الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمن تسليط أضواء الْبَيَان على تَفْسِير الْقُرْآن بِالْقُرْآنِ رسم فِيهِ الْمنْهَج السَّلِيم لتفسير الْقُرْآن الْكَرِيم. تَفْسِير كَلَام الله بعضه بِبَعْض وَأَبَان أَحْكَامه وَحكمه وَفتح كنوزه وأطلع نفائسه وَنشر درره على طلبة الْعلم.
وكل ذَلِك فتح جَدِيد فِي عُلُوم الْقُرْآن لم تكن مَوْجُودَة على هَذَا النسق من قبل وَلم تكن تدرس بِهَذَا الْمثل.
كَمَا أَنه فِي غضونها صحّح مفاهيم مُخْتَلفَة مِنْهَا أَن الْمنطق لم يكن يُعرف عَنهُ إِلَّا أَنه تَقْدِيم الْعقل على النَّقْل ومصادمة النَّص بِالرَّأْيِ وَكَانَ فعلا وَسِيلَة التشكيك فِي العقيدة باستخدام قضايا عقيمة. فهذب الشَّيْخ رحمه الله من أبحاثه وَأحسن باستخدامه فنظم قضاياه المنتجة ورتب أشكاله السليمة واستخدم قِيَاسه فِي الْإِلْزَام. سَوَاء فِي العقيدة أَو أصُول الْأَحْكَام وَبعد أَن كَانَ يستخدم ضدها أصبح يعْمل فِي خدمتها. كَمَا وضح ذَلِك فِي آدَاب الْبَحْث والمناظرة.
مواقفه مَعَ الْحق:
كَانَ رحمه الله قَوِيا صلباً لينًا سهلاً.
كَانَ قَوِيا صلباً فِي بَيَانه، لينًا سهلاً فِي الرُّجُوع إِلَى مَا ظهر إِلَيْهِ مِنْهُ.
فِي بعض الأعوام الَّتِي حججتها مَعَه رحمه الله قدمنَا مَكَّة يَوْم سبع من الشَّهْر وَكَانَ مُفردا الْحَج وَفِي يَوْم الْعِيد صحبته للسلام على سماحة الْمُفْتِي رحمه الله بمنى فَسَأَلَهُ رحمه الله عَن نُسكه فَقَالَ جِئْت مُفردا الْحَج وقصداً فعلت فَأدْرك الْمُفْتِي رحمه الله أَن وَرَاء ذَلِك شَيْئا وَلَكِن تلطف مَعَ الشَّيْخ وَقَالَ أهوَ أفضل عنْدك حفظك الله فَأجَاب أَيْضا حفظكم الله لَا للأفضلية فعلت وَلَكِن سَمِعت وتأكد عِنْدِي أَن أشخاصاً ينتمون لطلب الْعلم يَقُولُونَ لَا يَصح الْإِفْرَاد بِالْحَجِّ ويلزمون المفردين بالتحلل بِعُمْرَة. وَهَذَا الْعَمَل لَا يتناسب مَعَ العديد من وُفُود بَيت الله الْحَرَام كل بِمَا اخْتَار من نسك وكل يعْمل بِمذهب صَحِيح وَجَرت محادثة من أنفس مَا سَمِعت فِي تَقْرِير هَذَا الْبَحْث من مناقشة الْأَدِلَّة وَبَيَان الرَّاجِح وأخيراً قَالَ رحمه الله أَنه لَا يعنيني بَيَان الْأَفْضَل فَهَذَا أَمر مُخْتَلف فِيهِ وكل يخْتَار مَا يتَرَجَّح عِنْده وَلَكِن يعنيني إبِْطَال القَوْل بِالْمَنْعِ من صِحَة إِفْرَاد الْحَج لِأَنَّهُ قَول لم
يسْبق إِلَيْهِ وَالْأمة مجمعة على صِحَّته. فَمَا كَانَ من سماحة الْمُفْتِي رحمه الله إِلَّا أَن اسْتحْسنَ قَوْله ودعا لَهُ.
ولكأني بِهَذَا الْعَمَل من الشَّيْخ رحمه الله الَّذِي أَرَادَ بِهِ الْبَيَان عملياً صُورَة مِمَّا وَقع من عَليّ رضي الله عنه حينما بلغه عَن عُثْمَان رضي الله عنه أَنه ينْهَى عَن التَّمَتُّع فَدخل عَلَيْهِ وَقَالَ كَيفَ تنْهى عَن شَيْء فَعَلْنَاهُ مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَخرج من عِنْده وَهُوَ يَقُول: لبيْك اللَّهُمَّ حجا وَعمرَة.
أما لينه مَعَ الْحق ورجوعه إِلَى مَا ظهر لَهُ مِنْهُ فَفِي آخر دروسه فِي الْحرم النَّبَوِيّ فِي رَمَضَان الْمَاضِي فِي سُورَة بَرَاءَة أعلن عَن رُجُوعه عَن القَوْل فِي الْأَشْهر الحُرم بِأَنَّهَا مَنْسُوخَة وَقَالَ الَّذِي يظْهر أَنَّهَا محكمَة وَلَيْسَت مَنْسُوخَة وَكُنَّا نقُول بنسخها فِي دفع إِيهَام الِاضْطِرَاب وَلَكِن ظهر لنا بِالتَّأَمُّلِ أَنَّهَا محكمَة. وَهُوَ الْحق الَّذِي يَنْبَغِي اعْتِمَاده والتعويل عَلَيْهِ.
وَمِمَّا وَقع لي مَعَه رَحمَه وأكبرته فِيهِ تواضعه وإنصافه سَمِعت مِنْهُ فِي مَبْحَث زَكَاة الْحلِيّ فِي أضواء الْبَيَان عِنْد سرد الْأَدِلَّة ومناقشتها أَن من أَدِلَّة الموجبين حَدِيث الْمَرْأَة اليمنية وَمَعَهَا ابْنَتهَا وَفِي يَد ابْنَتهَا مسكتان غليظتان من ذهب فَسَأَلَهَا صلى الله عليه وسلم: "أتؤدين زَكَاة هَذَا" فَقَالَت: لَا. فَقَالَ: "هما حَسبك من النَّار". فخلعتهما وَأَلْقَتْ بهما.
وَأجَاب المانعون بِأَن ذَلِك كَانَ قبل إِبَاحَة الذَّهَب للنِّسَاء فتساءلت مستوضحاً مِنْهُ رحمه الله: وماذا يُسمى هَذَا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم سُكُوته عَن لبسه وَهُوَ محرم وسؤاله عَن زَكَاته فَقَالَ عجبا إِن هَذَا يتَضَمَّن وجود اللّبْس عِنْد السُّؤَال وَيدل على إِبَاحَته آنذاك لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَا يقر أحدا على محرم وَلَا يَتَأَتَّى أَن يسكت على لبسهَا إِيَّاه وَهُوَ مَمْنُوع ويهتم لزكاته وَلَو أُعِيد طبع الْكتاب لنبهت عَلَيْهِ رغم أَن جَمِيع المراجع لم تلْتَفت إِلَيْهِ فَهُوَ بِهَذَا يلقن طلبة الْعلم درساً فِي موقفه من الْحق ولكأني بِكَلَام عمر رضي الله عنه فِي كِتَابه لأبي مُوسَى رحمه الله وَلَا يمنعنك قَضَاء قَضيته بالْأَمْس ثمَّ راجعت فِيهِ نَفسك وَظهر لَك الْحق أَن
تَأْخُذ بِهِ فَالْحق أَحَق أَن يتبع. وَقد رَأينَا من قبل للشَّافِعِيّ الْقَدِيم والجديد. وَهَذَا مَا يَقْتَضِيهِ إنصاف الْعلمَاء وَأَمَانَة الْعلم.
هَذَا مَا وسعني ذكره عَن حَيَاته العلمية فِي نشأته وتعلمه وتعليمه وَعَن تراثه العلمي فِي مؤلفاته وآثاره التربوية فِي أبنائه وَأَبْنَاء الْعَالم الإسلامي كُله رحمه الله رَحْمَة وَاسِعَة.
وَلَعَلَّ من أبنائه الْحُضُور أَو غَيرهم من لَدَيْهِ الْمَزِيد على ذَلِك.
أما النَّاحِيَة الشخصية: فِي تقويمه الشخصي لسلوكه، وأخلاقه، وآدابه، وَكَرمه، وعفته، وزهده وترفع نَفسه وَمَا إِلَى ذَلِك. فَهَذَا مَا يسْتَحق أَن يفرد بِحَدِيث، وَإِنِّي لَا أَسْتَطِيع الْآن تَصْوِيره وَلَا يسعني فِي هَذَا الْوَقْت تَفْصِيله. وَمَا كَانَ رحمه الله يحب أَن يذكر عَنهُ شَيْء فِي ذَلِك. وَلَكِن على سَبِيل الْإِجْمَال لَو أَن للفضائل والمكرمات والشيم وصفات الْكَمَال فِي الرِّجَال عنوان يجمعها لَكَانَ هُوَ أَحَق بِهِ.
وَإِذا كَانَ عُلَمَاء الْأَخْلَاق يعنونون لأصول الْأَخْلَاق والفضائل بالمروءة فَإِن الْمُرُوءَة كَانَت شعاره ودثاره. وَكَانَت هِيَ الَّتِي تحكمه فِي جَمِيع تَصَرُّفَاته سَوَاء فِي نَفسه أَو مَعَ إخوانه وطلابه أَو مَعَ غَيرهم من عرفهم أَو لم يعرفهُمْ. وَقد قَالَ فِيهِ بعض النَّاس فِي حَيَاته إِنَّه لَا عيب فِيهِ سوى عيب وَاحِد هُوَ أننا نفقده بعد مَوته.
وَإِن تَفْصِيل ذَلِك لمتروك لمن خالطه عَن قرب. وَلَقَد استعصى عَليّ الْمقَال فِي ذَلِك ولكأني بقول الْقَائِل:
أهابك إجلالاً وَمَا بك سلطة
…
عَليّ وَلَكِن ملْء عين حبيبها
وَلَكِن قد تَكْفِي الْإِشَارَة إِذا لم تسعف الْعبارَة. وَأقرب شَيْء زهده فِي الدُّنْيَا وعفته عَمَّا فِي أَيدي النَّاس وَكَرمه بِمَا فِي يَده: لِأَن هَذَا لَا يعلم إِلَّا لمن خالطه وَلَيْسَ كل من خالطه يعرف ذَلِك مِنْهُ بل من دَاخله ولازمه.
وَالْوَاقِع أَن الدُّنْيَا لم تكن تَسَاوِي عِنْده شَيْئا فَلم يكن يهتم لَهَا. ومنذ وجوده فِي المملكة وصلته بالحكومة حَتَّى فَارق الدُّنْيَا لم يطْلب عَطاء وَلَا مُرَتبا وَلَا ترفيعاً لمرتبه وَلَا حصولاً على مُكَافَأَة أَو علاوة. وَلَكِن مَا جَاءَهُ من غير سُؤال أَخذه وَمَا حصل عَلَيْهِ لم يكن ليستبقيه بل يوزعه فِي حِينه على المعوزين من أرامل ومنقطعين وَكنت أتولى توزيعه وإرساله من الرياض إِلَى كل من مَكَّة وَالْمَدينَة. وَمَات وَلم يخلف درهما وَلَا دِينَارا وَكَانَ مستغنياً بعفته وقناعته. بل إِن حَقه الْخَاص ليتركه تعففاً عَنهُ كَمَا فعل فِي مؤلفاته وَهِي فريدة فينوعها. لم يقبل التكسب بهَا وَتركهَا لطلبة الْعلم.
وسمعته يَقُول: لقد جِئْت معي من الْبِلَاد بكنز عَظِيم يَكْفِينِي مدى الْحَيَاة وأخشى عَلَيْهِ الضّيَاع. فَقلت لَهُ وَمَا هُوَ قَالَ القناعة. وَكَانَ شعاره فِي ذَلِك قَول الشَّاعِر:
الْجُوع يطرد بالرغيف الْيَابِس
…
فعلام تكْثر حسرتي ووساوسي
وَكَانَ اهتمامه بِالْعلمِ وبالعلم وَحده وكل الْعُلُوم عِنْده آلَة ووسيلة وَعلم الْكتاب وَحده غَايَة وَكَانَ كثيرا مَا يتَمَثَّل بِأَبْيَات الأديب مُحَمَّد بن حَنْبَل الْحسن الشنقيطي رحمه الله فِي قَوْله:
لَا تسوء بِالْعلمِ ظنا يَا فَتى
…
إِن سوء الظَّن بِالْعلمِ عطب
لَا يزهدك أحد فِي الْعلم أَن
…
غمر الْجُهَّال أَرْبَاب الْأَدَب
إِن تَرَ الْعَالم نضوا مرملا
…
صفر كف لم يساعده سَبَب
وَترى الْجَاهِل فد حَاز الْغنى
…
مُحرز المأمول من كل أرب
قد تجوع الْأسد فِي أجامها
…
والذئاب الغبش تعتام القتب
جرع النَّفس على تَحْصِيله
…
مضض المرين ذل وسغب
لَا يهاب الشوك قطاف الجنى
…
وإبار النَّحْل مشتار الضَّرْب
حَقًا إِنَّه لم يسئ بِالْعلمِ ظنا وَلم يهب فِي تَحْصِيله شوك النّخل وَلَا إبار النَّحْل
فنال مِنْهُ مَا أَرَادَ واقتحم الْحمى على عذارى الْمعَانِي وأباح حريمها جبرا عَلَيْهَا وَمَا كَانَ الْحَرِيم بمستباح.
أما مَكَارِم أخلاقه ومراعاة شُعُور جُلَسَائِهِ فَهَذَا فَوق حد الِاسْتِطَاعَة فمذ صحبته لم أسمع مِنْهُ مقَالا لأي إِنْسَان وَلَو مُخطئ عَلَيْهِ يكون فِيهِ جرح لشعوره وَمَا كَانَ يُعَاتب إنْسَانا فِي شَيْء يُمكن تَدَارُكه وَكَانَ كثير التغاضي عَن كثير من الْأُمُور فِي حق نَفسه وحينما كنت أسائله فِي ذَلِك يَقُول:
لَيْسَ الغبي بِسَيِّد فِي قومه
…
وَلَكِن سيد الْقَوْم المتغابي
وَلم يكن يغتاب أحدا أَو يسمح بغيبة أحد فِي مَجْلِسه وَكَثِيرًا مَا يَقُول لإخوانه (اتكايسوا) أَي من الكياسة والتحفظ من خطر الْغَيْبَة. وَيَقُول إِذا كَانَ الْإِنْسَان يعلم أَن كل مَا يتَكَلَّم بِهِ يَأْتِي فِي صَحِيفَته فَلَا يَأْتِي فِيهَا إِلَّا الشَّيْء الطّيب.
وَمِمَّا لوحظ عَلَيْهِ فِي سنواته الْأَخِيرَة تباعده عَن الْفتيا وَإِذا اضْطر يَقُول: لَا أتحمل فِي ذِمَّتِي شَيْئا الْعلمَاء يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا.
وَسَأَلته مرّة عَن ذَلِك: فَقَالَ إِن الْإِنْسَان فِي عَافِيَة مَا لم يُبتلى وَالسُّؤَال ابتلاء لِأَنَّك تَقول عَن الله وَلَا تَدْرِي أتصيب حكم الله أم لَا. فَمَا لم يكن عَلَيْهِ نَص قَاطع من كتاب الله أَو سنة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَجب التحفظ فِيهِ.
ويتمثل بقول الشَّاعِر:
إِذا مَا قتلت الشَّيْء علما فَقل بِهِ
…
وَلَا تقل الشَّيْء الَّذِي أَنْت جاهله
فَمن كَانَ يهوي أَن يرى متصدراً
…
وَيكرهُ لَا أَدْرِي أُصِيبَت مقاتله
وَفِي الْجُمْلَة فقد كَانَ رحمه الله خير قدوة وأحسنها فِي جَمِيع مجالات الْحَيَاة فَكَانَ الْعَالم الْعَامِل وَلَا أزكي على الله أحدا وَقد خلف وَلدين فاضلين أديبين يدرسان بكلية الشَّرِيعَة بالجامعة الإسلامية جَعلهمَا الله خير خلف لخير سلف وَالله أسأَل أَن يسكنهُ فسيح جنته ويوسع لَهُ فِي رضوَان رَحمته وَأَن يعلي مَنْزِلَته وَيرْفَع دَرَجَته مَعَ الْعلمَاء وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا.
ونفعنا الله بِعِلْمِهِ وسلك بِنَا طَريقَة عمله بِمَا يرضيه تبارك وتعالى عَنَّا وَصلى الله وَسلم وَبَارك على عَبده وَرَسُوله مُحَمَّد صلى الله عَليّ وَسلم وَالسَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته
…