الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[3- العقل (القلب) ] :
والقلب يعقل هذا المشهود وهذا المسموع، فلا بد من أن يعقل ما أمر الله به وأخبر، كما لا بد أن يعقل ما شهدنا وحسسنا، فيعقل الشهادة والغيب، بمعنى ضبط العلم يجريان ذلك على وجه كليٍّ ثابت في النفس.
لكن زَعْم أولئك أن العقل يُدرك من حسن الفعل وقبحه ما فيه ملاءَمة باطل، كما أن زعم أولئك أن الشرع يأتي بحسن أو قبح لا ملاءمة فيه باطل، فأولئك إنما نفوا ذلك لأنهم أرادوا أن يثبتوا للرب من جنس ما عقلوه في البشر، وأنكروا الملاءمة في حقه والنافرة، وهؤلاء أرادوا أن يثبتوا شرعًا محضًا مبنيًّا على محض المشيئة ليس فيه ملاءمة ولا منافرة، وكلا الفريقين أنكر حقيقة محبة الله ورضاه للأفعال الحسنة، وبغضه للمسيئين بها، وهذا هو المعنى الذي يُعبِّرون عنه في حقنا: الملاءمة والمنافرة، وإنما أُتوا من جهة ما فيهم من نوع تجهم.
ولهذا أنكر أولئك - مع إنكارهم لهذه الصفات - أنكروا القدر، وهو عموم قدرته ومشيئته وخلقه، وأنكر هؤلاء ما في الشريعة من المناسبات والمحاسن التي انطوى عليها الأمر والنهي، وأنكروا أيضًا ما في خلقه ومشيئته من الحكمة والرحمة.
فهؤلاء أثبتوا القدرة والمشيئة والخلق، ولكن قصَّروا في إثبات الرحمة والحكمة والعدل، وأولئك أثبتوا شيئًا من الحكمة والعدل، ولكن قصَّروا في ذلك أيضًا، مع تقصيرهم في القدرة والمشيئة والخلق، وإن كان كل من الفريقين لا ينكر أمر الشرع ونهيه.
لكن غلاة أولئك دفعوا بعقولهم كثيرًا مما جاء به الشرع من الأمر والنهي، وقالوا: هذا يخالف الحكمة المعقولة، كما فعل إبليس وذووه. وغلاة هؤلاء دفعوا أيضًا الأمر والنهي وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، كما قال المشركون. وإبليس أغلظ كفرًا، ولهذا كانت بدعة أولئك أقرب إلى السنة والجماعة.
وهذه الأمور التي تحبها النفوس والقلوب بفطرتها هي المعروف، والتي تبغضها هي المنكر، فإن المعرفة هي إحساس مع محبة، والإنكار إحساس مع بغضة. فأما ما لم يُحَسّ بحال فلا يُعرف ولا ينكر، وما لا يُحب ولا يبغض بحال فلا يُعْرف ولا ينكر. وإذا حُدِّث الرجل بحديث فأنكره لجهله
فإنه أنكر ما لا أحبه سمعُه، وكذلك الحديث المنكر عند أهل الحديث هو ما لم يسمعوه فيحبوه لصحته وصدقه، فإذا سمعوه بذلك أنكروه بعد إحساسه.
والمقصود هنا أن محبة هذه الأمور الحسنة ليس مذمومًا بل محمودًا، ومن فعل هذه الأمور لأجل هذه المحبة لم يكن مذمومًا ولا معاقبًا، ولا يُقال إن هذا عمله لغير الله، فيكون بمنزلة المرائي والمشرك، فذاك هو الشرك المذموم. وأما من فعلها لمجرد المحبة الفطرية فليس بمشرك ولا هو أيضًا متقربًا بها إلى الله، حتى يستحق عليها ثواب من عمل لله وعبده، بل قد يثيبه عليها بأنواع من الثواب: إما بزيادة فيها في أمثالها، فيتنعَّم بذلك في الدنيا، ولهذا كان الكافر يُجزى على حسناته في الدنيا وإن لم يتقرب بها إلى الله، ولو كان فِعْلُ كل حَسَن إذا لم يُفعل لله مذمومًا يستحق به صاحبه العقاب لما أُطعم الكافر بحسناته في الدنيا إذا كانت تكون سيئاتٍ لا حسنات، وإذا كان قد يتنعَّم بها في الدنيا ويُطعم بها في الدنيا، فقد يكون من فوائد هذه الحسنات ونتيجتها وثوابها في الدنيا أن يهديه الله إلى أن يتقرب بها إليه، فيكون له عليها أعظم الثواب في الآخرة.
وهذا معنى قول بعض السلف: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله. وقول الآخر لما قيل له: إنهم يطلبون الحديث بغير نية، فقال: طلبهم له نيَّة، يعني نفس طلبه حسن ينفعهم. وهذا قيل في العلم لخصوصيته، لأن العلم هو الدليل المرشد، فإذا طلبه بالمحبة وحصَّله عرَّفه الإخلاص لله والعمل له.
ولهذا قال من قال: هو من النظر الأول الذي هو مُقدمة العِرفان، فإن القصد والنية مشروط بمعرفة المقصود المنوي به، فإذا لم يعرفه بعدُ كيف يتقرب إليه؟ فإذا نظر بمحبة أو غيرها فعلم المعبود المقصود صح حينئذ أن يعبده ويقصده. وكذلك الإخلاص كيف يخلص من لم يعرف الإخلاص؟ فلو كان طلب علم الإخلاص لا يكون إلا بالإخلاص لزم الدَّوْر، فإن العلم هو قبل القصد والإرادة من إخلاص وغيره، ولا تقع الإرادة والقصد حتى يحصل العلم.
وعلى هذا فما ذكره الإمام أحمد عن نفسه هو حسن، وهو حال النفوس المحمودة المستقيم
حالها. ومن هذا قول خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتقري الضيف وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق. فهذه الأمور كان يفعلها محبة لها خُلق على ذلك وفُطر عليه، فعلمت أن النفوس المطبوعة على محبة الأمور المحمودة وفعلها لا يوقعها الله فيما يضاد ذلك من الأمور المذمومة، لما قال لها: قد خشيتُ على نفسي. قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدًا.. الحديث وهو في الصحيحين.
وقد تنازع الناس في النبوة: هل هي مجرد إنباء الله لعبده، أو هي راجعة إلى صفات كمال فيه؟ كما تنازعوا في النبوة: هل هي مجرَّد تعلق خطاب الشارع، أو هي راجعة إلى صفات يتميز بها، ولا بد من خطاب إلهي أو إنباء؟ ولهذا كانت النبوة أجزاءً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جُزءًا من النبوة - رواه أهل السنن، فهذا في العمل. وقال في العلم: الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءًا من النبوة. وقال: ثلاث من أخلاق المرسلين
…
وهذا الحب والإحساس الذي خلقه الله في النفوس هو الأصل في كل حُسن وقُبح، وكل حمدٍ وذمٍّ، فإنه لولا الإحساس الذي يُعتد به في حب حبيب وبغض بغيض لما وجدت حركة إرادية أصلاً تحرك شيئًا من الحيوان باختياره، ولما كان أمر ونهي وثواب وعقاب، فإن الثواب إنما هو بما تحبه النفوس وتتنعم به، والعقاب إنما هو بما تكره النفوس وتتعذب به، وذلك إنما يكون بَعْد الإحساس، فالإحساس والحب والبغض هو أصل ما يوجد في الدنيا والآخرة من أمور الحي، وبه حَسُنَ الأمر والنهي والوعد والوعيد. وذاك الأمر والنهي والوعد والوعيد هو تكميل للفطرة، وكل منهما عون على الآخر، فالشريعة تكميل للفطرة الطبيعية، والفطرة الطبيعية مبدأ وعون على الإيمان بالشرع والعمل به، والعبد من دان بالدين الذي يصلحه فيكون من أهل [العمل] الصالح في الآخرة، والشقيّ من لم يتبع الدين ويعمل العمل الذي جاءت به الشريعة، فهذا هذا، والله أعلم.