الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دور المركز في خدمة السيرة النبوية:
بين السيرة النبوية والمدينة المنورة صلات وشيجة، وعطاء متبادل، فقد احتضنت المدينة الشطر الأوفى من أحداث السيرة، ومنحت السيرة المدينة شخصية متميزة، تنفرد بها من بين سائر المدن، وأصبحت دراسة إحداهما تتصل بشكل أو بآخر بدراسة الأخرى، وتثريها في غير جانب.
فمنذ أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ شهد علم السيرة أبوابًا وفصولاً جديدة واسعة، تخط الأحداث فيها - لأكثر من عشر سنوات - سطورًا ناصعة، مليئة بالأحكام والتشريعات والعبر، تخاطب جيلاً اختاره الله سبحانه وتعالى لمعاصرة النبوة، وتحمُّل الرسالة، وتخاطب من ورائه البشرية كافة، على امتداد الزمان والمكان، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لتبني بهديها حياة الفرد والمجتمع والأمة.
لذلك؛ لا تكاد تجد معلمًا من معالم المدينة إلا وعند أهل السيرة النبوية خبر من أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو صحابته الكرام يقترن به، وحسبنا أن نقول: إن ما اصطلح عليه العلماء بـ (العهد المدني) هو القسم الأكبر من السيرة النبوية كلها، والعصر الذهبي في تاريخ الأمة الإسلامية.
وعلى امتداد القرون بين عصرنا وعصر النبوة؛ ظهر كُتَّاب تتبعوا أحداث السيرة النبوية، فجمعوا رواياتها، ودونوها، أفردها بعضهم - كابن إسحاق والواقدي وابن سيد الناس - بمصنفات خاصة، نضج بفضلها علم السيرة النبوية الذي انفردت به الأمة الإسلامية دون الأمم الأخرى، وجعلها بعضهم الآخر - كالطبري وابن كثير وابن الأثير
…
إلخ - أكبر باب في مؤلفه التاريخي الضخم.
كما ظهر كُتَّاب آخرون كتبوا عن فضائل المدينة والأحداث التي وقعت فيها منذ تأسيسها إلى زمنهم، وعن أعلامها، ومعالمها
…
ولا أعرف مدينة - باستثناء مكة - توالت الكتابات عنها عبر العصور كالمدينة المنورة، وأكاد أزعم أنه ما من جيل إلا وظهر فيه من صنف كتابًا أو رسالة أو فصلاً في كتاب عنها، وقد اهتم معظم الذين كتبوا عنها بوصف معالمها، وركزوا اهتمامهم على المعالم التي ورد ذكرها في السيرة النبوية والحديث النبوي الشريف، ولم يتركوا تلة أو ثنية إلا وذكروا اسمها والأخبار الواردة عنها، واستشهدوا بما ذكرت فيه من شعر أو قول مأثور، فضلاً عما زخرت به معاجم البلدان ومعاجم اللغة وكتب الجغرافيا وكتب الرحلات، فصار لها تراث ثقافي هائل ومتنوع، بدأ بالسيرة النبوية، وامتد إلى العادات والتقاليد، وشمل جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وغيرها
…
وعندما بدأ مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة بجمع هذا التراث ودراسته، كانت السيرة النبوية في مقدمة اهتماماته، وقام خلال السنوات القليلة الماضية من عمره بخدمات عدة في هذا الميدان، وما زال مستمرًا في أدائها، وسيبقى كذلك إن شاء الله، حيث إن خدمة السيرة جزء أساسي من خدمته للمدينة المنورة وتراثها الحضاري، وأذكر هنا أهم الأعمال التي أنجزها حتى الآن في هذا الميدان:
أولا: التوثيق الميداني لأحداث السيرة النبوية:
عندما بدأ المركز بتحديد خطط عمله في خدمة السيرة، وجد أنه من غير الحكمة أن يكرر جهود العلماء السابقين في جمع روايات السيرة؛ بعد خمسة عشر قرنًا من عمرها، وأن عليه أن يتجه إلى دراسة هذه الروايات والموازنة
بينها، ويستفيد من وجوده في موقع الأحداث وعلى أرضها، لإنجاز مشروع رائد يخدم هذا العمل الجليل، ويخدم به أجيال المسلمين الحاضرة والقادمة، مشروع توثيق ميداني لأحداث السيرة، يطابق فيه الأحداث مع المواقع، ويزن الروايات المختلفة بميزان التوافق مع طبيعة الأرض وجغرافية المكان، وحقيقة التضاريس، ويستعين بجميع معطيات البيئة للوصول إلى صورة دقيقة للحدث الذي يوثقه.
ونظرًا لضخامة هذا المشروع؛ فقد وزعه على مراحل، وجعل لكل مرحلة هدفًا من أهداف خطته السنوية.
واختار أن تكون المرحلة الأولى غزوة أحد، لأسباب كثيرة، منها: وجود خلافات في رواية بعض تفصيلات الغزوة، ووجود المركز على مقربة من موقع الغزوة، وتردد مئات الآلف من الزائرين إليه كل سنة، لا يجدون شرحًا موثقًا، بل ويقع الكثير منهم ضحية روايات شعبية عجيبة لا أساس لها من الصحة، يتطوع بها السائقون وصبية مرتزقة، وغير ذلك من الأسباب.
ويتضمن مشروع التوثيق ما يلي:
1 -
إعداد نص موثق لأحداث الغزوة، تعرض فيه رواية واحدة متسلسلة، تؤخذ من المصادر التالية حسب ترتيبها: القرآن الكريم، الحديث الصحيح، السيرة النبوية، كتب التاريخ، كتب التراجم، وتقدم المصادر التراثية على المصادر الحديثة، وتعرض الرواية الأرجح، وتوثق جميع تفصيلات النص من مصادرها، وقد أعد الباحثون في المركز هذا النص، وعرض على المحكمين، ونفذت ملاحظاتهم.
2 -
إعداد خريطة دقيقة تعتمد على الرفع المساحي والتصوير الجوي
بالأقمار الصناعية، وقد أعدت الخريطة اعتمادًا على خرائط أمانة المدينة المنورة، وأعيد رسم المعالم الطبيعية قبل التغيرات التي طرأت عليها حسب ما ورد وصفها في المصادر القديمة ببرامج الحاسب الآلي المتخصصة.
3 -
إعداد مجسم لمنطقة الغزوة، وقد أعد المجسم بمقياس 1/700، يبلغ حجمه ثلاثين مترًا مربعًا (5×6م) ، اعتمد في تفصيلاته على الخريطة المذكورة في الفقرة السابقة، وعلى الصور الفوتوغرافية للمعالم التي لم يلحقها تغير عمراني.
4 -
إعداد برنامج حاسوبي بالرموز المتحركة لتمثيل أحداث الغزوة، وقد أعد البرنامج ليعرض فوق المجسم المذكور في الفقرة السابقة.
ولتعزيز التوثيق الذي قام به منسوبو المركز، ستعقد في شهر صفر 1425هـ حلقة نقاش علمي، يشارك فيها مجموعة من المتخصصين في الحديث النبوي الشريف والسيرة النبوية والتاريخ والجغرافيا والاستراتيجية العسكرية، وستوزع على المشاركين فيها ملفات توثيق النصوص والروايات التي تختلف في سرد بعض التفصيلات، ورأي المركز في الروايات الأرجح، وسيحرر محضر بما يتوصل إليه المجتمعون ليكون رأيًا جماعيًا موثقًا.
وقد بدأ المركز في المرحلة الثانية من المشروع؛ مرحلة توثيق غزوة الخندق، واستخرج الباحثون الروايات الواردة فيها من عدد من المصادر، وسيسير العمل فيها إن شاء الله بالخطوات نفسها التي مضت في توثيق غزوة أحد.
وسوف تتوالى في الأعوام القادمة بإذن الله المراحل التالية، والتي يتم فيها
إجراء توثيق ميداني لأحداث السيرة التي وقعت في المدينة المنورة وما حولها، واحدة بعد الأخرى، وسيصدر كتاب شامل عن هذا التوثيق.
ثانيًا: برنامج المدينة المنورة في العهد النبوي:
أنجز المركز برنامجًا حاسوبيًا يتضمن موسوعة معلوماتية عن الأحداث التي وقعت في هذا العهد الميمون، مع صور ثابتة ومتحركة لمواقع بعض الأحداث، وخرائط تفصيلية، ومعلومات عن جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية آنئذ، كما يشمل ملفًا عن تأسيس المسجد النبوي ومعالمه، ورسومًا توضيحية لما كان عليه، والتوسعة الأولى التي تمت بتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام السابع من الهجرة، ويشمل البرنامج أيضًا ترجمة لعدد كبير من أعلام الصحابة آنئذ.
ثالثًا: موسوعة المسجد النبوي:
أنجز المركز موسوعة المسجد النبوي، وتتضمن معلومات شاملة عن تأسيس المسجد النبوي والأحداث الرئيسة التي شهدها في العهد النبوي، وهذا قسم مهم من السيرة النبوية، وتتضمن الموسوعة معلومات مماثلة وموسعة عنه في العصور التالية إلى العصر الحديث.
رابعًا: برنامج عمارة المسجد النبوي:
أنجز المركز برنامجًا بالحاسب الآلي لتاريخ عمارة المسجد النبوي منذ تأسيسه على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا الحاضر، ويعرض البرنامج مخططات تفصيلية متحركة للتغييرات التي طرأت عليه كافة، مثل
تحويل القبلة، وتوسعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنارته، وإقامة المنبر فيه، ثم التوسعات التالية، والتطورات العمرانية في معالمه كافة، وصدرت نسخة بالعربية والإنجليزية والتركية والأردية.
خامسًا: خريطة المدينة المنورة في العهد النبوي:
اهتم المركز بإعداد خريطة للمدينة في العهد النبوي، يوضح عليها على نحوٍ تقريبي التوزع السكاني ومواقع القبائل، وأهم المعالم العمرانية في ذلك العهد، واعتمد على الروايات الواردة في المصادر التراثية الموثوقة، وعلى التصوير الجوي بالأقمار الصناعية للمنطقة.
سادسًا: خريطة طريق هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء إلى منازل بني النجار.
أعد المركز خريطة للمرحلة الأخيرة من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من قباء إلى قلب المدينة المنورة، حيث بركت ناقته في مربد، صار موقعًا للمسجد النبوي، واعتمد المركز على الروايات الواردة في المصادر الموثوقة، وعلى التصوير الجوي بالأقمار الصناعية للمنطقة.
سابعًا: برنامج الحافظة (الأرشيف) :
أعد المركز برنامجًا ضخمًا باسم (الحافظة) ، يحفظ فيه جميع المعلومات المستخرجة من الكتب والمخطوطات والوثائق عن المدينة المنورة، وتعد المعلومات الواردة عن السيرة النبوية جزءًا أساسيًا وكبيرًا منه، إضافة إلى ملفات الأعلام التي يتصدرها علم الأعلام؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وتتضمن الملفات عرضًا مركزًا لسيرته العطرة؛ من الولادة إلى الوفاة، وترجمات مركزة أيضًا للصحابة في منطقة المدينة المنورة، ومن دفن في البقيع، وجميع المعلومات موثقة بالمصادر التي نقلت منها.
وبعد
…
فإن المركز الذي أكرمه الله سبحانه وتعالى بخدمة هذه المدينة الطاهرة؛ قام، وسيقوم ما وسعه بخدمة السيرة النبوية بدراسات توثيقية ميدانية، وبعروض حديثة مناسبة لأحداث هذه السيرة العطرة، ويخطط للاستفادة من مواقع الأحداث في إقامة عروض مناسبة للزائرين بلغات شتى، بالتعاون مع الجهات الأخرى المختصة، يقدم فيها معلومات صحيحة موثقة بأساليب مشوقة، وباستخدام التقنيات الحديثة، وبجميع الوسائل المتاحة؛ من برامج حاسوبية ، وعروض بالصوت والضوء والكتب والمنشورات بلغات شتى، لتكون شكلاً من أشكال نشر السيرة النبوية بين المسلمين، للاستفادة من عبرها العظيمة في تعزيز القيم الإيمانية في النفوس، والتأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، والاهتداء بهديه، تطبيقًا لقوله سبحانه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] .