلك يُعلم كمال القرآن، وأنه من عند من أحاط علمه بجميع الأمور، فلذلك قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، أي: فلما كان من عند الله لم يكن فيه اختلاف أصلًا».

وقال الشنقيطي

(2)

: «إذا علمت- أيها المسلم- أن هذا القرآن العظيم هو النور الذي أنزله الله ليستضاء به ويُستهدى بهداه في أرضه، فكيف ترضى لبصيرتك أن تعمى عن النور؟!

يجب عليك الجد والاجتهاد في تعلم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالوسائل

(1)

في «تيسير الكريم الرحمن» 2/ 112 - 113.

(2)

في «أضواء البيان» 7/ 437.

ص: 420

النافعة المنتجة، والعمل بكل ما علمك الله منهما علمًا صحيحًا».

‌ج- درجات تدبر معاني القرآن:

تدبر معاني القرآن درجات ثلاث:

الدرجة الأولى: درجة التفكر والتذكر والنظر والاعتبار:

قال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 219]، وقال تعالى:{وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة: 221]، وقال تعالى:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269، وآل عمران: 7].

والتفكر هو الذي يحمل صاحبه على عمل الخير، ويصده عن عمل الشر؛ لأن فيه النظر إلى عواقب الأمور، ولهذا أمر الله عز وجل بالتفكر في آياته الشرعية والنظر والاعتبار في آياته الكونية.

وقد قيل: تفكر ساعة خير من عبادة سنة، والتفكر: عمل القلب، والعبادة عمل الجوارح.

الدرجة الثانية: درجة التأثر والخشوع:

قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109].

وفي هذا ثناء على أهل العلم كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليَّ» . قلت: أقرأ عليك وعليك أُنزل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإني أحب أن أسمعه من غيري» . قال: فقرأت عليه سورة النساء، حتى بلغت:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]، قال لي:«أمسِك» . فإذا عيناه تذرفان

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في التفسير (4583)، وفي فضائل القرآن (5050)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (800)، وأبو داود في العلم (3668)، والترمذي في التفسير (3025).

ص: 421

وعن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه ابتنى مسجدًا بفناء داره، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رجلًا بكَّاءً، لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك قريش

(1)

.

قال ابن أبي مُليكة: «سافرت مع ابن عباس من مكة إلى المدينة، فكان يقوم نصف الليل فيقرأ القرآن حرفًا حرفًا، ثم يبكي حتى تَسمع له نَشيجًا»

(2)

.

الدرجة الثالثة: درجة الخضوع والانقياد والعمل.

وهي النوع الثالث من أنواع التدبر الآتي بعد.

‌د- مما يعين على تدبر القرآن الكريم وفهمه والخشوع فيه والخضوع له:

1 تيسير الله تعالى لذلك، قال تعالى:{فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17].

2 الإخلاص لله تعالى، وصدق الطلب، والإقبال على ما في القرآن من الهدى، قال ابن تيمية:«ومن تدبر القرآن طالبًا الهدى منه تبين له طريق الحق»

(3)

.

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7]؛ أي: لكل من سأل بلسان الحال أو المقال صادقًا.

3 إحضار القلب، وإلقاء السمع، والتأمل بما في الآيات من الوعد والوعيد، قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 27]، وقال تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، وقال تعالى:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18].

(1)

أخرجه البخاري في الصلاة (476)، وفي مناقب الأنصار (3905).

(2)

أخرجه أبو داود في «الزهد» (328)، ومحمد بن نصر المروزي في «مختصر قيام الليل» ص (131).

(3)

انظر: «العقيدة الواسطية» شرح هراس ص 103.

ص: 422

قال مالك بن دينار رحمه الله: «ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب»

(1)

.

4 الوقوف على مواضع الوقف في الآيات، ليتبين ويظهر معناها.

5 تَكرار الآية وترديدها، كما هي عادة السلف رحمهم الله؛ ليحصل التأثر بها والخشوع عندها.

6 تدارس القرآن: فقد كان جبريل عليه السلام كل ليلة من رمضان يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده»

(3)

.

‌النوع الثالث: تدبر أحكام القرآن الكريم والعمل به وأهميته:

‌أ- معنى تدبر أحكام القرآن الكريم والعمل به:

هو معرفة أحكام القرآن الكريم وحدوده، وأوامره ونواهيه، واتباعه، والعمل به، فعلًا للمأمورات، وتركًا للمنهيات.

‌ب- أهمية تدبر أحكام القرآن الكريم والعمل به:

تدبر أحكام القرآن والعمل به هو الغاية من إنزال القرآن، وهو المقصود الأول والأعظم والأهم من التدبر بأنواعه الثلاثة، فتدبر ألفاظ القرآن وضبط تلاوته وقراءته وسيلة إلى تدبر معانيه وفهمه والتأثر به، وتدبر معانيه وفهمه والتأثر به سبب لتدبر أحكامه والعمل به، وتدبر أحكامه والعمل به هو ثمرة تدبر ألفاظه ومعانيه، قال الله تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]؛ أي: لأجل أن يتدبروا آيات هذا الكتاب المبارك العظيم، بتدبر ألفاظها وتلاوتها، وفهم معانيها، والعمل بأحكامها.

(1)

أخرجه أحمد في «الزهد» 1/ 536 (1895)، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 278).

(2)

أخرجه البخاري في بدء الوحي (6)، والنسائي في الصيام (2095)، وأحمد 1/ 288 (2616) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

سبق تخريجه قريبًا.

ص: 423

وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155]؛ أي: اتبعوه في العمل بما يأمركم به، وترك ما ينهاكم عنه.

وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3]؛ أي: بالعمل به.

وقال تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187]؛ أي: لعلهم يتقون الله بالعمل بآياته بفعل أوامره وترك نواهيه.

وقال تعالى في الثناء على المتدبرين لأحكامه العاملين به: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [البقرة: 121]؛ أي: يتلونه حق تلاوته، بتدبر ألفاظه حق التدبر، بقراءته قراءة صحيحة، وتدبر معانيه حق التدبر بفهم معانيه، وتدبر أحكامه حق التدبر بالعمل به.

وقال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18]؛ أي: فيتبعون أحسنه بالعمل به، بفعل ما يأمرهم به، وترك ما ينهاهم عنه.

وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4].

وقال تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73]؛ أي: بل يسمعونها ويبصرونها ويخرون سُجَّدًا وبكيًّا.

وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 83]؛ أي: صدقنا وانقدنا ظاهرًا وباطنًا.

وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يُؤتَى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران» . وضرب رسول الله

ص: 424

-صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسِيتهن بعدُ؛ قال: «كأنهما غَمامتان أو ظُلتان سَوداوان بينهما شَرْقٌ، أو كأنهما حِزقانِ من طيرٍ صوافَّ، تُحاجان عن صاحبهما»

(1)

.

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن عُيينة بن حِصن دخل على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هِي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجَزْل، ولا تحكم فينا بالعدل. فغضب عمر رضي الله عنه، حتى همَّ أن يوقع به، فقال له الحرُّ بن قيس: يا أمير المؤمنين، إن الله يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين. قال الراوي:«والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله»

(2)

.

قال سفيان: «ليس في كتاب الله آية أشد علي من قوله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68]، وإقامتها: فهمها والعمل بها»

(3)

.

قال ابن باز رحمه الله

(4)

: «التدبر للقرآن مشروع كما بينه الله عز وجل، وهو المقصود من التلاوة، التدبر، والتعقل، والفهم، ثم العمل؛ قال الله عز وجل:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

فهو أُنزل للتدبر، قال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

فالمشروع للمؤمن عند التلاوة، وهكذا المؤمنة: التدبر، والتعقل، والتفهم، يعني: تدبر المعنى، ما هو المعنى، يتفهم حتى يعمل، حتى يوصي الناس به».

وقال ابن عثيمين رحمه الله

(5)

: «ينبغي للإنسان أن يتفكر في آيات الله الشرعية في القرآن والسنة، فيتدبر الآيات ليتبين له من أحكامها ما شاء الله، ثم يتدبر مرة أخرى في الحكم

(1)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (805)، والترمذي في فضائل القرآن (2883)، وأحمد 4/ 183 (17637).

(2)

أخرجه البخاري في تفسير سورة الأعراف (4642)، وفي الاعتصام بالكتاب والسنة (7286).

(3)

انظر: «كتاب البدع والحوادث» ص 101.

(4)

«مجموع فتاوى ابن باز» 2/ 301 - 302.

(5)

في «أحكام القرآن» 2/ 138.

ص: 425

المترتبة على هذه الأحكام؛ لأن الإنسان إذا فتح الله عليه معرفة الحكم، والأحكام الشرعية ازداد إيمانًا ويقينًا، وعرَفَ بذلك سمو الشريعة الإسلامية، وأنها لا تأمر إلا بخير ولا تنهى إلا عن شر».

وتدبر القرآن بالعمل به لا يُعذر بتركه أحد؛ لأنه هو المقصود بالأمر بالتدبر، ومن تدبر ألفاظ القرآن ومعانيه دون تدبر أحكامه والعمل به، لم ينفعه ذلك، بل كان ذلك حجة عليه، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه: .... ورجل تعلم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرَّفه نِعَمَه فعرفها، قال: فما عمِلت فيها؟ قال: تعلمتُ العلمَ وعلَّمتُه وقرأت فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار»

(1)

.

قال الشاعر:

وعالم بعلمِه لم يَعْمَلَنْ

مُعذَّبٌ من قبلِ عُبَّادِ الوَثَن

(2)

وقد اعتنى بعض طلبة العلم بالحث على تدبر ألفاظ القرآن ومعانيه أكثر من العناية والحث على ثمرة التدبر وغايته، وهو تدبر أحكامه والعمل به، مما جعل البعض يظن أن التدبر ثقافة قرآنية فقط.

وفي هذا خلل عظيم؛ فإن من تدبر ألفاظ القرآن ومعانيه دون تدبر أحكامه والعمل به لا يُعد متدبرًا، ولا ينفعه ذلك، وكان حجةً عليه، كما سبق بيان ذلك.

قال الحسن البصري رحمه الله: «نزل القرآن ليُتدبر ويُعمل به، فاتخذوا تلاوته عملًا»

(3)

.

وقال أيضًا: «إنّ أولى الناس بالقرآن من اتبعه، وإن لم يكن يقرؤه»

(4)

.

(1)

أخرجه مسلم في الإمارة (1905)، والنسائي في الجهاد (3137)، والترمذي في الزهد (2382)، وأحمد 2/ 321 (8277).

(2)

البيت لابن رسلان الشافعي. انظر: «غاية البيان، في شرح زبد ابن رسلان» ص (4)، و «صيد الأفكار، في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال» (1/ 34).

(3)

«مدارج السالكين» (1/ 451).

(4)

«المرشد الوجيز» لأبي شامة (ص 146).

ص: 426

أما من تدبر أحكام القرآن وعمل به، ولم يتمكن من تدبر ألفاظه ومعانيه كما ينبغي، فإن ذلك لا يضيره، كما قال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل: «ما تقول في الصلاة؟» قال: أتشهد، ثم أسأل الله الجنة، وأعوذ به من النار، أما والله ما أُحسِنُ دَنْدَنَتَكَ، ولا دندنة معاذ. فقال:«حولها نُدندِن»

(1)

.

‌ج - حكم ترك العمل بالقرآن الكريم:

ترك العمل بالقرآن الكريم لا يجوز، وهو من أعظم الهجر له، بل هو الهجر الحقيقي له، وهو كفر، ولهذا ذم الله تعالى المتولِّين عن سماع القرآن المستكبرين، وتوعَّدهم، فقال تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان: 7].

وحال بينهم وبين فهم القرآن كما قال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25]، وقال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16]، وقال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقال تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 124 - 127].

وقال صلى الله عليه وسلم: «القرآن حجة لك أو عليك»

(2)

؛ أي: حجة لك إن عملت به، وحجة عليك إن أعرضت عنه، ولم تعمل به.

(1)

أخرجه أبو داود في الصلاة (792)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (910)، وأحمد 3/ 474 (15898)، وعند أبي داود وأحمد: عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (757).

(2)

أخرجه مسلم في الطهارة (223)، والنسائي في الزكاة (2437)، والترمذي في الدعوات (3517)، وابن ماجه في الطهارة (280)، وأحمد 5/ 343 (22902) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

ص: 427

وقال ابن القيم في ذكر أنواع هجر القرآن: «والثاني هجر العمل به، والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به، والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه»

(1)

.

‌الوقفة الثانية:

في مدة ختم القرآن الكريم

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألم أُخبَرْ أنك تصوم الدهر، وتقرأ القرآن كل ليلة؟» فقلت: بلى يا نبي الله، ولم أُرد بذلك إلا الخير. قال: «فإن بحسْبك أن تصوم من كل شهرٍ ثلاثةَ أيام

» إلى أن قال: «واقرأ القرآن في كل شهر» . قال: قلت: يا نبي الله، إني أُطيق أفضل من ذلك، قال:«فاقرأْه في كل عشرين» . قال: قلت: يا نبي الله، إني أُطيق أفضل من ذلك. قال:«فاقرأْه في عشر» . قال: قلتُ: يا نبي الله، إني أُطيق أفضل من ذلك. قال:«فاقرأه في سبعٍ، ولا تزد على ذلك، فإن لزوجك عليك حقًّا، ولزَوْرِك عليك حقَّا، ولجسدك عليك حقَّا» . فقال: فشددتُ فشُدد علي. قال: وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك لا تدري لعلك يَطُولُ بك عُمُر» . قال: فصرتُ إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كَبِرتُ وَدِدتُ أني قبِلتُ رُخصةَ نبي الله صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «اقرأ القرآن في كل شهر» . قال: إني أطيق أكثر، فما زال حتى قال:«في ثلاث»

(3)

.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث»

(4)

.

(1)

انظر: «بدائع التفسير» 3/ 292 - 293.

(2)

أخرجه البخاري في الصوم (1977)، ومسلم في الصيام (1159)، والنسائي في الصيام (2397، 2401)، وأحمد 2/ 198 (6867).

(3)

أخرجها البخاري في الصوم (1978)، وأحمد 2/ 188 (6864).

(4)

أخرجه أبو داود في قراءة القرآن وتحزيبه وترتيله (1390، 1394)، والترمذي في القراءات (2949)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، والسنة فيها (1347)، وأحمد 2/ 195 (6841). قال الترمذي:«حديث حسن صحيح» . وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1260).

ص: 428

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لا أعلم نبي الله قرأ القرآن كله في ليلة»

(1)

.

وسئل زيد بن ثابت رضي الله عنه: كيف ترى قراءة القرآن في سبع؟ قال: حسن، ولأن أقرأه في نصف شهر أو عشر أحبُّ إلي، وسلني لم ذلك؟ قال: فإني أسألك؟ قال زيد: لكي أتدبره وأقف عليه

(2)

.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «اقرؤوا القرآن في سبع، ولا تقرؤوه في أقل من ثلاث»

(3)

.

وعن أبي حمزة قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: إني سريع القراءة، وإني أقرأ القرآن في ثلاث. فقال عبد الله:«لأن أقرأ البقرة في ليلةٍ فأتدبرها وأرتلها أحبُّ إليَّ من أن أقرأ كما تقول»

(4)

.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «لأن أقرأ البقرة وآل عمران، وأرتلهما وأتدبرهما، أحب إليَّ من أن أقرأ القرآن هَذْرَمةً»

(5)

.

وعن مسلم بن مِخراق قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين، إن ناسًا يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثًا، فقالت:«قرؤوا ولم يقرؤوا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليلة التمام فيقرأ بسورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء، ثم لا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل ورغِب، ولا يمر بآية فيها تخويف إلا دعا الله عز وجل واستعاذ»

(6)

.

(1)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (746)، والنسائي في الصيام (2348)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، والسنة فيها (1348)، وأحمد 6/ 53 (24269).

(2)

أخرجه مالك في القرآن (1/ 200)، وعبد الرزاق في «المصنف» 3/ 354 (5951).

(3)

أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» 3/ 353 (5948)، وسعيد بن منصور في التفسير من «سننه» 2/ 442 (146)، والبيهقي (2/ 396). وصحح الحافظ في «فتح الباري» (9/ 78) إسناد سعيد بن منصور.

(4)

أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» (157)، والآجري في «أخلاق حملة القرآن» (90)، والبيهقي (2/ 396)، ومحمد بن نصر المروزي في «مختصر قيام الليل» ص (148).

(5)

انظر: «مختصر منهاج القاصدين» لابن قدامة المقدسي ص (52).

(6)

أخرجه أحمد 6/ 119 (24875).

ص: 429

فالأولى أن يقرأ القرآن في سبع، أو في ثلاث، ولا يزيد على ذلك، وهذا ما عليه أكثر أهل العلم من السلف وغيرهم، وقد كره بعضهم أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث؛ منهم: معاذ بن جبل رضي الله عنه، وأبو عبيد، وإسحاق

(1)

.

قال النووي

(2)

: «أكثر السلف يختمه في سبع» ، وقال السيوطي

(3)

: «وهذا أوسط الأمور وأحسنها، وهو فعل الأكثر من الصحابة وغيرهم» .

وقال الآجري

(4)

: «القليل من الدرس للقرآن مع التفكر فيه وتدبره أحب إليَّ من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبر ولا تفكر فيه، وظاهر القرآن يدل على ذلك، والسنة وقول أئمة المسلمين» .

وقال ابن تيمية: «قراءة القرآن على الوجه المأمور به تُورِث القلب الإيمان العظيم، وتَزيده يقينًا وطمأنينة وشفاء»

(5)

.

وقال ابن القيم

(6)

: «فقراءة آية بتفكر خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن» .

وقال ابن الجزري

(7)

: «الصحيح- بل الصواب- ما عليه معظم السلف، وهو أن الترتيل والتدبر مع قلة القراءة أفضل من السرعة مع كثرتها» .

وبِناءً على ما سبق: فمن قرأ القرآن في سبع أو في ثلاث اجتمع له أمران:

الأول: الأخذ بالسنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:«فاقرأه في سبع ولا تَزِدْ» ، وفي رواية: فما زال حتى قال: «في ثلاث» ، وفي الحديث الآخر قال صلى الله عليه وسلم: «لا يفقه من

(1)

انظر: «مصنف عبد الرزاق» 3/ 354 (5950)، و «فضائل القرآن» لأبي عبيد ص (180)، و «مصنف ابن أبي شيبة» 5/ 510 (8666)، و «مختصر قيام الليل» لمحمد بن نصر المروزي ص (155)، و «فضائل القرآن» لابن كثير ص (254).

(2)

في «الأذكار» ص 85، وفي «التبيان» ص 45.

(3)

في «الإتقان» 1/ 137.

(4)

في «آداب حملة القرآن» ص 82.

(5)

«مجموع الفتاوى» 7/ 283.

(6)

في «مفتاح دار السعادة» ص 221.

(7)

في «النشر» 1/ 297.

ص: 430

قرأ القرآن في أقل من ثلاث».

وقد جا أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يختم القرآن في أقل من ثلاث

(1)

.

الأمر الثاني: التمكن من التدبر، وهو المقصود الأول والأعظم والأهم من إنزال القرآن الكريم، كما قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

إضافة إلى هذا أن من يقرأ القرآن في أقل من ثلاث سواء في ليلة أو ليلتين، قد لا يسلم من التقصير في هذه المدة في حقوق أخرى، لله أو لنفسه، أو لوالديه، أو لأهله، أو لأولاده، أو لغيرهم، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:«فإن لزوجك عليك حقَّا، ولزورك عليك حقَّا، ولجسدك عليك حقَّا» .

وهذا والله أعلم من الحكمة في النهي عن قراءة القرآن في أقل من ثلاث، إضافة إلى عدم التمكن من التدبر، كما قال صلى الله عليه وسلم:«لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» .

قال ابن باز رحمه الله

(2)

: «وبعض السلف قال: يُستثنى من ذلك أوقات الفضائل، وأنه لا بأس أن يختم في كل ليلة، أو في كل يوم

(3)

، كما ذكروا ذلك عن الشافعي وغيره.

لكن ظاهر السنة أنه لا فرق بين رمضان وغيره، وأنه ينبغي له أن لا يتعجل، وأن يطمئن في قراءته، وأن يرتل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمرو فقال:«اقرأه في سبع» ، وهذا آخر ما أمره به، وقال:«لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» ، ولم يقل: إلا في رمضان، فحَمْلُ بعض السلف هذا على غير رمضان محل نظر.

والأقرب- والله أعلم- أن المشروع للمؤمن أن يُعنى بالقرآن، ويجتهد في إحسان قراءته، وتدبر القرآن، والعناية بالمعنى، ولا يعجل، والأفضل ألا يختم في أقل من ثلاث، هذا هو الذي ينبغي حسب ما جاءت به السنة ولو في رمضان».

(1)

أخرجه ابن سعد (1/ 376)، وأبو الشيخ في «أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم» ص 281.

(2)

في «الجواب الصحيح، في أحكام صلاة الليل والتراويح» ص 27.

(3)

انظر: «لطائف المعارف» لابن رجب ص 202.

ص: 431

وقال أيضًا رحمه الله عن قراءة القرآن في صلاة التراويح

(1)

: «ليس المهم أن يختم، وإنما المهم أن ينتفع الناس في صلاته، وفي خشوعه، وفي قراءته، حتى يستفيدوا ويطمئنوا؛ لأن عنايته بالناس وحرصه على خشوعهم وعلى إفادتهم أهم من كونه يختم.

وليس هذا موجبًا لأن يستعجل، ولا يتأنى في قراءته، ولا يتحرى الخشوع والطمأنينة، بل يتحرى هذه الأمور أولى من مراعاة الختمة».

‌الوقفة الثالثة في:

الصوارف عن قراءة القرآن الكريم وتدبره

الصوارف والحجب عن قراءة القرآن الكريم وتدبره كثيرة جدًّا، كما هي الصوارف عن الإيمان، ومنها ما يأتي:

1 الكبر والكفر بالآيات، وتنكُّب طريق الرشد، وسلوك طريق الغَيِّ، قال تعالى:{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: 146].

2 ارتكاب بعض البدع.

3 اتباع الهوى.

4 ضعف الإيمان واليقين.

5 الإصرار على الذنوب والمعاصي.

6 الافتتان بحب الدنيا وجمعها، وزينتها وزخرفها.

قال ابن قُدامة

(2)

: «وليتخلَّ التالي من موانع الفهم، ومن ذلك أن يكون مصرًّا على ذنب، أو متصفًا بكبر، أو مبتلًى بهوًى مطاع، فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه» .

ص: 432

وقال الزركشي في «البرهان»

(1)

: «واعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، ولا تظهر له أسراره، وفي قلبه بدعة، أو كبر، أو هوى، أو حب دنيا، أو هو مصر على ذنب، أو غير متحقق الإيمان، أو ضعيف التحقيق» .

7 الافتتان بحب الغناء والمعازف والمزامير.

قال ابن القيم

(2)

:

حبُّ الكتابِ وحبُّ ألحانِ الغِنا

في قلبِ عبدٍ ليسَ يَجتمعان

8 انشغال القلب بشيء مما ذُكر، أو بغير ذلك، وشروده، قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].

قال ابن القيم

(3)

: «الناس ثلاثة: رجل قلبه ميت، الثاني: رجل له قلب حي، لكنه مشغول ليس حاضرًا، فهذا أيضًا لا تحصل له الذكرى، الثالث: رجل حي القلب مستعد تُليت عليه الآيات فأصغى بسمعه وألقى السمع، وأحضر القلب، لم يشغله بغير فهم ما يسمع، فهو شاهد القلب، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات» .

9 قصر الهمة على كثرة القراءة، وكون همه ختم السورة، وهذا حُجب به كثير من الناس عن تدبر القرآن والتأثر به والخشوع، وعن محاسبة النفس عن العمل به، قال الحسن البصري:«كيف يرق قلبك وإنما همتك في آخر السورة»

(4)

.

10 قصر الهمة على تحقيق القراءة وحسن التلاوة والتجويد، وقوة الاستحضار، وهذا حجب كثيرًا من أهل القرآن عن تدبر معانيه وفهمه، والتأثر به والخشوع، وعن محاسبة النفس عن العمل به.

قال ابن قدامة

(5)

: «وليتخلَّ التالي عن موانع الفهم، مثل: أن يخيل له الشيطان أنه ما

(1)

/ 197.

(2)

انظر: «القصيدة النونية مع الميمية» ص 224.

(3)

في «مدارج السالكين» 1/ 442.

(4)

أخرجه أحمد في «الزهد» 1/ 442 (1469)، وانظر:«مختصر قيام الليل» للمروزي ص (148)، و «التذكار، في أفضل الأذكار» للقرطبي ص (151).

(5)

في «مختصر منهاج القاصدين» ص 67 - 68.

ص: 433

حقق تلاوة الحرف، ولا أخرجه من مخرجه، فيصرف همته عن فهم المعنى».

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «ولا يجعل همته فيما حُجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن، إما بالوسوسة في خروج حروفه، وترقيقها، وتفخيمها، وإمالتها، والنطق بالمد الطويل، والقصير، والمتوسط، وغير ذلك، فإن هذا حائل للقلوب، قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه»

(1)

.

11 الانشغال عن تدبر القرآن بالمبهمات من الأعيان، والأماكن، والأعداد، وتفصيل بعض الوقائع، والأحداث التي أجملها القرآن، ولا طائل تحتها، ولا فائدة تعود على المكلفين من ذكرها، كالبعض الذي ضُرب به القتيل من البقرة، وأسماء أصحاب الكهف، وغير ذلك.

وقريب من هذا ما يورده من يرون التدبر ثقافة قرآنية من أسئلة: لماذا زاد حرفًا هنا؟ ولماذا نقص حرفًا هنا؟

‌الوقفة الرابعة في:

حرص السلف رضي الله عنهم على تلاوة كتاب الله عز وجل،

وتعلمه، وتدبره، وفهم معانيه، والعمل به

ضرب السلف الصالح رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أروع الأمثلة في العناية بكتاب الله عز وجل، تدبرًا لألفاظه ومعانيه، وعملًا به، وتعلمًا له وتعليمًا.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «والله ما نزلت آية إلا وقد علِمتُ فيما نزلت، وأين نزلت، وعلى من نزلت»

(2)

.

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «والله الذي لا إله غيره، ما أُنزلت سورة من كتاب الله

(1)

انظر: «دقائق التفسير» 5/ 6.

(2)

أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (2/ 257)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» 42/ 397، 398.

ص: 434

إلا أنا أعلم أين أُنزلت، ولا أُنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أُنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه»

(1)

.

وعن مجاهد رحمه الله قال: «عرضتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته، أُوقِفه عند كل آية منه وأسأله عنها»

(2)

.

وجاء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعلم سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة

(3)

.

وعن أنس رضي الله عنه قال: «مكث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها»

(4)

.

قال خالد بن الوليد: «لقد منعني كثيرًا من القراءة الجهادُ في سبيل الله»

(5)

.

وعن أبي عبد الرحمن السُّلَمي قال: «حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا القرآن، عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا»

(6)

.

وكان من عادة السلف رحمهم الله تَكرار الآيات وتردديها لتدبرها وفهمها والتأثر والخشوع عندها؛ كما جاء ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية حتى أصبح يرددها: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ

(1)

أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5002)، ومسلم في فضائل الصحابة (2463).

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» 3/ 558 (30917، 30918)، والطبري في «جامع البيان» (1/ 85، 3/ 755)، والحاكم (2/ 279)، وسكت عنه، وأبو نُعيم في «الحلية» (3/ 279).

(3)

أخرجه الخطيب البغدادي في «أسماء من روى عن مالك» كما في «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (1/ 40)، و «الدر المنثور» للسيوطي (1/ 115)، وأخرجه البيهقي في «الشعب» 3/ 346 (1805)، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (44/ 286).

(4)

أخرجه مالك في القرآن (1/ 205) بلاغًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

(5)

في «مسند أبي يعلى الموصلي» (13/ 143)

(6)

أخرجه أحمد 5/ 410 (23482)، وابن وضاح في «البدع» 2/ 170 (255)، والطبري في «جامع البيان» (1/ 74)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» 4/ 84 (1452).

ص: 435

تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]

(1)

.

وعن عباد بن حمزة قال: «دخلت على أسماء وهي تقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27]، فوقفتُ عندها، فجعلتْ تستعيذ وتدعو، فطال عليَّ ذلك، فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي، ثم رجعت، وهي فيها بعدُ تستعيذ وتدعو»

(2)

.

وردد ابن مسعود رضي الله عنه: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]

(3)

.

وردد سعيد بن جبير رحمه الله قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 286] بِضْعًا وعشرين مَرَّةً

(4)

.

وردد رحمه الله أيضًا: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 70 - 71]، وردد أيضًا:{مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6].

وكان الضحاك إذا تلا قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] يرددها إلى السحر

(5)

.

وردد الحسن البصري رحمه الله ليلة قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} حتى أصبح فقيل له في ذلك، فقال:«إن فيها مُعتبَرًا، ما نرفع طرْفًا ولا نرده إلا وقع على نعمة، وما لا نعلمه من نعم الله أكثر»

(6)

.

وعن عامر بن قيس أنه قرأ ليلةً سورة المؤمن، فلما انتهى إلى قوله:{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر: 18]، فلم يزل يرددها حتى أصبح.

(1)

أخرجه النسائي في الافتتاح باب: ترديد الآية (2/ 177)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، والسنة فيها (1350)، والحاكم (1/ 241)، والبيهقي (3/ 14). قال الحاكم:«صحيح، ولم يخرجاه» .

(2)

أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» 4/ 304 (6092).

(3)

انظر: «التبيان، في آداب حملة القرآن» (85).

(4)

أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» 19/ 407 (36499)، وأحمد في «الزهد» 1/ 614 (2207)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 272).

(5)

انظر: «التبيان، في آداب حملة القرآن» (85).

(6)

انظر: «مختصر قيام الليل» للمروزي ص (148)، و «التذكار، في أفضل الأذكار» للقرطبي ص (151).

ص: 436

وردد قوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16]

(1)

.

وكان الفُضيل بن عِيَاض إذا مرَّ بآية فيها ذكر الجنة يردد فيها ويسأل

(2)

.

وقال محمد بن كعب القُرَظي: «لأن أقرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} و {الْقَارِعَةُ} أرددهما وأتفكر فيهما أحب إليَّ من أن أبِيت أهذُّ القرآن»

(3)

.

وقال النووي

(4)

: «وقد بات جماعة من السلف يتلو الواحد منهم الآية ليلةً كاملة أو معظمها، ويتدبرها عند القراءة» .

وقال ابن القيم

(5)

: «هذه كانت عادة السلف، يردد أحدهم الآية إلى الصبح» .

‌الوقفة الخامسة في:

آداب تلاوة القرآن الكريم وحملته

القرآن الكريم كلام الله عز وجل يجب تعظيمه وتكريمه واحترامه، والتأدب معه بأحسن الآداب، والتخلق معه بأجمل الأخلاق، ومن ذلك مراعاة الأمور التالية:

الأول: الإخلاص لله تعالى؛ بأن يكون القارئ مخلصًا لله تعالى في نيته، يقصد بقراءته وجه الله تعالى ومرضاته، ويبتغي بذلك الأجر والثواب من الله تعالى، متجردًا من كل غرض دُنيوي؛ من مال أو رياسة، أو جاه أو ارتفاع على أقرانه، أو ثناء الناس عليه، أو صرف وجوه الناس إليه، أو رياء وسمعة، أو إعجاب بالنفس أو غير ذلك.

قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 2 - 3]، وقال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5].

(1)

انظر: «التبيان، في آداب حملة القرآن» للنووي ص (86).

(2)

أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (8/ 86). وانظر: «نزهة الفضلاء، في تهذيب سير أعلام النبلاء» (2/ 662).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» 6/ 53 (8824). وانظر: «مختصر قيام الليل» ص (148)، و «الزهد» لابن المبارك ص (97).

(4)

في «الأذكار» ص (90).

(5)

في «مفتاح دار السعادة» (1/ 222).

ص: 437

وقراءة القرآن الكريم عبادة من أجل العبادات.

وقال عز وجل في الحديث القدسي: «من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علمًا مما يُبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من أعراض الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة»

(3)

.

قال النووي رحمه الله في «التبيان، في آداب حملة القرآن»

(4)

: «وليحذر كل الحذر من قصده التكبر بكثرة المشتغلين عليه، والمختلفين إليه، وليحذر من كراهة قراءة أصحابه على غيره ممن ينتفع به، وهذه مصيبة يُبتلى بها بعض المعلمين الجاهلين، وهي دلالة بينة من صاحبها على سوء نيته، وفساد طويته، بل هي حجة قاطعة على عدم إرادته بتعليمه وجه الله الكريم» .

الثاني: الطهارة: فيجب على من أراد تلاوة القرآن الكريم من المصحف الطهارة التامة من الحدث الأكبر والأصغر؛ لأنه لا يجوز مس المصحف إلا على طهارة، قال تعالى:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79].

وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن حزم: «وألا يمس القرآن إلا طاهر»

(5)

.

ويجوز لمن كان عليه الحدث الأصغر قراءة القرآن حفظًا، ولكن الأولى والأفضل أن يكون على طهارة تامة.

(1)

أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2985)، وابن ماجه في الزهد (4202) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه أبو داود في العلم (3664)، وابن ماجه في المقدمة 252، وأحمد 1/ 338، وصححه ابن حبان برقم (89)، والحاكم 1/ 85 ووافقه الذهبي.

(4)

ص 32، وانظر ص 27 - 28.

(5)

أخرجه مالك (1/ 199)، وعبد الرزاق في «تفسيره» 3/ 282 (3149)، وأبو داود في «مراسيله» (92 - 94)، والدارمي 2/ 214 (2266)، وابن حبان 14/ 501 - 404 (6559)، والحاكم (1/ 395 - 397)، والبيهقي (1/ 87، 309). صححه الحاكم، ووافقه الذهبي. قال الإمام أحمد:«أرجو أن يكون صحيحًا» وقال: «لا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتبه» . انظر: «تلخيص الحبير» (1/ 141)، «بدائع التفسير» (4/ 365 - 366)، وصححه الألباني في «الإرواء» (122).

ص: 438

ولا يجوز لمن كان جنبًا قراءة القرآن لا تلاوة ولا حفظًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يمنعه شيء من قراءة القرآن إلا الجنابة (1).

واختُلف في قراءة الحائض والنفساء للقرآن:

فمن أهل العلم من منع ذلك، ومنهم من أجازه، والأظهر: أن لها قراءة القرآن عند الحاجة، لكن إن كان من المصحف فيكون من وراء حائل.

الثالث: السواك، ونظافة الفم والبدن واللباس والطيب، وحسن الرائحة والهيئة، واستحضار القارئ أنه يناجي ربه عز وجل، ويقرأ كلامه سبحانه وتعالى كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه، وهو أشبه بمن يناجي الله تعالى في الصلاة، ينبغي أن يكون على أحسن حال.

الرابع: استقبال القبلة ما أمكن، فذلك أفضل كما شرع استقبالها في الصلاة، وفي الدعاء، وعند النوم، وفي الذبح، وغير ذلك.

الخامس: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98].

السادس: البسملة مع كل سورة، عدا سورة التوبة؛ لأن البسملة آية مستقلة تنزل مع كل سورة، سوى سورة براءة فلم تنزل معها البسملة، وهي بعض آية من سورة النمل في قوله تعالى:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النحل: 30].

السابع: الاعتدال في الجِلسة تعظيمًا لله عز وجل ولكلامه وتهيئة الجوارح والحواس كلها للانتفاع بالقرآن الكريم، وهذا أولى وأفضل، ولو قرأ على أي حال جاز ذلك، لقوله تعالى:{فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103].

وعن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ وهو على راحلته سورة الفتح

(1)

.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حَجْري وأنا حائض فيقرأ القرآن

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري (5034)، ومسلم (794).

(2)

أخرجه البخاري (297)، ومسلم (301).

ص: 439

الثامن: أن تكون القراءة في مكان محترم نظيف هادئ مهيأ للقراءة، بعيدًا عن أماكن اللغو والأصوات والمشوشات من آلات اللهو وغير ذلك، كالمساجد والمدارس ونحوها.

التاسع: تدبر ألفاظ القرآن ومعانيه وأحكامه، قال تعالى:{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء: 82، ومحمد: 24].

قال الحسن البصري رحمه الله: «إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار»

(1)

.

العاشر: الخشوع والخضوع والخوف والوَجَل والبكاء عند قراءة القرآن، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109].

وصلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجماعة الصبح فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه على تَرْقُوَتَه. وفي رواية: «فبكى حتى سمعوا بكاءه من وراء الصفوف» .

وعن أبي رجاء قال: «رأيت ابن عباس وتحت عينيه مثل الشِّراك البالي من الدموع» .

وعن أبي صالح قال: «قدم ناس من أهل اليمن على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فجعلوا يقرؤون القرآن ويبكون، فقال أبو بكر رضي الله عنه: هكذا كنا»

(2)

.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: «ينبغي لحامل القرآن أن يُعرفَ بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مُفطِرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون»

(3)

.

الحادي عشر: أن يحرص على ترتيل القرآن، وتحسين الصوت به، والتغني به، قال تعالى:{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4].

(1)

انظر: «التبيان، في آداب حملة القرآن» (ص 51).

(2)

انظر: «التبيان» (ص 86).

(3)

انظر: «التبيان» (ص 54).

ص: 440

وقال صلى الله عليه وسلم: «زينوا القرآن بأصواتكم» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن يجهر به»

(1)

.

وقد أجمع العلماء على استحباب ترتيل القرآن، وتزيين الصوت به، والتغني به.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لَأَنْ أقرأ سورة أرتلها أحب إليَّ من أن أقرأ القرآن كله»

(2)

.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلًا قال له: إني أقرأ المفصَّل في ركعةٍ واحدة، فقال عبد الله بن مسعود:«هذًّا كهذِّ الشعر، إن أقوامًا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيَهم، ولكن إذا وقع في القلب فرَسَخَ فيه نفع»

(3)

.

الثاني عشر: التأثر بالقرآن والتفاعل معه واستحضار معانيه، بحيث إذا مر القارئ بآية رحمةٍ سأل الله تعالى من فضله، وإذا مر بآية عذاب استعاذ بالله من ذلك، وإذا مر بآية تسبيح سبَّح الله تعالى، وهكذا.

لِما جاء في حديث حذيفة رضي الله عنه قال: «صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة

» الحديث، وفيه قال حذيفة:«فإذا مرَّ بآية تسبيحٍ سبَّح، وإذا مرَّ بآية سؤالٍ سأل، وإذا مرَّ بتعوُّذ تعوَّذ»

(4)

.

الثالث عشر: الوقوف عند المواضع التي يُشرع الوقوف عندها استحبابًا؛ كرؤوس الآي، وغيرها، وعند المواضع التي يجب الوقوف عندها.

عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته آية آية» .

وعن أنس رضي الله عنه قال: «كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم مدًّا، ثم قرأ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، يمد بـ «الرَّحْمَنِ» ، ويمد بـ «الرَّحِيمِ»

(5)

.

الرابع عشر: الإمساك عن القراءة عند غلبة النعاس عليه، وعند كثرة المشوشات حوله، بحيث لا يدري ما يقرأ؛ إجلالًا وتعظيمًا لكلام الله عز وجل.

الخامس عشر: السجود عند قراءة الآيات التي فيها سجود التلاوة.

(1)

سبق تخريجهما.

(2)

انظر: «التبيان» للنووي (ص 89).

(3)

أخرجه البخاري في الأذان (775)، ومسلم في صلاة المسافرين (822).

(4)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (772).

(5)

سبق تخريجهما.

ص: 441

السادس عشر: تعاهد القرآن واستذكاره بالمواظبة على مراجعة حفظه، قال صلى الله عليه وسلم:«تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفس محمدٍ بيده لهو أشد تفلُّتًا من الإبل في عُقُلِها»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما مَثَلُ صاحب القرآنِ كمثلِ الإبلِ المعقَّلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإنْ أطلقها ذهبت»

(2)

.

وينبغي أن يحترز مَن وفَّقه الله تعالى إلى حفظ القرآن الكريم من التساهل في تعاهده ومراجعته؛ لئلا ينساه، فإن حصل له شيء من النسيان فليتداركه، ولا يقول:«نَسِيتُ آية كذا» ؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، بل يقول:«نُسِّيتُ»

(3)

؛ لأن نَسِيتُ يدل على التساهل والغفلة.

السابع عشر: الإكثار من تلاوة القرآن، وعدم هجره، فيقرؤه على الأقل في كل شهر، أو في أقل من ذلك كعشرين يومًا، أو عشرة أيام أو سبعة أو ثلاثة، ولا يزِدْ على ذلك.

الثامن عشر: تعظيم المصحف وتكريمه واحترامه، بأن يتناوله بيمينه ويحمله ويقلب صفحاته بيمينه، ويناوله بيمينه، ويضعه في مكانه اللائق به بيمينه، على محلٍّ مرتفع، ولا يضعه على الأرض إلا لحاجة، كألا يجد ما يضعه عليه سوى ذلك، ويصلح ما عرض له من أسباب التلف، وإذا استغنى عنه بغيره أعطاه لمن يستفيد منه، وإذا بَلِيَ دفنه في مكان طاهر من الأرض؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«أما المصحف العتيق والذي تخرَّق وصار بحيث لا يُنتفع به بالقراءة فيه فإنه يُدفن في مكان يُصان فيه»

(4)

.

وليس من تعظيم المصحف وتكريمه واحترامه: تقبيله؛ لأنه لم ترد به سُنة، وقد رُوي عن عكرمة رحمه الله، والأَوْلى تركُه.

التاسع عشر: الاحتراز عن كل ما فيه إهانة للمصحف أو استخفاف به؛ من تناوله ومناولته باليسار، أو وضعها على الآيات المكتوبة، وهذا أشد، فينبغي الاحتراز منه، ومن الدخول به لمكان قضاء الحاجة، أو الاتكاء عليه وتوسده، والنوم عليه، أو وضع الكتب

(1)

أخرجه مسلم (791).

(2)

أخرجه مسلم (789).

(3)

أخرجه البخاري (5039).

(4)

انظر: «مجموع الفتاوى» (12/ 599).

ص: 442

أو بعض الأشياء عليه، أو السفر به إلى أرض العدو، أو تركه منشورًا مفتوحًا بعد الفراغ من القراءة، أو تصغير كتابته بحيث تصعب قراءته، أو تصغير اسمه بمُصيحف؛ كتابةً أو نطقًا، أو تلويثه بالريق أو غير ذلك، أو تعريضه للتلف بالرطوبة بالماء أو للحرارة بالشمس، ونحو ذلك.

العشرون: وهو الأهم: العمل بالقرآن بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وتحليل حلاله وتحريم حرامه، وتصديق أخباره، وإقامة حدوده مع حروفه. وهذا ليس أدبًا فقط بل هو أوجب الواجبات.

قال بعض السلف: «ربَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه»

(1)

.

يقرأ قول الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، وقوله:{لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] وهو ظالم كاذب!

قال ميمون بن مِهران رحمه الله: «إن الرجل ليصلي ويلعن نفسه في قراءته فيقول: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]، وإنه لظالم»

(2)

.

(1)

نسب هذا في «إحياء علوم الدين» 1/ 274 لأنس بن مالك رضي الله عنه.

(2)

أخرجه ابن أبي حاتم في «تفسيره» 6/ 6017 (10781).

ص: 443

‌وقفات ثلاث في: إنزال الناس منازلهم

قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]

‌الوقفة الأولى في:

معنى إنزال الناس منازلهم وأهميته،

وحكمة الله تعالى في التفاضل بين البشر

‌أ- معنى: إنزال الناس منازلهم:

المنازل: جمع مَنزِلة، وهي: الرتبة والمكانة، يقال: فلان رفيع المنزلة؛ أي: رفيع الرتبة، ويقال: له منزلة عند الأمير؛ أي: مكانة.

فمعنى إنزال الناس منازلهم: التعامل مع كل إنسان بما يليق به، والقيام بحقوقه المعروفة شرعًا وعرفًا، دونما إفراط أو تفريط.

‌ب- حكمة الله تعالى في وجود التفاضل بين البشر:

اقتضت حكمة الله تعالى وجود التفاضل والاختلاف بين البشر، كما قال تعالى:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119]، فأفضل البشر هم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم يتفاضلون، كما قال تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]، وقال تعالى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83].

والناس كلهم يتفاوتون في منازلهم الأخروية، وأفضلهم عند الله أتقاهم، كما قال

ص: 444

تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران: 163]، وقال تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

كما يتفاوتون في منازلهم الدنيوية، قال تعالى:{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 21]، وقال تعالى:{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]، وقال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165].

أي: ليبلوكم فيما آتاكم من الدرجات المتفاوتة؛ ليظهر الشاكر من غيره على السراء، والصابر من غيره على الضراء، وليحصل التنافس والتسابق إلى معالي الأمور، وإلى الخيرات، كما قال تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة 148، والمائدة 48].

ولهذا نجد القرآن الكريم في آيات كثيرة يغري بهذا التنافس والتسابق، بنفي التساوي بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وبين المجاهدين والقاعدين، وبين الخبيث والطيب، وبين الأعمى والبصير، والأصم والسميع، والأحياء والأموات، وأصحاب الجنة وأصحاب النار، وغير ذلك، قال تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].

وقال تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95]، وقال تعالى:{قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]، وقال تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50]، وقال تعالى:{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 24] وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد: 16]، وقال تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [فاطر 19، غافر 58]، وقال تعالى:{وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 22]، وقال تعالى:{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20].

فكل هذه الآيات وما في معناها لاستنهاض الهمم، وللتشمير إلى معالي الأمور، والمنافسة والمسابقة في الخيرات.

ص: 445

‌ج- أهمية إنزال الناس منازلهم:

في الآيات السابقة الدالة على التفاضل والاختلاف بين البشر، ونفي التساوي بينهم إشارة إلى أنه ينبغي إنزال الناس منازلهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:«أنزلوا الناس مَنازلهم»

(1)

.

قال المُناوي في «فيض القدير»

(2)

: «أي: احفظوا حرمة كل واحد على قدره، وعاملوه بما يلائم حاله في عمر، ودين، وعلم، وشرف، فلا تسووا بين الخادم والمخدوم، والرئيس والمرؤوس؛ فإنه يورث عداوةً، وحقدًا في النفوس» .

وقال ابن باز رحمه الله

(3)

: «المؤمن ينزِل الناس منازلهم، لا يجعلهم على حدٍّ سواء، في إكرامهم وتقديرهم، بل على حسَب مراتبهم في الدين، ومراتبهم في كِبَر السن، ومراتبهم في وظائفهم الشرعية، فالقاضي له حقه، والعالم له حقه، والسلطان له حقه، والأمير له حقه، والشيخ كبير السن له حقه، والوالد له حقه، والأخ الكبير له حقه، والجار له حقه، وهكذا فكل إنسان يعطَى حقه المناسب له بحسَب ما جاءت به الشريعة» .

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرِموه»

(4)

.

وعن عُبادةَ بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس من أمتي من لم يُجِلَّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقه»

(5)

.

(1)

أخرجه أبو داود (4842) من حديث ميمون بن أبي شبيب عن عائشة رضي الله عنها. قال أبو داود: «ميمون لم يدرك عائشة» . ورواه مسلم في المقدمة معلقًا (1/ 5)، وانظر:«شرح النووي على مسلم» (1/ 19)، وصححه ابن الصلاح، ونقل تصحيح الحاكم له في كتابه «معرفة الحديث». انظر:«صيانة صحيح مسلم» لابن الصلاح ص (84)، وقد عده السعدي رحمه الله من جوامع الأخبار، وشرحه مع أحاديث أخرى في كتابه:«بهجة قلوب الأبرار» ص (35 - 36).

(2)

(3/ 57).

(3)

في شرح رياض الصالحين ص 129، حديث:«إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم» .

(4)

أخرجه ابن ماجه في الأدب (3712)، والبيهقي (8/ 168). وصححه الألباني في «الصحيحة» (1205).

(5)

أخرجه أحمد 5/ 323 (22755)، والطبراني في «مكارم الأخلاق» (147)، والحاكم (1/ 122). قال الحاكم:«ومالك بن خير الزيادي مصري ثقة، وأبو قبيل تابعي كبير» . وقال الهيثمي في: «مجمع الزوائد» (1/ 338): «إسناده حسن» . وحسن الألباني إسناده في «الصحيحة» (5/ 231)، و «صحيح الجامع» (5443).

ص: 446

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يرحم صغيرنا، ويعرِف قدْر كبيرنا، فليس منا»

(1)

.

وقد ضُعف في الأمة إنزالُ الناس منازلهم ضعفًا كبيرًا عند كثير من الناس على اختلاف طبقاتهم، وبخاصة الشباب، وقد تدرج الأمر ببعضهم اغترارًا منهم إلى اتخاذ بعض ذوي المكانة في الأمة غرضًا للسخرية والاستهزاء في وسائل التواصل، وبعض المواقع، وغير ذلك!

رأى شاب شيخًا كبيرًا وهو يمشي ببطءٍ، فقال يسخر منه: كأنك مقيَّد. فقال الشيخ الكبير على الفور: الذي فتل قيدي الآن يفتل قيدك.

يضع بعضهم المصاحف على طاولات منخفضة، ويكتبون عليها: لا تمدن قدميك نحو المصاحف. وما علموا حاجة الكبير إلى ذلك. وكان الأولى رفع المصاحف.

حالهم كما قيل:

ألقاه في اليَمِّ مكتوفًا وقال له:

إياك إياك أن تَبتَلَّ بالماءِ!

‌الوقفة الثانية في:

أولى الناس بالإكرام، والتوقير، والاحترام

تختلف منازل الناس لاعتباراتٍ مختلفةٍ كثيرة؛ دينية، وعلمية، واجتماعية، وسياسية، وغير ذلك.

ومن أولى الناس بالإكرام والطاعة، والتوقير والاحترام:

1 وُلاة الأمر:

ولاة الأمر هم صِمام الأمان بتوفيق الله تعالى للأمة، تجب طاعتهم بالمعروف، والانقياد لهم في غير معصية الله تعالى، أكد الله عز وجل وجوب طاعتهم، وقرنها بطاعته عز وجل،

(1)

أخرجه أبو داود في الأدب (4943)، وأحمد 2/ 222 (7073). وصححه الألباني في «الصحيحة» (2191).

ص: 447

وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، مما يُوجِب إكرامهم، وإنزالهم منزلتهم بمراعاة ما يلي:

- طاعتهم بالمعروف، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، وقال صلى الله عليه وسلم:«من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني»

(1)

.

- النصيحة لهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:«الدين النصيحة» . قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم»

(2)

.

- الدعاء لهم، قال الفُضيل بن عِيَاض وأحمد بن حنبل -رحمهما الله-:«لو كان لنا دعوة مستجابة، لدعونا بها للسلطان»

(3)

.

وعلى هذا درَج سلف هذه الأمة من الصحابة، والتابعين، وتابعيهم إلى يومنا هذا:

- الاعتراف بفضلهم وجهودهم.

- تقديرهم، واحترامهم، وتوقيرهم.

- التعاون معهم على حفظ الأمن، والقيام بمسؤولياتهم.

- إقالة عثراتهم تقديرًا لهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عَثَراتهم»

(4)

.

- الصبر على بعض ما قد يحصل منهم، مع الدعاء والنصح لهم؛ حفاظًا على وحدة الأمة.

2 الوالدان:

عظم الله عز وجل حق الوالدين في القرآن الكريم، وقرنه بحقه في آيات كثيرة؛ للدلالة على عِظَم منزلتهما، وعلو مكانتهما، وأنهما أحق الناس بالبر والإحسان

(5)

.

(1)

أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2957)، وفي الأحكام (7137)، ومسلم في الإمارة (1835)، والنسائي في البيعة (4193)، وابن ماجه في المقدمة (3)، وفي الجهاد (2859) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية 28/ 390، 391.

(4)

أخرجه أبو داود في الحدود (4375)، وأحمد 6/ 181 (25474) من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الألباني في «الصحيحة» (638).

(5)

يراجع الكلام على هذا في تفسير قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23]، والآيات بعدها.

ص: 448

وهذا يوجب على الأولاد إكرامهما، وإنزالهما منزلتهما اللائقة بهما، وذلك من خلال ما يأتي:

- الإحسان إليهما، والبر بهما، وخدمتهما، ومساعدتهما؛ لقوله تعالى:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].

- الحذر من التأفف منهما، ونهرهما؛ لقوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23].

- مخاطبتهما بالقول الكريم الطيب اللين؛ لقوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23].

- التواضع لهما، وتوقيرهما، واحترامهما، والتأدب معهما؛ لقوله تعالى:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} [الإسراء: 24].

- الرحمة لهما، والشفقة عليهما؛ لقوله تعالى:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 24].

- الدعاء لهما بالرحمة؛ لقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} [الإسراء: 24].

- الاعتراف بفضلهما؛ لقوله تعالى: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]، وقال تعالى:{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14].

- تقديمهما في الأكل والشرب، والدخول والخروج والمشي، ونحو ذلك.

- الجلوس معهما، ومؤانستهما.

- إكرامهما بأنواع الإكرام كلها.

3 العلماء الربانيون الناصحون:

رفع الله عز وجل شأن العلماء، وعظَّم قدرهم، فقال تعالى:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ

ص: 449

دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقال تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].

وقال صلى الله عليه وسلم: «وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضًا بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحِيتان في الماء، وفضلُ العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء وَرَثَةُ الأنبياء»

(1)

.

وعن جابرٍ رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أُحُد- يعني في القبر- يقول:«أيهما أكثر أخذًا للقرآن؟» فإذا أُشير إلى أحدهما قدَّمه في اللَّحد

(2)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين»

(3)

.

قال ابن القيم

(4)

: «العلماء بمنزلة النجوم في السماء، يَهتدي بهم الحيران في الظلماء» .

ولما للعلماء من عظيم المنزلة عند الله تعالى، يجب إكرامهم وإنزالهم منزلتهم اللائقة بهم، وذلك من خلال ما يأتي:

- الاعتراف بفضلهم.

- توقيرهم، واحترامهم، والتأدب معهم، ومخاطبتهم بما يليق بهم.

- تقديمهم في إمامة الصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُّ القومَ أقرؤوهم لكتاب الله»

(5)

.

- الإفساح لهم، وتقديمهم في المجالس.

- تقديمهم في الكلام، والاستماع والإنصات لهم.

(1)

أخرجه أبو داود في العلم (3641)، والترمذي في العلم (2682)، وابن ماجه في المقدمة (223) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وحسنه الألباني في «التعليقات الحسان» (88).

(2)

أخرجه البخاري في الجنائز (1343)، وأبو داود في الجنائز (3138)، والنسائي في الجنائز (1955)، والترمذي في الجنائز (1036)، وابن ماجه في الجنائز (1514).

(3)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (817)، وابن ماجه في المقدمة (218)، وأحمد 1/ 35 (232)، والدارمي 2/ 536 (3365) من حديث عمر رضي الله عنه.

(4)

في: «إعلام الموقعين» (1/ 9).

(5)

أخرجه مسلم في المساجد (673/ 291)، وأبو داود في الصلاة (582 - 584)، والنسائي في الإمامة (780)، والترمذي في الصلاة (235)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (980)، وأحمد 4/ 118 (17063) من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه.

ص: 450

- تقديمهم عند الطعام والشراب، والدخول والخروج والمشي، ونحو ذلك.

- إقالة عثراتهم.

إلى غير ذلك من وجوه الإكرام.

4 المعلمون المخلصون الناصحون:

للمعلمين المخلصين الناصحين فضل كبير على طلابهم، فيجب عليهم إكرامهم، وإنزالهم مَنزِلَتَهم اللائقة بهم، وذلك من خلال ما يأتي:

- احترامهم، وتقديرهم، قال أحمد شوقي

(1)

:

قُمْ للمعلمِ وفِّه التبجيلَا

كاد المعلمُ أن يكون رسولَا

أرأيتَ أشرفَ أو أجَلَّ من الذي

يبني ويُنشئ أنفسًا وعُقولَا

- طاعتهم، والتجاوب معهم، والصبر على قسوتهم أحيانًا.

قال موسى عليه السلام للخَضِر لما أراد أن يتخذه معلمًا: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا} [الكهف: 69].

وقال الإمام الشافعي رحمه الله

(2)

:

اصبِرْ على مُرِّ الجفَا من معلمٍ

فإنَّ رسوبَ العلمِ في نفراتِهِ

- الاعتراف بفضلهم، وجهودهم، وشكرهم.

- إكرامهم، فهو أدعى لنصحهم وإخلاصهم، قال الشاعر:

إن المعلمَ والطبيبَ كليهما

لا ينصحان إذا هما لم يُكرَمَا

(3)

- الدعاء لهم، وذكرهم بالخير، والذكر الحسن.

إلى غير ذلك من وجوه الإكرام.

5 كبار السن:

اقتضت حكمة الله عز وجل بدء خلق الإنسان من ضعف، وانتهاءه إلى ضعف وشيبة، كما

(1)

في: «ديوانه» (ص 188).

(2)

في: «ديوانه» (ص 37).

(3)

انظر: «أدب الدنيا والدين» ص (68)، «العقد التليد في اختصار الدر النضيد» ص (146).

ص: 451

قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54].

وقال تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]، وقال تعالى:{ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر: 67].

ومن عرف هذه الحقيقة وتأملها، عرف أن الشاب القوي اليوم هو الشيخ الكبير الضعيف غدًا، وقد قيل:

فما أقربَ الآتي وأبعدَ ما مَضَى

(1)

فلا يغتر شاب بشبابه وفتوته، ولا يغتر قوي بقوته.

علينا جميعًا أن نعرف تمام المعرفة مكانة جيل صاعد، سبقونا إلى الإسلام، وتقلبوا في العبودية عقودًا من الزمن، وتمرسوا بالتجارِب في ميدان الحياة، وبذلوا الغاليَ والنفيس في سبيل تربيتنا، وخدمتنا، وإسعادنا.

فيهم الدين والحكمة، والصبر والعقل، والرزانة والتجارِب، والخير والبركة أينما حلوا؛ ولهذا كان إكرامهم وتقديرهم تعظيمًا لله عز وجل.

عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم»

(2)

؛ أي: إن من تعظيم الله عز وجل إكرام ذي الشيبة المسلم؛ أي: إكرام الشيخ الكبير الذي شاب رأسه، وابيضَّ شعره في الإسلام وتوقيره واحترامه، وإنزاله منزلته التي تليق به، وذلك لعظم مكانته عند الله عز وجل.

ومن أوجه الإكرام لكبار السن، وإنزالهم منزلتهم ما يلي:

- ابتداؤهم بالسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لِيُسلِّمِ الصغيرُ على الكبير»

(3)

.

(1)

هذا صدر بيت للشاعر ابن عثيمين، سبق ذكره، وعجزه:

وهذا غراب البين بالبين ينعبُ

(2)

أخرجه أبو داود في الأدب (4843)، والبخاري في «الأدب المفرد» (357) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وحسنه الألباني في تحقيقه «الأدب المفرد» .

(3)

أخرجه البخاري في الاستئذان (6231)، ومسلم في السلام (2160)، وأبو داود في الأدب (5198)، والترمذي في الاستئذان (2703) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 452

- تقديمهم في الإمامة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءةِ سواءً، فأقدمهم سِلمًا»

(1)

. وفي رواية: «فأكبرهم سِنًّا»

(2)

.

وفي حديث مالك بن الحُويرث رضي الله عنه: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم»

(3)

.

- تقديمهم خلف الإمام في الصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لِيَلِيَنِّي منكم أولو الأحلام والنُّهَى»

(4)

.

قال النووي: هم العقلاء البالغون. وقال أيضًا: «في هذا الحديث تقديم الأفضل فالأفضل إلى الأمام؛ لأنه أَولى بالإكرام، ولا يختص هذا التقديم بالصلاة، بل السنَّة أن يُقدَّم أهل الفضل في كل مَجمَع إلى الأمام، وكبير المجالس، كمجالس العلم والقضاء، والذكر، والمشاورة، ومواقف القتال، وإمامة الصلاة والإفتاء، وإسماع الحديث، ونحوها، ويكون الناس فيها على مراتبهم في العلم، والدين، والعقل، والشرف، والسن، والكفاءة في ذلك الباب، والأحاديث الصحيحة متعاضدة»

(5)

.

- الإفساح لهم، وتقديمهم في المجالس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يقيم الرجل الرجل من

(1)

أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (673/ 290).

(2)

أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (673/ 291)، وأبو داود في الصلاة (582)، والترمذي في الصلاة (235)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، والسنة فيها (980)، وأحمد 4/ 118 (17063) من حديث أبي مسعود رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في الأذان (628)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (674)، وأبو داود في الصلاة (589)، والنسائي في الأذان (635)، والترمذي في الصلاة (205)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (979)، وأحمد 5/ 53 (20529).

(4)

أخرجه مسلم في الصلاة (432)، وأبو داود في الصفوف (674)، والنسائي في الإمامة (807)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (976)، وأحمد 4/ 122 (17102) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه. ووقع في بعض روايات مسلم، وعند الترمذي في الصلاة (228)، وأحمد 1/ 457 (4373) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(5)

«شرح صحيح مسلم» (4/ 399).

ص: 453

مقعده، ولكن تفسَّحوا وتوسعوا»

(1)

. وكبار السن أولى بالتفسح لهم.

- توقيرهم، واحترامهم، وإشعارهم بأن لهم منزلة في النفوس، ومكانة في القلوب، والاعتراف بفضلهم، وتقبيل أيديهم ورؤوسهم.

- تقديمهم في الكلام، والإنصات، والإصغاء لهم إذا تكلموا، كما جاء في قصة مُحَيِّصة وأخيه حُويصة، أن محيصة ذهب يتكلم قبل أخيه حويصة، وكان حويصة أكبر منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«كَبِّرْ كَبِّرْ»

(2)

؛ أي: ليتكلم الأكبر.

- تكريمهم في البداءة بهم في العطاء، ومناولة الأشياء؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يتسوك بسواك، فجاءه رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناول السواكَ الأصغرَ، فقيل له: كبِّر. فدفع السواك للأكبر»

(3)

.

- تقديمهم عند الطعام والشراب، وفي الدخول والخروج، والمشي، وغير ذلك.

- رحمتهم، والشفقة عليهم، والتودد إليهم، والرفق بهم، والجلوس معهم، ومؤانستهم، ونحو ذلك.

- تكليمهم بألطف العبارات، وأحسنها، وبأطيب الكلام.

- تقديم الخدمة لهم، ومساعدتهم، في مراجعتهم للدوائر الحكومية، وفي اجتياز الطرق، ونحو ذلك.

- تقديمهم في وجوه الإكرام كلها.

6 الأقارب:

من أعظم الحقوق على المسلم حقوق أقاربه، فيجب عليه أن ينزلهم منازلهم، ويكرمهم

(1)

أخرجه البخاري في الاستئذان (6269)، ومسلم في السلام (2177)، وأحمد 2/ 16 (4659) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه مالك في القسامة (2/ 877)، والبخاري في الجزية (3173)، ومسلم في القسامة (1669)، وأبو داود في الديات (4520)، والنسائي في القسامة (4710)، والترمذي في الديات (1422)، وابن ماجه في الديات (2677) من حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في الوضوء (246)، ومسلم في الرؤيا (2271)، وفي الزهد والرقائق (3003).

ص: 454

أكثر من غيرهم، وذلك بالأمور التالية:

- النصح والدعاء لهم.

- صلتهم، وزيارتهم، والسلام عليهم.

- احترامهم، وتقديرهم، ومخاطبتهم بما يليق بهم.

- مساعدتهم، ومد يد العون للمحتاج منهم.

- التعاون معهم على إصلاح أحوالهم، وحل مشكلاتهم.

- محبتهم، والتودد إليهم، والحذر من معاداتهم.

إلى غير ذلك من وجوه الإكرام.

7 الجيران:

عظم الإسلام حق الجيران، قال تعالى:{وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]، وقال صلى الله عليه وسلم:«ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُوَرِّثه»

(1)

.

وهذا مما يؤكد حق الجيران في إنزالهم منازلهم، وذلك بمراعاة ما يلي:

- الإحسان إليهم.

- تقديرهم واحترامهم.

- زيارتهم، والسلام عليهم.

- التناصح، وتبادل المصالح والهدايا بينهم.

- تحمل وستر ما قد يبدو منهم، مما قد لا يسلم منه الجيران.

- الاحتراز من أذيتهم.

- إلى غير ذلك من أنواع الإكرام.

(1)

أخرجه البخاري في الأدب (6014)، ومسلم في البر والصلة (2624)، وأبو داود في الأدب (5151)، والترمذي في البر والصلة (1942)، وابن ماجه في الأدب (3673) من حديث عائشة رضي الله عنها. وأخرجه البخاري في الموضع السابق (6015)، ومسلم في الموضع السابق (2625)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وأخرجه أبو داود في الموضع السابق (5152)، والترمذي في الموضع السابق (1934) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

ص: 455

‌الوقفة الثالثة في:

التحذير من هضم حقوق ذوي المكانة في الأمة

إن أول بداية لسقوط الأمم والحضارات تبدأ بهضم حقوق ذوي المكانة فيها؛ الدينية، والعلمية، والسياسية، والاجتماعية، وإسقاط القدوات، والقيادات الصالحة الناصحة، وتشكيك العامة فيها، وفي ثوابت الأمة، وذلك بأن يوضع في قفص الاتهام ولي الأمر أمام رعيته، والوالد أمام أولاده، والمعلم أمام طلابه، والعالم أمام الجهال، والكبير أمام الصغار، وهكذا؛ فتختلط الأمور، وتختل الموازين والمعايير، وتتكلم الرُّوَيْبِضَة، ويخرج الكثيرون عن طاعة ولي الأمر، ويتمرد الولد ذكرًا كان أو أنثى على والده ويعصيه، ويهين الطالب معلمه، ويقاطعه ويؤذيه، ويجترئ الجاهل على العالم، ويسخر بفتاويه، ويتعالى الصغير على الكبير، ويحتقره، ويتندر فيه.

وكل هذا وذاك نتاج، وحصاد إسقاط حقوق القدوات، والقيادات في الأمة، والذي يسعى إليه من يريدون طمس هوية الأمة الإسلامية، وطمس معالم الإسلام، وقيمه الرفيعة، والتشكيك في مبادئه الثابتة، ومثله العليا، والذي يروج له أعداء الإسلام وأشياعهم من دعاة الانحراف، والفساد، والتغريب، والتمرد على ثوابت الدين، الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة رضي الله عنه:«دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها» . قال حذيفة رضي الله عنه: فقلتُ: يا رسول الله، صفهم لنا. قال:«نعم، قوم من جِلدتنا ويتكلمون بألسنتنا»

(1)

.

وهو ما تعجُّ به كثير من وسائل الإعلام، ووسائل الاتصال على تنوعها، وتعددها، واختلافها {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 8].

وهذا مما يوجب على المسلمين الحذر كل الحذر، والتصدي لهذا الأمر، والتأكيد على

(1)

أخرجه البخاري في الفتن (7084)، ومسلم في الإمارة (1847)، وأبو داود في الفتن والملاحم (4244)، وابن ماجه في الفتن (3979).

ص: 456

وجوب الحفاظ على مبادئ الإسلام، ومُثُله العليا، وقيمه الرفيعة، وعلى ثوابت الأمة، وعلى إنزال ذوي المكانة في الإسلام مَنازلَهم، من وُلاة الأمر، والوالدين، والعلماء، والمعلمين، وكبار السن، والأقارب، والجيران، وغيرهم، حتى لا يختلط الأمر على الأجيال الناشئة؛ فتتفرق بهم السبل، فيضلوا عن المنهج السوي، وعن الصراط المستقيم.

ص: 457

‌وقفة في: شهادة الجوارح على العبد يوم القيامة،

ووجوب الاحتراز منها

قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20)} [فصلت: 20]

تحقيقًا لكمال العدل الرباني يُنطِقُ الله عز وجل يوم القيامة جوارح الإنسان، فتشهد عليه بما عمل، كما قال تعالى:{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]، وقال تعالى:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]، وقال تعالى:{حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت 20 - 22].

وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]، أي: يُسأل الإنسان عنها كلها، كما تسأل هي أيضًا عنه، وعما عمل بها.

ويؤخذ من هذا عدة أمور، من أهمها ما يلي:

أولًا: إثبات كمال عدل الله عز وجل وتمامه، وتفرده بذلك، وانتفاء الظلم عنه، ومجازاته الخلائق كلًّا بما عمل، وإجارتهم من الظلم، كما قال تعالى:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة 7، 8]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40]، وقال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا

ص: 458

حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، وقال تعالى:{الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17].

وقال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281]، وقال تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 49]، وقال تعالى:{قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]، وقال تعالى:{وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124].

وقال تعالى: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44]، وقال تعالى:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقال تعالى:{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25]، وقال تعالى:{وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109].

وعن أنس رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه، فقال:«أتدرون ممَّ أضحك؟» ، قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: «من مجادلة العبد ربَّه يوم القيامة، يقول: يا رب، ألم تُجِرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: لا أجيز عليَّ شاهدًا إلا من نفسي، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين عليك شهودًا، فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي، فتنطق بعمله، ثم يخلَّى بينه وبين الكلام، فيقول: بُعدًا لكُنَّ وسُحقًا، فعنكنَّ كنت أُناضل»

(1)

.

قال السِّعدي رحمه الله

(2)

: «ولقد عدل في العباد مَن جعل شهودَهم من أنفسهم» وصدق رحمه الله، فأي عدالة فوق هذه العدالة!

ثانيًا: حكمة الله تعالى البالغة، وقدرته التامة؛ حيث جعل من هذه الجوارح التي كانت تدافع عن الإنسان في الدنيا شهودًا عليه يوم القيامة، وأنطق منها ما لم يكن ناطقًا، وختم على ما كان منها ناطقًا، وهو اللسان في بعض الأحوال، وأنطقه وأشهده في بعضها.

(1)

أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2969).

(2)

في «تيسير الكريم الرحمن» (5/ 404).

ص: 459

ثالثًا: وجوب الحذر والاحتراز من شهادة الجوارح على الإنسان يوم القيامة، ومراقبة الله تعالى، وتقواه بفعل أوامره، واجتناب نواهيه، وحفظ هذه الجوارح، واستعمالها في طاعة الله تعالى، والاستعانة بها على ذلك، والحذر كل الحذر من استخدامها في معصية الله تعالى، أو الاستعانة بها على ذلك.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدِّق ذلك كله ويكذبه»

(1)

.

فالحذر الحذر من شهادة الجوارح، والفضيحة يوم القيامة، والندم حيث لا ينفع الندم!

(1)

أخرجه البخاري في الاستئذان (6243)، ومسلم في القدر (2657)، وأبو داود في النكاح (2152)، وأحمد 2/ 276 (7705) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 460

‌وقفات ست في: صلة الأرحام

قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد 23، 24]

‌الوقفة الأولى في:

وجوب صلة الأرحام

الصلة ضد القطيعة؛ أي: التواصل مع الأرحام، وعدم مقاطعتهم.

والأرحام: القرابة، من الآباء، والأمهات، والأجداد، والجدات وإن علَوا، والأولاد وأولادهم وإن نزلوا، والإخوة والأخوات وأولادهم، والأعمام والعمات وأولادهم، والأخوال والخالات وأولادهم، وغيرهم.

وصلةُ الأرحام وإيتاءُ ذوي القربى حقوقهم من أعظم الواجبات وآكدها، وكل من كان منهم أقرب فصلتُه وحقه أوجب.

قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [النساء: 36]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90]، وقال تعالي:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26]، وقال تعالى:{فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الروم: 38].

وبين عز وجل أنه من البر، فقال تعالى:{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [البقرة: 177].

وأخذ عز وجل على بني إسرائيل الميثاق بذلك، كما قال تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [البقرة: 83].

ص: 461

وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك من مقتضيات الإيمان، فقال صلى الله عليه وسلم:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيُكْرِمْ ضيفَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيَصِلْ رَحِمَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقلْ خيرًا أو ليصمتْ»

(1)

.

ويؤكد وجوب صلة الأرحام: أن الله عز وجل ذمَّ مَن قطعوها، ووصفهم بالتولي، والإفساد في الأرض، ولعنهم فأصمهم، وأعمى أبصارهم، وحكم بقطعهم، وتُوعدوا بعدم دخول الجنة، وبتعجيل العذاب وعدم قبول أعمالهم.

‌الوقفة الثانية في:

فضيلة صلة الأرحام

صلة الأرحام من أفضل الأعمال، وأجلِّها، وأعظمها جزاءً.

امتدح الله عز وجل بها المؤمنين أُولي الألباب، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21].

ووعد عز وجل في الحديث القدسي بوصل من وصلها، فقال للرحم:«ألا تَرضَين أن أصِل من وصلكِ، وأن أقطَع مَن قطعك؟ قالت: بلى. قال: فذاكِ لكِ»

(2)

.

وقال في الحديث الآخر: «مَن وصلها وصلتُه»

(3)

.

وهي من أسباب دخول الجنة، كما في حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبِرني بعملٍ يدخلني الجنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تعبُدُ الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم»

(4)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري في التفسير (4830)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2554) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه أبو داود في الزكاة (1694)، والترمذي في البر والصلة (1907)، وأحمد 1/ 194 (1686). قال الترمذي:«حديث صحيح» . وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1478)، «الصحيحة» (520) من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البخاري في الزكاة (1396)، ومسلم في الإيمان (13)، والنسائي في الصلاة (468)، وأحمد 5/ 417 (23538).

ص: 462

وعن عبد الله بن سلَام رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»

(1)

.

وهي من أسباب بسط الرزق والبركة في العمر، كما جاء في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فلْيصِلْ رحِمه»

(2)

.

وهي من أسباب السعادة بين الأقارب، والمحبة، والأُلفة، والتناصح والتشاور، والتعاون على البر والتقوى، وعلى أمور الحياة، وغير ذلك.

‌الوقفة الثالثة في:

أبواب صلة الأرحام

أبواب صلة الأرحام كثيرة جدًّا، كأبواب الإحسان؛ لأن صلة الأرحام تعني الإحسان بكل معانيه إلى الأقربين، وإيصال ما أمكن من الخير إليهم، ودفع ما أمكن من الشر عنهم، سواء كان ذلك بقولٍ أو فعل أو بذل، ظاهرًا كان ذلك أو باطنًا، ومن أهم ذلك:

1 محبتهم، وتوقير كبيرهم، والعطف على صغيرهم، ورحمة ضعيفهم، وإنزالهم منزلتهم.

2 صلتهم بالزيارة والسلام عليهم بين فترةٍ وأخرى، كما هو معروف.

3 صلتهم بالاتصال عليهم، والاطمئنان على أحوالهم، بين وقت وآخر.

4 النصح لهم، وإرشادهم إلى ما فيه خير دينهم، ودنياهم، وأخراهم، والدعاء لهم.

5 الأخذ بيد من وقع في الزلَل والخطأ منهم، ونصحه وتوجيهه، وهذا من أعظم حقوقهم.

(1)

سيأتي تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري في البيوع (2067)، وفي الأدب (5986)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2557).

ص: 463

6 تفقد أحوالهم المعيشية وحاجاتهم، ومساعدتهم إن احتاجوا؛ فالصدقة عليهم صدقة وصلة؛ كما جاء في الحديث

(1)

.

7 مشاركتهم أفراحهم، وتهنئتهم، والدعاء لهم بالبركة.

8 استضافتهم وإكرامهم، وإجابة دعوتهم.

9 إصلاح ذات بينِهم، والتأليف بينهم.

10 مساعدتهم في دفع ورفع الظلم عنهم.

11 زيارة مرضاهم، والدعاء لهم بالشفاء.

12 اتباع جنائزهم، وتعزيتهم، والدعاء والاستغفار لموتاهم، وسؤال الله لهم التثبيت.

‌الوقفة الرابعة في:

الأسباب المعينة على صلة الأرحام

الأسباب المعينة على صلة الأرحام، وأداء حقوق ذوي القربى كثيرة، منها ما يلي:

1 قوة الإيمان بالله، ورجاء ثوابه، والخوف من عقابه.

2 معرفة المسلم أن صلة الأرحام من أعظم الواجبات وآكدها، رتب الله عليها الجزاء العظيم، والأجر الكبير في الدنيا والآخرة، ودخول الجنة.

3 معرفة المسلم أن قطيعة الأرحام من أكبر الكبائر، توعد الله تعالى عليها بأشد الوعيد.

4 التواضع، ولين الجانب مع الأقارب، وإظهار المحبة لهم، والتقدير والاحترام.

5 تبادل الزيارات بين الأقارب، واستضافة بعضهم بعضًا، دون انقطاع.

(1)

أخرجه النسائي في الزكاة (2582)، والترمذي في الزكاة (658)، وابن ماجه في الزكاة (1844)، والدارمي في الزكاة 1/ 488 (1680، 1681). حسنه الترمذي، والألباني في «الإرواء» (883) من حديث سلمان بن عامر رضي الله عنه.

ص: 464

6 الإحسان إليهم بالقول والفعل والبذل، بلا منٍّ، ولا مطالبة بالمثل.

7 التغاضي والتغافل، وقبول الاعتذار منهم، وترك العتاب لهم.

قال تعالى عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3].

وقال تعالى عن يوسف عليه السلام: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف: 77].

قال الإمام أحمد رحمه الله: «العافية عشرة أجزاء، كلها في التغافل»

(1)

.

وقال الشاعر:

ليس الغبيُّ بسيدٍ في قومِه

لكن سيد قومِه المُتغابي

8 مقابلة الإساءة منهم بالإحسان، وتحمل العتاب منهم.

9 رفع الكلفة بين الأقارب، فلا يتكلف بعضهم لبعض، بل يرضى كل منهم من الآخر باليسير، ويشكره على القليل.

10 دعوتهم في المناسبات، وتحاشي نسيانهم؛ قطعًا للطريق على الشيطان.

11 عدم ربط الإنسان صلته لأقاربه بصلتهم له، فإن هذا لا يُعد واصلًا، وإنما مكافئًا فقط، كما قال صلى الله عليه وسلم:«ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحِمُه وصلها»

(2)

.

12 الحرص على سلامة القلوب، والصفاء، والوضوح، والبعد عن سوء الظن والحسد ونحو ذلك.

13 تحاشي الغيبة والنميمة بين الأقارب، وعدم إثارة الضغائن بينهم، والحذر ممن يسعَون في إيقاع العداوة والبغضاء بينهم من بعض الأقارب أو من غيرهم من شياطين

(1)

أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (8028).

(2)

أخرجه البخاري في الأدب (5991)، وأبو داود في الزكاة (1697)، والترمذي في البر والصلة (1908)، وأحمد 2/ 163 (6524) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ص: 465

الإنس والجن بوساوسهم الشيطانية.

14 تعجيل قسمة المواريث، وعدم تأخيرها.

‌الوقفة الخامسة في:

حكم قطيعة الرحم

قطيعة الأرحام ضد صلتها، تكون بقطع الصلة بين الأرحام والأقارب، وعدم أداء حقوقهم، وترك الإحسان إليهم، وربما زادت بالإساءة إليهم وظلمهم، وذلك أشد. قال الشاعر:

وظلمُ ذوي القربِ أشدُّ مَضاضةً

على النفسِ من وقع الحُسامِ المهنَّدِ

(1)

وقطيعة الأرحام من أكبر الكبائر، توعد الله تعالى عليها بقوله:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد 23، 24]، فوصف أهلها بالتولي والإفساد في الأرض، ولعنهم فأصمهم، وأعمى أبصارهم، وهذا وعيد ترجف له القلوب!

وحكم عز وجل بقطع من قطعها، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، حيث قال عز وجل في الحديث القدسي للرحم:«ألا تَرضَين أن أصِلَ مَن وَصَلَكِ، وأن أقطعَ من قطعَكِ؟ قالت: بلى. قال: فذاكِ لكِ» . وجاء نحو من هذا في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما

(2)

.

وعن جبير بن مُطعِم رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:«لا يدخُل الجنةَ قاطعٌ»

(3)

؛ يعني: قاطع رحم.

(1)

سبق.

(2)

سبق تخريجها.

(3)

أخرجه البخاري في الأدب (5984)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2556)، وأبو داود في الزكاة (1696)، والترمذي في البر والصلة (1909)، وأحمد 4/ 80 (16732).

ص: 466

وعن أبي بَكرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذنبٍ أجدر أن يعجِّل الله لصاحبه العقوبةَ في الدنيا، مع ما يدخره له في الآخرة، من البغيِ وقطيعة الرحم»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أعمال بني آدمَ تُعرض كل خميسٍ ليلة الجمعة، فلا يُقبل عملُ قاطعِ رحِم»

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأُحسِن إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلُم عنهم، ويجهلون عليَّ. قال:«لئن كنت كما قلتَ، فكأنما تُسِفُّهُمُ المَلَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمتَ على ذلك»

(3)

.

وقد ذم الله عز وجل بقطيعة ما أمر بوصله الكفارَ، الضالين، الفاسقين، الناقضين لعهده، المفسدين في الأرض، وتوعدهم بالخسران واللعنة، وسوء الدار، فقال تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 26، 27]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد: 25].

وكفى بقاطع الرحم ذمًّا مشابهته للكافرين والضالين والفاسقين.

(1)

أخرجه أبو داود في الأدب (4902)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2511)، وابن ماجه في الزهد (4211)، وأحمد 5/ 38 (20398). وصححه الألباني في «الصحيحة» (918).

(2)

أخرجه أحمد 2/ 483 (10272)، والبخاري في «الأدب المفرد» (61). قال الهيثمي في «المجمع» (8/ 151):«رواه أحمد، ورجاله ثقات» . وضعف الألباني إسناده في تحقيقه «الأدب المفرد» ، و «الإرواء» (4/ 105).

(3)

أخرجه مسلم في البر والصلة (2558)، وأحمد 2/ 300 (7992).

ص: 467

‌الوقفة السادسة في:

أسباب قطيعة الأرحام

أسباب قطيعة الأرحام كثيرة جدًّا، يعمل عليها شياطين الجن والإنس، والنفس الأمارة بالسوء، والهوى، وعبودية الدنيا، وغير ذلك.

وهي ضد الأسباب المعينة على صلة الأرحام المذكورة قبل هذا، ومن أهمها ما يلي:

1 ضعف الإيمان بالله تعالى، وضعف الخوف منه، ورجائه.

2 الغيبة والنميمة، والتحريش فيما بين الأقارب، منهم، أو من غيرهم.

قال الأعشى

(1)

:

ومَن يُطِعِ الواشينَ لا يَتركوا له

صديقًا ولو كان الحبيبَ المُقَرَّبَا!

3 الكبر والاحتقار، فبعض الأقارب لا يرى لأقاربه وزنًا؛ إما لكونه أغنى منهم، أو لغير ذلك.

4 البخل والشح والتكتم على ما أعطاه الله من خير، فيبتعد عن أقاربه مخافة أن يطلبوا منه المساعدة، أو يعلموا بإنعام الله عليه.

قال زهير

(2)

:

ومَن يكُ ذا فضلٍ فيبخَلْ بفضلِه

على قومِه يُستغنَ عنه ويُذْمَمِ

وقال البارودي

(3)

:

فلا تحسبنَّ المالَ ينفعُ ربَّه

إذا هو لم تحمَدْ قِرَاه العشائرُ

وقال الآخر:

ومن ذا الذي ترجو الأباعدُ نَفْعَه

إذا كان لم يصلحْ عليه الأقاربُ

(4)

(1)

انظر: «ديوانه» ص (9).

(2)

انظر: «ديوانه» ص 31.

(3)

انظر: «ديوانه» ص 2/ 97.

(4)

انظر: «بر الوالدين» للطرطوشي ص 171.

ص: 468

5 العتاب الشديد؛ فهذا يولد النفرة والبُغض والعداوة.

6 التكلف عند الزيارة، مما يضيق به الزائر والمَزور معًا.

7 البرود وعدم الاهتمام بالقريب إذا جاء زائرًا، وعدم الفرح به وتقديره، وشكره على الزيارة.

8 الانقطاع الطويل؛ فإن هذا يولد الجفاء والوحشة، كما قال الشاعر:

وما أدري أغيَّرهم تناءٍ

وطولُ العهدِ أم مالٌ أصابوا؟!

(1)

9 العداوة لسببٍ ما من حسد أو غير ذلك، أو لغير سبب، وهي كثيرة بين الأقارب، يعمل عليها شياطين الإنس والجن مع النفس الأمارة بالسوء، وقد تدوم.

قال ابن الجوزي

(2)

: «عداوة الأقارب صعبة، وربما دامت؛ كحرب بكر وتَغْلِبَ ابني وائل، وعَبْس وذُبيان ابني بَغِيض، والأوس والخزرج ابني قيلة، والسبب في هذا أن كل واحد من الأقارب يكره أن يفوقه قريبُه، فيقع التحاسد» .

وقد قيل: «العداوة للأقارب، والحسد للجيران» .

10 سوء الظن المبني على «لا شيء» ، فيسيء القريب الظن بقريبه، ويجعل من ذلك حقيقة، يبني عليها بُعده عن قريبه، وعداوته له، كما قال الشاعر:

إذا ساء فِعل المرء ساءتْ ظُنونُه

وصدَّق ما يعتاده من تَوَهُّم

وعاد مُحِبِّيه بقول عُداته

وأصبح في ليلٍ من الشك مُظلِم

(3)

11 الانشغال بالدنيا، أو بما هو أقل؛ من تضييع الأوقات في الأسفار، وبين المنتزهات والفَلَوات، وغير ذلك، أو بما هو أسوأ من ذلك.

12 وقد يكون من أسباب القطيعة أحيانًا القرب الشديد في المنازل بين الأقارب؛ مما قد يؤدي إلى بعض المشكلات والخلافات بسبب الأولاد أو النساء، وغير ذلك؛

(1)

أنشده الأصمعي في «تعليق من أمالي ابن دريد» (ص: 82).

(2)

في: «صيد الخاطر» ص 739.

(3)

البيتان للمتنبي. انظر: «ديوانه» (459 - 460).

ص: 469

ولهذا رُوي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «مُرُوا ذوي القرابات أن يَتزاوَرُوا، ولا يَتَجاوَروا»

(1)

.

لكن هذا ليس على إطلاق، فكم من الأقارب من عاشوا متجاورين بل في قصر واحد، بل في بيت واحد، ولم يحصل بينهم قطيعة، بل صار ذلك سببًا لقوة تواصلهم وتوادهم وتآلفهم.

وما روي عن عمر رضي الله عنه إن صح عنه- فهو محمول على مخافة أن يحصل بينهم ما يكون سببًا للعداوة والقطيعة

13 وأخيرًا: فإن من أعظم أسباب وقوع العداوة بين الأقارب، والقطيعة بينهم: تأخير قسمة الميراث؛ فينبغي الانتباه لهذا الأمر، وعدم التساهل في تأخير قسمة الميراث؛ لطمع من بعض الورثة في تنميته، من غير تقدير للعواقب، مما يجر على الأقارب أمورًا لا تُحمد عقباها، ويصعب الخروج منها، ويحرم كثيرًا من الورثة حقوقهم التي جعلها الله تعالى لهم.

(1)

انظر: «بر الوالدين» للطرطوشي صـ 171، و «عيون الأخبار» 3/ 88، و «إحياء علوم الدين» 2/ 216.

ص: 470

‌وقفة في: حقوق المسلمين بعضهم على بعض

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].

تقدم في وقفة سابقة ذكر وجوب حسن التعامل مع الناس كلهم، وأداء حقوقهم، وبيان أن الدين المعاملة؛ المعاملة أولًا: مع الخالق عز وجل بتقواه، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له، ثم المعاملة مع الخلق كلهم بأداء حقوقهم؛ من دعوتهم إلى الإسلام بالتي هي أحسن، والإحسان إليهم، والعدل معهم، والإصلاح بينهم، وكف الأذى عنهم، من غير اعتبار لأجناسهم وألوانهم، وأعراقهم وأديانهم، كما قال تعالى:{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

وحسن التعامل مع المسلمين وأداء هذه الحقوق كلها لهم، أوجب وآكد من باب الأولى؛ لأن الإسلام كما أوجب على المسلمين حسن التعامل مع غيرهم من الناس، وأداء حقوقهم، أوجب عليهم حسن التعامل فيما بينهم، وأداء هذه الحقوق فيما بينهم.

كما أوجب الإسلام على المسلمين حقوقًا خاصة فيما بينهم تقتضيها الأخوة الإسلامية، قال صلى الله عليه وسلم:«حق المسلم على المسلم ست: إذا لقِيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمِّته، وإذا مرض فعُدْه، وإذا مات فاتبِعْه»

(1)

.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «حق المسلم على المسلم ست» ؛ أي: من الحقوق التي ينبغي للمسلم أداؤها لأخيه المسلم ست.

(1)

أخرجه البخاري في الجنائز (1240)، ومسلم في السلام (2162)، وابن ماجه في الجنائز (1435)، وأحمد 2/ 321 (8271) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 471

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا لقِيته فسلِّم عليه» ؛ أي: ابدأْه بالسلام. قال صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجُر أخاه المسلم فوق ثلاث ليالٍ، يلتقيان، فيُعرِض هذا، ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»

(1)

.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: «أن تُطعِمَ الطعام، وتقرَأ السلام على مَن عَرفتَ ومن لم تعرف»

(2)

.

والمصيبة أن كثيرًا من المسلمين لا يسلم إلا على من يعرف، مِصداق قوله صلى الله عليه وسلم:«إن من أشراط الساعة إذا كانت التحية على المعرفة»

(3)

.

بل إن من الناس من يبخل بالسلام. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أبخل الناس الذي يبخل بالسلام»

(4)

.

(1)

أخرجه مالك في حسن الخلق (2/ 906)، والبخاري في الأدب (6077)، وفي الاستئذان (6237)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2560)، وأبو داود في الأدب (4911)، والترمذي في البر والصلة (1932) من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الإيمان (12)، ومسلم في الإيمان (39)، وأبو داود في الأدب (5194)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5000)، وابن ماجه في الأطعمة (3253)، والدارمي 2/ 148 (2081)، وأحمد 2/ 169 (6581).

(3)

أخرجه أحمد 1/ 387 (3664)، وابن أبي شيبة في «مسنده» 1/ 152 (210)، والطبراني في «الكبير» 9/ 297 (9491). وصححه الألباني في «الصحيحة» (648).

(4)

أخرجه الطبراني في «الأوسط» 5/ 371 (5591)، وفي «الدعاء» (60)، والبيهقي في «الشعب» (6/ 429) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. وأخرجه الطبراني في «الدعاء» (61)، وفي «الأوسط» 3/ 355 (3392) مرفوعًا من حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه. قال الهيثمي في «المجمع» (2/ 120):«رواه الطبراني في الثلاثة، ورجاله ثقات» . وأخرجه أحمد 3/ 328 (14517)، وعبد بن حميد في المنتخب (1035)، والحاكم (2/ 20)، والبيهقي (6/ 157) من حديث جابر رضي الله عنه. وأورده الألباني في «الصحيحة» (3383). وأخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» 19/ 473 (36748) موقوفًا على عمر رضي الله عنه. وأخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» 13/ 197 (26261)، والبخاري في «الأدب المفرد» (1015، 1042)، وابن الجعد في «مسنده» (2663)، وأبو يعلى في «مسنده» 12/ 527 (6649)، وابن حبان 10/ 349 - 350 (4498) موقوفًا على أبي هريرة رضي الله عنه. وصحح سند الموقوف ابن حجر في «الفتح» (9/ 565)، وحسَّن سنده مرفوعًا الألباني، كما في «السلسلة الصحيحة» (601).

ص: 472

كما أن من الناس من يمنعه الكِبر والتعاظم على الآخرين، والتعالي عليهم من البداءة بالسلام.

«وإذا دعاك فأجبه» ؛ أي: وإذا دعاك أخوك المسلم للطعام ونحو ذلك فأجبه؛ لأن هذا مما يوجِد الألفة والمحبة، ويقوي الأخوة بين المسلمين.

«وإذا استنصحك فانصحه» ؛ أي: إذا طلب منك النصيحة والمشورة في أمر ديني، أو دنيوي، فأعطه محض النصيحة والمشورة، ولا تبخل بذلك، ولا تغُشه.

والنصيحة للمسلمين واجبة مطلقًا، كما قال صلى الله عليه وسلم:«الدين النصيحة» . قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»

(1)

.

لكن يتأكد وجوب النصيحة للمسلم إذا استنصحك.

والمصيبة أن كثيرًا من المسلمين يعيش لنفسه فقط، ولا يعنيه أمر النصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم في شيء، قد جعل من الأنانية له شِعارًا ودِثارًا حتى في أعظم الواجبات عليه، لسانُ حالِه ومقالِه مقالةُ بعضِ الجاهلين:«خلِّ النصائحَ تخليك الفضائح» .

قوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا عطس فحمد الله فشمِّته» ؛ أي: وإذا عطس، وقال:«الحمد لله» فشمِّته بقولك: «يرحمك الله» . ويقول هو: «يهديكم الله ويُصلِحُ بالكم»

(2)

.

أما إذا لم يحمد الله فإنه لا يشمته، كما فعل صلى الله عليه وسلم مع من عطس ولم يحمد الله

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان (55)، وأبو داود في الأدب (4944)، والنسائي في البيعة (4197 - 4198) من حديث تميم الداري رضي الله عنه. وأخرجه النسائي في الموضع السابق (4199، 4200)، والترمذي في البر والصلة (1926) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الأدب (6224)، وأبو داود في الأدب (5033)، وأحمد 2/ 353 (8631) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي في الأدب (2741) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في الأدب (3715) من حديث علي رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في الأدب (6225)، ومسلم في الزهد والرقائق (2991)، والترمذي في الأدب (2742) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 473

«وإذا مرِض فعده» ؛ أي: فزره في مرضه؛ للتخفيف عليه، والدعاء له بالشفاء والعافية.

«وإذا مات فاتبعه» ؛ أي: فاتبع جنازته، وشيِّعه؛ للصلاة عليه، ودفنه، والدعاء له بالمغفرة والثبات.

وهذه الحقوق الست من أهم حقوق المسلم على المسلم، وهناك حقوق كثيرة في الإسلام على المسلم تجاه إخوانه المسلمين، دل عليها القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، من أهمها ما يلي:

أولًا: أن يعمل كل مسلم على تحقيق الأخوة الإسلامية فيما بينه وبين إخوانه المسلمين، كما أراد الله عز وجل؛ محبة، ومودة، وولاء، وإيثارًا، بحيث يشعر كل منهم بأنه جزء من كيان واحد، وأن أخوة الإسلام فوق كل أخوة، بما في ذلك أخوة النسب، والقرابة، والعائلة، والقبيلة، وغير ذلك.

قال الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

وقال صلى الله عليه وسلم: «وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المؤمنين في توادِّهم، وتراحُمِهم، وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن للمؤمن كالبُنيان يشد بعضه بعضًا» وشبك أصابعه

(3)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه»

(4)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2586)، وأحمد 4/ 270 (18373) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه البخاري في الصلاة (481)، ومسلم في البر (2585)، والنسائي في الزكاة (2560)، والترمذي في البر والصلة (1928)، وأحمد 4/ 404 (19624) من حديث أبي موسى الأشعري رضي لله عنه.

(4)

أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5016، 5017)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2515)، وابن ماجه في المقدمة (66)، وأحمد 3/ 206 (13146) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 474

ثانيًا: تبادل الاحترام والتقدير فيما بينهم، والبشاشة والابتسام مع السلام عند لقاء بعضهم بعضًا، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«تبسُّمُك في وجه أخيك صدقة»

(1)

.

وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قال:«ما حَجَبَني النبي صلى الله عليه وسلم منذُ أسلمتُ ولا رآني إلا تبسم في وجهي»

(2)

.

ولنا به صلوات الله وسلامه عليه أسوة وقدوة، فمع شغله الشاغل صلوات الله وسلامه عليه في تدبر شؤون الأمة كلها قد وجد وقتًا للتبسم في وجوه أصحابه رضي الله عنهم، وصدق الله العظيم:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

والمصيبة أنك تجد كثيرًا من المسلمين لا يعرف البشاشة ولا الابتسامة، ولا مكان لهما عنده، بل يظهر ضد ذلك عندما يلتقي بإخوانه المسلمين، اللهم إلا مع أهل معرفته خاصة.

ولا شك أن في هذا نقصًا عظيمًا، وبعدًا عن أخلاق المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأخلاق المؤمنين، وأخلاق أهل الجنة.

وقد يقول قائل: إن هذا طبع! وقد قيل: «حدِّر جبلًا، ولا تحدِّر طبعًا» .

وهذا ليس بصحيح؛ فإن العلم بالتعلُّم، والحلم بالتحلُّم، والخُلق بالتخلُّق، ولو كان الإنسان لا يستطيع أن يغير من أخلاقه وسلوكه، وكما يقال: «أيٌّ كذا خُلِقت

»، ما كان هناك تكليف، ولا جنة ولا نار!

فلأهل الجنة أخلاقهم، ولأهل النار أخلاقهم، كما قال صلى الله عليه وسلم:«ألا أخبركم بأهل الجنة؟! كل ضعيف مُتَضَعَّف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار، كل عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُتكبِّر»

(3)

.

(1)

أخرجه الترمذي في البر والصلة (1956)، والبخاري في «الأدب المفرد» (891) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. قال الترمذي:«حسن غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (572).

(2)

أخرجه البخاري في الجهاد والسير (3035)، ومسلم في فضائل الصحابة (2475)، والترمذي في المناقب (3821)، وابن ماجه في المقدمة (159)، وأحمد 4/ 359 (19179).

(3)

أخرجه البخاري في التفسير (4918)، ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار (2853)، والترمذي في صفة جهنم (2605)، وأحمد 4/ 306 (18728) من حديث حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه.

ص: 475

والبشاشة والابتسامة من أول مظاهر حسن الخلق، وأعظمها، وأفضلها، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«ما من شيء أثقل في الميزانِ من حُسنِ الخُلُق»

(1)

، فخذ من هذا الخلق العظيم أكبر نصيب، تَسعَدْ في دينك، ودنياك، وأخراك.

ثالثًا: تعاونهم أفرادًا وجماعاتٍ على البر والتقوى، وعلى التواصي بالحق، والدعوة إلى الخير، والاعتصام بحبل الله جميعًا، وعدم التفرق؛ قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، وقال تعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].

وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].

فيجب على المسلمين جميعًا الاجتماع على الحق، والعمل على تحقيق عبودية الله تعالى في الأرض وطاعته، وعلى كل ما من شأنه رفع راية الإسلام، ونشره، والدفاع عنه، ونصرة المسلمين، وقوتهم، ووحدتهم؛ فالاختلاف والتفرق داء وبيل، وشر مستطير، يهدم كيان الأمة، ويُذهِب ريحها؛ قال تعالى:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]، وقال تعالى:{وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].

وقال صلى الله عليه وسلم: «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»

(2)

.

فلا يجوز لمسلم- يشهد أنْ لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله- أن يشِذ عن هذا، ويتخلى عن إخوانه المسلمين، ويغرد خارج السرب؛ كما يقولون، فـ «يد الله مع الجماعة،

(1)

أخرجه أبو داود في الأدب (4799)، والترمذي في البر والصلة (2003) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال الترمذي:«غريب من هذا الوجه» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (876).

(2)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2699)، وأبو داود في الأدب (4946)، والترمذي في الحدود (1425)، وابن ماجه في المقدمة (225)، وأحمد 2/ 252 (7427) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 476

ومن شذَّ شذَّ في النار، وإنما يأكل الذئبُ من الغنمِ القاصيةَ».

والمصيبة أن فريقًا من الناس زيادة على تركه التعاونَ مع إخوانه في الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، تجده يثبط القائمين بذلك، فبدلًا من كونه يقوم بذلك، أو يعين من قام به، ويشجعه، تجده يثبط القائمين بذلك، وهذا بلا شك دلالة على الخِذلان، وعدم التوفيق، وقد قال الله تعالى:{مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91]، وقال صلى الله عليه وسلم:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقلْ خيرًا أو ليصمت»

(1)

.

قال الأوزاعي: «ليعلم كل منكم أنه على ثغرٍ من ثغور الإسلام، فالله الله أن يُؤتَى الإسلام من قِبَله»

(2)

.

وقال الشاعر:

تأبى الرِّماحُ إذا اجتمعنَ تكسُّرًا

وإذا افترقنَ تكسَّرت آحادا

(3)

رابعًا: إصلاح ذات بينهم، كما قال تعالى:{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1]، وقال تعالى:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، وقال تعالى:{وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].

والأمر في قوله: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} ، وفي قوله:{فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} للوجوب، فلا يجوز أن يقف المسلمون تجاه الفئات المتقاتلة أو المتنازعة من إخوانهم المسلمين موقف المتفرج، كما هو حال كثير من المسلمين اليوم، وربما عمد بعضهم وعمل على إشعال نار الفتنة، وزيادتها؛ نسأل الله تعالى العافية والهداية.

وقد قال عز وجل: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ

(1)

أخرجه البخاري في الأدب (6018)، ومسلم في الإيمان (47)، وأبو داود في الأدب (5154)، والترمذي في صفة القيامة (2500)، وابن ماجه في الفتن (3971) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مالك في صفة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 929)، والبخاري في الأدب (6019)، ومسلم في الإيمان (48) من حديث أبي شريح الكعبي رضي الله عنه.

(2)

أخرجه محمد بن نصر المروزي في «السنة» (29).

(3)

انظر: «الأغاني» 4/ 112، «مجمع الزوائد» 8/ 126، «كنز العمال» 13/ 600 (37552).

ص: 477

النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

كما حذر صلى الله عليه وسلم من فساد ذات البين بين المسلمين، وقال:«هي الحالقة، لا أقول: تحلِق الشعر، ولكن تحلق الدين»

(1)

.

وقد جعل الإسلام سهمًا من الزكاة للغارمين في سبيل إصلاح ذات البين من المسلمين؛ تشجيعًا لهم على هذا العمل النبيل الجليل.

فاحرص أخي المسلم على إصلاح ذات البَين بين المسلمين ما استطعتَ إلى ذلك سبيلًا، واحمِلْ همَّ إخوانك المسلمين، كما تحمل هم نفسك، وأبشر بالخير إن شاء الله تعالى.

واحذَرْ كلَّ الحذر أن تكون ممن لا يعنيه شأن إخوانه المسلمين، لا في قليل ولا كثير.

خامسًا: أن يحرص كل مسلم ويجتهد ما استطاع على سلامة قلبه على إخوانه المسلمين، ويبتعد كل البعد عن الاعتداء على أحدٍ من إخوانه بدم، أو مال، أو عرض، ويحذر كل الحذر مما يعكر صفو الأخوة بينه وبين إخوانه المسلمين؛ من السخرية، واللمز، والتنابز بالألقاب، وسوء الظن، والتجسس، والتحاسد، والتباغض، والتدابر، والتهاجر، والاحتقار، ونحو ذلك.

قال الله عز وجل: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 11، 12].

وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: «إن دماءَكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام كحُرمة يومكم هذا، في شهرِكم هذا، في بَلَدِكم هذا، ألا هل بلغتُ، ألا هل بلغتُ،

(1)

سبق تخريجه.

ص: 478

ألا هل بلغتُ؟ قالوا: نعم، قال: اللهمَّ فاشْهَدْ»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تَرجعوا بعدي كفارًا يضرِب بعضكم رقاب بعض»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «سِباب المسلم فُسُوق، وقتاله كفر»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلِمه، ولا يخذُله، ولا يحقره، التقوى هاهنا- ويشير إلى صدره ثلاثًا- بحسْبِ امرِئٍ من الشر أن يحقر أخاه، كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه»

(4)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظنَّ؛ فإن الظن أكذبُ الحديث، ولا تَجَسَّسوا، ولا تَحَسَّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغَضوا، ولا تدابروا، وكُونوا عبادَ الله إخوانًا»

(5)

.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا تظنَّ بكلمةٍ خرجت من أخيك المسلم إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير مَحمَلًا»

(6)

.

وعن أبي بَرْزَةَ الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا مَعشَرَ من آمَنَ بلسانه ولمَّا يدخلِ الإيمانُ قلبَه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من اتبع عورة أخيه

(1)

أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (1679)، وابن ماجه في المقدمة (233)، وأحمد 5/ 37 (20386) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في العلم (121)، ومسلم في الإيمان (65)، والنسائي في تحريم الدم (4127، 4131، 4132)، وابن ماجه في الفتن (3942)، والدارمي في المناسك 2/ 51 (1921). من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في الحج (1739)، والترمذي في الفتن (2193) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه البخاري في الحج (1741) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في المغازي (4403)، ومسلم في الإيمان (66)، وأبو داود في السنة (4686)، والنسائي في تحريم الدم (4125)، وابن ماجه في الفتن (3943) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه البخاري في الإيمان (48)، ومسلم في الإيمان (64)، والنسائي في تحريم الدم (4105)، والترمذي في البر والصلة (1983)، وابن ماجه في المقدمة (69) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(4)

سيأتي تخريجه.

(5)

سبق تخريجه.

(6)

سبق تخريجه

ص: 479

المسلم، يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يَفضَحْه، ولو في جوف بيته»

(1)

.

سادسًا: أن يسعى كل مسلم في الدفاع عن إخوانه المسلمين في دينهم، وفي دمائهم، وأموالهم، وأعراضهم.

ويحذر كل الحذر من خِذلان أحد من إخوانه المسلمين في موقف يستطيع فيه نُصرته، والذب عنه.

قال صلى الله عليه وسلم: «انصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا» . فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال:«تحجُزه، أو تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نَصرُه»

(2)

.

وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رد عن عِرْض أخيه المسلم، رد الله عن وجهه النار يوم القيامة»

(3)

.

وعن جابر بن عبد الله وأبي طلحة الأنصاري رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ما من امرئ يخذُل امرأً مسلمًا في موضعٍ تُنتهك فيه حُرمتُه، ويُنتقص فيه من عِرضه إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته، وما من امرئٍ ينصر امرأً مسلمًا في موضع يُنتقص فيه من عِرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا نصره الله في مواطنَ يحب نصرته فيها»

(4)

.

وهذا يجسد قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادِّهم، وتراحمهم، وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالحُمَّى والسهر»

(5)

.

(1)

أخرجه أبو داود في الأدب (4880)، وأحمد 4/ 420 (19776). وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (7984) من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في المظالم (2444)، وفي الإكراه (6952)، والترمذي في الفتن (2255)، وأحمد 3/ 99 (11949) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه مسلم في البر والصلة (2584) من حديث جابر رضي الله عنه.

(3)

أخرجه الترمذي في البر والصلة (1931)، وأحمد 6/ 449 (27536) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. قال الترمذي:«حديث حسن» . وضعفه الألباني في «الضعيفة» (580).

(4)

أخرجه أبو داود في الأدب (4884). وضعفه الألباني في «الضعيفة» (6871).

(5)

سبق تخريجه.

ص: 480

‌وقفات تسع في: تحريم العصبية القبلية، وذمها

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

‌الوقفة الأولى

معنى العصبية القبلية

العصبية: هي الدعوة إلى نصرة العصبة، والتألُّب معهم على من يناوئهم؛ ظالمين كانوا أو مظلومين

(1)

.

والقَبَلية: نسبة إلى «القبيلة» وهم الجماعة بنو أب واحد، والقبيلة دون الشِّعب، ويتفرع منها الفصائل، والعشائر، والعمائر، والبطون، والأفخاذ، وغير ذلك

(2)

.

فالعصبية القبلية: هي العصبة القومية المَقيتة؛ من الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والفخر بالأرض والتراب، والعِرق، واللون، والجنس، والبلد، وهي حمية الجاهلية المذمومة.

قال ابن تيمية رحمه الله: «وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن؛ من نسب، أو بلد، أو جنس، أو مذهب، أو طريقة، فهو عزاء الجاهلية»

(3)

.

(1)

انظر: «لسان العرب» مادة «عصب» .

(2)

انظر: «لسان العرب» مادة «قبل» .

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية 28/ 328.

ص: 481

‌الوقفة الثانية

حال الأمة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم

-

كان العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل نزول القرآن الكريم، وبزوغ شمس الإسلام، أمة متنافرة، متناحرة، تسودها العداوات، والبغضاء، والأحقاد، والشحناء، القوي يأكل الضعيف، والغني يستعبِد الفقير، كانوا يتقاتلون على موارد الشاء والإبل، وتقوم بينهم الحروب لأتفه الأسباب، بسبب قتل كلب، أو نحو ذلك، وتدوم سنين طويلة، كما في حرب داحس والغبراء، والحروب بين الأوس والخزرج، وغير ذلك.

فجاء الإسلام فألَّف بينهم، وجمَّع كلمتهم، ووحَّد صفهم فأصبحوا بنعمة الله إخوانًا، قال تعالى:{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63]، وقال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103].

‌الوقفة الثالثة

تحريم العصبية القبلية، وذمها

حرَّم الإسلام العصبية القبلية، وحذَّر منها، وذمَّها في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهرة؛ قال تعالى:{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].

وقال صلى الله عليه وسلم: «اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنِّياحة على الميت»

(1)

.

(1)

أخرجه مسلم في الإيمان (67)، والترمذي في الجنائز (1001)، وأحمد 2/ 496 (10434) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ومعنى «الطعن في الأنساب»: نفيها، أو إلحاق العيب والنقص فيها.

ص: 482

وقال صلى الله عليه وسلم: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة»

(1)

.

ولما سمع صلى الله عليه وسلم أحد الأنصار ينادي: يا للأنصار! وأحد المهاجرين ينادي: يا للمهاجرين، قال:«ما بال دعوى الجاهلية؟» قالوا: يا رسول الله، كسَعَ رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار. فقال:«دعوها فإنها مُنتِنة»

(2)

.

ولما عيَّر أبو ذر رضي الله عنه بلالًا رضي الله عنه بأمه، قال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه:«أعيرتَه بأمه؟ إنك امرُؤٌ فيك جاهلية»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد»

(4)

.

وعن جُندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن قُتل تحت رايةٍ عِمِّيَّة، يدعو عصبية، أو ينصر عصبيةً، فقِتلةٌ جاهلية»

(5)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل تحت رايةٍ عِمِّية، يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، فقتل، فقِتلة جاهلية»

(6)

.

(1)

أخرجه مسلم في الجنائز (934)، وأحمد 5/ 342 (22903) من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في المناقب (3519)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2584)، والترمذي في التفسير (3315)، وأحمد 3/ 323 (14467) من حديث جابر رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في الإيمان (30)، ومسلم في الإيمان (1661)، وأبو داود في الأدب (5157، 5158)، والترمذي في البر والصلة (1945)، وابن ماجه في الأدب (3690) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

(4)

أخرجه مسلم في الجنة (2865)، وأبو داود في الأدب (4895)، وابن ماجه في الزهد (4179).

(5)

أخرجه مسلم في الإمارة (1850)، والنسائي في تحريم الدم (4115). و «العمية»: الأمر الأعمى، لا يستبين وجهه، كما في قول الشاعر:

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت، وإن ترشد غزية أرشد

«قتلة جاهلية» ؛ أي: قتلة وميتة على ضلال، كما يموت أهل الجاهلية.

(6)

أخرجه مسلم في الإمارة (1848)، والنسائي في تحريم الدم (4114)، وابن ماجه في الفتن (3948)، وأحمد 2/ 296 (7944) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 483

ويكفي أن أول المتعصبين لأصله إبليس لعنه الله تعالى، حيث قال:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12].

فالحذرَ الحذرَ من هذا المسلك الجاهلي المُشين.

‌الوقفة الرابعة

الكرم، والعزة، والفخر بالإيمان والإسلام والتقوى

قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وقال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10].

وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يَحقِره، ولا يظلِمه .... »

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا فضل لعربيٍّ على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلا بالتقوى»

(2)

.

فدين الإسلام جمع بين صُهيب الرومي، وبلال الحَبَشي، وسلمان الفارسي، وأبي بكر الصديق القُرَشي العربي رضي الله عنهم تحت أعظم راية، وأقوى رابطة؛ راية ورابطة الإسلام والإيمان والتقوى.

قال الشاعر:

أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ

إذا افتخروا بقَيسٍ أو تَميمِ

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه أحمد 5/ 411 (23489) من حديث أبي نضرة: حدثني من سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق. قال الهيثمي في «المجمع» (3/ 266): «رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح» . وأخرجه الطبراني في «الأوسط» 5/ 86 (4749) من حديث أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله عنه. قال الهيثمي في «المجمع» (8/ 84): «رواه الطبراني في «الأوسط» والبزار بنحوه

ورجال البزار رجال الصحيح». وأخرجه البيهقي في «الشعب» 4/ 289 (5137) من حديث أبي نضرة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «الصحيحة» (2700).

ص: 484

بدعوى الجاهليةِ لم أُجبْهم

ولا يدعو بها غيرُ الأثيمِ

دعيُّ القومِ ينصر مدَّعيه

فيُلحِقُه بذي النسبِ الصميمِ

وما كرمٌ ولو شرُفت جُدودٌ

ولكنَّ التقيَّ هو الكريمُ

(1)

وقال الآخر:

لَعَمْرُكَ ما الإنسانُ إلا بدينِه

فلا تتركِ التقوى اتكالًا على النسَبْ

فقد رفعَ الإسلامُ سَلمانَ فارسٍ

وقد وضع الشركُ الشريفَ أبا لهَبْ

(2)

وقال الآخر:

أنا مسلمٌ وأقولُها مِلءَ الوَرَى

وعقيدتي نور الحياةِ وسُؤْدَدِي

إن العقيدةَ في قلوب رِجالها

من ذرة أقوى وألف مُهنَّدِ

(3)

وقال الآخر:

ألا إنما التقوى هي العزُّ والكرَمْ

وحبُّك للدنيا هو الذلُّ والعَدَمْ

وليس على عبدٍ تقيٍّ نقيصةٌ

إذا صحح التقوى وإن حاك أو حَجَمْ

(4)

ولو كان النسب ينفع لاستطاع الأنبياء عليهم السلام وهم خيرة خلق الله- أن ينفعوا أبناءهم وآباءهم وأقاربهم، فلم ينفع نوح عليه الصلاة والسلام ابنه، قال تعالى:{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 45 - 47].

ولم ينفع إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن أباه، قال تعالى:{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114].

وما نفع محمد صلى الله عليه وسلم سيد البشرية كلها قرابته، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ

(1)

انظر: «الشعر والشعراء» (1/ 528).

(2)

البيتان للإمام علي رضي الله عنه. انظر: «ديوانه» (11).

(3)

بلا نسبة في «دليل الواعظ، إلى أدلة المواعظ» (ص 186).

(4)

البيتان لأبي العتاهية، انظر:«ديوانه» ص (394).

ص: 485

آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]:

فما نفع عمه أبا لهب، قال تعالى:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [سورة المسد].

وما نفع عمه أبا طالب الذي كفله، وأحاطه بعنايته ورعايته، ومنع المشركين من الوصول إليه وأذيته؛ فقد جاء صلى الله عليه وسلم إلى عمه أبي طالب لما حضرته الوفاة، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال:«يا عمِّ، قلْ: لا إله إلا الله، كلمة أُحاجُّ لك بها عند الله» ، وأبو جهل وعبد الله بن أبي أمية يقولان له: قل: بل على ملة عبد المطلب. فقال: بل على ملة عبد المطلب. وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فحزِن النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك

(1)

، فأنزل الله تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] قال: «يا معشر قريش- أو كلمة نحوها- اشتروا أنفسكم، لا أُغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد مَناف، لا أُغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أُغني عنك من الله شيئًا، ويا صفيةُ عمةَ رسول الله لا أُغني عنك من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئتِ من مالي، لا أغني عنكِ من الله شيئًا»

(2)

.

فلا نسب ولا حسب ينفع عند الله تعالى، قال تعالى:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، وقال تعالى:{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 3]، وقال تعالى:{يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان: 41].

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري في الوصايا (2753)، وفي التفسير (4771)، ومسلم في الإيمان (206)، والنسائي في الوصايا (3646، 3647).

ص: 486

وقال تعالى: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا} [المعارج 10 - 15]، وقال تعالى:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس 34 - 37].

‌الوقفة الخامسة

أسباب العصبية القبلية

أسباب العصبية القبلية كثيرة، منها ما يلي:

1 ضعف الإيمان، واليقين.

2 الجهل، وهو داء قاتل، قال الشاعر:

وفي الجهلِ قبلَ الموتِ موتٌ لأهلِه

فأجسامُهم قبلَ القبورِ قُبورُ

3 خواء الروح، وخلوها من التعلق بالله تعالى، وعبادته، وذكره، والعناية بما خلق العباد له، مما يولِّد فراغًا عند الإنسان فيملؤه بما يضره، كما قيل:

أتاني هواها قبل أن أعرِف الهوى

فصادفَ قلبًا خاليًا فتمكَّنا

والنفس إذا ما شَغَلَها الإنسانُ بالخير، شغلتْه بالباطل!

4 عمل بعض البيوت، والأسر، والقبائل على إذكائها بشتى الوسائل، وترسيخ مفهومها.

5 وجود كثير من القنوات الفضائية اليوم، والمواقع الإلكترونية، ووسائل التواصل التي تتبنى الدعوة لها بما تبُثه من الأشعار، والقصائد التي تربي الناس على التعصب المذموم، والمنافسات، والمسابقات في ذلك.

6 الاجتماعات، والمناسبات القبلية التي يكون التركيز فيها غالبًا على تمجيد القبيلة، وذكر مفاخرها، بدلًا من التركيز على الإحسان، وصلة الرحم، والتكافل الاجتماعي،

ص: 487

والدعوة إلى الخير.

7 استغلال أعداء الإسلام لها؛ للتفريق بين المسلمين، وضرب بعضهم ببعض؛ ليكون لهم موطئُ قدم في بلاد المسلمين، يمتصون من خلاله خيرات بلاد المسلمين، ويشككونهم في دينهم.

‌الوقفة السادسة

مفاسد العصبية القبلية، وأضرارها على الفرد والمجتمع

مفاسد العصبية القبلية وأضرارها كثيرة جدًّا، من أخطرها ما يلي:

1 أنها من أعظم أسباب ضلال كثير من الخلق، وتكذيب الرسل، ورد ما جاؤوا به من الحق، كما قال الملأ الذين كفروا من قوم نوح عليه السلام:{مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24].

وقال المكذبون من قوم نوح، وعاد، وثمود، ومن بعدهم لرسلهم:{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [إبراهيم: 10].

وقال قوم صالح عليه السلام له: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: 62].

وقال قوم شعيب عليه السلام: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود: 87].

وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام وقومه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنبياء 52 - 54]، وفي سورة الشعراء:{قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 74].

وقال فرعون وملؤه: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس: 78]، وقالوا:{مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص: 36].

ص: 488

وقال تعالى عن مشركي هذه الأمة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، وقال تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104].

وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [لقمان: 21]، وقال تعالى:{قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 22، 23].

وقال تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70]، وقالوا:{مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ} [سبأ: 43]، وقال تعالى:{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات: 69، 70]، وقال تعالى:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} [الأعراف: 28].

ولقد كانت العصبية القبلية سببًا لموت أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم على الكفر، والذي كانت له الأيادي البيضاء في كفالة الرسول صلى الله عليه وسلم، والدفاع عنه، ومنع المشركين من الوصول إليه، وأذيته في حياته، فهو يقول:

ولقد علِمتُ بأن دين محمدٍ

من خيرِ أديانِ البَرِيَّةِ دِينَا

لولا الملامةُ أو حِذار مَسَبَّة

لوجدتني سمحًا بذاك مُبينَا

(1)

ويقول:

لقد علِموا أن ابنَنَا لا مكذَّبٌ

لدينا ولا يُعنى بقولِ الأباطلِ

فو الله لولا أن أجيءَ بسُبةٍ

تجرُّ على أشياخِنا في المحافل

لكنَّا اتبعناه على كل حالةٍ

من الدهرِ جدًّا غير قول التهازُل

(2)

(1)

انظر: «شرح الطحاوية» 2/ 461، «ديوان أبي طالب» ص 108.

(2)

انظر: «ديوان أبي طالب» ص 128، «السيرة النبوية» لابن هشام 1/ 299، «الحماسة المغربية» 1/ 104.

ص: 489

2 ضعف الإيمان، وضعف الولاء لله ولرسوله، وللمؤمنين؛ لانشغال القلب عن ذلك بالعصبية، وبما لا يغني.

3 الوقوع في الظلم؛ لأن التعصبَ غالبًا يدفَع صاحبه إلى استباحة حقوق الآخرين وظُلمهم.

4 ازدراء الآخرين، واحتقارهم، وتنقُّصهم، والحطُّ من قدْرِهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«المسلم أخو المسلم، لا يَحقِرُه، ولا يَظلِمه»

(1)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«بحسْبِ امرِئٍ من الشرِّ أن يَحقِرَ أخاه المسلمَ، كل المسلمِ على المسلمِ حرام؛ دَمُه ومالُه وعِرضُه»

(2)

.

5 إيجاد العداوة، والبغضاء، والأحقاد بين المسلمين، ولأجلها رُفعت شعارات الشيطان، مِصداق قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الشيطان قد يئِس أن يعبُدَه المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريشِ بينهم»

(3)

، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا»

(4)

.

6 تفرق كلمة المسلمين، وتأخُّرُهم، وتخلُّفُهم عن ركْب الحضارة والتقدم، بسبب نشوء النعرات العرقية، والقبلية، والقومية، والجغرافية، والحزبية، والمذهبية، والطائفية، والسياسية، وغيرها.

7 نشوب الحروب والفِتَن بين المسلمين، وتعطيل مصالح الأمة الكبرى؛ الدينية، والدنيوية.

8 ضعف الأمة، وذهاب ريحها، وتسلط الأعداء عليها، مع الجهل، والفقر، والمرض.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه مسلم في البر والصلة (2564)، وأبو داود في الأدب (4882)، والترمذي في البر والصلة (1927)، وابن ماجه في الفتن (3933)، وفي الزهد (4213)، وأحمد 2/ 277 (7727) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم في صفة القيامة (2812)، والترمذي في البر والصلة (1937)، وأحمد 3/ 313 (14366) من حديث جابر رضي الله عنه.

(4)

سبق تخريجه.

ص: 490

‌الوقفة السابعة

العصبية للوطن؛ من بلد أو منطقة، أو مدينة، أو محافظة، أو قرية، أو هجرة، أو غير ذلك

كلٌّ يحب موطنه الذي وُلد وعاش فيه، أو عاش فيه أجداده، وهذا أمر جِبِلي طبيعي فِطري، حتى عند الحيوانات.

وقد أحب النبي صلى الله عليه وسلم بلده مكة، كما أحب المدينة، وقد قيل:«حب الوطن من الإيمان» .

وقال الشاعر:

بلادي وإن جارتْ عليَّ عزيزةٌ

وأهلي وإن ضنُّوا عليَّ كرامُ

وكون الإنسان يحب بلده، ويدافع عنه بحق، ويعمل على جلب الخير له، وتطويره بما لا يشغله عن أمر دينه، وبما ليس فيه مباهاة ولا مفاخرة، ولا مكاثرة بالتراب والطين، ولا اعتداء على حقوق الآخرين، أو أذية لهم، فهذا كله لا بأس به.

لكن الذي لا يجوز أن يتحول الولاء للبلد ومحبته إلى عصبيةٍ تترتب عليها الموالاة والمعاداة، أو المباهاة والمفاخرة والمكاثرة بالتراب والطين، أو التعالي على الآخرين، من أهل البلدان الأخرى، من الجيران، وغيرهم، أو أذيتهم، أو الاعتداء على حقوقهم، أو احتقارهم وانتقاصهم، أو تعييرهم بالألقاب، التي يكتبها سفهاء القوم على الجدران، وطاولات المدارس، وعلى اللوحات في الطرقات العامة، والشوارع، وطمس اللوحات الإرشادية التي تضعها الجهات المختصة، ونحو ذلك.

وكل هذا مما يولد العداوة، والبغضاء، والأحقاد بين المسلمين، ولا يعود على صاحبه إلا بالخيبة والخسران، مع التفريط في حق الله تعالى، حيث تضيع كثير من أعمار مَنِ ابتُلوا بهذا التعصب، ركضًا وراء ذلك، فلا دنيا حصلوا ولا دينًا حفظوا.

ص: 491

‌الوقفة الثامنة

الأولاد أمانة عظيمة، يجب النأي بهم عن مَزالق العصبية كلها

الأولاد ذكورهم وإناثهم أمانة عظيمة في رقاب والديهم، يجب تربيتهم على مبادئ الإسلام الكريمة، ومُثُله العليا، وخصاله الحميدة، وآدابه الفاضلة، وأخلاقه النبيلة الجميلة.

يجب تربيتهم على تعظيم ربهم، وطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسلوك صراطه المستقيم المفضي بهم إلى جنات النعيم، مع الذين أنعم الله عليهم، كما قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

يجب تعليمهم أن العزة بالإسلام، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، كما قال تعالى:{إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس: 64]، وقال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، وقال تعالى:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8].

يجب تعليمهم أن العز والفخر، والكرم والشرف، والسؤدد والعظمة، والسعادة في الدنيا والآخرة بتقوى الله تعالى، وطاعته، وطلب مرضاته، وجنته.

كما يجب النأي بهم عن مزالق العصبية القبلية وغيرها، وعن كل ما يبعدهم عن سلوك الصراط المستقيم، ويعرضهم لسلوك سبل الضالين والجاهلين، قال تعالى:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

وليعلم الآباء أن الأمر خطير جد خطير، قال صلى الله عليه وسلم:«كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه»

(1)

.

فإن ضلال كثير من الأولاد بسبب آبائهم، الذين ربوهم على غير الفطرة من العصبية، أو غير ذلك، أو أهملوهم

(2)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

انظر: «تحفة الودود، بأحكام المولود» لابن القيم ص 229.

ص: 492

‌الوقفة التاسعة

ليس من العصبية

1 التمسك، والاعتزاز بشيم وعادات القبيلة الطيبة الحسنة؛ من الجُود والكرم والشجاعة، والشهامة وحسن الجوار، ونصرة المظلوم، وإكرام الضيف، وغير ذلك.

فقد جاء الإسلام وهذه الشيم والعادات موجودة عند العرب، فشجع عليها، وحافظ عليها؛ ولهذا قالت خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم لما جاء فزِعًا، بعد نزول جبريل عليه السلام عليه بالوحي، وهو في الغار، يقول: «زمِّلوني، زمِّلوني، دثِّروني

لقد خشِيت على نفسي» قالت رضي الله عنها: «كلا، أبشر، والله لا يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتَقرِي الضيف، وتحمِل الكَلَّ، وتُعين على نوائب الحق»

(1)

.

2 الاعتناء بالأنساب، والمحافظة عليها، قال صلى الله عليه وسلم:«تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم»

(2)

.

3 طلب الكفاءة في النكاح.

4 الخُيَلاء والفخر بالعشيرة والبلد في مواطن قتال الكفار، ونُصرة الدين؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول:«أنا النبي لا كَذِب، أنا ابن عبدِ المطَّلِب»

(3)

.

5 محبة الإنسان لعشيرته، وقبيلته، ولبلده محبةً معتدِلةً، لا تحمله على ظلم الآخرين، ولا احتقارهم، ولا توقعه في التفريط في حق الله تعالى، ولا يترتب عليها مفسدة ظاهرة، من العداء للقبائل، أو البلدان الأخرى، أو هضم حقوقها، أو التعدي عليها، أو محبة الشر لها، ونحو ذلك، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب قومه وعشيرته وبلده، وهو أُسوتنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم.

(1)

أخرجه البخاري في بدء الوحي (3)، وفي التفسير (4953)، ومسلم في الإيمان (160) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

أخرجه الترمذي في البر (1979)، وأحمد 2/ 374 (8868) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي:«حديث غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (276، 277).

(3)

أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2864، 2930)، ومسلم في الجهاد والسير (1776)، والترمذي في الجهاد (1688)، وأحمد 4/ 280 (18468) من حديث البراء رضي الله عنهما.

ص: 493

‌وقفات خمس في: فضيلة اللسان،

وخطورته، ووجوب حفظه

قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]

‌الوقفة الأولى في:

فضيلة اللسان، وشرفه

اللسان من أعظم الجوارح التي منحها الله تعالى للإنسان وأفضلها وأشرفها؛ فقد امتن الله على الإنسان بها، كما قال تعالى:{أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8 - 9].

وهو نعمة عظيمة من الله تعالى لمن وفقه الله عز وجل، به يُدخِل الإنسان في الإسلام، وينطق بأعظم كلمة؛ كلمة التوحيد؛ شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، كما قال تعالى:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24].

به يلهج المسلم بذكر ربه، وشكره، ويرتِّل آياته، ويدعوه، ويسبحه، ويهلله، ويكبره، ويحمده، ويثني عليه.

به يقول الحق، ويدعو إليه، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويرغِّب في الخير، ويحذِّر من الشر.

وبه يستعين على جميع أمور دينه، ودنياه، وأخراه.

وبه يختم المؤمن الموفَّق حياته بقوله: لا إله إلا الله.

وبه يجيب المَلَكين في قبره بقوله: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم.

وبه يلهج أهل الجنة بذكر الله، وشكره، وتسبيحه، وتحميده، وتهليله، وتكبيره.

ص: 494

وكم هو الفرق الشاسع، والبون الواسع في مقدار النعمة، وعظيم المِنة، بين من منحه الله تعالى في هذه الحياة لسانًا ناطقًا فصيحًا، وبين مَنِ ابتُلي بالبكم، وعدم النطق، لكن كما قيل:«الصحة تاج على رؤوس الأصحاء، لا يراه إلا المرضى» ، ولا يعرف قدر النعمة إلا مَن فقدها!

‌الوقفة الثانية:

اللسان بين النفع والضرر

اللسان ذو حدين؛ فهو- كما سبق- نعمة عظيمة لمن وفقه الله تعالى لاستعماله بالقول الحسن والسديد، وفيما يُرضِي الله عز وجل، كما قال تعالى:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 70، 71]، وقال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يُلقي لها بالًا، يرفعه الله بها درجات»

(1)

.

وعن بلالٍ المُزَني رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تَبلُغَ ما بَلَغَتْ، يكتب الله له بها رضوانَه إلى يوم يلقاه»

(2)

.

قال الشاعر:

(1)

أخرجه مالك في الكلام (2/ 985)، والبخاري في الرقاق (6478)، ومسلم في الزهد (2988)، والترمذي في الزهد (2314)، وابن ماجه في الفتن (3970)، وأحمد 2/ 334 (8411)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مالك في الكلام (2/ 985)، والترمذي في الزهد (2319)، وابن ماجه في الفتن (3969)، وأحمد 3/ 469 (15852). قال الترمذي:«حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (888).

ص: 495

عوِّد لسانَكَ قولَ الصدقِ تَحْظَ به

إن اللسانَ لما عودتَ مُعتادُ

(1)

وهو نقمة عظيمة لمن خذله الله تعالى، يكفر بسببه بقوله كلمة الكفر، كما قال تعالى عن المنافقين:{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ} [التوبة: 74]، وذلك باستهزائهم بالله، وآياته، ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وقال تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26].

وبسببه يقع الكثيرون في الموبِقات، والكبائر، وغيرها من المعاصي؛ من قول الزور، وشهادة الزور، والغِيبة، والنميمة، واللعن، والسب، والشتم، وغير ذلك.

ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من خطر اللسان وعثراته، فقال لمعاذ رضي الله عنه:«كُفَّ عليك هذا» قال معاذ: فقلت: يا نبي لله، وإنا لمؤاخَذون بما نتكلم به؟ فقال:«ثكِلتك أمُّك يا معاذُ، وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم- أو على مَناخِرِهم- إلا حصائدُ ألسنتهم»

(2)

.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتقدم، قال:«وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَطِ الله، لا يُلقي لها بالًا، يَهوي بها في جهنم»

(3)

.

وفي حديث بلال رضي الله عنه السابق قال: «وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، ما يظن أن تبلغ ما بَلَغَتْ، يكتب الله عليه بها سَخَطَهُ إلى يوم يَلقاه»

(4)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من يضمن لي ما بين لَحْيَيْهِ وما بين رِجليه أضمَن له الجنة»

(5)

.

(1)

بلا نسبة في «روضة العقلاء، ونزهة الفضلاء» (ص 51)، و «أدب الدنيا والدين» (ص 263).

(2)

أخرجه الترمذي في الإيمان (2616)، وابن ماجه في الفتن (3973)، وأحمد 5/ 231 (22016) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. قال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (3284)، وفي «الإرواء» (413).

(3)

سبق تخريجه قريبًا.

(4)

أخرجه مالك في الكلام (2/ 958)، والترمذي في الزهد (2319)، وابن ماجه في الفتن (3969)، أحمد 3/ 469 (15852). قال الترمذي:«حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (888).

(5)

أخرجه البخاري في الرقاق (6474) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.

ص: 496

وعن عُقبةَ بنِ عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال:«املِكْ عليك لسانَك، ولْيَسَعْكَ بيتُك، وابكِ على خطيئتك»

(1)

.

وفي الحديث «أن رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله عز وجل: من الذي يتألَّى عليَّ ألا أغفر لفلان؟! فإني قد غفرتُ لفلان، وأحبطتُ عَمَلَك»

(2)

.

وفي رواية: قال صلى الله عليه وسلم: «فوالذي نفسُ أبي القاسمِ بيدِه لَتَكَلَّمَ بكلمةٍ أوبَقَتْ دُنياهُ وآخِرَته»

(3)

.

فما أشدَّ خطر اللسان وضرره، فكم خرج أناس من الإيمان بسبب اللسان، وكم من أرواح أُزهقت، وحروب أُشعلت فأكلت الرطبَ واليابس؛ بسبب اللسان.

قال نصر بن سيَّار

(4)

:

وإن النار بالعودين تُذكَى

وإن الحربَ أولُها كَلامُ

وكم زوجات طُلِّقت، وأُسَر شُرِّدت، وأطفال يُتِّمت؛ بسبب اللسان!

وكم من عداوات وإِحَن وبَغْضاء وقعتْ بين الإخوان، والأقارب، والجيران، والأفراد، والجماعات؛ بسب اللسان!

قال الشاعر:

جِراحاتُ السِّنان لها التِئامٌ

ولا يَلتامُ ما جَرَحَ اللسانُ

(5)

وقال الشافعي:

(1)

أخرجه الترمذي في الزهد (2406)، وأحمد 4/ 148 (17334). قال الترمذي:«حديث حسن» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (890).

(2)

أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2621) من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه.

(3)

أخرجه أحمد 2/ 323 (8292)، وابن حبان 13/ 21 (5712) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. وأخرجه أبو داود في الأدب (4901) من قول أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في التعليقات الحسان (5682).

(4)

انظر: «عمدة الكتاب» للنحاس 1/ 39، و «التذكرة الحمدونية» 1/ 432.

(5)

البيت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: «فيض القدير» للمناوي 6/ 139، و «روح البيان» لأبي الفداء 9/ 506. وهو في:«فصل المقال» صـ 24 بلا نسبة.

ص: 497

احذَرْ لسانَكَ أيها الإنسانُ

لا يَلْدَغنَّك إنه ثُعبانُ

كم في المقابرِ مِن قتيلِ لسانهِ

كانت تهابُ لقاءَه الشجعانُ!

(1)

وقال صالح بن عبد القدوس:

احذَرْ لسانَكَ أن تقولَ فتُبتلى

إن البلاءَ موكَّلٌ بالمنطقِ

(2)

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه

(3)

:

يموت الفتى من عثرةٍ بلسانِه

وليس يموتُ المرءُ من عثرةِ الرِّجْلِ

فعثرتُه بالقولِ تُودي برأسِه

وعثرتُه بالرِّجْلِ تَبرا على مَهْلِ

وقد قيل: «اللسان، عدو الإنسان» .

‌الوقفة الثالثة في:

وجوب مراقبة اللسان وحفظه

يجب على المسلم أن يراقب لسانه، ويحذر منه أشد الحذر، ويحترز منه أشد الاحتراز، ويحفظه عن كل ما يَشين؛ لأن كل ما يتلفظ به الإنسان، وما يصدر منه من قول أو فعل مسجل مكتوب عليه، كما قال تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]؛ أي: حاضر لا يمكن أن يغيب، ولا يفوته شيء، مستعد متهيئ لكتابة ما يصدر من الإنسان، من قول أو فعل.

وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12]، وقال تعالى:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13، 14].

وقد ذُكر عن الإمام أحمد رحمه الله: أنه كان يئن في مرضه، فبلغه عن طاوس أنه قال:

(1)

انظر: «ديوانه» صـ 116.

(2)

انظر: «ديوانه» صـ 76.

(3)

انظر: «ديوانه» صـ 160.

ص: 498

«يكتُب الملك كل شيءٍ حتى الأنين» ، فلم يئنَّ رحمه الله حتى مات

(1)

.

‌الوقفة الرابعة في:

ما يجب حفظ اللسان منه

يجب الحذر كل الحذر من آفات اللسان وعثراته وسقطاته، وحفظه عن كل ما يشين المرء ويضره في دينه، ودنياه، وأخراه، ومن أهم ذلك وأعظمه ما يلي:

1 حفظه من التكلم بكلمة الكفر؛ من الاستهزاء بالله، وآياته، ودينه، ورسوله، وبالمؤمنين، قال تعالى منكرًا على المنافقين:{قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66]، وقال تعالى:{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم: 26]؛ والمراد: كلمة الكفر.

2 حفظه من قول الزور، وشهادة الزور، والخوض بالباطل والكذب، ونحو ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» ، ثلاثًا، قالوا: بلى يا رسول الله، قال:«الإشراك بالله، وعقوق الوالدين» ، وجلس وكان متكئًا فقال:«ألا وقول الزُّور» ، قال: فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت!

(2)

.

3 حفظه من السخرية، واللمز، والهمز، والتنابز بالألقاب؛ قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، وقال تعالى:{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1]، وقال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ

(1)

انظر: «تفسير ابن كثير» 7/ 377.

(2)

أخرجه البخاري في الشهادات (2654)، ومسلم في الإيمان (87)، والترمذي في البر والصلة (1901) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

ص: 499

بِنَمِيمٍ} [القلم: 10، 11]

4.

حفظه من الغِيبة والنميمة، والطعن واللعن، والفحش والبذاءة، والسب والشتم، ونحو ذلك، قال تعالى:{وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].

وقال صلى الله عليه وسلم يومًا لأصحابه: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:«ذِكرُك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبتَه، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطعان، ولا اللعان، ولا الفاحش، ولا البذيء»

(2)

.

5 حفظه من شكوى الحال إلى غير الله تعالى عند أي مصاب، ومن كثرة التشكي عند تقلب الأحوال من حر وبرد وغير ذلك، كما هو ديدن الكثيرين اليوم، وهذا- مع ما يوحي به من عدم تذكر نعم الله تعالى التي لا تعد ولا تحصى- أمر لا ينبغي، ويخشى أن يكون من سب الدهر؛ قال تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34، النحل: 18]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى ما يحبُّ قال:«الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحاتُ» ، وإذا رأى ما يكره قال:«الحمدُ لله على كلِّ حالٍ»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن؛ إنَّ أمرَه كلَّه له خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمنِ: إن أصابته سرّاءُ شَكَرَ؛ فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاءُ صَبَرَ؛ فكان خيرًا له»

(4)

.

6 حفظه من القيل والقال، ونقل الشائعات والأخبار، والخوض بما لا فائدة فيه من الكلام والمغالطات، ومجاراة السفهاء، سواء في المجالس والمنتديات، أو في وسائل

(1)

أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2589)، وأبو داود في الأدب (4874)، والترمذي في البر والصلة (1934)، وأحمد 2/ 230 (7146) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه الترمذي في البر والصلة (1977)، وأحمد 1/ 405 (3839) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قال الترمذي:«حسن غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (320).

(3)

أخرجه ابن ماجه في الأدب (3803) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

سبق تخريجه.

ص: 500

الإعلام والاتصال، وغير ذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقلْ خيرًا أو ليصمت»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من حُسنِ إسلام المرءِ تركُه ما لا يَعنيه»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «دع ما يَرِيبك إلى ما لا يَريبك»

(4)

.

وقد قيل: «لو كان الكلام من فِضة، لكان السكوت من ذهب» .

وقال الشاعر:

ولئن ندِمتَ على سكوتِك مرةً

فلَتَنْدَمَنَّ على الكلامِ مِرارَا

(5)

(1)

أخرجه البخاري في الأدب (6018)، ومسلم في الإيمان (47)، وأبو داود في الأدب (5154)، والترمذي في صفة القيامة (2500)، وابن ماجه في الفتن (3971) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مالك في صفة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 929)، والبخاري في الأدب (6019)، ومسلم في الإيمان (48) من حديث أبي شريح الكعبي رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الزكاة (1477)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (593)، وأحمد 4/ 246 (18147) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مالك في حسن الخلق (2/ 903)، والترمذي في الزهد (2318) مرسلًا من حديث علي بن الحسين رضي الله عنه. وأخرجه أحمد 1/ 201 (1737)، والطبراني في «الأوسط» 8/ 202 (8402)، وفي «الكبير» 3/ 128 (2886)، وفي «الصغير» 2/ 231 (1080) من طريق علي بن الحسين عن أبيه رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي أيضًا (2317)، وابن ماجه في الفتن (3976)، من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي عن حديث أبي هريرة:«غريب» . وقال عن حديث علي بن الحسين: «وهذا أصح عندنا من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة» . وقد ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 40) عن الطبراني في المعاجم الثلاثة، وقال:«رجال أحمد و «الكبير» ثقات». وقال أحمد شاكر في تخريج «المسند» (1737): «إسناد صحيح» . وانظر: «جامع العلوم والحكم» ص (79 - 84). وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (5911).

(4)

أخرجه النسائي في الأشربة (5711)، والترمذي في صفة لقيامة (2518)، وأحمد 1/ 200 (1723)، والحاكم (2/ 13، 4/ 99) من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما. قال الترمذي: «حديث صحيح» . وقال الحاكم: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» . وصححه الألباني في «الإرواء» (12، 2074).

(5)

في «روضة العقلاء» (ص 43).

ص: 501

وقال الآخر:

إذا نطق السفيهُ فلا تُجِبْه

فخيرٌ من إجابتِهِ السكوتُ

(1)

وقال الآخر:

فاتركْ مُحاورةَ السفيهِ فإنها

ندمٌ وغِبٌّ بعد ذاك وخيمُ

(2)

وقال الآخر:

يكلمني السفيهُ بكلِّ قُبحٍ

وأكرَهُ أن أكونَ له مُجِيبَا

يزيدُ حماقةً فأزيدُ حِلمًا

كعُودٍ زادَهُ الإحراقُ طِيبَا

(3)

‌الوقفة الخامسة:

بين اللسان ووسائل الإعلام

تقدم الكلام في الوقفات السابقة عن اللسان، وبيان أنه ذو حدينِ؛ نافع وضار، وذكر أهم منافعِه، وبعض مضارِّه، وبيان وجوبِ مراقبتِه وحفظه عما فيه ضررٌ على المسلم في دينه، ودنياه، وأخراه، وذكر أهم ما ينبغي حفظُ اللسانِ منه.

ووسائل الإعلام كلها بما فيها القنوات، وشبكة المعلومات، ووسائل الاتصال والنشر، وغيرها، كلها ذات حدينِ، كاللسان، منها النافع والضار، سواء في ذلك المرئي منها، والمسموع، والمقروء.

ولهذا يجب على المسلم أن يتعامل مع هذه الوسائل كلها بحذر شديد، فيستفيد مما فيها من خير، وينأى عما تحتويه، وما تنقُله وتبثه من السموم والشرور، ويستعملها في الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإرشاد لما فيه صلاح المجتمع في دينه،

(1)

البيت للشافعي. انظر: «ديوانه» (ص 34).

(2)

البيت لأبي الأسود الدؤلي. انظر: «خزانة الأدب» (8/ 567).

(3)

البيتان للشافعي. انظر: «ديوانه» (ص 21).

ص: 502

ودنياه، وأخراه.

ويحذر كل الحذر أن يكتب من التغريدات والرسائل، أو يصور من المقاطع ما لا يليق، أو ينقُل ذلك، أو يرسله، مما سيُسأل عنه يوم القيامة، ولْيَقدَم على الله تعالى خفيف الظهر من الأوزار والآثام، وليتذكر قول الله تعالى:{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12]، وقوله عز وجل:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].

ومن أهم ما أُوصي به إخواني وأخواتي في التعامل مع هذه الوسائل ما يلي:

1 البُعد عن الدخول في مجال السياسة، وتحليل الأخبار مما لا مصداقية له، ولا يعود على الإنسان إلا بالضرر، وضياع العمر، وقلق الضمير، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«من حسنِ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»

(1)

.

2 البعد كل البعد عن تلقي الشائعات مطلقًا، وعن نقلها وإرسالها، قال صلى الله عليه وسلم:«دعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك»

(2)

.

3 عدم الحرص على تلقي الأخبار ونقلها، ولو صحتْ، فلا فائدة في ذلك، وبدل أن تقول كما يقولون: خذ الأخبار طازجة، كن آخِرَ من يصل إليه الخبرُ؛ ليرتاح ضميرك، ويطمئن قلبك، ولن يفوتك إلا الشر غالبًا.

4 تجنب نقل الرسائل، والمقاطع التي تؤذي مشاعر المسلمين مما فيه فُحش، من صور الحوادث، والجرائم، فهذا مضر، ولا مصلحة فيه.

5 احذر من نقل الفيديوهات والصور والمقاطع التي تتعلق بخصوصيات الآخرين أحياءً وأمواتًا، ولا تصور ما لم يُؤذَنْ لك بتصويره، ولا تكتب عنه؛ فإنك مسؤول غدًا عن ذلك أمام الله عز وجل، فخذ الحيطة لنفسك.

(1)

سبق تخريجه قريبًا.

(2)

سبق تخريجه قريبًا.

ص: 503

6 لا تكتب ولا تنقل وترسل من الكلام إلا ما كان مفيدًا صحيحًا، حديثًا، أو أثرًا، أو قولًا، أو غير ذلك.

إلى غير ذلك مما ينبغي البعد عنه، والحذر من مَغَبته، فالسلامة لا يَعدِلها شيء، والعافية غنيمة.

ص: 504

‌وقفات ثلاث في: الكرم

قال الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24)} [الذاريات 24].

‌الوقفة الأولى في:

فضيلة الكرم

الكرم: سَعة الفضل والإنعام، وكثرة الخير والجود والعطاء، وعلو الصفات وكمالها، قال بعضهم:«الكرم اسم واقع على كل نوع من أنواع الفضل، ولفظ جامع لمعاني السماحة والبذل»

(1)

. وهو من أجلِّ الصفات وأفضلها وأعظمها.

وقد وصف الله عز وجل به نفسه في كتابه الكريم، فقال تعالى:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27]، وقال تعالى:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 78].

كما سمى عز وجل نفسه بـ «الكريم» ، فقال تعالى:{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 116]، وقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6].

فهو عز وجل «الكريم» الكرم المطلَق من جميع الوجوه، كريم الذات والصفات، عظيم الفضل، كثير العطاء، جزيل الهِبات، أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين، ذو الصفات العليا، والمثل الأعلى في السموات والأرض.

وقد وصف عز وجل بذلك القرآن، فقال تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77]، أي: كثير الخير، فيه الدعوة إلى كل خير، والنهي عن كل شر، وبيان كل شيء، والهدى والرحمة والبشرى، كما قال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].

(1)

انظر: «عين الأدب والسياسة» لأبي الحسن بن هذيل (ص 105).

ص: 505

ووصف به خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الذاريات 24 - 27].

كما وصف عز وجل به كَليمه موسى عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى:{وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان: 17].

ووصف به نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40].

ووصف به جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19].

ووصف به ملائكته، فقال تعالى:{كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16]، وقال تعالى:{كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11].

ورسل الله تعالى وملائكته كلهم كِرام؛ لما هم عليه من كمال القيام بأمره، والانقياد له، وطاعته، وعبادته، أو لما حباهم الله من جليل الصفات، وحميد الخصال، ومحاسن الأخلاق وفضائل الأعمال.

كما وصف به عز وجل مدخل أهل الجنة، ورزقهم، وأجرهم؛ لما فيه من كثرة الخير، وأنواع النعيم، وما أُخفي لهم من قرة الأعين مما لا يعلمه إلا الله، قال تعالى:{وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31]، وقال تعالى:{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 4]، وقال تعالى:{تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} [الأحزاب: 44].

وكان نبينا صلى الله عليه وسلم أكرم الناس وأجودهم، وكان أجود من الريح المرسلة، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريلُ فيُدارِسه القرآن

(1)

.

عن أنس رضي الله عنه قال: «ما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، فجاء رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم، أسلِموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاءً لا يَخشى الفاقة»

(2)

.

(1)

أخرجه البخاري في بدء الوحي (6)، ومسلم في الفضائل (2308)، والنسائي في الصيام (2095)، وأحمد 1/ 288 (2616) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه مسلم في الفضائل (2312)، وأحمد 3/ 175 (12790).

ص: 506

وسأله صلى الله عليه وسلم أناس من الأنصار فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى إذا نفِد ما عنده قال:«ما يكون عندي من خيرٍ فلن أدخِرَه عنكم ..... » الحديث

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو كان لي مِثلُ أُحُدٍ ذَهَبًا ما يَسُرني ألا يمرَّ عليَّ ثلاث وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدَين»

(2)

.

وعن جُبير بن مُطعِم رضي الله عنه قال: عَلِقَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الأعرابُ يسألونه حتى اضطروه إلى سَمُرة، فخَطِفتُ رِداءَه، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أعْطُوني ردائي، فلو كان عدد هذه العِضاهِ نَعَمًا لقَسَمْتُه بينكم، ثم لا تجدوني بَخيلًا، ولا كَذوبًا، ولا جَبانًا»

(3)

.

وقد كان الكرم سجيةً في أصحابه رضوان الله عليهم، فقد حث صلى الله عليه وسلم يومًا على الصدقة، فجاء أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله، وجاء عمر رضي الله عنه بنصف ماله

(4)

، وجهز عثمان رضي الله عنه جيش العُسرة ثلاثمئة بَعيرٍ بأحلاسها وأقتابها، حتى قال صلى الله عليه وسلم:«ما ضرَّ عثمانَ ما عَمِلَ بعد اليوم»

(5)

.

وهكذا كان عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.

وكان لسماحة الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله في هذا العصر النصيب الأوفر، والقِدْح المُعَلَّى في بذل العلم، والمال، والخير، والدعوة، والنصيحة، والمعروف، والإصلاح بين الناس، والخير، والجود، والعطاء، رحمه الله:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الحديد: 21، والجمعة: 4].

(1)

أخرجه البخاري في الرقاق (6470)، ومسلم في الزكاة (1053) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الاستقراض (2389)، ومسلم في الزكاة (991)، وأحمد 2/ 349 (8595).

(3)

أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2821)، وأحمد 4/ 82 (16756).

(4)

أخرجه أبو داود في الزكاة (1678)، والترمذي في المناقب (3675)، والدارمي 1/ 480 (1660) من حديث عمر بن الخطاب. قال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» . وقال الحافظ ابن حجر في «التلخيص الحبير» (3/ 249): «صححه الترمذي والحاكم، وقواه البزار، وضعفه ابن حزم بهشام بن سعد، وهو صدوق» . وحسنه الألباني في «صحيح أبي داود» (1473).

(5)

أخرجه الترمذي في المناقب (3701)، وأحمد 5/ 63 (20630) من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه. قال الترمذي:«حديث حسن غريب» . وحسنه الألباني في «مشكاة المصابيح» (6073).

ص: 507

وقد رفع الكرم شأن أناسٍ كانوا على غير الإسلام؛ كحاتمٍ الطائيِّ وغيره.

ويَكفي الكرمَ مَنزِلةً وشرفًا أنه من أجلِّ صفات الخالق عز وجل، ومن صفات أنبيائه، ورسله، وملائكته عليهم السلام، حث عليه الإسلام ورغَّب فيه، وهو من كمال الإيمان، ومن محاسن الإسلام، ومن دلائل حُسن الظن بالله عز وجل، والثقة بما عنده من الفضل أكثر من ثقة الإنسان بما في يده، ومن أسباب البركة في الرزق والعمر، وتزكية النفس وتطهيرها من رذيلة الشح والبخل.

ورُويَ أن: «الكرم حارس الأعراض»

(1)

، أي: أن صاحب الكرم يسلم من الذم، بل يُثنى عليه ويمدح ويدافع عنه.

وسئل الحسن البصري رحمه عن حسن الخلق، فقال:«الكرم والبذل والاحتمال»

(2)

.

ويكفي أن صاحب الكرم محبوبٌ عند الله وعند الناس، قريبٌ من الله، قريب من الناس. قال الشاعر:

وآمِرةٍ بالبخلِ قلتُ لها اقْصُري

فليس إلى ما تأمُرينَ سبيلُ

أرى الناس خِلَّانَ الكريمِ ولا أرى

بخيلًا له في العالمينَ خَليلُ

(3)

وقال الآخر:

الجُودُ مَكرُمةٌ والبخلُ مَنقَصةٌ

لا يستوي البخلُ عندَ اللهِ والجُود

(4)

(1)

انظر: «ربيع الأبرار» (4/ 375).

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «الإخوان» (172)، وفي «التواضع والخمول» (186)، وفي «مداراة الناس» (90)، والبرجلاني في «الكرم والجود وسخاء النفوس» (64)، ومن طريقه ابنُ عبد الهادي في «مراقي الجنان بالسخاء وقضاء حوائج الإخوان» ص (132).

(3)

البيتان لأبي محمد إسحاق الموصلي. انظر: «العقد الفريد» (1/ 217).

(4)

البيت للمنتصر بن بلال. انظر: «روضة العقلاء» (ص 235).

ص: 508

‌الوقفة الثانية في:

حكم إكرام الضيف، وفضله

الضيف: هو من ينزل بأهل القُرى والأمصار من غير أهلها، قال تعالى:{فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77]، وقال تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: 24، 25].

وقد يطلق على كل من يُدعى للطعام، ولو كان من أهل البلد.

وإكرام الضيف واجب، وهو من الإيمان؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيُكرِم ضيفَه»

(1)

.

وهو من أفضل القُرُبات، قال صلى الله عليه وسلم:«كان أول من ضيَّف الضيف إبراهيم»

(2)

؛ ولهذا كان يقال له: «أبو الضيفان» .

وفضل إكرام الضيف من فضل الكرم الذي هو من أجل صفات الله عز وجل، والذي وصف الله به أنبياءه ورسله وملائكته، وامتدحهم به، والذي كان من أبرز صفات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه والمؤمنين.

قال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعِموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنةَ بسلام»

(3)

.

وإطعام الضيف لا يَنقُص من طعام أهل البيت، بل يكون سببًا لبركته، قال صلى الله عليه وسلم:

(1)

أخرجه البخاري في الموضع السابق (6018)، ومسلم في الموضع السابق (47)، وأبو داود في النوم (5154)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2500) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «قِرى الضيف» (5) مرفوعًا، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (6/ 199) موقوفًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في «الصحيحة» (725).

(3)

أخرجه الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2485)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1334)، وفي الأطعمة (3251)، وأحمد 5/ 451 (23784) من حديث عبد الله بن سلام رضي الله عنه. قال الترمذي:«هذا حديث صحيح» . وصحح الألباني إسناده في «الإرواء» (777).

ص: 509

«طعام الاثنين كافي الثلاثة، وطعام الثلاثة كافي الأربعة»

(1)

.

قال شَقيقٌ البَلْخِيُّ: «ليس شيءٌ أحبَّ إليَّ من الضيف؛ لأن رِزقَه ومُؤنته على الله، وأجره على الله»

(2)

.

ومدة الضيافة ثلاثة أيام؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخِرِ فلْيكرم ضيفَه، جائزته يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما بعد ذلك فهو صدقة، ولا يحِل له أن يَثويَ عنده حتى يُحرِجَه»

(3)

.

‌الوقفة الثالثة في:

آداب الضيافة

الضيافة: هي استقبال الضيوف، وإضافتهم، ولها آداب كثيرة، منها ما يتعلق بالمضِيف، ومنها ما يتعلق بالضيف.

‌أ- آداب المُضِيف:

المضيف: هو صاحب المنزل الذي نزل به الضيف، والآداب التي ينبغي أن يظهر بها أمام ضيفه هي كل ما يجعل الضيف يُسَرُّ ويفرح، ويُحِسُّ بأنه بين أهله وجيرانه.

ومن أهمها ما يلي:

1 حسن النية، فينوي طلب الأجر في استضافة إخوانه، وإطعامهم، وخدمتهم، والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخليل الرحمن إبراهيم والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

(1)

أخرجه مالك في صفة النبي (2/ 928)، والبخاري في الأطعمة (5392)، ومسلم في الأشربة (2058)، والترمذي في الأطعمة (1820)، وأحمد 2/ 244 (7320) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/ 71).

(3)

أخرجه مالك في اللباس (2/ 929)، والبخاري في الأدب (6135)، ومسلم في الإيمان (48)، وأبو داود في الأطعمة (3748)، والترمذي في البر والصلة (1967)، وابن ماجه في الأدب (3675) من حديث أبي شريح العدوي رضي الله عنه. والثواء بالتخفيف والمد: الإقامة.

ص: 510

2 الترحيب بالضيف، وإظهار البشاشة، والفرح بقُدومه، ومحادثته عند قدومه، والترويح عنه ومؤانسته، فهذا أهم عند الضيف من الطعام والشراب، وأدل على كرم المضيف، قال صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس:«مرحبًا بالوفد الذين جاؤوا غير خَزايا ولا نَدامى»

(1)

، وقال:«مرحبًا بأم هانئ»

(2)

.

قال الشاعر:

أُضاحِكُ ضَيفي قبلَ إنزالِ رَحْله

ويُخْصِبُ عندي والمحلُّ جَديبُ

وما الخصبُ للأضيافِ أن يَكثُرَ القِرَى

ولكنما وجهُ الكريمِ خَصيبُ

(3)

3 الإسراع في تقديم الطعام له، فخير البرِّ عاجِلُه، قال تعالى عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أول مَن أكرم الضيفان:{فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 26]؛ أيِ: انسلَّ وذهب مُسرِعًا خُفيةً، وقال تعالى في سورة هود عليه السلام:{فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69].

قال حاتم الأصم: «العجلة من الشيطان إلا في خمسة؛ فإنها من السنة: إطعام الضيف، وتجهيز الميت، وتزويج البِكر، وقضاء الدين، والتوبة من الذنب»

(4)

.

4 أن يخدم ضيفه بنفسه، ويقدم له أحسن ما لديه من أطايب الطعام، وأفضلها، وألذِّها، مما تيسر، ولا يتكلف ما لا يُطِيق، فعن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نُهينا عن التكلف»

(5)

.

5 ألا يستشير ضيفه في الإتيان له بالطعام؛ لأن هذا من البخل، ولأن الضيف قد

(1)

أخرجه البخاري في الإيمان (53)، وأحمد 1/ 228 (2020) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه مالك في قصر الصلاة في السفر (1/ 152)، والبخاري في الصلاة (357)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (336)، والترمذي في الاستئذان (2734)، وأحمد 6/ 425 (27388) من حديث أم هانئ رضي الله عنها.

(3)

البيتان للخريمي. انظر: «الشعر والشعراء» (2/ 845).

(4)

«روضة العقلاء» لابن حبان ص 117.

(5)

أخرجه البخاري في الاعتصام (7293).

ص: 511

يستحي فيستعف وهو بحاجة إلى الطعام. قال سفيان الثوري: «إذا زارك أخوك فلا تقل له: أتأكل؟ أو أَأُقَدِّم إليك، ولكن قدِّمْ، فإن أكل وإلا فارفَع»

(1)

.

6 أن يؤثر ضيفه على نفسه، وينتقي له من أطيب ما قدم له من الطعام، وإن كان الطعام قليلًا لا يكفي له ولضيفه، قلَّل الأكل؛ ليأكل ضيفه أكبر قدر منه، لكن لا يرفع يدَه؛ ليشعر ضيفه أنه يأكل، لينال نصيبًا من قوله تعالى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

والإيثار أعلى وأكمل درجات الكرم، وهو أن يقدم الإنسان غيره على نفسه بمحابِّ النفس من المال، والطعام، والشراب، والمتاع، ونحو ذلك، مع حاجته إلى ذلك أو ضرورته إليه، وهو ضد الأَثَرة والجشع والطمع، والشح والأنانية.

7 أن يحذر كل الحذر من احتقار النعمة وازدرائها بقوله للضيوف عندما يقدم لهم الطعام: «هذا ما هو حقكم!» ، ونحو ذلك من العبارات التي يقولها بعض الناس بزعمه أن هذا من تقدير الضيف، وهذا في الحقيقة من احتقار النعمة وازدرائها، وهو محرَّم لا يجوز!

8 أن يشيِّع ضيفه عند عزمه على الذهاب، فيخرج معه إلى خارج البيت، ويودعه بسلام.

‌ب- آداب الضيف:

من الآداب التي ينبغي للضيف مراعاتها ما يلي:

1 ألا يلتمس الضيف ويتحرَّى وقت نضج الطعام، فيدخل، وإذا دُعي إلى الطعام فلا يطيل الجلوس بعد أن يَطعَم، ولا يستأنس للحديث، قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب: 53].

ص: 512

وهذا الأدب وإن كان عند دخول بيوت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو فيها آكد وأوجب، لكن ينبغي مراعاته عند دخول غيرها من البيوت.

2 ينبغي أن يقنع الضيف بما يتيسر مما يُقدم له من الطعام والخدمة ويرضى بذلك، ويحمد الله تعالى ويشكره، ويدعو للمضيف بقوله:«أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامَكُم الأبرارُ، وصلَّت عليكم الملائكة»

(1)

وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أطعِمْ مَن أطعمني، واسقِ مَن سقاني»

(2)

.

3 ينبغي للضيف ألا يسأل عما لا يعنيهِ من أحوال أهل البيت، وغير ذلك.

4 ينبغي ألا يحرج المَضيف بطول الإقامة عنده، قال صلى الله عليه وسلم:«لا يحل لرجلٍ مسلمٍ أن يقيم عند أخيه حتى يُؤثِّمه» ؛ أي: يُحرِجه. قالوا: يا رسول الله، وكيف يؤثمه؟ قال:«يقيم عنده ولا شيء له يَقريه به»

(3)

.

5 أن يشكر لمضِيفه، ويدعو له بالأجر العظيم، والبركة في الرزق، والمغفرة والرحمة، بقوله:«اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم وارحمهم»

(4)

، وغير ذلك.

‌ج- آداب حفلات الأفراح:

للمناسبات والأفراح آداب مهمة ينبغي مراعاتها، من أهمها ما يلي:

1 ينبغي للمسلم إذا دعاه أخوه إجابة دعوته، وذلك من حق المسلم، قال صلى الله عليه وسلم:«وإذا دعاك فأجِبْه»

(5)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«إذا دعا أحدكم أخاه فلْيُجِبْ؛ عُرسًا كان أو نحوه»

(6)

.

(1)

أخرجه أبو داود في الأطعمة (3854)، وأحمد 3/ 138 (12406) من حديث أنس رضي الله عنه. وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» (4249). وأخرجه ابن ماجه في الصيام (1747)، وابن حبان 12/ 107 (5296) من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «التعليقات الحسان» (5272).

(2)

أخرجه مسلم في الأشربة (2055)، وأحمد 6/ 3 (23812) من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم في اللقطة (48)، وأحمد 4/ 31 (16371) من حديث أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه.

(4)

أخرجه مسلم في الأشربة (2042)، وأبو داود في الأشربة (3729)، والترمذي في الدعوات (3576)، وأحمد 4/ 187 (17673) من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه.

(5)

سبق تخريجه.

(6)

أخرجه البخاري في النكاح (5173)، ومسلم في النكاح (1429)، وأبو داود في الأطعمة (3738)، والترمذي في النكاح (1098)، وابن ماجه في النكاح (1914)، وأحمد 2/ 146 (6337) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.

ص: 513

اللهم إلا إذا كان يحصل في هذه الأفراح ما لا يرضاه من الغناء والمعازف وغير ذلك، فهو معذور في عدم الإجابة وترك الحضور.

2 لا ينبغي تخصيص الأغنياء وذوي الجاه والسلطان ونحوهم بالدعوة، دون الفقراء والضعفاء، حتى من الأقارب والجيران والمعارف وغيرهم، كما يفعله بعض أرباب المصالح، وأهل المباهاة والمفاخرة، قال أبو هريرة رضي الله عنه:«شر الطعام طعام الوليمة، يُدعى له الأغنياءُ دون الفقراء»

(1)

.

ومع أن هذا الأمر- ولله الحمد- ليس كثيرًا، لكن ينبغي أن يحرص المسلم على دعوة من لهم حق عليه، ومن يؤجر بدعوته إياهم، أيًّا كان حالهم؛ من الأقارب والجيران والمعارف؛ لتكون دعوته لهم من باب أداء حقهم وصلتهم، وأجرًا وغنيمة.

3 تفادي المشقة على المدعوين باختيار مكان للدعوة يشق عليهم الوصول إليه بسبب بُعده، وعدم معرفتهم موقعه، ونحو ذلك- كما يفعله بعض من لم يقدر لهذا الأمر قدْره- وذلك لأن من أعظم الإكرام للمدعوين اختيار المكان القريب المناسب لهم، والتيسير عليهم، ورفع المشقة والكلفة عنهم، وإلا صار الإكرام إهانة.

وكثير من الناس لا يعطي هذا الجانب أي اعتبار، فيستأجر لاعتبارات لا قيمة لها قاعة للأفراح في غرب البلد، والزوجان والمدعوون كلهم في شرق البلد، أو العكس، ونحو ذلك، والناس عندما يجيبون الدعوة لا يأتون من أجل الأكل، وإنما أداءً لحق الداعي، وإكرامًا له، فالواجب عليه التيسير عليهم، وتفادي المشقة عليهم، فهذا غاية الإكرام لهم.

4 تفادي المشقة على المدعوين بتأخير تقديم الطعام لهم، واضطرارهم إلى طول الجلوس والانتظار، فللناس ظروفهم الخاصة، وحاجاتهم، ومشاغلهم.

(1)

أخرجه مالك في النكاح (2/ 546)، والبخاري في النكاح (5177)، ومسلم في النكاح (1432)، وأبو داود في الأطعمة (3742)، وابن ماجه في النكاح (1913)، وأحمد 2/ 240 (7279).

ص: 514

5 ينبغي أن يحرص المضيف على خدمة ضيوفه بتقديم القهوة والطعام والشراب لهم؛ إكرامًا لهم، ولا يكلفهم خدمة أنفسهم، كما يقال:«اخدم نفسك بنفسك» ؛ لمنافاة هذا لمبادئ الكرم والضيافة والعادات العربية والإسلامية الأصيلة، كما ذكر عز وجل عن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مع ضيوفه من الملائكة، قال تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الذاريات: 24 - 27].

قال ابن القيم رحمه الله: «فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة، التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي هي تخلف وتكلف إنما هي من أوضاع الناس، وعوائدهم، وكفى بهذه الآداب شرفًا وفخرًا»

(1)

.

وقال ابن كثير في «تفسيره»

(2)

: «وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة، فإنه جاء بطعامه من حيث لا يشعرون بسرعة، ولم يمتنَّ عليهم أولًا فقال: نأتيكم بطعام، بل جاء به بسرعة وخفاء، وأتى بأفضل ما وجد من ماله، وهو عجل فتي سمين مشوي، فقربه إليهم، لم يضعْه وقال: «اقترِبوا، بل وضعه بين أيديهم، ولم يأمرهم أمرًا يشُق على سامعه بصيغة الجزم، بل قال: «ألا تأكلون» على سبيل العرض والتلطف».

فلله ما أجمل مبادئ الإسلام، وأعظمها، وأكملها! فإن خدمة الضيف هي غاية الإكرام والجود والتقدير، بخلاف تركه يخدم نفسه فليس من الإكرام في شيء.

6 تفادي الإسراف، فقد قال عز وجل:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقال صلى الله عليه وسلم:«كلوا واشربوا والْبَسوا وتصدقوا من غير إسرافٍ ولا مَخِيلة»

(3)

. فإن زاد شيء من الطعام أُعطي لمن يأكله من المحتاجين؛ تقديرًا للنعمة وحفظًا لها.

7 كثُر امتهان التصوير في حفلات الأفراح مؤخرًا، وبرزت بسبب ذلك بعض

(1)

انظر: «بدائع التفسير» (4/ 239).

(2)

(7/ 397).

(3)

أخرجه البخاري في اللباس معلقًا قبل (5783)، وأخرجه ابن ماجه في اللباس (3605)، وأحمد 2/ 181 (6695) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه.

ص: 515

السلبيات التي لا تتوافق مع الأخلاق الإسلامية، والآداب الشرعية، بل لا تتوافق مع القيم الإنسانية الرفيعة، منها ما يلي:

أ- قيام مجموعات من الشباب بالتصوير مع «العريس» ، مولين ظهورهم كبار المدعوين من آبائهم وأعمامهم وأخوالهم وأقاربهم، وغيرهم، وهذا سوء أدب معهم، وفيه غاية الإهانة لهم.

ب- يعمد بعض من لا مسؤولية لديه إلى تصوير كثير ممن لا يرغبون في التصوير، بغير إذنهم، وهذا بلا شك تدخل في خصوصيات الآخرين، وهو أمر لا يجوز.

ج- يحصل بسبب ذلك فقدان الهدوء والطمأنينة والراحة في قاعات الأفراح، وكثرة الضوضاء، وارتفاع الأصوات والفوضى.

ولهذا- إن كان ولا بد من التصوير- فينبغي أن يكون منضبطًا في حدود المسؤولية، ولا يكون سببًا للفوضى والإزعاج، وأذية الآخرين.

8 ينبغي للمدعوين والضيوف شكر صاحب الضيافة والدعاء له، بعد الحمد لله عز وجل وشكره؛ فـ «من لا يشكر الناس لا يشكر الله»

(1)

.

(1)

أخرجه أبو داود في الأدب (4811)، والترمذي في البر والصلة (1954)، وأحمد 2/ 258 (7504) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي:«حديث حسن صحيح» . وأخرجه الترمذي في الموضع السابق (1955)، وأحمد 3/ 73 (11703) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الترمذي:«هذا حديث حسن» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (416).

ص: 516

‌وقفة في: أهمية خطبة الجمعة،

وعظم مسؤولية الخطيب

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)} [الجمعة: 9]

الجمعة هي عيد الأسبوع، وخطبتها أهم موعظة تُلقى على الناس خلال كل أسبوع، فهي بمثابة النافذة التي يُشِع منها النور على الناس في كل أسبوع؛ لتوعيتهم وتعليمهم، وتوجيههم وإرشادهم إلى ما فيه صلاح أمر دينهم ودنياهم وأخراهم؛ في عباداتهم، ومعاملاتهم، وفي علاقاتهم فيما بينهم، وحقوق بعضهم على بعض، وغير ذلك، فهي الركيزة الأولى لإصلاح المجتمع بجميع أطيافه.

وهذا مما يُعظم المسؤولية على الخطيب، ويضاعفها، ويوجب عليه أن يقدرها قدرها، ويأخذها بقوة، ويعطيها كل ما يستطيعه من العناية والاهتمام؛ باختيار موضوع الخطبة، وانتقائه بامتياز، وعليه أن يكون ذا بصيرة ثاقبة بأدواء المجتمع ودوائها، حصيفًا، مجدِّدًا لا مقلدًا، ومن ثم إعداد الخطبة إعدادًا جيدًا قويًّا، وإلقاؤها إلقاءً مؤثرًا، يأخذ بمجامع قلوب المستمعين، فينتفعون منها ويستفيدون، مع الحرص على قِصَرها، والبعد عن السجع المتكلف، والإطالة المملة، مما يجعل الخطبة يضيع آخرها أولها، ولا يستطيع المستمع جمع أطرافها، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«إن طول صلاة الرجل، وقِصَر خطبته مَئِنَّة من فقهه»

(1)

.

وقد سبق

(2)

ذكر أهم الأمور التي ينبغي مراعاتها في الخطبة من حيث الإطار

(1)

أخرجه مسلم في الجمعة (869)، وأحمد 4/ 263 (18317)، والدارمي 1/ 440 (1556) من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما.

(2)

في الوقفة الثالثة من الوقفات في صلاة الجماعة. انظر: فهرس الوقفات.

ص: 517

العام؛ من الإخلاص لله تعالى، وحسن النية، والنصح لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وقصر الخطبة، وأخذها من المصادر الأصلية؛ الكتاب والسنة، وكتب التفسير، وشروح السنة، وكتب المحققين من أهل العلم، ووفائها بالمقصود، مع اعتدال المنهج، والحرص على جمع الكلمة، وتأليف القلوب، والعناية بالجانب التربوي عناية تامة.

كما سبق ذكر أهم ما ينبغي مراعاته في موضوعات الخطب من حيث الإجمال؛ من ترسيخ العقيدة الصحيحة، وبيان كل ما يجب على المسلم من حقوق الله تعالى، وحقوق الخلق، وتعاهد القلوب، والحرص على سلامتها، وبيان كل ما يحرم على المسلم، والعناية ببيان الأحكام التي يجهلها كثير من الناس، وتفسير بعض قصار السور، وبعض الآيات، وإبراز الصور المشرقة في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وسير خلفائه، وأصحابه، وسلف علماء الأمة وأعلامها، والحث على المسارعة إلى مغفرة الله تعالى وجنته، والمسابقة إلى الخيرات، والأعمال الصالحة، وغير ذلك.

هذا أهم ما ينبغي مراعاته في الخطب من حيث الإطار العام، ومن حيث الإجمال.

وفيما يلي جملة من الموضوعات التي يمكن أن يختار منها الخطيب موضوع خطبته، وهي قسمان:

القسم الأول: موضوعات خاصة حسب المناسبات.

القسم الثاني: موضوعات عامة.

‌القسم الأول: الموضوعات الخاصة حسب المناسبات:

المناسبات تنقسم إلى قسمين:

أ- مناسبات دورية سنوية تتكرر كل سنة، تبدأ من غرة شهر الله المحرم، وتنتهي بنهاية شهر ذي الحجة.

ب- مناسبات وقتية آنية تحدث بين وقت وآخر لها أسبابها.

ص: 518

‌أ- موضوعات المناسبات الدورية السنوية:

من أهم موضوعات المناسبات الدورية السنوية ما يلي:

1 بيان فضل الأشهر الحُرُم، ووجوب تعظيمها واحترامها، وتحريم الظلم والقتال فيها.

2 فضل شهر الله المحرم من بينها، واستحباب صيام ما تيسر منه، وبخاصة يوم عاشوراء، ويوم قبله أو بعده.

3 الرد على بدعة المولد النبوي الذي أُحدث بتاريخ مولده صلى الله عليه وسلم، وبيان أن أعياد المسلمين هي: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وهما عيدان فقط في السنة، وعيد الجمعة، وهو عيد الأسبوع.

4 الرد على بدع الرجبية التي أُحدثت في شهر رجب.

5 فضل صيام شهر شعبان أو بعضه.

6 الرد على البدع التي قيلت في فضل ليلة النصف من شعبان ويومه.

7 التذكير بإخراج الزكاة، وبيان أحكامها قبيل رمضان.

8 التبشير بقدوم شهر رمضان المبارك، والحض على الاجتهاد فيه، وحفظ صيامه وقيامه، وبيان أحكام الصيام ومُفطِراته، وما ينبغي أن يكون عليه الصائم.

9 بيان أن رمضان هو شهر القرآن، والحث على التفرغ فيه لقراءة القرآن، ودراسته، وتدبر ألفاظه ومعانيه وأحكامه ومواعظه.

10 التذكير بفضل العمرة في شهر رمضان المبارك.

11 الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان، وإحياء لياليها، والاعتكاف فيها.

12 بيان وجوب زكاة الفطر وفضلها، وبيان أحكامها ووقت إخراجها.

13 الحث على التكبير ليلة العيد ويومه، وبيان صيغه وفضله.

14 الحث على شهود صلاة العيد، وبيان أحكامها وفضلها.

ص: 519

15 الترغيب في صيام ست من شوال، وبيان فضلها.

16 بيان فضل العمرة في شهر ذي القعدة.

17 بيان فضل عشر ذي الحجة، وفضل العمل الصالح فيها، وبيان أن شعارها التكبير، والتهليل، والتحميد.

18 بيان أحكام الحج وفضله، وبيان وجوب المبادرة إليه لمن لم يؤد حجة الإسلام.

19 الترغيب في صوم يوم عرفة، وبيان فضله.

20 الحث على شهود صلاة العيد، وبيان تأكدها وفضلها.

21 الحث على الأضحية، وبيان فضلها، وأن الأولى عدم تركها لمن قدر عليها.

هذه أهم موضوعات المناسبات الدورية السنوية، التي كان يتناولها الخطباء من سلف الأمة وعلمائها إلى يومنا هذا.

‌ب- موضوعات المناسبات الوقتية الآنية التي تحدث بين وقت وآخر:

جرت سنة الله تعالى الكونية وحكمته، بتغير الأحوال وتبدلها من حال إلى حال، وحصول بعض الأحداث والوقائع، ونحو ذلك، مما يستدعي أن يكون خطيب الجمعة مسايرًا في خطبته تلك التغيرات والأحداث والوقائع، يبين للناس المشروع في حق المسلم تجاهها، ومن موضوعات المناسبات الوقتية:

1 بيان الحكمة في كسوف الشمس، وخسوف القمر، وما ينبغي للمسلمين عند حدوث ذلك.

2 شكر الله تعالي عند نزول المطر، وترادف نعم الله والخيرات، واخضرار الأرض.

3 الحث على طلب العلم والتحصيل عند بداية العام الدراسي الجديد.

4 الحث على استغلال الإجازة الصيفية، والاستفادة منها بما يعود بالنفع على المرء في دينه ودنياه وأخراه.

ص: 520

5 حث الناس على التوبة والرجوع إلى الله والدعاء والاستغفار عند وقوع الجدب والقحط، وغلاء الأسعار، وحصول الكوارث من الزلازل والبراكين والفيضانات، والأعاصير الشديدة والرياح العاتية، والبرد الشديد، والحر الشديد، وانتشار الأوبئة والأمراض، وحصول الخوف، ونقص الأموال والأنفس والثمرات، ونحو ذلك.

6 التحذير من الفتن، وبيان وجوب البعد عنها عند وقوعها، والاعتصام بالكتاب والسنة، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، وسؤال الله العافية، والثبات على ذلك حتى الممات.

‌القسم الثاني: الموضوعات العامة:

الموضوعات العامة التي يمكن أن يختار منها الخطيب موضوعًا لخطبته كثيرة لا يمكن حصرها، من أهمها ما يلي:

1 بيان أن المقصود من خلق الثقلين هو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.

2 بيان أركان الإيمان الستة؛ معناها، ووجوب الإيمان بها، وتحقيق مقتضاها.

3 بيان أركان الإسلام الخمسة؛ معناها، ووجوب إقامتها، والعمل بها.

4 بيان معنى الإحسان في عبادة الله تعالى، ووجوب تحقيق مقتضاه.

5 شرح معاني أسماء الله تعالى الحسنى، وصفاته العليا، وتعظيمه وتقديره حق قدره.

6 وجوب الجمع بين الإيمان والعمل الصالح الخالص لله تعالى الموافق لشرعه.

7 وجوب الجمع بين عبادة الله تعالى والتوكل عليه، والاستعانة به وحده.

8 وجوب الجمع بين الخوف والرجاء، وعدم الأمن من مكر الله، أو القنوط من رحمته.

9 وجوب صرف جميع أنواع العبادة الله تعالى من المحبة، والتعظيم، والخوف، والرجاء، والتوكل، والاستغاثة، والاستعانة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من أنواع العبادة.

10 الإيمان بالقضاء والقدر؛ حكمه وثماره.

11 وجوب محبة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتقديمها على محبة أي محبوب.

ص: 521

12 كمال غنى الله عز وجل عن الخلق، وشدة فقرهم وحاجتهم إليه.

13 الحث على التفكر في عظمة الله تعالى، وعظيم آياته وخلقه، وفي ضعف الإنسان، وفي عظمة الآخرة، وحقارة الدنيا.

14 الجمع بين الإحسان في عبادة الله تعالى، والإحسان إلى عباد الله، بالقول والفعل والبذل.

15 الاعتصام بالكتاب والسنة، ولزوم منهج سلف الأمة، والحذر من الإفراط والتفريط، ومن التعرض للفتن.

16 حسن الظن بالله تعالى، وأن رحمته تسبق غضبه، وتقديم الوعد على الوعيد، والترغيب على الترهيب.

17 التحذير من القول على الله بغير علم، وبيان أنه من أعظم المحرمات.

18 بيان أن العز كل العز في طاعة الله تعالى، وأن الذل كل الذل بمعصية الله تعالي.

19 بيان أن السعادة وانشراح الصدر بالإسلام والإيمان والعمل الصالح تحت مظلة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5].

20 احفظ الله يحفظك.

21 التحذير من الشرك بأنواعه: الأكبر والأصغر، الجلي والخفي، ومن الرياء والسمعة.

22 التحذير من النفاق بقسميه الاعتقادي والعملي، ومن صفات المنافقين، كما جاءت في القرآن والسنة.

23 الحث على تقوى الله تعالى؛ بفعل أوامره، وترك نواهيه، وبيان فضلها وثمارها في الدنيا والآخرة.

24 الحث على إقام الصلاة، والمحافظة عليها بشروطها، وأركانها، وواجباتها، وسننها، وبيان فضلها وعظيم أثرها.

ص: 522

25 الحث على إيتاء الزكاة، وإعطائها لمستحقيها، وبيان فضلها ومنافعها.

26 الحث على حفظ صيام رمضان وقيامه، والإكثار فيه من الذكر، وقراءة القرآن، والقربات، وأعمال البر والخير.

27 بيان وجوب الحج والعمرة على الفور على القادر، وفضل تَكرارهما والاستزادة منهما لمن قدر على ذلك.

28 تأكيد وجوب صلاة الجمعة، وخطر تركها، واستحباب التبكير إليها.

29 بيان وجوب الصلاة جماعة في المساجد على الرجال، وآدابها، وعظيم فضلها وفوائدها.

30 بيان عظم حق الوالدين، ووجوب برهما، وفضله، والتحذير من العقوق وعواقبه الوخيمة.

31 بيان وجوب صلة الأرحام، وفضلها، ومنافعها، والتحذير من قطيعتها، وآثار ذلك.

32 بيان أن الدين النصيحة لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، والتحذير من السلبية، وترك النصيحة.

33 الترغيب في الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإصلاح، والدعوة إلى الخير.

34 تذوق طعم الإيمان، وحلاوته، والأنس بالله تعالى بالصلاة، والمداومة على الطاعات، وملازمة الذكر، وقراءة القرآن، والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار.

35 تدبر القرآن بألفاظه، ومعانيه، والعمل بأحكامه، والعناية أولًا بضبط تلاوته؛ لأنها هي التي تبقى، ثم حفظه.

36 العناية باللغة العربية، لغة القرآن، وعاء الدين، والاعتزاز بها، وتعلمها،

ص: 523

وتعليمها، ونشرها، والحفاظ عليها، والدفاع عنها.

37 الترغيب في المسارعة والمسابقة في الأعمال الصالحة والطاعات، والمنافسة في ذلك، وفي فعل الخيرات.

38 بيان محاسن الإسلام، وفضائله، وأنه النعمة الكبرى، والمنة العظمى من الله عز وجل على العباد.

39 كمال الدين، وشموله، وخلوده، وصلاحيته لكل زمان ولكل مكان ولكل أمة، وكونه الحل لجميع مشكلات الناس اليوم.

40 حماية الإسلام وصيانته للضرورات الخمس: الدين، والعقل، والنفس، والعرض، والمال.

41 الترغيب في الصدقة، والإنفاق في وجوه البر والإحسان كلها.

42 مشروعية طلب الرزق، وفضله.

43 حث الأغنياء وأصحاب الأموال على وضع المبرات الخيرية، وتنظيمها في حياتهم وقبل مماتهم.

44 التحذير من الشيطان والنفس والهوى، ومن الاغترار بالدنيا وزينتها وزخرفها.

45 وجوب كتابة الوصية لمن كان عليه أو له حقوق، واستحبابها فيما عدا ذلك، وبيان أن الأولى كونها بالخُمس.

46 التحذير من الاغترار بما عليه أكثر الخلق، فأكثرهم على ضلال، وليسوا على شيء.

47 الاستعداد للقاء الله تعالى، وللدار الآخرة، والإكثار من ذكر الموت، والاستعداد له.

48 الترغيب في الجنة، بذكر نعيمها، والترهيب من النار، بذكر جحيمها.

49 سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه، وشمائله، قبل البعثة، وبعد البعثة.

50 دعوته صلى الله عليه وسلم.

51 هجرته صلى الله عليه وسلم.

ص: 524

52 غزواته صلى الله عليه وسلم.

53 الإسراء به صلى الله عليه وسلم، ومعراجه إلى السماء.

54 أزواجه صلى الله عليه وسلم، وذريته.

55 سير خلفائه صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، رضي الله عنهم جميعًا.

56 المبشرون بالجنة، رضي الله عنهم.

57 قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومنهجهم في الدعوة إلى الله، وما لاقوا من الأذى من أقوامهم في سبيل دعوتهم، كقصة نوح وإبراهيم وموسي وعيسي عليهم الصلاة والسلام، وقصص هود وصالح ولوط وشعيب ويونس، وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم.

58 قصص القرآن، كقصة البقرة، وقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام والطيور الأربعة، وقصة صاحب القرية الخاوية على عروشها، وقصة الذي آتاه الله الآيات فانسلخ منها، وقصة طالوت وجالوت، وقصة أصحاب السبت، وقصة الثلاثة الذين خُلفوا، وقصة أصحاب الكهف، وقصة موسي والخَضِر، وقصة ذي القرنين، وقصة موسى عليه السلام لما ورد ماء مَدين، وقصة قارون، وقصة أصحاب الجنة، وأصحاب الفيل، وغير ذلك من قصص القرآن الكريم.

59 ضرب الأمثال في القرآن، والحكمة في ذلك.

60 جمع القرآن بين الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد.

61 التأمل في أحوال الأمم السابقة، وما آل إليه أمرها من نجاة الرسل عليهم السلام وأتباعهم، وهلاك المكذبين.

62 انقياد جميع المخلوقات وسجودها لله تعالى، وطاعتها له، عدا كثير من الناس.

63 نعمة الأمن والإيمان، ووجوب شكرها بالمحافظة على الأمن والإيمان، وعلى وحدة الأمة، والتحذير من الفرقة.

64 العناية بالشباب، وتشجيعهم، وتوجيههم، وتحذيرهم من عثرات الشباب،

ص: 525

وبيان أنهم أمل الأمة بعد الله عز وجل.

إن التجارِبَ للشيوخ وإنما

أملُ البلاد يكون في شُبَّانها

65 سير العلماء والمصلحين، ومن لهم قدم راسخ في الإسلام من التابعين ومن بعدهم، الأئمة الأربعة، وابن تيمية، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب، وابن باز، وغيرهم، رحمهم الله.

66 تكريم الإسلام للإنسان.

67 تكريم الإسلام للمرأة.

68 اختصاص الله عز وجل وحده بعلم الغيب، وكذب السحرة والكهان ونحوهم.

69 تحريم الإتيان إلى السحرة والكهان والمشعوذين والدجالين والتحذير من الأثر السيئ لبعض مفسري الأحلام وبعض القراء في عقائد المسلمين وعلاقاتهم.

70 التحذير من الربا، وأكل أموال الناس بالباطل.

71 التحذير من التشبه بالكفار في أعيادهم وعاداتهم.

72 التحذير من التعصب بشتى أنواعه، وبيان أن أكرم الخلق عند الله أتقاهم.

73 التحذير من الاختلاط بين الجنسين، وخطورته عليهما، وبخاصة على النساء.

74 الترغيب في الزواج، وبيان فضله، وأنه سنة من سنن المرسلين، والتحذير من التبتل والعزوف عن الزواج.

75 بيان عِظم حقوق كل من الزوجين على الآخر، وأن من أعظم ذلك حرص كل منهما على تحصين الآخر وإعفافه، بظهور كل منهما أمام الآخر بأفضل مظهر في تعامله، وفي هيئته، في قوله وفعله وبذله، فهذا هو السبب الأول لديمومة العشرة والألفة والمحبة والمودة بين الزوجين، وترابط الأسرة، والسلامة من الطلاق والتفكك.

76 بيان عظم حقوق الأولاد على والديهم، ووجوب العناية بتربيتهم وتعليمهم؛ فهم من أعظم الأمانات.

77 بيان أهمية الجلوس مع الوالدين والأهل والأولاد، والأنس بهم، وآثار ذلك.

ص: 526

78 وجوب طاعة ولاة الأمر بالمعروف، والنصح لهم، والتعاون معهم على حفظ الأمن والقيام بمسؤولياتهم، والدعاء لهم.

79 بيان حقوق المسلمين بعضهم على بعض، والتأكيد على أهمية القيام بها، وأدائها.

80 بيان عظم حق الجار، ووجوب إكرامه، واحترامه، وأداء حقوقه.

81 بيان حقوق غير المسلمين من المعاهدين والمستأمنين وأهل الذمة، من العمال وغيرهم، ودعوتهم إلى الإسلام.

82 وجوب حفظ الأمانة، والوفاء بالوعد، وحفظ العهد، والتحذير من الخيانة، والغدر، والفجور في الخصومة، وغير ذلك.

83 التأكيد على وجوب الحفاظ على ثوابت الأمة، والحذر من التهاون بها، وذوبان الشخصية الإسلامية، وتقليد الكفار.

84 بيان وجوب إكرام الضيف، وبيان أحكام الضيافة، وآدابها، وآداب الأفراح والمناسبات، وما يجب مراعاته فيها.

85 التأكيد على وجوب استشعار ذوي المسؤوليات في الأمة عظم المسؤولية أمام الله تعالي؛ من الأئمة والمؤذنين والعاملين في بيوت الله تعالى، والقضاة، والمعلمين، والموظفين، وغيرهم، فكل منهم على ثغر من ثغور الإسلام، فليحذر أن يُؤتى الإسلام من قبله.

86 المعلمون، والمربون، وغيرهم، من العاملين في الأمة بين التكليف والتشريف، وبين الإحباط والفخر والاعتزاز.

87 أهمية استحضار العاملين في الأمة حسن النية، والفخر والاعتزاز بذلك؛ ليحصل لهم الأجر الأخروي مع الأجر الدنيوي.

88 الحث على إنزال الناس منازلهم؛ من إجلال الكبير ذي الشيبة، والعالم والمعلم، وصاحب المسؤولية في الأمة، وغيرهم.

89 الترغيب في السعي في إصلاح ذات البين بين المسلمين، وجمع كلمتهم.

90 الحث على رعاية اليتامى والمساكين والأرامل والمحتاجين، ونحوهم، والعناية

ص: 527

بهم ماديًّا ومعنويًّا.

91 بيان وجوب الالتزام بالأنظمة التي توضع للحفاظ على الأرواح والممتلكات، وللمصلحة العامة؛ كنظام المرور، وتنظيم الحج، وغير ذلك.

92 التحذير من نكران المعروف والجميل.

93 التحذير من البغي، والظلم، وأذية العباد؛ في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ومن أذية البهائم والعجماوات.

94 التحذير من الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ كالزنا، واللواط، واتخاذ الأخدان، وغير ذلك.

95 التحذير من الاستسلام للوساوس، ووجوب اطراحها وعدم الالتفات إليها.

96 التحذير مما ابتدعه الناس في الجنائز من البدع والمخالفات.

97 الحث على تعجيل قسمة الميراث، والتحذير من تأخيرها؛ لأن ذلك من أعظم أسباب العداوة بين الأقارب.

98 الحث على تنفيذ وصايا من مات من الوالدين وغيرهما، والقيام عليها وعلى أوقافهم والاهتمام بها وتنميتها ليجري عليهم أجر ريعها.

99 التحذير من الجهر بالسوء، ونشر الشائعات.

100 الحث على طلب العلم، والعمل به، وتعليمه، والجمع بين العلم النافع والعمل الصالح، فرأس مال المسلم في هذه الحياة شيئان: علم نافع، وعمل صالح، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33، والفتح: 28، والصف: 9]؛ أي: بالعلم النافع والعمل الصالح.

101 الترغيب في حسن الخلق، وبيان فضله، وعظيم أثره، وثقله في الميزان، وذهابه بخير الدنيا والآخرة.

102 الترغيب في التواضع لله تعالى، وخفض الجناح للمؤمنين، والتحذير من الكبر

ص: 528

والغرور، وأخلاق المتكبرين.

103 الحث على إفشاء السلام، ونشره، والبداءة به، وبيان فضله وثماره.

104 الترغيب في الرحمة واللين، والعطف والشفقة، والتحذير من الفظاظة والغلظة والجبروت، والجفاء وقساوة القلب.

105 الترغيب في العفو والصفح والتسامح، وبيان فضل ذلك.

106 الترغيب في الهدية، وبيان فوائدها.

107 الترغيب في الحلم والأناة، والتؤدة، والتدبر في الأمور، وترك العجلة.

108 الترغيب في الكرم والمروءة والإيثار، والتحذير من الأنانية، واللؤم، والشح.

109 الحث على التيمن في الأكل والشرب، واللبس، والطهور، والتنعل

وفي شأن المسلم كله.

110 الحث على حفظ الوقت، وتنظيم عمل اليوم والليلة، والتحذير من تصرم أيام العمر بلا فائدة، وراء الشهوات والملذات وهوى النفس في المتنزهات والأسفار، وغير ذلك.

111 الحث على اختيار الجليس الصالح، والتحذير من جلساء السوء.

112 التحذير من التطفيف في الكيل والوزن.

113 الحث على الإنصاف من النفس، والتحذير من تزكيتها.

114 بيان أن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وترك ما يريبه إلى ما لا يريبه.

115 الحث على سلامة القلب، ومحبة الخير للمسلمين، والتحذير من أمراض القلوب، من الحسد، والحقد، والغل، والعداوة والبغضاء، وبيان أن الحسد يكثر بين الأقران والجيران، والعداوة تكثر بين الأقارب، فيجب الحذر من ذلك.

116 المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير.

117 محاسبة النفس.

118 التوبة وشروطها.

ص: 529

119 الحث على الاستقامة.

120 الحث على التحلي بالصبر؛ بأقسامه الثلاثة.

121 الحث على الإكثار من ذكر الله تعالى، وملازمة الاستغفار والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وأوراد الصباح والمساء.

122 الترغيب في ملازمة الدعاء، وبيان ضرورة العبد الى سؤال ربه؛ بتيسير أمر دينه ودنياه وأخراه، وبيان أوقات الإجابة؛ آخر الليل، وحال السجود، وبين الأذان والإقامة، وبعد التشهد، وساعة الاستجابة يوم الجمعة، وعند الفطر، وفي السفر، وغير ذلك.

123 الحث على الصبر عند المصيبة، وبيان فضله.

124 الحث على التحلي بالحكمة والعقل والرشد، والبعد عن الجهل والسفه.

125 الحث على الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وبخاصة يوم الجمعة، وبيان فضلها.

126 الحث على لزوم الصدق؛ فهو منجاة لصاحبه، والتحذير من الكذب.

127 تفسير سورة الفاتحة.

128 تفسير بعض الآيات؛ كقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 38].

129 تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان: 68] إلى قوله تعالى: {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 71] وغير ذلك من الآيات.

130 تفسير قصار المفصل؛ من سورة الضحى إلى سورة الناس، وغير ذلك من السور والآيات.

131 بيان معاني الحروف المقطعة في أوائل بعض السور القرآنية.

132 الأخذ بصفات أولي الألباب كما جاءت في سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} الآيات [190 - 195].

ص: 530

133 الأخذ بصفات عباد الرحمن، كما جاءت في سورة الفرقان الآيات [63 - 77].

134 شرح حديث النزول الإلهي في ثلث الليل الآخر.

135 شرح حديث: «إنما الأعمال بالنيات» .

136 شرح حديث الثلاثة الذين أُطبقت عليهم الصخرة.

137 شرح الحديث في قصة جريج العابد.

138 شرح حديث النفر الثلاثة: الأبرص والأقرع والأعمى.

139 شرح حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما صعِد المنبر فقال: (آمين، آمين، آمين) وغير ذلك من الأحاديث.

140 الحث على التصور التام للهدف الذي خُلق له الإنسان، والسلامة من الخواء الرُّوحي الذي هو سبب تزجية الأوقات، وضياع الأعمار.

141 طيب الكسب، والبعد كل البعد عن الحرام والمتشابه.

142 التحذير من الإسراف والتبذير.

143 الحث على الاعتراف بالنعم وشكرها؛ من نعمة المال، والصحة، والخيرات كلها، والتحذير من كفرها؛ فهو سبب زوالها، والتحذير من المباهاة؛ بتصوير بعض المأكولات ونشرها، والمفاخرة بها، فالفضل لله عز وجل، وليس ذلك من شكرها.

144 قلة الشاكرين من العباد، وكثرة الكافرين منهم.

145 الأخذ بالحزم والعزم وبمعالي الأمور، والصدق مع النفس في تزكيتها وإعتاقها، والحذر من العجز والكسل، ومن دسها وإيباقها.

146 حفظ اللسان والقلم والبنان عما لا يجوز من الغِيبة والنميمة والزور والباطل، وما يضر ولا ينفع.

147 التفاؤل دائمًا في جميع الأحوال؛ سرائها وضرائها، وبيان فضله وعظيم أثره.

148 التعامل مع النت، وشبكة المعلومات، ووسائل التواصل الاجتماعي بحكمة،

ص: 531

وعقل، وتمييز، وحذر، وإيجابية تبني ولا تهدِم.

149 حفظ الفرج، وغض البصر، ولزوم الحياء.

150 التحذير من المسكرات، ومن التدخين، وبيان مضارها.

151 التحذير من الانغماس في الغناء، واستماع آلات اللهو، ونحو ذلك مما يشغل القلب عن ذكر الله تعالى، وعن القرآن الكريم.

152 التحذير من السهر وآثاره السيئة على الصحة، والدين، والحياة الاجتماعية.

153 الترغيب في قيام الليل، وبيان فضله، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك.

154 الترغيب في صوم النفل كالاثنين والخميس، وأيام البيض، وغير ذلك.

155 بيان فضل (لا حول ولا قوة إلا بالله) وأنها من كنوز الجنة.

156 بيان فضل الجلوس في المسجد بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، وقراءة الورد من القرآن، ومن ثم صلاة الضحى.

157 بيان وجوب متابعة الإمام في الصلاة، والتحذير من مسابقته أو مخالفته.

158 الحرص على تشجيع الصغار بعد التمييز على الصلاة، وعلى الصلاة في المسجد.

159 رعاية حقوق العمال من الخدم، والسائقين، وغيرهم، وتعليمهم أمور دينهم.

160 التنبيه على آداب المساجد من عدم رفع الصوت بالقراءة والدعاء، ومن إزعاج المصلين بنغمات الجوالات، ومن التمخط في المسجد، ومن الروائح الكريهة كالبصل والثُّوم والدُّخَان، وروائح البهائم.

161 التعاون بين الإمام والمؤذن وجماعة المسجد على نصح من يتخلف عن صلاة الجماعة، ووعظه، وتوجيهه، فذاك مسؤولية الجميع.

162 وجوب العناية بنظافة بيوت الله المساجد، وتطييبها وتبخيرها، وفرشها، وتكييفها، وتهيئتها للمصلين، والقضاء على ما قد يحصل من أسباب النزاع حول ذلك.

163 التنبيه على الحفاظ على المرافق العامة؛ كالحدائق، ودورات مياه المساجد،

ص: 532

والطرقات العامة، وعلى المنتزهات في البر وعلى الطرق السريعة، وغيرها.

إلى غير ذلك من الموضوعات الكثيرة التي لا يمكن حصرها، التي قد يكون بعضها أهم مما ذُكر، فالمقصود التمثيل، لا الاستقصاء، وذكرها بهذا التسلسل ليس مرادًا به ترتيبها حسب أهميتها.

‌تنبيه:

جملة من هذه الموضوعات جاء الكلام فيها في هذه الوقفات في هذا الكتاب.

ص: 533

‌وقفات ست في: التفاؤل

قال الله تعالى: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]

‌الوقفة الأولى

معنى التفاؤل

التفاؤل: مأخوذ من الفأل، وهو الكلمة الطيبة، كما قال صلى الله عليه وسلم:«الفأل الكلمة الطيبة»

(1)

.

وهو التيمن والاستبشار، ضد التشاؤم والتطير.

قال ابن الأثير

(2)

: «التفاؤل: مثل أن يكون رجل مريضًا، فيتفاءل بما يسمع من كلام، فيسمع آخر يقول: يا سالم، أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول: يا واجد، فيقع في ظنه أنه يَبْرَأ من مرضه، ويجد ضالته» .

والفرق بين التفاؤل والتشاؤم: أن التفاؤل مبني على حسن الظن بالله عز وجل، وهو أمر محمود، والتشاؤم والتطير مبني على سوء الظن، وهو أمر مكروه.

والتفاؤل من الله، وهو وليد الإيمان بالله تعالى، والتشاؤم من الشيطان، وهو وليد الكفر، قال تعالى:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]، وقال تعالى:{إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]؛ ولهذا قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6] فوعد عز وجل أن مع العسر يسرًا، ولم يقل: إن بعد العسر يسرًا؛ لبيان شدة قرب اليسر من العسر؛ ليزداد صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تفاؤلًا وطمأنينة.

(1)

أخرجه مسلم في السلام (2224)، والترمذي في السير (1615)، وأحمد 3/ 251 (13633) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

انظر: «النهاية في غريب الحديث» مادة «فأل» .

ص: 534

وقال تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء»

(1)

.

والمراد بالتفاؤل: التفاؤل النافع، الذي يقترن بالجد والعمل، والسعي، والمثابرة، وإلا كان مجرد أمانيّ كاذبة، وأحلام، وضرب من الأوهام؛ لأن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضةً.

قال الشاعر:

ومن طلب العلا من غير كَدٍّ

أضاع العمر في طلب المحال

(2)

وقال الآخر:

ومن طلب العلوم بغير كد

سيُدركها متى شاب الغُراب

(3)

وقال الآخر:

ومن زرع الحبوب وما سقاها

تأوه نادمًا يوم الحصادِ

(4)

‌الوقفة الثانية

مبنى التفاؤل، وأساسه

التفاؤل يقوم على ركنين عظيمين، ودعامتين قويتين، وأساسين متينين:

الأول: حسن الظن بالله عز وجل.

والثاني: التوكل على الله تعالى، كما قال عز وجل:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

(1)

أخرجه أحمد 3/ 491 (16016)، والدارمي 2/ 395 (2731)، والحاكم (4/ 240) من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. قال الحاكم:«صحيح الإسناد ولم يخرجاه» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (1663).

(2)

البيت للشافعي رحمه الله، انظر:«ديوانه» ص (97).

(3)

انظر: «السحر الحلال، في الحكم والأمثال» ص (18)، و «المنهاج الواضح للبلاغة» (2/ 38).

(4)

انظر: «لطائف المعارف» لابن رجب ص (148).

ص: 535

‌الوقفة الثالثة

حكم التفاؤل، وفضله

التفاؤل أمر محمود، ومندوب إليه، وهو من أفضل الأعمال.

عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يعجبني الفأل الصالح؛ الكلمة الحسنة»

(1)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفاءل، ولا يتطير، ويعجبه الاسم الحسن»

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل الحسن، ويكره الطِّيَرة

(3)

.

ولما جاء «حَزْن» جد سعيد بن المسيَّبِ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال له:«ما اسمك؟» قال: اسمي حزن. قال: «أنت سهل»

(4)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع كلمة فأعجبته، فقال:«أخذنا فألك من فيك»

(5)

.

وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه إذا خرج لحاجته أن يسمع: يا راشد، يا نجيح

(6)

.

(1)

أخرجه البخاري في الطب (5756)، ومسلم في السلام (2224)، وأبو داود في الطب (3916)، والترمذي في السير (1615)، وابن ماجه في الطب (3537).

(2)

أخرجه أحمد 1/ 257 (2328)، وأبو داود الطيالسي 4/ 408 (2813)، وابن حبان 13/ 139 - 140 (5825)، قال الهيثمي في «المجمع» (8/ 47):«رواه أحمد والطبراني، وفيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف بغير كذب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (777).

(3)

أخرجه ابن ماجه في الطب (3536)، وابن حبان 13/ 490 (6121). وصححه الألباني في «التعليقات الحسان» (6088).

(4)

أخرجه البخاري في الأدب (6190، 6193)، وأبو داود في الأدب (4956)، وأحمد 5/ 433 (23673) من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه رضي الله عنه.

(5)

أخرجه أبو داود في الطب (3917)، وأحمد 2/ 388 (9040). وصححه الألباني في «الصحيحة» (726).

(6)

أخرجه الترمذي في السير (1616)، والطبراني في «الأوسط» 4/ 274 (4181)، وفي «الصغير» 1/ 331 (549). قال الترمذي:«حسن صحيح غريب» . وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (4978).

ص: 536

وإنما كان التفاؤل من أفضل الأعمال؛ لأنه يقوم على حسن الظن بالله، والتوكل عليه، والثقة بما عنده عز وجل أوثق مما في يد الإنسان نفسه.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله عز وجل يقول: أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرًا فله، وإن ظن شرًّا فله»

(1)

.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسِن الظن بالله عز وجل»

(2)

.

‌الوقفة الرابعة

نماذج من تعليم الله تعالى لعباده التفاؤل

من ذلك قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

ومن ذلك أنه عز وجل عاتب المؤمنين بقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].

ثم فتح عز وجل لهم باب الرجاء والتفاؤل في الآية بعدها، فقال تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 17]، أي: اعلموا أن الله القادر على إحياء الأرض بعد موتها، قادر على تليين قلوبكم وجعلها تخشع لذكر الله وما نزل من الحق، فأبشروا وأمِّلوا خيرًا.

ومن ذلك أنه عز وجل نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا

(1)

أخرجه أحمد 2/ 391 (9076)، وابن حبان 2/ 405 (639). وصححه الألباني في «التعليقات الحسان» (638)، وفي «الصحيحة» (1663).

(2)

أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2877)، وأبو داود في الجنائز (3113)، وابن ماجه في الزهد (4167)، وأحمد 3/ 325 (14481).

ص: 537

الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1].

ولا شك أن معاداة الأقربين من الوالدين والأولاد والإخوة والأزواج وغيرهم من ذوي القرابة من أشق الأشياء وأصعبها على النفوس؛ ولهذا قال عز وجل بعد ذلك: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7]، ففتح عز وجل للمؤمنين في هذه الآية باب الرجاء والتفاؤل بجعل المودة بينهم وبين الذين عادوا من أقاربهم بسبب كفرهم، وذلك بأن يؤمن هؤلاء الأقارب فتعود المودة بينهم، وهذا وعد منه عز وجل، وهو كالبلسم على القلوب والنفوس، وهكذا وقع؛ فقد آمن كثير منهم، وعادت المودة والأخوة بينهم بفضل الله عز وجل كما وعدهم سبحانه.

‌الوقفة الخامسة

نماذج من تفاؤل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

التفاؤل من أخص صفات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حتى في أشد الظروف، وأضيق الأحوال، وأقساها.

1 فهذا نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام والمؤمنون معه، لما لحق بهم فرعون وجنوده، وتراءى الجمعان، وصار البحر أمامهم، والعدو خلفهم، وقال له أصحابه بنو إسرائيل: إنا لمدرَكون، قال عليه الصلاة والسلام مقالة المتفائل الواثق بربه، المتوكل عليه تمام التوكل:{قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].

2 ويعقوب عليه الصلاة والسلام بعد ما جرى ليوسف وأخيه عليهما السلام على يدي إخوتهما، وبعد مرور السنين والأعوام الطويلة، قال لأبنائه: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ

ص: 538

رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

3 ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان سيد المتفائلين، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟ فقال:«لقد لقِيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل، فلم يجبني إلى ما أردتُ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفِق إلا بقرن الثعالب، فرفعتُ رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرتُ فإذا فيها جبريل، فناداني، فقال: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال، وسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، قد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أُطْبِقَ عليهم الأخْشَبَيْنِ»

(1)

، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا»

(2)

.

وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز، أو ذل ذليل، عزًّا يُعِز الله به الإسلام، وذلًّا يذل الله به الكفر»

(3)

.

وعن عَدِي بن حاتم رضي الله عنه أنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له:«أتعرف الحِيرة؟» قال: لم أعرفها، لكن قد سمعت بها. قال: «فوالذي نفسي بيده لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت في غير جوار

(1)

الأخشبان: جبلان بمكة.

(2)

أخرجه البخاري في بدء الخلق (3231)، ومسلم في الجهاد والسير (1795).

(3)

أخرجه أحمد 4/ 103 (16957)، والطبراني في «الكبير» 2/ 58 (1280)، وفي «مسند الشاميين» 2/ 79 (951)، والحاكم (4/ 477). قال الحاكم:«هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» . ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في «المجمع» (6/ 14):«رواه أحمد، والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح» .

ص: 539

أحد، ولتُفتحن كنوز كِسرى بن هُرمز». قلت: كسرى بن هُرمز؟ قال: «نعم، كسرى بن هرمز، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد» . قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها

(1)

.

وقد حصل هذا في عهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.

وعن أُبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بشِّر الأمة بالسَّناء، والرفعة، والدين، والنصر، والتمكين في الأرض»

(2)

.

وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها»

(3)

.

وعن خَبَّابِ بنِ الأرَتِّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «واللهِ ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموتَ لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»

(4)

.

وفي حديث الهجرة قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه وهما في الغار، لما وقف المشركون على باب الغار، وقال له أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال صلى الله عليه وسلم:{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. وقال صلى الله عليه وسلم: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما»

(5)

.

(1)

أخرجه بهذه السياقة: أحمد 4/ 257 (18260)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» 20/ 267 (37761)، وابن حبان 6/ 24 (4814)، والحاكم (4/ 564). قال الحاكم:«صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» . ووافقه الذهبي، وضعفه الألباني في «التعليقات الحسان» (6644)، وفي «الضعيفة» (6488). والقصة مختصرة بغير هذه السياقة في: البخاري في المناقب وعلامات النبوة في الإسلام (3595).

(2)

أخرجه أحمد وابنه 5/ 134 (21220، 21222)، وابن حبان 2/ 132 (405)، والحاكم (4/ 311). قال الحاكم:«هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» . ووافقه الذهبي، وأقره المنذري في «الترغيب والترهيب» (1/ 31). وقال الهيثمي في «المجمع» (10/ 220):«رواه أحمد وابنه من طرق، ورجال أحمد رجال الصحيح» . قال الألباني في «أحكام الجنائز» ص (52): «وإسناد عبد الله صحيح على شرط البخاري» .

(3)

أخرجه مسلم في الفتن (2889)، وأبو داود في الفتن (4252)، والترمذي في الفتن (2176)، وابن ماجه في الفتن (3952).

(4)

أخرجه البخاري في المناقب (3612)، وأبو داود في الجهاد (2649)، وأحمد 5/ 109 (21057).

(5)

أخرجه البخاري في المناقب (3663)، ومسلم في فضائل الصحابة (2381)، والترمذي في تفسير القرآن (3096)، وأحمد 1/ 4 (11).

ص: 540

وعن سُراقة بن مالك رضي الله عنه، أنه لما لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم وبصاحبه أبي بكر رضي الله عنه في طريق هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ ليأخذ جائزة قريش التي جعلتها لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب من النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه ساختْ يدا فرسه في الأرض، فلم تستطع أن تتحرك

(1)

. فقال له صلى الله عليه وسلم وهو في تلك الحال الشديدة متفائلًا: «كأنِّي بك قد لبِستَ سِوَارَيْ كِسْرَى»

(2)

.

وهكذا حصل بفضل الله تعالى.

ويوم الأحزاب حين أحاطت الأحزاب بالمدينة، كما قال تعالى:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10].

واجتمع على المسلمين في ذلك اليوم من الشدائد ما تَنُوءُ بحمله الجبال؛ من الخوف، والتعب، والجوع، والبرد، نزل صلى الله عليه وسلم حين استعصى على الصحابة رضي الله عنهم حجر كبير، وهم يحفرون الخندق، فأخذ المِعوَل فقال:«باسم الله» . فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر وقال: «الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح الشأْمِ، واللهِ إني لأُبصِرُ قُصُورَها الحُمْر من مكاني هذا» . ثم قال: «باسم الله» . وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال:«الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأُبصر المدائن وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا» . ثم قال: «باسم الله» . وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر، فقال:«الله أكبر، أُعطيت مفاتيحَ اليمن، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا»

(3)

.

ولما كان صلى الله عليه وسلم يفاوض قريشًا في صلح الحُديبيَة، وقدم سهيل بن عمرو، قال صلى الله عليه وسلم

(1)

أخرجه البخاري في مناقب الأنصار (3906)، وأحمد 4/ 175 (17591). وأخرجه البخاري في الموضع السابق (3908)، ومسلم في الأشربة (2009)، وأحمد 1/ 2 (3) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (6/ 357).

(3)

أخرجه أحمد 4/ 303 (18694)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» 20/ 376 (37975)، وأبو يعلى «مسنده» 3/ 244 (1685)، والروياني في «مسنده» 1/ 276 (410) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما. قال الهيثمي في «المجمع» (6/ 131):«رواه أحمد، وفيه ميمون أبو عبد الله، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله ثقات» . وحسن الحافظ ابن حجر إسناده في «فتح الباري» (7/ 397).

ص: 541

لأصحابه: «لقد سهَّل لكم من أمركم»

(1)

.

4 ومن التفاؤل ما حصل من أم إسماعيل هاجر عندما تركها إبراهيم عليه السلام في مكة مع ابنها عليها السلام، وليس بمكة داعٍ ولا مجيب، ولا شجر ولا ماء، ووضع عندها جِرابًا فيه تمر، وسِقاء فيه ماء، ثم مضى إبراهيم منطلقًا، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا جن؟! فقالت ذلك مِرارًا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت: «آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يُضَيِّعنا

(2)

.

5 ومن ذلك قول خديجة رضي الله عنها، لما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، ورجع إليها خائفًا يقول:«زمِّلوني زملوني، لقد خشِيتُ على نفسي» . فقالت رضي الله عنها: كلا، والله لا يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلّ، وتُكسِب المعدوم، وتَقرِي الضيف، وتُعين على نوائب الحق»

(3)

.

‌الوقفة السادسة

فوائد التفاؤل، وآثاره

للتفاؤل فوائد جمة، وآثار عظيمة، منها ما يلي:

1 أنه يدفع صاحبه إلى العمل، وإلى المضي قُدُمًا إلى الأمام، وإلى استشراف المستقبل المشرق، والثقة بالله عز وجل، بتحويل الشدة إلى الرخاء، والضراء إلى سراء، والعسر إلى يسر، كما قال تعالى:{سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7]، وقال تعالى:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6].

(1)

أخرجه البخاري في الشروط (2731، 2732) من حديث مَرْوان بن الحكم والمِسْوَر بن مَخْرَمة رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3364) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه البخاري في بدء الوحي (3)، ومسلم في الإيمان (160)، وأحمد 6/ 232 (25959) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 542

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لن يغلب عسر يسرين»

(1)

؛ أي: أن كل عسر معه يسران من الله عز وجل.

وكان صلى الله عليه وسلم إذا زار مريضًا قال: «لا بأس طَهور إن شاء الله»

(2)

.

قال علي رضي الله عنه

(3)

:

وكل الحادثاتِ إذا تناهَتْ

فموصولٌ بها الفرَجُ القريبُ

وقال الآخر:

ولرُبَّ نازلةٍ يَضِيقُ بها الفَتَى

ذَرْعًا وعندَ اللهِ منها المَخرَجُ

ضاقتْ فلما استَحْكَمَتْ حَلقاتُها

فُرِجَت وكان يَظُنُّها لا تُفرَجُ

(4)

وقال الآخر:

اصبِرْ لكل مصيبةٍ وتَجَلَّدِ

واعلَمْ بأن المرءَ غيرُ مُخلَّدِ

واصبِرْ كما صَبَرَ الكِرامُ فإنها

نُوَبٌ تَنُوبُ الآنَ تُفْرَج من غدِ

(5)

وقال الآخر:

وكم لله من لُطفٍ خفيِّ

يَدِقُّ خفاه عن فهمِ الذكيِّ

وكم يسرٍ أتى من بعدِ عُسرٍ

وفرَّج لوعةَ القلبِ الشجيِّ

وكم همٍّ تُساءُ به صَباحًا

فتَعقُبُهُ المَسَرَّةُ في العَشِيِّ

إذا ضاقتْ بك الأحوالُ يومًا

فثِقْ بالواحدِ الأحدِ العليِّ

(6)

وقال الآخر:

(1)

أخرجه مالك في الجهاد (2/ 446)، ومن طريقه الطبري في «جامع البيان» (6/ 334)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» 10/ 330 (19834)، 18/ 318 (34532)، والحاكم (2/ 300).

(2)

أخرجه البخاري في المناقب (3616)، والبيهقي (3/ 382) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

(3)

انظر: «ديوانه» ص (12).

(4)

البيتان لإبراهيم بن العباس الصولي. انظر: «الفرج بعد الشدة» للتنوخي (5/ 15).

(5)

البيتان لأبي العتاهية. انظر: «ديوانه» ص (110).

(6)

الأبيات لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، انظر:«ديوانه» ص (160).

ص: 543

أُعَلِّلُ النفسَ بالآمالِ أَرْقُبُها

ما أضيقَ العيشَ لولا فُسحةُ الأملِ

(1)

2 أنه سبب لانشراح الصدر، وطمأنينة القلب، والسرور، وذهاب الهم والحزن، والسلامة بإذن الله تعالى من أمراض القلب الحسية، والأمراض النفسية والبدنية، تغمر صاحبَه السعادةُ في حال السراء والضراء، كما قال صلى الله عليه وسلم:«عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابتْه سَرَّاءُ شَكَر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراءُ صبر، فكان خيرًا له»

(2)

.

والمتفائل تُرفرف نفسه بين السماء والأرض، كما ترفرف الطيور بأجنحتها، رجاؤه في الله وأمله، وثقته به عز وجل، لا تزحزحها شمُّ الجبال، لو اندكت عليه.

لسان حاله ومقاله، كما قال الشاعر:

سأعيش رغمَ الداءِ والأعداءِ

كالنَّسرِ فوقَ القمةِ الشَّمَّاءِ

النورُ في جنبي وبينَ جَوانحي

فعلامَ أخشى السيرَ في الظَّلماءِ؟!

(3)

ولهذا يجب الحذر كل الحذر من مصاحبة المتشائمين، المرجِفين، المثبِّطين، المُخَذِّلين، ممن يقولون:«هلك الناس» .

قال صلى الله عليه وسلم: «من قال: هلك الناسُ فهو أهلَكُهم»

(4)

.

وقال الشاعر:

احفَظْ لسانَكَ أن تقول فتُبتلى

إن البلاءَ مُوكَّلٌ بالمَنطِقِ

(5)

وقد قيل: «تفاءلوا بالخير تجدوه» .

(1)

البيت للوزير مؤيد الدين الطغرائي، انظر:«شرح لامية العجم» للدميري ص (4، 101)، و «خزانة الأدب وغاية الأرب» لابن حجة الحموي (1/ 187)، و «معاهد التنصيص على شواهد التلخيص» لأبي الفتح العباسي (2/ 142).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

البيتان لأبي القاسم الشابي. انظر: «ديوانه» ص (11).

(4)

أخرجه مالك في الكلام (2/ 984)، ومسلم في البر والصلاة والآداب (2633)، وأبو داود في الأدب (4983)، وأحمد 2/ 272 (7685) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

البيت ينسب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه. انظر: «العقد الفريد» (3/ 16)، وينسب أيضًا لصالح عبد القدوس. انظر:«ديوانه» (ص 147).

ص: 544

‌وقفات خمس في: حسن الخلق

قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]

‌الوقفة الأولى في:

معنى حسن الخلق، ومصادره

‌أ- معنى حسن الخلق:

حُسن الشيء: زينته، وجماله، وفضله، ونحو ذلك، وهو ضد القُبح، ونقيضه

(1)

.

و «الخلق» : الدين والطبع، والسَّجية والعادة

(2)

. وجمعه: أخلاق.

وهو نوعان: خلق محمود، حسن جميل، وخلق مذموم، سيئ قبيح.

قال الحسن البصري، وعبد الله بن المبارك:«حسن الخلق: بسط الوجه، وبذل الندى، والاحتمال، وكف الأذى»

(3)

.

ورُوي عن علي رضي الله عنه: «حسن الخلق في ثلاث خصال: اجتناب المحارم، وطلب الحلال، والتوسعة على العيال»

(4)

.

لكن حسن الخلق أعم من هذا كله وأوسع، فهو التخلق بالقرآن.

ويقال: الخلق: صورة الإنسان الباطنة؛ لأن الإنسان له صورتان:

صورة باطنة، وصورة ظاهرة.

فالصورة الظاهرة: هي شكل خلقته التي جعل الله البدن عليها، كما قال تعالى:

(1)

انظر: «لسان العرب» مادة «قبح» .

(2)

انظر: «لسان العرب» مادة «خلق» .

(3)

انظر: «جامع العلوم والحكم» ص 160، و «إحياء علوم الدين» 3/ 57، أو 75.

(4)

انظر: «إحياء علوم الدين» 3/ 57، أو 75.

ص: 545

{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64، والتغابن: 3].

والصورة الباطنة: خُلُقُه الذي طُبع عليه، أو اعتاده.

والقول بأن الخلق صورة الإنسان الباطنة لا يعني أن آثار الأخلاق لا تظهر على الجوارح، بل إنها لو لم تظهر آثارها على الجوارح ما سُميت خلقًا.

‌ب- مصادر حسن الخلق «الأخلاق الحسنة» :

مصادر الأخلاق الحسنة مأخوذة من مصدر التشريع: الكتاب والسنة، فهما مصدرا الأخلاق الإسلامية كلها، بما يؤخذ منهما من أحكام، وأخلاق، وآداب، وغير ذلك.

قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].

ولهذا لما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «كان خلقه القرآن»

(1)

.

وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وقال تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59].

وقال عز وجل: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثت لأتمم صالح الأعمال»

(2)

.

قال إبراهيم الحربي: «ينبغي لمن سمع شيئًا من آداب النبي صلى الله عليه وسلم أن يتمسك به»

(3)

.

(1)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (746)، وأبو داود في الصلاة (1342)، والنسائي في قيام الليل (1601)، وأحمد 6/ 91 (24601).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

انظر: «الجامع لأخلاق الراوي والسامع» 1/ 142.

ص: 546

فالأخلاق الحسنة هي الأخلاق الإسلامية التي أمر الله بها في القرآن الكريم، أو أثنى على الاتصاف بها، أو وعد من اتصف بها بالجزاء والأجر في الدنيا والآخرة، ودخول الجنة، والنجاة من النار، أو توعد من خالفها بضد ذلك، ونحو ذلك.

وكذا ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة النبوية، أو أثنى على من اتصف بها، أو وعده بالجزاء من الله تعالى، أو توعد من خالفه بالعقوبة من الله تعالى.

قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في: «الأخلاق الإسلامية»

(1)

: «الأخلاق الإسلامية بيَّنها الله في كتابه العظيم، وبيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم، أساسها: توحيد الله، والإخلاص له، هذا هو أصل الأخلاق الكريمة وأساسها، وأعظمها، وأوجبها، وهو توحيد الله، والإخلاص له، وترك الإشراك به، ثم يلي ذلك: الصلوات الخمس، فهي أعظم الأخلاق، وأهمها، بعد التوحيد، وترك الإشراك بالله سبحانه وتعالى، ومن تدبر القرآن الكريم، واعتنى به، وأكثر من تلاوته يريد فهم هذه الأخلاق، ويريد العلم بها وجد ذلك» .

‌الوقفة الثانية في:

حقيقة حسن الخلق، ومقوماته، وأركانه

حقيقة حسن الخلق: الاستقامة على دين الله عز وجل، وتقواه، بفعل ما أمر الله به ورسوله، وترك ما نهى الله عنه ورسوله، وله مقومات وأركان أربعة يقوم عليها.

‌أ- الأركان الأساسية لحسن الخلق:

قال ابن القيم: «الدين كله خُلُق، فمن زاد عليك في الخُلُق زاد عليك في الدين.

وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يُتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل.

(1)

في ص 7 طبع ونشر دار الوطن عام 1419 هـ. وانظر: «مجموع فتاوى ومقالات متنوعة» لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله 1/ 150 - 187.

ص: 547

فالصبر: يحمله على الاحتمال، وكظم الغيظ، وكف الأذى، والحلم والأناة، والرفق، وعدم الطيش، والعجلة.

والعفة: تحمله على اجتناب الرذائل والقبائح؛ من القول والفعل، وتحمله على الحياء، وهو رأس كل خير، وتمنعه من الفحشاء، والبخل، والكذب، والغيبة والنميمة.

والشجاعة: تحمله على عزة النفس، وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وعلى البذل والندى الذي هو شجاعة النفس وقوتها على إخراج المحبوب، ومفارقته، وتحمله على كظم الغيظ، والحلم.

والعدل: يحمله على اعتدال أخلاقه، وتوسطه فيها بين طرفي الإفراط والتفريط، فيحمله على خلق الجود والسخاء، الذي هو توسط بين التبذير والبخل، وعلى خلق الشجاعة الذي هو توسط بين الجبن والتهور، وعلى خلق الحلم الذي هو توسط بين الغضب والمهانة، وسقوط النفس.

ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة هذه الأربعة.

ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب.

فالجهل: يريه الحسن في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن، والكمال نقصًا، والنقص كمالًا.

والظلم: يحمله على وضع الشيء في غير موضعه، فيغضب في موضع الرضا، ويرضى في موضع الغضب، ويجهل في موضع الأناة، ويبخل في موضع البذل، ويبذل في موضع البخل، ويُجحم في موضع الإقدام، ويقدم في موضع الإحجام، ويلين في موضع الشدة، ويشتد في موضع اللين، ويتواضع في موضع العزة، ويتكبر في موضع التواضع.

والشهوة: تحمله على الحرص، والشح، والبخل، وعدم العفة، والنهمة، والجشع، والذل، والدناءات كلها.

ص: 548

والغضب: يحمله على الكبر، والحقد، والحسد، والعداوات، والسفه»

(1)

.

‌ب- مراتب حسن الخلق:

يمكن تقسيم مراتب حسن الخلق إلى مرتبتين:

المرتبة الأولى: وهي المرتبة الكبرى والعظمى، وهي: حسن الخلق في معاملة الخالق عز وجل، وذلك بتصديق أخباره، وتلقي أحكامه بالقَبول والتسليم، وتلقي أقداره بالصبر والرضا، بالإيمان به عز وجل، وتوحيده بإثبات ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، وصرف جميع أنواع العبادة له عز وجل وحده، والإخلاص له، وخوفه وخشيته، ورجاؤه، وتعظيمه، ومحبته، والإيمان بأركان الإيمان الستة، وبكل ما أوجب عز وجل الإيمان به، والإسلام والانقياد له، وطاعته، واتباع شرعه، والرضا بقدره، والتسليم لأمره، وغير ذلك.

المرتبة الثانية: حسن الخلق في التعامل مع الخلق، بمعاملتهم بالمعروف، وأداء حقوقهم الواجبة والمستحبة؛ من كف الأذى، وبذل الندى، وطلاقة الوجه، والإحسان، والعفو، وغير ذلك، وهذه المرتبة داخلة في المرتبة الأولى؛ لأن من حق الله تعالى: أداء حقوق عباده.

والناس في هذا على أقسام: منهم من يوفَّق للقيام بحقوق الله تعالى، وحقوق عباده، وهذا هو الموفَّق حقًّا، وهو في المرتبة الأولى، ومنهم من يقوم بحقوق الله تعالى، ويفرط في حقوق عباده، أو يفرط في حقوق الله تعالى، ويقوم بحقوق عباده، وهذا مُفرط حقًّا، وأشد منه من يفرط في حقوق الله تعالى، وحقوق عباده.

‌الوقفة الثالثة في:

فضل حسن الخلق

يعد حسن الخلق من أنبل الصفات، وأعظمها، وأفضلها، وأشرفها، ويكفي في ذلك وصف الله عز وجل نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم بذلك، وامتداحه به في قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}

(1)

انظر: «مدارج السالكين» 2/ 348 - 350 باختصار قليل.

ص: 549

[القلم: 4]، فهو غاية الفضل، وأعلى الخصال، وأكمل الشمائل؛ لأن حقيقته الاستقامة التامة على دين الله عز وجل، وتقواه، وامتثال أمره للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].

وقد رغب صلى الله عليه وسلم في حسن الخلق في أحاديث كثيرة، تدل على فضل حسن الخلق، وعلو مكانته، سبق ذِكر كثيرٍ منها.

وعن النوَّاس بن سَمْعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم؟ فقال: «البِر: حسن خلق، والإثم: ما حاك في صدرك، وكرِهت أن يطلِع عليه الناس»

(1)

.

وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل المؤمنين إيمانًا: أحسنهم خُلقًا، وإن حسن الخلق ليبلغ درجة الصوم والصلاة»

(2)

.

وعن أسامة بن شَريك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: من أحب عباد الله إلى الله؟ قال: «أحسَنُهم خُلقًا»

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخِل الناس الجنة؟ قال: «تقوى الله وحُسن الخلق»

(4)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مر رجل بغصن شجرة على طريق، فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين؛ لا يؤذيهم. فأُدخل الجنة»

(5)

.

(1)

أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2553)، والترمذي في الزهد (2389)، وأحمد 4/ 182 (17631).

(2)

أخرجه البزار 14/ 31 (7445)، وأبو يعلى 7/ 184 (4166)، والدولابي في «الكنى والأسماء» (3/ 978)، واللالكائي في «شرح أصول الاعتقاد» 5/ 993 (1666). قال الهيثمي في «المجمع» (1/ 58):«رواه البزار، ورجاله ثقات» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (1590).

(3)

أخرجه ابن حبان 2/ 236 (486)، والطبراني في «الكبير» 1/ 181 (471). وصححه الألباني في «التعليقات الحسان» (486).

(4)

أخرجه الترمذي في البر والصلة (2004)، وابن ماجه في الزهد (4246)، وأحمد 2/ 442 (9696). وصححه الألباني في «الصحيحة» (997).

(5)

أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (1914).

ص: 550

وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كريم، يحب الكرم، ومعاليَ الأخلاق، ويُبغِض سَفْسَافَها»

(1)

.

وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَحقِرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلْقٍ»

(2)

.

وعنه رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تبسُّمك في وجه أخيك صدقة»

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم لأشجِّ عبدِ القيس: «إن فيك خَصلتينِ يُحبهما الله: الحِلم والأناة»

(4)

.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عُيينة بن حِصن بن حُذيفة دخل على عمر رضي الله عنه، فقال: هِي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجَزْلَ، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضِب عمر حتى هم أن يُوقِع به، فقال له الحرُّ بن قيس ابن أخي عُيينة: يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين. فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافًا عند كتاب الله

(5)

.

وكما رغَّب الإسلام في حسن الخلق، وحث عليه، وبيَّن فضله، فقد حذر من ضده، وهو سوء الخلق، بجميع مظاهره من الكفر، والفسوق، والعصيان، والكذب، والفجور، وقسوة القلوب، وجميع الشرور.

قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ

(1)

أخرجه الحاكم (1/ 48) بإسنادين، والبيهقي (10/ 191). قال الحاكم:«هذا حديث صحيح الإسنادين جميعًا، ولم يخرجاه» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (1378).

(2)

أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2626)، وأحمد 5/ 173 (21519).

(3)

أخرجه الترمذي (1956)، والبخاري في «الأدب المفرد» (891)، والبزار 9/ 457 (4070)، وابن حبان 2/ 221 (474). قال الترمذي:«حسن غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (572).

(4)

أخرجه مسلم في الإيمان (17)، والترمذي في البر والصلة (2011)، وابن ماجه في الزهد (4188) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه مسلم في الموضع السابق (18)، وأحمد 3/ 22 (11175) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

(5)

أخرجه البخاري في تفسير سورة الأعراف (4642)، وفي الاعتصام بالكتاب والسنة (7286).

ص: 551

لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].

وقال تعالى محذِّرًا المؤمنين من أن يطول عليهم الأمر فتقسو قلوبهم كأهل الكتاب: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء»

(1)

.

قال حافظ إبراهيم

(2)

:

فإذا رُزِقتَ خليقةً محمودةً

فقد اصطفاك مقسِّمُ الأرزاقِ

فالناس هذا حظُّه مال، وذا

علم، وذاك مكارم الأخلاقِ

وقال الآخر:

أحبُّ مكارمَ الأخلاق جهدي

وأكرَهُ أن أَعيبَ وأن أُعابا

وأُعرِضُ عن سِبابِ الناسِ جَهدي

وشرُّ الناس من يَهوَى السِّبابا

(3)

‌الوقفة الرابعة في:

الأسباب المعينة على حسن الخلق

الأسباب المعينة على التحلي بحسن الخلق كثيرة جدًّا، من أهمها ما يلي:

1 التوفيق من الله تعالى للعبد، واصطفاؤه لهذا الخلق العظيم.

2 الإخلاص لله تعالى، واتباع شرعه، والصدق في طلب النجاة.

(1)

أخرجه الترمذي في البر والصلة (1977)، وأحمد 1/ 404، 416 (3839، 3948). قال الترمذي: «حسن غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (320).

(2)

انظر: «ديوانه» ص (280).

(3)

البيتان للحسين بن عبد الرحمن. انظر: «مكارم الأخلاق» لابن أبي الدنيا ص (30).

ص: 552

3 تدبر القرآن الكريم، وما جاء فيه من الترغيب والحث على حسن الخلق، وامتداح أهله، والثناء عليهم، وما فيه من الوعد والبشارة لهم في الدنيا والآخرة.

4 التأمل في سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والاقتداء به، فلنا به أسوة صلوات الله وسلامه عليه، كما قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

5 التأمل في سنته صلى الله عليه وسلم، وما جاء فيها من الترغيب في حسن الخلق، وبيان فضله، وما أعد لأهله من الخير في الدنيا والآخرة.

6 التأمل في سيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين وتابعيهم، ومن بعدهم من أهل العلم والفضل، وما هم عليه من عظيم الأخلاق، وجليل الصفات.

قال الشاعر:

فتَشَبَّهوا إن لم تكونوا مِثْلَهم

إن التشبهَ بالكرامِ فَلاحُ

(1)

7 صحبة الأخيار، ومجالسة الصالحين، فالمرء من جليسه، والصاحب ساحب، قال صلى الله عليه وسلم:«المرء على دين خليله، فلينظرْ أحدكم من يُخالِل»

(2)

، وقال صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحاملِ المسكِ ونافخِ الكِير

» الحديث

(3)

.

وقد قال الله عز وجل: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].

وقال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا}

(1)

انظر: «نفح الأزهار» ص (9)، و «صيد الأفكار» (41).

(2)

أخرجه أبو داود في الأدب (4833)، والترمذي في الزهد (2378)، وأحمد 2/ 334 (8417) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي:«حسن غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (927).

(3)

أخرجه البخاري في الذبائح والصيد (5534)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2628) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود في الأدب (4829) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 553

[الفرقان 27 - 29].

قال الشاعر:

إذا ما صحِبتَ القومَ فاصحَبْ خِيارَهم

ولا تصحَبِ الأردَى فتَردَى مع الردِي

عن المرءِ لا تسألْ وسَلْ عن قرينِه

فكلُّ قرينٍ بالمقارَنِ يَقتدي

(1)

وقال الآخر:

عَدوَى البَليدِ إلى الجَليدِ سريعةٌ

والجمرُ يوضعُ في الرمادِ فيَخمُدُ

(2)

وقال الآخر:

اخترْ صديقَكَ واصطفيه تفاخُرًا

إن القرينَ إلى المقارَنِ يُنسَبُ

(3)

8 دعاء الله عز وجل، والتضرع إليه بطلب الهداية إلى هذا الخُلق العظيم.

قال صلى الله عليه وسلم: «اهدني لأحسن الأخلاق؛ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرِفْ عني سيئها؛ لا يصرف سيئها إلا أنت»

(4)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق، والأعمال، والأهواء»

(5)

.

وعن زيد بن أرقمَ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:«اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكاها، أنت وليُّها ومولاها»

(6)

.

9 سلامة القلب من الحقد، والحسد، والغل على عباد الله تعالى، ومن الشح، والشحناء، والعداوة، والبغضاء.

(1)

البيتان لعدي بن زيد. انظر: «بهجة المجالس» ص (151).

(2)

البيت لأبي بكر الخوارزمي. انظر: «روض الأخيار، المنتخب من ربيع الأبرار» ص (388).

(3)

البيت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، انظر:«ديوانه» ص (49)، و «حياة الحيوان الكبرى» (1/ 51).

(4)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها (771)، وأبو داود في استفتاح الصلاة (760)، والنسائي في الافتتاح (897)، والترمذي في الدعوات (3421)، وأحمد 1/ 94 (729) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(5)

أخرجه الترمذي (3591) من حديث زياد بن علاقة عن عمه قطبة بن مالك رضي الله عنه. قال الترمذي: «حسن غريب» . وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (1298).

(6)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2722)، والنسائي في الاستعاذة (5458)، وأحمد 4/ 371 (19308).

ص: 554

قال الشاعر:

مَن سالمَ الناسَ يَسلَم من غوائِلِهم

وعاش وهو قرين العين جَذلانُ

(1)

وقال الآخر:

لما عفوتُ ولم أحقِدْ على أحد

أرحتُ نفسي من هم العَداواتِ

(2)

وقال الآخر:

لا يحمِلُ الحِقدَ مَن تعلو به الرُّتبُ

ولا ينال الرضا مَن طَبْعُه الغَضَبُ

(3)

10 مجاهدة النفس بالأخذ بمقومات حسن الخلق، وهي: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل، فهذه أربعة هي أركان حسن الخلق، كما قال ابن القيم رحمه الله

(4)

، وهي التي بها مجاهدة النفس ومحاسبتها، حتى يكون حسن الخلق لها منهجًا وسلوكًا، قال تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69].

وينبغي أن يعلم أن العلم بالتعلُّم، والحلم بالتحلُّم، والخلق بالتخلُّق، كما قال صلى الله عليه وسلم:«من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما العلم بالتعلم»

(5)

.

وفي رواية عن أبي هريرة رضي الله عنه: «العلم بالتعلُّم، والحلم بالتحلُّم، ومن يتحرَّ الخير

(1)

البيت لأبي الفتح البستي، انظر:«تاريخ الإسلام» (9/ 32)، و «طبقات الشافعية الكبرى» للسبكي (5/ 295).

(2)

البيت للشافعي. انظر: «ديوانه» ص (28)، و «الآداب الشرعية» (1/ 53)، و «روض الأخيار، المنتخب من ربيع الأبرار» ص (177).

(3)

البيت لعنترة، انظر:«ديوانه» ص (9).

(4)

كما سبق ذكره في حقيقة حسن الخلق، ومقوماته، وأركانه.

(5)

أخرجه البخاري معلقًا في العلم، باب العلم قبل القول والعمل، قبل (68)، وانظر:«فتح الباري» (1/ 159). وأخرجه الطبراني في «الكبير» 19/ 395 (929)، وفي «مسند الشاميين» 1/ 431 (758) من حديث معاوية رضي الله عنه مرفوعًا:«يا أيها الناس، إنما العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه، ومن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما يخشى الله من عباده العلماء» . قال الهيثمي في «المجمع» (1/ 128): «رواه الطبراني في «الكبير» ، وفيه رجل لم يسم، وعتبة بن أبي حكيم وثقه أبو حاتم، وأبو زرعة، وابن حبان، وضعفه جماعة». وحسن الحافظ ابن حجر إسناده في «فتح الباري» (1/ 161).

ص: 555

يُعطَه، ومن يتوقَّ الشرَّ يُوقَه»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملِك نفسه عند الغضب»

(2)

.

وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دُلَّني على عملٍ يُدخِلني الجنة. قال: «لا تغضَبْ» فردد مرارًا، قال:«لا تغضَب»

(3)

.

قال الشاعر:

بعلمٍ وحلمٍ سادَ في قومِه الفَتَى

وكونك إياه عليك يَسيرُ

(4)

وقال الآخر:

ولم أجد الأخلاق إلا تخلقًا

ولم أجد الأفضال إلا تفضلًا

(5)

وقال الآخر:

وما المرء إلا حيثُ يجعَلُ نفسَه

فكن طالبًا في الناسِ أعلى المَراتبِ

(6)

وقال الآخر:

وما المرءُ إلا حيثُ يجعَلُ نفسَه

ففي صالحِ الأعمالِ نفسَك فاجعَلِ

(7)

(1)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «الحلم» ص (20)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (10/ 184) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (6/ 442) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وحسنه الألباني في «الصحيحة» (342).

(2)

أخرجه مالك في حسن الخلق (2/ 906)، والبخاري في الأدب (6114)، ومسلم في البر والصلة (2609)، وأحمد 2/ 236 (7219) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه البخاري في الأدب (6116)، والترمذي في البر والصلة (2020)، وأحمد 2/ 466 (10011) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

انظر: «شرح الشواهد الشعرية» 1/ 404.

(5)

البيت لأبي تمام حبيب بن أوس. انظر: «موسوعة الأخلاق» للخراز ص (49)، و «صيد الأفكار، في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال» للقاضي: حسين بن محمد المهدي (1/ 690).

(6)

البيت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: «ديوانه» ص (15).

(7)

البيت لأبي الحارث جمّين. انظر: «البغال» للجاحظ ص (34). أو لأبي المياح العبدي. انظر: الحماسة البصرية (2/ 23).

ص: 556

وقال المتنبي

(1)

:

على قدْرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ

وتأتي على قدْرِ الكِرامِ المَكارمُ

وتعظُمُ في عينِ الصغيرِ صغارُها

وتصغُرُ في عينِ الكبيرِ العظائمُ

وقال أيضًا

(2)

:

وإذا كانتِ النفوسُ كِبارًا

تعِبتْ في مُرادِها الأجسامُ

وقال الآخر:

عوِّدْ لسانَكَ قولَ الصدقِ تَحظَ به

إن اللسانَ لما عودتَ يَعتادُ

(3)

‌الوقفة الخامسة في:

آثار حسن الخلق، ومنافعه، وثماره

رتب الدين الإسلامي والشرع الحنيف على حسن الخلق آثارًا جليلة، ومنافع عظيمة، وثمارًا كثيرة، من أهمها ما يلي:

1 محبة الله تعالى لمن اتصف بحسن الخلق، وتوفيقه له، وثناؤه على المتصفين بذلك، وامتداحه لهم، وبشارته لهم، ووعدهم بالقبول.

2 محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل الخلق الحسن، وامتداحه لهم بكمال الإيمان والتقوى، والخيرية، والبر، وبشارته لهم بقربهم منه مجلسًا يوم القيامة.

3 محبة المؤمنين لهم، وثناؤهم عليهم، ودعاؤهم لهم.

4 سعادتهم في دنياهم، ومحبة الناس واحترامهم لهم وتقديرهم؛ لأن الأنفس جُبلت على حب من أحسن إليها، وحب من أحسن التعامل معها، ولو بكف شره وأذاه.

5 كونهم دعاة إلى الإسلام بأخلاقهم، وتواضعهم، وأقوالهم، وأفعالهم، دون بذل

(1)

انظر: «ديوانه» ص (385).

(2)

انظر: «ديوانه» ص (261).

(3)

البيت مجهول القائل. انظر: «موارد الظمآن، لدروس الزمان» (1/ 372).

ص: 557

مال، أو غير ذلك، وقد قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

وهكذا فتح الصحابة رضوان الله عليهم قلوب الناس للإسلام؛ بأخلاقهم، وتواضعهم، وأقوالهم، وأفعالهم الحسنة الحميدة.

6 السلامة من نزغ الشيطان، وإفساده على المرء دينه، قال تعالى:{وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53].

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقبيصة بن جابر: «إن الشاب يكون عنده عشرة أخلاق، تسعة منها حسنة، وخلق واحد سيئ، يفسد تلك التسعة، فإياك وعثرات الشباب!»

(1)

.

7 ثقل الموازين، والأجر العظيم، والظفر بخيري الدنيا والآخرة.

8 دخول الجنة- نسأل الله من فضله-فقد سئل صلى الله عليه وسلم: ما أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله، وحُسن الخلق»

(2)

.

9 صلاح أمر العبد في دينه ودنياه وأخراه، وهذا مضمونُ ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وقد أحسن القائل:

صلاحُ أمرِكَ للأخلاقِ مَرجِعُه

فقوِّمِ النفسَ بالأخلاقِ تَستقمِ

(3)

وقال الآخر:

كنِ ابنَ مَن شِئتَ واكتسِبْ أدبًا

يغنيك محمودُه عن النسَبِ

إن الفتى من يقول: هأنذا

ليس الفتى مَن يقولُ: كان أبي

(4)

(1)

أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» 4/ 406، 207 (8239، 8240)، والطبري في «جامع البيان» (8/ 691)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» 4/ 1206 (6804)، والحاكم (3/ 310)، والبيهقي (5/ 181). قال الحاكم:«صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه» .

(2)

سبق تخريجه.

(3)

البيت لأحمد شوقي. انظر: «الشوقيات» ص (261).

(4)

البيتان لأبي العتاهية. انظر: «جمهرة الأمثال» (2/ 312).

ص: 558

وقال الآخر:

وهل ينفع الفتيانَ حسنُ وُجُوهِهم

إذا كانت الأخلاقُ غيرَ حِسانِ

(1)

10 به رقي الأمم والشعوب، وتقدمها، قال أحمد شوقي:

وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بَقِيت

فإن همُ ذهبتْ أخلاقُهم ذَهبوا

(2)

وقال الآخر:

وليس بعامرٍ بُنيانُ قومٍ

إذا أخلاقُهم كانت خَرابَا

(3)

11 وأخيرًا فإن حسن الخلق غنيمة باردة لمن وفقه الله لذلك؛ قال صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرنَّ من المعروفِ شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلْق»

(4)

، وقال صلى الله عليه وسلم:«تبسُّمك في وجه أخيك صدقة»

(5)

.

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلُّ سُلامى من الناس عليه صدقة»

(6)

، وفي رواية قال:«أرأيت إن ضعفتُ عن بعض العمل؟ قال صلى الله عليه وسلم: «تَكُفُّ شرَّك عن الناس؛ فإنها صدقةٌ منك على نفسك»

(7)

.

(1)

انظر: «نفح الأزهار» ص (60)، و «السحر الحلال» ص (106).

(2)

انظر: «شعر شوقي في ميزان النقد» ص (85).

(3)

البيت لأحمد شوقي. انظر: «الشوقيات» ص (65).

(4)

سبق تخريجه.

(5)

أخرجه الترمذي في البر والصلة (1956)، والبخاري في «الأدب المفرد» (891) من حديث أبي ذر رضي الله عنه. قال الترمذي:«حسن غريب» . وصححه الألباني في تحقيقه «الأدب المفرد» (688)، «الصحيحة» (572).

(6)

سبق تخريجه.

(7)

أخرجها مسلم في الإيمان (84) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.

ص: 559

‌وقفتان في: مشروعية الوقف

قال الله تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20]

‌الوقفة الأولى

معنى الوقف، وحكمه، وحكمته، وأقسامه

‌أ- معنى الوقف:

الوقف في اللغة: الحبس والمنع

(1)

.

وفي الشرع: تحبيس الأصل، وتسبيل الثمرة

(2)

.

يقال: الوقف، والمراد به الموقوف.

‌ب- حكم الوقف:

الوقف مستحَبٌّ ومندوب إليه، وهو نوع من الصدقة التي تواترت الأدلة من الكتاب والسنة على الحث عليها والترغيب فيها، وسيأتي ذِكرُ بعضها.

‌ج- الحكمة من مشروعية الوقف:

الحكمة من مشروعية الوقف تتمثل في أمرين:

الأول: حصول الواقف على الأجر العظيم في حياته، الذي يبقى ويستمر بعد وفاته، ولهذا فإن من شرط صحة الوقف الشرعي: أن يكون خالصًا لوجه الله تعالى، وأن يكون في سبل البر والخير، وفيما يجوز، لا فيما يحرُم.

الثاني: تأمين مصدر اقتصادي لدعم جهات الخير والبر والإحسان في الأمة الإسلامية

(1)

انظر: «لسان العرب» مادة (وقف).

(2)

انظر: «نهاية المطلب، في دراية المذهب» (8/ 340).

ص: 560

من مساعدة الفقراء، والمساكين، والمحتاجين، وبناء المساجد والمدارس، ودور الرعاية، والمستشفيات، وحفر الآبار، وإجراء الأنهار، وفتح الطرق وتعبيدها، وغير ذلك.

‌د- أقسام الوقف:

ينقسم الوقف إلى أقسام ثلاثة:

القسم الأول: الوقف الخاص، وهو الوقف على أناس معينين؛ كالذرية والأهل والأقارب، أو على الفقراء خاصة، أو على أي جهة؛ كبناء المساجد، أو غير ذلك، وهذا يجب فيه الأخذ بنص الواقف وشرطه، وصرفه فيما خصص له.

القسم الثاني: الوقف العام على جهات الخير والبر والإحسان؛ من مساعدة الفقراء، والمساكين، والمحتاجين، وبناء المساجد، والمدارس، والمستشفيات، ودور الرعاية، وحفر الآبار، وإجراء الأنهار، وغير ذلك.

القسم الثالث: الوقف المشترك وهو الذي يجمع فيه الواقف بين الوقف الخاص على أناس معينين؛ كالذرية ونحوهم، أو على جهات معينة؛ كالفقراء، أو بناء المساجد، أو غير ذلك، وبين الوقف العام على جهات الخير والبر والإحسان، وهذا أفضل.

وينبغي أن يحرص الواقف على الجمع بين الحسنيين، فيجعل من الوقف نصيبًا خاصًّا على ذريته، وأقاربه، وخاصة المحتاجين منهم، ويجعل منه نصيبًا عامًّا على جهات الخير والبر والإحسان.

وينبغي أن يجعل للناظر الحق في صرفه على ما يراه أولى من هذه الجهات.

‌الوقفة الثانية

فضل الوقف وأهميته، ومصارفه

‌أ- فضل الوقف وأهميته:

الوقف من أفضل أعمال الخير والبر والإحسان، وهو صدقة جارية، وقد توافرت

ص: 561

الأدلة من الكتاب والسنة على الأمر بفعل الخير والمسابقة إليه، وبيان فضل الصدقة، وعظيم أجرها، وجزيل ثوابها.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]، وقال تعالى:{فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148، والمائدة: 48]، وقال تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110].

وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} [البقرة: 177].

وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215].

وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245]، وقال تعالى:{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261].

وقال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265]، وقال تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [آل عمران: 92]، وقال تعالى:{لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]، وقال تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، وقال تعالى:{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7]، وقال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11]، وقال تعالى:

ص: 562

{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18]، وقال تعالى:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20]، وقال تعالى:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8، 9].

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضًا بخيبر، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أُصِبْ مالًا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال:«إن شئت حبستَ أصلها، وتصدقت بها» . قال: فتصدق بها عمر، أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورث، ولا يوهب، قال: فتصدق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، ولا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف، أو يطعم صديقًا غير متمول فيه»

(1)

.

وجاء في رواية: «حبِّسْ أصْلَها، وسبِّلْ ثَمَرَتَها»

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبَّلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في الشروط (2737)، ومسلم في الوصية (1632)، وأبو داود في الوصايا (2878)، والنسائي في الأحباس (3599، 3600)، والترمذي في الأحكام (1375)، وابن ماجه في الأحكام (2396)، وأحمد 2/ 12 (4608).

(2)

أخرجها النسائي في الموضع السابق (3604، 3605)، وابن ماجه في الأحكام (2397). وانظر:«نيل الأوطار» (6/ 21).

(3)

أخرجه مسلم في الوصية (1631)، وأبو داود في الوصايا (2880)، والنسائي في الوصايا (3651)، والترمذي في الأحكام (1376).

(4)

أخرجه البخاري في الزكاة (1410)، ومسلم في الزكاة (1014)، والنسائي في الزكاة (2525)، والترمذي في الزكاة (661)، وابن ماجه في الزكاة (1842).

ص: 563

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا ابن آدم، أنفِقْ أُنفِقْ عليك»

(1)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نفَّس عن مؤمنٍ كُربةً من كُرَب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسِرٍ يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»

(2)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في كل ذات كبِدٍ رطبةٍ أجر»

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنًى، وابدأ بمَن تعول»

(4)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علمًا علمه ونشره، وولدًا صالحًا تركه، ومصحفًا ورثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحقه من بعد موته»

(5)

.

قال السيوطي:

إذا مات ابنُ آدمَ ليسَ يَجري

عليه من فعال غير عشرِ

علوم بثَّها ودعاء نَجْلٍ

وغرس النخلِ والصدقات تَجري

(1)

أخرجه البخاري في التفسير (4684)، ومسلم في الزكاة (993)، وابن ماجه في الكفارات (2123)، وأحمد 2/ 242 (7298).

(2)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2699)، وأبو داود في الأدب (4946)، والترمذي في الحدود (1425)، وابن ماجه في المقدمة (225).

(3)

أخرجه مالك في اللباس (2/ 929)، والبخاري في المساقاة (2363)، وفي المظالم والغصب (2466)، ومسلم في السلام (2244)، وأبو داود في الجهاد (2550)، وأحمد 2/ 375 (8874).

(4)

أخرجه البخاري في الزكاة (1426)، وأبو داود في الزكاة (1676)، والنسائي في الزكاة (2534)، والترمذي في الزكاة (680).

(5)

أخرجه ابن ماجه في المقدمة (242). وحسن الألباني إسناده في «أحكام الجنائز» (1/ 177).

ص: 564

وراثة مُصحَفٍ ورِباط ثَغْرٍ

وحفر البئرِ أو إجراء نَهرِ

وبيت للغَريبِ بناه يأوِي

إليه أو بناء محلِّ ذِكْرِ

(1)

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: «لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو قُدرة إلا وقف»

(2)

.

وقد ذُكر أن رجلًا جاء إلى العلامة عبد الرحمن بن ناصر السِّعدي رحمه الله، فسأله: أيهما أفضل: الصدقة حال الحياة أو الوصية؟ فقال له: أيهما أفضل: أن يكون أمامك سراج واحد، أو أن يكون خلفك سراجان؟ فقال الرجل: بل الأفضل أن يكون أمامي سراج واحد، فقال: إذن فتصدَّقْ وأنت حيٌّ. أو كما قال رحمه الله.

وذُكر أيضًا أن رجلًا جاء إلى سماحة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله فسأله: أيهما أفضل: الوقف والصدقة، أو الوصية؟ فقال له رحمه الله: أيهما أفضل إذا أردت أن تسافر: أن تحمل زادك معك، أو تقول لأولادك: اتبعوني بالزاد؟ قال: بل الأفضل أن أحمله معي، فقال: إذن فالوقف والصدقة في الحياة أفضل، أو كما قال رحمه الله.

‌ب- مصارف الوقف:

مصارف الوقف الخاص هي ما نص عليه الواقف:

أما مصارف الوقف العام المطلق في وجوه الخير والبر والإحسان كلها فيجب على الناظر على الوقف أن يجتهد في النظر في الأَوْلى والأحوج من وجوه البر في كل وقت وحال؛ من مساعدة الفقراء، والمساكين، أو تعليم القرآن والسنة، والإنفاق على طلاب العلم، أو بناء المساجد والمدارس، والمستشفيات، أو دور الرعاية، أو كفالة الأيتام،

(1)

«الديباج، على صحيح مسلم بن الحجاج» (4/ 228). وانظر: «حاشية الشبرملسي بهامش نهاية المحتاج» (5/ 358).

(2)

أخرجه أبو بكر الخصاف في «أحكام الأوقاف» (15) كما في «التحجيل» لعبد العزيز الطريفي (251). وسكت عنه الألباني في «الإرواء» (1581). وانظر: «المغني» بهامش «الشرح الكبير» (6/ 185)، و «البحر الزخار» (4/ 148).

ص: 565

والأرامل، أو حفر الآبار، أو إجراء الأنهار، أو فتح الطرق، أو غير ذلك.

ولا مانع أن يصرف غلة الوقف في مصرف واحد عند اشتداد الحاجة، كما إذا حل بالناس مجاعة وقحط وجدب فيجعله كله في إطعام المحتاجين، وإنقاذهم من الموت.

ومثله إذا احتاج الناس لبناء مسجد، أو حفر بئر، أو غير ذلك، كما أنه لا مانع أن يجعله هذه السَّنةَ في مَصرِف، والتي بعدها في مصرف آخر، وهكذا، لكن عليه الاجتهاد في صرفه فيما هو أولى وأحق وأحوج حسب طاقته وقدرته.

ج- وصيتي لأصحاب الأموال:

أوصي أصحاب الأموال من رجال الأعمال وغيرهم بأمرين:

الأمر الأول: أن يتأمل كل منهم قول الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7]، وقوله عز وجل:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11]، وقوله عز وجل:{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18].

وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»

(1)

.

الأمر الثاني: أن يبادر كل منهم إلى تخصيص قسط من ماله، وجعله وقفًا ومَبَرة خيرية يديرها بنفسه، ويضع أسسها وينظم عملها في حياته، ويطمئن إلى بقائها واستمرارها بعد وفاته، وحبذا كونها في بلده؛ ليستفيد منها أقاربه وجيرانه، وأهل الحاجة في بلده، فالأقربون أولى بالمعروف.

والملاحَظ أن كثيرًا من الأوقاف تتعثر بعد وفاة الواقف لأسباب عدة، لكن إذا أسسها الإنسان بنفسه في حياته، ونظمها بدءًا بأصولها، وانتهاء بثمرتها، ومخرجاتها، ومصارفها، فهذا بإذن الله تعالى من أسباب ضمان استمرارها وبقائها.

(1)

سبق تخريجه قريبًا.

ص: 566

(1)

أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (2958)، والنسائي في الوصايا (3613)، والترمذي في الزهد (2342)، وأحمد 4/ 24 (16306) من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه.

(2)

أخرجها مسلم في الزهد والرقائق (2959)، وأحمد 2/ 368 (8813) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 567

‌وقفة في: العدل والإنصاف من النفس

قال الله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)

وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)} [المطففين: 1 - 3]

العدل هو: الحكم بالحق، وقول الحق، ضد الجور والظلم، والكذب، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]، وقال تعالى:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42]، أي: بالعدل، وقال تعالى:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام: 152]

والإنصاف: قول الإنسان الحق، والحكم به على نفسه، أي: إعطاء الآخرين من نفسه كالذي يستحقه لنفسه، أي: العدل بأخذ الحق، وإعطاء الحق

(1)

.

وأكثر ما يُستعمل الإنصاف في الإنصاف من النفس، فهو أخص من العدل، كما يُستعمل بمعنى العدل بمعناه العام.

أما العدل فهو عام في العدل في الأمور كلها، مع النفس، ومع جميع الخلق، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] وهو عام في أداء جميع حقوق الله تعالى، وحقوق الخلق.

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

(1)

انظر: «لسان العرب» مادة «نصف» .

ص: 568

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولزوجك عليك حقًّا، ولزَوْرِك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه»

(1)

.

وأساس العدل التوحيد، وهو عام في أداء جميع حقوق الله تعالى، وحقوق الخلق.

والأدلة الدالة على وجوب العدل، والنهي عن ضده، من الجور والظلم دالة على وجوب الإنصاف من النفس من باب أولى؛ لأن أعدل العدل الإنصاف من النفس، وقول الحق على النفس ولو كان مرًّا.

والإنصاف من النفس مركب صعب، لا يستطيعه، ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم، اختاره الله تعالى، واصطفاه ووفقه.

فكم من إنسانٍ يستطيع قيام الليل، وصيام النهار، وإنفاق الأموال في أعمال البر، والقيام بكثير من الطاعات، لكنه يقف عاجزًا عن الإنصاف من نفسه، وإن ادعى ذلك، فهو كما قيل

(2)

:

وكلٌّ يَدَّعي وصلًا بليلى

وليلى لا تُقِرُّ لهم بِذَاكَا

وصدق القائل

(3)

:

ومن قلةِ الإنصافِ أنك تَبتغي الـ

مهذبَ في الدنيا ولستَ المهذبا

عن المَعرور بن سُويد رضي الله عنه قال: لقِيتُ أبا ذر بالرَّبَذَة، وعليه حُلة، وعلى غلامه حلة، فسألتُه عن ذلك، فقال: إني ساببتُ رجلًا فعيرتُه بأُمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:«يا أبا ذرٍّ، أعيرتَه بأُمِّه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فلْيطعمه مما يَطعَم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من الأعمال ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري في الصوم (1968)، وفي الأدب (6139)، والترمذي في الزهد (2413) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه.

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية 4/ 71.

(3)

البيت لابن الرومي. انظر: «الخصائص الواضحة» صـ 546، «زهر الأكم» 1/ 301.

(4)

أخرجه البخاري في الإيمان (30)، ومسلم في الإيمان (1661)، وأبو داود في الأدب (5157، 5158)، والترمذي في البر والصلة (1945)، وابن ماجه في الأدب (3690).

ص: 569

وفي هذا أروع الأمثلة في الإنصاف، فرضي الله عنك يا أبا ذرٍّ وأرضاك.

وقد أعجبني موقف لأحد أعمامي رحمه الله جاء يخطب لابنِه ابنةَ خالٍ له رحمه الله، فقال له خاله: يا أبا محمد، هل تشير بولدك؟ يعني: هل تنصحني أن أزوجه؟ فقال رحمه الله: لا والله يا خال، ما أشير به. يعني: لا أنصحك بتزويجه. وكان رحمه الله لاحظ على ابنه أمرًا يسيرًا لا يمنع من تزويجه- اللهم اغفر له وارحمه-. جاء يخطب لولده، وأشار على والد البنت ألا يزوجه لما استشاره!

ما أصعبَ هذا وأشدَّه على النفوس!

اللهم وفقنا للإنصاف من أنفسنا، وقول الحق وقبوله، وإن كان علينا، اللهم آمين، يا رب العالمين.

ص: 570

‌وقفة في: فضل عشر ذي الحجة،

وفضل الأعمال الصالحة فيها،

والأعمال التي تتأكد مشروعيتها فيها

قال الله تعالى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1]

‌أ- فضل عشر ذي الحجة، وفضل الأعمال الصالحة فيها:

عشر ذي الحجة من أفضل الليالي والأيام، أقسم الله عز وجل بها، فقال تعالى:{وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2]، وقال تعالى:{لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 27].

وهي أيام العشر، وأيام التشريق.

والعمل الصالح في هذه الأيام العشرِ من أحب الأعمال إلى الله تعالى، وأفضلها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العملُ الصالحُ فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر» . قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسِه وماله، ولم يرجع من ذلك بشيء»

(1)

.

والعمل الصالح يشمل الواجب والمندوب.

وأحب الأعمال إلى الله تعالى، وأفضلها في هذه الأيام العشر- كما هو في غيرها-المحافظة على الفرائض؛ على الصلاة في وقتها، وعلى صلاة الجماعة، وأداء حقوق الله تعالى، وحقوق الخلق، كما قال تعالى في الحديث القدسي: «وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء

(1)

أخرجه أبو داود في الصوم (2438)، والترمذي في الصوم (757)، وابن ماجه في الصيام (1727)، وأحمد 1/ 346 (3228)، والدارمي 2/ 41 (1773، 1774) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (2107).

ص: 571

أحب إليَّ مما افترضتُه عليه»

(1)

.

كما يُستحب الإكثار فيها من نوافل العبادات من الصلاة، والصدقة، والصيام، والذكر، وقراءة القرآن، والدعوة إلى الخير، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، مع الكف عن المحرمات، وما لا ينبغي.

‌ب- الأعمال التي تتأكد مشروعيتها في عشر ذي الحجة:

كل الأعمال الصالحة مشروعة في هذه الأيام العشر، كما دل على ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما وغيره.

لكن هناك أعمال خمسة تتأكد مشروعيتها أكثر من غيرها، وهي كما يلي:

أولًا: التكبير، وهو شعار هذه الأيام العشر، ومن أفضل الأعمال فيها؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل، والتكبير، والتحميد»

(2)

.

وقد ثبت عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما كانا يخرجان إلى السوق فيكبران، فيكبر الناس بتكبيرهما

(3)

.

فينبغي أن يعج الناس بالتكبير في مساجدهم، وبيوتهم، ومحلات عملهم، وأسواقهم:«الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» وبغير ذلك من صيغ التكبير الثابتة.

وينبغي إحياء سنة التكبير في مجامع الناس تعليمًا لهم، ودعوة، وتذكيرًا؛ فإن من

(1)

أخرجه البخاري في الرقاق (6502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أحمد 2/ 75، 131 (5446، 6154)، وعبد بن حميد في «المنتخب» (805)، وأبو عوانة في «مستخرجه على مسلم» 2/ 246 (3024)، والبيهقي (3/ 354). وأخرجه الطبراني في «الكبير» 11/ 82 (11116) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في «المجمع» (4/ 17):«هو في الصحيح باختصار التسبيح، وغيره. رواه الطبراني في «الكبير» ، ورجاله رجال الصحيح».

(3)

أخرجه البخاري معلقًا في كتاب العيدين، فضل العمل في أيام التشريق قبل (969)، ووصله الفاكهي في «أخبار مكة» 2/ 372 (1704). وصححه الألباني في «الإرواء» (651).

ص: 572

احتسب وخرج يكبر في مجامع الناس، في الأسواق، وأماكن العمل، والأماكن العامة، وغير ذلك، فإن له أجور مَنِ اقتدوْا به، وقد يفوق بعمله هذا عمل من يقوم الليل، ويصوم النهار؛ لأن عمله هذا من الأعمال المتعدية، التي يتعدى نفعها إلى المسلمين، ومن الدعوة إلى الله، ونشر الخير.

وقد كان هذا هو دأب السلف رحمهم الله إلى عهد قريب.

والتكبير منه: التكبير المطلق الذي يبدأ بدخول شهر ذي الحجة، ويستمر إلى عصر آخر أيام التشريق، ويكون في جميع الأوقات.

ومنه التكبير المقيد بأدبار الصلوات الخمس، الذي يبدأ من فجر يوم عرفة، إلى عصر آخر أيام التشريق.

ووقته: بعد أن يسلم من الصلاة، يستغفر الله ثلاثًا، ثم يقول:«اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام» ، ثم يشرع في التكبير

(1)

.

فيقول: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد» أو غير ذلك من صيغ التكبير الثابتة، ويستحب أن يكرر التكبير ثلاثًا، ثم يكمل بقية الأذكار الواردة بعد الصلاة.

جاء في: «مجموع فتاوى ابن باز» رحمه الله

(2)

:

«سائل يسأل عن التكبير المطلق والمقيد في عيد الأضحى؟

الجواب: الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.

أما التكبير في الأضحى فمشروع من أول الشهر إلى نهاية اليوم الثالث عشر من شهر

(1)

انظر: «فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله» 3/ 128، و «الشرح الممتع» لابن عثيمين رحمه الله 5/ 163.

(2)

في 13/ 17.

ص: 573

ذي الحجة؛ لقول الله سبحانه: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} الآية، وهي أيام العشر، وقوله عز وجل:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} الآية، وهي أيام التشريق؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:«أيام التشريق أيام أكلٍ وشربٍ وذِكر الله عز وجل» ؛ رواه مسلم في «صحيحه»

(1)

، وذكر البخاري في «صحيحه» تعليقًا عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما كانا يخرجان إلى السوق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما

(2)

.

وكان عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما يكبران في أيام منًى في المسجد وفي الخيمة ويرفعان أصواتهما بذلك حتى ترتجَّ منًى تكبيرًا

(3)

.

ورُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم التكبير في أدبار الصلوات الخمس من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم الثالث عشر من ذي الحجة

(4)

، وهذا في حق غير الحاج، أما الحاج فيشتغل في حال إحرامه بالتلبية حتى يرميَ جمرة العقبة يوم النحر، وبعد ذلك يشتغل بالتكبير، ويبدأ التكبير عند أول حصاةٍ من رمي الجمرة المذكورة، وإن كبر مع التلبية فلا بأس؛ لقول أنس رضي الله عنه:«كان يلبي الملبي يوم عرفة فلا ينكَر عليه، ويكبر المكبر فلا ينكر عليه» ، ولكن الأفضل في حق المحرم هو التلبية، وفي حق الحلال هو التكبير في الأيام المذكورة».

(1)

في «صحيح مسلم» في الصيام (1141)، وأخرجه أحمد 5/ 75 (20722) من حديث نبيشة الهذلي رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه البخاري معلقًا في العيدين، باب التكبير أيام منًى، وإذا غدا إلى عرفة، قبل (970). ووصله البيهقي (3/ 312).

(4)

أخرجه الدارقطني في «سننه» (2/ 49 - 50) من حديث علي وعمار وجابر مرفوعًا. وأخرجه الحاكم (1/ 299) من حديث عمار مرفوعًا، وقال:«هذا حديث صحيح الإسناد، ولا أعلم في رواته منسوبًا إلى الجرح، وقد رُوي في الباب عن جابر بن عبد الله وغيره، فأما من فعل عمر وعلي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن سعيد فصحيح عنهم التكبير من غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق» . وقال الألباني عن المرفوع في «الضعيفة» (5578): «موضوع» . وانظر ما رُوي موقوفًا في: «الآثار» لأبي يوسف ص (60)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (4/ 195 - 199)، و «الأوسط» لابن المنذر (4/ 345 - 349).

ص: 574

وبهذا تعلم أن التكبير المطلق والمقيد يجتمعان في أصح أقوال العلماء في خمسة أيام، وهي: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق الثلاثة. وأما اليوم الثامن وما قبله إلى أول الشهر فالتكبير فيه مطلق لا مقيد؛ لما تقدم من الآية والآثار، وفي المسند عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:«ما من أيامٍ أعظمُ عند الله ولا أحبُّ إليه العملُ فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثِروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» ، أو كما قال عليه الصلاة والسلام».

ثانيًا: الحج: مما تتأكد مشروعيته في هذه الأيام الحج، لمن تيسر له ذلك، ويجب على من لم يحج فرضه؛ لقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب عليكم الحج، فحُجوا»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من حج ولم يرفُث، ولم يفسُق، رجع من ذنوبِه كيومَ وَلَدَتْه أُمه»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرورُ ليس له جزاء إلا الجنة»

(3)

.

وعلى المسلم ألا يجعل الحج لزامًا كل عام، ويرتكب من أجل ذلك كثيرًا من المخالفات؛ من مخالفة أنظمة الحج، والدخول حيلة، وبدون إحرام، وأذية رجال الأمن والقائمين على تنظيم الحج، وليعلم أن ما عند الله لا يُنال بهذه الوسائل الملتوية.

وبإمكان من يريد أن يُكتب له ثواب الحج: أن يبحث عمن لم يحج ممن لا يستطيعون ذلك ماليًّا، فيدفع له تكلفة الحج، ويفعل ذلك كل سنة، فمن جهز غازيًا فقد غزا، وبإمكانه أن يتصدق بذلك على أهل الفقر والحاجة، فذلك أولى من ارتكاب المخالفات.

(1)

أخرجه البخاري في النكاح (5063)، ومسلم في النكاح (1401)، والنسائي في النكاح (3217) من حديث أنس رضي الله عنه

(2)

أخرجه البخاري في الحج (1521)، ومسلم في الحج (1350)، والنسائي في مناسك الحج (2627)، وابن ماجه في المناسك (2889)، وأخرجه الترمذي في الحج، بنحوه (811) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مالك في الحج (1/ 346)، والبخاري في الحج (1773)، ومسلم في الحج (1349)، والنسائي في مناسك الحج (2629)، والترمذي في الحج (933)، وابن ماجه في المناسك (2888) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 575

ثالثًا: صيام يوم عرفة، فعن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«صيام يوم عرفة، أحتسِب على الله أن يكفر السنةَ التي قبله، والسنة التي بعده»

(1)

.

ويوم عرفة من أفضل الأيام، فينبغي الإكثار فيه من الدعاء؛ لأنه يوم تتنزل فيه الرحمة، ويتجاوز الله فيه عن الذنوب العظام، كما في حديث طلحة بن عبيد الله بن كَريز

(2)

.

رابعًا: صلاة العيد: أجمع العلماء على أن صلاة العيدين مشروعة؛ لقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]؛ أي: فصلِّ صلاة العيد، وانحر أُضحِيَّتَك، وهذه الآية في صلاة عيد الأضحى بدلالة قوله:{وَانْحَرْ} .

ومن أهل العلم من قال: هذه الآية عامة، وليست خاصة بصلاة العيد، ونحر الأضحية؛ أي: أفرد ربك بالصلاة والذبح، فهي كقوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162، 163].

فلا دلالة في الآية على مشروعية صلاة العيد، ولا على وجوبها.

وعن أم عطية رضي الله عنها قالت: أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر، والأضحى: العواتق

(3)

والحُيَّض، وذوات الخُدُور

(4)

. فأما الحيَّض فيعتزِلن الصلاة، ويشهَدن الخير، ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جِلباب؟ قال: «لِتُلْبِسْها أختها

(1)

أخرجه مسلم في الصيام (1162)، وأبو داود في الصوم (2425)، والترمذي في الصوم (749)، وابن ماجه في الصيام (1730)، وأحمد 5/ 308 (22621).

(2)

أخرجه مالك في الحج (1/ 422)، وعنه عبد الرزاق في «مصنفه» 4/ 378 (8125)، 5/ 17 (8832)، والطبري في «جامع البيان» (11/ 224)، والبيهقي في «شعب الإيمان» 5/ 498 (3775) من حديث طلحة بن عبيد الله بن كَريز مرسلًا:«ما رئي الشيطان يومًا هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ، منه في يوم عرفة، وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما أُري يوم بدر» . قال ابن كثير في «تفسيره» (4/ 66): «وهذا مرسل من هذا الوجه» . وقد رواه البيهقي في «شعب الإيمان» 5/ 498 (3776) موصولًا عن طلحة بن عبيد الله عن أبي الدرداء رضي الله عنه.

(3)

العواتق: جمع عاتق، وهي من بلغت أو قاربت بلوغ الحُلم، واستحقت التزويج.

(4)

ذوات الخدور: الأبكار.

ص: 576

من جلبابها»

(1)

.

وقد اختلف أهل العلم في حكم صلاة العيدين- بعد إجماعهم على مشروعيتها- على أقوال ثلاثة:

القول الأول: أنها سنة مؤكدة، وبهذا قال الإمام مالك

(2)

، والإمام الشافعي

(3)

-رحمهما الله-، وهو رواية عن أبي حنيفة

(4)

، وأحمد

(5)

-رحمهما الله-، وهو قول أكثر أهل العلم من السلف والخلف

(6)

.

واستدلوا على كونها سنةً مؤكدةً بحديث أم عطيةَ رضي الله عنها.

وأجابوا عن الآية: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] بأن المراد بها: إفراد الله تعالى بالصلاة والذبح عمومًا، وليست خاصة بصلاة العيد ونحر الأضحية، كما سبق ذكره.

كما استدلوا على عدم وجوب صلاة العيدين بحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، وقوله صلى الله عليه وسلم فيه للأعرابي، لما سأله عن الإسلام، قال:«خمس صلوات في اليوم والليلة» . فقال الأعرابي: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تَطَوَّع»

(7)

.

واستدلوا بحديث الإسراء، أن الله عز وجل فرض عليه، وعلى أمته خمس صلوات، وقال:«هي خمسٌ وهي خمسون»

(8)

، فلو كان هناك صلاة واجبة غيرهن لذكرها.

(1)

أخرجه البخاري في الحيض (324)، ومسلم في العيدين (890)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1307)، وأحمد 5/ 84 (20793)، والدارمي 1/ 458 (1609).

(2)

انظر: «الكافي» لابن عبد البر 1/ 263، 324.

(3)

انظر: «المجموع» 5/ 2، و «مغني المحتاج» 1/ 310.

(4)

انظر: «مجمع الزوائد» 1/ 172.

(5)

انظر: «الإنصاف» 2/ 294.

(6)

انظر: «المجموع» 5/ 3.

(7)

أخرجه مالك في قصر الصلاة في السفر (1/ 175)، والبخاري في الإيمان (46)، ومسلم في الإيمان (11)، وأبو داود في الصلاة (391، 392)، والنسائي في الصلاة (458) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.

(8)

أخرجه البخاري في الصلاة (349)، ومسلم في الإيمان (163)، والنسائي في الصلاة (449)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1399) من حديث أنس رضي الله عنه عن أبي ذر رضي الله عنهما.

ص: 577

كما استدلوا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن، فقال:«ادعهم إلى شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلِمْهم أن قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة»

(1)

، ولو كان هناك صلاة واجبة غيرهن لذكرها.

القول الثاني: أنها فرض كفاية، وبهذا قال الإمام أحمد رحمه الله

(2)

، وبعض الحنفية

(3)

، والمالكية

(4)

، والشافعية

(5)

.

واستدلوا بأدلة القول الأول، وأنها تدل على فرض الكفاية.

القول الثالث: أنها واجبة على الأعيان، ومن تركها من غير عذرٍ فهو آثِم، وبهذا قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله

(6)

، وقال به ابن حبيب من المالكية

(7)

، وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله

(8)

.

واستدلوا على هذا بالآية: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، وبحديث أم عطية رضي الله عنها، وبمواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليها.

واختار هذا جمْعٌ من المحققين، منهم: ابن تيمية

(9)

، وابن القيم

(10)

، والصنعاني

(11)

، والشوكاني

(12)

، وابن باز

(13)

، وابن عثيمين

(14)

رحمهم الله.

(1)

أخرجه البخاري في الزكاة (1395)، ومسلم في الإيمان (19)، والترمذي في الزكاة (625)، وابن ماجه في الزكاة (1783) من ابن عباس رضي الله عنهما.

(2)

انظر: «المغني» لابن قدامة 3/ 253، و «الإنصاف» 5/ 316.

(3)

انظر: «البناية» للعيني 3/ 95.

(4)

انظر: «حاشية الدسوقي» 1/ 396.

(5)

انظر: «تحفة المحتاج» 3/ 39.

(6)

انظر: «حاشية ابن عابدين» 2/ 166، 7/ 337.

(7)

انظر: «مواهب الجليل» 2/ 568.

(8)

انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية 23/ 161، و «الإنصاف» للمرادي 2/ 294.

(9)

انظر: «الاختيارات الفقهية» ص 82، و «المجموع الفتاوى» 23/ 161، 162.

(10)

انظر: «الصلاة وأحكام تاركها» ص 39 - 40.

(11)

انظر: «سبل السلام» 2/ 66 - 67.

(12)

انظر: «السيل الجرار» ص 192.

(13)

قال ابن باز رحمه الله عن القول بأنها فرض عين: «وهذا القول أظهر في الأدلة، وأقرب للصواب» . «مجموع الفتاوى» لابن باز رحمه الله 7/ 13.

(14)

انظر: «مجموع الفتاوى» لابن عثيمين رحمه الله 16/ 223.

ص: 578

خامسًا: الأضحية، وهي مشروعة بإجماع أهل العلم؛ لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أَملَحينِ أقرنينِ

(1)

.

وعن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخلتِ العشر، وأراد أحدُكم أن يضحيَ، فلا يمَسَّ من شعرِه وبَشَرِه شيئًا»

(2)

.

واختلف العلماء في حكم الأُضحيةِ على قولين:

القول الأول: أنها سُنة مؤكَّدة، وليست بواجبةٍ.

وبهذا قال الشافعي

(3)

، وأحمد

(4)

-رحمهما الله-، وهو المشهور عند المالكية

(5)

، وهو قول للحنفية

(6)

، وبه قال أكثرُ أهل العلم، قال ابن قُدامة

(7)

: «أكثرُ أهل العلم يَرَون الأُضحيَّةَ سنةً مؤكدةً، غير واجبة، رُوي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وبلال، وأبي مسعود البدري رضي الله عنهم، وبه قال سُويد بن غَفَلة، وسعيد بن المسيَّب، وعلقمة، والأسود، وعطاءٌ، والشافعي، وإسحاق، وأبو ثَور، وابن المنذر» .

واستدلوا على أنها سُنة مؤكدة بكونه صلى الله عليه وسلم كان يضحي؛ كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة.

كما استدلوا بفعل الصحابة رضي الله عنهم، فقد كانوا يضحون في حياته صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته.

كما استدلوا على عدم وجوبها بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة رضي الله عنها: «وأراد أن يضحي» فتفويض الأمر إلى الإرادة دليل على عدم الوجوب، وهذا ظاهر.

(1)

أخرجه البخاري في الحج (1712)، ومسلم في الأضاحي (1966)، وأبو داود في الأضاحي (2793)، والنسائي في الضحايا (4387)، والترمذي في الأضاحي (1494)، وابن ماجه في الأضاحي (3120) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

أخرجه مسلم في الأضاحي (1977)، وأبو داود في الضحايا (2791)، والنسائي في الضحايا (4361)، والترمذي في الأضاحي (1523)، وابن ماجه في الأضاحي (3149)، وأحمد 6/ 311 (26654).

(3)

انظر: «المجموع» 8/ 382.

(4)

انظر: «كشاف القناع» 3/ 4، 18/ 36.

(5)

انظر: «الكافي» لابن عبد البر 1/ 418، و «مواهب الجليل» 4/ 362.

(6)

انظر: «فتح القدير» لابن الهمام 9/ 506.

(7)

في: «المغني» 13/ 360.

ص: 579

واستدلوا أيضًا على عدم الوجوب بأن أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما لا يضحيان؛ كراهية أن يُقتدى بهما

(1)

.

قال ابن باز رحمه الله: «حكم الأضحية سنة مع اليسار، وليست بواجبةٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضحي بكبشين أملحين، وكان الصحابة يضحون في حياته صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته، وهكذا كان المسلمون بعدهم، ولم يرِد في الأدلة الشرعية ما يدل على وجوبها، والقول بالوجوب قول ضعيف»

(2)

.

القول الثاني: أنها واجبة.

وبهذا قال أبو حنيفة

(3)

، ومالك

(4)

-رحمهما الله-، وهو رواية عن أحمد رحمه الله

(5)

، وهو قول ربيعة، والليث، والنووي، والأوزاعي

(6)

، رحمهم الله.

ومن أظهر ما استدلوا به قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].

قالوا: المراد بالآية صلاة العيد، ونحر الأضحية.

وقد تقدم بيان أن أكثر أهل العلم على أن الآية عامة في الصلاة، وفي الذبح، وليس المراد بها صلاة العيد، ونحر الأُضحية.

كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث: «من ذبح قبل الصلاة فلْيذبح شاةً مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم الله»

(7)

.

قالوا: لو لم تكن الأضحية واجبةً؛ لما أمر من ذبح قبل الصلاة بذبح شاة مكانها.

(1)

انظر: «معرفة السنن» للبيهقي 14/ 16، و «السنن الكبرى» 9/ 444، و «المجموع» للنووي 8/ 383، و «مجمع الزوائد» 4/ 18.

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» لابن باز رحمه الله 18/ 36.

(3)

انظر: «بدائع الصنائع» 5/ 62، و «تبيين الحقائق» 6/ 2.

(4)

انظر: «الكافي في فقه أهل المدينة» 1/ 418.

(5)

انظر: «المبدع في شرح المقنع» 3/ 270.

(6)

انظر: «المغني» 13/ 360.

(7)

أخرجه البخاري في العيدين (985)، ومسلم في الأضاحي (1960)، والنسائي في الضحايا (4368)، وأحمد 4/ 312 (18798) من حديث جندب بن سفيان رضي الله عنه.

ص: 580

وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية

(1)

، والشيخ محمد بن صالح العثيمين

(2)

-رحمهما الله-.

وبِناءً على هذا الاختلاف في حكم الأضحية، فالأَولى: عدم تركها لمن كان ذا سعة، أما من لم يكن ذا سعة، فلا ينبغي أن يشق على نفسه، فقد ضحى النبي صلى الله عليه وسلم عمن لم يضحِّ من أمته صلوات الله تعالى وسلامه عليه.

هذه الأعمال الخمسة: التكبير، والحج، وصيام عرفة، وصلاة العيد، والأضحية تتأكد مشروعيتها في هذه الأيام العشر.

وينبغي للمسلم فيها- بعد المحافظة على الفرائض والواجبات، وترك المنهيات- الإكثار من الأعمال الصالحة؛ من النوافل، من الصلاة والصدقة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والصيام، والذكر، وقراءة القرآن، والدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإصلاح بين الناس، وغير ذلك من أعمال البر والخير.

وأفضل الأعمال بعد الأعمال الخمسة التي تتأكد في هذه الأيام العشر: ما كان متعديًا نفعه إلى الآخرين؛ كالدعوة إلى الله تعالى، وتعليم القرآن الكريم والعلم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، والصدقة، وصلة الأرحام، والإصلاح بين الناس، وغير ذلك من الأعمال التي يتعدى نفعها إلى المسلمين، التي هي أفضل من الأعمال التي لا يتعدى نفعها؛ مثل: الصيام والقيام ونحو ذلك.

والموَفَّقُ من جمع بين هذا وهذا.

وإذا كان الإنسان إذا صام لا يستطيع القيام بهذه الأعمال بسبب النوم أو غير ذلك، فالأولى ألا يصوم ويتفرغ لهذه الأعمال؛ فهي أفضل وأجل وأعظم.

ومثل هذا يقال للمرأة التي تصوم وتقصر في خدمة زوجها وأولاده، بسبب النوم أو غير ذلك، فقيامها بخدمة زوجها وأولاده أولى لها، وأفضل من الصوم، بل أحق وأوجب.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية 23/ 162.

(2)

انظر: «الشرح الممتع» 7/ 479.

ص: 581

وقد كانت عائشة رضي الله عنها يكون عليها الصوم من رمضان فلا تقضي إلا في شعبان؛ مراعاة للنبي صلى الله عليه وسلم، كما قالت رضي الله عنها

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في الصوم (1950)، ومسلم في الصيام (1146)، وأبو داود في الصوم (2399)، والنسائي في الصيام (2319)، والترمذي في الصوم (783)، وابن ماجه (1669)، وأحمد 6/ 124 (24928).

ص: 582

‌وقفة في: التيمن

قال الله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)} [البلد: 18]

‌أ- معنى التيمن:

قال ابن منظور

(1)

: «التيمن: الابتداء في الأفعال باليد اليمنى، والرجل اليمنى، والجانب الأيمن» .

وعلى هذا فالتيمن والتيامن: الابتداء بعمل الأشياء كلها ومباشرتها باليمين.

‌ب- فضل اليمين، ومشروعية التيمن وفضله:

قدم الله عز وجل في القرآن الكريم ذكر اليمين على الشمال، وأثنى على أصحاب اليمين وامتدحهم، وبين عِظم ما أعده لهم من الثواب، والأجر العظيم، فقال تعالى:{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} الآيات [الواقعة: 27 - 40].

وقال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 36 - 38]، وقال تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 38 - 42].

وقال تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء: 71]، وقال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 19، 20]، وقال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 7 - 9]، وقال تعالى:{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}

(1)

في «اللسان» مادة «يمن» .

ص: 583

[البلد: 17 - 20].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعُّله، وترجُّله، وطهوره، وفي شأنه كله»

(1)

.

وعنها رضي الله عنها قالت: «كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه، وكانت يده اليسرى لخلائه، وما كان من أذًى»

(2)

.

وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما استطاعَ

(3)

.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال، لتكن اليمين أولَهما تُنعل، وآخِرَهما تُنزع»

(4)

.

وعن عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه قال: كنت في حَجْر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا غُلام، سمِّ الله، وكلْ بيمينك، وكل مما يليك» فما زالتْ تلك طعمتي بعدُ

(5)

.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل بدأ بيمينه، فصب عليها الماء فغسلها، ثم صب الماء على الأذى الذي به بيمينه، وغسل عنه بشماله، حتى إذا فرغ من ذلك، صب على رأسه»

(6)

.

وعنها رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة بدأ بشِق رأسه

(1)

أخرجه البخاري في الوضوء (168)، ومسلم في الطهارة (268)، وأبو داود في اللباس (4140)، والنسائي في الغسل والتيمم (421)، والترمذي في الطهارة (608)، وابن ماجه في الطهارة (401).

(2)

أخرجه أبو داود في الطهارة (33). وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (26).

(3)

أخرجه البخاري في الصلاة (426)، وأبو داود في اللباس (4140)، والنسائي في الغسل والتيمم (421).

(4)

أخرجه مالك في اللباس (2/ 916)، والبخاري في اللباس (5517)، وأبو داود في اللباس (4139)، والترمذي في اللباس (1779).

(5)

أخرجه البخاري في الأطعمة (5376)، ومسلم في الأشربة (2022)، وأبو داود في الأطعمة (3777)، والترمذي في الأطعمة (1857)، وابن ماجه في الأطعمة (3267).

(6)

أخرجه مسلم في الحيض (321)، والنسائي في الطهارة (243).

ص: 584

الأيمن»

(1)

.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرَب بيمينه؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله»

(2)

.

وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، أن رجلًا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال له:«كل بيمينك» ، قال: لا أستطيع، قال:«لا استطعتَ» ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه

(3)

.

وعن أم عطية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهن في تغسيل ابنته زينب رضي الله عنها: «ابدأنَ بمَيامنها ومواضع الوضوء منها»

(4)

.

وفي حديث أنس رضي الله عنه في حجة الوداع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحلاق: «خذ» وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر

(5)

.

وفي حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بقَدَح، فشرِب منه، وعن يمينه غلام أصغر القوم، والأشياخ عن يساره، فقال:«يا غلام، أتأذَن لي أن أعطيه الأشياخ؟» قال: ما كنت لأُوثِرَ بفضلي منك أحد يا رسول الله، فأعطاه إياه

(6)

.

وعن أنس رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم أُتي بلبن، وعن يمينه أعرابي، وعن يساره أبو بكر الصديق، فشرب ثم أعطى الأعرابي، وقال:«الأيمنَ فالأيمنَ»

(7)

.

(1)

أخرجه البخاري في الغسل (258)، ومسلم في الحيض (318)، وأبو داود في الطهارة (240)، والنسائي في الغسل والتيمم (224).

(2)

أخرجه مالك في صفة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 922)، ومسلم في الأشربة (2020)، وأبو داود في الأطعمة (3776)، والترمذي في الأطعمة (1800).

(3)

أخرجه مسلم في الأشربة (2021)، وأحمد 4/ 45 (16493).

(4)

أخرجه البخاري في الوضوء (167)، ومسلم في الجنائز (939)، وأبو داود في الجنائز (3145)، والنسائي في الجنائز (1884)، والترمذي في الجنائز (990)، وابن ماجه في الجنائز (1459).

(5)

أخرجه مسلم في الحج (1305)، والبيهقي (5/ 103).

(6)

أخرجه البخاري في المساقاة (2351)، ومسلم في الأشربة (2030).

(7)

أخرجه مالك في صفة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 926)، والبخاري في المساقاة (2352)، ومسلم في الأشربة (2029)، وأبو داود في الأشربة (3726)، والترمذي في الأشربة (1893)، وابن ماجه في الأشربة (3425).

ص: 585

وفي حديث عائشة: «إن الله وملائكته يصلون على مَيامِن الصفوف»

(1)

.

وفي حديث السبعة الذين يُظِلُّهم الله في ظله: «ورجل تصدق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم شمالُه ما تُنفِق يمينُه»

(2)

.

وشُرع للمؤذن الالتفات في الحيعلتينِ؛ الأُولى إلى اليمين

(3)

.

وكل هذه النصوص من الكتاب والسنة تدل على فضل اليمين على الشمال، كما تدل على مشروعية التيمن وفضله في شأن المسلم كله.

‌ج- حكم التيمن:

ذهب أكثر أهل العلم إلى أن التيمن سنة مؤكدة، فيُكره تركه، وقيل: إنه واجب.

والصحيح أن التيمن من حيث العمومُ سنة مؤكدة، يُكره تركه؛ لما في ذلك من تفويت السنة، وفوات الأجر.

لكن يُخص من ذلك الأكل والشرب، فالتيمن فيهما واجب؛ لما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أكل أحدُكم فليأكلْ بيمينه، وإذا شرِب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله»

(4)

.

وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلًا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله. فقال له: «كلْ بيمينِك» . قال: لا أستطيع، قال:«لا استطعتَ» ما منعه إلا الكبر، قال: فما

(1)

أخرجه أبو داود في الصلاة (676)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1005) من حديث عائشة رضي الله عنها. وحسَّن الألباني إسناده في «صحيح أبي داود» (680).

(2)

أخرجه مالك في الشعر (2/ 952)، والبخاري في الأذان (660)، ومسلم في الزكاة (1031)، والنسائي في آداب القضاة (5380)، والترمذي في الزهد (2391) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

أخرج البخاري في الأذان (634)، ومسلم في الصلاة (503)، والنسائي في الزينة (5378)، والترمذي في الصلاة (197) من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه قال:«أذن بلال، فجعلت أتتبع فاه هاهنا وهاهنا، يقول يمينًا وشمالًا، يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح» .

(4)

سبق تخريجه قريبًا.

ص: 586

رفعها إلى فيه

(1)

.

فالأمر في قوله: «فليأكل بيمينه» وفي قوله: «فلْيشرب بيمينه» للوجوب، ويؤكد ذلك قوله بعده:«فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله» ؛ لأن كل ما كان من عمل الشيطان يجب اجتنابه.

والأمر في حديث سلمة رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: «كل بيمينك» أيضًا للوجوب، ويؤكد على هذا ويؤيده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليه بقوله:«لا استطعتَ» ، فلو كان الأكل باليمين مستحبًّا غير واجب، لما دعا عليه بقوله:«لا استطعت» .

وفي حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال له: «وكُلْ بيمينك»

(2)

.

أقول: ليت قومي يعلمون، وليت كثيرًا من المسلمين الذين يتهاونون في الأكل والشرب بالشمال، فيقعون في المحظور، ويفوت عليهم كثير من الأجور، ليتهم يتأملون هذا ويعرفونه جيدًا!

‌د- المواضع التي يُشرع فيها التيمن:

أولًا: ما يجب فيه التيمن، وهو الأكل والشرب:

يجب التيمن في الأكل والشرب، كما سبق بيانه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالتيمن فيهما، والأمر في الأصل للوجوب، ولأنه صلى الله عليه وسلم بين أن الشيطان يأكل ويشرب بشماله، فالواجب مخالفة الشيطان، ولأنه صلى الله عليه وسلم دعا على الذي أبى أن يأكل بيمينه تكبرًا، وقال:«لا أستطيع» . فقال صلى الله عليه وسلم: «لا استطعتَ» ، فشَلَّت يدُهُ فما رفعها إلى فيه. ولو كان الأكل باليمين غير واجب لما دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

فمن أكل أو شرب بشماله فقد ترك أمرًا واجبًا، وخالف سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتشبه بالشيطان، واتبعه بفعله، وهذا أمر محرَّم لا يجوز.

وشتَّان بين من اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع سنته، وبين من آثر الهوى، واتبع

(1)

سبق تخريجه قريبًا.

(2)

سبق تخريجه قريبًا.

ص: 587

الشيطان، وعمل عمله، فمن أكل وشرب بيمينه اجتمع له طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحصول الأجر، والسلامة من التشبه بالشيطان وحصول الوزر، ومن أكل وشرب بشماله اجتمع فيه معصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وفوات الأجر، والتشبه بالشيطان، وحصول الوزر.

ومن المؤسف أن ترى كثيرًا من المسلمين، وخاصة الشباب، يشرب أكثرهم بشماله، وهذا مما يوجب على الوالدين والمعلمين والمربين وخطباء الجمعة، وغيرهم من أهل العلم توجيه الناس، وإرشادهم في هذا؛ لأنه إذا كان هناك من يفعل ذلك تكبرًا- وذلك أشد تحريمًا- فإن أكثر الناس يجهل خطورة الأمر، فيقع في المحذور من حيث لا يدري، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

ثانيًا: ما يُستحب فيه التيمن:

يستحب للمسلم التيمن في شأنه كله، من باب التشريف والتكريم، ومن ذلك:

1 الوضوء؛ لقول عائشة رضي الله عنها: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وفي طهوره، وفي شأنه كله» ، فيقدم في الوضوء غسل اليد اليمنى على اليد اليسرى، وغسل الرجل اليمنى على الرجل اليسرى.

2 الغُسل، فيقدم الشق الأيمن من البدن على الشق الأيسر.

3 عند لُبس النعلين، فيقدم في لبس النعل الرجل اليمنى على الرجل اليسرى.

4 في ترجيل شعر الرأس، والوجه، وتسريحه ودُهنه، فيقدم الشق الأيمن من الرأس والوجه على الشق الأيسر.

5 في تناول المصحف، وحمله، ومباشرته، وتقليب صفحاته.

6 عند دخول المسجد، فيقدم فيه الرجل اليمنى. قال أنس بن مالك رضي الله عنه:«من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى»

(1)

.

(1)

أخرجه الحاكم (1/ 218)، والبيهقي (2/ 442). قال الحاكم:«صحيح على شرط مسلم» . ووافقه الذهبى. وصححه الألباني في «الصحيحة» (2478).

ص: 588

7 في صلاة الجماعة، فالأفضل أن يكون عن يمين الإمام.

8 في المصافحة.

9 في استلام الحجر الأسود، والركن اليماني.

10 عند دخول المنزل، فيقدم فيه الرجل اليمنى.

11 في الالتفات في الحيعلتين، يلتفت المؤذن أولًا إلى اليمين.

12 في لُبس الثياب والسراويل.

13 عند الاكتحال يبدأ بالعين اليمنى.

14 في حلق الرأس، وقص الشارب، ونتف الإِبْط، وتقليم الأظفار، يبدأ باليمين منها.

15 عند أخذ الأشياء ومناولتها، يأخذها باليمين، ويناولها باليمين.

16 عند النوم، ينام على شقه الأيمن، كما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان ينام على شقه الأيمن

(1)

.

17 أن يعطي الإنسان الإناء عند شربه من يجلس عن يمينه، ولو كان الجالس عن يساره أعلى وأكبر منزلة.

18 عند الخروج من الخلاء، ودورات المياه، ونحو ذلك.

إلى غير ذلك من المواضع التي يُستحب فيها تقديم اليمين على الشمال تكريمًا وتشريفًا.

‌هـ- المواضع التي يُستحب فيها التياسر:

كل ما كان من المواضع والأشياء غير المستحسنة، فالأولى تقديم اليسار فيها.

(1)

أخرجه مالك في صلاة الليل (1/ 120)، والبخاري في الأذان (626)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (736)، وأبو داود في قيام الليل (1335)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1696)، والترمذي في الصلاة (440) من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 589

قال النووي في «شرح مسلم»

(1)

: «قاعدة الشرع المستمرة أن ما كان من باب التكريم والتزيين، استُحب فيه التيمن، وما كان بضدها استحب فيها التياسر» .

ومما يستحب فيه التياسر ما يلي:

1 خلع النعلين ونحوهما، قال صلى الله عليه وسلم:«وإذا نزع فليبدأ بالشمال»

(2)

.

2 دخول الخلاء، ودورات المياه، فيقدم الرجل اليسرى.

3 الخروج من المسجد أو من المنزل.

4 الاستنجاء، عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول، ولا يتمسح من الخلاء بيمينه»

(3)

.

وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «وكانت يده صلى الله عليه وسلم اليسرى لخلائه، وما كان من أذى»

(4)

.

5 الامتخاط، وتنظيف الأنف، والاستنثار؛ فعن علي رضي الله عنه أنه كان إذا استنشق نثر بيده اليسرى. وقال:«هذا طهور نبي الله صلى الله عليه وسلم»

(5)

.

6 خلع الثياب والسراويل ونحو ذلك.

إلى غير ذلك من المواضع التي يُستحب فيها تقديم اليسار تنزيهًا لليمين عنها.

(1)

/ 160، وانظر:«شرح العمدة» لابن تيمية 1/ 139.

(2)

سبق تخريجه قريبًا.

(3)

أخرجه البخاري في الوضوء (153، 154)، ومسلم في الطهارة (267)، وأبو داود في الطهارة (31)، والنسائي في الطهارة (24، 25، 47، 48)، والترمذي في الطهارة (15)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (310).

(4)

سبق تخريجه قريبًا.

(5)

أخرجه النسائي في الطهارة (91)، وأحمد 1/ 135 (1133)، وابن حبان 3/ 360، 361 (1079). وصححه الألباني في «التعليقات الحسان» (1076).

ص: 590

‌وقفة تأمل في: معاني سورة العصر

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}

أخي المسلم: قف عند كل آية من آيات هذه السورة العظيمة بل عند كل كلمة منها، بل عند كل حرف وتأمل فيها.

تأمل وتفكر، لماذا أقسم المولى عز وجل بالعصر؟ وماهية العصر؟ وما حقيقة الخسارة؟ وما حقيقة الربح؟

واعلم أن الله عز وجل أقسم بالعصر تنبيهًا وتذكيرًا وإشارة ودلالة على أهمية العصر وعظيم قيمته ووجوب حفظه، والعصر هو الزمن، وهو عمر الإنسان، الذي لا يقدر بثمن عند من عرف أن الأمر جد، ليس بالهزل، كما قال تعالى:{أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، وكما قيل:

قد رشحوك لأمر لو فطنت له

فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل

(1)

وقال الآخر:

الأمر جد وهو غير مزاح

فاعمل لنفسك صالحًا يا صاح

(2)

وعند من عرف قدر الحياة، وأنها ميدان التنافس والتسابق والمسارعة للأعمال الصالحة التي فيها السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة، كما قال عز وجل:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ

(1)

البيت للطغرائي، انظر:«شرح لامية العجم» ص 124.

(2)

البيت لنشوان الحميري، انظر:«ملوك حمير وأقيال اليمن» ص 1.

ص: 591

مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21].

وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10، 11]، وقال تعالى:{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].

ونعمت المسابقة والمسارعة والمنافسة والله المستعان. وقد أحسن القائل:

ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه

فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرَا

فلم يتأخر من أراد تقدمًا

ولم يتقدم من أراد تأخرَا

(1)

أخي في الله لا يغرك ما عليه كثير من الناس من المنافسة على أمور الدنيا الفانية، والزهد فيما دعاهم الله إليه من المنافسة والمسارعة والمسابقة فيما فيه سعادة الدارين من الأعمال الصالحة، وتأمل قول الله عز وجل:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقوله تعالى:{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقوله تعالى:{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وقوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24].

قال بعض السلف: «لا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين، ولا تستوحش من الحق لقلة السالكين»

(2)

.

فخذ أخي في الله نفسك بالجد والمنافسة والمسابقة والمسارعة في الخير، ولا تنس نصيبك من الدنيا، واعلم أن الغبطة حقًّا في العمل الصالح، الذي هو صمام الأمان وسر السعادة في الدنيا والآخرة، فاجعل منافستك في ذلك.

قال بعض السلف: «إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا، فنافسه في الآخرة»

(3)

.

(1)

هذان البيتان لابن هانئ، انظر:«ديوانه» ص 140.

(2)

انظر: «مدارج السالكين» (1/ 46)، وقد ذُكر نحو من هذا عن الفضيل بن عياض رحمه الله. انظر:«الأذكار» للنووي ص (196)، و «الآداب الشرعية» (1/ 263)، وذكر نحوه عن سفيان بن عيينة. انظر:«الزهد الكبير» للبيهقي ص 131 (238 - 239).

(3)

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» 19/ 369 (36351)، وأحمد في «الزهد» (1224)، وابن أبي الدنيا في «الزهد» (553)، وفي «ذم الدنيا» (465) عن الحسن.

ص: 592

كن سباقًا إلى المساجد، وإلى أداء الواجبات؛ من حقوق الله وحقوق الخلق، كن ورعًا مبتعدًا عن محارم الله. وإذا رأيت من ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة.

واعلم وفقك الله أن الغبن في هذا ليس باليسير، بل لا يكاد يوصف، وفرق ما بين الثرى والثريا، وكما قيل:

سوف ترى إذا انجلى الغبار

أفرسٌ تحتك أم حمارُ

(1)

واعلم أن الخسارة في هذا لا تشبهها خسارة، فالخسارة الكبرى والمصيبة العظمى، والكسر الذي لا يمكن جبره أن يصاب الإنسان في دينه فيخسر دنياه وآخرته ونفسه وأهله وولده وماله وكل شيء، كما قال عز وجل:{قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15].

واعلم أن الربح في هذا لا يقدر ولا يحد، بل هو سعادة الدنيا والآخرة، نسأل الله تعالى من فضله التوفيق للإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. فهذا غاية الربح، وهذا تمام النعمة الذي عناه الله عز وجل بقوله تعالى:{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150]، وبقوله تعالى:{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3].

وهو طريق الذين أنعم الله عليهم النعمة الحقيقية، كما قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69، 70].

وهو الهداية المنشودة لعباد الله بقولهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6، 7].

فقف أخي- بارك الله فيك- على مفترق هذين الطريقين وتأمل ببصيرة وحضور قلب، وقارن وقلّب الفكر والنظر عسى أن يظهر لك ويتبين البون الشاسع والفرق الواسع فتجتنب طريق أهل الخسران، وتلزم طريق أهل الربح والسعادة والإنعام وما أراك تعدل به طريقًا. وفقك الله.

(1)

انظر: «الأمثال المولدة» ص 324، و «مجمع الأمثال» 1/ 344.

ص: 593

واعلم- أخي الكريم- أن الربح والسعادة مطلب لكل أحد، فكل يسعى بحثًا عن ذلك، لكن المؤسف حقًّا: كم هم الذين عرفوا طريق السعادة حقًّا؟

سؤال يطرح نفسه، وجوابه باختصار:

أن السواد الأعظم من الناس جهلوا طريق السعادة، بل طلبوها في غير مظانها فصدق فيهم قول الشاعر:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها

إن السفينة لا تجري على اليبس

(1)

ففئام من الناس حسبوا الربح والسعادة بالسعي لتحقيق شهوات النفس، وإرخاء العنان لها في ذلك، ولو كان بما حرم الله، كالفجور وشرب الخمور والغناء والمجون ونحو ذلك، وأين لهؤلاء الربح والسعادة، وقد طلبوهما بما يحقق الخسران والشقاوة؟!

وفئام من الناس حسبوا الربح والسعادة في الانهماك بالمباحات فهم يلهثون وراء جمع المال، وتنويع المآكل والمشارب، واختيار الملابس الأنيقة، والفرش الوثيرة، والمساكن المزخرفة، والمراكب الفاخرة والموضات والموديلات والمخترعات والأسفار والتنقلات بين الدول والبلدان بحثًا عن الأجواء اللطيفة المعتدلة، والحدائق الغناء والمناظر الجميلة والآثار القديمة والملاعب والملاهي، وهؤلاء أيضًا أخطؤوا طريق السعادة وحرموا منها، فلم يذوقوا لها طعما.

وأقول لأولئك وهؤلاء ولنفسي ولكل من يطلب الربح والسعادة حقًّا: أبى الله أن يكون الربح والسعادة إلا بالإيمان والعمل الصالح تحت مظلة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 4].

قال بعض السلف: «مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا ألذَّ ما فيها!» ، قيل: وما ألذّ ما فيها؟ قال: معرفة الله والأنس به»

(2)

.

(1)

البيت لأبي العتاهية وهو في ديوانه ص 194.

(2)

أخرج أبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 167) نحوه عن ابن المبارك، وانظر:«الداء والدواء» (1/ 186)، و «إغاثة اللهفان» (1/ 119) لابن القيم.

ص: 594

نعم والله إننا مساكين، فما أكثر الذين خرجوا ويخرجون من الدنيا وما ذاقوا

هذه اللذة!

وقال الحسن رحمه الله: «تفقدوا حلاوة الإيمان في ثلاث: في الصلاة، وذكر الله، وقراءة القرآن، فإن لم تجدوها فاعلموا أن الباب مغلق»

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله

(2)

: «إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة» .

فليت شعري من ذاق منا تلك اللذّة، لذة الإيمان، ومن دخل منا تلك الجنة جنة التنعم بتلقي أوامر الديان وخدمته، والتلذذ بمناجاته وعبادته، والتوكل عليه، فهذا غاية الربح ومنتهى السعادة، نسأل الله الكريم من فضله.

فَتَذَوَّق أخي لذة الإيمان، وتنعم بجنة الدنيا بالانقياد للملك الديان وأسلم وجهك له، وسلِّم أمرك إليه، كما قال عز وجل:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، فإن أخذت بهذا، فأبشر فأنت ولدت الآن!

هنا تجد في نفسك محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة الخير وأهله، ومحبة المسارعة لأداء الواجبات من حقوق الله وحقوق الخلق، وأعمال البر كلها، والورع عن المحرمات.

هنا تجد في الله تعالى عوضًا عن كل ما فاتك من الدنيا، ولا تأس على شيء منها، وإنما تحزن على فوات نصيبك من ربك.

هنا تجد قلبك معلقًا بالمساجد، تجد أحلى صوت تسمعه: الله أكبر.

هنا تجد أسعد اللحظات في عمرك وقوفك مصليًا تناجي ملك الملوك، أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، المولى العزيز الرحيم.

هنا تجد القناعة في نفسك، تجدك لا تشعر بالفراغ النفسي لامتلاء قلبك بحب الله وما

(1)

أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (10/ 146)، و «شعب الإيمان» 9/ 385 (6834)، و «الرسالة القشيرية» 2/ 378، و «مدارج السالكين» (2/ 369).

(2)

انظر: «الوابل الصيب» 1/ 69.

ص: 595

يقربك إليه.

إن طلب الناس السعادة في المساكن والمراكب والمنتزهات وأنواع الشهوات والملذات، فاطلبها أنت في مناجاة الله، وتدبرِ كلامه والقيامِ بطاعته وأمره، وهذا قمة السعادة.

هنا تجد الأمن، تجد الطمأنينة، تجد الرضا بما قسم الله لك، تجد البركة في العمر ولو كان قصيرًا، تجد البركة في الرزق وإن كان مضيقًا، تجد تيسير الله لأمورك، وتسخيره الخلق لك، بلا درهم منك لهم ولا دينار، وصدق الله العظيم حيث قال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3].

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «من أراد السعادة الأبدية، فليزم عتبة العبودية»

(1)

.

وختامًا: فإن من لم يجد السعادة بتلقي أوامر الله وتنفيذها، والحذر من نواهيه والبعد عنها وإسلام الوجه لله، وتسليم الأمر له والتوكل عليه فلن يجد للسعادة طعمًا ولو حيزت له الدنيا بحذافيرها.

(1)

انظر: «مدارج السالكين» 1/ 429.

ص: 596

‌وقفة في: الاستعداد للقاء الله تعالى

الاستعداد للقاء الله عز وجل يكون بأمور عدة؛ من أهمها ما يأتي:

‌الأمر الأول: تقوى الله عز وجل؛ بفعل أوامره واجتناب نواهيه:

وهي رأس الأمر كله، ومن أعظم ما يعين على ذلك ما يأتي:

أولًا: التفكر في عظمة الله عز وجل، وما له من صفات الكمال والجلال، مما جاء في الكتاب والسنة، ودلت عليه الآيات الكونية، قال عز وجل:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67].

ثانيًا: التفكر في نعم الله عز وجل على العباد، التي لا تحصى، وثمرة شكرها وآثار كفرها، كما قال عز وجل:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34، والنحل: 18]، وقال عز وجل:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وقال عز وجل:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

ثالثًا: التفكر في حقارة الدنيا، ودنو منزلتها، وكيف وصفها الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد: 20]، وقال تعالى:{وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ} [العنكبوت: 64]، وقال تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185، والحديد: 20]، وقال تعالى:{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [الرعد: 26]، وقال تعالى:{فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38].

وقال صلى الله عليه وسلم: «لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شربة ماء»

(1)

.

(1)

أخرجه الترمذي في الزهد (2320)، وابن ماجه في الزهد (4110). وقال الترمذي:«حديث صحيح غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (686، 943).

ص: 597

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير، فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاءً، فقال:«ما لي وما للدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها»

(1)

.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال:«كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» ، وكان ابن عمر يقول:«إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك»

(2)

.

ويا لله! ما مدى بركة عمر من وفقه الله لهذا التصور، ثم أعطاه من العمر ما أعطاه!

ويا لله! ما أقل بركة عمر معمر غاب عنه هذا التصور، وعاش غافلًا لاهيًا حتى فاجأه الأجل!

ولقد أحسن القائل

(3)

:

فما نحن في دار المنى غير أننا

شغفنا بدنيا تضمحل وتذهب

فحثوا مطايا الارتحال وشمروا

إلى الله والدار التي ليس تخرب

رابعًا: التفكر في عظمة الآخرة وعلو مكانتها ورفعة منزلتها، وأنها دار القرار ودار الحياة الحقيقية، إما نعيم أبدي، نسأل الله من فضله، أو عذاب سرمدي، نسأل الله السلامة، كما قال عز وجل:{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

خامسًا: أن يتفكر الإنسان في ضعفه، فهو من أضعف المخلوقات، إن لم يكن أضعفها، وعمره بالنسبة لأعمار من سبق من الأمم لا يساوي شيئًا. قال صلى الله عليه وسلم:«أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك»

(4)

.

(1)

أخرجه الترمذي في الزهد (2377)، وابن ماجه في الزهد- مثل الدنيا (4109) - وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح» .

(2)

أخرجه البخاري في الرقاق (6416)، والترمذي في الزهد (2333).

(3)

البيتان للشاعر ابن عثيمين. انظر: «ديوانه» ص 498.

(4)

أخرجه الترمذي في الدعوات (3550)، وابن ماجه في الزهد (4236) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي:«حسن غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (757).

ص: 598

فيستمد قوته من القوي المتين سبحانه، ويستمد بركة العمر من الحي القيوم الذي لا يموت.

سادسًا: أن يكون فراق هذه الدنيا والرحيل منها دائمًا منه على بال، وأن يكثر من ذكر هاذم اللذات «الموت»؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:«أكثروا من ذكر هاذم اللذات»

(1)

.

فمن وفقه الله عز وجل للتفكر في هذه الأشياء كان ذلك- بإذن الله عز وجل من أكبر العون له على تقوى الله.

فمن عظم الله عز وجل وقدره دعاه ذلك إلى الفرار إليه واللجوء إليه ومحبته وخوفه ورجائه، ومن تفكر في نعمه عز وجل على العباد دعاه ذلك إلى شكره، ومن تفكر في حقارة الدنيا دعاه ذلك إلى عدم الاغترار بها، ومن تفكر في عظمة الآخرة دعاه ذلك إلى الإقبال عليها والتزود لها، ومن تفكر في ضعفه دعاه ذلك إلى استمداد القوة من القوي المتين، ومن تفكر في قصر عمره دعاه ذلك إلى الحرص على استغلاله بالخير والعمل الصالح، ومن تذكر الموت والرحيل من هذه الدار دعاه ذلك إلى المبادرة بالعمل الصالح أيام الحياة، والاستعداد للدار الآخرة.

‌الأمر الثاني: مما يستعد به للقاء الله والدار الآخرة:

أداء ما عليه من حقوق لله تعالى، أو للخلق، والخروج منها كلها وبخاصة حقوق الخلق؛ من الدماء والأعراض والأموال وغير ذلك، فإن حقوق الخلق مبنية على المشاحة، فأمك وأبوك وولدك كل منهم سيطالبك بحقه إن كان له حق عندك:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37].

بل إن العاقل اللبيب ليحرص كل الحرص على عدم تحمل أي حق للخلق من

(1)

أخرجه النسائي في الجنائز (1824)، والترمذي في الزهد (2307)، وابن ماجه في الزهد (4258) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وقال الترمذي:«حديث حسن غريب» . وأخرجه الترمذي أيضًا في صفة القيامة والرقائق والورع (2460) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه. وقال: «حديث حسن غريب» . وصححه الألباني في «الإرواء» (682).

ص: 599

الديون وغيرها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا؛ لأن الإنسان لا يدري متى يباغته الأجل، ونفس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضى عنه، كما جاء في الحديث

(1)

.

ومن صدق الثقة بموعود الله عز وجل وجزيل ثوابه أن يعفوَ الإنسان عما له من حقوق عند الآخرين، من دم أو عرض أو مال ونحو ذلك ما أمكنه ذلك، قال تعالى:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وقال تعالى:{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]، وقال تعالى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].

فاحرص أخي المسلم بارك الله فيك على أن تقدم على ربك وليس لأحد من الخلق عليك حق ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، وتأمل خطورة الأمر، وتذكر قول الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم لأصحابه:«أتدرون من المفلس؟» قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»

(2)

.

واحرص أخي المسلم على مسامحة إخوانك المسلمين والعفو عن هفواتهم، واعلم أنك كما تدين تدان، فإن كنت تحب أن يعفو الله عن ذنوبك وهفواتك فاعف عن الآخرين، وكن من الذين قال الله تعالى فيهم:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 143]. نسأل الله الكريم من فضله.

واحذر أن يكون في نفسك حقد أو عداوة أو ضغينة أو حسد لأحد من المسلمين،

(1)

أخرجه الترمذي في الجنائز (1078، 1079)، وابن ماجه في الأحكام (2413)، وأحمد 2/ 508 (10599) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في «مشكاة المصابيح» (2915)، «صحيح الجامع» (6779).

(2)

أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2581)، والترمذي في صفة القيامة (2418)، وأحمد 2/ 303 (8029) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 600

حتى وإن أساء إليك، واعلم أنه قل من يسلم من ذلك، واعلم أن هذا مركب صعب وعقبة كؤود، وصدق الله العظيم:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 34، 35].

واعلم أخي المسلم أنك لن تهدأ، ولن تنام قرير العين ولن تذوق طعم السعادة حتى تجعل العفو والتسامح ديدنك، وما إخالك ترضى بالدون، وأنت تجد ما هو أعظم وأوفى منه، فإن من كان شعاره العفو والتسامح فأجره على العفو الكريم، بلا حد ولا عد:{فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].

فعالج قلبك، والعاقبة للمتقين {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، عسى أن تلقى الله وقد تخلصت مما عليك من الحقوق فلا أحد يطالبك بشيء، وعفوت عما لك من الحقوق فيكافئك عن ذلك صاحب العفو والفضل والإحسان بكرمه وجوده، وما أراك تعدل بهذا شيئًا.

وتأمل وفقك الله مدى الفرق الشاسع والبون الواسع بين من يأتي غدًا يطلب حقوقه عند الآخرين من أقاربه وجيرانه وإخوانه وغيرهم فيقتطع له من أعمالهم بقدر حقه ولو كان مثقال ذرة، وبين من يقال له بلسان الحال أو المقال: أنت سامحت أصحاب الحقوق التي لك، والله عز وجل أولى منك بالمسامحة، فخذ ما شئت من الأجر والفضل بلا حد ولا عد، شتان بين هذا وهذا، وبين الثرى والثريا!

‌الأمر الثالث: مما ينبغي أن يستعد به للقاء الله تعالى:

كتابة وصيته، وما عليه من حقوق، قال تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في الوصايا (2738)، ومسلم في الوصية (1627)، وأبو داود في الوصايا (2862)، والنسائي في الوصايا (3615 - 3619)، والترمذي في الجنائز (974)، وابن ماجه في الوصايا (2699، 2702)، وأحمد 2/ 10 (4578).

ص: 601

والوصية واجبة بالاتفاق إذا كان الإنسان عليه أو له حقوق يجب بيانها وكتابتها، كأن يكون عليه دَين لله؛ من زكاة أو كفارة أو نذر أو غير ذلك، أو عليه ديون للناس، أو له عليهم ديون؛ ليؤدَّى ما عليه من حقوق من تركته، ولأن الحقوق التي له على الناس تعد من تركته.

وجمهور العلماء على أنها مستحبة إذا لم يكن عليه حقوق يجب بيانها فيستحب أن يوصي بشيء من ماله.

وذهب بعض أهل العلم: إلى أنها واجبة.

ومما ينبغي أن يعلم من أحكام الوصية أمران، وهما من الأهمية بمكان:

الأول: مقدارها:

اعلم أخي المسلم- بارك الله فيك- أن الوصية جائزة في الثلث وما دونه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «الثلث»

(1)

.

ويستحب أن تكون الوصية دون الثلث، لقوله صلى الله عليه وسلم لسعد:«والثلث كثير» .

والأفضل أن تكون بالخمس؛ كما اختار ذلك جمع من السلف؛ منهم: أبو بكر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، وغيرهم.

الأمر الثاني: مصرفها:

اعلم أخي- بارك الله فيك- أن الوصية ينبغي أن توجه للأفضل من أعمال البر، وأن تكون مطلقة في وجوه البر كلها يُقدّم الأهم فالأهم؛ كبناء المساجد، وتعليم القرآن الكريم والسنة المطهرة، ومساعدة الفقراء والمساكين، وحفر الآبار، وفتح الطرق، وبناء المستشفيات والمراكز لغسيل الكلى وعلاج الأورام وغيرها، ودور الرعاية الاجتماعية،

(1)

أخرجه مالك في الأمر بالوصية (2/ 763)، والبخاري في المغازي (4409)، ومسلم في الوصية (1628)، وأبو داود في الوصايا (2864)، والنسائي في الوصايا (3626)، والترمذي في الوصايا (2116)، وأحمد 1/ 168 (1440) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.

ص: 602

وغير ذلك من جهات البر مما يحتاجه المسلمون في مصالحهم العامة والخاصة.

وأن يجعل للموصي والناظر عليها تقديم الأولى والأحوج منها حسب الظروف والأحوال.

كما أن مما يستحب أن يوصي أهله ومن خلفه: بتقوى الله عز وجل، والصلاة، وحقوق من تحت أيديهم، فعن علي رضي الله عنه قال: كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة الصلاة، واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم»

(1)

.

وعن أنس رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه: «الصلاة، وما ملكت أيمانكم»

(2)

.

وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها: «فما زال يقولها حتى ما يفيض بها لسانه»

(3)

.

وعن عائشة رضي الله عنها: أنه صلى الله عليه وسلم أخذ يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول: «لا إله إلا الله، إن للموت سكرات»

(4)

، وعنها رضي الله عنها: أنه كان يقول: «اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى»

(5)

.

هذا، وقد استحب بعض أهل العلم أن يكتب في صدر الوصية ما رواه محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال: «كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به فلان، إنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا

(1)

أخرجه أبو داود في الأدب (5156)، وابن ماجه في الوصايا (2698)، وأحمد 1/ 78 (585). وصححه الألباني في «الصحيحة» (868)، و «الإرواء» (7/ 238).

(2)

أخرجه ابن ماجه أيضًا (2697)، وأحمد 3/ 117 (12169).

(3)

أخرجه ابن ماجه في الجنائز (1625)، وأحمد 6/ 290، 311 (26483، 26657)، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (868)، و «الإرواء» (7/ 238).

(4)

أخرجه البخاري في المغازي (4449)، وفي الرقاق (6510)، وأحمد 6/ 64 (24356).

(5)

أخرجه مالك في الجنائز (1/ 238)، والبخاري في المغازي (4440)، ومسلم في فضائل الصحابة (2444)، والترمذي في الدعوات (3496)، وابن ماجه في الجنائز (1619)، وأحمد 6/ 231 (25947).

ص: 603

عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الجنة حق، وأن النار حق {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج: 7]، وأوصى من تركه من أهله أن يتقوا الله، ويصلحوا ذات بينهم، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما أوصى إبراهيم بنيه ويعقوب:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]»

(1)

.

وأخيرًا، وعودًا على بدء أقول: إن من الاستعداد للقاء الله والدار الآخرة- مع ما سبق ذكره- أن يكون الإنسان كلما تقدم به العمر أكثر تنظيمًا لأحواله وتفرغًا لعبادة ربه، فإن الله عز وجل في هذه السورة العظيمة سورة النصر آذن رسوله صلى الله عليه وسلم بقرب وفاته، وبانتهاء مهمته في هذه الحياة، وأمره بالتوجه إلى الله والتفرغ لتسبيح الله وحمده واستغفاره، كما قال تعالى في سورة الانشراح:{فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الانشراح: 7، 8].

ولن يتيسر ذلك للإنسان إلا إذا اكتفى من التعلق بالدنيا بما تدعو الحاجة إليه، وهو نصيبه من الدنيا، كما قال تعالى:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].

وأنت- أخي المسلم- أحد رجلين: إما منعَّم موسع عليه في رزقه، وإما مبتلى مضيَّق عليه في ذلك، كما ذكر الله عز وجل

(2)

.

فإن كنت ممن ابتُلي بضيق الحال، وقلة ذات اليد، وتحتاج إلى الكد والعمل الساعات الطويلة للسعي في طلب الرزق، لإعفاف نفسك وأهل بيتك، مما لا تستطيع معه التفرغ للعبادة، فالزم أداء الفرائض واجتناب النواهي مع القيام بما قدرت عليه من النوافل، وأبشر بالخير فإنك مثاب مأجور على طلب الرزق لإعفاف نفسك بإذن الله عز وجل؛ فإن السعي لطلب الرزق من طاعة الله تعالى وعبادته. فإن الإنسان يؤجر حتى على ما يجعل

(1)

أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» 9/ 53 (16319)، وسعيد بن منصور في «سننه» 1/ 126 (326)، والدارقطني في «سننه» (4/ 154)، والبيهقي (6/ 287). وصححه الألباني في «الإرواء» (1647).

(2)

في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 15 - 16].

ص: 604

في في امرأته

(1)

.

وإن كنت ممن نعَّمه الله ووسع له في رزقه، فاحذر أن تبطرك النعمة وتلهيك الدنيا عن طاعة الله عز وجل، وفرغ نفسك بعض الوقت لعبادة ربك والاستزادة من نوافل العبادة، واحرص على ذلك كلما تقدم بك العمر، وخذ أكبر نصيب من ربك، واحفظ دينك، وقدم مالك وقاية لدينك، فإن كان لك أموال تشغلك إدارتها؛ من تجارة، أو زراعة، أو صناعة، أو غير ذلك فشجع أولادك على مساعدتك، بل وعلى النيابة عنك لتتفرغ لما هو أهم وهو عبادة ربك، ولا تبخل على أولادك في هذا ولو شاطرتهم بعض مالك، فالمال إن بخلت به عنهم شغلك عن طاعة الله حتى آخر لحظة من عمرك، ثم تركته وانتقل بعدك إليهم، بل لا تبخل بمالك على من تقيمه يدير أعمالك وإن لم يكن من أولادك ما دام أنه يكفيك إدارة تلك الأموال؛ لتتفرغ لعبادة ربك بقلب حاضر خاشع منيب.

واعلم أن الدنيا بما فيها لا قيمة لها إذا أضعت نصيبك من ربك.

وختامًا أقول: أخي المسلم، تذكر أن المفازة بعيدة، وأن السفر طويل، وأن العقبة كؤود، فأعدَّ للأمر عدته.

بكى أبو هريرة رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، ثم قال رضي الله عنه:«والله ما أبكي على دنياكم هذه، وإنما أبكي على طول سفري وقلة زادي»

(2)

.

وبكى بعض السلف عند وفاته، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: «أبكي إذا صلى المصلون ولست فيهم، وإذا صام الصائمون ولست فيهم، وإذا ذكر الذاكرون ولست فيهم»

(3)

.

(1)

كما في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «وإنك لن تنفق نفقه تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل فِي فِي امرأتك» وقد سبق تخريجه عند الحديث عن مقدار الوصية.

(2)

أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (2/ 38)، وأحمد في «الزهد» 1/ 284 (835)، وابن أبي الدنيا في «المحتضرين» (175، 278) وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/ 383).

(3)

أخرجه ابن أبي الدنيا في «المحتضرين» (192)، والبيهقي في «شعب الإيمان» 3/ 414 (3935) عن عبيد الله بن محمد التيمي قال: حدثني بعض أشياخنا: أن رجلا من علية هذه الأمة حضرته الوفاة

وانظر: «التبصرة» لابن الجوزي (1/ 214)، و «لطائف المعارف» لابن رجب ص (301).

ص: 605

وإن مما يثير العجب: أن الواحد منا إذا أراد سفرًا من الأسفار؛ كالسفر للحج أو العمرة أو غير ذلك، فإنه يعد للأمر عدته ويتجهز لذلك بإعداد الزاد والمزاد والراحلة واختيار الرفقة، ويتفقد السيارة ومحركاتها وعجلاتها ونحو ذلك.

بل إن بعض الناس إذا هم بسفر من الأسفار ظل طول ليله يدخل ويخرج، يرقب الصباح، ولم تذق عينه غمضًا اهتمامًا وتحفزًا لهذا السفر، فأين هذا السفر من السفر للقاء الله والدار الآخرة؟!

اللهم ألهمنا رشدنا ووفقنا للاستعداد لما أمامنا، ووفقنا للإخلاص والسداد في القول والعمل، ولا تكلنا إلى أنفسنا ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين ولا أقل من ذلك.

ص: 606

‌وقفتان في: الحسد

‌الوقفة الأولى في:

أسباب تحريم الحسد

حرم الله تعالى الحسد، ونهى عنه، وأمر بالاستعاذة من شر الحاسد لأسباب عدة، منها ما يأتي:

أولًا: أن الحسد فيه اعتراض على قضاء الله وقدره وحكمته في تقسيمه الأرزاق بين عباده.

ثانيًا: أنه سبب لرد الحق، وعدم قَبوله، كما ذكر الله عز وجل عن أهل الكتاب، قال عز وجل:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109].

قال أبو حاتم: «على العاقل مجانبة الحسد على الأحوال كلها، فإن أهون خصال الحسد ترك الرضا بالقضاء، وإرادة ضد ما حكم الله جل وعلا لعباده، ثم انطواء الضمير على إرادة زوال النعم عن المسلم، والحاسد لا تهدأ روحه ولا يستريح بدنه إلا عند رؤية زوال النعمة عن أخيه»

(1)

.

ثالثًا: أنه من نواقض عرى الإيمان الموجبة لمحبة الخير لأخيه المسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»

(2)

.

رابعًا: أن فيه اعتداءً على المحسود بغير جرم منه، إلا أن الله أعطاه من فضله، وقد

(1)

انظر: «روضة العقلاء» ص 133.

(2)

أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (45)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5016، 5017)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2515)، وابن ماجه في المقدمة (66)، وأحمد 3/ 206 (13146) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 607

قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].

خامسًا: أنه لا يعود على الحاسد إلا بالهم والكمد والأسى، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:«لله در الحسد ما أعْدَلَه! بدأ بصاحبه فقتله»

(1)

.

وقال أبو الليث السمرقندي: «يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود: أولاها: غم لا ينقطع، الثانية: مصيبة لا يؤجر عليها، الثالثة: مذمة لا يحمد عليها، الرابعة: سخط الرب، الخامسة: يغلق عنه باب التوفيق»

(2)

.

وقال الشاعر:

دع الحسود وما يلقاه من كمدِهْ

يكفيك منه لهيب النار في كبدِهْ

(3)

سادسًا: أن الحاسد مبغض ممقوت عند الله وعند الناس؛ لأنه عدو نعمة الله، وعدو عباد الله.

قال ابن القيم

(4)

: «فالحاسد عدو نعمة الله وعدو عباده، وممقوت عند الله وعند الناس، ولا يسود أبدًا، ولا يواسى، فإن الناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم، فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسودونه باختيارهم أبدًا، إلا قهرًا يعدونه من البلاء والمصائب التي ابتلاهم الله بها فهم يبغضونه وهو يبغضهم» .

سابعًا: أن الحاسد بدل أن يسعى ويعمل ينشغل بمتابعة ما عند الآخرين، وما أعطاهم الله من فضله، والواجب عليه أن يبذل السبب في السعي والعمل، ويسأل الله من فضله، قال تعالى:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 32].

ثامنًا: أن الحسد سبب لإيقاع العداوة والبغضاء بين الناس؛ لأنه يحمل الحاسد على

(1)

انظر: «شرح نهج البلاغة» 1/ 316.

(2)

انظر: «المستطرف» ص 221.

(3)

انظر: «غذاء الألباب» 2/ 285، و «جواهر الأدب» 2/ 486.

(4)

انظر: «التفسير القيم» ص 584.

ص: 608

الاعتداء على المحسود، ومنع حقه، وجحد فضله، مما يوغر الصدور، ويشعل نار العداوة بين الناس.

قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: «كل الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها»

(1)

.

تاسعًا: أنه كبيرة من كبائر الذنوب، ومن صفات إبليس لعنه الله، فهو الذي حسد آدم لشرفه، وأبى أن يسجد له حسدًا وكبرًا، وهو من صفات اليهود المغضوب عليهم.

عاشرًا: أنه مرض قلبي، من أخطر أمراض القلوب، ومحبط للأعمال، قال صلى الله عليه وسلم:«دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين»

(2)

، وفي الحديث:«إياكم والحسد؛ فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» ، أو قال:«العشب»

(3)

.

‌الوقفة الثانية في:

الأسباب التي بها يندفع شر الحاسد بإذن الله عز وجل

-

يندفع شر الحاسد عن المحسود بعشَرة أسبابٍ؛ ذكرها ابن القيم رحمه الله

(4)

: أُلخصها فيما يأتي:

أحدها: التعوذ بالله من شره، والتحصن به عز وجل واللجوء إليه، وهو المقصود من سورة الفلق.

السبب الثاني: تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه، فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله إلى غيره، قال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ

(1)

أخرجه أبو بكر الدينوري في «المجالسة وجواهر العلم» 3/ 50 (657).

(2)

أخرجه الترمذي في صفة القيامة 2510 - من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه.

(3)

أخرجه أبو داود في الأدب 4903 من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

انظر: «التفسير القيم» ص 585 - 594.

ص: 609

شَيْئًا} [آل عمران: 120].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك»

(1)

.

فمن حفظ الله حفظه ووجده أمامه أينما توجه، ومن كان الله حافظه وأمامه فممن يخاف؟ وممن يحذر؟

السبب الثالث: الصبر على عدوه، وألا يقاتله، ولا يشكوه، ولا يحدث نفسه بأذاه أصلًا، فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه، والتوكل على الله، ولا يستطل تأخيره وبغيه، فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندًا وقوة للمبغي عليه المحسود، يقاتل به الباغي نفسه، وهو لا يشعر، فبغيه سهام يرميها من نفسه إلى نفسه، ولو رأى المبغي عليه ذلك لسره بغيه عليه، ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي، دون آخره ومآله، وقد قال تعالى:{ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} [الحج: 60].

وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126].

السبب الرابع: التوكل على الله، فمن يتوكل على الله فهو حسبه، والتوكل على الله من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم، وهو من أقوى الأسباب في ذلك، فإن الله حسبه، أي: كافيه، ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع لعدوه، فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له ربه مخرجًا من ذلك وكفاه ونصره.

السبب الخامس: فراغ القلب من الاشتغال به والفكر فيه، وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له، فلا يلتفت إليه، ولا يخافه، ولا يملأ قلبه بالفكر فيه، وهذا من أنفع الأدوية، ومن أقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره، فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه، فإذا لم يتعرض له، ولا تماسك هو وإياه، بل انعزل عنه، لم يقدر عليه، فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه حصل الشر، هكذا الأرواح سواء.

(1)

أخرجه الترمذي في صفة القيامة 2516، وقال «حسن صحيح» وأحمد 4/ 286، 288.

ص: 610

السبب السادس: الإقبال على الله، والإخلاص له، وجعل محبته ورضاه والإنابة إليه محل خواطر نفسه وأمانيها، قال تعالى حكاية عن إبليس:{فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83].

وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99، 100].

وقال عن يوسف الصديق عليه السلام: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24].

السبب السابع: تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه، فإن الله تعالى يقول:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].

وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].

فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه، وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها، وما ينساه مما عمله أضعاف ما يذكره، وفي الدعاء: قوله صلى الله عليه وسلم: «قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئًا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلم»

(1)

.

فما يحتاج العبد إلى الاستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه، فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب.

ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له، ونال منه، فقال له: قف حتى أدخل البيت، ثم أخرج إليك، فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب، وأناب إلى ربه، ثم خرج إليه، فقال له: ما صنعت؟ فقال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به عليّ.

وليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، فإذا عوفي العبد من الذنوب عوفي من موجباتها.

فليس للعبد إذا بُغي عليه، وأُوذي، وتسلط عليه خصومه شيء أنفع من التوبة النصوح.

(1)

أخرجه أحمد 4/ 403.

ص: 611

وعلامة سعادته: أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه، فيشتغل بها، وبإصلاحها، وبالتوبة منها، فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به، بل يتولى هو التوبة، وإصلاح عيوبه، والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه ولا بد، فما أسعده من عبد! وما أبركها من نازلة نزلت به! وما أحسن أثرها عليه! ولكن التوفيق والرشد بيد الله، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فما كل أحد يوفق لهذا، لا معرفة به، ولا إرادة له، ولا قدرة عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

السبب الثامن: الصدقة والإحسان ما أمكنه، فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع البلاء، ودفع العين، ودفع الحسد، ولو لم يكن في هذا إلا تجارِب الأمم قديمًا وحديثًا لكفى به، فما تكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق، وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملًا فيه باللطف والمعونة والتأييد، وكانت له فيه العاقبة الحميدة، فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته، عليه من الله جنة واقية، وحصن حصين.

وبالجملة: فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببًا لزوالها، فما حرس العبد نعمة الله عليه بمثل شكرها، ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله، وهو كفران النعمة، وهو باب إلى كفر المنعم.

فالمحسن المتصدق يستخدم جندًا وعسكرًا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه.

السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله، وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذًى وشرًّا وبغيًا وحسدًا ازددتَّ له إحسانًا، وله نصيحة، وعليه شفقة، وما أظنك تصدق بأن هذا يكون، فضلًا عن أن تتعاطاه، فاسمع الآن قول الله عز وجل:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 - 36].

وقال تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}

ص: 612

[القصص: 54].

وكان صلى الله عليه وسلم يسلت الدم عنه، ويقول:«رب اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون»

(1)

.

فجمع في هذه الكلمات الأربع مقامات من الإحسان، قابل بها إساءتهم العظيمة إليه، أحدها: عفوه عنهم، والثاني: استغفاره لهم، والثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون، والرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه فقال: «رب اغفر لقومي» .

وكما تحب أن يعفو الله عن تقصيرك وإساءتك فاعف أنت عمن قصّر في حقك، وآذاك، وأساء إليك، فكما تدين تدان، وكما تفعل مع عباد الله يفعل الله معك.

وفي هذا نزل في شأن الصديق رضي الله عنه: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22].

وفي الحديث: «وليأت للناس الذي يحب أن يؤتى إليه»

(2)

.

فمن تصور هذا وشغل به فكره هان عليه الإحسان لمن أساء إليه، مع ما يحصل له من نصر الله ومعيته الخاصة، كما قال صلى الله عليه وسلم للذي شكا إليه قرابته، وأنه يحسن إليهم وهم يسيئون إليه، قال:«لا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك»

(3)

.

هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه، ويصيرون كلهم معه على خصمه، فإن كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير وهو مسيء إليه وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء، وذلك أمر فطري، فطر الله عليه عباده، فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرًا لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولا يريدون منه إقطاعًا، ولا خبزًا.

(1)

أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء (3477)، وفي استتابة المرتدين (6929)، ومسلم في الجهاد والسير (1792)، وابن ماجه في الفتن (4025)، وأحمد 1/ 380 (3611) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(2)

أخرجه من حديث طويل مسلم في الإمارة (1844)، والنسائي في البيعة (4191)، وابن ماجه في الفتن (3956)، وأحمد 2/ 191، 192 (6793، 6807) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه مسلم في البر والصلة (2558)، وأحمد 2/ 300 (7992) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 613

هذا مع أنه لا بد له من عدوه وحاسده من إحدى حالتين:

إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد إليه ويذل له

وإما أن يفتت كبده، ويقطع دابره إن أقام على إساءته إليه، فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه، ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة.

السبب العاشر: وهو الجامع لذلك كله، وعليه مدار هذه الأسباب، وهو تجريد التوحيد، والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم، قال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [الأنعام: 107].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: «واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك»

(1)

.

فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه، وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله، وتجرد لله محبة وخشية وإنابة وتوكلًا واشتغالًا به عن غيره والله يتولى حفظه والدفع عنه، فإن الله يدافع عن الذين آمنوا، وبحسب إيمان العبد يكون دفع الله عنه، فإن كمل إيمانه دفع الله عنه أتم دفع، وإن مزج مزج له، وإن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة.

كما قال بعض السلف: «من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جملة، ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة، ومن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة» .

فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين.

قال بعض السلف: «من خاف الله خافه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه كل شيء» .

قال ابن القيم

(2)

رحمه الله بعد أن ذكر هذه الأسباب: «هذه عشَرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر، وليس له أنفع من التوجه إلى الله، وإقباله عليه وتوكله عليه وثقته به، وألا يخاف معه غيره، بل يكون خوفه منه وحده، ولا يرجو سواه، بل يرجوه

(1)

سبق تخريجه.

(2)

انظر: «التفسير القيم» ص 594.

ص: 614

وحده، فلا يعلق قلبه بغيره، ولا يستغيث بسواه، ولا يرجو إلا إياه، ومتى علق قلبه بغيره ورجاه وخافه وكل إليه، وخذل من جهته، فمن خاف شيئًا غير الله سُلِّط عليه، ومن رجا شيئًا سوى الله خذل من جهته، وحرم خيره، هذه سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا».

ص: 615

‌وقفة في: وسوسة الشيطان للإنسان على أنواع ومراتب

‌أ- أنواع وسوسة الشيطان للإنسان:

وسوسة الشيطان للإنسان أنواع كثيرة، منها ما يأتي:

تزيين الكفر والشرك؛ قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم: 83]، وقال تعالى:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38]، وقال تعالى:{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48].

ومنها: تزيين المعاصي؛ قال تعالى عن الأبوين عليهما السلام: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الأعراف: 20 - 22]، وقال تعالى:{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى} [طه: 120].

وقد جعل الله للشيطان سلطانًا على قلوب أهل الكفر والنفاق، كما جعل له نفوذًا على أهل الغفلة والمعاصي، قال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري في الاعتكاف 2038، وفي الأدب 6219، ومسلم في السلام 2175، وأبوداود في الصوم 2470، وابن ماجه في الصيام 1779، من حديث صفية رضي الله عنها.

ص: 616

ومنها: ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«يأتي الشيطان أحدكم، فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته»

(1)

.

وفي رواية: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، إن أحدنا ليجد في نفسه ما أن يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به. قال:«الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»

(2)

.

ومنها: أن يشغل القلب بحديثه ووساوسه فيوقعه في نسيان ما أراد فعله أو قوله من أمر ديني أو دنيوي، كما قال تعالى حكاية عن صاحب موسى عليه السلام أنه قال:{فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]، وتقدم في الحديث:«أنه يخطر بين المصلى وبين قلبه، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، حتى لا يدري أثلاثًا صلى أم أربعًا»

(3)

.

ومنها: أنه يوهم الإنسان ويخوفه من الأمور المستقبلة، ويحمله على التشاؤم دائمًا، ويجعل الحياة مظلمة في عينيه فتنتابه المخاوف على المستقبل، والمخاوف من الأعداء، ومن العين، ومن المرض، ومن الموت، ونحو ذلك، وكل ذلك من الشيطان أخزاه الله.

وعلاج ذلك قوة الإيمان بالله والتوكل عليه واطراح هذه الوساوس، قال تعالى:{إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]، وقال تعالى:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

ومنها: أن يوحي إلى أعوانه من شياطين الإنس بأن يقول أحدهم أو يفعل ما فيه

(1)

أخرجه البخاري في بدء الخلق (3276)، ومسلم في الإيمان (134)، وأبو داود في السنة (4721)، وأحمد 2/ 331 (8376).

(2)

أخرجه أبو داود في الأدب (5112)، وأحمد 1/ 235 (2097) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه الألباني في تحقيقه «الإيمان» لابن أبي شيبة ص (103).

(3)

أخرجه البخاري في الأذان 608، ومسلم في الصلاة 389، وأبوداود في الصلاة 516، والنسائي في الأذان 670، والترمذي في الصلاة 397، وابن ماجه في إقامة الصلاة 1216.

ص: 617

ضرر على العبد المسلم، فكم دبر الشيطان من مكيدة للمؤمنين على أيدي أعوانه من شياطين الإنس بسفك دم، أو انتهاك عرض، أو شتم وسب، أو مقالة سوء، أو نجوى، يريد بها الشيطان إلحاق الضرر والأذى والحزن بالمؤمنين ونحو ذلك، كما قال عز وجل:{إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [المجادلة: 10].

وخلاصة القول: أن وسوسة الشيطان على أنواع لا تكاد تحصى كثرة، وهي سبب لكل بلية ولكل معصية تقع في الأرض؛ من ترك للواجبات أو انتهاك للمحرمات وهي على مراتب

(1)

:

‌ب- مراتب وسوسة الشيطان للإنسان:

يأتي الشيطان أولًا إلى الإنسان فيدعوه إلى الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله؛ ليكون من جنده ومن أعوانه على الشر.

فإن أيس منه، وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه دعاه إلى المرتبة الثانية من الشر، والتي هي باب من الكفر والشرك، وهي البدعة، وحببها إليه لعظم ضررها في الدين، وكون ضررها متعديًا، وشدة تمسك صاحبها بها لا يكاد يتوب عنها، كما دلت على ذلك الآثار، وكما هو حال أهل البدع.

فإن عجز عن إيقاعه في هذه المرتبة، وكان ممن وفق إلى السنة ومعاداة أهل البدع والضلال، دعاه إلى المرتبة الثالثة من الشر؛ وهي: الوقوع في الكبائر على اختلاف أنواعها.

فإن عجز عنه دعاه إلى المرتبة الرابعة؛ وهي: الوقوع في الصغائر والاستهانة بها، وهي إذا اجتمعت أهلكت صاحبها، وفي الحديث:«إياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، إياك ومحقرات الذنوب؛ فإن لها من الله طالبًا»

(3)

.

(1)

انظر: «التفسير القيم» ص 614.

(2)

أخرجه أحمد 1/ 402، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(3)

أخرجه ابن ماجه في الزهد 4243، من حديث عائشة رضي الله عنها. وقال في الزوائد:«إسناده صحيح، ورجاله ثقات» .

ص: 618

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار»

(1)

.

فإن عجز عن إيقاعه في هذه المرتبة دعاه إلى المرتبة الخامسة؛ وهي: الانشغال بالمباحات؛ من المآكل والمشارب وتزجية الأوقات بالنزه في المصايف والاستراحات والسياحة هنا وهناك إيثارًا للشهوات ورغبات النفس، وبهذا ضاعت كثير من أعمار الخلق.

بل أدى ذلك بالكثيرين إلى التقصير في الواجبات، والتفريط في حق الله وحقوق الخلق؛ كالوالدين والأزواج والأولاد والأقارب والجيران، وحقوق الأمة؛ بل أدى إلى التفريط في حق النفس، وعدم أخذها بالحزم في أداء الواجبات، والبعد عن المنهيات، والنظر في كتاب الله، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو الغذاء الروحي للنفس، والذي لا حياة للقلوب إلا به.

ولعمر الله! لقد خرج الناس بهذه المباحات عن الحد حتى ضاعت أعمار وأعمال وأموال، ونسي كثير من الناس أن الدنيا مزرعة للآخرة، وأن الحياة ميدان مسارعة، ومسابقة ومنافسة للفوز بتلك الدار، وأن الأيام والليالي خزائن للأعمال.

فكم من حقوق لله عز وجل ضيعت وفرطت فيها؛ كالصلاة وغيرها؛ بسبب الركض وراء هذه المباحات!

وكم من حقوق للخلق وللأمة أهدرت بسبب ذلك!

فكم من والد مقعد على أحر من الجمر يتمنى أن يرى أولاده معه على مائدة طعام، أو أن يكون بجانبه أحد أولاده لتهيئة القهوة له أو لضيوفه ولكن هيهات! فالأولاد كلهم مشغولون بلا شغل في الفلوات والخلوات والاستراحات والذهاب يمينًا وشمالًا وهنا وهناك، والمحصلة صفر. والله المستعان.

وكم من زوجة تنتظر زوجها بفارغ الصبر إلى ساعة متأخرة من الليل ولو حرك الهواء أحد الأبواب أو مرّ بها قط وهي غافلة طار عقلها خوفًا وفزعًا وزوجها مشغول

(1)

أخرجه الطبري في «جامع البيان» (6/ 651)، وابن المنذر في «تفسيره» 6/ 671 (1670)، وابن أبي حاتم في «تفسيره» 3/ 934 (5217).

ص: 619

خارج البيت بلا شغل، ولو جاء وهي نائمة لأوسعها سبًّا وشتمًا، إن لم يضربها أو يهددها بالضرب والطلاق!

وكم من أولاد- هم فلذات الأكباد- ليس لهم نصيب من جلوس والدهم بينهم وتربيته لهم وحنانه عليهم، بل ربما ليس لهم نصيب من رؤيته إلا النزر القليل يأتي إلى البيت وهم نائمون ويخرج في الصباح إلى العمل، وإذا جاء من العمل تناول غداءه على وجه السرعة ثم انطلق خارج البيت إلى هَوِىٍّ من الليل وهكذا!

وكم من أقارب وجيران وأخوات وإخوان أضحت حقوقهم في خضم النسيان بسبب ما ذكر!

وكم من مسؤوليات عامة أو خاصة ضُيعت وفرط فيها بسبب هذه الأحوال!

وكم من شخص صار قلبه خواء مظلمًا خربًا لخلوه من الغذاء الروحي؛ من الذكر وقراءة القرآن والسنة وتدبر ما فيهما من المعاني والأحكام بسبب انغماسه في هذه الأوحال وانشغاله بها!

وصدق الله العظيم: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122].

وقال تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].

فإن عجز الشيطان عن شغل العبد بالمباحات دعاه إلى المرتبة السادسة؛ وهي: الاشتغال بالمفضول عما هو أفضل منه؛ ليفوت عليه ثواب العمل الفاضل، ويزيح عنه الفضيلة ويقلل من فضله وثوابه، فيظن أن هذا الداعي من الله لاعتقاده أن هذا خير، وأن الشيطان لا يأمر بخير، فيقول: هذا الداعي من الله.

قال ابن القيم

(1)

: «ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابًا من أبواب الخير، إما ليتوصل إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوت بها خيرًا أعظم من تلك السبعين بابًا وأجل وأفضل .. » .

(1)

انظر: «التفسير القيم» ص 612 - 613.

ص: 620

‌وقفة في: ما يعتصم به الإنسان من الشيطان

ذكر ابن القيم رحمه الله

(1)

قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره ويحترز به منه، وذلك عشَرة أسباب، ألخصها فيما يأتي:

1 الحرز الأول: الاستعاذة بالله من الشيطان، كما قال تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36].

وعن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال: «استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده جلوس، وأحدهما يسب صاحبه مغضبًا قد احمر وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ، فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«إني لست بمجنون»

(2)

.

2 الحرز الثاني: قراءة المعوذتين؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهما في كل ليلة، وقال صلى الله عليه وسلم:«ما تعوذ متعوذ بمثلهما»

(3)

، وأمر عقبة بن عامر أن يقرأ بهما دبر كل صلاة

(4)

.

وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن خبيب رضي الله عنه: «قل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمعوذتين حين تمسي، وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء»

(5)

.

وقد تقدم ذكر كلام ابن القيم في أن حاجة الإنسان إلى التعوذ بهاتين السورتين أشد

(1)

انظر: «التفسير القيم» ص 620 - 631، و «بدائع التفسير» 5/ 464 - وما بعدها.

(2)

أخرجه البخاري في الأدب (6115)، ومسلم في البر (2610)، وأبو داود في الأدب (4781)، وأحمد 6/ 394 (27205).

(3)

أخرجه أبو داود في الصلاة (1463) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1316).

(4)

أخرجه أبو داود في الصلاة 1523، والنسائي في السهو 1336، والترمذي في فضائل القرآن 2903، وأحمد 4/ 155، وقال الترمذي «حديث غريب» .

(5)

أخرجه أبو داود في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح 5082، والنسائي في الاستعاذة 5428، 5429، والترمذي في الدعوات 3575، وأحمد 5/ 312.

ص: 621

من حاجته إلى الطعام والشراب والنفس واللباس فتأمل هذا.

3 الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:«وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتى آت، فجعل يحثو من الطعام، فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث إلى أن قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح»

(1)

.

4 الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا تجعلوا بيوتكم قبورًا، وإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان»

(2)

.

5 الحرز الخامس: قراءة خاتمة سورة البقرة، كما في حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه»

(3)

.

وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب كتابًا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام، أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة، فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان»

(4)

.

6 الحرز السادس: قراءة أول سورة: «حم المؤمن» إلى قوله: «إليه المصير» مع آية الكرسي؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ: حم المؤمن إلى: «إليه المصير» ، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ

(1)

أخرجه البخاري في البخاري في الوكالة (2311) وفي بدء الخلق (3275)، وفي فضائل القرآن (5010) ولم يصرح فيه بالتحديث.

(2)

أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (780)، أبو داود في المناسك (2042)، والترمذي في فضائل القرآن (2877)، وأحمد 2/ 367 (8804).

(3)

أخرجه البخاري في المغازي 4008، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها 807، 808.

(4)

أخرجه الترمذي في فضائل القرآن (2882)، وأحمد 4/ 274 (18414)، والدارمي 2/ 542 (3387)، والنسائي في «الكبرى» 6/ 240 (10803)، والحاكم (1/ 562). قال الترمذي:«حديث غريب» . وقال الحاكم: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» . وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (1799).

ص: 622

بهما حتى يصبح»

(1)

.

7 الحرز السابع: قول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير» ، مائة مرة؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي. ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك»

(2)

.

8 الحرز الثامن: كثرة ذكر الله عز وجل، وهو من أنفع الحروز وبه طمأنينة القلب، كما قال عز وجل:{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28].

9 الحرز التاسع: الوضوء والصلاة، قال ابن القيم: «وهذا من أعظم ما يُتحرز به، ولا سيما عند توارد قوة الغضب والشهوة، فإنها نار تغلي في قلب ابن آدم

والوضوء يطفئها، والصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك كله. وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه»

(3)

.

10 الحرز العاشر: الإمساك عن فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الأنام، فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة.

ويا صعوبة التخلص منها إلا على من وفقه الله. فإن فضول النظر يدعو إلى الاستحسان ووقوع صورة المنظور إليه في القلب، والاشتغال به، والفكرة في الظفر به.

وفي الأثر: «إن النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها مخافتي أبدلته إيمانًا يجد حلاوته في قلبه»

(4)

.

(1)

أخرجه الترمذي في فضائل القرآن (2879)، والدارمي 2/ 541 (3386). قال الترمذي:«حديث غريب» . وضعفه الألباني في «ضعيف الجامع» (5769).

(2)

أخرجه مالك في القرآن (1/ 209)، والبخاري في بدء الخلق (3293)، ومسلم في الذكر والدعاء (2691)، والترمذي في الدعوات (3468)، وابن ماجه في الأدب (3798)، وأحمد 2/ 302 (8008).

(3)

انظر: «التفسير القيم» ص 624.

(4)

أخرجه الطبراني في «الكبير» 10/ 173 (10362) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا. وأخرجه الحاكم (4/ 313) من حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعًا. وقال: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» . وقال الألباني في «الضعيفة» (1065): «ضعيف جدًّا» .

ص: 623

وقد قيل:

كل الحوادث مبداها من النظر

ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها

فتك السهام بلا قوس ولا وتر

(1)

والإمساك عن فضول الطعام:

فإن تتبع أطايب المأكولات وأنواعها سبب للغفلة عن ذكر الله وكون الإنسان بهيميًا همه بطنه، كما أن الإكثار من الأكل سبب للتخمة والكسل وثقل الجسم عن العمل.

وفي الحديث: «ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه»

(2)

.

والإمساك عن فضول الكلام:

فإن الإكثار من الكلام فيما لا يعني سبب للوقوع فيما لا ينبغي، ولهذا أمر الإسلام بحفظ اللسان، قال تعالى:{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89].

وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، أنه قال: فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به أو فيما نقول بألسنتنا؟ قال:«ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»

(3)

.

والإمساك عن فضول مخالطة الأنام:

فإن فضول مخالطة الأنام من أعظم أسباب الشرور والآثام، فيجب أن تكون مخالطة العبد للناس على قدر الحاجة.

(1)

انظر: «الجواب الكافي» ص 134، و «روضة المحبين» ص 107.

(2)

أخرجه الترمذي في الزهد 2380، وابن ماجه في الأطعمة 3349، من حديث المقدام بن معديكرب رضي الله عنه. وقال الترمذي:«حديث حسن صحيح» .

(3)

أخرجه الترمذي في الإيمان (2616)، وابن ماجه في الفتن (3973)، وأحمد 5/ 231 (22016). قال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (3284)، وفي «الإرواء» (413).

ص: 624

والناس في هذا أربعة أقسام:

القسم الأول: مَنْ مخالطته كالغذاء لا يُستغنى عنه في اليوم والليلة، وهم العلماء بالله وأمره، الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

القسم الثاني: من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض، فما دام الشخص صحيحًا فلا حاجة له في مخالطتهم، وهم من لا يستغنى عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، فتكون مخالطتهم بقدر الحاجة.

القسم الثالث: من مخالطتهم كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه، وقوته وضعفه، فمنهم من تكون مخالطته ضررًا عليك في دينك ودنياك فهم كمرض الموت المخوف، ومنهم من تكون مخالطته كوجع الضرس يشتد فإذا فارقك سكن الألم، ومنهم من تكون مخالطته حمى الروح، وهو الثقيل البغيض، الذي لا تستفيد منه ولا يستفيد منك، لا يحسن أن يتكلم فيفيدك، ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف نفسه فيضعها منزلتها، فمخالطة هذا النوع- وهم كل مخالف- حمى الروح، ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب، وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف، حتى يجعل الله له من أمره فرجًا ومخرجًا.

القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله بمنزلة أكل السم، كأهل البدع والضلال، الصادين عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فالحزم كل الحزم البعد عنهم، والحذر منهم، والتماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم.

وكما قيل:

لقد زادني حبًّا لنفسيَ أنني

بغيض إلى كل امرئ غير طائل

(1)

(1)

البيت للطرماح وهو في «ديوانه» ص 346، تحقيق عزة حسن، دمشق 1968 م.

ص: 625

‌مسك الختام في:

وصايا مهمة، وفوائد وفرائد

وحكم ومعانٍ شعرية مختارة

‌أولًا: وصايا مهمة:

هذه مئة وصية اخترتُها لتكون نِبراسًا لكل مسلمٍ ومسلمةٍ، في طريقه إلى الله تعالى، ومنهج حياته، مستخلصة من الكتاب والسنة؛ وبعضها خلاصة للوقفات السابقة.

‌الوصية الأولى

بتقوى الله تعالى

؛ فهي وصية الله عز وجل للأولين والآخرين، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].

وتصَوُّر الهدف الذي خلقنا الله عز وجل من أجله وهو عبادته، كما قال عز وجل:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

فإن مصيبة كثير من المسلمين اليوم ضعف التصور لهذا الهدف والتأمل فيه، وما ينبغي له، بل غياب هذا الهدف تمامًا عند كثير منهم، مما يولِّد لدى الكثيرين الخواء الروحي الذي يكون سببًا في ضياع العمر، في اللهو والغفلات، وتزجية الأوقات في الأسفار والتنزهات، وعدم معرفة قيمة الوقت، وخسارة العمر والحياة، وقد قال الله عز وجل:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].

ص: 627

‌الوصية الثانية

بالإخلاص لله تعالى في العبادة والعمل

؛ قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].

قال الفُضيل بن عياض رحمه الله: «أي: أخلصه وأصوبه»

(1)

.

فالإخلاص لله تعالى أمر عظيم، ومطلب عزيز، قال بعض السلف:«ما جاهدتُ نفسي على شيءٍ ما جاهدتها على الإخلاص»

(2)

.

فكم من عبادات وطاعات حبِطت بسبب الرياء والسمعة وفقدان الإخلاص!

وكم من أعمال وأعمار ضاعت بسبب عدم استحضار النية والإخلاص في التعليم والقضاء، وفي الإمامة والأذان، وفي الإنفاق، وفي الأعمال الوظيفية، وغير ذلك!

ينظر كثيرون إلى الجانب المادي فقط، ولم يخطر لهم ببال الاحتساب في ذلك، وطلب ما عند الله تعالى.

وهذه مصيبة أكثر العاملين في الأمة إلا من رحم الله تعالى.

وأشد من ذلك من ينظر فقط إلى كثرة أتباعه، وثناء الناس عليه، وامتداحهم له.

وقد قال الله عز وجل: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى»

(3)

.

(1)

انظر: «الإخلاص والنية» لابن أبي الدنيا (ص 50)، «حلية الأولياء (8/ 95).

(2)

انظر: «القول المفيد على كتاب التوحيد» لابن عثيمين (1/ 66).

(3)

سبق تخريجه.

ص: 628

‌الوصية الثالثة

بالتوكل على الله تعالى وتمام الثقة به

؛ فمن توكل على الله تعالى كفاه، وحفظه ووقاه، قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].

وقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 2، 3].

وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

ولن يجد الإنسان السعادة والطمأنينة وراحة البال، حتى يتوكل على الله تعالى ويسلم أمره لله عز وجل.

قال الشاعر

(1)

:

سأعيشُ رغمَ الداءِ والأدواءِ

كالنَّسرِ فوقَ القمةِ الشَّمَّاءِ

النورُ في جَنبي وبينَ جَوانحي

فعلامَ أَخشَى السيرَ في الظَّلماءِ؟!

‌الوصية الرابعة

بالمسارعة والمسابقة والمنافسة في طلب مغفرة الله تعالى وجنته، وما يقرب إليه

؛ قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133].

وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ

(1)

سبق تخريجه.

ص: 629

آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]، وقال تعالى:{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 10، 11].

وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148، والمائدة: 48].

وقال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26].

وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10].

وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فبائعٌ نفسَه فمُعْتِقها أو مُوبِقها»

(1)

.

فسارع وسابق ونافس في تعظيم الله عز وجل، والتقرب إليه بأداء حقوقه وحقوق خلقه، وإلى أعمال البر والخير والإحسان قولًا وفعلًا وبذلًا، واشغَل وقتك بذلك.

قال الشاعر:

وما المرءُ إلا حيثُ يجعَلُ نَفسَه

فكن طالبًا في الناسِ أعلى المراتبِ

(2)

وقال الآخر:

إذا غامرتَ في شَرَفٍ مَرُومٍ

فلا تَقنَعْ بما دونَ النُّجومِ

(3)

وقال الآخر:

الجَدُّ بالجِدِّ والحِرمانُ بالكسلِ

فانصَبْ تُصِبْ عن قريبٍ غايةَ الأملِ

(4)

وقال الآخر:

ومَن يَتَهَيَّب صعودَ الجبالِ

يَعِشْ أبدَ الدهرِ بينَ الحُفَرْ

(5)

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق.

(3)

سبق.

(4)

البيت لصلاح الدين الصفدي من لاميته. انظر: «نفحة اليمن فيما يزول بذكره الشجن» (ص 15).

(5)

سبق.

ص: 630

‌الوصية الخامسة

بالحرص كل الحرص على سلامة القلب من الغل والحسد والعداوة والحقد على أحدٍ من المسلمين

، ومعالجة القلب ومحاسبته ومراقبته على الدوام، وتأمُّل قول الله عز وجل:{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89]، أي: سليم بالإخلاص لله تعالى، وسليم من الغل والحسد والحقد على عباد الله.

‌الوصية السادسة

اعلم أن أعظم أسباب التوفيق والقبول، وأوسع أبواب الجنة: الصلاة، وبر الوالدين، وحسن الخلق

.

فاقدر لهذا الأمر قدْره، وذلك من خلال ما يلي:

أولًا: التفرغ التام للصلاة عند دخول وقتها، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ لأن من اختل أمر صلاته اختلت أمور دينه ودنياه وأخراه، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يردد وهو يَجُودُ بنفسه:«الصلاةَ، الصلاة، الصلاة، وما ملَكت أيمانُكم»

(1)

.

واعلم- أخي المسلم- أن قبول الله عز وجل لصلاتك وأجرها بقدر عنايتك بها، بدءًا من متابعة المؤذن، والدعاء بعد الأذان، ثم الوضوء التام، وأخذ الزينة بأجمل اللباس وأتمه، والطيب والسواك، والأذكار أثناء الوضوء، وبعده، وفي الطريق إلى المسجد، وعند دخوله، وتقديم الرجل اليمنى، والقرب من الإمام، وأداء السنة قبلها، والخشوع في الصلاة، وأداء الأذكار والسنة بعدها، ثم تقديم الرجل اليسرى عند الخروج من المسجد، والذكر عند ذلك، وغير ذلك.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 631

فاستحضِر هذه الأمور عند دخول وقت الصلاة، واجتهد فيها، واحذر من أحوال الذين لا يقيمون وزنًا لهذه المعاني، فيأتون إلى الصلاة مجرد عادة على أي هيئة كانوا، وبأي لباس ولو كان بقميص النوم، ولو ذهب أحدهم لأدنى مناسبة لتهيأ لذلك بأجمل لباس وأحسن هيئة، وأي مناسبة تفوق الوقوف أمام الله تعالى؟!

مع عدم مراعاة القرب من الإمام ونقص في السنن، وضعف في الخشوع، وغير ذلك.

وليس الكلام هنا في صحة الصلاة، وإنما الكلام في فوات الكثير من الأجر؛ مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليصلي، ثم ينصرف ما كتب له إلا نصفها، ثُلُثها

عُشرها»

(1)

.

ثانيًا: الحرص كل الحرص على بر الوالدين، وألا يسبقك أحد في ذلك، تجد أثر ذلك توفيقًا لك في أمور دينك ودنياك وأخراك، وصلاحًا في أهلك وأولادك، وحياة طيبة، وأجرًا عظيمًا عند الله تعالى.

أحسن إليهما غاية الإحسان، واشكرهما، واجلس معهما يوميًّا إن استطعت، وتفقد أحوالهما، وتلطف معهما، فحقهما كبير، وأجر برهما عظيم، وعقوقهما خطير، وعقابه وخيم.

ثالثًا: اعلم أن أثقل شيء في ميزان العبد يوم القيامة حسن الخلق

(2)

، وأنه كاد أن يذهب بخيريِ الدنيا والآخرة

(3)

، وأن أهله أقرب الناس من النبي صلى الله عليه وسلم مجلسًا يوم القيامة

(4)

، فخُذْ

(1)

أخرجه أبو يعلى في «مسنده» 3/ 197 (1628) من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما به. وأخرجه أبو داود في الصلاة (796)، وأحمد 4/ 321 (18894)، وابن حبان 5/ 210 - 211 (1889) بلفظ:«إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها» . وحسن إسناده الألباني في «صحيح أبي داود» (761).

(2)

أخرجه أبو داود في الأدب (4799)، الترمذي في البر والصلة (2002)، وأحمد 6/ 451 (27555) والبخاري في «الأدب المفرد» (464)، وابن حبان 12/ 506 (5693). قال: الترمذي: «حديث حسن صحيح» . وصححه الألباني في تحقيقه «الأدب المفرد» ، وفي «التعليقات الحسان» (5664).

(3)

أخرج الطبري في «جامع البيان» (19/ 539)، والطبراني في «الكبير» 23/ 367 (870)، وفي «الأوسط» 3/ 278 (3141). قال الهيثمي في «المجمع» (7/ 255، 10/ 772): «رواه الطبراني وفيه سليمان بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم وابن عدي» .

(4)

سبق تخريجه.

ص: 632

من ذلك بأكبر نصيب، واعلمْ أنه ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب

(1)

.

الوصية السابعة

كن محسنًا:

أولًا: في عبادة الله تعالى، بالإخلاص لله تعالى، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

وثانيًا: إلى عباد الله تعالى بأداء حقوقهم الواجبة والمستحبة من الأقارب والجيران وعامة الناس، وحتى البهائم.

واعلم أن خلاصة المطلوب منك في القرآن والسنة إحسانان: إحسان في عبادة الله تعالى، وإحسان إلى عباد الله تعالى.

‌الوصية الثامنة

اعلم أن آية محبة الله تعالى وتعظيمه هي العمل بكتابه عز وجل، واتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم

-:

وأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناصرته وتوقيره تكون في اتباع سنته صلى الله عليه وسلم، والذب عنه وعن سنته، والإكثار من الصلاة والسلام عليه، وليست بالاحتفال بمولده أو الدعاء عند قبره، أو طلب الحاجات وتفريج الكربات منه، ولا بإحياء ليلة السابع والعشرين من رجب بزعم أنها ليلة الإسراء، ولا بإحياء ليلة النصف من شعبان بزعم أنها تُقَدَّر فيها المقادير والأعمال، فهذا كله من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، ومن الشرك، فحذارِ حذارِ من ذلك.

(1)

سبق تخريجه.

ص: 633

‌الوصية التاسعة

احرص على إتْباعِ القولِ بالعمل:

فقد أنكر الله عز وجل على الذين يقولون ولا يفعلون، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3].

ولنعلم أن العمل لنصرة الإسلام إنما يكون بالتمسك به قولًا وعملًا والدعوة إليه، والدفاع عنه، وليس بالحماس الأجوف الذي ابتُلي به كثير من المسلمين اليوم، وهو الاكتفاء بالتباكي على واقع الأمة دون العمل في إصلاح نفسه وأهل بيته وأقاربه وجيرانه وأهل مسجده وأهل حيه، ومن حوله، ونحوهم.

فالتباكي على واقع الأمة لا يجدي شيئًا، ولا تبرأ به الذمة أمام الله تعالى، بل هو انهزام وتخذيل للأمة يصب في مصلحة أعدائها، وما أكثرَ المتباكين، وما أقل العاملين!

ليس العمل للإصلاح بكثرة القيل والقال في المجالس العامة والخاصة، وفي المنتديات، والمواقع ووسائل التواصل ونقل الأخبار والشائعات وكثرة التحليلات، فهذا ليس فيه إلا مساعدة أهل الباطل في ترويج باطلهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«إذا قال الرجل: هلك الناس فهو أهلَكُهم»

(1)

.

ولهذا رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «إن لله عبادًا يُمِيتُونَ الباطل بهَجْرِه، ويُحيُون الحق بذِكرِه»

(2)

.

وليعلم الجميع أن طريق الصلاح والإصلاح والربح والفوز والفلاح قد رسمه الله عز وجل بقوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا

(1)

أخرجه مالك في الكلام (2/ 984)، ومسلم في البر والصلاة والآداب (2623)، وأبو داود في الأدب (4983)، وأحمد 2/ 272 (7685) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

رواه أبو نعيم في «الحلية» 1/ 55.

ص: 634

بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر]

فالزم هذا الطريق ولا تَحِدْ عنه، وأبشر بالخير.

‌الوصية العاشرة

احرص على ملازمة الأوراد اليومية في الصباح والمساء، وعلى قراءة جزء أو حزب من القرآن الكريم أو أكثر:

لأن حاجة الإنسان إلى ذلك أشد من حاجته إلى الطعام والشراب والنفس.

والإكثار من الأذكار؛ فإن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأرضها قِيعان، وغِراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر

(1)

.

والإكثار من الاستغفار والتوبة، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19].

وقال عز وجل للمؤمنين: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة»

(2)

، وفي رواية:«مئة مرة»

(3)

.

(1)

أخرجه الترمذي في الدعوات (3462)، والطبراني في «الكبير» 10/ 173 (10363)، وفي «الأوسط» 4/ 270 (4170)، وفي «الصغير» 1/ 326 (539) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قال الترمذي:«حسن غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (105).

(2)

أخرجه البخاري في الدعوات (6307)، والترمذي في التفسير (3259)، وأحمد 2/ 282 (7793) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في الأدب (3816) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.

(3)

أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2702)، وأبو داود (1515)، وأحمد 4/ 211 (17848) من حديث الأغر المزني رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في الأدب (3818) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 635

الوصية الحادية عشرة

ليدخل كل منَّا على ربه عز وجل من باب الضعف والافتقار والذل والخضوع، جامعًا بين الخوف والرجاء، ولا يغتر بعمله، فلا أحد يدخل الجنة بعمله، ولكن برحمة أرحم الراحمين وفضله عز وجل، كما صلى الله عليه وسلم

(1)

.

الوصية الثانية عشرة

ليكن كلٌّ منَّا رحيمًا عطوفًا على الفقراء والمساكين واليتامى والأرامل وذوي الحاجات، محبًّا للمساكين، رفيقًا بالحيوان، «فإنما يرحم الله من عباده الرحماء»

(2)

، «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء»

(3)

.

الوصية الثالثة عشرة

بأن ينظم المرء وقته: فينام مبكرًا ويقوم مبكرًا، يبارك الله له في عمره وفي أهله وولده، ولنحذر من سهر الليل؛ فإنه السبب الأول للتقصير في حقوق الله تعالى وحقوق الخلق، وفي

(1)

أخرجه البخاري في المرضى (5673)، ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار (2816)، وابن ماجه في الزهد (4201)، وأحمد 2/ 256 (7478) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري في الجنائز (1284)، ومسلم في الجنائز (923)، وأبو داود في الجنائز (3125)، والنسائي في الجنائز (1868)، وأحمد 5/ 204 (21776) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه أبو داود في الأدب (4941)، والترمذي في البر والصلة (1924)، وأحمد 2/ 160 (6494) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال الترمذي:«حديث حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (925).

ص: 636

فقدان السعادة والبركة في العمر والرزق، وسبب للقلق والأمراض النفسية وغير ذلك.

الوصية الرابعة عشرة

ليعلم الجميع أن وجود ولاة الأمر في الأمة من أعظم نعم الله تعالى على العباد، بهم يأمن الناس على دمائهم وأعراضهم وأموالهم، وبهم تقوم شعائر الدين، وتنتظم مصالح المسلمين، وتقوى شوكتهم وتعظم هيبتهم.

وطاعة ولاة الأمر بالمعروف واجبة، كما قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

وقال صلى الله عليه وسلم: «على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكرِه ما لم يُؤمَر بمعصية، فإن أُمر بمعصيةٍ فلا سمعَ ولا طاعة»

(1)

.

ومن طاعة ولاة الأمر: الالتزام بتطبيق الأنظمة التي يضعونها لحفظ الأمن، وحفظ مصالح المسلمين؛ كنظام المرور، وتنظيم الحج، وغير ذلك.

ومن حق ولاة الأمر: الدعاء لهم، والنصيحة لهم، والتعاون معهم في مصلحة الأمة، والحذر من جعلهم عرضة للطعن في المجالس العامة والخاصة، وفي وسائل التواصل، فإن ذلك إنما يخدم أعداء الأمة المتربصين بها من كل جانب، فحذارِ حذارِ من ذلك!

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس» .

ثم ذكر الحديث: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمِّروا أحدهم» ، ثم قال:

(1)

أخرجه البخاري في الجهاد (2955)، ومسلم في الإمارة (1839)، وأبو داود في الجهاد (2626)، والنسائي في البيعة (4206)، والترمذي في الجهاد (1707)، وابن ماجه في الجهاد (2864) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وانظر:«مجموع الفتاوى» (28/ 390 - 391).

ص: 637

«فأوجب صلى الله عليه وسلم تأمير الواحد في الاجتماع العارض في السفر؛ تنبيهًا بذلك على سائر أنواع الاجتماع، ولأن الله أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه الله في الجهاد والعدل وإقامة الحج والجُمَع والأعياد، ونصر المظلوم، وإقامة الحدود، ولا تتم إلا بالقوة والإمارة، ولهذا رُوي: «إن السلطان ظل الله في الأرض» ، ويقال:«ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان» ، والتجرِبة تبين ذلك، ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض والإمام أحمد بن حنبل وغيرهما يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة لَدَعَونا بها للسلطان»

(1)

.

‌الوصية الخامسة عشرة

اعلم أن الدين النصيحة:

فكن ناصحًا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»

(2)

.

وقال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: «بايعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم»

(3)

.

‌الوصية السادسة عشرة

لا تنس أن مستقبلك الحقيقي بعد الموت

، فاجتهد لتأمين ذلك المستقبل، واربط حياتك بلقاء ربك، ومن بيده مستقبلك.

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» 28/ 390 - 391.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 638

قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185].

وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 23، 24].

وقال تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] ولكن هيهات!

وقال تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [سبأ: 33].

قال الشاعر:

سوفَ ترى إذا انجلى الغبارُ

أفرسٌ تحتك أم حِمارُ

(1)

الوصية السابعة عشرة

اعرف قيمة حياتك وعمرك، وأن الأيام والليالي خزائن للأعمال، فاملَأْها بالأعمال الصالحة، واحذَرْ من ملئها بالأعمال السيئة، واعلم أنها لن تأتيَ خاليةً فارغة.

‌الوصية الثامنة عشرة

اعلم أن رأس مال الإنسان في هذه الدنيا أمران: علم نافع وعمل صالح

، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33، والفتح: 28، والصف 9].

أي: بالعلم النافع والعمل الصالح، فنافس في ذلك فما زال الباب مفتوحًا، والسوق رابحة، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، فخذ نصيبك من ربك، من

(1)

سبق.

ص: 639

الباقيات الصالحات، وتزود من التقوى فإنها خير زاد، واحذر كل الحذر أن تأتي غدًا مغبونًا، فلا أحد يرضى الغبن لنفسه.

‌الوصية التاسعة عشرة

احفظِ الله يحفظْك

؛ احفظ الله بأداء حقوقه، وفعل أوامره واجتناب نواهيه، وأداء حقوق خلقه.

يحفظك في دينك ودنياك وأخراك، وأهلك وولدك ومالك.

واحترز من الذنوب والمعاصي، فهي السبب الأول لمصائب الدين والدنيا والآخرة، وهي السبب لكل بليَّة، والجالبة لكل رزيَّة، قال تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليُحرَم الرزق بالذنب يصيبه»

(1)

.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «واحترزوا من الذنوب فإنها أشد عليكم من عدوكم»

(2)

.

‌الوصية العشرون

اعلم أنك لن تذوق طعم السعادة الحقيقية في حياتك حتى تذوق حلاوة الإيمان

، وتلتذ بالطاعة والأعمال الصالحة، وينشرح صدرك بذلك، فتستغني بذلك عن فضول

(1)

سبق تخريجه.

(2)

ذكره سبط ابن الجوزي في «مرآة الزمان، في تواريخ الأعيان» (5/ 169)، وهو وصية من عمر كتب بها إلى سعد رضي الله عنهما قال:«كونوا أشدَّ الناس احتراسًا من المعاصي بينكم، من عدوِّكم» .

ص: 640

المباحات والملذات.

قال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22].

وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الأنعام: 125].

وقال صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له»

(1)

.

‌الوصية الحادية والعشرون

أحسن الظن بإخوانك المسلمين، واحذر من سوء الظن، ومن انتقاد الآخرين

، فلان فيه كذا، وفلان يقول كذا، وكن ناصحًا لجميع المسلمين، وداعيةَ خير، واعمل للإصلاح ما استطعت، وانشغل بعيوبك عن عيوب غيرك.

فإن من الناس من يرى القَذاة في عين أخيه، ولا يرى الجِذع في عينه.

قال الشاعر:

قبيحٌ من الإنسانِ يَنسَى عُيوبَه

ويذكر عيبًا في أخيه قدِ اخْتَفَى

ولو كان ذا عقلٍ لما عاب غيرَه

وفيه عيوبٌ لو رآها به اكتفى

(2)

‌الوصية الثانية والعشرون

احذر من عثرات اللسان، والقلم والبنان، وسلبياتها

في المنتديات ووسائل التواصل وغيرها، قال الله تعالى:{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

(1)

سبق تخريجه.

(2)

البيتان بلا نسبة. انظر: «نفح الأزهار، في منتخبات الأشعار» (ص 60).

ص: 641

وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقلْ خيرًا أو ليصمت»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «دعْ ما يَريبك إلى ما لا يَريبك»

(3)

.

قال الشاعر:

احذَرْ لسانَك أيها الإنسانُ

لا يَلدغَنَّك إنه ثُعبانُ

(4)

وقال الآخر:

وما من كاتبٍ إلا سيفنى

ويبقى الدهرَ ما كَتبتْ يَداهُ

فلا تكتبْ بكفِّك غيرَ شيء

يَسُرُّك في القيامةِ أن تَراه

(5)

‌الوصية الثالثة والعشرون

اتقِ الظلم واعلم أن الظلم ظلمات يوم القيامة

، كما قال صلى الله عليه وسلم

(6)

.

واعلم أن الله عز وجل حرَّمه على نفسه وجعله بين العباد محرمًا

(7)

، فهو من أكبر الكبائر، وعاقبته وخيمة، ونهايته أليمة، مما يوجب الحذر منه كل الحذر.

وقد قيل: «إذا دعتْك قُدرتُك إلى ظلم الناس فاذكرْ قدرة الله عليك» .

وقال الشاعر:

لا تظلمنَّ إذا ما كنتَ مُقتدِرًا

فالظلمُ يرجع عقباه إلى الندمِ

تنام عينُك والمظلومُ مُنتبِهٌ

يدعو عليك وعينُ اللهِ لم تَنَمِ

(8)

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق.

(5)

انظر: «بلوغ الغاية من تهذيب بداية الهداية» لأبي حامد الغزالي ص (97).

(6)

أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2578)، وأحمد 3/ 323 (14461) من جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

(7)

أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (2577) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.

(8)

سبق.

ص: 642

وقال الآخر:

وما من يدٍ إلا يد الله فوقها

ولا ظالم إلا سيُبلى بظالم

(1)

وقال الشافعي رحمه الله:

إلى ديَّان يوم الدين نمضي

وعند اللهِ تَجتمع الخصومُ

ستعلَمُ في الحساب إذا التقينا

غدًا عند الإلهِ مَنِ الظلومُ

(2)

واعلم أن من أشد أنواع الظلم ما يلي:

- ظلم الزوج لزوجته: قال صلى الله عليه وسلم: «اتقوا الله في النساء فإنهن عَوَانٌ- أي: أسيرات- عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فُرُوجَهنَّ بكلمة الله» .

- ظلم اليتامى بالاعتداء عليهم وأكل أموالهم، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إني أحرِّج حق الضعيفين: المرأة واليتيم»

(3)

.

ومثل المرأة واليتيم: الضعفاء والمساكين ونحوهم ممن لا حول لهم ولا طَول، فظلمهم من أشد الظلم.

- ظلم ذوي القربى؛ لأن حقهم المساعدة لهم والدفاع عنهم، فكيف يقع الظلم من بعضهم على بعض؟! فهذا من أشد الظلم وقعًا على النفوس، كما قال الشاعر:

وظُلم ذوي القربى أشدُّ مَضاضةً

على النفسِ من وقعِ الحُسامِ المهنَّدِ

(4)

- ظلم العمال المكفولين بأكل حقوقهم أو تأخيرها أو إلزامهم بأعمال غير ما استُقدموا له، أو ضربهم، أو إهانتهم، أو منعهم من الاتصال بذويهم، أو تعريضهم للهلاك بسبب الجوع والعطش، أو الحر والبرد، وغير ذلك.

(1)

انظر: «تفسير ابن كثير» (3/ 304).

(2)

انظر: «المستطرف في كل فن مستطرف» ص (119).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق.

ص: 643

- ظلم البهائم بمنعها الطعام والشراب، أو عدم حلبها، أو تحميلها ما لا تُطيق، ونحو ذلك، فقد دخلت امرأة النار بسبب هرة حبستها حتى ماتت، لا هي أطعمتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خَشاش الأرض

(1)

.

‌الوصية الرابعة والعشرون

كن سباقًا للسلام على كل من لقِيت من المسلمين، ممن تعرف وممن لا تعرف

، واحذر من قصر السلام على من تعرف أو البخل بالسلام.

سلم عند دخول المسجد والبيت والأماكن العامة والخاصة، وفي الطرقات ماشيًا أو راكبًا، وعند الإشارات الضوئية، وغير ذلك.

قال صلى الله عليه وسلم: «وخيرهما من يبدأ بالسلام»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «أبخل الناس الذي يبخل بالسلام»

(3)

.

واجمَعْ بين السلام والمصافحة ما أمكنك ذلك، قال أنس بن مالك رضي الله عنه:«كانت المصافحةُ في أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم»

(4)

.

‌الوصية الخامسة والعشرون

تبسم في وجه مَن لقِيت من إخوانك المسلمين

، فقد قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه:«ما حَجَبَني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمتُ، ولا رآني إلا تبسمَ في وجهي»

(5)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

أخرجه البخاري في الاستئذان (6263)، والترمذي في الاستئذان والآداب (2729) من حديث أنس رضي الله عنه.

(5)

سبق تخريجه.

ص: 644

وقال صلى الله عليه وسلم: «تبسُّمك في وجه أخيك صدقة»

(1)

.

وقال عليه الصلاة والسلام: «لا تحقِرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طلْق»

(2)

.

فاحرص- بارك الله فيك- على التخلق بهذا الخلق الكريم، أُسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، واحذر أن يخدعك الشيطان فيفوت عليك هذا الأجر العظيم.

الوصية السادسة والعشرون

احذر من التعصب بكل أشكاله وأنواعه وألوانه؛ من التعصب لمذهب أو حزب أو قبيلة، أو موطن، أو غير ذلك، فليس في ذلك فائدة إلا ذهاب العمر بلا فائدة، مع التبِعات التي لا تُحمد عُقباها، وتأمل أحوال من قضَوا أعمارهم وراء ذلك، وماذا جَنَوا!

‌الوصية السابعة والعشرون

اعلم أن الانتصارالحقيقي للأمة هو الانتصار بدينها وأخلاقها

، كما قال الشاعر:

وإنما الأممُ الأخلاقُ ما بقِيت

فإنْ همُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا

(3)

فمتى انتصرت الأمة بأخلاقها، حصلت لها القوة المعنوية، وتقدمت بسياستها واقتصادها، وصارت بإذن الله تعالى في قوة ومنعة من أعدائها.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق.

ص: 645

الوصية الثامنة والعشرون

كن دقيقًا في حساب زكاة مالك، قليلًا كان أو كثيرًا، وحدد وقتًا لإخراج الزكاة، سواء في رمضان أو في المحرَّم، بداية السنة أو في غير ذلك.

واعمل على أنه إذا جاء الوقت المحدد عندك لإخراجها أن تزكي كل ما عندك من المال بغض النظر عن كون بعضه ما تم عليه الحول، ولم تجب زكاته، فهذا أيسر لك وأسهل، وإن حددت لكل ما يدخل عليك من مال بداية حوله من حين دخوله إلى أن يحول عليه الحول، فهذا هو الأصل، لكن قد يكون فيه مشقة عليك.

واعلم أنه لا مانع من تعجيل الزكاة لحول أو حولين عند الحاجة إذا كان المال موجودًا عندك كما تعجل صلى الله عليه وسلم زكاة عمه العباس رضي الله عنه

(1)

.

فمتى رأيت بأحد حاجة أو جاءك تعطيه من زكاة مالك، وإن كان لم يتم عليه الحول. وفيه توسعة ولله الحمد.

الوصية التاسعة والعشرون

اقدر لشهر رمضان المبارك قدره، واجتهد في حفظ صيامه من المفطرات الحسية والمعنوية، وفي حفظ قيامه بالقيام مع الإمام حتى ينصرف، يُكتب لك قيام كل الشهر.

(1)

أخرج الترمذي في الزكاة (678) من طريق إسماعيل بن زكريا، عن الحجاج بن دينار، عن الحكم بن عتيبة، عن حجية بن عدي، عن علي، أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك. وفي (679) من طريق إسرائيل، عن الحجاج بن دينار، عن الحكم بن جحل، عن حجر العدوي، عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه:«إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام» . قال الترمذي: «لا أعرف حديث تعجيل الزكاة من حديث إسرائيل، عن الحجاج بن دينار، إلا من هذا الوجه، وحديث إسماعيل بن زكريا عن الحجاج عندي أصح من حديث إسرائيل عن الحجاج بن دينار» .

ص: 646

واحذر كل الحذر من نوم النهار أو أكثره، وتفويت صلاة الجماعة، أو تأخير الصلاة عن وقتها، فما صام من فعل ذلك.

واحذر من أن تذهب لصلاة التراويح خلف إمام بعينه فتفوتك صلاة الجماعة مع الإمام، فتكون كمن يعمر قصرًا، ويهدِم مِصرًا، وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فلا شيء من النوافل يعوض عن صلاة الجماعة مع الإمام.

واحرص على أداء صلاة التراويح في مسجدك، وشجع الإمام والمؤذن وجماعة الحي، وتعهد أولادك وأهلك، فهو خير لك وأعظم أجرًا، وأفضل من البحث عن مسجد آخر.

واعلم أن شهر رمضان هو شهر القرآن، فأكثِر فيه من قراءة القرآن الكريم.

واعلم أن القرآن الكريم هو الزاد والمزاد لك في دينك ودنياك وأخراك، اقرأه بتدبر لألفاظه ومعانيه وأحكامه ومواعظه، واعمل به، اختمه على الأكثر في كل شهر، أو في عشرين، أو في عشر، أو في سبع، أو في ثلاث، ولا تزد على ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما

(1)

، ولقوله صلى الله عليه وسلم:«لا يفقه من قرأ القرآن بأقل من ثلاث»

(2)

.

واعلم أن من قرأه في ثلاث أفضل ممن قرأه كل ليلة؛ لأن من قرأه في ثلاث أخذ بالسنة، ويمكنه تدبر ما يقرأ، أما من قرأه في أقل من ذلك فإنه لم يأخذ بالسنة، ولا يفقه ما يقرأ، وشق على نفسه، وربما ضيع حقوقًا أخرى لنفسه وأهله وولده وغيرهم، والمُنبَتُّ لا أرضًا قَطَع ولا ظهرًا أبقَى

(3)

.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين يُسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسدِّدوا وقاربوا»

(4)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

ورد في حديث مرفوع أخرجه البزار في «مسنده» كما في «كشف الأستار» 1/ 57 (74)، وابن الأعرابي في «معجمه» 3/ 899 (1883)، والبيهقي (3/ 18) من حديث جابر رضي الله عنه. قال الهيثمي في «المجمع» (1/ 62):«رواه البزار، وفيه يحيى بن المتوكل أبو عقيل، وهو كذاب» . وضعفه الألباني في «ضعيف الجامع» (2022).

(4)

أخرجه البخاري في الإيمان (39)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5034) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 647

وقد رد صلى الله عليه وسلم على المتبتلين تبتلهم الذين قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أُفطر، وقال آخر: أنا أعتزِل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأُفطر، وأصلي وأرقُد، وأتزوج النساء، فمن رغِب عن سنتي فليس منِّي»

(1)

.

خذ المصحف باليمين، وناوِلْه باليمين، واحمِلْه باليمين، وقلِّب صفحاته باليمين، وجنبه اليسار ما استطعتَ تكريمًا وتوقيرًا له واحترامًا، ولك أجر ذلك كله إن شاء الله.

احمله أثناء القراءة إن استطعتَ بيدِك فهو أفضل، احرص على القراءة بالمصحف فهو أجمع للفكر والتدبر وأولى، وأسلم من المشوِّشات في الجوال.

‌الوصية الثلاثون

احرص على تطبيق كل ما ثبت بالسنة، فذلك أفضل

.

في الرواتب: صلِّ تارَةً عشْر ركَعات، وتارَةً اثنتي عشرة ركعةً، فهذا أولى وأفضل من المداومة على الاثنتي عشْرةَ ركعةً وحدَها، أو على العشر وحدها. والأمر واسع.

في قيام الليل: تنام نصف الليل، وتقوم ثلثه، وتنام سدسه، كما كان قيامه صلى الله عليه وسلم، فهذا أولى وأفضل من قيام الليل كله، اللهم إلا في العشر الأواخر من رمضان؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحيي الليلَ كلَّه

(2)

.

في الصوم: صُمْ يومًا وأفطِر يومًا كما كان صيام داود عليه الصلاة والسلام

(3)

.

في ختم القرآن الكريم: اختِمْه في كل شهر، أو في عشرين، أو في عشر، أو في سبع، أو في ثلاث، ولا تزِدْ على ذلك، كما تقدم بيانُه.

(1)

أخرجه البخاري في النكاح (5063)، ومسلم في النكاح (1401)، والنسائي في النكاح (3217)، وأحمد 3/ 241 (13534) من حديث أنس رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 648

الوصية الحادية والثلاثون

اعلم أن العمرة في رمضان من أفضل الأعمال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تَقضي حجة» أو «حجة معي»

(1)

.

فاغتنِم هذا الشهر لأداء العمرة ما أمكنك ذلك.

وإن كنت من ذوي المسؤوليات في الأمة وقد أديت العمرة الواجبة عمرة الإسلام، وتتأثر مسؤوليتك بذهابك للعمرة، فأجرك في القيام بمسؤوليتك، والله يكتب لك أجر العمرة إذا كنت إنما تركتها التزامًا بمسؤوليتك، كإمامة الناس في الصلاة، أو خدمة للمسلمين يُحتاج إلى قيامك بها، أو القيام على والد أو مريض من ولد أو أخ أو قريب أو صديق، أو أخ في الله يحتاج لقيامك عليه، أو لعمل في الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو غير ذلك.

وكذلك إن حال بينك وبينها مرض أو سفر، ونحو ذلك، قال صلى الله عليه وسلم:«إذا مرض العبد أو سافر كُتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا»

(2)

.

ومثل العمرة في رمضان في كونها من أفضل الأعمال العمرة في ذي القَعدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع مرات كلها في ذي القَعدة

(3)

، ولنا به أسوة صلوات الله وسلامه عليه في أقواله وأفعاله.

(1)

أخرجه البخاري في جزاء الصيد (1863)، ومسلم في الحج (1256)، وأبو داود في المناسك (1990)، وابن ماجه في المناسك (2994)، وأحمد 1/ 308 (2808) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه أبو داود في الموضع السابق (1989)، وأحمد 6/ 375 (27106) من حديث أم معقل الأسدية رضي الله عنها.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرج البخاري في المغازي (4148)، ومسلم في الحج (1253)، وأبو داود في المناسك (1994)، والترمذي في الحج (815)، وأحمد 3/ 134 (12372) من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 649

الوصية الثانية والثلاثون

اجتهد في العشر الأواخر من رمضان؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر شدَّ مِئزَره وأحيا ليلَه، وأيقَظَ أهله

(1)

، وكان يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها

(2)

.

والتمِس ليلة القدر في جميع ليالي العشر، فهي ليالٍ قليلة محدودة معدودة، وكلها تُرجى فيها ليلة القدر، كما جاءت الأحاديث بذلك.

إضافة إلى أن ليلة القدر على الصحيح من أقوال أهل العلم تنتقل، وليست ثابتة في ليلة واحدة

(3)

.

الوصية الثالثة والثلاثون

زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين يوم العيد وليلته، وهي صاع من طعام، من بُرٍّ أو شعير أو تمر أو زبيب أو أقِط؛ كما قال ابن عمر رضي الله عنهما:«فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر صاعًا من بُرٍّ أو شَعير أو تمر أو زبيب أو أَقِط»

(4)

.

ولا يجوز إخراجها من القيمة على الصحيح من أقوال أهل العلم؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وينبغي أن يتولاها الإنسان بنفسه؛ لأنها عبادة فيخرجها عن نفسه وأهل بيته، من زوج أو ولد أو مملوك، ممن وُلد قبل غروب الشمس ليلة العيد أو مُلِك، وتجب بغروب

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

راجع تفسير سورة القدر في «عون الرحمن» .

(4)

أخرجه مالك في الزكاة (1/ 284)، والبخاري في الزكاة (1503)، ومسلم في الزكاة (984)، وأبو داود في الزكاة (1611)، والنسائي في الزكاة (2501)، والترمذي في الزكاة (675)، وابن ماجه في الزكاة (1825).

ص: 650

الشمس ليلة العيد، والأولى إخراجها يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين.

ويجوز لمن أُعطيت له إخراجها زكاة عن نفسه وعن أهل بيته.

‌الوصية الرابعة والثلاثون

اختم صيام رمضان وقيامه بالتكبير ليلة العيد ويومه إلى خروج الإمام لصلاة العيد

، تكبيرًا وتعظيمًا لله تعالى على هدايته وشكرًا له على ما يسر من إكمال عدة شهر رمضان وصيامه وقيامه، وقراءة القرآن، وغير ذلك من صالح الأعمال:«الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد»

(1)

.

الوصية الخامسة والثلاثون

صلاة العيد سنة مؤكدة، ويرى بعض أهل العلم وجوبها، فاشهدها مع المسلمين، واذهب إليها من طريق، وارجع من طريق آخر اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم

(2)

.

وافرح بالعيد ووسع فيه على أهلك، فهو «يوم أكل وشرب وذكر لله تعالى»

(3)

.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف» 4/ 195 (5878، 5679)، وأبو يوسف في «الآثار» (295، 297) عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما.

(2)

أخرجه الترمذي في العيدين (541) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي: «حسن غريب» . وأخرجه أبو داود في الجمعة (1156)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، والسنة فيها (1299) وأحمد 2/ 109 (5879) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1049).

(3)

أخرجه مسلم في الصيام (1141)، وأبو داود في الأضاحي (2813)، والنسائي في الفرع والعتيرة (4230)، وأحمد 5/ 76 (20728) من حديث نبيشة الهذلي رضي الله عنه.

ص: 651

‌الوصية السادسة والثلاثون

أتبِعْ صيام رمضان بصيام ستٍّ من شوال، تكن كمن صام الدهر

(1)

.

واحرِصْ على المبادرة بصيامها بعد العيد مباشرة؛ فهو أَولى وأفضل.

لا تقدم صيامها على صيام ما عليك من قضاء، بل قدِّمْ صيام القضاء فهو أولى وآجر، وأسرِع في إبراء الذمة، والواجب مقدَّم على السنة.

واعلم- أخي المسلم وأختي المسلمة- أن من لم يتمكن من صيام الست بسبب كثرة ما عليه من القضاء، أو بسبب مرض أو سفر لم يتمكن معه من صيامها، وكان من عادته أن يصومها فإن الله عز وجل يكتب له أجر صيامها تامًّا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا»

(2)

.

وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

‌الوصية السابعة والثلاثون

اغتنم أيام عشر ذي الحِجَّة بالأعمال الصالحة كلها

.

واعلم أن العمل الصالح فيها من أحب الأعمال إلى الله تعالى وأفضلها

(3)

.

(1)

أخرجه أبو داود في الصوم (2433)، وابن ماجه في الصيام (1716) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1049). (2102).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه البخاري في العيدين (969)، وأبو داود في الصوم (2438)، والترمذي في الصوم (757)، وابن ماجه في الصيام (1727)، وأحمد 1/ 224 (1968)، والدارمي 2/ 41 (1773، 1774) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 652

ومما يتأكد في هذه الأيام العشر من الأعمال الصالحة ما يلي:

أولًا: التكبير والتهليل والتحميد، وهي من أفضل الأعمال الصالحة في هذه الأيام العشر، وهي شعارها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«فأكثروا فيهن من التكبير والتهليل والتحميد»

(1)

.

وكان أبو هريرة وابن عمر رضي الله عنهما يخرجان في الناس فيكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما

(2)

.

وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بمنًى فيسمعه أهل المسجد، فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج مِنًى تكبيرًا. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكبر بمنًى تلك الأيام، وخلف الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه ومجلسه، وممشاه تلك الأيام جميعًا

(3)

.

والتكبير منه المطلَق الذي يبدأ من دخول شهر ذي الحِجة، وحتى غروب الشمس من اليوم الثالث عشر منه، آخر أيام التشريق.

ومنه التكبير المقيَّد بأدبار الصلوات، ويبدأ من فجر يوم عرفة لغير الحاج إلى عصر آخر أيام التشريق.

فإذا سلَّم من الفريضة، وقال: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركتَ يا ذا الجلال والإكرام، شَرَعَ في التكبير، فقال: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، ويكررها ثلاث مرات، ثم يكمِل بقية الأذكار الواردة بعد الصلاة.

والتكبير يكون بأي صيغة من صيغ التكبير الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وينبغي الحرص على إظهار هذا الشعار العظيم لهذه الأيام العشر بالتكبير والتهليل

(1)

أخرجه أحمد 2/ 75، 131 (5446، 6154)، وعبد بن حميد في «المنتخب» (805)، وأبو عوانة في «مستخرجه على مسلم» 2/ 246 (3024)، والبيهقي (3/ 354). وأخرجه الطبراني في «الكبير» 11/ 82 (11116) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الهيثمي في «المجمع» (4/ 17):«هو في الصحيح باختصار التسبيح، وغيره. رواه الطبراني في «الكبير» ، ورجاله رجال الصحيح».

(2)

أخرجه البخاري معلقًا في كتاب العيدين، فضل العمل في أيام التشريق قبل (969)، ووصله الفاكهي في «أخبار مكة» 2/ 372 (1704). وصححه الألباني في «الإرواء» (651).

(3)

أخرجهما البخاري تعليقًا في العيدين، باب التكبير أيام منى، وإذا غدا إلى عرفة قبل الحديث (970).

ص: 653

والتحميد في المساجد والبيوت والأسواق والأماكن العامة والخاصة، ولا نخجل؛ فإن هذا من إظهار شعائر الإسلام، ومن الأعمال المتعدي نفعها والتذكير بها إلى الآخرين، ومن الدعوة إلى الله تعالى، وقد يفوق العمل على نشره وإظهاره كثيرًا من الأعمال القاصرة على الشخص نفسه.

ثانيًا: الحج، وهو واجب في حق من لم يحج حجة الإسلام، يجب أن يبادر إليه على الفور ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وهو سنة في حق من حج فرضه، ومندوب إليه.

وعلى مَن أراد الحج الالتزام بالأنظمة التي وُضعت لتنظيم الحج، وعدم مخالفتها.

وبإمكان من كان صادق الرغبة في أن يُكتب له أجر حجة كل سنة أن يدفع قيمة الحج لمن لا يستطيعون الحج من الفقراء من العمالة وغيرهم، بل بإمكانه أن يدفع لأكثر من شخص فيحصل على عدة حجج في سنة واحدة، وفضل الله واسع.

ثالثًا: صيام يوم عرفة، قال صلى الله عليه وسلم:«صيام يوم عرفة أحتسِب على الله أن يكفِّر السنة الماضية والباقية»

(1)

.

رابعًا: صلاة العيد، وهي سنة مؤكدة لا ينبغي للمسلم أن يدعها، بل قال بعض أهل العلم بوجوبها

(2)

.

خامسًا: الأُضحِيَّة، وهي سُنة مؤكدة لا ينبغي لمن كان قادرًا أن يتركها، بل أوجبها بعض أهل العلم، وتكون عن الشخص نفسه وعن أهل بيته الأحياء، ومن أراد من الأموات.

والأَولى أن يتولى ذبحها بنفسه؛ لأنها عبادة ونسيكة، ويكون ذلك في بيته وبين أهله وأولاده ليتعلموا ذلك، ولهذا لا يحسن أن يعطيَها للجهات الخيرية تتولى ذبحها، سواء في الداخل أو الخارج.

وعلى المسلم أن يجتهِد في فعل ما استطاع من صالح الأعمال في هذه الأيام العشر؛

(1)

سبق تخريجه.

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» 23/ 161.

ص: 654

من الصلاة وقيام الليل، والصدقة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والدعوة إلى الله تعالى، وإصلاح ذات البين، والصيام، والذكر، وقراءة القرآن، وغير ذلك.

قال ابن باز رحمه الله

(1)

: «وصيامها لا بأس به، وفيه أجر؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيهن أحبُّ إلى الله من هذه الأيام العشر» قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال:«ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجِع من ذلك بشيء»

(2)

.

أما النبي صلى الله عليه وسلم فرُوي عنه أنه كان يصومها، ورُوي أنه لم يكن يصومها، ولم يثبت في ذلك شيء من جهة صومه لها أو تركه لذلك.

الوصية الثامنة والثلاثون

احرص على صيام يوم عاشوراء، وهو العاشر من شهر الله المحرَّم؛ فإنه يكفر السنة الماضية، وصُم التاسع قبله؛ اتباعًا للسنة، أو الحادي عشر.

واعلم أن «أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرَّم» ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم

(3)

.

قال ابن باز رحمه الله

(4)

: «وصيام يوم عاشور سُنة، والأفضل أن يصوم معه يومًا قبله أو بعده، سواءٌ التاسع أو الحادي عشر، أو يصومهما جميعًا معه، وهذا هو الأفضل، وإن صام الشهر كله- شهر المحرم- فهو سُنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم» .

(1)

«مجموع الفتاوى» 15/ 416.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه مسلم في الصيام (1163)، وأبو داود في الصوم (2429)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1613)، والترمذي في الصلاة (438)، وابن ماجه في الصيام (1742)، وأحمد 2/ 303 (8026) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

«مجموع الفتاوى» 16/ 460، وانظر: 15/ 416.

ص: 655

واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم شعبان كله، وربما صامه إلا قليلًا منه

(1)

، فصيامه أو بعضه سنة لكن دون تخصيص اليوم الخامس عشر بالصوم، فذلك من البِدع.

الوصية التاسعة والثلاثون

اعلم أن كسوف الشمس وخسوف القمر مما يخوِّف الله تعالى به العباد، فعن أبي موسى رضي الله عنه قال: خَسَفَتِ الشمسُ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزِعًا، يخشى أن تكون الساعةَ، فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود رأيته قط يفعله، وقال:«هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحدٍ ولا لحياته، ولكن يخوِّف الله به عباده، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فافزَعوا إلى ذِكرِه ودعائه واستغفاره»

(2)

.

فلا يجوز تفسير ذلك تفسيرًا طبيعيًّا فقط، وتناسي الحكمة في ذلك، وأنه مما يخوِّف الله تعالى به عباده؛ لأن الله عز وجل لو شاء ما وقع ذلك.

قال صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يَنخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلُّوا وادعوا حتى ينكشِفَ ما بكم»

(3)

.

وفي رواية: «فادعوا وكبِّروا وصلوا وتصدقوا»

(4)

.

فالمشروع عند الكسوف: الصلاة والدعاء والتكبير والصدقة والاستغفار.

وصلاة الكسوف سنة مؤكدة، وهي أربع ركوعات في ركعتين، وصفتها: يستفتح

(1)

أخرجه مسلم في الصيام (1156)، والنسائي في الصيام (2178)، والترمذي في الصوم (737)، وابن ماجه في الصيام (1742)، وأحمد 6/ 39 (24116) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

أخرجه البخاري في الكسوف (1059)، ومسلم في الكسوف (912).

(3)

أخرجه البخاري في الكسوف (1040)، والنسائي في الكسوف (1502)، وأحمد 5/ 37 (20390) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البخاري في الكسوف (1044)، ومسلم في الكسوف (901)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 656

ويقرأ الفاتحة وآيات طويلة، ثم يركع ويطيل الركوع ثم يرفع، ويقرأ الفاتحة وآيات طويلة دون الأولى، ثم يركع ثم يرفع، ثم يسجد، ويكمل بقية الركعة ثم يقوم ويصلي الركعة الثانية كالأولى لكن أخف منها، ثم يتشهد ويسلم، وإذا انجلى الكسوف وهم فيها أتموها خفيفة.

ومثل صلاة الكسوف في مشروعيتها صلاة الاستسقاء، وهي سنة مؤكدة، إذا أجدبت الأرض وقحط المطر تُصلَّى بعد ارتفاع الشمس قِيدَ رُمحٍ، وصفتها كصفة صلاة العيد، ويخطب بعدها خطبة واحدة يحث فيها على التوبة والاستغفار وسؤال الله عز وجل إنزالَ الغيث، وينبغي أن يحرص المسلم على حضورها؛ إذ لا أحد في غنى عن الله عز وجل وسؤاله.

‌الوصية الأربعون

سلِّم لقضاء الله تعالى وقَدَره وارضَ به، واعلم أنه لن يصيبك إلا ما كتب الله لك

، كما قال تعالى:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51].

واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا، كما قال صلى الله عليه وسلم في وصيته لابن عباس رضي الله عنهما

(1)

.

وقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6].

ص: 657

قال بعض السلف: «لن يغلب عسرٌ يُسرين»

(1)

.

الوصية الحادية والأربعون

اعلم أن الشيطان تسبب في إخراج أبينا آدم عليه السلام من الجنة، وهو العدو الأول لآدم وذريته، فاستعذ بالله منه، ومن همزاته، وتزيينه الشر ونَزَغاته، وكن قويَّ الإيمان راسخ العقيدة، معتمدًا على الله عز وجل، حَذِرًا كل الحذر من وساوس الشيطان وتوهيمه.

‌الوصية الثانية والأربعون

اعلَمْ أن الخيرةَ- بعد فعل الأسباب- فيما يختاره الله تعالى لك

؛ من صحة وغنًى، أو مرض وفقر، أو ذرية أو عقم، أو غير ذلك.

فكم من صحيحٍ غني كان ذلك سبب بُعده عن الله تعالى وطغيانه وهلاكه!

وكم من مبتلًى بالفقر والمرض كان ذلك سببًا لقربه من الله تعالى وتضرعه إليه ونجاته!

وكم من مرزوقٍ بالذرية والأولاد كانوا سبب شقائه وهلاكه!

وكم من محرومٍ من الذرية والأولاد كان ذلك سبب سعادته ونجاته، وسخر الله تعالى له وعوضه خيرًا من ذلك، وكم، وكم، وكم!

قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216].

وقال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا} [النساء: 19].

قال الشاعر:

(1)

سبق تخريجه من قول عمر رضي الله عنه.

ص: 658

قد ينعم الله بالبَلوَى وإنْ عَظُمتْ

ويَبتلي اللهُ بعضَ القومِ بالنِّعَمِ

(1)

وقال الآخر:

لعل عتبَك محمودٌ عواقبُه

وربما صَحَّتِ الأجسامُ بالعِلَلِ

(2)

فافعل الأسباب، وسلِّم أمرك لله تعالى، واقنع بما آتاك وقدره لك، وتوكل عليه، فمن توكل عليه كفاه، قال تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].

‌الوصية الثالثة والأربعون

كن الرجل الراحلة الذي يسد مكانه ويملأ فراغه في الأمة

، في المسجد والبيت والعمل، واحذر من السلبية؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم:«الناسُ كإبِلٍ مئةٍ؛ لا يوجد فيها راحلة»

(3)

.

قال الشاعر:

والناس ألفٌ منهمُ كواحدٍ

وواحدٌ كالألفِ إن أمرٌ عنَا

(4)

‌الوصية الرابعة والأربعون

اعلم أن الإنسان خُلق في كَبَد، وأن الحياة طُبعت على كَدَر، وأن السعادة والسلامة والصفاء بعد دخول الجنة

. نسأل الله من فضله.

قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]؛ أي: في نصب ومكابدة ومجاهدة في جميع

(1)

سبق.

(2)

البيت للمتنبي في «ديوانه» ص (339).

(3)

أخرجه البخاري في الرقاق (6498)، ومسلم في فضائل الصحابة (2547)، والترمذي في الأمثال (2873)، وابن ماجه في الفتن (3990)، وأحمد 2/ 109 (5882) من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

(4)

البيت لابن دريد انظر «ديوانه» ص (132).

ص: 659

أطوار حياته.

وقال الشاعر:

ومَن عاش في الدنيا فلا بدَّ أن يَرى

منَ العيشِ ما يَصفُو وما يَتَكَدَّرُ

(1)

وقال الآخر:

طُبعتْ على كَدَرٍ وأنت تُريدُها

صَفْوًا منَ الأقذاءِ والأقذارِ

ومُكلِّف الأيام ضِدَّ طِباعِها

مُتَلَمِّسٌ في الماءِ جَذوةَ نَارِ

وإذا رجوتَ المستحيلَ فإنما

تَبني الرجاءَ على شَفير هارِ

(2)

الوصية الخامسة والأربعون

اعلَمْ أن المصيبة العظمى، والكسر الذي لا ينجبر، والجرح الذي لا يندمِل: أن يصاب الإنسان في دينه، فكل مصيبةٍ تهون دون المصيبة في الدين.

قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].

قال الشاعر:

وكل كسرٍ فإن الله جابِرُه

وما لكسر قناة الدينِ جُبرانُ

(3)

‌الوصية السادسة والأربعون

تدارك ما فات من عُمُرك بما بقي منه

، واجعل يومك أحسن من أمسك، واعزم على

(1)

سبق.

(2)

سبق.

(3)

البيت لأبي الفتح البستي. انظر: «ديوانه» ص 80.

ص: 660

أن يكون ما تستقبله من الأيام أحسن مما مضى، قال تعالى:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10].

وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائعٌ نفسَه فمُعتِقها أو مُوبِقها»

(1)

.

فالحياة فرصة واحدة، فاحذر من تفويتها بما لا ينفعك غدًا، فكن في حفظها وحفظ وقتك أشدَّ من البخيل على درهمه وديناره إلا فيما يقرِّبك إلى الله عز وجل.

قال السِّعدي رحمه الله في آخر كلامه على سورة المزمِّل

(2)

: «فوا أسفاه على أوقاتٍ مضت في الغفلات، وواحسرتاه على أزمانٍ تَقَضَّتْ في غير الأعمال الصالحات، ووا غوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها، ولم ينجَع فيها تشويق من هو أرحم بها من نفسها، فلك اللهم الحمد، وإليك المشتكَى، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك» .

قال الشاعر:

الموت بابٌ وكل الناسِ داخِلُه

يا ليتَ شِعري بعد الموتِ ما الدارُ؟

الدار جنةُ عدْن إن عمِلت بما

يُرضي الإلهَ وإنْ فرطتَ فالنارُ!

هما محلان ما للناسِ غيرُهما

فاخترْ لنفسِك ماذا أنتَ تختارُ!

(3)

الوصية السابعة والأربعون

اعلم أن الوقف من أفضل الصدقات وأعظمها، رغَّب فيه الإسلام، وحث عليه، قال الله عز وجل:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245].

وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 11].

(1)

سبق تخريجه.

(2)

في «تيسير الكريم الرحمن» 7/ 506 - 507.

(3)

البيت لأبي العتاهية، انظر:«ديوانه» ص (141).

ص: 661

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو ولد صالح يدعو له»

(1)

.

وقد ذُكر أنه جاء رجل إلى العلامة السِّعدي رحمه الله، فقال له: يا شيخ، أيهما أفضل: أتصدقُ الآن، أم أجعل ذلك في الوصيةِ؟

فقال له الشيخ رحمه الله: أيهما أفضل أن يكون أمامك سراج واحد، أو خلفك سراجان؟ فقال الرجل: سراج واحد أمامي أفضل، فقال له: إذن فتصدقِ الآن. أو كما قال رحمه الله.

وجاء رجل إلى العلامة ابن حميد رحمه الله، فسأله نحوًا من ذلك؟

فقال له الشيخ رحمه الله: أيهما أولى إذا أردتَ أن تسافر: أن تحمل زادك معك، أو تقول لأولادك: اتبعوني بالزاد؟ فقال: الأولى أن أحمِله معي، قال: إذن فتصدق الآن. أو كما قال رحمه الله.

الوصية الثامنة والأربعون

ينبغي للمسلم ألا يَغفُل عن ذكر الموت؛ ليعينه ذلك بإذن الله تعالى على الاستعداد للقاء الله تعالى، قال صلى الله عليه وسلم:«أكثِروا من ذِكر هاذم اللذاتِ الموت»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا إنما أنا كراكبٍ استظل تحت شجرة، ثم راح وتركها»

(3)

.

وأمسك صلى الله عليه وسلم بمنكب ابن عمر رضي الله عنهما وقال: «كنْ في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول:«إذا أمسيتَ فلا تنتظِرِ الصباح، وإذا أصبحتَ لا تنتظر المساء»

(4)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه النسائي في الجنائز (1824)، والترمذي في الزهد (2307)، وابن ماجه في الزهد (4258).

(3)

أخرجه الترمذي في الزهد (2377)، وابن ماجه في الزهد (4109)، وأحمد 1/ 391 (3709). قال الترمذي:«حديث حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (438).

(4)

أخرجه البخاري في الرقاق (6416)، والترمذي في الزهد (2333)، وابن ماجه في الزهد (4114).

ص: 662

الوصية التاسعة والأربعون

يجب على من كان عليه حقوق لله تعالى أو للخلق، أو له حقوق على الناس أن يكتب ذلك في وصيته، ويستحب لمن خلَّف مالًا كثيرًا ألا يتركَ الوصية، كما يُستحب لمن خلَّف مالًا قليلًا وخلفه ورثة محتاجون ترك الوصية.

كما ينبغي أن يُعلم أن الوصية بالثلث جائزة، لكن الأولى أن تكون بالخمس، كما أوصى بذلك أبو بكر رضي الله عنه، واختاره جمعٌ من الصحابة رضي الله عنهم، ومن أهل العلم رحمهم الله.

والأَولى أن تكون جهة صرف الوصية مفتوحة يستطيع الناظر عليها صرفها في الأحوج من جهات البر.

الوصية الخمسون

ينبغي أن يعلم أن حرمة المؤمن ميتًا كحرمته حيًّا، أو أشد، ومن حقه الإسراع في تجهيزه وغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، ولا يجوز لأحدٍ من أقاربه أو غيرهم تأخيره إلا لحاجة؛ لأن ذلك اعتداء على الميت، ولا ينبغي تأخيره، من أجل حضور فلان أو فلان من أقاربه أو غيرهم، ولا من أجل تكثير المصلين عليه، بل يكتفي بمن حضر.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أسرِعوا بالجنازة؛ فإن كانت صالحةً فخيرٌ تقدِّمونها إليه

» الحديث

(1)

.

وينبغي الحذر كل الحذر مما استحدثه الناس في الجنائز

(2)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

انظر: وقفات أربع في الجنائز.

ص: 663

الوصية الحادية والخمسون

يجب الإسراع في قسمة الميراث، وعدم تأخيره متى أمكن ذلك؛ لأنه حق للورثة يجب دفعه لهم، ولأن تأخير قسمة الميراث سبب لكثير من المشكلات والعداوات بين الأقارب.

الوصية الثانية والخمسون

اعلم أن الحياة جد، وأنك فيها كمن دخل معركة، فإن كان متدربًا متسلحًا انتصر بإذن الله تعالى، وإلا انهزم، أو كمن نزل في البحر فإن كان يجيد السباحة سلِم بإذن الله تعالى، وإلا غرِق، وما أكثر المنهزمين والغارقين!

قال الشاعر:

الأمر جدٌّ وهو غير مِزاح

فاعمَلْ لنفسِك صالحًا يا صاحِ

(1)

وقال الآخر:

قد رشحوك لأمرٍ لو فطِنتَ له

فاربَأْ بنفسِك أن تَرعى مع الهَمَلِ

(2)

الوصية الثالثة والخمسون

اعلم أن ثمرة العلم العمل به، وإلا صار حجةً ووبالًا على صاحبه، فما نفع اليهود علمهم، فقد قال الله تعالى في وصفهم:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5].

(1)

سبق.

(2)

سبق.

ص: 664

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد، فأُتي به فعرَّفه نِعَمَه فعَرَفَها، قال: فما عمِلت فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استشهدت، قال: كذبتَ، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل تعلمَ العلمَ وعلَّمه وقرأ القرآن، فأُتي به فعرفه نعمه فعرفها

» إلى آخر الحديث

(1)

.

قال الشاعر:

وعالم بعِلمِه لم يَعملَنْ

مُعذَّبٌ مِن قبلِ عُبَّادِ الوَثَنْ

(2)

الوصية الرابعة والخمسون

اشكرِ الله عز وجل على ما أولاك من نعمة الإيمان والإسلام، والأمن والعافية والرزق والأهل والولد وغير ذلك، وتأمل قول الله تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34، والنحل: 18].

وقوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].

وقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7].

وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أصبح آمنًا في سِربِه، معافًى في بدنِه، عنده قُوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا»

(3)

.

قال الشاعر:

إذا كنتَ في نعمةٍ فارْعَها

فإنَّ المعاصيَ تُزيلُ النِّعَم

وحافِظْ عليها بشكرِ الإلهِ

فإن الإلهَ سَريعُ النِّقَم

(4)

(1)

أخرجه مسلم في الإمارة (1905).

(2)

سبق.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق.

ص: 665

واعلمْ أن العبد لا يستطيع شكر الله تعالى حق شكره، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«سبحانك لا أُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسِك»

(1)

.

قال الشاعر:

إذا كان شكري نعمةَ الله نعمةً

عليَّ له في مِثلِها يجبُ الشكرُ

فكيف بلوغُ الشكرِ إلا بفضلِه

وإن طالتِ الأيامُ واتصَلَ العُمرُ!

إذا عمَّ بالسراءِ عم سُرُورها

وإن خص بالضراءِ أعقَبها الأجرُ

(2)

‌الوصية الخامسة والخمسون

لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله تعالى

(3)

، وأكثِر من الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل، بسؤاله الهداية للصراط المستقيم، والثبات عليه، والعلم النافع والعمل الصالح، والسعادة في الدنيا والآخرة، والحياة الطيبة على الإسلام، والوفاة على الإيمان، واللطف بالقضاء والقدر، وحسن الختام ودخول الجنة والنجاة من النار.

ادعُ بذلك لنفسك ووالديك، وأهلك وأولادك، وأقاربك وجيرانك، وأحبتك وأصدقائك، ولكل من كان لهم حق عليك، ولجميع المسلمين، واعلم أن هناك ملكًا يؤمِّن على دعائك ويقول:«ولك بمِثل»

(4)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق.

(3)

أخرجه الترمذي في الدعوات (3375)، وابن ماجه في الأدب (3793)، وأحمد 4/ 188 (17680) من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه. قال الترمذي:«حديث حسن غريب» . وصححه الألباني في تخريج «الكلم الطيب» (3)، «صحيح الجامع» (7700).

(4)

سبق تخريجه.

ص: 666

‌الوصية السادسة والخمسون

أكثِر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على الدوام، وخاصةً يومَ الجمعة

.

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

وقال صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليَّ واحدةً صلى الله عليه بها عشرًا»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خُلِق آدم، وفيه قُبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثِروا عليَّ فيه من الصلاة؛ فإن صلاتكم معروضة عليَّ»

(2)

.

قال ابن باز رحمه الله

(3)

: «أما الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي من أفضل القربات، ومن الأعمال الصالحات، كما قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

وقال صلى الله عليه وسلم: «من صلى عليَّ واحدةً صلى الله عليه بها عشرًا» ، وهي مشروعة في جميع الأوقات، ومتأكدة في آخر كل صلاة، بل واجبة عند جمعٍ من أهل العلم في التشهد الأخير من كل صلاة.

وسُنة مؤكدة في مواضع كثيرة، منها بعد الأذان، وعند ذكره عليه الصلاة والسلام، ويوم الجمعة وليلتها؛ كما دلت على ذلك أحاديثُ كثيرة».

(1)

أخرجه مسلم في الصلاة (384)، وأبو داود في الصلاة (523)، والنسائي في الأذان (678)، والترمذي في المناقب (3614)، وأحمد 2/ 168 (6568) من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما. و أخرجه الترمذي في الوتر (485)، والدرارمي 2/ 408 (2772)، والحاكم (1/ 550) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

أخرجه أبو داود في الجمعة (1047)، وفي الوتر (1531)، والنسائي في الجمعة (1374)، وابن ماجه في إقامة الصلاة، والسنة فيها (1085)، وأحمد 4/ 8 (16162)، والدارمي 1/ 445 (1572) من حديث أوس بن أوس رضي الله عنه. وصححه الألباني في «الإرواء» (4)، وفي «صحيح أبي داود» (962، 1370).

(3)

في مجموع الفتاوى 1/ 182.

ص: 667

الوصية السابعة والخمسون

اعلَمْ أن الإنصاف من النفس من أشق الأمور على النفس، وهو مُركب صعب لا يستطيعه ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم، اختاره الله تعالى واصطفاه ووفقه.

فكم من إنسان يستطيع قيام الليل، وصيام النهار، وإنفاق الأموال في أعمال البر، والقيام بكثير من الطاعات، لكنه يقف عاجزًا عن الإنصاف من نفسه، وإن ادَّعى ذلك.

عن المعرور بن سُويد رضي الله عنه قال: لقِيت أبا ذرٍّ في الرَّبَذة، وعليه حُلة وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك، فقال: إني ساببتُ رجلًا فعيرتُه بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم:«يا أبا ذرٍّ، أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلُكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فلْيُطعمه مما يَطعَم، ولْيُلبسه مما يَلبَس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم»

(1)

.

فأنصِفْ من نفسك وقلِ الحق ولو كان مرًّا، عساك تنجو، وما إخالك ناجيًا إلا برحمة الله تعالى وفضله.

‌الوصية الثامنة والخمسون

تأمل في عظيم فضل الله عز وجل وكرمه وجوده على من تاب إليه وآمن وعمل صالحًا

، قال تعالى:{وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا 68 يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ? مُهَانًا 69 إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70].

(1)

سبق تخريجه.

ص: 668

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} .

{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21، والجمعة: 4].

فأقبِل على ربك وتعلق به واطمع فيما عنده، وتقرب إليه بالأعمال الصالحة، وأكثرمن الاستغفار، وتب إليه من جميع الذنوب، تجده توابًا غفورًا رحيمًا، واستغنِ به سبحانه عن الخلق كلهم تفز وتفلح، قال تعالى:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31].

الوصية التاسعة والخمسون

احرص على بذل الصدقة والإحسان والبذل في سبل الخير كلها، فالصدقة برهان على الإيمان، وعلى الصدق مع الله تعالى في طلب النجاة ودخول الجنة، وتطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار

(1)

، وكل إنسان غدًا تحت ظل صدقته، وليس لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت.

قال صلى الله عليه وسلم: «يقول ابن آدم: مالي، مالي. قال: وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبِست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملَكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعطِ منفِقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ ممسِكًا تلفًا»

(3)

.

(1)

أخرجه الترمذي في الإيمان (2616)، وابن ماجه في الفتن (3973)، وأحمد 5/ 231 (22016). قال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» . وصححه الألباني في «الإرواء» (413). وأخرجه الترمذي في السفر (614) من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه. قال الترمذي: «هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث عبيد الله بن موسى، وأيوب بن عائذ يضعَّف، ويقال: كان يرى رأي الإرجاء. وسألت محمدًا عن هذا الحديث، فلم يعرفه إلا من حديث عبيد الله بن موسى واستغربه جدًّا» . وأخرجه ابن ماجه في الزهد (4210) من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه أحمد 3/ 399 (15284) من حديث جابر رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه البخاري في الزكاة (1442)، ومسلم في الزكاة (1010)، وأحمد 2/ 347 (8571) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 669

قال الشاعر:

المالُ كالماء إن تحبِس سواقيَه

يَأْسِن وإن يجرِ يَعْذُب منه سَلْسَالُ

فاللهُ أعطاك فابذُلْ من عَطِيَّتِه

فالمالُ عاريةٌ والعمرُ رحَّالُ

(1)

تفقد أحوال من حولك ومن تعرف من الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والضعفاء والمرضى، وامسح دموعهم بشيءٍ مما أعطاك الله تعالى تجدْه غدًا {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20].

اجعل في جيبك نحو مئتي ريال فئة عشرة، فإذا رأيت محتاجًا فأعطه ما تيسر، وسيمر عليك شهور عدة ما نَفِدَ ما في جيبك، واحذرْ أن تكون ممن إذا رأى هؤلاء المساكين قال: هؤلاء فيهم كذا وكذا، واعلم أن الناس فيهم حاجة، وفي الحديث:«تُصُدِّقَ على غنيٍّ وعلى سارقٍ وعلى زانيةٍ»

(2)

.

وقد قيل:

حالُ المُقِلِّ ناطقٌ

عَمَّا خفى من عَيبِه

فإنْ رأيتَ عارِيًا

فلا تسألْ عن ثَوبِه

(3)

‌الوصية الستون

استحضر مراقبة الله تعالى في جميع أحوالك

، فيما تقول وتفعل، وتسمع وتبصر، وفي خَطَرات قلبك، كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

(1)

سبق.

(2)

أخرجه البخاري في الزكاة (1421)، ومسلم في الزكاة (1022)، والنسائي في الزكاة (2523)، وأحمد 2/ 322 (8282) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

البيتان لبدر الدين الشافعي. انظر: «شذرات الذهب» (10/ 487).

ص: 670

إذا ما خلوتَ الدهرَ يومًا فلا تقلْ:

خلوتُ، ولكن قل: عليَّ رَقيبُ

ولا تحسِبنَّ اللهَ يَغفُلُ ساعةً

ولا أن ما يَخفَى عليه يَغيبُ

(1)

‌الوصية الحادية والستون

حاسِبْ نفسك على تقصيرها في حقوق الله تعالى، وفي حقوق خلقه

، وكن ذا قلبٍ حي يقِظ، عساك تنجو.

قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].

وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8].

قال عمر رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا»

(2)

.

الوصية الثانية والستون

لا تنسَ استحضارَ النية الطيبة الصالحة في جميع أعمالك وأقوالك، وأحوالك في عباداتك، وفي أكلك وشربك، ونزهتك ونومك وراحتك وجِماع زوجتك، تُؤجَر على ذلك كله.

واعلم أن الموفَّقين عاداتهم عبادات، وأن المخذولين عباداتهم عادات، وشتان بين

(1)

البيتان لأبي العتاهية. انظر: «ديوانه» ص 34.

(2)

أخرجه ابن المبارك في «الزهد» 1/ 103 (306)، وأبو عبيد في «الخطب والمواعظ» (144)، وابن أبي شيبة في «مصنفه» 19/ 143 (35600)، وابن أبي الدنيا في «محاسبة النفس» (2)، والآجري في «أدب النفوس» (17)، وأبو نعيم «الحلية» (1/ 52). وأورده الألباني في «السلسلة الضعيفة» (1201) على أنه ضعيف مرفوعًا فقال:«موقوف» .

ص: 671

الفريقين؛ فريق يُثاب على أكله وشربه ونزهته ونومه ونحو ذلك، وفريق يدخل المسجد ويُهَمْهِم، ويخرج من الصلاة ما كُتب له إلا ربعها أو عشرها أو أقل من ذلك، قلبه سارح في مَزابل الدنيا، وشهواتها، وهذا والله غاية الغُبن.

‌الوصية الثالثة والستون

اعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا

(1)

، فاجعل الصبر سلاحك ومركبك، صبرًا على طاعة الله تعالى، وصبرًا عن معصية الله تعالى، وصبرًا على أقداره المؤلمة، فهو عز وجل يحب الصابرين، وهو سبحانه وتعالى معهم بتوفيقه وعونه لهم، فالصبر سبب للخيرية والعقبى الحسنة في الدنيا والآخرة ومضاعفة الأجر، قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127].

وقال تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، وقال تعالى:{سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 24]، وقال تعالى:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

‌الوصية الرابعة والستون

تخلق بالحلم وكظم الغيظ، وبادر إلى العفو والصفح

، فقد جعل الله عز وجل ذلك من أخص صفات المتقين المسارعين إلى مغفرته وجنته، فقال تعالى:{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134].

وقال صلى الله عليه وسلم لأشجِّ عبدِ القيس: «إن فيك خَصلتينِ يحبهما الله: الحِلم والأناة»

(2)

.

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 672

وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملِك نفسه عند الغضب»

(1)

.

ويكفي في فضل العفو والصفح قوله عز وجل: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40].

نسأل الله من فضله.

‌الوصية الخامسة والستون

احرِص على التيمُّن في طهورك وتنعلك، وترجلك ولباسك وفي شأنك كله

، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله

(2)

.

وأمر صلى الله عليه وسلم بالأكل والشرب باليمين، وحذَّر من الأكل والشرب بالشمال، فقال:«فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله»

(3)

.

وأكل رجل عنده بشماله، فقال له صلى الله عليه وسلم:«كلْ بيمينك» ، فقال: لا أستطيع، فقال صلى الله عليه وسلم:«لا استطعتَ» ، ما منعه إلا الكِبر، قال: فما رَفَعها إلى فيه

(4)

.

فالأكل والشرب باليمين واجب، والأكل والشرب بالشمال محرَّم؛ لأن ذلك فعل الشيطان؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا على من أبى الأكل بيمينه تكبرًا فشَلَّت يدُه، ولو كان ذلك غير واجب لما دعا عليه صلى الله عليه وسلم.

الوصية السادسة والستون

اجعل لك جلسةً يوميًّا مع أهلك وأولادك تعلمهم وتوجههم وتتفقد أحوالهم وتؤانسهم، واحذر كل الحذر أن تنشغِل عنهم بأي شاغل، فهم أمانة في عُنقك ستُسأل

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق تخريجه.

ص: 673

عنهم يوم القيامة.

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

وعن مَعقِل بن يَسَارٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من راعٍ يَسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيتِه إلا حرَّم الله عليه الجنةَ»

(1)

.

الوصية السابعة والستون

اخترْ من الجُلساء والأصدقاء مَن يكون عونًا لك على تقوى الله عز وجل، واحذَرْ كلَّ الحذر من جُلساء السوء ومجالس السوء التي هي بمثابة مصائد للشيطان، ولضياع الأعمال والأعمار، فوقتك نَفيس وعُمُرك غالٍ.

قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].

وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قَدَمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيم أفناه، وعن عِلمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمِه فيم أبلاه»

(2)

.

فتخفف من فضول المجالس ما استطعتَ، واحفَظْ وقتَك، واجعل وقتك بين المسجد والبيت والعمل، والترويح عن النفس بما لا يُخل بتنظيم وقتك، ومع من تنتفع بالجلوس معهم.

قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27 - 29].

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 674

اختر صديقًا كمَن رثاه صديقه بقوله:

أخ كان لي نعمَ المُعينِ على التُّقَى

به تَنجلي عني الهمومُ وتَذهَبُ

فَطَورًا بأخبارِ الرسولِ وصَحبِه

وطورًا بآدابٍ تلِذُّ وتعذُبُ

على ذا مضى عُمري كذاك وعُمرُه

صَفِيَّينِ لا نجفو ولا نتعتبُ

(1)

وما إخالك واجدًا مثل هذا!

‌الوصية الثامنة والستون

اقنَع من الدنيا بما تيسر، وخذ نصيبَك منها مَتاعًا وبُلغةً

، وكنْ حذِرًا منها أشدَّ من حَذَرِك من الفقر، قال صلى الله عليه وسلم:«والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُفتح عليكم الدنيا كما فُتحت على من قبلكم، فتنافَسوها كما تنافَسوها فتُهلِككم كما أهلكتهم»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من أصبح آمنًا في سِربه، معافًى في بدنه، عنده قُوتُ يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا»

(3)

.

ونام صلى الله عليه وسلم على حَصير، فقام وقد أثَّر في جنبه، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وِطاءً، فقال صلى الله عليه وسلم:«ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكبٍ استظلَّ تحت شجرةٍ، ثم راح وتَرَكها»

(4)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «من كانت الدنيا أكبر همه فرَّق الله شَملَه، وجعل فَقرَه بين عينيه، ولم يأتِهِ منها إلا ما قُسم له، ومن كانت الآخرة أكبر همِّه، جمع الله شمله، وأتتْه الدنيا وهي راغمة»

(5)

.

(1)

هذه الأبيات من قصيدة مبكية للشاعر محمد بن صالح العثيمين في رثاء صديقه عبد الله العجيري رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق تخريجه.

(5)

أخرجه ابن ماجه (4105)، وأحمد 5/ 183 (21590) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2465) من حديث أنس رضي الله عنه. وصححه الألباني في «الصحيحة» (949، 950).

ص: 675

وكانت نفقة الإمام أحمد رحمه الله في الشهر سبعة عشر دِرهمًا، فقال له ابنه: يا أبتِ، زِد في النفقة. فقال رحمه الله:«يا بنيَّ، طعام دون طعام، ولباس دون لباس حتى نَلقَى الله»

(1)

.

وقليلٌ يبارك الله فيه من مال وولد ونحو ذلك خيرٌ من كثيرٍ لا يبارك فيه.

زيادة المرء في دُنياه نُقصان

ورِبحُه غيرَ محضِ الخيرِ خُسرانُ

(2)

وأي سعادة في زيادة الدنيا مع نقصان العمر والدين؟!

فاقنع- أخي، وفقك الله- من الدنيا بما تيسر، وتخفَّف من فضول المباحات؛ من المال والطعام والشراب، واللباس والمركب والمسكن، ونحو ذلك، وكن وسطًا في ذلك كله، فخير الأمور الوسط.

خذِ القناعةَ من دنياك وارضَ بها

لو لم يكنْ لك فيها إلا راحةُ البدنِ

وانظرْ إلى مَن حَوَى الدنيا لِيَجمَعَها

هل راحَ مِنها بغيرِ القُطنِ والكَفَنِ؟

(3)

‌الوصية التاسعة والستون

غُضَّ بصرك واحفَظ فَرجَك، فهو أزكى لك، وأسلم لدينك وعرضك

.

قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30، 31].

(1)

انظر: «الورع» للإمام أحمد رواية المروزي (245)، و «الزهد والورع والعبادة» للإمام ابن تيمية ص (74).

(2)

البيت لأبي الفتح البستي، انظر:«ديوانه» ص (35).

(3)

البيتان لعلي بن الحسين الإمام زين العابدين، انظر:«التذكرة» للقرطبي (1/ 21)، و «الدر الفريد، وبيت القصيد» للمستعصمي (4/ 359)، و «غرر الخصائص الواضحة، وعرر النقائض الفاضحة» لأبي إسحاق الوطواط ص (372)، و «المستطرف، في كل فن مستطرف» لأبي الفتح الأبشيهي ص (82).

ص: 676

فالنظر سهم من سهام إبليس

(1)

.

قال الشاعر:

كل الحوادثِ مَبداها منَ النظَرِ

ومُعظَمُ النارِ مِن مُستصغَرِ الشَّرَرِ

كم نظرةٍ فتكتْ في قلبِ صاحبها

فَتْكَ السهام بلا قوسٍ ولا وَتَرِ!

(2)

‌الوصية السبعون

كن عصاميًّا عزيز النفس مستغنيًا بالله عز وجل، واقطعِ اليأس عما في أيدي الناس

، ولا ترجُ الفواضلَ عند غير المفضل.

فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يسقط سوط أحدهم وهو على ظهر دابته، فلا يقول لأحد المشاة: أعطني إياه، بل ينزل من دابته ويأخذه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علمهم أن يستغنوا بالله عز وجل، وألا يمُدوا أيديَهم إلا لله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم:«ومَن يستغنِ يُغْنِهِ الله، ومَن يَستعفِف يُعِفَّه الله»

(3)

.

واعلم أنك عزيز عند الناس ما لم تطلب منهم شيئًا، أو تمد يدك إلى لئيم.

قال أحد الحكماء: «تذوقتُ المرَّ والعَلقَمَ والصبر، فما وجدتُ أمَرَّ من الحاجة إلى الناس»

(4)

.

(1)

أخرجه الطبراني في «الكبير» 8/ 262 (8018)، وفي «الأوسط» 3/ 77 (2539)، وأبو القاسم البغوي في «نسخة طالوت» (1)، وعنه أبو طاهر المخلص في «المخلصيات» 4/ 128 (3097). وصححه الألباني في «الصحيحة» (1525). وأخرجه الحاكم (4/ 313) من حديث حذيفة رضي الله عنه. وقال:«صحيح الإسناد ولم يخرجاه» . وانظر: «كشف الخفاء» 2/ 398 (2864).

(2)

انظر: «التفسير القيم» ص (624 - 629).

(3)

أخرجه مالك في الصدقة (2/ 997)، والبخاري في الزكاة (1469)، ومسلم في الزكاة (1053)، وأبو داود في الزكاة (1644)، والنسائي في الزكاة (2588)، والترمذي في البر والصلة (2024)، وأحمد 3/ 93 (11890) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه.

(4)

ينظر: «ثمار القلوب، في المضاف والمنسوب» (ص 668) بنحوه.

ص: 677

قال علي رضي الله عنه:

صُنِ النفس واحمِلها على ما يزينها

تعشْ سالمًا والقولُ فيك جميلُ

ولا تُرِيَنَّ الناسَ إلا تَجَمُّلًا

نبا بك دهرٌ أو جفاك خليلُ

(1)

اللهم أغننا بفضلك عمن سواك

(2)

، ولا تحوجنا إلى أحد من خلقك طرفة عين، ولا أقل من ذلك.

‌الوصية الحادية والسبعون

كن متفائلًا محسنًا الظن بالله تعالى مهما عظُمت عليك الخطوب

، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما يكون تفاؤلًا في أحلك الظروف وأشدها، ففي يوم الخندق أحاط الأحزاب بالمدينة من كل حدب وصوب، وأطبقوا عليها كفكي الأسد، وبلغت القلوب الحناجر، كما قال الله عز وجل:{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11].

واجتمع على المؤمنين في ذلك اليوم: الخوف الشديد، والتعب الشديد من حفرالخندق، والبرد الشديد، والجوع الشديد، وواحدة من هذه كافية، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم في أشد ما يكون من التفاؤل، وأخبر أصحابه أنه رأى كَنْزَ كِسرى، وكنز قَيصَر، وكنز تُبَّع في اليمن. وهكذا بلغ مُلك أمته صلى الله عليه وسلم

(3)

.

(1)

البيتان لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه. انظر: «ديوانه» (ص 157).

(2)

أخرجه الترمذي في الدعوات (3563)، وأحمد 1/ 153 (1319) من حديث علي رضي الله عنه. قال الترمذي:«حسن غريب» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (266).

(3)

انظر: تفسير آيتي الأحزاب في «عون الرحمن، في تفسير القرآن» .

ص: 678

‌الوصية الثانية والسبعون

لا تشكوَنَّ حالك إلا إلى الله تعالى الذي يسمع النجوى، وإليه الشكوى، ويرفع البَلوَى

.

قال الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1].

وقال الشاعر:

لا تشَكُونَّ إلى خَلْقٍ فتُشْمِتَه

شَكوَى الجريحِ إلى الغربانِ والرَّخَمِ

(1)

وقال الآخر:

وإذا شكوتَ إلى الأنامِ فإنما

تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يَرحمُ

(2)

واعلم أنه لا ينافي الشكوى إلى الله الاستئناس برأي أخ أو صديق لَبيب عاقل ناصح، وطلب المواساة منه.

وهذا ما عناه الشاعر بقوله:

ولا بد من شكوى إلى ذي مُروءةٍ

يُواسيك أو يُسليك أو يَتَفَجَّعُ

(3)

فشكوى الحال إلى الله تعالى في كل حال، لا ينافيه الاستئناس وطلب المواساة ممن يقدر على ذلك من الإخوان.

الوصية الثالثة والسبعون

شاور من تثق به من أهل المعرفة والحكمة والعقل والعلم والنصح وسداد الرأي فيما

(1)

البيت للمتنبي. انظر: «ديوانه» 2/ 262.

(2)

سبق.

(3)

البيت لابن نباتة المصري. انظر: «ديوانه» ص (315)، ونسب أيضًا لبشار بن برد. انظر:«نهاية الأرب» (3/ 80).

ص: 679

يحتاج من أمورك إلى مشورة، فقد قال عز وجل في مدح المؤمنين:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].

وقال الشاعر:

شاوِرْ سواك إذا نابتْك نائبةٌ

يومًا وإن كنتَ من أهلِ المَشوراتِ

فالعينُ تنظُرُ منها ما دنا ونأى

ولا ترى نفسَها إلا بمرآةِ

(1)

وقال الآخر:

إذا بلغ الرأي المشورة فاستعِنْ

برأي نصيحٍ أو نصيحةِ حازمِ

ولا تجعل الشورى عليك غَضاضةً

فإن الخوافي

(2)

قوة للقوادمِ

(3)

الوصية الرابعة والسبعون

اعلم أن النفس وديعة عند الإنسان، يجب أن يعمل على خلاصها، وأن يسلك بها مسالكَ النجاة في دينها ودنياها وأُخراها، وكما يجب عليه أن يجنبها سُبل الرَّدَى والهلاك في دينها بالكفر والمعاصي، فكذلك يجب عليه ألا يُلقيَ بها إلى التهلكة في دنياها باستعمال ما يضر بعقله وبدنه من المخدِّرات والدخَان ونحو ذلك.

قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].

وقال صلى الله عليه وسلم: «من وجَأ نفسه بحديدة، أو شرِب سمًّا فهو في نار جهنم»

(4)

.

(1)

البيتان للأرجاني. انظر: «ديوانه» 1/ 246.

(2)

الخوافي: جمع خافية، وهي مقدمة ريش جناح الطائر.

(3)

البيتان لبشار بن برد. انظر: «ديوانه» 4/ 173.

(4)

أخرجه البخاري في الطب (5778)، ومسلم في الإيمان (109)، وأبو داود في الطب (3872)، والنسائي في الجنائز (1965)، والترمذي في الطب (2044)، وابن ماجه في الطب (3460)، والدارمي في الديات 2/ 252 (2362) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 680

وقال الشاعر:

وما المالُ والأهلون إلا ودائعٌ

ولا بدَّ يومًا أن تُرَدَّ الودائعُ

(1)

‌الوصية الخامسة والسبعون

عليك بالصدق فهو سبب التوفيق في الدين، وحبل النجاة في الدنيا والآخرة

.

قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إن الصدق يَهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يَصدُقُ ويَتَحَرَّى الصدقَ حتى يُكتبَ عند الله صِدِّيقًا»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «وإياكم والكذِبَ؛ فإن الكذب يَهدي إلى الفُجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذِب ويَتحرى الكذبَ حتى يُكتبَ عند الله كذابًا»

(3)

.

واحذر كل الحذر من أرباب الكذب الذين يجعلون الكذب من الحنكة والدهاء، ويعتبرون الصدق من التغفيل والغباء. واعلم أن حبل الكذب قصير وإن طال.

الوصية السادسة والسبعون

ليكنْ لك يد في الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير، والإصلاح بين الناس ما استطعتَ إلى ذلك سبيلًا، بقولك وفعلك وبذلك.

(1)

سبق.

(2)

أخرجه البخاري في الأدب (6094)، ومسلم في البر (2607)، وأبو داود في الأدب (4989)، والترمذي في البر والصلة (1971)، وابن ماجه في المقدمة (46)، وأحمد 1/ 384 (3638) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(3)

انظر التخريج السابق.

ص: 681

قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا أُخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال:«إصلاح ذات البَين؛ فإن فساد ذات البين هي الحالقة»

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «كل سُلَامى من الناس عليه صدقةٌ كلَّ يومٍ تطلُع فيه الشمس، تعدِل بين اثنين صدقة، وتُعِين الرجل في دابته فتحمِل عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة» . الحديث

(2)

.

‌الوصية السابعة والسبعون

خذْ بالعزم والحزم في جميع أمورك، وخاصة أمور دينك

.

فإذا سمعت: حيَّ على الصلاة، حي على الفلاح، فلا يسبقْك أحد إلى المسجد، فإن لم تستطع فاحرِص ألا تقام الصلاة إلا وأنت في المسجد.

واحذَر من القواطع؛ فإن الظبي أسرع من الكلب، لكن الظبي إذا التفت إلى الكلب أدركه.

وهكذا الإنسان إذا التفت بعد الأذان إلى بعض الشواغل قطعته عن إدراك الصلاة.

خذ نصيبك من ربك، وتقدم في صدارة الصف، واحذر من أحوال الذين إذا دخل الواحد منهم المسجد رأيته كالمستوحش، يبحث عن آخر الصف، أو عن الصفوف الأخيرة، أو عن زاوية في المسجد، واعلم أن مكانتك عند الله عز وجل بقدر تقدمك، فلا يخدعنَّك الشيطان فتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

خذ بالعزم والحزم في أداء حقوق الله تعالى كلها وحقوق الخلق، وخاصة الوالدين

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 682

والأهل والأولاد والأقارب والجيران والمسلمين.

قال تعالى مخاطبًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35].

وقال الشاعر:

بعزمٍ وحزمٍ سادَ في قومِه الفتى

وكونك إياه عليك يَسيرُ

(1)

وقال الآخر:

على قدر أهل العزمِ تأتي العزائمُ

وتأتي على قَدْرِ الكرامِ المكارمُ

وتكبُر في عين الصغيرِ صِغارُها

وتصغُر في عين العظيمِ العظائمُ

(2)

وقال الآخر:

وأحزمُ الناسِ من لو مات من ظمأٍ

لا يقربُ الوِرْدَ حتى يَعرِفَ الصَّدَرَا

(3)

‌الوصية الثامنة والسبعون

لا تستوحش من الحق لقلة السالكين، ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين

، فهذا مصداق قول الله تعالى:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].

وقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].

وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24].

وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8].

وقوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116].

(1)

سبق.

(2)

سبق.

(3)

سبق.

ص: 683

فإذا رأيت زهد كثير من الناس فيما يقربهم إلى الله تعالى، وقلتهم في المساجد، فلا يفتّ ذلك في عَضُدِك، فاعلم أن لله تعالى في ذلك حكمة، ولو شاء ربك ما فعلوه.

فقد قال الله عز وجل لسيد الخلق وصفوتهم صلى الله عليه وسلم: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3].

وقال تعالى: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8].

ووطِّن نفسك على التمسك بالحق، واسأل ربك الثبات عليه، وشمِّر عن ساعد الجد، واعلم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، وطريق النار محفوف بالشهوات، كما قال صلى الله عليه وسلم:«حُفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات»

(1)

.

قال الشاعر:

فدَرْبُ الصاعدين كما علِمتم

به الأشواكُ تكثُرُ لا الوُرودُ

(2)

والعبرة بالكيف، لا بالكم، فبعث النار من كل ألف تسعمئة وتسعة وتسعون، وواحد إلى الجنة

(3)

.

قال الشاعر:

والناس ألفٌ منهمُ كواحدٍ

وواحدٌ كالألفِ إن أَمْرٌ عنَا

(4)

‌الوصية التاسعة والسبعون

احذر كل الحذر من التسليم لعقدة المؤامرة، فمصاب الأمة منها لا من غيرها

، كما

(1)

أخرجه مسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2822)، والترمذي في صفة الجنة (2559)، والدارمي 2/ 437 (2843)، وأحمد 3/ 153 (12559) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في الرقاق (6487)، وأحمد 2/ 260 (7530) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:«حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره» .

(2)

البيت لوليد الأعظمى انظر «ديوانه الزوابع» ص (69).

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق.

ص: 684

قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30].

وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165].

قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].

فاخرج من التسليم لعقدة المؤامرة، فهي موجودة منذ نزل قوله تعالى:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة: 120].

واحذر من تعليق المسؤولية على الآخرين، كما يتذرع المنهزمون المخذولون، واجتهد في عمل الخير والدعوة إليه، والإصلاح ما استطعت، ما حيِيتَ، وأبشر بالخير.

واحذر أيضًا من المثبطين عن عمل الخير والدعوة إليه القانطين اليائسين من رَوح الله تعالى الذين يقولون: هلك الناس.

واحذر أيضًا من الذين يقولون: أنت تطلب المثالية؛ لأنهم يثبطونك عن العمل.

واحذر أيضًا من ضدهم، وهم من يطالبون بالمثالية في كل شيء؛ لئلا يجلبوا لك الإحباط واليأس في عملك وسيرك إلى الله تعالى.

الوصية الثمانون

احذر من أمراض القلوب كلها.

احذر من النفاق؛ فقد قال عبد الله بن أبي مُليكة رضي الله عنه: «أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه»

(1)

.

(1)

أخرجه البخاري معلقًا في كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قبل (48). «فتح الباري» (1/ 109). ووصله محمد بن نصر في «تعظيم قدر الصلاة» 2/ 634 (688) بلفظ:«خمسين» . وانظر: «مجموع الفتاوى» (10/ 107).

ص: 685

واحذر من الحسد فإنه اعتراض على قضاء الله وقدره، ويأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب

(1)

، وصاحبه مهموم مغموم، يقتل نفسه بنفسه، ولا يسود، بل يموت كمدًا بحَسَده.

واحذر من الإعجاب فإنه يحبط الأعمال، واحذر من الكبر والخُيَلاء، فإن المتكبرين والمختالين يُحشرون يوم القيامة أمثال الذرِّ، يطؤهم الناس

(2)

، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبرٍ

(3)

.

الوصية الحادية والثمانون

احذر من الاستغراق في المباحات، ومن المباهاة والمبالغات والإسراف، وإضاعة العمر بالأسفار والتنقلات والتنزهات اتِّباعًا لهوى النفس، وإشباعًا لرغباتها الجامحة.

واعلم أن سعادتك وراحتك في التوسط في ذلك كله.

قال بعضهم: «مَن طلَب الراحة، تَرَكَ الراحة»

(4)

.

الوصية الثانية والثمانون

لا يغب عنك أبدًا التفكير في أمور أربعة:

(1)

أخرجه أبو داود في الأدب (4903) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وضعفه الألباني في «السلسلة الضعيفة» (1902).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه مسلم في الإيمان (91)، والترمذي في البر والصلة (1999)، وأحمد 1/ 416 (3947) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.

(4)

انظر: «مفتاح دار السعادة» (1/ 109 ط العلمية).

ص: 686

أولًا: عظمة الله عز وجل وكبرياؤه وعزته وقوته.

ثانيًا: ضعفك وقلة حيلتك.

ثالثًا: عِظَم منزلة الآخرة.

رابعًا: حقارة الدنيا.

ضع هذه الأمور كلها منك على بال؛ فإن هذا مما يعينك على تقوى الله تعالى، وعدم الاغترار بالدنيا، والحذر من فتنتها، والاستعداد للآخرة.

الوصية الثالثة والثمانون

احذر كل الحذرمن الربا وأكل أموال الناس بالباطل بشتى صور ذلك وألوانه.

فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومُوكِلَه وكاتبه وشاهِديه»

(1)

.

احذر كل الحذر من المساهمات المختلطة والمشتبهة، واحذر أن تتساهل بشيء من ذلك وإن قل، وإن أفتاك من أفتاك.

عساك تنجو- وما إخالك ناجيًا- في وقت عبد كثيرٌ من الناس الدرهم والدينار، واستباحوا الربا الذي هو محاربة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

واعلم أن درهم ربا ومن غير وجه شرعي يفسد ويهلك كل ما لديك، وسُحت يؤدي بصاحبه إلى النار.

(1)

أخرجه مسلم في المساقاة (1597/ 105)، والنسائي في الطلاق (3416).

ص: 687

‌الوصية الرابعة والثمانون

احذر كل الحذر من الفتنة في الدين

، وابتعد عنها كل البعد، وعن أسبابها، واحفظ لسانك وقلمك وبنانك من الدخول فيها، واسأل الله الهداية والثبات على الحق حتى تلقى الله تعالى.

وقل: «اللهم فاطرَ السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»

(1)

.

وقل: «يا مقلِّبَ القلوب، ثبِّت قلبي على دينك»

(2)

.

الوصية الخامسة والثمانون

تأمل جيدًا قول الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: 30].

وقوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9].

وقوله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40].

وتأمل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10].

وأخيرًا تأمل قول الله عز وجل: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر].

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

ص: 688

الوصية السادسة والثمانون

ينبغي أن يعلم الجميع أن الرجال والنساء بعضهم من بعض، كما قال تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195].

وقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما النساء شقائقُ الرجال»

(1)

.

والرجال من حيث العمومُ أفضل من النساء؛ لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228].

أما من حيث الخصوص فإن من النساء من هي خير من زوجها، بل خير من عشرات الرجال دينًا وخلقًا وكرمًا، بل وشجاعةً وغير ذلك.

ويكفي النساءَ أن منهن فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء أهل الجنة، وسيدة نساء العالمين، ومنهن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، ومنهن مريم ابنة عِمران عليها السلام، ومنهن آسية امرأة فرعون عليها السلام التي اختارت الجار قبل الدار فقالت:{رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11].

ومنهن أم سليم زوجة أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما، ومنهن ومنهن!

وأكرم الخلق عند الله أتقاهم.

(1)

أخرجه أبو داود في الطهارة (236)، والترمذي في الطهارة (113)، وابن ماجه في الطهارة (612)، وأحمد 6/ 256 (26195) من حديث عائشة رضي الله عنها، وفيه عبد الله بن عمر العمري قال الترمذي:«ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه في الحديث» . وقال أحمد شاكر في تعليقه على الترمذي: «والحق أنه ثقة، وإن كان في حفظه شيء، روى عثمان الدارمي عن ابن معين أنه قال فيه: «صالح ثقة» فهذا إسناد صحيح». ثم ذكر ما يشهد لصحته من الأحاديث. وحسنه الألباني في: «الصحيحة» (2863).

ص: 689

الوصية السابعة والثمانون

الزواج سنة من سنن المرسلين، وقد يجب إذا خاف الإنسان على نفسه الوقوع في الفاحشة، وبعض أهل العلم يوجبه على كل من قدر عليه، فلا ينبغي تركه لمن كان قادرًا عليه، رجلًا كان أو امرأةً، قال تعالى:{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32].

وقال صلى الله عليه وسلم: «يا معشرَ الشباب، مَنِ استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطِع فعليه بالصوم؛ فإنه له وِجاء»

(1)

.

وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على المتبتلين الذين قالوا: نقوم ولا ننام، ونصوم ولا نُفطِر، ولا نتزوج النساء، فقال صلى الله عليه وسلم:«أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغِب عن سُنتي فليس مني»

(2)

.

فلا ينبغي ترك الزواج والعزوف عنه إلا لعذر؛ لأن به تمام الدين، واستقرار الحياة، وحصول الأولاد الذين هم زينة الحياة ولذتها وجمالها وبهجتها وسعادتها، وقد قال صلى الله عليه وسلم:«تزوجوا الودود الولود؛ فإني مُكاثر بكم الأمم يوم القيامة»

(3)

.

(1)

أخرجه البخاري في الصوم (1905)، وفي النكاح (5065، 5066)، ومسلم في النكاح (1400)، وأبو داود في النكاح (2046)، والنسائي في الصيام (2239 - 2243)، والنكاح (3207 - 3209)، وابن ماجه في النكاح (1845)، والدارمي في النكاح 2/ 177 - 178 (2165، 2166) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه أبو داود في النكاح (2050)، والنسائي في النكاح (3227)، والحاكم (2/ 162) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه. قال الحاكم:«هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة» . وأخرجه أحمد 3/ 158 (12613)، وابن حبان 9/ 338 (4028)، والطبراني في «الأوسط» 5/ 207 (5099)، والبيهقي (7/ 81)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. صححه الحافظ ابن حجر في «الفتح» (9/ 111)، وقال:«هذه الأحاديث، وإن كان الكثير منها ضعيفًا، فمجموعها يدل على أن لما يحصل به المقصود من الترغيب أصلاً، لكن في حق من يتأتى منه النسل» . وصححه الألباني في «الإرواء» (1778).

ص: 690

وينبغي لمن حصل بينهم الفراق من الأزواج بطلاق أو وفاة أن يتزوج ولا يموت عَزَبًا، فلربما يُرزق بابن أو ابنة، ويكون ذلك خيرًا له من الدنيا وما فيها، صلاحًا وتُقًى وبرًّا في الحياة وبعد الممات.

الوصية الثامنة والثمانون

لنعلم أن من أهم أسباب استقرار الحياة الزوجية، وبناء الأسرة الصالحة: عدم التهاون في أداء كل من الزوجين حق الآخر عليه، قولًا وفعلًا وبذلًا، وخاصة حسن المعاشرة لتصفو الحياة الزوجية بينهما، وينتظم أمر أسرتهما، وترفرف على عشهما السعادة الزوجية بإذن الله عز وجل.

مع تفهم كل من الزوجين للآخر، ومعرفة أن الكمال البشري عزيز؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:«لا يفرَكْ مؤمن مؤمنة، إن كرِه منها خُلقًا رَضِيَ منها آخر»

(1)

.

ومَن ذا الذي تُرضى سَجاياه كلُّها

كَفَى المرء نُبلًا أنْ تُعَدَّ مَعايبُهْ

(2)

وقال الآخر:

ومن لا يُغمِض عينَه عن صَديقِه

وعن بعضِ ما فيه يمت وهو عائبُ

ومن يتتبع جاهدًا كلَّ عثرةٍ

يجدها، ولا يسلَم له الدهرَ صاحبُ

(3)

(1)

سبق تخريجه.

(2)

البيت ينسب لبشار بن برد، ولعلي بن الجهم، وليزيد المهلبي. انظر:«التمثيل والمحاضرة» ص (93)، و «زهر الآداب» (1/ 55)، و «نهاية الأرب» (3/ 94)، و «جمهرة الأنساب المولدة» ص (389).

(3)

البيتان لكُثَيِّر عزَّة. انظر: «ديوانه» ص (154).

ص: 691

الوصية التاسعة والثمانون

لنعلم أن الأولاد من أعظم الأمانات في أعناق آبائهم، وحقوقهم من أعظم الحقوق:

من أهمها: اختيار أمهاتهم من ذوات الدين والخلق القويم، كما قال صلى الله عليه وسلم:«فاظفَر بذات الدين ترِبت يداك»

(1)

.

ومنها: ذكر اسم الله عز وجل عند الجِماع ودعاؤه لحفظهم من الشيطان، كما قال صلى الله عليه وسلم:«لو أن أحدَكم إذا أراد أهله قال: باسمِ الله، اللهم جنِّبْنا الشيطانَ وجنِّبِ الشيطانَ ما رزقتَنا، فقُدر بينهم ولدٌ، لم يَضُرَّه الشيطان»

(2)

.

وهذا يغفُل عنه كثير من الناس، ولهذا يتسلط الشياطين على كثير من الأولاد.

ومنها: اختيار الأسماء الحسنة لهم ذكورهم وإناثهم؛ كعبد الله وعبد الرحمن للذكور، وغير ذلك من الأسماء المعبدة لله تعالى، والتسمية بالأسماء ذات المعاني الطيبة الجميلة، وأسماء الرسل، وأسماء الصحابة والصحابيات؛ إحياءً لذِكرهم رضي الله عنهم، أو التسمية باسم الوالد والوالدة إذا كان مناسبًا، ورَغِبَا في ذلك، أو باسم يختاره أحدهما وهو مناسب، فهذا من البر بهما.

ومنها: خِتان الذكور منهم، وذبح العقيقة عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة، كما جاء في الحديث

(3)

.

ومنها: الاهتمام والعناية كل العناية بتربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة، وتعليمهم كل ما ينفعهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، وتحذيرهم عن كل ما يضرهم في دينهم

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه أبو داود في الضحايا (2834)، والنسائي في العقيقة (4216)، والترمذي في الأضاحي (1516)، وابن ماجه في الذبائح (3162)، وأحمد 6/ 422 (27369، 27371)، والدارمي 2/ 111 (1966) من حديث أم كرز الكعبية رضي الله عنها. قال الترمذي:«صحيح» . وصححه الألباني في «الصحيحة» (2720).

ص: 692

ودنياهم وأخراهم وتأديبهم، وفي مقدمة ذلك أمرهم بالصلاة وهم أبناء سبع، وضربهم على تركها لعشر، كما قال صلى الله عليه وسلم

(1)

.

وتربيتهم على تعظيم الله عز وجل، وتعظيم حقوقه، والتوكل عليه وحده، والثقة به، والحذر من تربيتهم التربية العقيمة الهزيلة على الخوف من الخلق؛ من الجن والسحر والعين، والحروب والأمراض والجوع، وغير ذلك مما يعرضهم لكثير من الأوهام والوساوس والأمراض النفسية ويضعف عندهم التوكل على الله تعالى، ويضعف عندهم المناعة الجسمية ضد الأمراض، وغير ذلك.

الوصية التسعون

لنعلم أن من أكبر الكبائر قطيعة الرحم، قال تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22، 23].

وقال عز وجل في الحديث القدسي: «الرحم معلقة بالعرش، مَن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته»

(2)

.

وصلة الأرحام تكون بالزيارة والسلام عليهم، والتواصل معهم بالهاتف والرسائل، والنصيحة لهم، ودعوتهم إلى الخير، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وبذل الندى لهم، والإحسان إليهم، ودفع الأذى عنهم.

والحذر كل الحذر من أذيتهم؛ فإن أشد شيء على القريب أذية قريبه وظلمه له.

كما قال الشاعر:

وظلم ذوي القُربى أشدُّ مَضاضةً

على النفسِ من وقعِ الحُسامِ المُهنَّدِ

(3)

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق.

ص: 693

ومن المؤسِف: أن كثيرًا من الأقارب لا يجد إلا قريبه يحسده ويؤذيه ويظلمه، وقد قيل:«العداوة للأقارب، والحسد للجيران» .

واشتكى رجل لابن عباس رضي الله عنهما أذية أحد أقاربه وأبناء عمه فقال: «هوِّن عليك، فما من ضارٍ على طَريدةٍ بأسرعَ إليها من ابن عمٍّ دَنِيٍّ إلى ابن عمٍّ سَرِيٍّ؛ فهوِّن عليك»

(1)

.

وهذا ظاهر، ومن أعظم المعضِلات. والله المستعان.

‌الوصية الحادية والتسعون

أكرم جارك واقدره قدره، فقد عظم الإسلام شأنه

، فقال صلى الله عليه وسلم:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلْيُكرِمْ جارَه»

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سيُورِّثه»

(3)

.

وهذا مما يُوجب احترام الجار، وأداء حقوقه، والإحسان إليه، والنصيحة له، والتعاون معه على البر والتقوى.

والحذر كل الحذر من أذيته، فقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من جار السوء في دار المقامة

(4)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن» . قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من لا يأمن جاره بوائقه»

(5)

.

(1)

«بهجة المجالس وأنس المجالس» (2/ 781).

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

أخرجه النسائي في الاستعاذة، (5502) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في «الصحيحة» (3943).

(5)

أخرجه البخاري في الأدب (6016)، وأحمد 6/ 385 (27162) من حديث أبي شريح الكعبي رضي الله عنه.

ص: 694

‌الوصية الثانية والتسعون

استشعر- بقوة- رابطة الأخوة الإيمانية بينك وبين إخوانك المسلمين

، التي هي أعظم من رابطة النسب والقرابة وغير ذلك.

واعلم أن الله عز وجل رتب عليها حقوقًا عظيمة للمسلم على أخيه المسلم، منها المبادرة بالسلام عليه عند ملاقاته، والتبسم في وجهه، وإجابة دعوته، والنصيحة له، وتشميته إذا عطس وحمِد الله، وزيارته إذا مرض، واتباع جنازته إذا مات

(1)

، إلى غير ذلك.

قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم»

(2)

.

وقال رضي الله عنه: «ما لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي»

(3)

.

ولنا به أسوة وقدوة صلى الله عليه وسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة» قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابِه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»

(4)

.

وهذا يوجب النصيحة لجميع المسلمين والاهتمام بأمرهم.

(1)

أخرجه البخاري في الجنائز (1240)، ومسلم في السلام (2162)، وابن ماجه في الجنائز (1435)، وأحمد 2/ 321 (8271) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي في الأدب (2736) وحسنه، وابن ماجه في الجنائز (1433) من حديث علي رضي الله عنه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

سبق تخريجه.

(4)

سبق تخريجه.

ص: 695

الوصية الثالثة والتسعون

اعلم أنه لا يجوز أذية غير المسلم من الذِّمِّيِّين والمعاهدين والمستأمنين، بل يجب أداء حقوقهم والإقساط إليهم، ويُستحب الإحسان والبر بهم.

كما قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

وقال صلى الله عليه وسلم: «من قتل معاهدًا لم يَرِحْ رائحةَ الجنة»

(1)

.

الوصية الرابعة والتسعون

يجب أن يكون للمسلم شخصيته المستقلة المتميزة في عقيدته وفي عباداته، وأقواله وأفعاله، وهيئته ولباسه وعاداته، وغير ذلك، وأن يعتبر بذلك.

وأن يحذر كل الحذر من التشبه بالكفار في عقائدهم وعباداتهم الباطلة وأعيادهم وهيئاتهم ولباسهم وعاداتهم، وأن يعتد ويعتز بذلك.

قال صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم»

(2)

.

الوصية الخامسة والتسعون

احرص على أن يكون لك يد في رفع شأن لغة القرآن الكريم اللغة العربية، بأي جهد

(1)

سبق تخريجه.

(2)

أخرجه أبو داود في اللباس (4031)، وأحمد 2/ 50 (5114)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال محيي الدين عبد الحميد في «التعليق على أبي داود»:«قال السخاوي عن هذا الحديث: فيه ضعف ولكن له شواهد» . وقال ابن تيمية: «سنده جيد» . وقال ابن حجر في «الفتح» : «سنده حسن» .

ص: 696

تستطيعه من الالتزام بالتكلم بها، والكتابة بها ما استطعت، وتسمية الأشياء بها، تؤجر بإذن الله تعالى على ذلك، ولا تحقِرن ما تقوم به من عمل في ذلك مهما قل.

واحذر من أن يكون لك يد في هدمها، في التكلم والكتابة بغيرها لغير حاجة، أو تسمية الأشياء بغيرها.

الوصية السادسة والتسعون

سابق ونافسْ في أداء عملك الوظيفي الذي تتولاه للمسلمين على أكمل الوجوه وأتمها وأحسنها، قاضيًا كنت أو معلمًا، أومؤذنًا، أو إمامًا، أو موظفًا، أو غير ذلك.

واعلم أن العمل في الأمة جهاد يؤجر عليه الإنسان مع حسن النية.

وحذارِ، ثم حذار، ثم حذار من تبِعات التفريط فيما ولِيتَه من مسؤوليات في أعمال المسلمين، فإنك مسؤول عن ذلك غدًا أمام الله عز وجل الحَكَم العَدْل، واعلم أن خصمك غدًا ليس شخصًا واحدًا أو أشخاصًا معدودين، بل خصمك الأمة كلها؛ لأن التفريط في المسؤولية ضرره على الأمة كلها، فهو هدم لكيانها، وتعطيل لمصالحها ولحقوق المسلمين.

فالحذرَ الحذرَ أن تأتيَ غدًا بتبِعات تَنُوءُ عن حملها الجبال، بسبب التغيب والتأخر عن العمل، وتقديم وتقريب هذا، وتأخير وإبعاد ذاك، فالأمر خطير جد خطير!

الوصية السابعة والتسعون

اعلم أن القرآن الكريم شفاء ورحمة وهدى للمؤمنين، وشفاء لما في الصدور، شفاء لأمراض القلوب والأبدان كلها المعنوية والحسية والنفسية.

قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}

ص: 697

[الإسراء: 82].

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57].

وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44].

فاطلب منه الهدى والرحمة والشفاء، لكل داء، ولا تنغلق الأبواب دونك وعندك القرآن الكريم فتكون كما قيل:

كالعِيسِ في البَيداءِ يَقتُلُها الظَّما

والماءُ فوقَ ظُهُورِها مَحمولُ

(1)

اقرأه والتمس منه الهدى والرحمة والشفاء لكل ما يصيبك في دينك، من قسوة القلب، وشتات الأمر، وضعف الإقبال على الله تعالى، وغير ذلك، ولكل ما يصيبك في دنياك، من فقر وحاجة وغير ذلك من المصائب.

واقرأه على نفسك للاستشفاء به من جميع الأمراض البدنية الحسية والنفسية.

ولا بأس إن دعت الحاجة أن يقرأ عليك من تثق بدينه وتقواه وورعه، فقد قال صلى الله عليه وسلم:«منِ استطاع أن ينفَع أخاه فليفعلْ»

(2)

.

مع الحذر كل الحذر من ضعاف الإيمان وأهل الدجل وأدعياء علم الغيب، ممن إذا جاءهم الشخص ولو كان مريضًا بالصداع فقط قالوا: فيك كذا وكذا، فيك سحر، أو عين، أو جن أو غير ذلك، فأدخلوه في دوامة من الوساوس والشكوك والظنون لا يخرج منها طيلة عمره، وشككوا كثيرًا ممن يتردد عليهم في عقائدهم، كذبوا وصدق الله العظيم:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: 65].

(1)

انظر: «حياة الحيوان الكبرى» 2/ 232، «نفحة اليمن» ص 126، «جواهر الأدب» 1/ 131.

(2)

أخرجه مسلم في السلام (2199)، وأحمد 3/ 302 (14231) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

ص: 698

الوصية الثامنة والتسعون

إذا رأيت في منامك رؤيا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«الرؤيا من الله، والحُلم من الشيطان، فمن رأى رؤيا يكرهها فلا يخبرْ بها ولْيتفُلْ عن يساره ثلاثًا، وليستعِذْ بالله من شرها؛ فإنها لا تَضُره»

(1)

.

واحذر كل الحذر من عرضها على مفسري الأحلام تَسلَم من شرها بإذن الله تعالى، وتسلم من شر كثير منهم؛ فإن كثيرًا منهم أضروا بعقائد المسلمين وأفسدوا العلاقات الطيبة بينهم، وأدخلوا عليهم الشكوك وسوء الظن فيما بينهم، وأدخلوا كثيرين منهم في دوامة من الوساوس والمشكلات.

‌الوصية التاسعة والتسعون

للمعلم خاصة:

اعلم أخي المعلم الكريم- بارك الله فيك ووفقك- أن عملك من أفضل الأعمال وأشرفها وأجلها، وأكثرها نفعًا للأمة، وأعظمها وأكثرها أجرًا، وهي وظيفة محمد صلى الله عليه وسلم وجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: «وإن الملائكة لتصلي على معلم الناس الخير»

(2)

.

فاقدر لهذا الأمر قدره، واحمد الله عز وجل على ذلك، وسر على بركة الله تعالى، وأبشر بالخير.

(1)

سبق.

(2)

أخرجه الترمذي في العلم (2685) من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. قال الترمذي: «حسن صحيح غريب» . وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (1838، 4213)، و «مشكاة المصابيح» (213).

ص: 699

واعلم بارك الله فيك أن ثمرة التعليم هي التربية، فاحرص على تربية الطلاب وتوجيههم إلى ما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم وأخراهم.

واجمع لطلابك بين التربية والتعليم، بين المعلومة والتوجيه والإرشاد، ليتخرجوا على يديك بإذن الله تعالى لديهم الثقة التامة بالله عز وجل، ثم بأنفسهم في خوض غِمار الحياة أوفياء لدينهم وأمتهم ووطنهم، ويكون في سجلك وميزان حسناتك بإذن الله تعالى.

قُمْ للمعلمِ وفِّه التبجيلا

كاد المعلمُ أن يكون رسولَا

أرأيتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي

يَبني وينشئُ أنفسًا وعقولَا

(1)

‌الوصية المئة

للمرأة خاصة:

أختي الكريمة، اعلمي أن الوصايا السابقة عامة للرجال والنساء، كلٌّ فيما يخصه، وهذه الوصية لك خاصة.

أختي الكريمة، اعرفي مكانتك العظيمة في الإسلام، فأنتِ الأم، والبنت، والأخت، والعمة، والخالة، أنت المربية والمعلمة الأولى.

على يدك ومن مدرستك تتخرج الأجيال، فكل عظيم من الرجال وراءه امرأة عظيمة؛ أمٌّ أو زوجةٌ، فأنتنَّ صانعات العظماء والأعلام من الرجال والنساء، من العلماء والمصلحين والأبطال والساسة وغيرهم.

كما قال شوقي:

الأمُّ مدرسةٌ إذا أَعْدَدْتَها

أعددتَ شعبًا طيِّبَ الأعراقِ

(2)

(1)

البيتان لأحمد شوقي، انظر:«الشوقيات» (1/ 180).

(2)

البيت لحافظ إبراهيم، انظر:«جواهر الأدب في أدبيات وإنشاء لغة العرب» (2/ 249)، «بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة» (3/ 455).

ص: 700

فارفعن رؤوسكن عِزةً وفخرًا بنعمة الإسلام والإيمان، والهدى والقرآن.

توكلن على الله عز وجل، واسألنَه الهداية والثبات، والْزَمْنَ التستر والعفة والحجاب، واحذرن من التبرج والسفور، وكثرة الخروج بلا حاجة، واحفظنَ اللسان والبنان والجوارح، وتوسطنَ في الملبس والمتطلبات.

احذَرْنَ كل الحذر من كيد أعداء الإسلام وأتباعهم من دعاة التغريب والفسق والضلال، الذين وصفهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله:«دعاةٌ على أبوابِ جهنّم مَن أجابَهم إليها قذفوه فيها»

(1)

.

فلا تنخدِعْنَ بطنينهم ورنينهم ودندنتهم حول حرية المرأة وحقوقها، كما يزعمون، قاتَلَهُمُ الله أنى يُؤفَكون!

أهم أشفق على المرأة من ربها عز وجل، كذبوا ورب الكعبة، وإنما يريدون تحقيق مآربهم الخبيثة من المرأة، وزجَّها في حياة الضياع وأتُّون المهالك، لتخسر دينها ودنياها وأخراها.

وما مثل هؤلاء في خداعهم للمرأة، ودعوتهم لها للتخلي عن ثوابت دينها وقيمها وأخلاقها، إلا كمثل الشيطان.

قال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16].

وقال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22].

فاستمسكنَ من الإسلام بالعروة الوثقى، وتأملنَ كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وسِيَر أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابيات رضي الله عنهن.

وكنَّ عصيَّات على من أراد إخراجكن من الطريق المستقيم إلى طريق الضياع والهلاك

(1)

سبق تخريجه.

ص: 701

والشقاء، واسمعن لقول الناصح الشفيق الرؤوف الرحيم بكن وبالأمة كلها صلوات الله وسلامه عليه:«اتقوا الله في النساء»

(1)

.

وقوله عليه الصلاة والسلام: «إذا صلتِ المرأةُ خمسها، وصامت شهرها، وحفِظت فرْجها، وأطاعت زوجها، قيل لها: ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئتِ» .

واعلمن أخواتي الكريمات أن الرسول صلى الله عليه وسلم أباح لكنَّ الخروج للحاجة

(2)

، فاقدُرن للحاجة قدرها دون زيادة.

كما نهى صلى الله عليه وسلم عن منعكن من المساجد، وبيَّن أن الصلاة في بيوتكن أفضل حفاظًا عليكن وطهارة لقلوبكن، وصيانة للمجتع، فقال صلى الله عليه وسلم:«لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتُهن خير لهن»

(3)

.

فاحرصن إذا خرجتن على آداب المساجد والصلاة، وعلى تسوية الصفوف، وإكمال الصف الأول فالأول، واحذرن من التبرج والزينة والطيب والكلام في المسجد لغير حاجة، ورفع الصوت بالدعاء أو التأمين، والمرور أمام الصفوف في الصلاة، وغير ذلك.

احتسبن في كل ما تقمن به في البيوت من خدمة الأزواج والأولاد، واعلمن أن ذلك أفضل من نوافل العبادات، كالصلاة والصيام، وقراءة القرآن، وغير ذلك.

ففرق بين امرأة صامت النفل وقصرت في خدمة زوجها وأولاده بسبب الصوم والنوم، وبين امرأة لم تصم لكنها قامت بخدمة زوجها وأولاده على الوجه المطلوب، ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها يكون عليها الصوم من رمضان فلا تقضي إلا في شعبان مراعاة للنبي صلى الله عليه وسلم

(4)

.

وعن أنس رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، قال: فنزلنا

(1)

سبق تخريجه.

(2)

سبق تخريجه.

(3)

أخرجه البخاري في النكاح (5237)، ومسلم في السلام (2170)، وأحمد 6/ 56 (24290) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(4)

سبق تخريجه.

ص: 702

منزلًا في يوم حار، أكثرنا ظلًّا صاحبُ الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، قال: فسقط الصوَّام، وقام المفطرون، فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ذهب المفطرون اليوم بالأجر»

(1)

.

أخواتي الكريمات، ابتلى الله النساء بالحيض، وفي ذلك تعظيم لأجرهن، ورفعة لدرجاتهن بإذن الله عز وجل.

ومن الأمور التي تشتد الحاجة إلى معرفتها ما يلي:

- إذا رأت المرأة الدم بعد طهرها بيوم أو يومين، فإنه يُعتبر حيضًا؛ لأنه لا حدَّ لأقل الطهر بين الحيضتين على الصحيح.

- إذا زادت العادة يومًا أو يومين ونحو ذلك فهو حيض؛ لأنه لا حد لأكثر الحيض على الصحيح.

- إذا رأت المرأة الحيض بعد غروب الشمس فصومها صحيح، وإن انتقل قبل ذلك؛ لأن العبرة بخروج الدم.

- إذا رأت الصُّفرة قبل الغروب ولم ينزل الدم إلا بعد الغروب فصومها صحيح.

- إذا رأت الدم بعد الغروب، وحصل عندها شك أنزل قبله أم بعده فصومها صحيح؛ لأن الأصل أنها طاهرة حتى وقت رؤيتها له.

- إذا طهرت قبل الفجر فصومها صحيح وإن لم تغتسل إلا بعده.

- إذا حاضت المرأة بعد دخول الوقت، وكان قد مضى عليها وقت يتسع للصلاة، فذهب بعض أهل العلم إلى أن عليها القضاء، وهو أحوط، وذهب بعضهم إلى أنه لا قضاء عليها؛ لأن الوقت موسع.

- إذا طهرت المرأة بعد العصر، قال بعض أهل العلم: تصلي الظهر والعصر؛ لأن وقتهما واحد، وكذا إذا طهرت بعد العشاء تصلي العشاء والمغرب؛ لأن وقتهما واحد،

(1)

أخرجه البخاري في الجهاد والسير (2890)، ومسلم في الصيام (1119)، والنسائي في الصيام (2283).

ص: 703

وذهب بعض أهل العلم إلى أنها تصلي الصلاة الحاضرة، وهي العصر والعشاء، وهذا أرجح.

- المستحاضة قال بعض أهل العلم: تتوضأ لوقت كل صلاة، وقال بعضهم: لا يلزمها ذلك، وهو الراجح.

ص: 704

‌ثانيًا: أربعون من الفوائد والفرائد

1 الاستعاذة «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» تُشرع في أول القراءة مرة واحدة، سواء في ابتداء السورة أو في وسطها، في الصلاة، أو خارج الصلاة؛ لقوله تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ} [النحل: 98].

وعلى هذا فالاستعاذة في الصلاة مرة واحدة بعد التكبير والاستفتاح، يستعيذ ثم يبسمل، ثم يقرأ الفاتحة؛ لأن قراءة الصلاة كلها في جميع الركعات بمثابة قراءة واحدة، وهي ليست بآية من القرآن الكريم بالاتفاق.

2 البسملة: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية مستقلة من القرآن الكريم تنزل مع كل سورة، عدا سورة التوبة، فلم تنزل معها؛ ولهذا لم تُكتب في مطلعها، وليست آية من أي سورة من سور القرآن الكريم على الصحيح، لا الفاتحة ولا غيرها من السور، وهي بعض آية من سورة النمل في قوله تعالى:{إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30].

وتُشرع قراءتها في بداية كل سورة، حتى لو كرر قراءة السورة يكرر البسملة معها؛ لأنها آية مستقلة، تُقرأ في مطلع كل سورة، ففي الصلاة يقرؤها قبل الفاتحة في كل ركعة، ويقرؤها مع كل سورة ابتدأها من أولها.

‌3 الحكمة من ذكر الحروف المقطعة في أوائل بعض السور في القرآن الكريم:

اعلم أن الحكمة- على القول الراجح- في ذكر الحروف المقطعة في أوائل بعض السور في القرآن الكريم، مثل:«الم» ، «المص» ، «الر» ، «كهيعص» ، «طه» ، «حم» ، «حم عسق» ، «ق» ، «ن» ، وغيرها هي بيان إعجاز القرآن الكريم.

ص: 705

وتحدي العرب أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله، مع أنه بالحروف الهجائية التي يتكلمون وينطقون بها، وهي الثمانية والعشرون حرفًا.

‌4 بيان المنسوخ في القرآن الكريم:

اعلم أن المنسوخ في القرآن الكريم خمس آيات فقط؛ في خمسة مواضع هي:

الأول: آية التخيير بين الصيام والإطعام، وهي قوله تعالى:{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ? فِدْيَة? طَعَامُ مِسْكِين? فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184].

نُسخت بقوله تعالى في الآية بعدها: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].

الثاني: مفهوم قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43].

فمفهوم هذه الآية جواز السكر في غير وقت الصلاة، وقد نُسخ هذا المفهوم بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 90، 91].

الثالث: قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65].

فهذه الآية نُسخت بالآية بعدها: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال: 66].

فكان المؤمن- في أول الأمر- مطالبًا بمصابرة العشرة من الكفار، كما في الآية الأولى، ثم خفف الله عن المؤمنين ذلك لوجود الضعف فيهم، فطلب من الواحد منهم أن يصابر الاثنين من الكفار.

الرابع: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ

ص: 706

وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة: 12].

نُسخ بقوله تعالى بعدها: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13].

الخامس: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 1 - 4].

فأوجب الله عز وجل قيام الليل في هذه الآية، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عامًا حتى تَفَطَّرتْ أقدامهم، ثم نسخ الله ذلك بقوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20].

هذه هي الآيات المنسوخة، وما عدا ذلك مما قيل فيه النسخ من الآيات فالصحيح أنها مُحكَمة غير منسوخة.

‌5 - الشباب هم أمل الأمة بعد الله عز وجل

-، فهم الذين انتصرت بهم دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، كما قال تعالى:{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83].

وقال تعالى عن أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].

وهكذا كان جُلُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شبابًا.

ولهذا تجب العناية بالشباب وتعليمهم وتربيتهم على العقيدة الصحيحة، وعلى الاستقامة على طاعة الله تعالى، وتشجيعهم على الثقة بالله ثم بأنفسهم، فهم أبناء اليوم ورجال المستقبل.

6 قالت ملكة سبأ «بلقيس» مستشيرة جنودها ورجال مملكتها، لما جاءها خطاب

ص: 707

سليمان عليه الصلاة والسلام: {يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل: 32].

فقالوا مغترين بقوتهم وبأسهم: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} [النمل: 33].

قالت: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} [النمل: 34].

إلى آخر الآيات.

فاختارت بثاقب رأيها وحكمتها وعقلها المسالمة والمهادنة، وعدم المواجهة مع سليمان وجنوده الذين لا قِبل لها بهم، ولم تغتر بقول جنودها:{نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} بل قدرت للأمر قدره، فسلمت وأسلمت.

ولما جاءت وقيل لها: {أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل: 42].

فأجابت إجابة موفقة سديدة: {قَالَتْ كَأَنَّهُ? هُوَ} [النمل: 42]، فلم تقل: إنه هو؛ لبعد المسافة بين اليمن وفِلَسْطين، وكيف يأتي بهذه السرعة، ولم تقل: إنه ليس هو؛ لأن أوصافه أوصاف عرشها تمامًا.

7 استبطأ الله عز وجل خشوع قلوب المؤمنين، فقال تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16].

ثم بشرهم عز وجل وبعث الأمل والرجاء في قلوبهم بأنه كما يحيي الأرض بعد موتها، سيحيي قلوبهم ويردهم إليه؛ لئلا يقنطوا من رحمته عز وجل، فقال:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد: 17].

8 نهى الله عز وجل المؤمنين عن موالاة الكافرين، فهم أعداؤه عز وجل وأعداء المؤمنين، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1].

ص: 708

وبما أن هؤلاء الذين نهى الله عن موالاتهم أكثرهم من قرابات المؤمنين من الآباء والأولاد والأزواج وغيرهم، وفي معاداتهم من المشقة على المؤمنين ما لا يخفى، لهذا لم يقنطهم الله عز وجل من إيمان هؤلاء القرابات، بل فتح لهم باب الرجاء بإيمانهم، فقال عز وجل بعد ذلك:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7].

و «عسى» من الله واجبة؛ أي: هذا وعد من الله بعودة المودة بينهم، وذلك بإيمانهم بإذن الله تعالى، فهو سبحانه قدير يقلِّب القلوب كيف يشاء، وغفور لعباده ورحيم بهم.

9 اختارت الجار قبل الدار، قال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11].

هي آسية بنت مُزاحِم عليه السلام، قال المفسرون: اختارت الجار قبل الدار، فقدمت قولها:{عِنْدَكَ} على قولها: {بَيْتًا} ، فلم تقل:«بيتًا عندك» ، وإنما قالت:{عِنْدَكَ بَيْتًا} ، فاختارت جوار الله عز وجل قبل البيت والدار.

‌10 أمر الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم بالإقسام بربه على أن البعث حق في ثلاث آيات:

قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7].

وقوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23].

وقوله تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ: 3].

11 (أل) العهدية ثلاثة أنواع:

العهد الذهني كما في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7].

ص: 709

العهد الذكري: كما في قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15، 16].

العهد الحضوري، كما في قوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3].

12 قال تعالى في سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [الآية: 126].

وقال تعالى في سورة إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا} [الآية: 35].

فذكر «بلدًا» في سورة البقرة، بالتنكير؛ لأن هذا قبل بناء إبراهيم عليه السلام للبيت، وذكره في سورة إبراهيم بالتعريف لأن هذا بعد بنائه له.

13 الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه لغير الله تعالى، والصفح الجميل الذي لا عتاب فيه، والهجر الجميل الذي لا أذى فيه.

14 اللطيف الخبير: اللطيف: يدرك الدقيق، والخبير: يدرك الخفي.

15 سُمي عيسى عليه السلام: المسيح بن مريم؛ لأنه لا يمسح ذا عاهة إلا بَرَأَ، وسُمي المسيح الدجال بذلك لأنه ممسوح العين اليمنى أعور.

16 ملك الأرض أربعة: اثنان مؤمنان: سليمان عليه السلام، وذو القرنين، واثنان كافران: النمرود، وبُخْتنَصَّر.

‌17 السورة التي في كل آية منها لفظ الجلالة «الله» :

سورة المجادلة.

ص: 710

18 الذي بعثه الله تعالى، وليس هو من الإنس ولا من الجن هو الغراب، قال تعالى:{فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31].

19 هارون أخو مريم المذكور في قوله تعالى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] ليس هو هارون أخا موسى عليهما السلام، فهذا متقدم وبينهما مدة طويلة، حتى قيل: إنه بين موسى وعيسى عليهما السلام ألف نبي.

20 كل ما حكاه عز وجل في القرآن الكريم عن السابقين من أقوال فهو بالمعنى؛ لأن لغتهم ليست هي اللغة العربية، لكن تحدث الله عز وجل به وحكاه على ما يريد

(1)

.

21 قال بعض السلف: «ما أمر الله بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين، لا يبالي بأيهما ظفر؛ غلو، أو تقصير»

(2)

.

‌22 لم يرد في الفاتحة أنها من أذكار الصباح والمساء، وإنما هي رقية

.

23 سميت القيامة الساعة؛ لأنها أعظم حدث.

24 قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقَبيصة بن جابر: «إن الشاب يكون عنده عشرة أخلاق، تسعة منها حسنة، وواحد سيئ يفسد تلك الأخلاق التسعة، فإياك وعثرات الشباب»

(3)

.

(1)

انظر: «تفسير سورة المائدة» للشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله 2/ 268 - 269.

(2)

انظر: «دقائق التفسير» 2/ 59.

(3)

سبق تخريجه.

ص: 711

25 -

كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوتر أول الليل مخافةَ ألا يقوم آخره، وكان عمر رضي الله عنه يوتر آخر الليل لتيقنه أنه سيقوم آخر الليل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر:«أخَذَ هذا بالحَزْمِ» ، وقال لعمر:«أخذ هذا بالقوة»

(1)

.

26 يقال: يُهلِك الناس ثلاثة أنصاف: نصف فقيه، ونصف طبيب، ونصف نَحْوي، فالأول يفتيهم في الأديان، والثاني يفتيهم في الأبدان، والثالث يفتيهم في اللسان.

27 سأل أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن يعظهم كل يوم، فقال:«إنما أَتَخَوَّلُكُم بالموعظة كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافةَ السأَم»

(2)

.

28 قيل: رأى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أناسًا في المسجد يعدون حسناتهم بالحصى، وقد جعل كل منهم كومًا من الحصى، فقال: ماذا تفعلون؟ فأخبروه وقالوا: ما أردنا إلا خيرًا. فقال رضي الله عنه: «كم من مُريدٍ للخير لم يبلغه، أحصوا سيئاتكم، وأنا كفيل ألا يضيع شيء من حسناتكم»

(3)

.

(1)

أخرجه أبو داود في الوتر (1434) من حديث أبي قتادة رضي الله عنه. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود» (1288). وأخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1202)، وأحمد 3/ 309، 330 (14323، 14535) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «الصحيحة» (2596).

(2)

أخرجه البخاري في العلم (68، 70)، ومسلم في صفة القيامة والجنة والنار (2821)، والترمذي في الأدب (2855)، وأحمد 1/ 377 (3581).

(3)

أخرجه الطبراني في «الكبير» 9/ 127 (8636). قال الهيثمي في «المجمع» (1/ 181): «رواه الطبراني في «الكبير» ، وفيه مجالد بن سعيد، وثقه النسائي، وضعفه البخاري وأحمد بن حنبل ويحيى».

ص: 712

‌29 كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجهز الجيش وهو في الصلاة

(1)

.

‌30 النار لا تفنى ولا يفنى عذابها على الصحيح

من أقوال أهل العلم، وعليه دل الكتاب والسنة.

31 الشك بعد انتهاء العبادة لا يُلتفت إليه، وفي أثنائها إن كثر فلا يُلتفت إليه أيضًا، وإن لم يكن كثيرًا بَنَى على غلبة الظن، فإن تردد بنى على اليقين.

32 إذا سلم عن نقص وطال الفصل أعاد الصلاة كلها، وإن كان الفصل قليلًا في حدود ثلاث إلى خمس دقائق بنى على ما مضى وأتم الصلاة وسجد للسهو بعد السلام.

33 إذا قام إلى ثالثة في النافلة وجب عليه الرجوع؛ لأن صلاة الليل وكذا صلاة النهار مَثنَى مَثنَى، فإن لم يعلم إلا في التشهد فلا يطالَب برابعة، وهذا بخلاف الوتر فيصلي ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر.

34 يجوز عند الحاجة تحويل الفريضة إلى نافلة، ولا يجوز تحويل النافلة إلى فريضة.

35 الاستخارة إنما تكون في الأمور المباحة، لا في الأمور الواجبة والمستحبة، وتكون فيما تردد فيه الإنسان، فيصلي ركعتين، ويدعو بدعاء الاستخارة بعد التشهد قبل السلام أو بعده، أما إذا عزم الإنسان على الأمر فعليه أن يتوكل على الله ولا حاجة للاستخارة، قال تعالى:{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159].

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (22/ 609)، و «بدائع التفسير» (3/ 420).

ص: 713

36 لا تجوز الإطالة في الجلوس والدعاء بعد دفن الميت، بل يستغفر له ثلاثًا ويسأل الله له التثبيت، ثم ينصرف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:«استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت فإنه الآن يسأل»

(1)

.

وكان من عادته صلى الله عليه وسلم يكرر الدعاء ثلاث مرات

(2)

.

37 قال الإمام أحمد رحمه الله لابنه لما قال: أوصني، قال:«انوِ الخير فما تزال بخير ما نويت الخير»

(3)

.

38 قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لرجل من سبأ: ما أجهلَ قومَك حين مَلَّكوا عليهم امرأة.

فقال الرجل لمعاوية: أجهل من قومي قومُك؛ قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].

ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له

(4)

.

(1)

أخرجه أبو داود في الجنائز (3221) من حديث عثمان رضي الله عنه. قال النووي في «الخلاصة» (2/ 1028): «رواه أبو داود بإسناد حسن» . وقال الألباني في «أحكام الجنائز» ص (156): «أخرجه أبو داود والحاكم (1/ 370)، والبيهقي (4/ 56) وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» ص (129). وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» . ووافقه الذهبي، وهو كما قالا».

(2)

أخرجه البخاري في الوضوء (240)، وفي الصلاة (520)، ومسلم في الجهاد والهجرة (1794)، والنسائي في الطهارة (307) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: فلما قضى صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، ثم قال:«اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش» .

(3)

انظر: «المناقب» لابن الجوزي ص (274)، و «الآداب الشرعية» لابن مفلح (1/ 104).

(4)

انظر: «محاسن التأويل» 5/ 284.

ص: 714

39 جلوس طالب العلم كالجلوس بين السجدتين، والجلوس للأكل أيضًا كالجلوس بين السجدتين، أو ينصب الركبة اليمنى ويفترش الرجل اليسرى.

‌40 حالات سجود السهو:

سجود السهو يجوز أن يكون كله قبل السلام، ويجوز أن يكون كله بعد السلام باتفاق أهل العلم.

والأفضل أن يكون سجود السهو بعد السلام في الحالات الآتية:

الحالة الأولى: إذا سلم عن نقص ركعة فأكثر، فيقوم ويكمل الصلاة، ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين للسهو، ثم يسلم.

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتَيِ العَشِيِّ- قال ابن سِيرين: سماها أبو هريرة ولكن نسِيتُ أنا- قال: فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السَّرَعان من أبواب المسجد، فقالوا: قَصُرت الصلاة؟ وفي القوم أبو بكرٍ وعمر، فهابا أن يكلماه، وفي القوم رجل في يديه طول، يقال له: ذو اليدين، قال: يا رسول الله، أنسِيتَ أم قَصُرت الصلاة؟ قال:«لم أنسَ ولم تُقصَرْ» ، فقال:«أكما يقول ذو اليدين؟» فقالوا: نعم، فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه: ثم سلم؟ فيقول: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم

(1)

.

وعن عمران بن حصين رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر، فسلم في ثلاث ركعات،

(1)

أخرجه مالك في الصلاة (1/ 94)، والبخاري في الصلاة (482)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (573)، وأبو داود في الركوع والسجود (1008)، والنسائي في السهو (1226)، وأحمد 2/ 271 (7666).

ص: 715

ثم دخل منزله، فقام إليه رجل يقال له الخِرباق، وكان في يديه طول، فقال: يا رسول الله، فذكر له صنيعه، وخرج غضبانَ يجر رداءه، حتى انتهى إلى الناس، فقال:«أصدق هذا؟» قالوا: نعم، فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين، ثم سلم

(1)

.

الحالة الثانية: إذا بنى على غالب ظنه، كما إذا شك في الرباعية هل صلى ثلاثًا أو أربعًا، أو شك في المغرب، هل صلى اثنتين أو ثلاثًا، أو شك في الفجر هل صلى واحدة أو اثنتين، وغلب على ظنه أحد الأمرين، وهو النقص أو التمام، فإنه في هذه الحال يبني على غالب ظنه، ويسجد للسهو بعد السلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود رضي الله عنه:«إذا شك أحدكم في صلاته، فليتحرَّ الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم يسجد سجدتين بعد السلام»

(2)

.

ومثل هاتين الحالتين إذا نسي أن يسجد للسهو قبل السلام، فإنه يسجد بعد السلام، ما لم يطل الفصل.

وما عدا هذه الحالات فالأفضل أن يكون السجود قبل السلام

(3)

.

والحمد لله على التيسير.

(1)

أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة (574)، وأبو داود في الركوع والسجود (1018)، والنسائي في السهو (1237)، وأحمد 4/ 427 (19828).

(2)

أخرجه البخاري في الصلاة (401)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (572)، وأبو داود في الركوع والسجود (1020)، والنسائي في السهو (1240، 1241).

(3)

انظر: «كشاف القناع» للحجاوي 1/ 409، و «المغني» لابن قدامة 2/ 18، و «مجموع فتاوى ابن باز» 11/ 267 - 268.

ص: 716

‌ثالثًا: حكم ومعان شعرية مختارة

الشعر ديوان العرب، فيه حكم عظيمة، ومعانٍ جميلة، وفوائد جمة.

قال صلى الله عليه وسلم: «إن من الشعر حُكْمًا، وإن من البيان سِحرًا»

(1)

.

وقد اخترت لك أكثر من مئة وأربعين بيتًا من الشعر، تم انتقاؤها مما استُشهد به وخُرِّج في هذا التفسير؛ لتطلع على ما فيها من الفوائد الكثيرة، وتستمتع بما اشتملت عليه من الحكم والمعاني الجميلة، وتستشهد منها في خطبة، أو محاضرة، أو مقال، أو كلمة، أو جلسة أدبية، أو غير ذلك.

ولم أقصد ترتيبها لا على الروِيِّ، ولا على الموضوعات، ولا على الأهم؛ لينتقل القارئ بين أفيائها، ويقطف منها ما لذَّ له وطاب، ويتذوَّق ما فيها من الحسن والبلاغة والجمال.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

مَا الْفَضْلُ إلَّا لِأَهْلِ الْعِلْمِ إنَّهُمُ

عَلَى الْهُدَى لِمَنِ اسْتَهْدَى أَدِلَّاءُ

وَقِيمَةُ الْمَرْءِ مَا قَدْ كَانَ يُحْسِنُهُ

وَالْجَاهِلُونَ لِأَهْلِ الْعِلْمِ أَعْدَاءُ

فَقُمْ بِعِلْمٍ وَلَا تَطْلُبْ بِهِ بَدَلًا

فَالنَّاسُ مَوْتَى وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَحْيَاءُ

وقال حسَّان رضي الله عنه:

وَضَمَّ الْإِلَهُ اسْمَ النَّبِيِّ إِلَى اسْمِهِ

إِذَا قَالَ فِي الْخَمْسِ الْمُؤَذِّنُ أَشْهَدُ

وَشَقَّ لَهُ مِنِ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ

فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ

وقال الشافعي رحمه الله:

أَخِي لَنْ تَنَالَ الْعِلْمَ إِلَّا بِسِتَّةٍ

سَأُنْبِيكَ عَنْ تَأْوِيلِهَا بِبَيَانِ

ذَكَاءٌ وَحِرْصٌ وَاجْتِهَادٌ وَبُلْغَةٌ

وَإِرْشَادُ أُسْتَاذٍ وَطُولُ زَمَانِ

(1)

أخرجه أبو داود في الأدب (5011)، وأحمد 1/ 269 (2424)، والبخاري في «الأدب المفرد» (872) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في تحقيقه «الأدب المفرد» في «الصحيحة» (1731)، وأخرجه أبو داود في الأدب (5012) من حديث بُريدة رضي الله عنه.

ص: 717

وقال رحمه الله:

وَمَنْ فَاتَهُ التَّعْلِيمُ وَقْتَ شَبَابِهِ

فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا لِوَفَاتِهِ

وَذَاتُ الْفَتَى- وَاللهِ- بِالْعِلْمِ وَالتُّقَى

إِذَا لَمْ يَكُونَا لا اعْتِبَارَ لِذَاتِهِ

وقال أيضًا:

وَمَنْ لَمْ يَذُقْ ذُلَّ التَّعَلُّمِ سَاعَةً

تَجَرَّعَ كَأْسَ الْجَهْلِ طُولَ حَيَاتِهِ

وقال أيضًا:

تَعَلَّمْ فَلَيْسَ الْمَرْءُ يُولَدُ عَالِمًا

وَلَيْسَ أَخُو عِلْمٍ كَمَنْ هُوَ جَاهِلُ

وَإِنَّ كَبِيرَ الْقَوْمِ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ

صَغِيرٌ إِذَا الْتَفَّتْ عَلَيْهِ الْمَحَافِلُ

وقال أيضًا:

فَالْعِلْمُ صَيْدٌ وَالْكِتَابَةُ قَيْدُهُ

قَيِّدْ صُيُودَكَ بِالْحِبَالِ الْوَاثِقَهْ

فَمِنَ الْحَمَاقَةِ أَنْ تَصِيدَ غَزَالَةً

وَتَفُكَّهَا بَيْنَ الْخَلَائِقِ طَالِقَهْ

وقال الطغرائي:

الْعِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لَا عِمَادَ لَهُ

وَالْجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ الْعِزِّ وَالشَّرَفِ

الْعِلْمُ مُبْلِغُ قَوْمٍ ذُرْوَةَ الشَّرَفِ

وَصَاحِبُ الْعِلْمِ مُحْفُوظٌ مِنَ التَّلَفِ

يَا صَاحِبَ الْعِلْمِ مَهْلًا لَا تُدَنِّسَهُ

فِي الْمُوبِقَاتِ فَمَا لِلْعِلْمِ مِنْ خَلَفِ

وقال أحمد بن غزال:

الْأَرْضُ تَحْيَا إِذَا مَا عَاشَ عَالِمُهَا

مَتَى يَمُتْ عَالِمٌ مِنْهَا يَمُتْ طَرَفُ

كَالْأَرْضِ تَحْيَا إِذَا مَا الْغَيْثُ حَلَّ بِهَا

وَإِنْ أَبَى عَادَ فِي أَكْنَافِهَا التَّلَفُ

وقال عبد العزيز الديرني:

إِذَا مَا مَاتَ ذُو عِلْمٍ وَتَقْوَى

فَقَدْ ثُلِمَتْ مِنَ الْإِسْلَامِ ثُلْمَهْ

وَمَوْتُ الْعَابِدِ الْقَوَّامِ لَيْلًا

يُنَاجِي رَبَّهُ فِي كُلِّ ظُلْمَهْ

وَمَوْتُ فَتًى كَثِيرِ الْجُودِ مَحْلٌ

فَإِنَّ بَقَاءَهُ خِصْبٌ وَنِعْمَهْ

وَمَوْتُ الْفَارِسِ الضِّرْغَامِ هَدْمٌ

فَكَمْ شَهِدَتْ لَهُ بِالنَّصْرِ عَزْمَهْ

ص: 718

وَمَوْتُ الْحَاكِمِ الْعَدْلِ الْمُوَلَّى

بِحُكْمِ الْأَرْضِ مَنْقَصَةٌ وَنِقْمَهْ

فَحَسْبُكَ خَمْسَةٌ يُبْكَى عَلَيْهِمْ

وَبَاقِي النَّاسِ تَخْفِيفٌ وَرَحْمَهْ

وَبَاقِي النَّاسِ هُمْ هَمَجٌ رَعَاعٌ

وَفِي إِيجَادِهِمْ للَّهِ حِكْمَهْ

وقال محمد بن الحسن:

تَفَقَّهْ فَإِنَّ الْفِقْهَ أَكْبَرُ قَائِدٍ

إِلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَأَعْدَلُ قَاصِدِ

فَإِنَّ فَقِيهًا وَاحِدًا مُتَوَرِّعًا

أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدِ

وقال الأعشى:

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى

وَشَاهَدْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا

نَدِمْتَ عَلَى أَلَّا تَكُونَ كَمِثْلِهِ

وَأَنَّكَ لَمْ تُرْصِدْ لِمَا كَانَ أَرْصَدَا

وقال الآخرُ:

وَفِي الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ

فَأَجْسَامُهُمْ قَبْلَ الْقُبُورِ قُبُورُ

وَإِنَّ امْرَأً لَمْ يَحْيَ بِالْعِلْمِ مَيِّتٌ

فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ

وقال الآخر:

أَيَا عُلَمَا النُّجُومِ أَحَلْتُمُونَا

عَلَى عِلْمٍ أَدَقَّ مِنَ الْهَبَاءِ

كُنُوزُ الْأَرْضِ لَمْ تَصِلُوا إِلَيْهَا

فَكَيْفَ وَصَلْتُمُ عِلْمَ السَّمَاءِ؟!

وقال الآخر:

لَعَمْرُكَ مَا الْإِنْسَانُ إِلَّا ابْنُ دِينِهِ

فَلَا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالًا عَلَى النَّسَبْ

لَقَدْ رَفَعَ الْإِسْلَامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ

وَقَدْ وَضَعَ الشِّرْكُ النَّسِيبَ أَبَا لَهَبْ

وقال الآخر:

كُنِ ابْنَ مَنْ شِئْتَ وَاكْتَسِبْ أَدَبًا

يُغْنِيكَ مَحْمُودُهُ عَنِ النَّسَبِ

إِنَّ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ هَأَنَذَا

لَيْسَ الْفَتَى مَنْ يَقُولُ كَانَ أَبِي

وقال نهار بن توسعة:

أَبِي الْإِسْلَامُ لَا أَبَ لِي سِوَاهُ

إِذَا افْتَخَرُوا بِقَيْسٍ أَوْ تَمِيمِ

ص: 719

وقال القحطاني:

وَإِذَا خَلَوْتَ بِرِيبَةٍ فِي ظُلْمَةٍ

والنَّفْسُ دَاعِيَةٌ إِلَى الْعِصْيَانِ

فَاسْتَحْيِ مِنْ نَظَرِ الْإِلَهِ وَقُلْ لَهَا:

إِنَّ الَّذِي خَلَقَ الظَّلَامَ يَرَانِي

وقال أحمد بن العريف:

يَا رَاحِلِينَ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ لَقَدْ

سِرْتُمْ جُسُومًا وَسِرْنَا نَحْنُ أَرْوَاحَا

إِنَّا أَقَمْنَا عَلَى عُذْرٍ نُكَابِدُهُ

وَمَنْ أَقَامَ عَلَى عُذْرٍ كَمَنْ رَاحَا

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

إِذَا لَمْ يَكُنْ عَوْنٌ مِنَ اللَّهِ لِلْفَتَى

فَأَوَّلُ مَا يَجْنِي عَلَيْهِ اجْتِهَادُهُ

وقال ابن هانئ:

وَلَمْ أَجِدِ الْإِنْسَانَ إِلَّا ابْنَ سَعْيِهِ

فَمَنْ كَانَ أَسْعَى كَانَ بِالْمَجْدِ أَجْدَرَا

فَلَمْ يَتَأَخَّرْ مَنْ أَرَادَ تَقَدُّمًا

وَلَمْ يَتَقَدَّمْ مَنْ أَرَادَ تَأَخُّرَا

وقال النابغة الجعدي:

وَلَا خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ

بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا

وَلَا خَيْرَ فِي جَهْلٍ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ

حَلِيمٌ إِذَا مَا أَوْرَدَ الْأَمْرَ أَصْدَرَا

وقال الآخر:

لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ صَغِيرَهَا

إِنَّ الصَّغِيرَ غَدًا يَعُودُ كَبِيرَا

إِنَّ الصَّغِيرَ وَإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ

عِنْدَ الْإِلَهِ مُسَطَّرٌ تَسْطِيرَا

وقال الحُطَيئة:

وَلَسْتُ أَرَى السَّعَادَةَ جَمْعَ مَالٍ

وَلَكِنَّ التَّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ

وَتَقْوَى اللَّهِ خَيْرُ الزَّادِ ذُخْرًا

وَعِنْدَ اللَّهِ لِلْأَتْقَى مَزِيدُ

وقال أبو العتاهية:

اصْبِرْ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ

وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ

واصْبِرْ كَمَا صَبَرَ الْكِرَامُ فَإِنَّهَا

نُوَبٌ تَنُوبُ الْآنَ تُفْرَجُ مِنْ غَدِ

ص: 720

وَإِذَا أُصِبْتَ مُصِيبَةً تَشْجَى بِهَا

فَاجْبُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ

وقال ابن السِّكِّيت:

وَكُلُّ الْحَادِثَاتِ إِذَا تَنَاهَتْ

فَمَوْصُولٌ بِهَا الْفَرَجُ الْقَرِيبُ

وقال الآخر:

وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَدُومُ لِأَهْلِهَا

لَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ حَيًّا مُخَلَّدَا

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

إِنَّ الْقُلُوبَ إِذَا تَنَافَرَ وُدُّهَا

شِبْهُ الزُّجَاجَةِ كَسْرُهَا لَا يُشْعَبُ

وقال الشافعي رحمه الله:

إِذَا لَمْ أَجِدْ خِلًّا تَقِيًّا فَوَحْدَتِي

أَلَذُّ وَأَشْهَى مِنْ غَوِيٍّ أُعَاشِرُهْ

وقال الكُمَيت:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ السَّيْفَ يَنْقُصُ قَدْرُهُ

إِذَا قِيلَ إِنَّ السَّيْفَ أَمْضَى مِنَ الْعَصَا؟

وقال أبو العتاهية:

مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ لَا يَعْدَمْ جَوَازِيَهُ

لَا يَذْهَبُ الْعُرْفُ بَيْنَ اللَّهِ وَالنَّاسِ

وقال أيضًا:

تَرْجُو النَّجَاةَ وَلَمْ تَسْلُكْ مَسَالِكَهَا

إِنَّ السَّفِينَةَ لَا تَجْرِي عَلَى الْيَبَسِ

وقال عروة بن الورد:

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَطْلُبْ مَعَاشًا لِنَفْسِهِ

شَكَا الْفَقْرَ أَوْ لَامَ الصَّدِيقَ فَأَكْثَرَا

وَصَارَ عَلَى الْأَدْنَيْنِ كَلًّا وَأَوْشَكَتْ

صِلَاتُ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُ أَنْ تَنَكَّرَا

فَسِرْ فِي بِلَادِ اللَّهِ وَالْتَمِسِ الْغِنَى

تَعِشْ ذَا يَسَارٍ أَوْ تَمُوتَ فَتُعْذَرَا

وقال أبو نُواس:

وَمَنْ يَأْمَنِ الدُّنْيَا يَكُنْ مِثْلَ قَابِضٍ

عَلَى الْمَاءِ خَانَتْهُ فُرُوجُ الْأَصَابِعِ

وقال المتنبي:

إِذَا سَاءَ فِعْلُ الْمَرْءِ سَاءَتْ ظُنُونُهُ

وَصَدَّق مَا يَعْتَادُهُ مِن تَوَهُّمِ

ص: 721

وَعَادَى مُحِبِّيهِ بِقَوْلِ عُدَاتِهِ

وَأَصْبَحَ فِي لَيْلٍ مِنَ الشَّكِّ مُظْلِمِ

وقال أبو العتاهية:

فَوَا عَجَبَا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَـ

هُ أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ؟!

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ

تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ

وقال ابن عائشة:

يَدُ الْمَعْرُوفِ خَيْرٌ حَيْثُ كَانَتْ

تَلَقَّفَهَا كَفُورٌ أَمْ شَكُورُ

فَفِي شُكْرِ الشَّكُورِ لَهَا جَزَاءٌ

وَعِنْدَ اللَّهِ مَا كَفَرَ الْكَفُورُ

وقال الشافعي رحمه الله:

النَّاسُ بِالنَّاسِ مَا دَامَ الْحَيَاءُ بِهِمْ

وَالسَّعْدُ لَا شَكَّ تَارَاتٌ وَهَبَّاتُ

وَأَكْرَمُ النَّاسِ مَا بَيْنَ الْوَرَى رَجُلٌ

تُقْضَى عَلَى يَدِهِ للنَّاسِ حَاجَاتُ

لَا تَمْنَعَنَّ يَدَ الْمَعْرُوفِ عَنْ أَحَدٍ

مَا دُمْتَ مُقْتَدِرًا فَالسَّعْدُ تَارَاتُ

وَاشْكُرْ فَضَائِلَ صُنْعِ اللَّهِ إِذْ جُعِلَتْ

إِلَيْكَ، لَا لَكَ، عِنْدَ النَّاسِ حَاجَاتُ

قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَمَا مَاتَتْ مَكَارِمُهُمْ

وَعَاشَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَمْوَاتُ

وقال الشافعي رحمه الله أيضًا:

كُلُّ الْعَدَاوَاتِ قَدْ تُرْجَى مَوَدَّتُهَا

إِلَّا عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ عَنْ حَسَدِ

وقال المتنبي:

لَوْلَا الْمَشَقَّةُ سَادَ النَّاسُ كُلُّهُمُ

الْجُودُ يُفْقِرُ وَالْإِقْدَامُ قَتَّالُ

وقال أيضًا:

لَا خَيْلَ عِنْدَكَ تُهْدِيهَا وَلَا مَالُ

فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ تُسْعِدِ الْحَالُ

وقال الآخر:

فَهُنَّ الْمَنَايَا أَيُّ وَادٍ سَلَكْتُهُ

عَلَيْهَا طَرِيقِي أَوْ عَلَيَّ طَرِيقُهَا

وقال الشافعي رحمه الله:

بِقَدْرِ الْجِدِّ تُكْتَسَبُ الْمَعَالِي

وَمَنْ طَلَبَ الْعُلَى سَهِرَ اللَّيَالِي

ص: 722

وَمَنْ طَلَبَ الْعُلَى مِنْ غَيْرِ كَدٍّ

أَضَاعَ الْعُمْرَ فِي طَلَبِ الْمُحَالِ

وقال الآخر:

وَمَنْ طَلَبَ الْعُلَى مِنْ غَيْرِ كَدٍّ

سَيُدْرِكُهَا مَتَى شَابَ الْغُرَابُ

وقال الآخر:

وَمَنْ زَرَعَ الْحُبُوبَ وَمَا سَقَاهَا

تَأَوَّهَ نَادِمًا يَوْمَ الْحَصَادِ

وقال المتنبي:

إِذَا الْجُودُ لَمْ يُرْزَقْ خَلَاصًا مِنَ الْأَذَى

فَلَا الْحَمْدُ مَكْسُوبًا وَلَا الْمَالُ بَاقِيَا

وقال عبد الله بن الحجاج:

كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ

عَلَى الْخَائِفِ الْمَذْعُورِ كِفَّةُ حَابِلِ

وقال حسَّان رضي الله عنه:

أَصُونُ عِرْضِي بِمَالِي لَا أُدَنِّسُهُ

لَا بَارَكَ اللَّهُ بَعْدَ الْعِرْضِ بِالْمَالِ

أَحْتَالُ لِلْمَالِ إِنْ أَوْدَى فَأَجْمَعُهُ

وَلَسْتُ لِلْعِرْضِ إِنْ أَوْدَى بِمُحْتَالِ

وقال ابن الوردي:

إِنَّ نِصْفَ النَّاسِ أَعْدَاءٌ لِمَنْ

وَلِيَ الْأَحْكَامَ، هَذَا إِنْ عَدَلْ

وقال القحطاني رحمه الله:

إِنَّ الرَّوَافِضَ شَرُّ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى

مِنْ كُلِّ إِنْسٍ نَاطِقٍ أَوْ جَانِ

وصدق رحمه الله.

وقال عُمَير بن شيَيم:

قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ

وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ

وقال المتنبي:

لَعَلَّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَوَاقِبُهُ

وَرُبَّمَا صَحَّتِ الْأَجْسَامُ بِالْعِلَلِ

وقال لَبيد:

لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى

وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ

ص: 723

وَمَا الْمَالُ وَالْأَهْلُونَ إِلَّا وَدَائِعٌ

وَلَا بُدَّ يَوْمًا أَنْ تُرَدَّ الْوَدَائِعُ

وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا كَالشِّهَابِ وَضَوْئِهِ

يَحُورُ رَمَادًا بَعْدَ إِذْ هُوَ سَاطِعُ

وَمَا النَّاسُ إِلَّا عَامِلَانِ فَعَامِلٌ

يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وَآخَرُ رَافِعُ

وقال الآخر:

تَعَزَّ فَلَا شَيْءٌ عَلَى الْأَرْضِ بَاقِيَا

وَلَا وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا

وقال أبو العتاهية:

إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَلْبَسْ ثِيَابًا مِنَ التُّقَى

تَقَلَّبَ عُرْيَانًا وَإِنْ كَانَ كَاسِيَا

وَخَيْرُ لِبَاسِ الْمَرْءِ طَاعَةُ رَبِّهِ

وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ لِلَّهِ عَاصِيَا

وقال المتنبي:

وَإِذَا أَتَتْكَ مَذَمَّتِي مِنْ نَاقِصٍ

فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّيَ كَامِلُ

وقال أبو العلاء المعري:

إِذَا كُنْتَ تَهْوَى الْعَيْشَ فَابْغِ تَوَسُّطًا

فَعِنْدَ التَّنَاهِي يَقْصُرُ الْمُتَطَاوِلُ

تُوَقَّى الْبُدُورُ النَّقْصَ وَهْيَ أَهِلَّةٌ

وَيُدْرِكُهَا النُّقْصَانُ وَهْيَ كَوَامِلُ

وقال إبراهيم بن كُنيف النبهاني:

تَعَزَّ فَإِنَّ الصَّبْرَ بِالْحُرِّ أَجْمَلُ

وَلَيْسَ عَلَى رَيْبِ الزَّمَانِ مُعَوَّلُ

وقال مسكين الدارمي:

أَخَاكَ أَخَاكَ إِنَّ مَنْ لَا أَخَا لَهُ

كَسَاعٍ إِلَى الْهَيْجَا بِغَيْرِ سِلَاحِ

وقال المتنبي:

وَكَيْفَ يَصِحُّ فِي الْأَذْهَانِ شَيْءٌ

إِذَا احْتَاجَ النَّهَارُ إِلَى دَلِيلِ؟!

وقال الشافعي رحمه الله:

فَمَا أَكْثَرَ الْإِخْوَانَ حِينَ تَعُدُّهُمْ

وَلَكِنَّهُمْ فِي النَّائِبَاتِ قَلِيلُ

وقال أبو تمام:

أَتَصْبِرُ لِلْبَلْوَى رَجَاءً وَحِسْبَةً

فَتُؤْجَرُ، أَوْ تَسْلُو سُلُوَّ الْبَهَائِمِ؟

ص: 724

وقال علي رضي الله عنه:

وَإِذَا رَأَيْتَ الرِّزْقَ ضَاقَ بِبَلْدَةٍ

وَخَشِيتَ فِيهَا أَنْ يَضِيقَ الْمَذْهَبُ

فَارْحَلْ فَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةُ الْفَضَا

طُولًا وَعَرْضًا شَرْقُهَا وَالْمَغْرِبُ

وقال رضي الله عنه:

النَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثِيلِ أَكْفَاءُ

أَبُوهُمُ آدَمٌ وَالْأُمُّ حَوَّاءُ

فَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ مِنْ أَصْلِهِمْ نَسَبٌ

يُفَاخِرُونَ بِهِ فَالطِّينُ وَالْمَاءُ

وقال القاضي الجرجاني:

وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ

وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعَظَّمَا

وَلَكِنْ أَهَانُوهُ فَهَانُوا وَدَنَّسُوا

مُحَيَّاهُ بِالْأَطْمَاعِ حَتَّى تَجَهَّمَا

وقال الشافعي رحمه الله:

لَمَّا عَفَوْتُ وَلَمْ أَحْقِدْ عَلَى أَحَدٍ

أَرَحْتُ نَفْسِيَ مِنْ هَمِّ الْعَدَاوَاتِ

وقال عنترة:

لَا يَحْمِلُ الْحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بِهِ الرُّتَبُ

وَلَا يَنَالُ الرِّضَا مَنْ طَبْعُهُ الْغَضَبُ

وقال أبو القاسم الشابي:

وَمَنْ يَتَهَيَّبْ صُعُودَ الْجِبَالِ

يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الْحُفَرْ

وقال البوصيري:

وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى

حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ

وقال الآخر:

وَآفَةُ الْعَقْلِ الْهَوَى فَمَنْ عَلَا

عَلَى هَوَاهُ عَقْلُهُ فَقَدْ نَجَا

وقال بشار بن بُرد:

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَشْرَبْ مِرَارًا عَلَى الْقَذَى

ظَمِئْتَ، وَأَيُّ النَّاسِ تَصْفُو مَشَارِبُهْ؟!

وقال المتنبي:

الرَّأْيُ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشُّجْعَانِ

هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ الْمَحَلُّ الثَّانِي

ص: 725

وقال ابن الرومي:

وَمِنْ قِلَّةِ الْإِنْصَافِ أَنَّكَ تَبْتَغِي الْـ

مُهَذَّبَ فِي الدُّنْيَا وَلَسْتَ الْمُهَذَّبَا

وقال الآخر:

وَقَدْ يَأْمُرُ الشَّيْطَانُ بِالْخَيْرِ قَاصِدًا

وُصُولًا إِلَى بَابٍ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمِ

وقال الآخر:

وَالنَّاسُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِهِمْ

كَأَنَّهُمْ غَنَمٌ فِي حَوْشِ جَزَّارِ

وقال أحمد شوقي:

صَلَاحُ أَمْرِكَ لِلْأَخْلَاقِ مَرْجِعُهُ

فَقَوِّمِ النَّفْسَ بِالْأَخْلَاقِ تَسْتَقِمِ

وقال الآخر:

وَمَا مِنْ يَدٍ إِلَّا يَدُ اللَّهِ فَوْقَهَا

وَلَا ظَالِمٍ إِلَّا سَيُبْلَى بِظَالِمِ

وقال الآخر:

مَشَيْنَاهَا خُطًى كُتِبَتْ عَلَيْنَا

وَمَنْ كُتِبَتْ عَلَيْهِ خُطًى مَشَاهَا

وَمَنْ كَانَتْ مَنِيَّتُهُ بِأَرْضٍ

فَلَيْسَ يَمُوتُ فِي أَرْضٍ سِوَاهَا

وقال حافظ إبراهيم:

رَأْيُ الْجَمَاعَةِ لَا تَشْقَى الْبِلَادُ بِهِ

رَغْمَ الْخِلَافِ وَرَأْيُ الْفَرْدِ يُشْقِيهَا

وقال يحيى بن علي:

يُقْضَى عَلَى الْمَرْءِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ

حَتَى يَرَى حَسَنًا مَا لَيْسَ بِالْحَسَنِ

وقال أحمد شوقي:

دَقَّاتُ قَلْبِ الْمَرْءِ قَائِلَةٌ لَهُ

إِنَّ الْحَيَاةَ دَقَائِقٌ وَثَوَانِي

وقال الشافعي رحمه الله:

عِفُّوا تَعِفُّ نِسَاؤُكُمْ فِي الْمَحْرَمِ

وَتَجَنَّبُوا مَا لَا يَلِيقُ بِمُسْلِمِ

إِنَّ الزِّنَى دَيْنٌ فَإِنْ أَقْرَضْتَهُ

كَانَ الْوَفَاءُ بِأَهْلِ بَيْتِكَ فَاعْلَمِ

مَنْ يَزْنِ فِي بَيْتٍ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ

فِي بَيْتِهِ يُزْنَى بِغَيْرِ الدِّرْهَمِ

ص: 726

مَنْ يَزْنِ يُزْنَ بِهِ وَلَوْ بِجِدَارِهِ

إِنْ كُنْتَ يَا هَذَا لَبِيبًا فَافْهَمِ

وقال ابن المبارك:

رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ

وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا

وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ

وَخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا

وقال محمد إقبال:

إِذَا الْإِيمَانُ ضَاعَ فَلَا أَمَانٌ

وَلَا دُنْيَا لِمَنْ لَمْ يُحْيِ دِينَا

وقال ابن القيم:

يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَسْتِ رَخِيصَةً

بَلْ أَنْتِ غَالِيَةٌ عَلَى الْكَسْلَانِ

يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَيْسَ يَنَالُهَا

بِالْأَلْفِ إِلَّا وَاحِدٌ لَا اثْنَانِ

وقال معروف الرُّصافي:

يَقُولُونَ فِي الْإِسْلَامِ ظُلْمًا بِأَنَّهُ

يَصُدُّ ذَوِيهِ عَنْ طَرِيقِ التَّقَدُّمِ

فَإِنْ كَانَ ذَا حَقًّا فَكَيْفَ تَقَدَّمَتْ

أَوَائِلُهُ فِي عَصْرِهَا الْمُتَقَدِّمِ؟!

وَإِنْ كَانَ ذَنْبُ الْمُسْلِمِ الْيَوْمَ جَهْلَهُ

فَمَاذَا عَلَى الْإِسْلَامِ مِنْ جَهْلِ مُسْلِمِ؟!

هَلِ الْعِلْمُ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا فَرِيضَةٌ

وَهَلْ أُمَّةٌ سَادَتْ بِغَيْرِ التَّعَلُّمِ؟!

لَقَدْ أَيْقَظَ الْإِسْلَامُ لِلْمَجْدِ وَالْعُلَا

بَصَائِرَ أَقْوَامٍ عَنِ الْمَجْدِ نُوَّمِ

وَدَكَّ حُصُونَ الْجَاهِلِيَّةِ بِالْهُدَى

وَقَوَّضَ أَطْنَابَ الضَّلَالِ الْمُخَيِّمِ

أَلَا قُلْ لِمَنْ جَارُوا عَلَيْنَا بِحُكْمِهِمْ

رُوَيْدًا فَقَدْ قَارَفْتُمُ كُلَّ مَأْثَمِ

فَلَا تُنْكِرُوا شَمْسَ الْحَقِيقَةِ إِنَّهَا

لَأَبْيَنُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الْمُرَجَّمِ

وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا المصطفى الأمين وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين.

ص: 727

‌نبذة عن المؤلف

• ولد المؤلف- حفظه الله- في محافظة الشماسية بالقصيم، ونشأ يتيمًا؛ حيث توفي والده إبراهيم ابن عبد الله اللاحم رحمه الله وهو صغير، فتولت تربيته والدته هيلة بنت عبد الرحمن اليحيى -رحمها الله-.

• درس في المدرسة السعودية في الشماسية، وتخرج فيها سنة 1384 - 1385 هـ.

• والتحق بالمعهد العلمي ببريدة، وتخرج فيه سنة 1389 - 1390 هـ.

• ثم التحق بكلية الشريعة بالرياض وتخرج فيها سنة 1393 - 1394 هـ.

• وحصل من كلية أصول الدين بالرياض على درجة الماجستير في القرآن وعلومه سنة 1401 هـ، وعلى درجة الدكتوراه سنة 1407 هـ.

• وكان من الأوائل في سني دراسته كلها.

• بعد تخرجه في الجامعة عمل مدرسًا في التعليم العام في محافظة الشماسية، ثم بعد أن حصل على الماجستير انتقل إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعمل فيها محاضرًا في قسم القرآن الكريم وعلومه في كلية الشريعة وأصول الدين بالقصيم.

• ثم بعد أن حصل على الدكتوراه عين أستاذًا مساعدًا، ثم رقي أستاذًا مشاركًا، ثم أستاذًا.

• تولى وكالة قسم القرآن الكريم وعلومه بالكلية عدة سنوات، ثم عين رئيسًا للقسم ثماني سنوات، ويعمل الآن أستاذًا متعاقدًا في القسم.

• كان له عدة دروس ومحاضرات في عدد من المساجد في محافظة الشماسية وفي بعض المراكز القريبة منها، وفي بريدة، وفي المنطقة وخارجها.

• أشرف على كثير من رسائل الماجستير والدكتوراه، وناقش الكثير منها.

• حقق كتاب «الناسخ والمنسوخ» للنحاس.

• وله: «منهج ابن كثير في التفسير» ، و «الأئمة والمؤذنون والعاملون في بيوت الله، بين التكليف والتشريف» ، وهو كتاب صغير. وكلها منشورة.

• كما نشر له عدة كتب ورسائل في تفسير آيات الأحكام، وفي مفصل القرآن، وقد جمعها كلها في تفسيره:«عون الرحمن في تفسير القرآن» .

نسأل الله تعالى أن يجزيه عن هذه الخدمة لكتاب الله تعالى خير الجزاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 751