المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار خُطَبْ وَحِكَم وَأَحْكَام وَقَوَاعِدْ وَمَواعِظْ وَآدَابْ - مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار - جـ ١

[عبد العزيز السلمان]

فهرس الكتاب

مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار

خُطَبْ وَحِكَم وَأَحْكَام وَقَوَاعِدْ وَمَواعِظْ وَآدَابْ وَأَخْلَاق حِسَان

تَأْلِيفُ الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ

عَبدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ السّلمانِ

المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض

سابقاً

ص: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

(فائدة عظيمة النفع لمن وفقه الله)

ما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله، وفهمه معناها، ووفقه للعمل بمقتضاها، والدعوة إليها.

أشرف الأشياء قلبك ووقتك فإذا اهملت قلبك وضيعت وقتك، فما بقي معك؟ كل الفوائد ذهبت فانتبه لنفسك.

(فصل)

فائدة

وقف قوم على عالم فقالوا إنا سائلوك أفمجيبنا أنت قال: سلوا ولا تكثروا، فإن النهار لن يرجع والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه، قالوا: فأوصنا، قال: تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما أبلغ البغية، ثم قال: الأيام صحائف الأعمار فخلدوها أحسن الأعمال، فإن الفرص تمر مر السحاب، والتواني من أخلاق الكسالى والخوالف، ومن استوطن مركب العجز عثر به، وتزوج التواني بالكسل فولد بينهما الخسران اهـ

قال بعضهم: شعرا:

تَزَوَجَتَ البَطَالَةُ بالتَّوَانِي

فأَوْلَدَهَا غُلامًا مَعْ غُلامَهْ

فأَمَّا الإِبْنُ سَمَّوْهُ بفَقْرٍ

وأمَّا البنْتُ سَمَّوهَا نَدَمَه

آخر:

الذِّكر أَصْدَقُ قَوْلٍ فَافْهَمْ الْخَبَرَا

لأَنَّهُ قَوْلٌ مِن قَدْ أَنشأ البشرا

فاعمل به إن ترد فهما ومعرفة

ياذا النهي كي تنال العز والفخرا

وتحمد الله في يوم المعاد إذا

جاء الحساب وعم الخوف وانتشرا

لله در رجال عاملين به

فيما يدق وما قد جل واشتهرا

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ملاحظة: لا يسمح لأي إنسان أن يختصره أو يتعرض له بما يسمونه تحقيقا لأن الاختصار سبب لتعطيل الأصل والتحقيق أرى أنه اتهام للمؤلف، ولا يطبع إلا وقفا لله تعالى على من ينتفع به من المسلمين.

فوائد عظيمة النفع جدا لبعض العلماء رحمهم الله تعالى:

(1)

الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما أعمالا صالحة تربح وتحمد العاقبة الحميدة إن شاء الله تعالى.

(2)

الملائكة يكتبان ما تلفظظ به فاحرص على أن لا تنطق إلا بما يسرك يوم القيامة من ذكر الله وما والاه.

(3)

اعلم أن قصر الأمل عليه مدار عظيم وحصن قصر الأمل ذكر الموت، وحصن حصنه ذكر فجأة الموت وأخذ الإنسان على غرة وغفلة وهو في غرر وفتور عن العمل للآخرة، فاحفظ هذه الفوائد واعمل بها تفلح وتربح إن شاء الله.

ومن أراد طباعته ابتغاء وجه الله تعالى لا يريد به عرضاً من الدنيا، فقد أُذن له في ذلك وجزى الله خيراً من طبعه وقفاً لله، أو أعان على طبعه، أو تسبب لطبعه وتوزيعه على إخوانه المسلمين، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:

«إن الله يدخل في السهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به، ومنبله» الحديث، رواه أبو داود.

وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» الحديث رواه مسلم.

وعن زيد بن خالد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جهز غازيا في

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الواحد القهار العزيز الغفار مقدر الأقدار ومصرف الأمور على ما يشاء ويختار ومكور الليل على النهار.

الواحد الأحد الفرد العليم الحكيم الذي أيقظ من خلقه من اصطفاه فأدخله في جملة الأخيار ووفق من اختار من عبيده فجعله من الأبرار.

وبصر من أحبه من خلقه للحقائق فزهدوا في هذا الدار فاجتهدوا في مرضاته والتأهب لدار القرار.

وبعد فإني لما نظرت في غفلتي عن اكتساب الزاد المبلغ ليوم المعاد ورأيت أوقاتي قد ضاعت فيما لا ينفعني في معادي ورأيت استعصاء نفسي عما يؤنسني في رمسي لا سيما والشيطان والدنيا والهوى معها ظهير.

فعزمت إن شاء الله تعالى على أن أجمع في هذا الكتاب ما تيسر من المواعظ والنصائح والخطب والحكم والأحكام والفوائد والقواعد والآداب وفضائل الأخلاق المستمدة من الكتاب والسنة ومن كلام العلماء الأوائل والأواخر المستمد منهما ما أرجو من الله العلي أن يستغني به الواعظ والخطيب والمرشد وغيرهم راجيا من الله الحي القيوم ذي الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد القوي العزيز الرءوف الرحيم اللطيف الخبير أن ينفع به وأن يأجر من يطبعه وقفا لله تعالى أو يعين على طباعته أو يتسبب لها وسميته «مفتاح الأفكار للتأهب لدار القرار»

عبد العزيز بن محمد بن سلمان

ص: 5

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين

قال تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281] . وقال تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111] الآية. وقال تبارك وتعالى: {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} . وقال جل وعلا: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 58] . وقال تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} [يونس: 30] وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] . وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100] الآيات. وقال جل وعلا: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] . وقال تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الزمر: 48] . وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ}

ص: 6

[سبأ: 53] . وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] .

وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53] . وقال تعالى: {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين} . وقال تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ} [الأنبياء: 1] . وقال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر: 18] . وقال تعالى: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] . وقال تعالى: {أَزِفَتْ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 58] . وقال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40] . وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى} [النازعات: 35] . وقال تعالى: {فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس: 35] . وقال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23] .

ص: 7

الأحاديث

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» . متفق عليه، وعن ابن عمر قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك» . رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وسلم:«أكثروا ذكر هادم اللذات، يعني الموت» رواه الترمذي. وقال حديث حسن، وقال صلى الله عليه وسلم:«بادروا بالأعمال سبعا، هل تنتظرون إلا فقرًا منسيا أو غنى مطغيًا أو مرضًا مفسدًان أو هرمًا مفندًا أو موتًا مجهزًا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر» . رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتمنى أحدكم الموت إما محسنًا فلعله يزداد وإما مسيئًا فلعله يستعتب» متفق عليه. وفي رواية مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه إنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا» . وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه فإن كان لا بد فاعلاً فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي» . متفق عليه.

‌1- "موعظة

"

إخواني إن في مواعظ الأيام والليالي لعبرة لذوي البصائر ركائب أموات تزعج عن مقصورات القصور ثم تحمل إلى مضائق القبور، فكم قد شاهدتم

ص: 8

من شخصيات في الأرض، قد وضعت، وكم قد عاينتم من أبدان ناعمة قد لفت وإلى مضيق الألحاد قد زفت فيا لها من غاية يستبق إليها العباد ويا له من مضمار يتناوبه جواد بعد جواد ويا له من هول شديد يعقبه أهوال شداد فتنة قبور وحشر في موقف مهيل موقف فيه تنقطع الأنساب وتخضع فيه الرقاب وتنسكب فيه العبرات وتتصاعد فيه الزفرات ذلك موقف تنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموازين، ويمد فيه الصراط، وحينئذ يقع الامتياز فناج مسلم ومكردس في النار.

شعرًا:

قُمْ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ وَاقْصُدْ مَهَيْمنًا

يَرَاكَ إِليه في الدُّجَى تَتَوَسَّلُ

وَقُلْ يَا عَظْيْمَ العَفْوِ لَا تَقْطَع الرَّجا

فَأَنْتَ الْمُنَى يَا غَايِتِي وَالْمُؤَمَّلُ

فَيَا رَبَّ فاقْبَل تَوْبَتِي بِتَفَضُلٍ

فَمَا زَلْتَ تَعْفُو عَنْ كَثِيْرٍ وَتَمْهَلُ

فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَعْفُو وَأَنْتَ ذَخِيْرَتِي

لِمَنْ أَشْتَكِى حَالِي وَمَنْ أَتَوَسَّلُ

حَقِيْقٌ لِمَنْ أَخْطَأَ وَعَادَ لِمَا مَضَى

وَيَبْقَى عَلَى أَبْوَابِهِ يَتَذَلَّلُ

وَيَبْكِي عَلَى جِسْمٍ ضَعِيْفٍ مِن البِلَى

لَعَلَّ يَجُودُ السَّيْدُ الْمُتَفَضِّلُ

رَجَوْتُ إِلَهِي رَحْمَةً وَتَفَضُّلاً

لِمَنْ تَابَ مِن زَلاَّتِهِ يَتَقَبَّلُ

اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.

ص: 9

(فصل)

قال بعض العلماء: من عجيب ما نقدت من أحوال الناس كثرة ما ناحوا على خراب الديار وموت الأقارب والأسلاف والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله وذكر نكد العيش فيه.

وقد رأوا من انهدام الإسلام وموت السنن وظهور البدع وارتكاب المعاصي وتقضي العمر في الفارغ الذي لا يجدي والقبيح الذي يوبق ويؤذي. فلا أجد أحدًا منهم ناح على دينه ولا بكى على فارط عمره ولا آسى على فائت دهره.

وما أرى لذلك سببًا إلا قلة مبالاتهم في الأديان وعظم الدنيا في عيونهم.

ضد ما كان عليه السلف الصالح يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين اهـ.

وكتب بعضهم إلى صديق له يشاوره في شيء من أمر الدنيا فكان الجواب: اطلب الدنيا على قدر مكثك فيها، واطلب الآخرة على قدر حاجتك إليها.

وقال يحيى بن معاذ: لست آمركم بترك الدنيا آمركم بترك الذنوب، ترك الدنيا فضيلة وترك الذنوب فريضة وأنتم إلى إقامة الفريضة أحوج منكم إلى الحسنات.

وقال: لا تكن ممن يفضحه يوم موته ميراثه ويوم حشره ميزانه.

وقال إبراهيم الخواص: دواء القلب في خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.

وقال: على قدر إعزاز المرء لأمر الله يلبسه الله من عزه، ويقيم له العز في قلوب المؤمنين.

ص: 10

وقال في الفنون لقد عظم الله الحيوان لا سيما ابن آدم حيث أباحه الشرك عند الإكراه وخوف الضرر على نفسه فقال جل وعلا: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] .

من قدم حرمة نفسك على حرمته حتى أباحك أن تتوقى وتحامي عن نفسك بذكره بما لا ينبغي له سبحانه.

فحقيق أن تعظيم شعائره وتوقر أوامره وزواجره وعصم عرضك بإيجاب الحد بقذفك وعصم مالك بقطع مسلم في سرقته.

وأسقط شطر الصلاة لأجل مشقتك وأقام مسح الخف مقام غسل الرجل إشفاقًا عليك من مشقة الخلع واللبس وأباحك الميتة سدة لرمقك وحفظًا لصحتك، وزجرك عن مضارك بحد عاجل ووعيد آجل، وخرق العوائد لأجلك وأنزل الكتب إليك.

أيحسن بك مع هذا الإكرام أن تُرى على ما نهاك منهمكًا وعما أمرك متنكبًا وعن داعيه معرضًا ولسنته هاجرًا ولداعي عدوك فيه مطيعا.

يعظمك وهو هو وتهمل أمره وأنت أنت وهو حط رتب عباده لجلك وأهبط إلى الأرض من امتنع من سجدة يسجد لأبيك.

هل عاديت خادمًا طالت خدمته لك لترك صلاة، هل نفيته من دارك للإخلال بفرض أو لارتكاب نهي، اهـ.

قلت وفي وقتنا هل أخرجت الملاهي والمنكرات من بيتك؟ هل منعت الأجانب والأجنبيات سواقين وخدمات من بيتك؟

ص: 11

فائدة

وقف قوم على عالم فقالوا إنا سائلوك أفمجيبنا أنت قال سلوا ولا تكثروا، فإن النهار لن يرجع والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه، قالوا فأوصنا، قال تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما أبلغ البغية، ثم قال الأيام صحائف الأعمار فخلدوها أحسن الأعمال، فإن الفرص تمر مر السحاب، والتواني من أخلاق الكسالى والخوالف، ومن استوطن مركب العجز عثر به، وتزوج التواني بالكسل فولد بينهما الخسران اهـ.

اللهم يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.

اللهم يا عالم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا أنت إليك المصير.

نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

[فصل في بعض ذكر فوائد ذكر الموت]

اعلم أن في ذكر الموت فوائد عديدة من ذلك أنه يردع عن المعاصي، ويلين القلب القاسي.

ثانيًا: يذهب الفرح والسرور بالدنيا، ويزهد فيها، ويهون المصائب.

ثالثًا: التأثر في مشاهدة المحتضرين الذين تخرج أرواحهم، فإن في النظر إليهم ومشاهدة سكراتهم عند نزع أرواحهم، وشخوص أبصارهم عند

ص: 12

نزعها، وعجزهم عن الكلام، عند تسلل الروح من الجسد.

وتأمل صورهم بعد خروج الروح ما يقطع عن النفوس لذاتها ويطرد عن القلوب مسراتها ويمنع الجفون من النوم ويمنع الأبدان من الراحة، ويبعث على الجد والاجتهاد في العمل للآخرة.

فروي أن الحسن البصري دخل على مريض يعوده فوجده في سكرات الموت، فنظر إلى كربه وشدة ما نزل به فرجع إلى أهله بغير اللون الذي خرج به من عندهم.

فقالوا له الطعام فلم يأكل: وقال: فو الله لقد رأيت مصرعًا لا أزال أعمل له حتى اللقاء.

الرابع: مما يلين القلوب القاسية زيارة القبور.

فإنها تبلغ من القلوب ما لا يبلغه الأول والثاني والثالث لأنها تذكر بالآخرة.

وَلَمْ أَرَى كَالْمَواتِ أَفْجَعَ مَنْظَرًا

وَلَا وَاعِظِي جُلاَّسِهم كَالْمَقَابِرِ

آخر:

وَعَظَتْكَ أَجْدَاثٌ وَهُنْ صُمُوْتُ

وَأَصْحَابُهَا تَحْتَ التُرَابِ خُفُوْتُ

الخامس: زيارة المستشفيات والمستوصفات فإنها تلين القلوب وتحث الإنسان على حمد الله وشكره، وعلى الجد والاجتهاد فيما يعود نفعه على الإنسان في الآخرة.

وينبغي للإنسان أن يقوي ظنه بالله ويستحضر رحمته ورأفته ولطفه بعباده ولا سيما عند الاحتضار.

قال صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله» . رواه مسلم

ص: 13

وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي» . الحديث متفق عليه.

ولا ريب أن حسن الظن برب العالمين الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى الحليم الكريم الجواد الرحمن الرحيم الرءوف بالعباد الغني عنا وعن أعمالنا وعن تعذيبنا وعقابنا.

من أعظم ما نتقرب به إليه ومن أجزل ما نتوجه به عليه.

أي عبادة أعظم من حسن ظننا برب العالمين مع الخوف من معاملته إيانا بعدله.

فالعاقل يكون بين الخوف والرجاء لكن يغلب الرجاء عند الاحتضار ويحسن الظن بالكريم الغفار ويستحضر أنه قادم على أكرم الأكرمين. وأجود الأجودين البر الرحيم.

وإن حصل أن يتلى عند المحتضر آيات الرجاء وأحاديث الرجاء ليقوي ظنه بالله تعالى أجود الأجودين وأكرم الأكرمين.

ومن آيات الرجاء قوله جل وعلا وتقدس: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] .

وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] . وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً} [الفرقان: 70] .

وقوله: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ

ص: 14

وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء: 48] .

ومن أحاديث الرجاء ما ورد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قدم على رسول الله بسبي فإذا امرأة من السبي تسعى إذا وجدت صبيًا في السبي أخذته فالزقته ببطنها فأرضعته.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار قلنا لا يا رسول الله فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها» . متفق عليه.

وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله» . متفق عليه.

وقال صلى الله عليه وسلم: «لما خلق الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي وفي رواية غلبت غضبي وفي رواية سبقت غضبي» . متفق عليه.

وروي عن الإمام أحمد أنه لما حضرته الوفاة قال لولده عبد الله: الق علي أحاديث الرجاء.

لأن المؤمن إذا سمع آيات الرجاء وأحاديث الرجاء قوي حسن ظنه بربه عز وجل واشتاق إلى لقاء سيده ومولاه الذي هو أرحم به من والديه وأولاده فعند ذلك تهون عليه سكرات الموت إذا أراد الله.

إِذَا اشْتَكَتْ مِنْ كَلالِ السَّيْرِ أَوْ عَدَهَا

وَصْلَ الْمُحبِّ فَتَحْيَا عِنْدَ مِيْعَادِ

والمهم أنه يحرص كل الحرص على تقوية حسن ظنه برب العالمين ثم اعلم أن للموت سكرات قال الله جل وعلا وتقدس: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] .

وقيل إن الأعضاء يسلم بعضها على بعض ففي تذكرة القرطبي عن أنس

ص: 15

مرفوعًا «إن العبد ليعالج كرب الموت وإن مفاصله ليسلم بعضها على بعض يقول السلام عليك تُفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة» .

أي يودع بعضها بعضًا.

خُلقْنَا لأِحْدَاث الليالي فَرائِسًا

تُزَفُ إِلِى الأَجْدَاثِ مِنَّا عَرَائِسًا

تُجَهِّزُ مِنَّا لِلْقُبُورِ عَسَاكِرًا

وَتُرْدِفُ أعوادَ الْمُنايَا فَوارِسًا

إِذَا أمَلٌ أرْخَى لَنَا مِنْ عِنَانِهِ

غَدَا أَجَلٌ عَمَّا نُحَاوِلُ حَابِسًا

أَرَى الْغُصْنَ لَمَّا اجْتُثُّ وَهو بِمَائِهِ

رَطيبًا وَمَا أنْ أَصْبَحَ الْغُصْن يَابِسًا

نَشِيدُ قُصورًا لِلْخُلُودِ سَفَاهَةً

وَنَصْبِر مَا شِئْنَا فَتورًا دَوَارسًا

اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

(فصل)

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن كثرة ذكر الموت تردع عن المعاصي وتلين القلب القاسي، وتذهب الفرح بالدنيا وزينتها وزخارفها ولذاتها.

وتحثك على الجد والاجتهاد في الطاعات وإصلاح أحوالك وشئونك والتنسخ من حقوق الله وحقوق خلقه، وتنفيذ الوصايا وأداء الأمانات والديون.

قال بعضهم فضح الدنيا والله هذا الموت فلم يترك فيها لذي عقل فرحًا.

ص: 16

وقال آخر ما رأيت عاقلاً قط إلا وجدته حذرًا من الموت حزينًا من أجله.

وقال آخر من ذكر الموت هانت عليه مصائب الدنيا.

وقال آخر: من لم يخفه في هذه الدار ربما تمناه في الآخرة فلا يؤتاه.

وقال آخر يوصي أخًا له: يا أخي احذر الموت في هذه الدار من قبل أن تصير إلى دار تتمنى بها الموت فلا يوجد.

وقال آخر: وأما ذكر الموت والتفكر فيه، فإنه وإن كان أمرًا مقدرًا مفروغًا منه، فإنه يكسبك بتوفيق الله التجافي عن دار الغرور، والاستعداد والإنابة إلى دار الخلود، والتفكر والنظر فيما تقدم عليه وفيما يصير أمرك إليه.

ويهون عليك مصائب الدنيا ويصغر عندك نوائبها، فإن كان سبب موتك سهلاً وأمره قريبًا فهو ذاك، وإن كانت الأخرى كنت مأجورًا مع النية الصالحة فيما تقاسيه، مثابًا على ما تتحمله من المشاق.

واعلم أن ذكر الموت وغيره من الأذكار إنما يكون بالقلب وإقبالك على ما تذكره. قال الله جلا جلاله وتقدست أسماؤه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] . فأي فائدة لك رحمك الله في تحريك لسانك إذا لم يخطر بقلبك.

وإنما مثل الذكر الذي يعقب التنبيه، ويكون معه النفع والإيقاظ من الغفلة والنوم أن تحضر المذكور قلبك وتجمع له ذهنك وتجعله نصب عينيك من ولد أو أهل أو مال أو غير ذلك، فتعلم علمًا لا يشوبه شك أنك مفارقة إما في الحياة أو في الممات، وهذه سنة الله الجارية في خلقه وحكمه المطرد.

وتُشعْر هذا قلبك وتفرغ له نفسك فتمنعها بذلك عن الميل إلى ذلك المحبوب والتعلق به والهلكة بسببه.

ص: 17

فَعُقْبَى كَلِّ شَيءٍ نَحْنُ فِيِهِ

مِن الْجَمْع الكثيفِ إِلَى شَتَاتِ

وَمَا حُزْنَاهُ مِن حِلِّ وَحُرْمٍ

يُوَزَّعُ فِي البَنِيْنِ وَفِي البَنَاتِ

وَفِيْمَنْ لَمْ نَؤَهِّلْهُمْ بِفَلسٍ

وقِيْمَةِ حَبّةٍ قَبْلَ الْمَمَاتِ

وَتَنْسَانَا الأَحِبَّةُ بَعْدَ عَشْر

وَقَد صِرْنَا عِظامًا بَالِيَاتِ

كَأَنَّا لَمْ نُعَاشِرهُم بِوُدِّ

وَلَمْ يَكُ فيهِمُ خِلِّ مُؤاتِ

والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.

(فصل)

واعلم رحمك الله أن مما يعنيك على الفكرة في الموت ويفرغك له ويكثر اشتغال فكرك به تذكر من مضى من إخوانك وخلانك وأصحابك وأقرانك وزملائك وأساتذتك ومشايخك الذين مضوا قبلك وتقدموا أمامك.

كانوا يحرصون حرصك ويسعون سعيك، ويأملون أملك، ويعملون في هذه الدنيا عملك وقصت المنون أعناقهم وقصمت ظهورهم وأصلابهم، وفجعت فيهم أهليهم وأحباءهم وأقرباءهم وجيرانهم فأصبحوا آية للمتوسمين وعبرة للمعتبرين.

ويتذكر أيضًا ما كانوا عليه من الاعتناء بالملابس ونظافتها ونضرة بشرتهم، وما كانوا يسحبونه من أردية الشباب وأنهم كانوا في نعيم يتقلبون، وعلى الأسرة يتكئون، وبما شاءوا من محابهم يتنعمون.

وفي أمانيهم يقومون ويقعدون، لا يفكرون بالزوال، ولا يهمون بانتقال، ولا يخطر الموت لهم على بال، قد خدعتهم الدنيا بزخارفها، وخلبتهم وخدعتهم برونقها، وحدثتهم بأحاديثها الكاذبة، ووعدتهم بمواعيدها المخلفة الغرارة.

ص: 18

فلم تزل تقرب لهم بعيدها، وترفع لهم مشيدها، وتلبسهم غضها وجديدها، حتى إذا تمكنت منهم علائقها، وتحكمت فيهم رواشقها، وتكشفت لهم حقائقها، ورمقتهم من المنية روامقها.

فوثبت عليهم وثبة الحنق وأغصتهم غصة الشرق، وقتلتهم قتلة المختنق، فحكم عليهم من عيون باكية، ودموع جارية، وخدود دامية، وقلوب من الفرح والسرور لفقدهم خالية. وأنشدوا في هذا المعنى:

وَرَيَّانَ مِن مَاءِ الشَّبَابِ إِذَا مَشَىْ

يَمِيْدُ عَلَى حُكْم الصِّبَا وَيَمِيْدُ

تَعَلْقَ مِن دُنْيَاهُ إِذَا عَرَضَتْ لَهُ

خَلوبًا لألْبابِ الرِّجَالِ تَصِيْدُ

فَأَصْبَحَ مِنْهَا فِي حَصِيْدٍ وَقَائِم

وَلِلْمَرْءِ مِنْهَا قَائمٌ وَحَصِيْدُ

خَلَا بِالأمانِي واسْتَطَابَ حَدِيْثَها

فَيَنْقُصُ مِن أَطْمَاعِهِ وَيَزِيْدُ

وَأدْنَتْ لَهُ الأَشْيَاءَ وَهيَ بَعَيْدَةٌ

وَتَفْعَلُ تُدْنِي الشَّيءَ وَهْوَ بَعَيِْدُ

أتِيْحَتْ لَهُ مِن جَانِب الْمَوتِ رَمْيَةً

فَراحَ بِهَا الْمَغْرُوْرُ وَهْوَ حَصِيْدُ

وَصَارَ هَشِيْمًا بَعْدَمَا كَانَ يَانِعًا

وَعَادَ حَدِيْثا يَنْقَضِيْ وَيَبِيْدُ

كَأَنْ لَمْ يَنَلْ يَومًا مِن الدَّهْرِ لَذَّةً

وَلَا طَلَعَتْ فِيْهِ عَلَيْه سُعُوْدُ

تَبَارَكَ مَن يُجْرِيْ عَلَى الْخَلْقِ حُكْمَهُ

فَلَيْسَ لِشَيءٍ مِنْهُ عنه مَجِيْدُ

انتهى

اللهم اسلك بنا مسلك الصادقين الأبرار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وأتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

اللهم أحي قلوبًا أماتها البعد عن بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالإفضال، اللهم أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين

ص: 19

الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

ثم اعلم أيها الأخ أنه ما من ساعة تمر على العبد لا يذكر الله فيها إلا تأسف وتحسر على فواتها بغير ذكر الله ولذلك ينبغي للعاقل أن يجعل معه شيئًا يذكره لذكر الله كلما غفل عنه.

ويُقال إن العبد تعرض عليه ساعات عمره في اليوم والليلة فيراها خزائن مصفوفة أربع وعشرين خزانة فيرى في كل خزانة أمضاها في طاعة الله ما يسره. فإذا مرت به الساعات التي غفل فيها عن ذكر الله رآها فارغة ساءه ذلك وتندم حين لا يفيده الندم.

وأما الساعات التي كان يذكر الله فيها فلا تسأل عن سروره فيها وفرحه بها حتى يكاد أن يقتله الفرح والسرور. قال بعضهم أوقات الإنسان أربعة لا خامس لها النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية.

ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية.

فمن كان وقته الطاعة لله فسبيله شهود المنة من الله عليه أن هداه ووفقه للقيام بها.

ومن كان وقته المعصية فعليه بالتوبة والندم والاستغفار.

ومن كان وقته النعمة فسبيله الشكر والحمد لله والثناء عليه.

ومن كان وقته البلية فسبيله الرضا بالقضاء والصبر والرضا رضى النفس عن الله، والصبر ثبات القلب بين يدي الرب. اهـ.

العمر إذا مضى لا عوض وما حصل لك منه لا قيمة له. فعمر الإنسان

ص: 20

هو ميدانه للأعمال الصالحة المقربة من الله تعالى والموجبة له جزيل الثواب في الآخرة. ولكن ما يعرف قدر العمر إلا نوادر العلماء.

قال الله جل وعلا وتقدس: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] . وقال تبارك وتعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] . وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 16] .

وهذه هي السعادة التي يكدح العبد ويسعى من أجلها وليس له منها إلا ما سعى كما قال جل وعلا وتقدس: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] .

فكل جزء يفوته من العمر خاليًا من عمل صالح.

يفوته من السعادة بقدره ولا عوض له منه.

فالوقت لا يستدرك وليس شيء أعز منه وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من العمل الصالح يتوصل به إلى ملك كبير لا يفني ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك لأنه في غاية الشرف والنفاسة.

ولأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح رضي الله عنهم لأنفاسهم ولحظاتهم وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير ولم يقنعوا لأنفسهم إلا بالجد والتشمير فلله درهم ما أبصرهم بتصريف أوقاتهم.

تَبْغِي الوُصُولَ بِسَيْرٍ فِيِهِ تَقْصِيْرُ

لَا شَكَّ أَنَّكَ فِيْمَا رُمْتَ مَغْرُوْرُ

قَدْ سَارَ قَبْلَكَ أَبْطَالٌ فَمَا وَصِلُوا

هَذَا وَفِي سَيْرِهم جَدُّ وَتَشْمِيْرُ

قال بعضهم أدركت أقوامًا كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم فكما لا يخرج أحدكم دينارًا ولا درهمًا إلا فيما يعود

ص: 21

نفعه عليه فكذلك السلف لا يحبون أن تخرج ساعة بل ولا دقيقة من أعمارهم إلا فيما يعود نفعه عليهم ضد ما عليه أهل هذا الزمان من قتل الوقت عند المنكرات.

تَبًا لِطَالِبِ دُنْيَا لَا بَقَاءَ لَهَا

كَأَنَّمَا هِي فِي تَعْرِيْفَهَا حُلمُ

صَفَاؤُهَا كَدَرٌ سُرُوْرُهَا ضَرَرٌ

أَمَانُهَا غَرَرٌ أَنْوَارُهُا ظُلَمُ

شَبَابُهَا هَرَمٌ رَاحَاتُهَا سَقَمٌ

لَذَّاتُهَا نَدَمٌ وُجْدَانُهَا عَدَمُ

لَا يَسْتَفِيْقُ مِن الأَنْكَادِ صَاحِبُهَا

لَوْ كَانَ يَمْلِكُ مَا قَد ضُمِّنَتْ إِرْمُ

فَخَلِّ عَنْهَا وَلَا تَرْكَنْ لِزَهْرَتِهَا

فَإِنَّهَا نِعَمٌ فِي طَيِّها نِقَمُ

وَاعْمَلْ لِدَارِ نَعِيْمٍ لَا نَفَادَ لَهَا

وَلَا يُخَافُ بِهَا مَوْتٌ وَلا هَرَمُ

انتهى

آخر:

رَفَعْتَ عَرْشَكَ فِي الدَّنْيَا وَتُهْتَ بِهِ

وَمَا بِهَا لِلَبيْب تُرْفَعُ العُرُشُ

وَبِتّ فِيْهَا عَلَى فُرْشٍ مُلَيَّنَةٍ

وَلَوْ عَقَلْتَ لَمَا لَانَتْ لَكَ الفُرشُ

وَظِلْتَ تَسْعَى لآِمال وَتَفْرشُهَا

وَلِلْمَوَارِيْثِ مَا تَسْعَى وَتَفْتَرِشُ

كَمْ كَانَ قَبْلَكَ مِنْ مَأسُوْرِ رَغْبَتِهِ

بِالحِرْصِ تُلْدَغُ جَنْبَاهُ وَتُنَتَهشُ

يَمسِي وَيُصْبَحُ فِي حِلٍّ وَفِي ظَعْنٍ

يَضُمُّ هَذَا إِلَى هَذَا وَيَحْتَوِشُ

عَطْشَان لِلْمَالِ مُحْمَاة جَوَانِحُهُ

أَلْقَى عَلَى صَدْرِهِ لِسَانِهُ العَطَشُ

حَتَّى إِذَا قِيْلَ قَد تَمَّتْ مَطَالِبُهُ

وَطَافَ مِن حَوْلِهِ أَهْلُوْه وَاْحَتوشُوا

مَدَّتْ إِليه يَدٌ لِلْمَوْتِ بِاطِشَةٌ

خَشْنَاءُ لَا دَهَشَ فِيْهَا وَلَا رَعَشُ

فَقصَّعَتْهُ وَقِدْمًا كَانَ ذَا جَيْدٍ

وَأجْهَشَتْهُ وَلَمَّا يَدْرِ مَا الْجَهَشُ

ص: 22

فَبَاتَ مُسْتَلَبًا وَبَاتَ وَارثُهُ

وَقَدْ تَغَطَوْا بِذَاكَ الْمَالِ وَافْتَرَشُوا

أَمَا سَمِعَتَ بِأَمْلَاكٍ مَضَوا قِدَمًا

شُمُّو الأنْوفِ بِرَوض الملك قَد عَرَشُوا

إِنْ دُوفِعُوا دَفَعُوا أَوْ زُوحِمُوا زَحَمُوا

أَوْ غُوْلِبُوا غَلبُوا أَوْ بُوْطِشُوا بَطشُوا

جَاءَتْهُمُوا وَجُنُودُ اللهِ غَالِبَةٌ

كَتَائِبٌ لِلْمَنَايَا كِلُهَا حَبَشُ

فَضَعْضَعَتْ جَنَبَاتٍ عِزِّهمِ وَرَمَتْ

مَنَارَهُم بِظَلاِمِ مَا بِهِ غَبَشُ

لَطَالَمَا أَكلُوا وَطَالَمَا شَرَبُوا

وَطَالَمَا رَفَعُوا الآجَامَ واعْتَرشُوا

مَرُوا وَلا أَثَر مِنْهم بِدَارِ همُوا

وَلا حَسِيْسَ وَلا رِكْزٌ وَلا وَقَشُ

قَدْ كَانَ لِلْقَوْمِ آمالٌ مَبَسَّطةٌ

فَأَصْبَحُوا قبضُوا الآمال وَانكَمَشُوا

اللهم اشف قلوبنا من أمراض المعاصي والآثام وأملأها من خشيتك وأقبل بها إلى طاعتك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

اعلم أنه ينبغي للإنسان المبادرة إلى الأعمال الصالحة، وأن ينتهز فرصة الإمكان قبل هجوم هادم اللذات.

وأن يستعين بالله ويتوكل عليه ويسأله العون في تيسير الأعمال الصالحة وصرف الموانع الحائلة بينه وبينها.

وليحرص على حفظ القرآن، وتدبره وتفهمه، والعمل به، وكذلك السنة، ويحرص على أداء الصلاة في جماعة.

ويحرص على مجالس الذكر، ويحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والسعاية والكذب وجميع الأعمال والأخلاق السيئة.

ص: 23

ويتهيأ للرحيل، ويتفقد نفسه بما عليه، وما له فإن كان عنده حقوق لله كزكاة أو لخلقه كأمانات أو عواري أو وصايا أداها بسرعة خشية أن يفجاءه الموت وهي عنده.

فإذا لم تؤدها أنت في حياتك، فمن بعدك من أولاد أو إخوان يبعد اهتمامهم بذلك، لأنهم يهتمون ويشتغلون بما خلفته لهم وضيعت بسببه نفسك.

فالله الله البدار بالتفتيش على النفس، والمبادرة بالتوبة والإكثار من الاستغفار.

ومما يحثك على ذلك ذكر مرارة الموت الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم هادم اللذات، وتذكر شدة النزع والتفكر في الموتى الذي حبسوا على أعمالهم ليجازوا بها فليس فيهم من يقدر على محو خطيئة، ولا على زيادة حسنة.

وعاد بعضهم مريضًا فقال له كيف تجدك؟

قال: هو الموت. قال له: وكيف علمت انه الموت؟ قال: أجدني اجتذب اجتذابًا، وكأن الخناجر في جوفي، وكأن جوفي تنور محمى يتلهب:

قال له: فاعهد (أي أوصى)، قال: أرى الأمر أعجل من ذلك فدعا بدواة وصحيفة قال: فو الله ما أتى بها حتى شخص بصره فمات.

وقال إبراهيم بن يزيد العبدي: أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق انطلق بنا إلى أهل الآخرة نحدث بقربهم عهدًا.

فانطلقت معه، فأتى المقابر فجلسنا إلى بعض تلك القبور، فقال: يا أبا إسحاق ما ترى هذا متمنيًا لو مُنيَّ، قلت: أن يرد والله إلى الدنيا فيستمتع من طاعة الله ويصلح.

قال: فها نحن ثم نهض فجد واجتهد، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات.

ص: 24

(فصل)

أعلم رحمنا الله وإياك وجميع المسلمين أن في القبر وظلمته، وضيقه ووحشته وطرح الميت فيه غير ممهد ولا موسد قد باشر التراب وواجه البلى وترك الدنيا وزينتها للورى.

ونبذ منها ما كان في يديه في العراء مع حبيب تركه وقريب أسلمه، ونصير أفرده، وترك كل ما كان عهده إن ذلك لما يفطم النفوس عن الشهوات، وإن كانت صعبة الفطام، ويقطعها عن اللذات، وإن كان قطعها بعيد المرام، إذا بحث عن الحقيقة ونظر بعين البصيرة وسمع النداء من قريب فبينما الإنسان في رخاء العيش مسرورًا فيما بين يديه غافلاً عن يوم صرعته قد فتح للهوى بابه، وأرسل عليه حجابه، ولم يبال بمن لامه في ذلك أو عابه، إذ هجمت عليه المنية، فهتكت أستاره، وكسفت أنواره، وشتت شمله وطمست أعلامه وآثاره.

فأخرجته من ذلك القصر المشيد، والمنزل المنجد والمتاع المزخرف المنضد، إلى حفرة من الأرض ظلماء ضيقة الجوانب مملوءة من الرعب والفزع والخوف والقلق والذعر.

فحذار حذار وبدار بدار قبل أن تصرع هذا المصرع فيفت في عضدك ويسقط في يدك وترمى بك عن أهلك وولدك في مهواة تزدحم فيها الأهوال، وتنقطع فيها الآمال.

قد جمعت فيها جمعًا ورصعت فيها رصعًا وتركت فيه للهوام والديدان طعمًا، ومرعى.

ولعلك ممن يرغب في تبديل المنازل وإن كانت حسانًا، ولا ترى لربك

ص: 25

عز وجل فيها تفضلاً وامتنانًا.

فانظر الآن كم بين المنزلتين وكم قدر ما بين الوحشتين إلا أن يدركك الله برحمته فتتسع من القبر أقطاره وتمتد فيه أنواره وأنشدوا في هذا المعنى:

مَنْ كَانَ يُوْحِشُهُ تَبْدِيْلُ مَنْزِلِه

وَأَنْ يُبَدِّلَ مِنْهَا مَنْزِلاً حَسَنًا

مَاذَا يَقُولُ إِذَا ضَمَّتْ جَوَانِبَهَا

عَلَيْهِ وَاجْتَمَعَتْ مِن هَاهُنَا وَهُنَا

مَاذَا يَقُوْلُ إِذَا أَمْسَى بِحُفْرَتِهِ

فَرْدًا وَقَد فَارَقَ الأهْلِيْنَ وَالسَّكَنَا

هُنَاكَ يَعْلَمُ قَدْرَ الوَحْشَتَيْنِ وَمَا

يَلْقَاهُ مَن بَاتَ بِالَّلْذَاتِ مُرْتَهِنًا

يَا غَفْلَةً وَرِمَاحُ الْمَوْتِ شَارِعَةٌ

وَالشَّيْبُ أَلْقَى بِرَأْسِي نَحْوَه الرَّسَنَا

وَلَمْ أُعِدْ مَكَانًا لِلَّنِزَالِ وَلا

أَعْدَدْتُ زَادًا وَلَكِنْ غَرَّةُ ومُنَا

إَنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ تَوالَى جُوْدُهُ أَبَدًا

وَيَعْفُ مَن عَفْوُهُ مِن طَالِبِيْهِ دَنَا

فَيَا إِلَهِي وَمُزْنُ الْجُودِ وَاكِفَهٌ

سَحًا فَتُمْطِرُنَا الإِفْضَالُ وَالْمِنَنَا

آنِسْ هُنَالِكَ يَا رَحْمَنُ وَحْشَتَنَا

وَالْطُفْ بِنَا وَتَرَفَّقْ عِنْدَ ذَاكَ بِنَا

نَحْنُ العُصَاةُ وَأَنْتَ اللهُ مَلْجَؤُنَا

وَأَنْتَ مَقْصَدُنَا الأَسْنَى وَمَطْلَبُنَا

فَكُنْ لَنَا عِنْدَ بَأْسَاهَا وَشِدَّتَها

أَوْلَى فَمَنْ ذَا الَّذِي فِيْهَا يَكُوُن لَنَا

اللهم اسلك بنا مناهج السلامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة ووفقنا للاستعداد لما وعدتنا وأدم لنا إحسانك ولطفك كما عودتنا وأتمم علينا ما به أكرمتنا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 26

شعرًا

تَذَكَّرْ وَلَا تَنْسَ الْمِعَادَ وَلا تَكُنْ

كَأَنَّكَ مُخْلَى لِلمَلاعِبِ مُمْرَجُ

وَلَا تَنْسَ إِذْ أَنْتَ المُوَلْوَلُ حَوْلَهُ

ونَفْسُكَ مِن بَيْنَ الْجَوَانِحُ تَخْرُجُ

وَلَا تَنْسَ إِذْا أَنْتَ الْمُسَجَّى بِثَوْبِهِ

وَإِذْ أَنْتَ فِي كَرْبِ السِّيَاقِ تُحَشْرجُ

وَلَا تَنْسَ إِذْ أَنْتَ الْمُعَزَّى قَرِيْبُهُ

وَإِذْ أَنْتَ فِي بِيْضٍ مِن الرَّيْطِ مُدْرَجُ

وَلَا تَنْسَ إِذْ يَهْدِيْكَ قَوْمٌ إِلَى الثَّرَى

إِذْا مَا هَدَوْكَاهُ انْثَنَوا لَمْ يُعَرِّجُوا

وَلَا تَنْسَ إِذْ قَبْرٌ وإِذْ مِن تُرَابِه

عَلَيْكَ بِه رَدْمٌ وَلِبْنٌ مُشَرَّجُ

وَلَا تَنْسَ إِذْ تُكْسَى غَدًا مِنْهُ وَحْشَةً

مَجَالِسُ فِيْهِنَّ العَنَاكِبُ تَنْسِجُ

وَلَا بُدَّ مِنْ بَيْتِ انقطاعٍ وَوَحْدَةٍ

وَإنْ سَرَّكَ البَيْتُ العَتِيْقُ الْمُدَبَّجُ

أَلَا رُبَّ ذِيْ طِمْرٍ غَدًا فِي كَرَامَةٍ

وَمَلْكٍ بِتِيْجَانِ الْهَوَانِ مُتَوَّجُ

لَعَمْرُكَ مَا الدَّنْيَا بِدَارِ إِقَامَةٍ

وَإنْ زَخْرَفَ الغَاوُوْنَ فِيْهَا وَزَبْرَجُوا

اللهم وفقنا توفيقًا يقينا عن معاصيك وأرشدنا إلى السعي فيما يرضيك وأجرنا يا مولانا من خزيك وعذابك وهب لنا ما وهبته لأوليائك وأحبابك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

فائدة – قال ابن القيم رحمه الله:

لشهادة أن لا إله إلا الله عند الموت تأثير عظيم في تكفير السيئات وإحباطها لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها قد ماتت منه الشهوات ولانت نفسه المتمردة وانقادت بعد إبائها، وأقبلت بعد إعراضها.

ص: 27

وذلت بعد عزها وخرج منها حرصها على الدنيا فضولها واستخذت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كانت له وأرجى ما كانت لعفوه ومغفرته ورحمته، وتجرد منها التوحيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه.

فزالت منها تلك المنازعات التي كانت مشغولة بها، واجتمع همها على من أيقنت بالقدوم عليه والمصير إليه، فوجه العبد وجهه بكليته إليه، وأقبل بقلبه وروحه وهمه عليه، فاستسلم لله وحده ظاهرًا وباطنًا واستوى سره وعلانيته.

فقال لا إله إلا الله مخلصًا من قلبه، وقد تخلص من التعلق بغيره والالتفات إلى ما سواه، قد خرجت الدنيا كلها من قلبه وشارف القدوم على ربه، وخمدت نيران شهوته، وامتلأ قلبه من الآخرة، فصارت نصب عينيه، وصارت الدنيا وراء ظهره.

فكانت تلك الشهادة الخالصة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه لأنه لقي ربه بشهادة صادقة خالصة وافق ظاهرها باطنها وسرها علانيتها فلو حصلت له الشهادة على هذا الوجه في أيام الصحة لاستوحش من الدنيا، وأهلها وفر إلى الله من الناس وأنس به دون من سواه. لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأنس بها ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إلى غير الله فلو تجردت كتجردها عند الموت لكان لها نبأ آخر وعيش آخر سوى عيشها البهيمي والله المستعان.

اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين

ص: 28

الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وعن أنس بن مالك أن معاذ بن جبل رضي الله عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كيف أصبحت، يا معاذ قال أصبحت مؤمنا بالله حقًا – قال:«إن لكل قول مصداقا ولكل حق حقيقة فما مصداق ما تقول؟» .

قال: يا نبي الله ما أصبحت صباحًا قط إلا ظننت أني لا أصبح، ولا خطوة خطوة إلا ظننت إني لا أتبعها أخرى وكأني أنظر إلى كل أمة جاثية تدعى إلى كتابها معها نبيها وأوثانها التي كانت تعبد من دون الله، وكأني أنظر إلى عقوبة أهل النار وثواب أهل الجنة، قال عليه الصلاة والسلام "عرفت فألزم".

وبلغ زين العابدين من الدنيا أفضل ما تسعى إليه همةُ رجل، فرفضها ونبذها قائلاً «هذا سرور لولا أنه غرور، ونعيم لولا أنه عن قريب عديم، وملك لولا أنه هلك، وغنى لولا أنه فنى، وأمر جسيم لولا أنه ذميم، وارتفاع لولا أنه اتضاع وحسب امرئ من الدنيا لقيمات يقيم بها صلبه، وثوب يستر به عورته، وصحة يستقوي بها على طاعة الله» .

واعلم يا أخي أن الأجل قريب وهو مستور عنك وهو في يد غيرك، يسوقه حثيث الليل والنهار، وإذا انتهت المدة حيل بينك وبين العدة، فاحتل قبل المنتهى وأكرم أجلك بحسن صحبة الصادقين، وإذا آنستك السلامة فاستوحش بالعطب، فإنه الغاية وإذا فرحت بالعافية فاحسب حسابًا للبلاء، وإذا بسطك الأمل فاقبض نفسك عنه بذكر الأجل، فهو الموعد وإليه المورد.

ص: 29

كتب بعضُ الحكماء إلى رجل من إخوانه: يا أخي أحذر الموت في هذه الدار قبل أن تصير إلى دار تتمنى فيها الموت فلا تجده.

وكان عمر بن عبد العزيز يجمع كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت والقيامة والآخرة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة.

وقال إبراهيم التيمي: شيئان قطعًا عني لذة الدنيا ذكر الموت، والوقوف بين يدي الله عز وجل.

وقال كعب من عرف الموت هانت عليه مصائب الدنيا وهمومها.

وقال شريح: إني أصاب بالمصيبة فأحمد الله تعالى أربع مرات أحمده إذ لم تكن أعظم منها، وأحمده إذا رزقني الصبر عليها، وأحمده إذ وفقني لاسترجاع ما أرجو فيه من الثواب، وأحمده إذ لم يجعلها في ديني.

وقال حاتم الأصم: مصيبة الدين أعظم من مصيبة الدنيا، ولقد ماتت لي بنت فعزاني أكثر من عشرة آلاف وفاتتني صلاة الجماعة فلم يعزني أحد.

وقال آخر: كن حذرًا من أربع غارات، الأولى: غارة ملك الموت على روحك، الثانية: غارة الورثة على مالك، الثالثة: غارة الدود على جسمك في قبرك، والرابعة: غارة الخمصاء على حسناتك، فعليك في الاستعداد والاحتياط والإكثار من الباقيات الصالحات والمداومة على ذكر الله ليلاً ونهارًا وسرًا وجهارًا.

كان محمد بن سيرين يدخل السوق نصف النهار يُكبر ويسبح ويذكر الله، فقال له رجل: يا أبا بكر في هذه الساعة، قال: إنها ساعة غفلة ينبغي الذكر والتذكير فيها.

وقال بعض العلماء: إني لأقرأ القرآن فأنظر في آية فيحار عقلي فيها وأعجب من حفاظ القرآن كيف يهنيهم النوم وهم يتلون كلام الرحمن، أما

ص: 30

لو فهموا ما يتلون وعرفوا حقه وتلذذوا به واستحلوا المناجة به لذهب عنهم النوم فرحًا وسروا بما رزقهم الله ووفقهم له.

شعرًا:

فَشَمِّرْ وَلُذْ بِاللهِ وَاحْفَظْ كِتَابَهُ

فَفِيْهِ الْهُدَى حَقًا وَلِلخَيْرِ جَامِعُ

هو الذُّخْرُ لِلمَلْهُوفِ وَالكَنْزُ وَالرَّجَا

وَمْنْهُ بِلا شَكِّ تُنَالُ الْمَنَافِعُ

بِهِ يَهْتَدِي مَن تَاهَ فِي مَهْمَهِ الْهَوَى

بِه يَتَسَلَّى مَنْ دَهَتهُ الفَجَائِعُ

والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.

(فائدة)

إذا علم العبد أن الله تعالى رحيم به ورءوف به وناظر إليه فكل ما يرد عليه من أنواع البلايا والرزايا والمصائب ينبغي له أن يصبر ويحتسب ولا يكترث بذلك فإنه لم يتعود من الله إلا خيرًا له.

فليحسن ظنه بربه وليعتقد أن ذلك خيرًا له وأن له في ذلك مصالح خفية لا يعلمها إلا الله كما قال تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] فقد يحب الإنسان الشهرة والعافية والغناء ويكون شرًا له كما في قصة قارون وثعلبة:

وَخَفَّفَ عَنِّي مَا أَلاقِي من العَنَا

بِأَنَّكَ أَنْتَ الْمُبْتَلي وَالْمُقَدِّرُ

وَمَا لاِمْرِءٍ عَمَّا قَضَى اللهُ مَعْدِلٌ

وَلَيْسَ لَهُ مِنْهُ الَّذِي يَتَخَيَّرُ

ص: 31

(فائدة)

قيل من علامات التوفيق دخول أعمال البر عليك من غير قصد لها، وصرف المعاصي عنك مع السعي إليها، وفتح باب اللجاء والافتقار إلى الله تعالى في كل الأحوال، واتباع السيئة الحسنة، وعظم الذنب في قلبك وإن كان من صغائر الذنوب والإكثار من ذكر الله وشكره وحمده والاستغفار.

ومن علامات الخذلان تعسر الطاعات عليك مع السعي فيها، ودخول المعاصي عليك مع هربك منها، وغلق باب الالتجاء إلى الله وترك التضرع له وترك الدعاء، وإتباع الحسنة بالسيئات، واحتقارك لذنوبك وعدم الاهتمام بها وإهمال التوبة منها والاستغفار ونسيانك لربك.

ذم الإنسان نفسه واحتقاره لها لما يتحققه من عيوبها وآفاتها مطلوب منه لأنه يؤديه إلى التفتيش عليها ومحاسبتها بدقة ويؤديه أيضًا إلى الحذر من غرورها وشرورها،

فتصلح بسبب ذلك أعماله وتصدق أحواله وتستقيم، بإذن الله أموره وإلا فسدت عليه واعتلت لدخول الآفات عليها ولا يصدنه عن ذلك مدح المادحين وثناء المتملقين؛ لأنه يعلم من عيوب نفسه ما لا يعمله غيره.

المؤمن الحقيقي هو الذي إذا مدح وأثنى عليه وذكر طرفًا من محاسنه استحيا من الله تعالى استحيا تعظيم وإجلال أن يثنى عليه بصفة ليست فيه.

فيزداد بذلك مقتًا لنفسه واستحقارًا لها ونفورًا عنها ويقوى عنده رؤية إحسان الله تعالى إليه وشهوده فضله عليه ومنته في إظهار المحاسن عليه ويشكر الله ويحمده على ما أولاه من نعمه التي لا تعد ولا تحصى.

قيل إن رجلاً أخرج من السجن وفي رجله قيد وهو يسأل الناس فقال

ص: 32

لإنسان عاقل أعطني كسرة خُبزة فقال لو قنعت بالكسرة لما وضع القيد في رجلك، ورأى رجل رجلاً من الحكماء يأكل ما تساقط من البقل على رأس الماء.

فقال لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا، فقال الحكيم وأنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان، وقال رجل لآخر كيف حالكم مع السلطان، فقال كما قال الله جل وعلا:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] .

(فائدة)

الأسباب الجالية لمحبة الله لعبده المؤمن نذكر ما تيسر منها إن شاء الله:

(1)

قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه والتفطن لمراد الله منه.

(2)

الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله، قال الله تعالى:{وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] .

(3)

التقوى، قال الله تعالى:{واللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .

(4)

طهارة الباطن والظاهر، قال الله تعالى:{وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108] .

(5)

التقرب إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض فإنها توصل إلى محبة الله لعبده كما في الحديث: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» . الحديث.

(6)

دوام ذكر الله على كل حال في كل مكان إلا في المحلات المستقذرة كالخلاء ونحوه ويكون ذلك باللسان والقلب والعمل.

(7)

إيثار محبة على محابه عند غلبات الهوى.

(8)

مطالعة القلب لأسمائه وصفاته وأفعاله ومشاهدتها وتقلبه في رياض

ص: 33

هذه المعرفة ومباديها فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة.

(9)

مشاهدة بره وإحسانه ونعمه الظاهرة والباطنة.

(10)

إنكسار القلب بين يديه والتضرع والتذلل له وإظهار الافتقار إليه وإظهارالعجز والمسكنة والتلهف إلى رحمته ورأفته ولطفه.

(11)

مجالسة التالين للقرآن العاملين به والذاكرين الله كثيرًا.

(12)

القتال في سبيل الله، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4] .

(13)

إتباع النبي صلى الله عليه وسلم قال الله جل وعلا: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31] .

(14)

الصبر، قال تعالى:{وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] .

(15)

الخلوة به سبحانه وقت النزول الإلهي أي وقت التجلي الإلهي، وهو في الاسحار قبل الفجر لمناجاته وتلاوة كلامه والوقوف بالقلب والقالب بين يديه ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.

(16)

مباعدة العوائق والحوائل وكل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.

قال رجل لطاوس: أوصني قال أوصيك أن تحب الله حبًا حتى لا يكون شيء أحب إليك منه، وخفه خوفًا حتى لا يكون شيء أخوف إليك منه، وارج الله رجاء يحول بينك وبين ذلك الخوف وارض للناس ما ترضى لنفسك.

اللهم يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصبحه أجمعين.

ص: 34

(فصل)

المراقبة في ثلاثة أشياء: مراقبة الله في طاعته بالعمل الذي يرضيه ومراقبة الله عند ورود المعصية بتركها ومراقبة الله في الهم والخواطر والسر والإعلان قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أن تعبد الله كَأَنَّكَ تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» .

قالت أسماء بنت عميس: إنا لعند علي بن أبي طالب بعد ما ضربه ابن ملجم، إذ شهق ثم أغمى عليه ثم أفاق فقال: مرحبًا مرحبًا، الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الجنة فقيل له ما ترى، قال هذا رسول الله وأخي جعفر وعمي حمزة وأبواب السماء مفتحة والملائكة ينزلون يسلمون علي ويبشرون وهذه فاطمة قد طاف بها وصائفها من الحور وهذه منازلي في الجنة "لمثل هذا فليعمل العاملون".

عن كثير بن زيد قال: كبر حكيم بن حزام حتى ذهب بصره ثم اشتكى فاشتد وجعه فقلت لأحضرنه ولأنظرن ما يتكلم به فإذا هو يهمهم ويقول لا إله إلا الله أحبك وأخشاك حتى مات. انتهى.

ولما حضرت أبا هريرة الوفاة بكى قالوا ما يبكيك، قال: بعد السفر وقلة الزاد وضعف اليقين وخوف الوقوع من الصراط في النار.

ولما حضرت معاذ بن جبل الوفاة قال: أعوذ بالله من ليلة صباحها إلى النار ثم قال مرحبًا بالموت زائر مغيب وحبيب جاء على فاقة اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك.

اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب الدنيا وطول البقاء فيها لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار ولكن لطول ظمأ الهواجر وقيام ليل الشتاء ومكابدة

ص: 35

الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر ثم قبض رحمه الله.

ولما حضرت أبا الدرداء الوفاة جعل يجود بنفسه ويقول ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا ألا رجل يعمل لمثل يومي هذا ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه ثم قبض رحمه الله.

ثم أعلم: أن الألم المصيب للبدن إنما يدرك بواسطة الروح، وإذا وصل الألم إلى نفس الروح فلا تسأل عن كربه وألمه حتى قالوا إنه أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض.

والسبب في أنه لا يقدر على الصياح مع شدة الألم لزيادة الوجع والكرب حتى قهر كل قوة وضعف كل جارحة فلم يبق له قوة الاستغاثة والاستعانة.

أما العقل فقد غشيه وشوشه وأما اللسان فقد أبكمه وأما الأطراف فقد خدرها وضعفها فإن بقيت فيه قوة سمعت له خوارًا وغرغرة من صدره وحلقه حتى يبلغ بها إلى الحلقوم.

فعند ذلك ينقطع نظره عن الدنيا وأهلها وتغلق أبواب التوبة قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» رواه الترمذي وقال حديث حسن.

فالموفق من يكون الموت نصب عينيه لا يغفل عنه ساعة فيستعد للموت.

ويفتش على نفسه ويتفقدها من قبل الصلوات ومن قبل حقوق الله وحقوق خلقه هل أقام الصلاة على الوجه الأكمل؟ هل أدى الزكاة كاملة مكملة؟ هل أبرأ ذمته من حقوق الآدميين؟.

هل أدى الأمانات إلى أهلها؟ هل نفد ما عنده من وصايا ووكالات؟

ص: 36

هل عنده أشياء معارة كتب أو نحوها يرجعها؟ هل عنده كتب زائدة يفرقها على طلبة العلم العاملين بعلمهم؟ ويتلف إن كان عنده آلات لهو لا تقبض روحه وهي عنده. قال بعضهم إن علامة قصر الأمل! المبادرة في العمل قبل حلول الأجل ومن ادعى قصر الأمل وهو يعتني بالدنيا فهو كاذب في دعواه.

فالتوفيق أن يكون الموت أمامه في كل لحظة لا يغفل عنه أبدًا إن أصبح أضمر أنه لا يمس وإن أمسى قدر أنه لا يصبح.

مديم العمل بطاعة الله شاكرًا له على توفيقه لذلك ملازمًا لذكر الله ليلاً ونهارًا سرًا وجهارًا.

ولكن لا يتيسر هذا إلا لمن فرغ قلبه عن الغد وما يكون فيه وعن الدنيا وأشغالها وزخارفها وجميع متعلقاتها.

إلا ما كان عونًا على الآخرة وأداء لما وجب عليه من حقوق نسال الله الإعانة والتوفيق والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

(فصل)

فيا أيها الغافل المهمل المفرط وكلنا كذلك، انتبه وتصور صرعة الموت لنفسك وتصور نزعه لروحك وتصور كربه وسكراته وغصصه وغمه وقلقه.

وتصور بدو الملك لجذب روحك من قدميك ثم الاستمرار لجذب الروح من جميع بدنك فنشطت من أسفلك متصاعدة إلى أعلاك حتى إذا بلغ منك الكرب والوجع والألم منتهاه وعمت الآلام جميع بدنك وقلبك وجل محزون منتظر إما البشرى من الله بالرضا وإما بالغضب.

فبينما أنت في كربك وغمومك وشدة حزنك لارتقا بك إحدى البشريين إذ سمعت صوته إما بما يسرك وإما بما يغمك فيلزم حينئذ غاية الهم

ص: 37

والحزن أو الفرح والأنس والسرور قلبك حين انقضت من الدنيا مدتك وانقطع منها أثرك وحملت إلى دار من سلف من الأمم قبلك.

وتصور نفسك حين استطار قلبك فرحًا وسرورًا أو مليء رعبًا وحزنًا وعبرة وبزيارة القبر وهول مطلعه وروعة الملكين منكر ونكير وسؤالهما لك في القبر عن ثلاثة أسئلة ما فيها تخيير، الأول من ربك، والثاني ما دينك، والثالث من نبيك؟

فتصور أصواتهما عند ندائهما لك لتجلس لسؤالهما لك فيه فتصور جلستك في ضيق قبرك وقد سقط كفنك عن حقويك والقطن من عينيك.

ثم تصور شخوصك ببصرك إليهما وتأملك لصورتيهما فإن رأيتهما بأحسن صورة أيقن قلبك بالفوز والنجاة والسرور وإن رأيتهما بأقبح صورة أيقنت بالعطب والهلاك.

شعرًا:

وَلِلمَرْءِ يَوْمٌ يَنْقَضِي فِيْهِ عُمْرُهُ

وَمَوْت وَقَبْرُ ضَيْقٌ فِيْهِ يُوْلَجُ

وَيَلْقَى نَكِيرًا فِي السُّؤَالِ وَمُنْكَرًا

يَسُومَانِ بِالتَّنْكِيلِ مِن يَتَلَجْلجُ

آخر:

تَفَكَّرْ فِي مَشِيْبِكَ وَالْمَآبِ

وَدَفْنِكَ بَعْدَ عِزِّكَ فِي التُّرَابِ

إِذَا وَافَيْتَ قَبْرًا أَنْتَ فِيْهِ

تُقِيْمُ بِه إلى يَوم الْحِسَابِ

وَفِي أَوْصَالِ جِسْمِكَ حِيْنَ تَبْقَى

مُقَطَّعَةً مُمُزَّقَةً الإِهَابِ

فَلولَا القَبْرُ صَارَ عَلَيْكَ سِتْرًا

لأَنْتَنَتِ الأَبَاطِحُ وَالرَّوَّابِي

خلقْتَ مِن التُّرَابِ فَصِرْتَ حَيًا

وَعُلَّمْتَ الفَصِيْحَ مِن الْخِطَابِ

فَطَلَّقْ هَذه الدُّنْيَا ثَلاثًا

وَبَادْر قَبلَ مَوْتِكَ بِالْمَتَابِ

ص: 38

نَصَحْتُكَ فَاسْتَمَعْ قَوْلِي وَنُصْحِي

فَمِثْلُكَ قَدْ يُدَلُّ عَلَى الصَّوابِ

خُلِقْنَا لِلْمَاتِ وَلَو تُرِكْنَا

لَضَاقَ بِنَا الفِسْيحُ مِن الرِّحَابِ

يُنَادى فِي صَبِيْحَةِ كل يَوم

لِدُوْا لِلمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ

ثم تصور كيف يكون شعورك إن ثبتك الله جل وعلا ونظرت إلى ما أعد الله لك وقولهما لك هذا منزلك ومصيرك فتصور فرحك وسرورك بما تعاينه من النعيم وبهجة الملك وإيقانك بالسلامة مما يسوؤك.

وإن كانت الأخرى فتصور ضد ذلك من إنتهارك ومعاينتك جهنم وقولهما لك هذا منزلك ومصيرك فيا لها من حسرة ويا لها من ندامة ويا لها من عثرة لا تقال.

ثم بعد ذلك الفناء والبلاء حتى تنقطع الأوصال وتتفتت العظام ويبلى جسدك ويستمر حزنك فيا حسرة روحك وغمومها وهمومها.

حتى إذا تكاملت عدة الأموات وقد بقي الجبار الأعلى منفردًا بعظمته وجلاله وكبريائه ثم لم يفجاك إلا نداء المنادي للخلائق للعرض على الله جل وعلا.

قال تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق: 42] يأمر الله ملكًا أن ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة واللحوم المتمزقة والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء.

فتصور وقوع الصوت في سمعك ودعائك إلى العرض على مالك الملك فيطير فؤادك ويشيب رأسك للنداء لأنها صيحة واحدة للعرض على الرب جل وعلا قال تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 14] .

ص: 39

فبينما أنت في فزع من الصوت إذ سمعت بانشقاق الأرض فخرجت مغبرًا من غبار قبرك قائمًا على قدميك شاخصًا ببصرك نحو النداء قال تعالى: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً} [ق: 44] وقال: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} [القمر: 7] .

فتصور تعريك ومذلتك وانفرادك بخوفك وأحزانك وهمومك وغمومك في زحمة الخلائق خاشعة أبصارهم وأصواتهم ترهقهم الذلة قال تعالى: {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه: 108] . وقال تعالى: {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} [القمر: 7] .

اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة وفي الآخرة وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

ثم تصور إقبال الوحوش من البراري منكسة رءوسها لهول يوم القيامة فبعد توحشها وإنفرادها من الخلائق ذلت ليوم النشور قال تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] .

وتصور تكوير الشمس وتناثر النجوم وانشقاق السماء من فوق الخلائق مع كثافة سمكها فيا هول صوت ذلك الانشقاق.

والملائكة على حافات ما يتفطر من السماء قال الله تعالى: {وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] . وقال تعالى: {فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاء فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37] وقال تعالى:

ص: 40

{إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] .

قيل تذوب كما تذوب الفضة في السبك وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وتارة صفراء وزرقاء وخضراء وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة وقال تعالى:{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8] قيل كالفضة المذابة أو الرصاص المذاب وقال تعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل: 17] .

فتصور وقوفك مفردًا عريانًا حافيًا وقد أدنيت الشمس من رءوس الخلائق ولا ظل لأحد إلا ظل عرش رب العالمين، فبينما أنت على تلك الحال المزعجة اشتد الكرب والوهج من حر الشمس ثم ازدحمت الأمم وتدافعت وتضايقت واختلفت الأقدام وانقطعت الأعناق من شدة العطش والخوف العظيم.

وانضاف إلى حر الشمس كثرة الأنفاس وازدحام الأجسام والعطش تضاعف ولا نوم ولا راحة وفاض عرقهم على الأرض حتى استنقع ثم ارتفع على الأبدان على قدر مراتبهم ومنازلهم عند ربهم بالسعادة والشقاوة.

ثم تصور مجيء جهنم تقاد ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها قال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23] .

فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبته يقول يا رب نفسي نفسي فتصور ذلك الموقف المهيل المفزع الذي قد ملأ القلوب رعبًا وخوفًا وقلقًا وذعرًا يا له من موقف ومنظر مزعج.

وأنت لا محالة أحدهم فتوهم نفسك لكربك وقد علاك العرق والفزع والرعب الشديد والناس معك منتظرون لفصل القضاء إلى دار السعادة أو إلى

ص: 41

دار الشقاء، قال تعالى:{وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] .

فتصور أصوات الخلائق وهم ينادون بأجمعهم منفرد كل واحد بنفسه ينادي نفسي نفسي قال الله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111] . وقال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} [عبس: 35] .

فتصور نفسك وحالتك عندما يتبرأ منك الولد والوالد والأخ والصاحب لما في ذلك اليوم من المزعجات والقلاقل والأهوال التي ملأت القلوب من الخوف والفزع والرعب والذعر.

ولولا عظم هول ذلك اليوم ما كان من الكرم والمروءة والحفاظ أن تفر من أمك وأبيك وأخيك وبنيك ولكن عظم الخطر وشدة الكرب والهول اضطرك إلى ذلك فلا تلام على فرارك منهم ولا لوم عليهم إذا فروا منك قال الله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] . وقال تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1] .

فبينما أنت في تلك الحالة مملوء رعبًا قد بلغت القلوب الحناجر من شدة الأهوال والمزعجات والخوف العظيم إذ ارتفع عنق من النار يلتقط من أمر بأخذه فينطوي عليهم ويلقيهم في النار فتبتلعهم ثم تصور الميزان وعظمته وقد نصب لوزن الأعمال وتصور الكتب المتطايرة في الأيمان والشمائل وقلبك واجف مملوءًا خوفًا متوقع أين يقع كتابك في يمينك أو في شمالك أو وراء ظهرك.

ص: 42

اللهم وفقنا لصالح الأعمال وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

فالأتقياء يعطون كتبهم بأيمانهم والأشقياء بالشمال أو من وراء الظهر، قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [الانشقاق: 9]، وقال:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً} [الانشقاق: 12] .

وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} [الحاقة: 19]، وقال:{وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ} [الحاقة: 26] . الآيات.

فيا لها من مواقف ويا لها من أهوال ويا لها من خطوب مجرد تصورها يبكي المؤمن بها حقًا.

عن الحسن: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رأسه في حجر عائشة فنعس فتذكرت الآخرة فبكت فسالت دموعها على خد النبي صلى الله عليه وسلم فاستيقظ بدموعها فرفع رأسه فقال: ما يبكيك فقالت يا رسول الله ذكرت الآخرة هل تذكرون أهليكم يوم القيامة قال: والذي نفسي بيده في ثلاثة مواطن فإن أحدًا لا يذكر إلا نفسه: إذا وضعت الموازين ووزنت الأعمال حتى ينظر ابن آدم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الصحف حتى ينظر أبيمينه يأخذ أم بشماله، وعند الصراط".

وعن أنس بن مالك قال: يُؤتى بابن آدم يوم القيامة حتى يوقف بين

ص: 43

كفتي الميزان ويوكل به ملك فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يُسْمع الخلائق سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا وإن خف ميزانه نادى بصوت يسمع الخلائق شقي فلان بن فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا.

وتصور بينما أنت واقف مع الخلائق الذين لا يعلم عددهم إلا الله جل وعلا وتقدس إذ نودي باسمك على رءوس الخلائق من الأولين والآخرين أين فلان بن فلان هلم إلى العرض على الله عز وجل.

فقمت أنت لا يقوم غيرك لما لزم قلبك من العلم من أنك المطلوب فقمت ترتعد فرائصك وتضطرب رجلاك وجميع جوارحك وقلبك من شدة الخوف والذهول في أشد الخفقان مرتفعًا إلى الحنجرة.

قال الله جل وعلا وتقدس: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} [غافر: 18] .

فتصور خوفك وذلك وضعفك وانهيار أعصابك وقواك متغيرًا لونك مرعوبًا مذعورًا مرتكضًا مزعجًا قد حل بك الغم والهم والاضطراب والقلق والذهول لما أصابك ورأيت من الشدائد والكروب والمحزنات ما الله به عليم.

قال الله جل وعلا وتقدس: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] . فيا له من يوم قال الله جل وعلا وتقدس: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} [المزمل: 17] والآية بعدها.

وتصور وقوفك بين يدي بديع السموات والأرض الذي الأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه، القوي العزيز وقلبك خائف مملوء من الرعب محزون وجل وطرفك خائف خفي خاشع ذليل.

وجوارحك مرتعدة، بيدك صحيفة محصًا فيها الدقيق والجليل لا تغادر

ص: 44

صغيرة ولا كبيرة فقرأتها بلسان كليل وقلب منكسر وداخلك من الخجل والجبن والحياء من الله الذي لم يزل إليك محسنًا وعليك ساترًا.

فبأي لسان تجيبه حين يسألك عن قبيح فعلك وعظيم جرمك وبأي قدم تقف غدًا بين يديه وبأي طرف تنظر إليه وبأي قلب تحتمل كلامه العظيم الجليل ومساءلته وتوبيخه.

وتصور نفسك بصغر جسمك بين يدي من السموات السبع والأرض كخردلة في كفه الكبير المتعالى شديد المحال الذي ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها وقلوب العباد بين إصبعين من أصابعه لا إله إلا هو القوي العزيز.

وتصور نفسك بهذه الهيئة والأهوال محدقة بك من جوانبك ومن خلفك فكم من كبيرة قد نسيتها أثبتها عليك الملك وكم من بلية أحدثتها فذكرتها وكم من سريرة قد كنت كتمتها قد ظهرت وبدت.

وكم من عمل قد كنت تظن أنه قد خلص لك وسلم فإذا هو بالرياء قد حبط بعد ما كان أملك فيه عظيمًا فيا حسرة قلبك وتأسفك على ما فرطت في طاعة ربك قال تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56] . وقال تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] .

حتى إذا كرر عليك السؤال بذكر البلايا ونشرت مخبآتك التي طالما أخفيتها وسترتها عن مخلوق مثلك لا يملك لنفسه ولا لغيره ضرًا ولا نفعًا وقد ظهرت قلة هيبتك لله وقلة حيائك منه وظهرت مبارزتك له بفعل ما نهاك عنه.

فما ظنك بسؤال من قد امتلأ سمعك من عظمته وجلاله وكبريائه وسائر صفات كماله وكيف بك إن ذكرك مخالفتك له وركوبك معاصيه وقلة اهتمامك بنهيه ونظره إليك وقلة اكتراثك في الدنيا بطاعته.

ص: 45

وماذا تقول إن قال لك يا عبدي ما أجللتني أما استحييت مني أما راقبتني؟ استخففت بنظري إليك ألم أحسن إليك ألم أنعم عليك ما غرك مني؟

شبابك فيما أبليته وعمرك فيما أفنيته ومالك من أين اكتسبته وفيم أنفقته وعلمك ماذا عملت فيه؟

وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليقفن أحدكم بَيْنَ يدي الله تبارك وتعالى ليس بينه وبين حجاب يحجبه ولا بينه وبينه ترجمان يترجم عنه فيقول ألم أنعم ألم آتك مالا؟ فيقول بلى. فيقول ألم أرسل إليك رسولا؟ فيقول بلى، ثم ينظر عن يمينه فلا يرى إلا النار ثم ينظر عن شماله فلا يرى إلا النار فليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة فإن لم يجد فبكلمة طيبة» . رواه البخاري.

فأعظم به موقفًا وأعظم به من سائل لا تخفى عليه خافية وأعظم بما يداخلك من الخجل والغم والحزن والأسف الشديد على ما فرطت في طاعته وعلى ركوبك معصيته وعلى أوقات ضاعت عند الملاهي والمنكرات، قال الله تعالى عن حال المجرمين المفرطين:{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ} [سبأ: 52] . الآية.

وكيف تثبت رجلاك عند الوقوف بين يديه وكيف يقدر على الكلام لسانك عندما يسألك الحي القيوم إلا أن يثبتك جل وعلا ويقدرك على ذلك، فإذا تبالغ فيك الجهد من الغم والحزن والحياء والخجل بدا لك منه أحد أمرين إما الغضب أو الرضا عنك.

فإما أن يقول يا عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فقد غفرت لك كبير جرمك وكثير سيئاتك وتقبلت منك يسير إحسانك

ص: 46

فيستطير قلبك بالبهجة والفرح والسرور فيشرق ويستنير لذلك وجهك.

فتصور نفسك حين ما يقال لك وتهدأ نفسك ويطمئن قلبك وينور وجهك بعد كآبته وتكسفه من الحياء من السؤال.

وتصور رضاه عنك حينما تسمعه منه فثار في قلبك فامتلأ سرورًا وكدت أن تموت من الفرح فأي سرور أعظم من السرور والفرح برضا الله عز وجل.

اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وتصور نفسك وقد بدا لك منه الرضا والرحمة والمغفرة فتكاد روحك أن تطير من بدنك فرحًا فكيف لو سمعت من الله عز وجل الرضا عنك والمغفرة لك فأمن خوفك وسكن حذرك وتحقق أملك ورجاؤك بخلود الأبد وأيقنت بفوزك ونعيمك أبدًا لا يفنى ولا يبيد وطار قلبك فرحًا وابيض وجهك وأشرق وأنار.

ثم خرجت إلى الخلائق مستنير الوجه قد حل بك أكمل الجمال والحسن كتابك بيمينك وقد شخصت أبصار الخلائق إليك غبطة لك وتأسفًا على أن ينالوا من الله عز وجل مثل ما نلت.

وتصور نفسك إن لم يعف عنك ربك وأيقنت بالهلاك وذهب بك إلى جهنم مسود الوجه تتخطى الخلائق بسواد وجهك وكتابك في شمالك أو من وراء ظهرك تنادي بالويل والثبور والملك آخذ بعضدك ينادي هذا فلان بن

ص: 47

فلان قد شقي شقاء لا يسعد بعده أبدًا.

وتصور الصراط وهو الجسر المنصوب على متن جهنم قدامك وتصور ما يحل بك من الوجل والخوف الشديد حين رفعت طرفك فنظرت إليه بدقته وحوضه وجهنم تضطرب وتتغيض وتخفق بأمواجها من تحته.

فيا له من منظر ما أفظعه وأهوله وسماعك شهيقها وتغيظها وقصف أمواجها وجلبة ثورانها من أسفلها وقد اضطررت على المشي عليه وقد مرت عليك صفته.

ثم قيل لك وأنت تنظر إلى الجسر بفظاظته وفظاعته وقيل للخلق معك اركبوا الجسر الذي هو الصراط فتصور حالتك وخفقان قلبك ورجفان جسمك مما عاينت من المزعجات والكروب والشدائد والأهوال وعظائم الأمور وقلة المأكل والمشرب والراحة.

ولما قيل اركب طار عقلك رعبًا وخوفًا ثم إذا رفعت رجلك وأنت تنتفض لتركب الجسر فوقع قدمك على حدته ودقته فازداد فزعك وازداد رجفان قلبك ورفعت رجلك الأخرى وأنت مضطرب تتمروج من شدة الخوف العظيم وقد أثقلتك الأوزار وأنت حاملها على ظهرك وأنت تنظر إلى الناس يتهافتون من بين يديك ومن ورائك.

فتصور مرورك عليه بضعفك وثقلك وأوزارك وقلة حيلتك وأنت مندهش مما تحتك وأمامك ممن يئنون ويزلون وقد تنكست هاماتهم وارتفعت أرجلهم وآخرون يختطفون بالكلاليب وتسمع العويل والبكاء والأصوات المزعجات المناديات بالويل والثبور.

فيا له من منظر فظيع ومرتقى ما أصعبه ومجاز ما أضيقه ومكان من أهوله وموقف ما أشقه وكأني بك مملوء من الذعر والرعب والقلق ملتفتًا يمينًا

ص: 48

وشمالاً إلى من حولك من الخلق وهم يتهافتون قدامك في جهنم وأنت تخشى أن تتبعهم إلى قعر جهنم.

فتصور هذا بعقلك ما دمت في قيد الحياة قبل أن يحال بينك وبينه فلا يفيدك التفكير لعلك أن تتلافى تفريطك وتحاسب نفسك قبل أن يفوت الأوان فتبوء بالفشل والخيبة والحرمان.

وتصور حالتك إن بؤت بالخسران وزلت رجلك عن الصراط ووقعت فيما كنت تحاذر وتخاف وطار عقلك ثم زلت رجلك الأخرى فنكست على هامتك وعلت رجلاك فلم تشعر إلا والكلوب قد دخل في جلدك ولحمك.

فجذبت به وبادرت إليك النار ثائرة غضبانة لغضب مولاها وقد غلب على قلبك الندم والتأسف على أوقات ضيعتها فيما يسخط الله.

وتصور سماعك لنداء النار بقوله عز وجل: {هَلِ امْتَلَأْتِ} [ق: 30] وسمعت إجابتها له {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] . وهي تلتهب في بدنك لها قصيف في جسدك ثم لم تلبث أن تفطر جسمك وتساقط لحمك وبقيت عظامك محترق تطلب منهم ماء أو نحوه فأجابوك بالرد والخيبة فتقطع قلبك حسرة وأسفًا.

قال الله جل وعلا وتقدس: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُواْ إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50] فيا خيبة من هذا حاله وهذا مآله.

لقد تقطع قلبك حزنًا إذ خيبوا أملك فيهم وبما رأيت من غضبهم عليك لغضب ربك عز وجل ففزعت إلى الله بالنداء بطلب الخروج منها فبعد مدة الله أعلم بها جاء الجواب: {اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] .

فلما سمعت النداء بالتخسئة لك ولأمثالك بقي نفسك من شدة الضيق

ص: 49

والألم والحسرة مترددًا في جوفك لا مخرج له فضاقت نفسك ضيقًا شديدًا لا يعلم مداه إلا الله.

وبقيت قلقًا تزفر ولا تطيق الكلام ثم أتاك زيادة حسرة وندامة حيث أطبق أبواب النار عليك وعلى أعدائه فيها فانقطع الأمل كليًا.

فيا إياسك ويا إياس سكان جهنم حين سمعوا وقع أبوابها تطبق عليهم قال الله جل وعلا وتقدس: {إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 9] .

فعلموا عند ذلك أن لا فرج أبدًا ولا مخرج ولا محيص لهم من عذاب الله خلود فلا موت وعذاب لا زوال له عن أبدانهم ودوام حرق قلوبهم.

أحزان لا تنقضي وهموم وغموم لا تنفد وسقم لا يبرأ وقيود لا تحل وأغلال لا تفك قال تعالى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 72] .

وقال تعالى: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 22] .

ثم أطلعت النار على ما في جوفك فأكلت ما فيه وأنت تنادي وتستغيث فلا ترحم حتى إذا طال فيها مكثك واشتد بك العطش.

فذكرت الشراب في الدنيا فزعت إلى الجحيم فتناولت الإناء من يد الخازن الموكل بعذابك فلما تناولته تمزعت كفك من تحته واحترقت من حرارته ثم قربته إلى فمك والألم بالغ منك كل مبلغ فشوى وجهك وتساقط لحمه.

ص: 50

ثم تجرعته فسلخ حلقك ثم وصل إلى جوفك فقطع أمعاءك قال الله جل وعلا: {وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} [محمد: 15] . وقال جل وعلا وتقدس: {وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17] .

ثم ذكرت شراب الدنيا وبرده ولذته فبادرت إلى الحميم لتبرد به كبدك كما تعودت في الدنيا فسقيت فقطع أمعاءك والحميم شراب كالنحاس المذاب يقطع الأحشاء والأمعاء ثم بادرت إلى النار رجاء أن تكون أهون منه ثم اشتد عليك حريق النار فرجعت إلى الحميم قال الله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] وقال في الآية الأخرى: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 72] .

فقدر نفسك مع الضائعين والخاسرين لعلك أن تلحق بالأبرار والمقربين وتصور حالتك لما اشتد بك الكرب والعطش وبلغ منك كل مبلغ وذكرت الجنان وما فيها من النعيم المقيم والعيش السليم.

وهاجت الأحزان وهاجت غصة في فؤادك إلى حلقك أسفًا على ما فات من رضا الله عز وجل وحزنًا على نعيم الجنة.

ثم ذكرت شرابها وبرد مائها وذكرت أن فيها بعض القرابة من أب أو أم أو ابن أو أخ أو غيرهم من القرابة أو الأصدقاء في الدنيا فناديتهم بقلب محزون.

لا يرحم بكاؤهم ولا يجاب دعاؤهم ولا يغاثون عند تضرعهم ولا تقبل توبتهم ولا تقال عثرتهم غضب الله عز وجل عليهم فلا يرضى عنهم أبدًا فمثل نفسك بهذا الوصف إن لم يعف عنك ربك لعلك أن تستيقظ فتستدرك.

ص: 51

فلو رأيت المعذبين وقد أكلت النار لحومهم ومحت محاسن وجوههم واندرس تخطيطهم فبقيت العظام محترقة مسودة وقد قلقوا من شدة تكرر العذاب الأليم قال تعالى: {وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} [الحجر: 50] .

وهم ينادون بالويل والثبور ويصرخون بالبكاء والعويل قال الله جل وعلا وتقدس: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر: 37]، وقال:{وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 14] .

فلو رأيتهم لذاب قلبك فزعًا ورعبًا من سوء خلقهم ولخرجت روحك من نتن رائحتهم فيكف لو نظرت نفسك وأنت فيهم وقد زال من قلبك الأمل والرجاء ولزمك القنوط والإياس فمثل نفسك لعلك أن تتأثر فتستعد للقاء الله.

ونظرت إلى النار وهي تشتعل في أجزاء بدنك فتدخل أذنيك وعينيك ولا تقدر على إبعادها عنك لملازمتها لك قال الله تعالى: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 66] . فهناك يغلب على قلبك التأسف والحسرات والندامة قال جل وعلا وتقدس: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ} [مريم: 39] .

فتصور تلك الأهوال والعظائم بعقل فارغ وعزيمة صادقة وراجع نفسك ما دمت في قيد الحياة وتب إلى الله توبة نصوحًا عن ما يكره مولاك وتضرع إليه وابك من خشيته لعله يرحمك ويقيل عثرتك فإن الخطر عظيم والبدن ضعيف والموت منك قريب.

انتهى بتصرف من كلام المحاسبي رحمه الله.

ص: 52

مَثِّلْ وُقُوفَكَ يَوْمَ الْحَشْرِ عِريَانا

مُسْتَعْطِفًا قَلِقَ الأحْشَاءِ حَيْرانَا

النَّارُ تَزْفُر مِنْ غَيْظٍ وَمِن حَنَقٍ

عَلَى العُصَاةِ وَتَلْقَ الرَّبَ غَضْبَانَا

اقْرَأ كِتَابَكَ يَا عَبْدِي عَلَى مَهَلٍ

وَانْظُرْ إِليه تَرَى هَل كَانَ مَا كَانا

لَمَّا قَرَأت كِتابًا لَا يُغَادِر لِي

حَرفًا وَمَا كَانَ فِي سِرٍّ وَإعْلانَا

قال الجليل خُذُوْهُ يَا مَلَائِكَتِي

مُرُوا بِعَبْدِي إِلَى النِّيْرَانِ عَطْشَانًا

يَا رَبِّ لَا تَخْزِنَا يَوْمَ الْحِسَابِ وَلا

تَجْعَلْ لَنَارِكَ فِيْنَا اليَوْمَ سُلْطَانَا

اللهم ارزقنا أنفسًا تقنع بعطائك، وترضى بقضائك، وتصبر على بلائك، وتوقن بلقائك وتشكر لنعمائك وتحب أوليائك وتبغض أعداءك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

‌2-[موعظة]

لله در أقوام تركوا الدنيا فأصابوا، وسمعوا منادي الله فأجابوا، وحضروا مشاهد التقى فما غابوا، واعتذروا مع التحقيق ثم تابوا وأنابوا، وقصدوا باب مولاهم فما ردوا ولا خابوا.

قال عمرو بن ذر لما رأى العابدون الليل قد هجم عليهم، ونظروا إلى أهل الغفلة قد سكنوا إلى فرشهم ورجعوا إلى ملاذهم.

قاموا إلى الله سبحانه وتعالى فرحين مستبشرين بما قد وهب الله لهم من السهر وطول التهجد.

فاستقبلوا الليل بأبدانهم، وباشروا ظلمته بصفاح وجوههم، فانقضى عنهم الليل، وما انقضت لذتهم من التلاوة، ولا ملت أبدانهم من طول العبادة،

ص: 53

فأصبح الفريقان وقد ولى الليل بربح وغبن.

فاعملوا في هذا الليل وسواده، فإن المغبون من غبن الدنيا والآخرة، كم من قائم لله تعالى في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في ظلمة حفرته.

[فصل]

ويقابل دار الأشقياء التي تقدمت قريبًا دار أخرى دار قرار ونعيم وسرور وحبور وأمن وصحة وحياة أبدية فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

دار جعلها الكريم جل وعلا دار ضيافة، يُكرم فيها عباده الأخيار الذين وفقهم لخدمته والعمل بطاعته.

ولا تظن هذه الضيافة محدودة، ولا أن الكرامة فيها تنتهي بل كل ما تحبه وتتمناه أمامك إن كنت من أهل العفو والتجاوز فتوهم إن تفضل الله عليك بالعفو والتجاوز (أي تصور ممرك على الصراط) .

ونورك يسعى بين يديك وعن يمينك، وكتابك بيمينك مبيض الوجه.

قال الله جل وعلا: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] وقد أيقنت برضاه عنك وأنت على الصراط مع زمرة العابدين ووفود المتقين.

والملائكة تنادي: سلم سلم، والوجل مع ذلك لا يفارق قلبك ولا قلوب المؤمنين، تنادي وينادون:{رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8] .

فتدبر حين رأوا المنافقين طفئ نورهم، وهاج الوجل في قلوبهم، فدعوا بتمام النور والمغفرة.

ص: 54

فتوهم أي تصور وتخيل وتمثل نفسك، وأنت تمر خفيفًا مع الوجل وتصور ممرك على قدر خفة أوزارك وثقلها وقد انتهيت إلى آخره.

فغلب على قلبك النجاة، وقد عاينت نعيم الجنان وأنت على الصراط، فحن قلبك على جوار الله عز وجل، واشتاق إلى رضا الله.

حتى إذا صرت إلى آخره خطوات بأحد رجليك إلى العرصة (أي عرصة القيامة) التي بين آخر الجسر وبين باب الجنة، فوضعتها على العرصة التي بعد الصراط، وبقيت القدم الأخرى، على الصراط، والخوف والرجاء قد اعتليا في قلبك وغلبا عليك.

ثم ثنيت بالأخرى، فجزت الصراط كله واستقرت قدماك على تلك العرصة، وزلت عن الجسر ببدنك، وخلفته وراء ظهرك.

وجهنم تضطرب من تحت من يمر عليها، وتثب على من زل عنه مغتاظة تزفر عليه وتشهق إليه.

ثم التفت إلى الجسر فنظرت إليه باضطرابه، ونظرت إلى الخلائق من فوقه، وإلى جهنم من تحته تثب وتزفر على الذين زلزلوا عن الصراط.

لها في رءوسهم وأنحائهم قصيف، فطار قلبك فرحًا إذ نجوت بضعفك من النار وخلفت النار وجسرها من وراء ظهرك متوجهًا إلى جوار ربك.

ثم خطوت آمنًا إلى باب الجنة امتلأ قلبك سرورًا وفرحًا، فلا تزال في ممرك بالفرح والسرور حتى توافي أبوابها.

فإذا وافيت بابها استقبلك بحسنه، فنظرت إلى حسنه ونوره وحسن صورة الجنة وجدرانها.

وقلبك مستطير فرح مسرور متعلق بدخول الجنة حين وافيت بابها أنت وأولياء الرحمن.

ص: 55

فتوهم –أي: تخيل وتصور- نفسك في ذلك الموكب، وهم أهل كرامة الله ورضوانه، مبيضة وجوههم، مشرقة برضا الله، مسرورون فرحون مستبشرون، وقد وافيت باب الجنة بغبار قبرك، وحر المقام ووهج ما مر بك.

فنظرت إلى العين التي أعدها الله لأوليائه وإلى حسن مائها، فانغمست فيها مسرورًا، لما وجدت من برد مائها وطيبه، فوجدت لها بردًا وطيبًا، فذهب عنك بحزن المقام.

وطهرك من كل دنس وغبار، وأنت مسرور لما وجدت من طيب مائها لما باشرته، وقد أفلت من وهج الصراط وحره، لأنه قد يوافي بابها من أحرقت النار بعض جسده بلفحها وقد بلغت منه.

فما ظنك وقد انفلت من حر المقام ووهج أنفاس الخلائق، ومن شدة توهج حر الصراط فوافيت باب الجنة بذلك، فلما نظرت إلى العين قذفت بنفسك فيها.

فتوهم –أي: تصور وتخيل- فرحة فؤادك لما باشر برد مائها بدنك بعد حر الصراط، ووهج القيامة، وأنت فرح لمعرفتك أنك إنما تغتسل لتتطهر لدخول الجنة والخلود فيها.

فأنت تغتسل منها دائبًا، ولونك متغير حسنًا، وجسدك يزداد نضرة وبهجة ونعيمًا، ثم تخرج منها في أحسن الصور وأتم النور، اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها، اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا محبة أوليائك وبغض أعدائك وهجرانهم والابتعاد عنهم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 56

(فصل)

فتوهم –أي: تصور وتخيل- فرح قلبك حين خرجت منها فنظرت إلى كمال جمالك، ونضارة وجهك وحسنه، وأنت عالم موقن بأنك تتنظف للدخول إلى جوار ربك.

ثم تقصد إلى العين الأخرى، فتتناول من بعض آنيتها فتوهم نظرك إلى حسن الإناء، وإلى حسن الشراب، وأنت مسرور بمعرفتك أنك إنما تشرب هذا الشراب لتطهر جوفك من كل غل، وجسدك ناعم أبدًا.

حتى إذا وضعت الإناء على فيك ثم شربته، وجدت طعم شراب لم تذق مثله، ولم تعود شربه، فيسلس من فيك إلى جوفك، فطار قلبك سرورًا لما وجدت من لذته، ثم نقي جوفك من كل آفة.

فوجدت لذة طهارة صدرك من كل طبع كان فيه ينازعه إلى الغموم والهموم والحرص والشدة والغضب والغل، فيا برد طهارة صدرك، ويا روح ذلك على فؤادك.

حتى إذا استكملت طهارة القلب والبدن، واستكمل أحباء الله ذلك معك، والله مطلع يراك ويراهم.

أمر مولاك الجواد المتحنن خزان الجنة من الملائكة، الذين لم يزالوا مطيعين خائفين منه مشفقين وجلين من عقابه إعظامًا له وإجلالاً، وهيبة له، وحذرًا من نقمه، وأمرهم أن يفتحوا باب جنته لأوليائه.

فانحدروا من دارها، وبادروا من ساحاتها، وأتوا باب الجنة فمدوا أيديهم ليفتحوا أبوابها.

وأيقنت بذلك، فطار قلبك سرورًا، وامتلأت فرحًا وسمعت حسن

ص: 57

صرير أبوابها، فعلاك السرور، وغلب على فؤادك، فيا سرور قلوب المفتوح لهم باب جنة رب العالمين.

فلما فتح لهم بابها، هاج نسيم طيب الجنان، وطيب جَرْى مائها، فنفح وجهك، وجميع بدنك وثارت أراييح الجنة العبقة الطيبة.

وهاج ريح مسكها الأذفر، وزعفرانها المونع، وكافورها الأصفر، وعنبرها الأشهب، وأرياح طيب ثمارها وأشجارها، وما فيها من نسيمها.

فتداخلت تلك الأراييح في مشامك حتى وصلت إلى دماغك، وصار طيبها في قلبك، وفاض من جميع جوارحك.

ونظرت بعينك إلى حسن قصورها، وتأسيس بنيانها من طرائق الجندل الأخضر من الزمرد، والياقوت الأحمر، والدر الأبيض، قد سطع منه نوره وبهاؤه وصفاؤه.

فقد أكمله الله في الصفاء والنور، ومازجه نور ما في الجنان، ونظرت إلى حجب الله، وفرح فؤادك لمعرفتك أنك إذا دخلتها فإن لك فيها الزيادات، والنظر إلى وجه ربك، فاجتمع طيب أراييح الجنة وحسن بهجة منظرها، وطيب نسيمها، وبرد جوها.

فتصور نفسك إن تفضل الله عليك بهذه الهيئة، فلو مت فرحًا لكان ذلك يحق لك، حتى إذا فتحوا بابها، أقبلوا عليك ضاحكين في وجهك ووجوه أولياء الله معك.

ونادوكم {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] فتوهم حسن نغماتهم، وطيب كلامهم، وحسن تسليمهم، في كمال صورهم، وشدة نورهم.

ثم أتبعوا السلام بقولهم: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] ، فأثنوا عليهم بالطيب والتهذيب من كل دنس ودرن وغل وغش، وكل آفة

ص: 58

في دين أو دنيا، ثم أذنوا لهم على الله بالدخول في جواره.

ثم أخبروهم أنهم باقون فيها أبدًا، فقالوا:{طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73] ، فلما سمعت الأذن وأولياء الله معك بادرتم الباب بالدخول، فكظت الأبواب من الزحام.

فتصور نفسك إن عفا الله عنك في تلك الزحمة مبادرًا مع مبادرين، مسرورًا مع مسرورين، بأبدان قد طهرت ووجوه قد أشرقت وأنارت فهي كالبدر، قد سطع من أعراضهم كشعاع الشمس.

فلما جاوزت بابها، وضعت قدميك على تربتها، وهي مسك أذفر، ونبت الزعفران المونع، والمسك مصبوب على أرض من فضة، والزعفران نابت حولها.

فذلك أول خطوة خطوتها في أرض البقاء بالأمن من العذاب والموت، فأنت تتخطى في تراب المسك، ورياض الزعفران، وعيناك ترمقان حسن بهجة الدر، من حسن أشجارها، وزينة تصويرها.

فبينما أنت تتخطى في عرصات الجنان، في رياض الزعفران، وكثبان المسك، إذ نودي في أزواجك وولدانك وخدامك وغلمانك وقهارمتك، أن فلانًا قد أقبل، فأجابوا واستبشروا لقدومك، كما يبشر أهل الغائب في الدنيا بقدومه.

اللهم أعطنا من الخير فوق ما نرجو وأصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. اللهم إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجاتنا فاقضها كفى بك وليًا وكفى بك نصيرًا يا

ص: 59

رب العالمين اللهم وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

فبينما أنت تنظر إلى قصورك، إذ سمعت جلبتهم وتبشيشهم، فاستطرت لذلك فرحًا، فبينما أنت فرح مسرر بغبطتهم لقدومك لما سمعت إجلابهم فرحًا بك.

إذ ابتدرت القهارمة إليك وقامت الولدان صفوفًا لقدومك، فبينما أتت القهارمة مقبلة إليك، إذ استخف أزواجك للعجلة، فبعثت كل واحدة منهم بعض خدمها لينظر إليك مقبلاً.

ويسرع بالرجوع إليها بقدومك، لتطمئن إليه فرحًا، وتسكن إلى ذلك سرورًا، فنظر إليك الخدم قبل أن تلقاك قهارمتك.

ثم بادر رسول كل واحدة منهن إليها فلما أخبرها بقدومك، قالت كل واحدة لرسولها: أنت رأيته، من شدة فرحها بذلك، ثم أرسلت كل واحدة منهن رسولاً آخر.

فلما جاءت البشارات بقدومك إليهن، لم يتمالكن فرحًا، فأردن الخروج إليك مبادرات إلى لقائك لولا أن الله كتب القصر لهن في الخيام إلى قدومك، كما قال مليكك:{حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72] .

فوضعهن أيديهن على عضائد أبوابهن، وأذرعهن برءوسهن، ينظرن متى

ص: 60

تبدو لهن صفحة وجهك؛ فيسكن طول حنينهن، وشدة شوقهن إليك، وينظرون إلى قرير أعينهن، ومعدن راحتهن، وأنسهن إلى ولي ربهن وحبيب مولاهن.

فتوهم ما عاينت، حين فتحت أبواب قصورك، ورفعت ستوره، من حسن بهجة مقاصيره، وزينة أشجاره، وحسن رياضه، وتلألؤ صحنه. ونور ساحاته.

فبينما أنت تنظر إلى ذلك، إذ بادرت البشرى من خدامك ينادون أزواجك هذا فلان بن فلان قد دخل من باب قصره، فلما سمعن نداء البشراء بقدومك ودخولك، توثبن من الفرش على الأسرة في الحجال.

وعينك ناظرة إليهن في جوف الخيام والقباب، فنظرت إلى وثوبهن مستعجلات، قد استخفهن الفرح، والشوق إلى رؤيتك.

فتخيل تلك الأبدان الرخيمة الرعبوبة الخريدة الناعمة، يتوثبن بالتهادي والتبختر.

فتصور كل واحدة منهن، حين وثبت في حسن حللها وحليتها بصباحة وجهها، وتثني بدنها بنعمته.

فتوهم إنحدارها مسرعة بكمال بدنها، نازلة عن سريرها إلى صحن قبتها، وقرار خيمتها، فوثبن حتى أتين أبواب خيامهن وقبابهن.

ثم أخذن بأيديهن عضائد أبواب خيامهن للقصر، الذي ضرب عليهن إلى قدومك، فقمن آخذات بعضائد أبوابهن.

ثم خرجن برءوسهن ووجوههن، ينحدرن من أبواب قبابهن، متطلعات،

ص: 61

ينظرن إليك، مقبلات قد ملئن منك فرحًا وسرورًا.

وتخيل نفسك بسرور قلبك وفرحه، وقد رمقتهن على حسن وجوههن، وغنج أعينهن.

فلما قابلت وجوههن حار طرفك، وهاج قلبك بالسرور، فبقيت كالمبهوت الذاهل من عظيم ما هاج في قلبك من سرور ما رأت عيناك، وسكنت إليه نفسك.

فبينما أنت ترفل إليهن، إذ دنوت من أبواب الخيام، فأسرعن مبادرات قد استخفهن العشق، مسرعات يتثنين من نعيم الأبدان، ويتهادين من كمال الأجسام.

ثم نادتك كل واحدة منهن: يا حبيبي ما أبطأك علينا؟ فأجبتها بأن قلت: يا حبيبة ما زال الله عز وجل يوقفني على ذنب كذا وكذا حتى خشيت أن لا أصل إليكن.

فمشين نحوك في السندس والحرير، يثرن المسك، وشوقًا وعشقًا لك.

فأول من تقدمت منهن مدت إليك بنانها ومعصمها وخاتمها وضمتك إلى نحرها فانثنيت عليها بكفك وساعدك حتى وضعته على قلائدها من حلقها، ثم ضممتها إليك وضمتك إليها.

فتوهم نعيم بدنها لما ضمتك إليها كاد أن يداخل بدنك بدنها من لينه ونعيمه.

فتوهم ما باشر صدرك من حسن نهودها، ولذة معانقتها ثم شممت طيب عوارضها، فذهب قلبك من كل شيء سواها حتى غرق في السرور، وامتلأ فرحًا، لما وصل إلى روحك من طيب مسيسها، ولذة روائح عوارضها.

فلما استمكنت خفة السرور من قلبك، وعمت لذة الفرح جميع بدنك،

ص: 62

وموعد الله عز وجل في سرورك، فناديت بالحمد لله الذي صدقك الوعد، وأنجز لك الموعد. ثم ذكرت طلبك إلى ربك إياهن بالدءوب والتشمير.

فأين أنت في عاقبة ذلك العمل الذي استقبلته وأنت تلتثمهن وتشم عوارضهن {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] .

اللهم إنا نعوذ بك من الشك بعد اليقين، ومن الشيطان الرجيم، ومن شدائد يوم الدين، ونسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم ارحمنا إذا عرق الجبين واشتد الكرب والأنين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله أجمعين.

(فصل)

فتوهم صعودها على السرير بعظيم بدنها ونعيمه، حتى استوت عليه جالسة، ثم ارتقيت على السرير، فاستويت عليه معها، فقابلتك وأنت مقابلها، فيا حسن منظرك إليها جالسة في حالها وحُليها بصباحة وجهها ونعيم جسمها! الأساور في معاصمها، والخواتم في أكفها، والخلاخيل في أسواقها، والقلائد في عنقها، والأكاليل من الدر والياقوت على قصتها وجبينها، والتاج من فوق ذلك على رأسها، والذوائب من تحت التاج، قد حل من مناكبها، وبلغ أردافها، ترى وجهك في نحرها، وهي تنظر إلى وجهها في نحرك.

وقد تدلت الأشجار بثمارها من جوانب حجلتك، واطردت الأنهار حول قصرك، واستعلى الجداول على خيمتك بالخمر والعسل واللبن والسلسبيل.

وقد كمل حسنك وحسنها، وأنت لابس الحرير والسندس، وأساور

ص: 63

الذهب واللؤلؤ على كل مفصل من مفاصلك، وتاج الدر والياقوت منتصف فوق رأسك، وأكاليل الدر مفصصة بالنور على جبينك.

وقد أضاءت الجنة وجميع قصورك من إشراق بدنك ونور وجهك، وأنت تعاين من صفاء قصورك جميع أزواجك وخدمك وجميع أبنية مقاصيرك.

وقد تدلت عليك ثمار أشجارك، واطردت أنهارك من الخمر واللبن من تحتك، والماء والعسل من فوقك، وأنت جالس مع زوجتك على أريكتك، وقد فتحت مصاريع أبوابك، وأرخيت عليك حجال خيمتك، وحفت الخدام والولدان بقبتك، وسمعت زجلهم بالتقديس لربك عز وجل.

وأنت وزوجك بأكمل الهيئة وأتم النعمة، وقد حار فيها طرفك تنظر إليها متعجبًا من جمالها وكمالها، طرب قلبك بملاحتها، وأنس قلبك بها من حسنها، فهي منادمة لك على أريكتك، تنازعك وتعاطيك الخمر والسلسبيل والتسنيم في كاسات الدر وأكاويب قوارير الفضلة.

فتوهم الكأس من الياقوت والدر في بنانها، وقد قربت إليك ضاحكة بحسن ثغرها، فسطع نور بنانها في الشراب، مع نور وجهها ونحرها، ونور الجنان، ونور وجهك وأنت مقابلها، واجتمع في الكأس الذي في بنانها نور الكأس، ونور الشراب، ونور وجهها، ونور نحرها، ونور ثغرها، انتهى بتصرف.

وقال ابن القيم:

فَاسْمَعْ صِفَاتِ عَرَائِس الْجَنَّاتِ ثُمَّ

اخْتَر لنَفْسُكَ يَا أَخَا العِرْفَانِ

حُوْرٌ حِسَانٌ قَدْ كَمَلْنَ خَلائِقًا

وَمَحَاسِنًا مِنْ أَجْمَلِ النِّسْوَانِ

ص: 64

حَتَّى يَحَارُ الطَّرْفِ فِي الْحُسْنِ الَّذِي

قَدْ ألْبِسَتْ فَالطَّرْفُ كَالْحَيْرَانِ

وَيَقولُ لَمَّا أَنْ يُشَاهِدَ حُسْنَهَا

سُبْحَان مُعْطِي الْحُسْنِ وَالإِحْسَانِ

وَالطَّرْفُ يَشْرَبُ مِن كِئوسِ جَمَالِهَا

فَتَراهُ مِثْلَ الشَّارِب النَّشْوَانِ

كملت خلائقها وأكمل حسنها

كالبدر ليل الست بعد ثمان

والشمس تجري في محاسن وجهها

والليل تحت ذوائب الأغصان

فتراه يعجب وهو موضع ذاك من

ليل وشمس كيف يجتمعان

فيقول سبحان الذي ذا صنعه

سبحان متقن صنعة الإنسان

وكلاهما مرآة صاحبه إذا

ما شاء يبصر وجهه يريان

فيرى محاسن وجهه في وجهها

وترى محاسنها به بعينان

حمر الخدود ثغورهن لآليء

سود العيون فواتر الأجفان

والبدر يبدو حين يبسم ثغرها

فيضيء سقف القصر بالجدران

ولقد روينا أن برقًا ساطعًا

يبدو فيسأل عنه من بجنان

فيقال هذا ضوء ثغر ضاحك

في الجنة العليا كما تريان

لله لاثم ذلك الثغر الذي

في لثمه إدراك كل أمان

ريانة الأعطاف من ماء الشبا

ب فغصنها بالماء ذو جريان

لما جرى ماء الشباب بغصنها

حمل الثمار كثيرة الألوان

فَالوَرد والتُّفَاحُ والرُّمَان فِي

غُصْنٍ تَعَالَى غَارِسُ البُسْتَانِ

وَالقَدُّ مِنْهَا كَالقَضِيْبِ اللذن في

حُسْنِ القوام كأَوْسَطِ القُضْبَانِ

إلى أن قال رحمه الله:

وَإْذَا بَدتَ فِي حُلَّةٍ مِن لُبْسِهَا

وَتَمَايَلَتْ كَتَمَايُلِ النَّشْوَانِ

ص: 65

تَهْتَزُّ كَالغْصَنِ الرَّطِيْبِ وَحَمْلُه

وَرْدٌ وَتفَاحٌ عَلَى رُمَّانِ

وَتَبَخْتَرَتْ فِي مَشْيِهَا وَيَحقُ ذَا

كَ لِمْثْلِهَا فِي جَنَّةِ الْحَيَوانِ

وَوَصَائِفٌ مِن خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا

وَعَلَى شَمَائِلهَا وَعَن أَيْمَانِ

كَالبَدْرِ لَيْلَةَ تِمِّهِ قَدْ حُفَّ فِي

غَسَقِ الدُّجَى بِكَواكِبِ الْمِيزَانِ

فَلِسَانُهُ وَفُؤادُهُ والطَّرفُ فِي

دَهَشٍ وَإِعْجَابٍ وَفِي سُبْحَانِ

فَالقَلبُ قَبْلَ زِفَافِهَا فِي عُرْسِهِ

وَالعُرَسُ إثْرَ العُرْس مُتَّصِلانِ

حَتَّى إِذَا مَا وَاجَهَتْهُ تَقَابَلا

أَرَأَيْتَ إِذْ يَتَقَابَلُ القَمَرَانِ

فَسلِ الْمُتَيَّم أَيْنَ خَلَّفَ صَبْرَهُ

فِي أَيْ وَادٍ أَمْ بِأيّ مَكَانِ

وَسَلِ الْمُتَيَّم كَيْفَ حَالَتُه وَقَدْ

مُلِئَتْ لَهُ الأُذْنَانِ وَالعَيْنَانِ

مِن مَنِطقٍ رَقَّتْ حَوَاشِيْهِ وَوَجْـ

ـه كَمْ بِهِ لِلشَّمْسِ مِن جَرَيَانِ

وَسَلْ الْمُتَيَّمَ كَيْفَ عِيْشَتَه إذًا

وَهُمَا عَلَى فُرَشَيْهِمَا خَلَوَانِ

يَتَسَاقَطَانِ لَئِالئًا مَنْثُورَةً

مِن بَيْنَ مَنْظُومٍ كَنَظْمِ جُمَانِ

وَسَلِ الْمُتَيَّم كَيْفَ مَجْلِسُه مَعَ الْـ

مَحْبُوب فِي رَوْحٍ وَفِي رَيْحَانِ

وَتَدورُ كَاسَات الرَّحِيْقِ عَلَيْهِمَا

بأكُفٍ أَقْمارٍ مِن الولْدَانِ

يَتَنَازَعَانِ الكَأسَ هَذا مَرَّةَ

وَالْخُودُ أُخْرَى ثُمَّ يَتَكِئَانِ

فَيَضُمُّهَا وَتَضُمُّهُ أَرَأَيْتَ مَعْـ

شُوْقَيْنِ بَعدَ البُعْدِ يَلْتَقِيَانِ

غَابَ الرَّقِيْبُ وَغَابَ كُلْ مَنْكَدٍ

وَهُمَا بِثَوْبِ الوَصْلِ مُشْتَمِلانِ

أَتْرَاهُمَا ضَجرَيْنِ مِن ذَا العَيْشِ لَا

وَحَياةِ رِبِّكَ مَا هُمَا ضَجرَان

وَيزَيْدُ كُلُّ مِنْهُمَا حُبًا لِصَا

حِبْهِ جَدِيْدًا سَائر الأَزْمَانِ

وَوَصَالُهُ يَكْسُوه حُبًّا بَعْدَهُ

مُتَسَلْسِلاً لَا يَنْتَهِي بِزَمَانِ

ص: 66

فَالوَصْلُ مَحْفُوف بحب سابق

وبلاحق وكلاهما صنوان

فرق لطيف بَيْنَ ذاك وبين ذا

يدريه ذو شغل بهذا الشان

ومزيدهم في كل وقت حاصل

سبحان ذي الملكوت والسلطان

يا غافلاً عما خلقت له انتبه

جد الرحيل ولست باليقظان

سار الرفاق وخلفوك مع الأولى

قنعوا بذا الحظ الخسيس الفان

ورأيت أكثر من ترى متخلفًا

فتبعهم فرضيت بالحرمان

لكن أتيت بخطتي عجز وجهـ

ـل بعد ذا وصحبت كل أمان

منتك نَفْسُكَ بالحوق مع القعو

د عن المسير وراحة الأبدان

ولسوف تعلم حين ينكشف الغطا

ماذا صنعت وكنت ذا إمكان

وقال ابن القيم رحمه الله:

فَيَا سَاهيًا فِي غَمْرِة الجَّهْلِ والْهَوَى

صَرِيْعَ الأَمَانِي عَنْ قَرِيبٍ سَتَنْدَمُ

أَفِقْ قَدْ دَنَى الوَقْتُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ

سِوَى جَنَّةٍ أَوْ حَرِّ نَارٍ تَضَرَّمُ

وَبِالسُّنَّةِ الغَرَّاءِ كُنْ مُتَمَسِّكًا

هِي العُرْوَةُ الوُثْقَى الَّتِي لَيْسَ تُفْصَمُ

تَمَسَّكْ بِهَا مَسْكَ البَخِيْل بِمَالِهِ

وَعَضَّ عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ تَسْلَمُ

وَدَعْ عَنْكَ مَا قَدْ أَحْدَثَ النَّاسُ بَعْدَهَا

فَمَرْتَعُ هَاتِيْكَ الْحَوَادثِ أَوْخَمُ

وَهَيِّئ جَوابًا عِنْدَمَا تَسْمَعُ النِّدَا

مِنْ اللهِ يَوم العَرْضِ مَاذَا أَجَبْتُمُ

بِهِ رُسُلِيْ لَمَّا أَتَوْكُمْ فَمِنْ يَكُنْ

أَجَابَ سوَاهُمْ سَوْفَ يُخْزَى وَيَنْدَمُ

وَخُذْ مِن تُقَى الرَّحْمَنِ أَعْظَمَ جُنَّةٍ

لِيَوْمٍ بِهِ تَبْدُو عِيَانًا جَهَنَّمُ

وَيُنْصَبُ ذَاكَ الْجِسْرُ مِنْ فَوْقَ مَتْنِهَا

فَهَاوٍ وَمَخْدُوْشٌ وَنَاجٍ مُسَلَّمُ

وَيَأْتِي إِلَهُ العَالَمِيْنَ لِوَعْدِهِ

فَيَفْصِلُ مَا بَيْنَ العِبَادِ وَيَحْكُمُ

ص: 67

وَيَأْخُذُ لِلمَظْلُومِ رَبُّكَ حَقَّهُ

فَيَا بُؤْسَ عَبْدٍ لِلْخَلائِقِ يَظْلِمُ

وَيَنْشُرُ دِيْوَانُ الْحِسَابِ وَتُوْضَعُ الْـ

ـمَوازِيْنُ بِالقِسْط الَّذِي لَيْسَ يَظْلِمُ

فَلا مُجْرِمٌ يَخْشَى ظَلَامَةَ ذَرَّةٍ

وَلَا مُحْسِنٌ مِن أَجْرِه ذَاكَ يَهْضَمُ

وَتَشْهَدُ أَعْضَاءُ الْمُسِيء بِمَا جَنَى

كَذَاكَ عَلَى فِيْهِ الْمَهَيْمِنُ يَخْتُمُ

فَيَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ حَالُكَ عِنْدَمَا

تَطَايَرُ كُتْبُ العَالَمِيْنَ وَتُقْسَمُ

أَتَأْخُذُ بِاليُمْنَى كَتَابَكَ أَمْ تَكُنْ

بِالأُخْرَى وَرَاءَ الظَّهْرِ مِنْكَ تَسَلَّمُ

وَتَقْرَأ فِيْهَا كَلَّ شِيء عَمِلْتَهُ

فَيْشْرَقُ مِنْكَ الوَجْهُ أَوْ هُوَ يَظْلِمُ

تَقُوْلُ كِتَابِي فَاقْرَؤُهْ فَإِنَّهُ

يُبَشِّرُ بِالفَوْزِ العَظِيْمِ وَيَعْلَمُ

وَإِنْ تَكُنْ الأُخْرَى فَإِنَّكَ قاَئِلٌ

أَلا لَيْتَنِي لَمْ أوْتَه فَهُوَ مَغْرَمُ

فَبَادِرْ إذًا مَا دَامَ فِي العُمْرِ فُسْحَةٌ

وَعَدْلُكَ مَقْبُوْلٌ وَصَرْفُكَ قَيِّمُ

وَجُدَّ وَسَارِعْ وَاغْتَنِمْ زَمَنَ الصِّبَا

فَفِي زَمْن الإمْكَانِ تَسْعَى وَتَغْنَمُ

وَسِرْ مُسْرِعًا فَالْمَوتُ خَلْفَكَ مُسْرِعًا

وَهَيْهَاتَ مَا مِنْهُ مَفَرٌ وَمَهْزَمٌ

اللهم ألهمنا القيام بحقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يا قاضي الحاجات ويا مجيب الدعوات هب لنا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه وأملناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في ضمائر الصامتين، أذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك، يا أرحم الراحمين وصل الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

ص: 68

(فصل)

قال ابن الجوزي رحمه الله: الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذنوب خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه سبحانه ولا ينال لذة المعاصي إلا دائم الغفلة، فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي وهو الله فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سكر الهوى كان القلب متنغصًا بهذه المراقبات وإن كان الطبع في شهوته فما هي إلا لحظة ثم خزي دائم وندم ملازم وبكاء متواصل وأسف على ما كان مع طول الزمان حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأف للذنوب ما أقبح آثارها وأسوء أخبارها انتهى.

‌3- (موعظة)

عباد الله اعتاد الناس أن من طلب شيئًا من نفائس الدنيا لا يهدأ ولا ينام، بل يسعى للوصول إليه، ليله ونهاره، سعي النشيط الهمام، وكلما سد في وجهه باب، قرع بابًا آخر، وإن تعدد الأبواب، كما هو دأب الحريص المقدام، وكلما نظر إلى قدر ما يطلب هان عليه السعي، وما يلقاه من مصاعب ومتاعب وآلام والعجيب أنه لا يمل ولا يسأم، وإن واصل السعي سنين، وأعجب من ذا أنه لا ينثني عن مطلوبه، وإن مس شرفه وأهين، وإن استصعب عليه الوصول، استعان بذوي الوجاهة المحترمين، ولا يزال هذا يواصل السعي حتى يصل مبتهجًا إلى ماله من مرام. أنت تطلب الجنة يا هذا

ص: 69

ولا نفيس أنفس منها لأنها لا تفنى ولا تبيد، ولأن لك فيها ما اشتهت نفسك، ولذت عينك دون أي تقييد، ولأنك خالد فيها أبدًا دون أن يكدر، بأي مكدر، ذلك العيش الرغيد فهل شمرت عن ساق وسعيت للوصول إليها، كما تسعى فقط لذلك الفاني من الحطام، المشاهد أنك لا تسعى لتلك الجنة ولا يخطر لك السعي إليها على بال، ولو أنك ساويتها في السعي إليها بأي مطلوب دنيوي لكنت من عظماء الرجال، ولكن يا للأسف لم يكن من ذلك شيء، والسعي للجنة لا يكون بالكلام، ولا بالأماني والأحلام، ولكن بصالحات الأعمال، وهل تزهدت أنت في شيء كما تزهدت في تلك الأعمال الفخام، ولذلك أجرى الله العادة أن من خاف شيئًا من مؤلمات الدنيا يبعد عنه ويفر، كل الفرار، ويذهب هدوؤه وطمأنينته، وربما ذهب نومه اضطرارًا لا اختيارًا ولا يطمئن بعض الاطمئنان إلا إذا احترس منه بكل ما يقدر عليه من أعوان، وأنصار، يفعل كل ذلك لئلا يصل إليه من الأذى ما يكدر عليه حياته، وصفوها، جهنم يا هذا أعظم مخوف فهل عملت الاحتياط لها كما تحتاط لمخوفات هذه الدار.

الذي يتبادر منك ويظهر أن إيمانك بها ضعيف، وأنك لم تعمل أي احتياط لها، فلو كان إيمانك قوي في قوله تعالى:{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23] . لسعيت جهدك في الأعمال الصالحات، التي تحول بينك وبينها ولأزعجك وأقلقك ولم تهنأ بنوم ولا طعام وشراب، وأمامك تلك العقبات، شعرًا:

وَكَيْْفَ تَنَامُ العَيْنَ وَهِيَ قَرِيْرَةٌ

وَلَمْ تَدْرِ فِي أَيْ الْمَكَانَيْنَ تَنْزِلُ

اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع

ص: 70

الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصل الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

وصايا وفوائد ومواعظ وآداب

أوصى بعضهم، فقال إذا عصيت الله بموضع بأن حصل منك ذنب فاعمل في ذلك الموضع طاعة كاستغفار وذكر لله ونحو ذلك فكما يشهد عليك يشهد لك.

قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] . وكلما تذكرت ذنبًا صدر منك فتب عقب ذكرك إياه توبة نصوحًا وأكثر من الاستغفار.

قال الله جل وعلا: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] .

وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135] . وقال تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 110] .

احرص على أن تنوي فعل الخير، وإذا حدثتك نفسك بشر فاعزم على تركه لله.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال: الله عز وجل: «إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها فأنا أكتبها بعشر أمثالها وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها» . ومما أوصى به بعضهم قال عليك بذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنبك في السر والعلانية وفي الملا.

ص: 71

قال الله جل وعلا: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] . وقال: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب: 35] . وقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] .

وقال تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال: 45] .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرًا، تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» .

احرص على صيانة الوقت وثابر على إتيان جميع ما يقربك إلى الله من الأعمال وبالأخص الإكثار من كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله.

واعلم أنها كلمة التوحيد والتوحيد لا يماثله شيء، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السلام، وهي كلمة الحق، ودعوة الحق.

وهي أعلا كلمة وأشرف كلمة وأحسن كلمة وأفضل كلمة وأنجى كلمة وما أنعم الله على عبد نعمة أفضل من أن عرفه لا إله إلا الله وفهمه معناها ووفقه للعمل بمقتضاها وعليك بالقيام بما افترض الله عليك وملازمته على الوجه الأكمل الذي أمرك الله جل وعلا أن تقوم به.

قال الله جل وعلا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] . وفي حديث سفيان بن عبد الله قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك قال: «قل آمنت بالله ثم استقم» . رواه مسلم.

وفي حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «استقيموا ولن تحصوا واعلموا

ص: 72

أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن» . وفي رواية للإمام أحمد "سددوا وقاربوا ولا يحافظ على الصلاة إلا مؤمن". وعليك بمراعاة أقوالك كما تراعي أعمالك فإن أقوالك من جملة أعمالك قال الله جل وعلا: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 12] .

وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] واحذر الإقامة بين أظهر الكفار فإن ذلك تشجيعًا للكفار وإهانة لدين الإسلام وإعلاء لكلمة الكفر.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا برئ من كل مسلم يقيم بَيْنَ أظهر المشركين لا ترآءى ناراهما» رواه أبو داود والترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله» . رواه أبو داود.

وعليك بتلاوة القرآن بتفهم وتدبر وتفكر ونظر فيما تتلوه إلى ما حمد فيه من النعوت والصفات التي وصف الله جل وعلا بها من أحبه من عباده فاتصف بها.

وما ذمه الله في القرآن من الصفات فاجتنبها فإن الله جل وعلا ما أنزلها في كتابه وذكرها لك وعرفك بها إلا لتعمل بها.

فإذا قرأت القرآن فاجمع قلبك وحضره وفكر فيما تتلو وما أشكل عليك فطالع معناه في التفسير إن كنت تحسن ذلك وإلا فأسأل أهل الذكر.

قال الله جل وعلا وتقدس: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] . ولا أفضل من تلاوة كلام الله فأفضل الكلام كلام الملك العلام جل وعلا وتقدس.

وكل ذكر ورد فضله في خبر أو أثر فهو بعد كلام الله فالتسبيح

ص: 73

والتهليل والتكبير والتحميد بعد التلاوة وبعدهن الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعليك بمجالسة من تنتفع بمجالسته في دينك من علم تستفيده أو عمل يكون فيه أو خلق حسن يكون عليه تكسبه من صحبته.

وعليك بالبذاذة فإنها من الإيمان وهي ترك الزينة وعدم الترفه ورثاثة الهيئة والرضا بالدون من الثياب لما ورد في الحديث: «إن البذاذة من الإيمان» وفي الحديث الآخر: «إن الله عز وجل يحب المتبذل الذي لا يبالي ما لبس» وفي الحديث الآخر: «ومن ترك لبس ثوب جمال وهو يقدر عليه -أحسبه قال تواضعًا- كساه الله حلة الكرامة» رواه أبو داود. ومن يرتضي أدنى اللباس تواضعًا سيكسى الثياب العبقريات في غد.

اللهم يا حي يا قيوم طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وألسنتنا من الكذب وأعيننا من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وأغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[فائدة عظيمة النفع]

اعلم أن من كان داؤه المعصية، فشفاؤه الطاعة، ومن كان داؤه الغفلة، فشفاؤه اليقظة، ومن كان داؤه كثرة الأشغال، فشفاؤه في تفريغ المال.

فمن تفرغ من هموم الدنيا قلبه، قل تعبه، وتوفر من العبادة نصيبه، واتصل إلى الله مسيره، وارتفع في الجنة مصيره، وتمكن من الذكر والفكر والورع والزهد والاحتراس من وساوس الشيطان، وغوائل النفس.

ومن كثر في الدنيا همه، أظلم طريقه، ونصب بدنه، وضاع وقته، وتشتت شمله، وطاش عقله، وانعقد لسانه عن الذكر، لكثرة همومه وغمومه،

ص: 74

وصار مقيد الجوارح عن الطاعة، من قلبه في كل واد شعبة، ومن عمره لكل شغل حصة.

فاستعذ بالله من فضول الأعمال والهموم فكل ما شغل العبد عن الرب فهو مشئوم، ومن فاته رضى مولاه فهو محروم، كل العافية في الذكر والطاعة، وكل البلاء في الغفلة والمخالفة، وكل الشفاء في الإنابة والتوبة، وانظر أو أن طبيبًا نصرانيًا نهاك عن شرب الماء البارد لأجل مرض في جسدك لأطعته في ترك ما نهاك عنه، وأنت تعلم أن الطبيب قد يصدق وقد يكذب وقد يصيب وقد يخطئ وقد ينصح وقد يغش، فما بالك لا تترك ما نهاك عنه أنصح الناصحين وأصدق القائلين وأوفى الواعدين لأجل مرض القلب الذي إذا لم تشف منه فأنت من أهلك الهالكين.

تَْغِي الوُصُولَ بِسَيْرَ فِيه تَقْصِيْرُ

لَا شَكَّ أَنَّكَ فِيْمَا رُمْتَ مَغْرِوْرُ

قَدْ سَارَ قَبْلَكَ أَبْطَالُ فَمَا وَصَلُوا

هَذا وَفِي سَيْرِهِم جِدٌ وَتَشْمِيْرُ

يَا مُدَّعِي الْحُبَّ فِي شَرْعِ الغَرامِ وَقَد

أَقَامَ بَيِّنَةً لَكِنَّهَا زُوْرُ

أَفْنَيْتَ عُمْرَكَ فِي لَهْوٍ وَفِي لَعِبٍ

هَذَا وَأَنْتَ بَعِيْدُ الدَّارِ مَهْجُوْرُ

لَوْ كَانَ قَلْبُكَ حَيًّا ذُبْتَ مِن كَمَدٍ

مَا لِلْجِرَاحِ بِجِسْمِ الْمَيْتِ تَأْثِيْرُ

وقال ابن القيم رحمه الله إن الذي يحسم مادة رجاء المخلوقين من قلبك هو الرضى بحكم الله عز وجل وقسمه لك.

فمن رضي بحكم الله وقسمه لم يبق لرجاء الخلق في قلبه موضع.

والذي يحسم مادة الخوف هو التسليم لله فإن من سلم لله واستسلم له وعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه.

وما أخطأه لم يكن ليصيبه وعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له لم يبق

ص: 75

لخوف المخلوقين في قلبه موضع أيضًا.

فإن نفسه التي يخاف عليها قد سلمها إلى وليها ومولاها وعلم أنه لا يصيبها إلا ما كتب لها.

وأن ما كتب لها لا بد أن يصيبها فلا معنى للخوف من غير الله.

والذي يحسم مادة المبالات بالناس شهود الحقيقة.

وهو رؤية الأشياء كلها من الله وبالله وفي قبضته وتحت قهره وسلطانه.

لا يتحرك منها شيء إلا بحوله وقوته ولا ينفع ولا يضر شيء إلا بإذنه ومشيئته فما وجه المبالات بالخلق.

اللهم إنا نسألك العافية في الدنيا والآخرة اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا وآخرتنا وأهلنا ومالنا اللهم استر عوراتنا وأمن روعاتنا واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن فوقنا ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال أحد العلماء: لا يكن هم أحدكم في كثرة العمل، ولكن ليكن همه في إحكامه وإتقانه، وتحسينه.

فإن العبد قد يصلي وهو يعصي الله في صلاته، وقد يصوم وهو يعصي الله في صيامه.

وقيل لآخر: كيف أصبحت فبكى، وقال أصبحت في غفلة عظيمة عن الموت مع ذنوب كثيرة قد أحاطت بي، وأجل يسرع كل يوم في عمري، وموئل لست أدري علاما أهجم ثم بكى.

وقال آخر: لا تغتم إلا من شيء يضرك غدًا (أي في الآخرة) ولا تفرح بشيء لا يسرك غدًا، وأنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال الحزن

ص: 76

منك على ما فاتك من الطاعة، وألزمك الفكر في بقية عمرك.

وقال آخر: عليك بصحبة من تذكرك الله عز وجل رؤيته، وتقع هيبته على باطنك ويزيد في عملك منطقه.

ويزهدك في الدنيا عمله، ولا تعصي الله ما دمت في قربه، يعظك بلسان فعله ولا يعظك بلسان قوله.

قال إسرافيل: حضرت ذي النون المصري وهو في الحبس وقد دخل الشرطي بطعام له، فقام ذو النون فنفض يده (أي قبضها عن الطعام) .

فقيل له: إن أخاك جاء به، فقال: إنه على يدي ظالم، قال: وسمعت رجلاً سأله ما الذي أتعب العباد وأضعفهم؟

فقال: ذكر المقام وقلة الزاد، وخوف الحساب، ولم لا تذوب أبدان العمال وتذهل عقولهم، والعرض على الله جل وعلا أمامهم، وقراءة كتبهم بين أيديهم.

والملائكة وقوف بين يدي الجبار ينتظرون أمره في الأخيار والأشرار، ثم مثلوا هذا في نفوسهم وجعلوه نصب أعينهم.

وقال: سقم الجسد في الوجاع، وسقم القلوب في الذنوب، فكما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمهن كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب.

وقال: من لم يعرف قدر النعم، سلبها من حيث لا يعلم.

ما خلع الله على عبد خلعة أحسن ولا أشرف من العقل ولا قلده قلادة أجمل من العلم ولا زينة بزينة أفضل من الحلم وكمال ذلك التقوى.

وقال آخر: أدركت أقوامًا يستحيون من الله في سواد الليل من طول الهجعة، إنما هو على الجنب فإذا تحرك قال لنفسه: ليس لك قومي خذي

ص: 77

حظك من الآخرة.

وقال أبو هاشم الزاهد: إن الله عز وجل وسم الدنيا بالوحشة، ليكن أنس المريدين به دونها، وليقبل المطيعون له بالإعراض عنها، وأهل المعرفة بالله فيها مستوحشون، وإلى الآخرة مشتاقون.

فتفكر يا أخي في ذلك عسى الله أن ينفعنا وإياك واستعن بالله واصبر واجتهد وشمر وبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يحال بينك وبينها فلا تجد إليها سبيلاً.

وكن حذرا من مفاجأة الأجل فإنك غرض للآفات وهدف منصوب لسهام المنايا وإنما رأس مالك الذي يمكنك إن وفقك الله أن تشتري به سعادة الأبد هذا العمر.

إخواني المؤمن يتقلب في الدنيا على جمرات الحذر في نيران الخوف، يرهب العاقبة، ويحذر المعاقبة، فالخوف من النار متمكن من سويداء قلبه.

فإن هفا بأن حصل منه زلة توقدت في قلبه نار الندم، وإن تذكر ذنبًا إضطرمت نار الحزن في باطنه، وإن تفكر في مصيره ومنقلبه التهبت نار الحذر في قلبهن وصار لا يهنؤه طعام ولا شراب.

خُذْ مَا صَفَا لَكَ فَالْحَيَاةُ غُروْرُ

وَالْمَوتُ آَتٍ وَاللَّبِيْبُ خَبِيْرُ

لَا تَعْتِبَنَّ عَلَى الزَّمَانِ فَإِنَّهُ

فَلَكٌ عَلَى قُطْبِ الْهِلاكِ يَدورُ

تَعْفُو السُّطوْرُ إِذَا تَقَادَمَ عَهْدُهَا

وَالْخَلْقُ فِي رِقِّ الْحَيَاةِ سُطُوْرُ

كُلّ يَفرُ مِن الرَّدَى لِيَفُوتَهُ

وَلَه إِلَى مَا فَر مِنْهُ مَصِيْرُ

فَانْظُرْ لنَفْسُكَ فَالسَّلَامَة نُهْزَةٌ

وَزَمَانُهَا ضَافِي الْجَنَاحِ يَطِيْرُ

مِرْآةُ عَيْشِكَ بِالشَّبَابِ صَقِيْلَةٌ

وَجَناحُ عُمْرَك بِالْمَشِيْبِ كَسِيْرُ

ص: 78

بَادِرْ فَإِنَّ الوَقْتَ سَيْفٌ قَاطِعٌ

وَالعُمْرُ جَيْشٌ وَالشَّبَابُ أَسِيْرُ

والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

[فائدة عظيمة النفع]

قال بعض العلماء: ذكر الله تعالى في ابتداء الأقوال والأفعال أنسة من الوحشة وهداية من الضلال.

وحمده جل وعلا فرض لازم لكل أحد على كل حال لأنه أهل أن يحمد إن ابتلى، وإن منع، وإن أنال.

ففضله جل وعلا عم النساء والرجال والكهول والأطفال.

ولطف في قدره وقضائه بأهل أرضه وسمائه فلم يخل من لطفه سافل ولا عال.

اللهم يا من لا تمد الأيدي بالرغبة والمسألة إلا إليه، ولا يعول في كشف الشدائد والكروب في الدنيا والآخرة إلا عليه.

يا من كل الرغائب والمطالب لديه، وجميع المواهب لديه، ليس لضرنا سواك كاشف ولا على ضعفنا سواك عاطف.

المعافى من عافيته، فعافنا يا مولانا من موجبات سخطك وعقابك، والمهدي من هديته فأهدنا يا ربنا سبل الواصلين إلى مرضاتك.

بذكر الله تحيا القلوب من موت غفلتها فالله الله بالمداومة على ذكر الله سرًا وجهارًا ليلاً ونهارًا قيامًا وقعودًا ماشين ومضطجعين.

ذاكر الله لا يستطيع الشيطان في ظله مقيلا، ذاكر الله لا يجد الشيطان إلى إغوائه سبيلا، ذاكر الله لا يزال شيطانه مدحورًا ذليلا، ذاكر الله قد تكفل الله بحفظه وكيف يضيع من كان الله به كفيلا، بذكر الله تطمئن القلوب

ص: 79

وتحيا، قال الله تعالى:{أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] . وقال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] .

ذِكْرُ إِلَه الزَمْ هُدِيْتَ لِذِكْرِهِ

فِيْهِ الْقُلوبُ تَطِيْبُ وَالأفْوَاهُ

آخر:

وَالذِّكرُ فِيْهِ حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ كَمَا

تَحْيَا البِلَادُ إِذَا مَا جَاءَهَا الْمَطَرُ

اللهم إن نواصينا بيديك وأمورنا ترجع إليك وأحوالنا لا تخفي عليك، وأنت ملجؤنا وملاذنا، وإليك نرفع بثنا وحزننا وشكايتنا، يا من يعلم سرنا وعلانيتنا نسألك أن تجعلنا ممن توكل عليك فكفيته واستهداك فهديته وهب لنا من فضلك العظيم وجد علينا بإحسانك العميم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

[فوائد ومواعظ]

أعلم يا أخي أن الناس عند الموت ثلاثة أقسام: الأول: ذو بصيرة علم أن الإنسان وإن طال عمره في الدنيا فهو كخطفة برق لمعت في السماء ثم عادت للاختفاء.

فلا يثقل على العاقل اللبيب الخروج من الدنيا إلا بقدر ما يفوته من خدمة ربه عز وجل، والازدياد من ما يقربه إليه، والإشفاق مما يقول أو يقال له.

كما قال بعضهم لما قيل له لم تجزع قال: لأني أسلك طريقًا لم أعهده، وأقدم على ربي جل وعلا ولا أدري ما أقول وما يقال لي.

ص: 80

ومثل هذا الشخص لا ينفر من الموت بل إذا عجز عن العبادة ربما اشتاق إليه.

وقال بعضهم في مناجاته: إلهي إن سألتك الحياة في دار الممات فقد رغبت في البعد عنك، وزهدت في القرب منك.

فقد قال نبيك وصفيك صلى الله عليه وسلم: «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» .

الثاني: رجل رديء البصيرة متلطخ السريرة منهمك في الدنيا منكر للبعث، قد رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها ويئس من الآخرة.

فهذا مصيره كما ذكر الله: {إَنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} [يونس: 7] .

القسم الثاني: من خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا واعترفوا بذنوبهم وهؤلاء أيضًا مصيرهم كما ذكر الله، قال الله جل وعلا وتقدس:{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 102] .

ثم أعلم أن طول العمر محبوب ومطلوب إذا كان في طاعة الله، لقوله عليه الصلاة والسلام «خيركم من طال عمره وحسن عمله» وكلما كان العمر أطول في طاعة الله، كانت الحسنات أكثر والدرجات أرفع.

وأما طوله في غير طاعة، أو في المعاصي، فهو شر وبلاء، تكثر السيئات، وتضاعف الخطيئات.

ومن زعم أنه يحب طول البقاء في الدنيا ليستكثر من الأعمال الصالحة المقربة إلى الله تعالى فإن كان مع ذلك حريصًا عليها ومشمرًا فيها ومجانبًا لما يشغل عنها من أمور الدنيا فهو بالصادقين أشبه.

ص: 81

وإن كان متكاسلاً عنها ومسوفًا فيها أي الأعمال الصالحة فهو من الكاذبين المتعللين بما لا يغني عنه.

لأن من أحب أن يبقى لأجل شيء وجدته في غاية الحرص عليه مخافة أن يفوته ويحال بينه وبينه.

ولا سيما والعمل الصالح محله الدنيا ولا يمكن في غيرها لأن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل.

فتفكر يا أخي في ذلك عسى الله أن ينفعنا وإياك واستعن بالله واصبر واجتهد وشمر وبادر بالأعمال الصالحة قبل أن يحال بينك وبينها فلا تجد إليها سبيلا.

وكن حذرًا من مفاجأة الأجل فإنك غرض للآفات وهدف منصوب لسهام المنايا وإنما رأس مالك الذي يمكنك إن وفقك الله أن تشتري به سعادة الأبد هذا العمر.

قال الله جل وعلا: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] . فإياك أن تنفق أوقاته وأيامه وساعاته وأنفاسه فيما لا خير فيه ولا منفعة فيطول تحسرك وندمك وحزنك بعد الموت.

إِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُمْركَ فَاحْتَرِزْ

عَلَيْهِ مِن الإِنْفَاقِ فِي غَيْرِ وَاجِبٍ

قال محمد بن القاسم خادم محمد بن أسلم قال محمد بن أسلم:

مَا لِي وَلِهَذَا الْخَلْق كنت فِي صلب أبي وحدي

ثم صرت في بطن أمي وحدي

ثم دخلت الدنيا وحدي

ثم تقبض روحي وحدي

ص: 82

ثم أدخل في قبري وحدي

ثم يأتيني منكر ونكير فيسألاني وحدي

فإن صرت إلى خير صرت وحدي

ثم يوضع عملي وذنوبي في الميزان وحدي

وإن بعثت إلى الجنة بعثت وحدي

فما لي وللناس؟!!

ثم تفكر ساعة فوقعت عليه الرعدة حتى خشيت أن يسقط قال وسمعته يحلف كذا وكذا مرة يقول: لو قدرت أن أتطوع حيث لا يراني ملكاي لفعلت.

ولكني لا أستطيع ذلك خوفًا من الرياء.

وكان يدخل بيته ويغلق بابه ويدخل معه كوزًا من ماء فلم أدري ما يصنع.

حتى سمعت ابنًا له صغيرًا يحكى بكاءه فنهته أمه فقلت لها: ما هذا البكاء؟

فقالت: إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ القرآن ويبكي فيسمعه الصبي فيحكيه (أي يقلده) .

وكان إذا أراد أن يخرج غسل وجهه واكتحل لئلا يرى عليه أثر البكاء.

بلغ يا أخي الذين يذكرون أعمالهم للناس من حج وصدقة وصيام رياء وسمعة.

وكان يصل قومًا ويعطيهم ويكسوهم فيبعث إليهم ويقول للرسول: انظر أن لا يعلموا من بعثه إليهم ويأتيهم هو بالليل فيذهب به إليهم ويخفي نفسه.

ص: 83

ولا يعلمون من الذي أعطاهم ولا أعلم أنه وصل أحدًا بأقل من مائة درهم إلا أن يمكنه ذلك.

ودخلت عليه قبل موته بأربعة أيام فقال: يا أبا عبد الله أبشر بما صنع الله بأخيك من الخير قد نزل بي الموت وقد من الله علي أنه ليس عندي درهم يحاسبني الله عليه.

وقد علم ضعفي فإني لا أطيق الحساب، فلم يدع عندي شيئًا يحاسبني الله عليه ثم أغلق الباب ولا تأذن لأحد علي حتى أموت.

واعلم أني أخرج من الدنيا وليس أدع ميراثًا غير كسائي، وإنائي الذي أتوضأ فيه وكتبي.

وكانت معه صرة فيها نحو ثلاثين درهما، فقال: هذا لابني أهداه إليه قريب له ولا أعلم شيئًا أحل لي منه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنت ومالك لأبيك» .

فكفنوني منها وابسطوا على جنازتي لبدي وغطوا علي بكسائي وتصدقوا بإنائي أعطوه مسكينًا يتوضأ منه ثم مات باليوم الرابع رحمه الله.

‌4- موعظة

كان السلف رحمهم الله ومن سار على نهجهم من الخلف احرص الناس على حفظ الوقت، وتعبيته بالأعمال الصالحة سواء في ذلك العالم، وطالب العلم، والعابد.

وكانوا يقتدي بعضهم ببعض ويوصي أحدهم الآخر على صيانته وملئه بالخير وكانوا يسابقون الساعات، ويبادرون اللحظات، حرصًا منهم على الوقت، وأن لا يذهب هدرًا.

ص: 84

لعلمهم أنه يمر مر السحاب ويجري جري الريح.

قيل إن نوحًا عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والسلام جاء ملك الموت ليقبض روحه بعد ألف سنة أو أقل أو أكثر الله أعلم.

فسأله ملك الموت قال له يا أطول الأنبياء عمرًا كيف وجدت الدنيا فقال كدارٍ لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر.

قال الله جل وعلا وتقدس: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} [الأحقاف: 35] .

وقال تبارك وتعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] .

وقال تبارك وتعالى وتقدس: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45] .

ومن خصائص الوقت أن كل ساعة أو يوم أو لحظة تمر ليس يمكن استرجاعها.

وقال الحسن البصري ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي يا ابن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني فإني إذا مضيت لا أعود.

وَمَا الْمَرْءُ إِلاَّ رَاكِبٌ ظَهْرَ عُمْرِه

عَلَى سَفَرٍ يُفِنْيِه بِاليَوْمِ وَالشَّهْرِ

يَبِيْتُ وَيُضْحِى كَل يَومٍ وَلَيْلَةٍ

بَعِيْدًا عَنْ الدُّنْيَا قَرَيْبًا إِلَى القَبْرِ

فالذي ينبغي للإنسان أن يحافظ على وقته أعظم من محافظته على ماله، وأن يحرص على الاستفادة منه في كل لحظة فيما ينفعه في دينه وفي دنياه، مما هو وسيلة إلى الدار الآخرة.

قال عمر بن عبد العزيز إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.

ص: 85

وقال حكيم من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه.

والذي يعين على اغتنام الزمان، العزلة مهما أمكن، إلا لضرورة، أو حاجة لمن يلقاه، أو يزوره، وقلة الكل.

لأن كثرته تكسل البدن، وسبب للنوم الطويل، وضياع الليل، وفوات التهجد، أو تقليله. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

[فصل]

ولقد كانت همم السلف عالية يدل عليها كثرة مصنفاتهم التي هي خلاصة أعمارهم.

وقد أمر الله سبحانه وتعالى باستباق الخيرات والمسارعة إليها قبل أن تشغل عنها الشواغل أو تعوق العوائق.

قال الله جلا وعلا: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] .

وقال عز من قائل: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] .

وقال جل وعلا: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد: 21] .

ومدح الصالحين من أهل الكتاب بأنهم {يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114] .

وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على المبادرة بالعمل قبل حلول العوائق والفتن.

ص: 86

فقال: «هل تنتظرون إلا غنى مطغيًا أو فقر منسيًا أو مرضًا مفسدًا أو هرمًا مفندًا أو موتًا مجهزًا أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر» . رواه الترمذي.

وقال ابن القيم رحمه الله وعمارة الوقت الاشتغال في جميع آنائه بما يقرب إلى الله تعالى أو يعين على ذلك من مأكل ومشرب أو منكح أو منام أو راحة.

فإن متى أخذها بنية القوة على ما يحبه الله وتجنب ما يسخطه كانت من عمارة الوقت.

وغن كان له فيها أتم لذة فلا تحسب عمارة الوقت بهجر اللذات والطيبات المباحة.

قال بعض العلماء أغلق باب التوفيق عن الخلق من ستة أشياء.

انشغالهم بالنعمة عن شكرها.

ورغبتهم في العلم وتركهم العمل.

وإقبال الآخرة وهم معرضون عنها.

والاغترار بصحبة الصالحين وترك الاقتداء بفعالهم.

وإدبار الدنيا عنهم وهم يتبعونها.

والمسارعة إلى المعاصي والذنوب وتأخير التوبة.

وَكَمْ ذِيْ مَعَاصٍ نَالَ مِنْهُنَّ لَذَّةً

وَمَاتَ وَخضلاَّهَا وَذَاقَ الدَّوَاهِيَا

تَصَرَّمُ لذات المعاصي وتنقضي

وتبقى تباعات المعاصي كما هيا

فَيَا سَوْءَتَا وَاللهِ رَاءٍ وَسَامِعٌ

لِعَبْدٍ بِعَيْنِ اللهِ يَغْشَى الْمَعَاصِيَا

ص: 87

آخر:

تَوَارَىْ بِجِدْرَانِ الْبِيوتِ عَن الوَرَى

وَأَنْتَ بعَيْنِ اللهِ لَا شَكَّ تُنْظَرُ

وقال آخر: إن لله عبادًا جعلوا ما كتب عليهم من الموت مثالاً بين أعينهم وقطعوا الأسباب المتصلة بقلوبهم من علائق الدنيا فهم أنضاء عبادته حلفاء طاعته.

قد أنضجوا خدودهم بوابل دموعهم وافترشوا جباههم في محاريبهم يناجون ذا الكبرياء والعظمة في فكاك رقابهم.

ومر إبراهيم بن أدهم برجل يتحدث فيما لا يعنيه فوقف عليه فقال كلامك هذا ترجو به الثواب.

قال لا فقال أفتأمن عليه العقاب قال لا.

قال فما تصنع بكلام لا ترجو عليه ثوابًا وتخاف منه عقابًا.

قال بعضهم لو بعت لحظة من إقبالك على الله بمقدار عمر نوح في ملك قارون لكنت مغبونًا في العقد.

قال سفيان الثوري دخلت على جعفر الصادق فقلت له ما لي أراك سكنت دارك ولا تخالط الناس.

فقال نعم يا ابن سعيد في العزلة دعة وفي الدعة القناعة وما قدر لك يأتيك.

يا سفيان فسد أهل الزمان وتغير الأصدقاء فرأيت الانفراد أسكن للفؤاد. والله أعلم وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 88

(فصل)

أعلم أن قصر الأمل ديدن العلماء العاملون المتقون الورعون المبعدون عن التكالب على الدنيا الزاهدون في حطامها الفاني وكذلك أرباب القلوب الواعية وإن لم يكونوا علماء يقصرون أملهم ويحتقرون الدنيا ويعلمون أنها زائلة عكس ما عليه أكثر أهل الزمان عبيد الدنيا للبطون والفروج.

قال صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع» . رواه مسلم.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كَأَنَّكَ غريب أو عابر سبيل» وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك. رواه البخاري.

قالوا في شرح هذا الحديث معناه لا تركن إلى الدنيا ولا تتخذها وطنًا ولا تحدث نفسك بطول البقاء فيها ولا تشتغل فيها إلا بما يشتغل به الغريب فقط الذي يريد الذهاب إلى أهله، وأحوال الإنسان ثلاث: حال لم يكن فيها شيئًا وهي قبل أن يوجد.

وحال أخرى وهي من ساعة موته إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمدي فإن لنفسك وجود بعد خروج الروح من البدن إما في الجنة وإما في النار وهو الخلود الدائم وبين هاتين الحالتين حالة متوسطة وهي أيام حياته في الدنيا فانظر إلى مقدار ذلك بالنسبة إلى الحالتين يتبين لك أنه أقل من طرفة عين في مقدار عمر الدنيا.

ومن رأى الدنيا بهذه الصفة وبهذا التفكير السليم لم يلتفت إليها ولم

ص: 89

يبالي كيف انقضت أيامه بها في ضرر وضيق أو سعة ورخاء ورفاهية ولهذا لم يضع النبي صلى الله عليه وسلم لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة.

وقال عيسى عليه السلام الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها هذا مثل واضح فإن الدنيا معبر إلى الآخرة والمهد هو الركن الأول على أول القنطرة واللحد هو الركن الثاني على آخر القنطرة.

شعرًا:

يَا غَافِلَ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الْمَنَيَّاتِ

عَمَّا قَلِيْل سَتُلْقَى بَيْنَ أَمْوَاتِ

فَاذْكُر مَحَلَّكَ مِن قَبْل الْحُلُولِ بِهِ

وَتُبْ إِلَى الله مِنْ لَهْوٍ وَلَذَّاتِ

إِنَّ الْحَمَامَ لَهُ وَقْتٌ إِلَى أَجَلٍ

فَاذْكُرْ مَصَائِبَ أَيَّامٍ وَسَاعَاتِ

لَا تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزِيْنَتَهَا

قَدْ آنَ لِلمَوْتِ يَا ذَا اللَبِّ أَنْ يِأْتِي

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

ومن الناس من قطع نصف القنطرة ومنهم من قطع ثلثها ومن الناس من قطع الثلثين ومنهم من قطع ثلاثة أرباع المسافة ومنهم من لم يبق له إلا ثمن المسافة ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها وكيف ما كان فلابد من العبور فمن وقف يبني على القنطرة ويزينها وهو يستحث على العبور عليها فهو في غاية الجهل والحمق والسفه.

وروي عن الحسن قال بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنه قال إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي أنفذوا الزاد وخسروا الظهر وبقوا بَيْنَ ظهراني

ص: 90

المفازة لا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة فبينما هم كذلك إذ طلع عليهم رجل في حلة يقطر رأسه فقالوا أن هذا قريب عهد بريف وما جاء هذا إلا من قريب فلما انتهى إليهم قال يا هؤلاء علام أنتم قالوا على ما ترى قال أرأيتكم إن هديتكم إلى ماء رواء ورياض خضر ما تعملوا قالوا لا نعصيك شيئًا قال عهودكم ومواثقكم بالله فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئًا قال فأوردهم ماء ورياضًا خضراء فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال يا هؤلاء الرحيل قالوا إلى أين قال إلى ماء ليس كمائكم وإلى رياض ليست كرياضكم فقال أكثر القوم والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا وقالت طائفة ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله لا تعصوه وقد صدقكم في أول حديثه فو الله ليصدقنكم في آخره قال فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم فنزل بهم عدو فأصبحوا من بَيْنَ أسير وقتيل» .

وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما حق امرء مسلم له شيء يوصى فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» . متفق عليه.

وعن أنس رضي الله عنه قال خط النبي صلى الله عليه وسلم خطًا مريعًا وخط خطًا في الوسط خارجًا منه وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه فقال هذا الإنسان وهذا أجله محيط به –أو قد أحاط به. وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطط الصغار الأعراض فإن أخطاه هذا نهشه هذا وإن أخطاه هذا نهشه هذا رواه البخاري.

وَالْمَرْءُ يَبْلَيِه فِي الدُّنْيَا وَيَخْلقُهُ

حِرْصٌ طَوِيْلٌ وَعُمْرُ فِيْه تَقْصِيْرُ

يَطَوِّقُ النَّحْرِ بِالآمالِ كَاذِبَةً

وَلَهْذَمُ الْمَوْتِ دُوْنَ الطَّوْق مَطْرُوْرُ

ص: 91

جَذْلَانَ يَبْسِمُ فِي أَشْرَاكِ مِيْتَتِه

ِ

إِنْ أَفْلَتَ النَّابُ أَرْدَتْهُ الأَظَافِيْرُ

وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء. رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.

وقال صلى الله عليه وسلم "مالي وللدنيا أنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها".

وفي صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في أليم فلينظر بم يرجع" وأشار بالسبابة.

وليس العجب من انهماك الكفرة في حب الدنيا والمال فإن الدنيا جنتهم وإنما العجب أن يكون المسلمون يصل حب المال والدنيا في قلوبهم إلى حد أن تذهل عقولهم وأن تكون الدنيا هي شغلهم الشاغل ليلاً ونهارًا وهم يعرفون قدر الدنيا من كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم أليس كتاب الله هو الذي فيه {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] .

ويقول: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} [الإسراء: 19] .

وتقدمت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم المبينة لحقارة الدنيا وليس المعنى أن نترك الدنيا ونبقى جياعًا عارين محتاجين بل معناه أن لا نجعلها مقصدًا كما جعلها الكفار بل نجعل الدنيا وما فيها وسيلة إلى تلك الحياة الأبدية فنكون

ص: 92

من الفريق الذي يحب المال لأجل الآخرة.

وقد كان على هذا المبدأ الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وكذلك التابعون لهم اتخذوا الدنيا مطية للآخرة فسادوا بها أهل الدنيا ولما تخلفنا عنهم في هذا المبدأ وجعلنا المال هو المقصد سكنًا إلى الدنيا وأحببنا الحياة ولذائذها والداهية العظيمة هي أنا ضربنا بالذل.

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض» . رواه البخاري ومسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم: «فو الله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم» . متفق عليه.

اللهم إنا ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا ذنوبنا وهب لنا تقواك واهدنا بهداك، ولا تكلنا إلى أحد سواك، واجعل لنا من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا.

اللهم أعذنا بمعافاتك من عقوبتك، وبرضاك من سخطك، واحفظ جوارحنا من مخالفة أمرك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

ص: 93

(فصل)

فائدة نفيسة قال أحد العلماء رحمه الله تعالى أعلم أن الدنيا رأس كل خطيئة كما قال صلى الله عليه وسلم وقد صارت عدوة لله وعدوة لأوليائه وعدوة لأعدائه، أما عداوتها لله تعالى فلأنها قطعت الطريق بينه وبين أوليائه.

ولهذا فإنه لم ينظر إليها منذ خلقها، وأما عداوتها لأوليائه فلأنها تزينت لهم بزينتها وغمرتهم بزهرتها وتزهت لهم بنضارتها حتى تجرعوا مرارات الصبر في مقاطعتها وتحملوا المشاق في البعد منها.

وأما عداوتها لأعدائه فلأنها استدرجتم بمكرها ومكايدها واقتنصتهم بحبائلها وأقصدتهم بسهامها حتى وثقوا بها وعولوا عليها.

فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها وغدرت بهم أسكن ما كانوا إليها فاجتنوا منها حسرة تنقطع دونها الأكباد. وحرمتهم السعادة الأخروية على طول الآماد فانتبه يا من اغتر بها قبل أن يصيبك مثل ما أصاب المغترين بها.

وقال بعض العارفين إذا كان أبونا آدم بعد ما قيل له أسكن أنت وزوجك الجنة صدر منه ذنب واحد فأمر بالخروج من الجنة فكيف نرجوا دخولها مع ما نحن مقيمون عليه من الذنوب المتتابعة والخطايا المتواترة.

كان أبو الفتح المنهى قد برع في الفقه وتقدم عند العوام وحصل له مال كثير ودخل بغداد وفوض إليه التدريس بالنظامية وأدركه الموت بهمدان.

فلما دنت وفاته قال لأصحابه أخرجوا فلما خرجوا عنه جعل يلطم وجهه ويقول "يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله" ويقول لنفسه موبخًا لها يا أبا الفتح ضيعت العمر في طلب الدنيا وتحصيل المال والجاه والتردد إلى

ص: 94

السلاطين وينشد هذين البيتين:

عَجِبْتُ لأَهَلِ العِلم كَيْفَ تَغَافُلُوا

يَجُرُوْنَ ثَوْبَ الْحَرْصِ حَوْلَ الْممالِكِ

يَدُوْرُوْنَ حَوْلَ الظَّالِمِيْنَ كَأَنَّهُم

يَطُوْفُونَ حَوْلَ الْبَيْتِ وَقْتَ الْمَنَاسِكِ

أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه مع عبد له كيسًا من الدراهم إلى أبي ذر رضي الله عنه وقال لعبده إن قبل هذا أبو ذر فأنت حر أي عتيق فأتى بالكيس إلى أبي ذر وألح عليه في قبوله فلم يقبل فقال الغلام لأبي ذر إنه علق عتقي على قبولك هذا الكيس فقالوا أبو لكن في قبوله رقي.

هذه القصيدة الشيبانية عدلنا فيها بعض أبيات وكان بعضها في شيء لا يصلح.

سَأَحْمِدُ رَبِّي طَاعَةً وَتَعَبُّدًا

وَانْظِمُ عَقْدًا فِي العَقِيْدَةِ أَوْحَدَا

وَأَشْهَدُ أَنَّ اللهَ لَا رَبَّ غَيْرَه

تَعَزَّزَ قِدْمًا بِالْبَقَاء وَتَفرَّدًا

هُوَ الأَوَّلُ المُبْدِى بِغَيْرِ بِدَايَةٍ

ولا بعده شَيْءٌ علا وتوحَدَا

سمِيعٌ بَصِيرٌ عَالِمٌ مُتَكَلِّمٌ

قَدِيرٌ يُعِيدُ الْعَالَمِينِ كَمَا بَدَا

مُرِيدٌ أَرَادَ الْكَائِنَاتِ لِوَقْتِهَا

قَدير فَأَنْشَا ما أَرَادَ وَأَوْجَدَا

إِلَه عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ قَدِ اسْتَوَى

وَيَايَنَ مَخْلُوقاتِهِ وَتَوَحَّدَا

إِذَا الْكَوْنُ مَخْلُوقٌ وَرَبي خَالِقٌ

لَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْكَوْنِ رَبًّا وَسَيِّدَا

وَلَيْسَ كَمِثْلِ الله شَيْءٌ وَلَا لَهُ

شَبيهٌ تَعَالى رَبُّنَا وتَوحَّدَا

وَمَنْ قَالَ في الدُّنْيا يَرَاهُ بِعَيْنِهِ

فَذَلِكَ زِنْديقٌ طَغى وَتَمَرَّدَا

وَخَالَفَ كُتْبَ الله وَالرُّسْلَ كُلَّهُمْ

وَزَاغَ عَن الشَّرْعِ الشَّرِيف وَأَبْعَدَا

وَذَلِكَ مِمَّنْ قَالَ فِيهِ إِلهُنَا

يَرَى وَجْهُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَسْوَدَا

ص: 95

وَلَكِنْ يَرَاهُ فِي الجِنَانِ عِبادُهُ

كما صَحَّ فِي الأَخْبَارِ نَرْوِيهِ مُسْنَدَا

وَنَعْتَقِدُ الْقُرْآنَ تَنْزِيلَ رَبَّنَا

بِهِ جاءَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ (مُحَمَّدَا)

وَأَنْزَلَهُ وَحْيًا إِليْهِ وَأَنَّهُ

هُدَى الله يَا طُوبى بِهِ لِمَنْ اهْتَدَى

كلام كريم مُنْزَلٌ من إلهنا

بِأَمْرٍ وَنَهْيٍ وَالدَّلِيلُ تَأَكَّدَا

كَلَامُ إِلهِ الْعَالَمِينَ حَقِيقَة

فَمَنْ شَكَّ فِي هَذا فَقَدْ ضَلَّ وَاعْتَدَى

وَمِنْهُ بَدَا قَوْلاً وَلَا شَكَّ انهُ

يَعُودُ إِلَى الْرَّحْمنِ حَقًا كما بَدَا

فَمنْ شَكَّ فِي تَنْزِيلِه فَهْوَ كافِرٌ

وَمَْ زَادَ فِيْهِ قَدْ طَغَى وَتَمَرَّدَا

وَمَنْ قالَ مَخْلُوقُ كَلَامُ إِلهِنَا

فَقَدْ خَالَفَ الإِجْمَاعَ جَهْلاً وَأَلْحَدَا

وَنُؤْمِنُ بِالْكُتُبِ الَّتِي هِيَ قَبْلَهُ

وَبِالْرُّسُلِ حَقَّا لَا نُفَرِّقُ كالْعِدَا

وَإِيمَانُنَا قَوْلٌ وَفِعْلٌ وَنِيِّةٌ

وَيَزْدَادُ بِالتَّقْوَى وَيَنْقُصُ بِالرَّدَى

فَلَا مَذْهَبَ التَّشْبِيِه نَرْضَاهُ مَذْهَبًا

وَلَا مَقْصدَ التَّعْطِلِ نَرْضَاهُ مَقْصِدَا

وَلَكِنْ بِالقُرْآنِ نَهْدِي وَنَهْتَدِي

وَقَدْ فَازَ بِالقُرْآنِ عَبْدٌ قَدْ اهْتَدَى

وَنُؤْمِنُ أَنْ الخَيرَ وَالشَّرَ كُلَّهُ

مِنَ الله تَقْدِيرًا عَلَى العَبْدِ عُدِّدَا

فَمَا شَاءَ رَبُّ العَرْشِ كَانَ كَمَا يَشَا

وَمَا لَمْ يَشَا لَا كَانَ فِي الْخَلْقِ مَوْجُدَا

وَنُؤْمِنُ أَنَّ المَوْتَ حَقٌّ وَأَنَّنَا

سَنُبْعَثُ حَقًّا بَعْدَ مَوْتِنَا غَدَا

وَأَنَّ عَذَابَ الْقَبْرَ حَقٌّ وَأَنَّهُ

عَلَى الْجِسْمِ وَالرَّوحِ الذِّي فِيهِ أَلْحِدَا

وَمُنْكَرُهُ ثُمَّ النَّكِيرُ بِصُحْبَةِ

هُما يَسْألَانِ الْعَبْدَ فِي الْقَبْرِ مَقْعَدَا

وَمِيْزَانُ رَبِّي وَالصِّرَاطُ حَقِيقَةً

وَجََّتُهُ وَالنَّارُ لَمْ يُخْلَقَا سُدَى

وَأَنَّ حِسَابَ الخَلْقِ حَقٌّ أَعَدَّهُ

كَمَا أَخْبَرَ القُرْآنُ عَنْهُ وَشَدَّدَا

وَحَوْضُ رَسُولِ الله حَقًّا أَعَدَّهُ

لَهُ الله دُونَ الرُّسلِ مَاءً مُبَرْدَا

ص: 96

وَيَشْرَبُ مِنْهُ الْمُؤْمِنونَ وَكِلُّ مَنْ

سُقِي مِنْهُ كَأَسًا لَمْ يَجِدْ بَعْدَهُ صدَا

أَبارِيقُهُ عَدُّ النُّجُومِ وَعَرْضُهُ

كَبُصْرَى وَصَنْعًا فِي المَسَافَةِ حُدِّدَا

وَأَنَّ رَسُولَ الله أَفْضَلُ مَنْ مَشَى

عَلَى الأَرْضِ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ أَو غَدَا

وَأَرْسَلَهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ رَحْمَةً

إِلَى الثَّقَلَيْنِ الإِنْسِ وَالْجِنِّ مُرْشَدَا

وَأْسَرى بِهِ لَيْلًاً إِلَى الْعَرْشِ رِفْعَةً

وَأَدَْاهُ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنَ مُصْعِدَا

وَخَصَّصَ ُموسى رَبُّنَا بِكَلَامِهِ

عَلَى الطورِ نَادَاهُ وَأَسْمَعَهُ النَّدَا

وَكِلُّ نَبِي خَصَّهُ بِفَضِيلَةٍ

وَخَصَّصَ بالقرآن رَبِّي مُحَمَدَا

وَأَعْطَاهُ فِي الحَشْرِ الشَّفَاعَةَ مِثْلَ ما

رُوِي في الصَّحِيحَيْنِ الحَدِيثُ وَأَسْنِدَا

فَمَنْ شَكَّ فيْهَا لَمْ يَنَلْهَا وَمَنْ يَكُنْ

شَفِيْعًا لَهُ قَدْ فَازَ فَوْزًا وَأَسْعَدَا

وَيَشْفَعُ بَعْدَ المُصْطَفى كُلُّ مُرْسَلٍ

لِمَن عَاشَ فِي الدُّنْيَا وَمَاتَ مُوَحدَا

وَكِلُّّ نَبِيٍّ شَافِعٌ وَمُشَفَّعٌ

وَكُلُّ وَلِيٍّ فِي جَمَاعَتِهِ غَدَا

وَيَغْفِرُ دُونَ الشَّرْكِ رَبِّي لِمَن يَشَا

وَلَا مُؤْمِنٌ إِلَّا لَهُ كافِرٌ فِدَا

وَلَمْ يَبْقَ فِي نَارِ الجَحِيمِ مُوَحِّدٌ

وَلَوْ قَتَلَ النَّفْسَ الحَرَامَ تَعَمُّدَا

وَنَشْهَدُ أَنَّ الله خَصَّ رَسُولَهُ

بِأَصْحَابِهِ الأَبْرَارِ فَضْلاً وَأَيَّدَا

فَهُمْ خَيْرُ خَلْقِ الله بَعْدَ أَنْبِيَائِهِ

بِهِم يَقْتدِي فِي الدَّينِ كُلُّ مَنِ اقْتَدَى

وَأَفْضَلُهُمْ بَعْدَ النَبِيِّ (مُحَمَّدٍ)

أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ذُو الفضلِ والنَّدَى

لَقَدْ صَدَّقَ الْمُخْتَارَ في كُلِّ قَوْلِهِ

وَآمَنَ قَبْلَ النَّاسِ حَقًّا وَوَحَّدَا

وَفادَاهُ يَوْمَ الْغَارِ طَوْعًا بِنَفْسِهِ

وَوَاساهُ بِالأَمْوَالِ حَتَّى تَجَرَّدَا

وَمَنْ بَعْدِهِ الفَارُوقُ لَا تَنْسَ فَضْلَهُ

لَقَدْ كَانَ لِلإِسْلَامِ حِصْنًا مُشَيَّدَا

لَقَدْ فَتَحَ الفَارُوقُ بَالسَّيْفِ عَنْوَةً

كثير بِلَادِ المُسْلِمِينَ وَمَهَدَّا

ص: 97

وَأَظْهَرَ دِيْنَ الله بَعْدَ خَفَائِهِ

وَأَطْفَأَ نَارَ المُشْرِكِينَ وَأَخْمَدَا

وَعُثْمَانُ ذُو النَّورَيْنِ قَدْ مَاتَ صَائِمًا

وَقَدْ قَامَ بِالقُرْآنِ دَهْرًا تَهَجُّدَا

وَجَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرِ يَوْمًا بِمَالِهِ

وَوَسَّعَ لِلْمُخْتارِ والصَّحْبِ مَسْجِدَا

وَبَايَعَ عَنْهُ المُصْطَفَى بِشِمَالِهِ

مُبَايَعَةَ الرَّضْوَانِ حَقًّا وَأَشْهَدَا

وَلَا تَنْسَ صِهْرَ المُصْطَفَى وَابْنَ عَمَّهِ

فَقَدْ كَانَ حَبْرًا لِلْعُلُومِ وَسيدَّا

وَفادَى رَسُولَ الله طَوْعًا بِنَفْسِهِ

عَشِيَّةَ لِمَا بالْفِرَاشِ تَوَسَّدَا

وَمَنْ كانَ مَوْلَاهُ النَّبِيُّ فَقَدْ غَدَا

عَليُّ لَهُ بِالحَقِّ مَوْلًى وَمُنْجِدَا

وَطَلْحَتُهُمْ ثُمَّ الزُّبَيْرُ وَسَعْدُهُمْ

كَذا وَسَعِيدٌ بِالسَّعَادَةِ أُسْعِدَا

وكانَ ابْنُ عَوْفٍ باذِلَ المَالِ مُنْفِقًا

وكانَ ابْنُ جَرَّاحٍ أَمينًا مؤيَّدًا

وَلَا تَنْسَ بَاقِيَ صَحْبِهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ

وَأَنْصَارَهُ وَالتَّابِعِينَ عَلَى الهُدَى

فَكُلَّهُمُ أَثْنَى الإِلَهُ عَلَيْهِمُ

وَأَثْنَى رَسُولُ الله أَيْضًا وَأَكَّدَا

فَلَا تَكُ عَبْدًا رَافِضِيًا فَتَعْتَدِى

فَوَيْلٌ وَوَيْلٌ فِي الْورَىَ لِمَنْ اعْتَدَى

وَنَسْكُتَ عَنْ حَرْبِ الصَّحَابَةِ فالَّذِي

جَرَى بَيْنَهُمْ كانَ اجْتِهادًا مُجَرَّدَا

وَقَدْ صَحَّ فِي الأَخْبَارِ أَنَّ قَتِيلَهُمْ

وَقَاتِلَهُمْ فِي جَنَّةِ الخُلْدِ خُلَّدَا

فَهذَا اعْتِقَادُ الشَّافِعِيِّ إِمامِنَا

وَمالِك والنُّعْمانِ أَيْضًا وَأَحْمَدَا

فَمَنْ يَعْتَقِدْهُ كُلَّّهُ فَهْوَ مُؤْمِنٌ

وَمَنْ زَاغَ عَنْهُ قَدْ طَغَى وَتَمَرَّدَا

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 98

قصة

توجه عافية بن يزيد الأودي القاضي إلى المهدي يومًا في وقت الظهيرة لمقابلته على عجل.

فلما أذن له إذا به يحمل أوراقه بين يديه ويسأل المهدي أن يعفيه من القضاء ويستأذنه في تسليم الأوراق التي في حوزته إلى من يأمر الخليفة بتسليمها له.

وظن الخليفة أن القاضي عافية قد أقدم على طلب الاستعفاء من القضاء لأن أحد رجال حاشيته ومن هم محسوبون على الخليفة قد تطاول عليه أو نال منه أو أساء معاملته أو أبدى عدم احترام له أو تدخل في شأن من شؤون قضائه فأضعف سلطانه في تنفيذ أحكامه ولشد ما كانت دهشة الخليفة حينما عرف انه لم يقع شيء من ذلك.

فأحب الخليفة أن يتعرف من ذلك السبب الحقيقي الذي دفع القاضي إلى الاستعفاء على عجل في ذلك الوقت الذي يلجأ الناس فيه إلى الراحة وهو وقت الظهيرة.

ولما أصر الخليفة على طلب معرفة السبب لم يجد القاضي بدًا من أن يروي له ما جرى له مما كان سببًا في طلب الإعفاء حرصًا على دينه وطهارة لنفسه.

فقال القاضي عافية منذ شهرية وأنا أتابع البحث في إحدى القضايا المعضلة محاولاً أن أصل فيها إلى وجه الحق فقد تقدم إلي خصمان موسران وجيهان في قضية معضلة مشكلة.

وكل منها يدعي بينة وشهودًا ويدلي بحجج تحتاج إلى تأمل وتثبت.

ولما لم يتبين لي وجه الحق رددت الخصوم رجاء أن يصلحوا أو يتبين لي

ص: 99

وجه فصل بينهما.

وأثناء ذلك وقف أحد الخصمين من خبري على أني أحب الرطب السكري.

فعمد في وقتنا هذا وهو أول وقت الرطب وجمع رطبًا سكريًا لا يتهيأ في هذا الوقت لأحد جمع مثله إلا لأمير المؤمنين وحقًا ما رأيت أحسن منه.

ثم عمد إلى بوابي فرشاه جملة دراهم ليدخل الطبق إلي على أنه لا يبالي بعد ذلك أن أقبل الطبق أو أرده.

فلما أدخل الطبق إلي أنكرت أمره وطردت بوابي وأمرت برد الطبق فرده لساعته.

فلما كان اليوم تقدم إلي هذا الرجل مع خصمه فهالني أنهما لم يتساويا في قلبي ولا في عيني.

وهذا يا أمير المؤمنين وأنا لم أقبل فكيف يكون حالي لو قبلت ولا آمن أن يقع عليّ حيلة في ديني فأهلك وقد فسد الناس فأقلني أقالك الله واعفني.

ولم يسع الخليفة وهو يستمع إلى ذلك الكلام المنبى عن شدة الورع والحرص الخالص على نزاهة الحكم وبعد القاضي عن المؤثرات أيا كان نوعها إلا أن يستجيب لطلب القاضي النقي النبيل فأعفاه من القضاء.

فتأمل هذه القصة بدقة. وقارن بينه وبين كثير من قضاة هذا الزمن يتبين لك الفرق العظم والبون الشاسع نسأل الله العافية.

اللهم أحي قلوبنا ونورها بنور الإيمان وزينها بمحبتك وجمل ألسنتنا بذكرك وشكرك وحسن أعمالنا ووفقنا لحفظ أوقاتنا وأحيينا حياة طيبة وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 100

(فصل)

‌5 [موعظة]

عباد الله يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدًا له ولا يغتر بشبابه وصحبته فإن أقل من يموت الشيوخ الطاعنين في السن.

وأكثر من يموت الشبان خصوصًا في زمننا الذي كثرت فيه الحوادث ولهذا يندر من يكبر وقد أنشدوا:

يَعَمَّرُ وَاحدٌ فَيَغُرُّ قَوْمًا

وَيُنْسَى مَن يَمُوتُ مِن الشَّبَابِ

آخر:

لَا تَغْتَرِرْ بِشَبَابٍ نَاعِمٍ خَضِلٍ

فَكَمْ تَقَدَّمَ قَبْلَ الشَّيْبِ شُبَّانُ

ومما يعنيك على الجد والاجتهاد في الطاعة تصور قصر عمرك وكثرة الأشغال، وتصور قوة الندم على التفريط والإضاعة عند الموت، وطول الحسرة على البدار بعد الفوت.

وتصور عظم ثواب السابقين الكاملين وأنت ناقص، والمجتهدين وأنت متكاسل، واجعل نصب عينيك ما يلي: قوله تعالى: {تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ} [يونس: 30] .

وقوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} [آل عمران: 30] .

وقوله تعالى: {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40] .

وقوله تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] .

وقوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ

ص: 101

لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] . فتصور الحسرة والندامة والحزن عندما ترى الفائزين.

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِن التُّقَى

وَأَبْصَرْتَ بَعْدَ الْمَوتِ مَن قَد تَزَودَّا

نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ

وَأَنَّكَ لَمْ تُرْصَدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا

فالبدار البدار والحذر الحذر من الغفلة والتسويف وطول الأمل فإنه لولا طول الأمل ما وقع إهمال أصلاً.

وإنما يقدم على المعاصي ويؤخر التوبة لطول الأمل وتبادر الشهوات.

وتنسى التوبة والإنابة لطول الأمل وتفقد أوقاتك وما عملت فيها من الذنوب.

وتنسى التوبة والإنابة لطول الأمل فيا أيها المهمل وكلنا كذلك انتهز فرصة الإمكان وتفقد أوقاتك وما عملت فيها من الذنوب.

فبادر في محوها بالتوبة النصوح وأكثر من الدعاء والاستغفار كل وقت خصوصًا أوقات الإجابة.

ومن أوقات الإجابة ثلث الليل الآخر. قال تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] .

- ويوم الجمعة عند صعود الإمام المنبر للخطبة.

- وفي آخر ساعة من يوم الجمعة وعند دخول الإمام للخطبة وعندما تسمع الأذان إلى أن يفرغ.

- وبين الأذان والإقامة.

- وبعد الصلاة الفريضة وبعد النافلة.

- وعند الفطر للصائم وفي أيام رمضان ولياليه.

ص: 102

- وعند نزول الغيث.

- وعشية عرفة.

- وفي السجود.

- وعند ختم القرآن وفي ليلة القدر.

- وعند البكاء والخشية من الله.

فعلى الإنسان أن يكثر من الدعاء والإلحاح فيه، فإن الدعاء له أثر عظيم، وموقع جسيم، وهو مخ العبادة.

لا سيما مع حضور قلب، وإخبات، وخشوع وذل، وانكسار، ورقة، وتضرع وخشية، واستقبال القبلة حال دعائه، وعلى طهارة، ويجدد التوبة، ويكثر من الاستغفار، ويبدأ بحمد الله وتنزيهه، وتمجيده، وتقديسه، والثناء عليه، وشكره، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثناء على الله.

ويدعو بالدعاء المشروع باسم من أسماء الله الحسنى، مناسب لمطلوبه، فإن كان يريد علمًا قال يا عليم علمني، وإن كان يطلب رحمة قال يا رحمن ارحمني، وإن كان يسأل رزقًا قال يا رزاق ارزقني ونحو ذلكن ويوقن بالإجابة، فإن الله جل وعلا أصدق القائلين وقد قال سبحانه وتعالى:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] . وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: «وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان» . وقال عز من قائل: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] . وقال: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] . وهو سبحانه أوفى الواعدين. قال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم: 6] . وقال جل وعلا: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً} [النساء: 122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً} [النساء: 87] . وقال أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] .

ص: 103

وإذا وقعت في محنة يصعب الخلاص منها، فليس لك إلا الدعاء واللجوء إلى الله، بعد أن تقدم التوبة من الذنوب، فإن الزلل يوجب العقوبة، قال الله جل وعلا:{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] .

فإذا زال الذنب بالتوبة الصادقة النصوح، ارتفع السبب. فإذا أثبت ودعوت ولم تر لإجابة الدعاء أثرًا، فتفقد نفسك فربما كانت التوبة ما صحت فصححها.

ثم ادع ولا تضجر ولا تمل من الدعاء فإنه عبادة، وربما كانت المصلحة في تأخير الإجابة، وربما لم تكن المصلحة في الإجابة، قال تعالى:{وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} [البقرة: 216] .

فأنت تثاب وتجاب إلى منافعك ومن منافعك أن لا تعطى ما طلبت بل تعوض غيره.

فإذا جاءك الشيطان فقال إلى متى تدعو ولا تجاب فقل: أنا أتعبد بالدعاء، الدعاء مخ العبادة وأنا واثق كل الثقة بالإجابة لأن الله أصدق القائلين.

وقد قال جل وعلا وتقدس لنبيه: «وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان» . وقال تبارك وتعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] .

واعلم أنه ربما كان التأخير لبعض المصالح فهو يجيء في وقت مناسب وإذا سألت شيئًا فأقرنه بسؤال الخيرة فربما كان المطلوب سببًا للهلاك.

وإذا كنت قد أمرت بالمشاورة في أمور الدنيا ليبين لك صاحبك في بعض الآراء ما يعجز رأيك عنه ثم ترى أن ما وقع لك لا يصلح فكيف لا

ص: 104

تسأل الخير ربك الذي أحاط بكل شيء علمًا، والاستخارة من حسن المشاورة.

كُلُّ الوُجُوِد لِعِزِّ قَهْرَكَ خَاضِعٌ

وَالْكُلُّ فِي صَدقاتِ جُوْدِكَ طَامِعُ

يَا مَعْشَرَ الفُقَرَاءِ أَمُّوا بَابَهُ

فَهُنَاكَ فَضْلٌ لِلْبَرِيَّةِ وَاسِعُ

يُعْطِي العَطَاءَ فَلَا يَمَانِعُ مَانِعٌ

يَقْضِي القَضَاءَ فَلا يُدَافِعُ دَافِعُ

مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ

كَلاَّ وَلَا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ

إِنْ عُذِّبُوا فَبعَدْ له أَوْ نُعِّمُوا

فَبِفَضْلِهِ وَهْوُ الكَرِيْمُ الوَاسِعُ

الزَمْ طَرِيْقَ الذِّكْرِ عُمْرَكَ دَائِبًا

فَالذِكْرُ فِي القَلْبِ الْمَحبَّة زَارعُ

قال أحد الوعاظ هذا نذير الموت قد غدا يقول الرحيل غدا، كأنكم بالأمر وقد قرب ودنا، فطوبى لعبد استيقظ من غفلته ووعا.

كيف بكم إذا صاح إسرافيل ونفخ في الصور قال جل وعلا: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس: 51] .

فتصور خروجك مذعورًا تسعى من تحت المدر وقد رجت الأرض وبست الجبال وشخصت الأبصار لتلك العظائم والأهوال والمزعجات {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} [طه: 108] .

فقلق الخائف، وشاب الصغير، وزفرت النار، وأحاطت الأوزار، ونصب الصراط، ووضع الميزان، وحضر الحساب.

وجيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، قال تعالى:{وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23] .

وشهد الكتاب وتقطعت الأسباب، فكم من كبير يقول واشيبتاه، وكم

ص: 105

من كهل ينادي بأعلى صوته واخيبتاه، وكم من شاب يصيح واشباباه.

وبرزت النار، قال الله جل وعلا وتقدس:{وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91] . وقال جل وعلا وتقدس: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} [النازعات: 36] .

وسمع الخلائق حسيسها إلا من سبقت له الحسنى من الله. قال تعالى:

{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103] .

وأيقن بالردى والهلاك كل فاجر، قال تعالى:{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر: 18] . وقامت ضوضاء الجدل، وأحاط بصاحبه العمل. قال جل وعلا وتقدس:{وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً} [الكهف: 53] .

وحالت الألوان، وتوالت المحن على الإنسان، فأين عدتك يا غافل عن هذا الزمان، أين تصحيح اليقين والإيمان.

أترضى بالخسران والهوان، أما علمت أنك كما تدين تدان أما تخاف أن تقول:{يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] . أما علمت أعظم الخسران.

قال جل وعلا وتقدس: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15] .

كم في كتابك من خطأ وزلل، وكم في عملك من سهو وخلل، هذا وشمس عمرك على أطراف الذوائب وقد قرب الأجل، كم ضيعت واجبًا وفرضًا، وكم نقضت عهدًا محكمًا نقضًا، وكم أتيت حرامًا صريحًا محضًا، يا

ص: 106

أجسادًا صحاحًا فيها قلوب مرضى.

اللهم اجعل الإيمان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر عادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، واجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته ودعاك فأجبته، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

[فصل]

نبذة مما جرى لأولياء الله من المحن والقتل والضرب من الظلمة والطغاة والمجرمين جازاهم الله بما يستحقون.

لما قتل الحجاج بن يوسف عبد الله بن الزبير أمر بخشبة فصلبه عليها.

فلما أقبلت أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما إلى الخشبة فعانقتها وجلست تبكي وتقول واغوثاه.

يا لله ما أعظم ما نزل بنا بعدك يا محمد يا رسول الله لو تدرك ما نزل بعدك بأصهارك وأرحامك وأبناء المهاجرين لرأيت أمرًا عظيمًا.

اللهم فبلغ عنا نبيك صلى الله عليه وسلم في عظيم ما نزل فأخبر بمقالتها عبد الله بن عمر فبكى حتى كادت نفسه تفيض.

ثم قال لابنه قدني إليها وقد كبر وكان يرتعش من الكبر وكان قد عمر فقاده ابنه إليها فلما أشرف على الخشبة نظر إليه مصلوبًا.

قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليقتلني أمير جائر على طاعة أحب إلي من أموت مجاهدًا في سبيل الله فأتى شقي من الأشقياء فبلغ ذلك إلى الحجاج فبلغ منه قول ابن عمر كل مبلغ.

فركب إلى خشبة بن الزبير فأصاب أمه عندها تبكي وابن عمر وابنه

ص: 107

سالمًا فقال ليس مثله يبكى عليه فقال ابن عمر قومي فقامت ولم تكلمه وانصرف ابن عمر إلى منزله.

فدعا الحجاج رجاله فقال إن ابن عمر بن خليفة وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخاف إن خرجنا أن يستحل منا ما استحل ابن الزبير وعلماء العراق.

قالوا فما ترى قال هذا أعظم مما كان منا إنما عمدنا إلى جبل الإسلام وحاجب محمد ومن عرضت عليه الخلافة فلم يقبلها ومن حج أربعين حجة ومن سمته قريش حمامة البيت يريد بن عمر.

وقدره في العرب كما علمتم وحب الأوس والخزرج لأبيه عمر بن الخطاب. نعوذ بالله من الظلمة وأعوانهم.

فبعث الحجاج غلامه أن يركب فرسًا جامحًا وأمره أن يطحنه بالفرس ويقتله.

فركب الغلام الفرس فنظر إلى ابن عمر وهو سائر يوم الجمعة فحمل عليه وصدمه ورضه.

فبادر الناس إليه وقالوا يا غلام أهلكت المسلمين في علمهم فطلبك الله وأقام الحجاج ينتظر موته.

فلما أبطأ عليه عمد إلى الحديدة التي في الرمح فسمها سمًا ناقعًا وجعلها في عصا وقال لأحد رجاله ضعه على ظهر قدمه واتكئ عليه حتى يدخل.

فإن قال أهلكتني فقل ما علمت أن رجلك ها هنا.

ففعل ذلك ثم خرج عنه فاشتعل جسد ابن عمر سمًا فأقام ثلاثة أيام فمات رحمة الله عليه.

ودخل الحجاج على ابن عمر يعوده قبل موته فقال ابن عمر أنت قتلتني، حسبنا الله ونعم الوكيل.

ص: 108

ومن الذين أوذوا في سبيل الله وقتلوا سعيد بن جبير وقصته أشهر من أن تذكر فلا نطيل بذكرها وكان قد دعا من قبل أن يذبحه الحجاج فقال اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي.

وقيل إنه عاش بعد قتله لسعيد ستة عشر يومًا فقط وقعت الآكلة في بطنه.

وكان ينادي في بقية حياته مالي ولسعيد بن جبير كلما أردت النوم أخذ برجلي.

وقيل دعا عليه بالزمهرير البرد العظيم فكانوا يجعلون حوله الكوانين تلتهب جمرًا مع ما عليه من الثياب التي يدثرونه بها.

فما زال في العذاب الأليم ثم أرسل في طلب الحسن البصري التابعي المشهور فأتاه واشتكى إليه ما نزل به من الألم، فقال قد نهيتك مرة بعد أخرى لا تتعرض للصالحين، ولا تكن منهم إلا بسبيل خير فأبيت ولججت (ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً) .

وذكر في كتاب المحن أن الحجاج أرسل إلى أبي صالح ماهان المسبح فلما أتاه قال: بلغني عنك صلاح وخير وإني أريد أن أوليك القضاء.

قال له: أنا قال: نعم قال: أنا لا أحسن أعد عشرة قال: يا مرائي علي تتباله.

قال والفرات قد مد فعدا من بين يديه وهو شيخ كبير يجنح حتى وقف على جرف الفرات.

فقال اللهم إن كنت مرائيًا كما زعم الحجاج فغرقني قال فرمى بنفسه. فقام على متن الماء فلم تغب قدماه قال فو الله ما نهنهه ذلك فأخذه وصلبه على بابه.

ص: 109

وممن ضرب مالك ابن أنس رضي الله عنه وذلك أن الحساد دسوا إلى أبي جعفر بن سليمان من قال له إن مالكًا يفتي الناس أن أيمان البيعة لا تلزمهم لمخالفتك واستكراهك إياهم عليها.

فدس عليه جعفر من يسأله عن ذلك فأفتاه مالك طمأنينة إليه وحسبة منه.

فجاءه رسول جعفر بن سليمان وأتى به منتهك الحرمة مهانا فأمر به جعفر فضربه سبعين سوطًا.

ومما جرى على عبد الله بن عون البصري الذي قيل ما كان بالعراق أعلم بالسنة منه.

وكان ورعًا تزوج امرأة عربية فضربه بلال بن أبي بردة عشرة أسواط وقال له انزل عنها قال لا أفعل فقال له بلال والله لا أبرح أضربك حتى تطلقها.

فقال ابن عون والله لا أبرح أصبر ولا أطلقها حتى أعجز قال وكان رجلاً نحيفًا لا يحتمل الضرب بالسوط قال فضربه أيضًا عشرة أسواط وقال بلال هو ما ترى.

قال فأمر به فضرب عشرة أسواط وقال يا ابن عون هو ما ترى حتى تطلقها قال هي طالق قال بتتها.

وممن امتحن عطاء بن أبي رباح وذلك أن رجلاً أتى من الحجاج إلى مسجد مكة. فنام فكشفت الريح الثوب عن بطنه فظهر جراب الفلوس فمر به أصحابه فخافوا عليه فنزعوا الجراب. وبعد قليل انتبه الرجل فنظر فإذا جرابه مأخوذ فنظر يمينًا وشمالاً فلم يرى حوله إلا عطاء بن أبي رباح قائمًا يصلي. فجاءه فأخذ بتلابيبه وضيق عليه وقال له يا عدو الله فعلت الذي فعلت بي فلما رهقتك قمت تصلي.

ص: 110

فقال له ما بالك يا هذا قال منطقتي حللتها (أي الجراب) قال له وكم فيها قال مائتا دينار قال فهل سمع بهذا غيرك قال لا. قال فاذهب معي حتى أعطيك ما ذهب لك قال فذهب فعَدَّ له مائتي دينار فذهب إلى أصحابه فأخبرهم الخبر.

فقالوا له ظلمت والله الرجل كان من قصتنا كيت وكيت ثم حللنا عنك خوفًا عليها وها هي هذه.

فقاموا بأجمعهم إلى الرجل فوقفوا عليه فسألوا عنه فقيل لهم هو عطاء بن أبي رباح فقيه أهل مكة وسيدهم.

فاعتذروا إليه وسألوه أن يجعل الرجل في حل ويقبل الدنانير.

فقال لهم هيهات ما كانت بالتي ترجع إلي اذهب فأنت في حل وهي لك.

شَمَّر عَسَى أَنْ يَنْفَعَ التَّشْمِيرُ

وانْظُرْ بِفْكركَ مَا إليْهِ تَصِيْرُ

طوَّلْتَ آمالاً تكَنَّفَهَا الهَوَى

ونسِيتَ أنَّ العُمْرَ منكَ قصِيْرُ

قد أفْصَحَتْ دُنْيَاكَ عن غدَرَاتِها

وأَتَى مَشِيْبُكَ وَالمشِيْبُ نَذِيْرُ

دَارٌ لَهَوْتَ بِزَهْوهَا مُتَمَتِّعًا

تَرْجُوْ المقامَ بهَا وَأَنْتَ تسيْرُ

واعْلَمْ بأنكَ رَاحِلٌ عَنْهَا ولَوْ

عُمِّرْت فيها مَا أقامَ ثَبِيْرُ

لَيْسَ الغِنَى في العَيشِ إلا بُلْغَةَ

وَيسِيْر ما يَكْفِيْكَ منه كثيْرُ

لا يَشْغَلَنَّكَ عَاجلٌ عَن آجلٍ

أبَدًا فَمُلْتَمِسُ الحَقِيْرِ حَقِيْرُ

وَلَقَدْ تَسَاوَى بَيْنَ أَطْبَاقِ الثَّرى

في الأرْضِ مأمُوْرٌ بهَا وأمِيْرُ

والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 111

[فصل]

بعث أبو جعفر في طلب أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق فقيل له إن أمير المؤمنين متغيظ عليك فدخل وهو يحرك شفتيه.

فلما رآه أبو جعفر نهض إليه واعتنقه وأجلسه معه ثم عانقه.

وقال له يا أبا عبد الله ما هذا الذي يبلغني عنك لقد هممت.

فقال له إن أيوب ابتلى فصبر وإن سليمان أعطى فشكر وأنت من ذلك السنح.

قال، فيرفع إلي أن الأموال تجبى إليك بلا سوط ولا عصا ثم أمر بالرافع فأحضر.

فقال أبو عبد الله أحقًا رفعت إلى أمير المؤمنين قال نعم، قال فاستحلفه يا أمير المؤمنين قال أبو عبد الله رد اليمين عليه.

فقال له أبو جعفر احلف فقال والله الذي لا إله إلا هو فقال له أبو عبد الله ليس هو كذا إن العبد إذا مجد الله في يمينه أمهله في العقوبة.

ولكن قل أنا برئ من الله والله برئ مني وأنا خارج من حول الله وقوته راجع إلى حول نفسي وقوتها.

قال فحلف فو الله ما رُفع إلا ميتا فراع ذلك أبا جعفر وقال انصرف يا أبا عبد الله فلست أسألك بعدها.

وسئل عما حرك به شفتيه حينما دخل عليه فقال قلت اللهم بك أستفتح وبك أستنج اللهم ذلل حزونته وكل حزونة وسهل لي صعوبته وكل صعوبة.

اللهم أعطني منه من الخير ما أرجو واصرف عني منه من الشر ما أحذر

ص: 112

فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب ولا حول ولا قوة إلا بالله.

كان صفوان بن سليم قد كف بصره في آخر عمره فبينما هو ذات يوم بالسوق يقاد إذ دخل بلال بن أبي بردة فسمع الطريق والجلاوزة بين يديه.

فقال ما هذا فقيل بلال فقال سحائب صيف عن قريب تقشع فسمعه بلال. فقال والله لأذيقنك من بردك شؤبونا فلما نزل بهيكله بعث في طلبه ثم ضربه بالسياط نعوذ بالله من الظلمة وأعوانهم.

عن مالك بن أنس أنه قال لو قيل لصفوان بن سليم غدًا يوم القيامة ما قدر على أن يزيد على ما هو فيه من العبادة شيئًا.

ومن ذلك ما امتحن به أبو مسلم الخولاني لما ألقي في النار وذلك أن الأسود العنسي تنبأ باليمن فدعا أبا مسلم الخولاني فقال اشهد أني رسول الله.

قال لا أسمع قال اشهد أن محمدًا رسول الله قال نعم فأمر الأسود بنار فقذف فيها أبا مسلم فخرج يرشح عرقًا.

فقيل للأسود انفه عنك لا يفسد عليك الناس فأخرجوه ثم قدم المدينة وبها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.

فقال له عمر من أين أقبل الرجل قال من اليمن قال ما فعل الرجل الذي أحرقه الكذاب قال ذلك عبد الله بن ثوب.

قال له عمر أنشدك بالله أنت هو قال نعم قال فأدخله وأجلسه بينه وبين أبي بكر.

وقال الحمد لله الذي أراني في هذه الأمة من فعل به مثل ما فعل بإبراهيم خليل الرحمن.

وممن قتل صبرًا كميل بن زياد النخعي الكوفي كان شجاعًا زاهدًا قتله الحجاج بن يوسف.

ص: 113

وذلك أن الحجاج نقم عليه لأنه طلب من عثمان بن عفان القصاص من لطمة لطمها إياه فلما مكنه عثمان من نفسه عفا عنه.

فقال له الحجاج أو مثلك يسأل من أمير المؤمنين القصاص ثم أمر به فضربت عنقه نسأل الله العافية.

وذكر أن رياح بن يزيد كان على أتانه في سفر إذا غشيته السلابة (أي قطاع الطريق) وهو يسير فأخذوا أتانه ونزعوا ثيابه إلا واحدًا ثم ذهبوا عنه.

فمال رياح إلى موضع فأحرم بتكبيرة ثم أقبل يصلي فبينما هو يصلي إذا أظلمت السماء فلم تدري السلابة أين يتوجهون.

فلما طوَّل في الصلاة قالوا أحسن صلاتك يا عبد الله أما ترى ما نزل بنا ولا نحسب ذلك إلا من أجلك.

فسلم ثم التفت إليهم فقال ما تريدون أخذتوا ثيابي وحماري فردوا عليه ثيابه ودابته فانجلت عنهم الظلمة.

فرغبوا عند ذلك إليه وسألوه من هو وأقسموا عليه فقال لهم رياح بن يزيد.

طَالِعْ تَوارِيخ مَن في الدهر قد وُجِدُوا

تَجِدْ خُطُوْبًا تُسَلِّيْ عَنْكَ مَا تَجدُ

تجِدْ أَكَابِرَهُمْ قَدْ جُرِّعُُوا غُصَصًا

مِنَ الرَّزَايا بِهَا قَدْ فُتِّتَتْ كُبُدُ

عَزْلٌ ونَهْبٌ وضَرْبٌ بالسِّياط يَليْ

حَبْسٌ وَقَتْلٌ وَتَشْرِيْدٌ لِمَنْ زَهِدُوْا

وإِنْ وُقِيْتَ بحَمْد الله شِرَّتَهُمْ

فَلْتَحْمدِ الله في العُقْبَى كَمَنْ حَمِدُوْا

آخر:

إِنَّ الشَّدَائِدَ قَدْ تَغْشَى الكَرِيْمَ لِأنْ

تُبيْنُ فَضْلَ سَجَيَاهُ وتُوْضِحُهُ

ص: 114

كَمُبْرِدَ القَيْن إِذْ يَعْلُوْ الحَدِيْدَ بِهِ

وليْسَ يأكُلُه إلَّا لِيُصْلِحَهُ

والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

[فصل]

قال ابن القيم ومن تجريبات السالكين التي جربوها فألفوها صحيحة أن من أدمن (أي أكثر) من قول "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت" أورثه ذلك حياة القلب والعقل.

وكان شيخ الإسلام شديد اللهج بها جدًا وقال لي يومًا لهذين الاسمين وهما "الحي القيوم" تأثير عظيم في حياة القلب.

وكأنه يشير إلى أنهما الاسم الأعظم وسمعته يقول من واظب على أربعين مرة كل يوم بين سنة الفجر وصلاة الفجر "يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت برحمتك أستغيث" حصلت له حياة القلب ولم يمت قلبه.

قال العلماء اعلم أنه لا يقف على الدواء من لا يقف على الداء إذ لا معنى للدواء إلا مناقضة أسباب الداء ولا يبطل الشيء إلا بضده.

وسبب الإصرار الغفلة والشهوة ولا تضاد الغفلة إلا بالعلم.

ذكر ابن القيم رحمه الله أن من كيده العجيب أنه يشام النفس حتى يعلم أي القوتين تغلب عليه قوة الإقدام والشجاعة أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة.

فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به وثقله عليه فهون عليه تركه جملة أو يقصر فيه ويتهاون به.

وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور

ص: 115

ويوهمه أنه لا يكفيه وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة ينقص بالأول ويتجاوز بالثاني.

كما قال بعض السلف: ما أمر الله تعالى بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وعلو، ولا يبالي بأيهما ظفر.

وقد اقتطع أكثر الناس إلا أقل القليل في هذين الواديين، وادي التقصير ووادي المجاوزة والتعدي.

والقليل منهم جدًا الثابت على الصراط المستقيم الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

فقوم قصر بهم عن واجبات الطهارة.

وقوم تجاوز بهم إلى مجاوزة الحد بالوسواس.

وقوم قصر بهم عن إخراج الواجب من المال.

وقوم تجاوز بهم حتى أخرجوا جميع ما بأيديهم.

وقوم قصر بهم حتى عن تناول ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم.

وقوم تجاوز بهم حتى أخذوا فوق الحاجة فأضروا بقلوبهم وأبدانهم.

وقصر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم.

وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم.

وقصر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات كالجمعة والجماعات والجهاد وتعلم العلم.

وتجاوز بقوم حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام.

وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح عصفور أو شاة ليأكله.

وتجاوز بآخرين حتى جرّأهم على الدماء المعصومة.

ص: 116

وقصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم النافع.

وقصر بقوم حتى منعهم من الاشتغال بالعلم النافع.

وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به.

وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم.

وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص.

وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم من النكاح فرغبوا عنه بالكلية.

وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا ما وصلوا إليه من الحرام.

وقصر بقوم حتى جفوا الشيوخ من أهل الدين والصلاح وأعرضوا عنهم ولم يقوموا بحقهم.

وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله.

وقصر بقوم حتى منعهم قبول أقوال أهل العلم.

وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه والحرام ما حرموه وقدموا أقوالهم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الصريحة.

وعد رحمه الله أشياء كثيرة يطول ذكرها اقتصرنا على ذكر بعضها والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

(موعظة)

قال الله جل ذكره: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] . وقال جل وعلا: {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] . وقال عز من قائل: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] . وقال تبارك وتعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} [الطور: 29] .

ص: 117

وقال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] . وقال جل وعلا: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ} [إبراهيم: 5] . وقال جل وعلا وتقدس: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً} [النور: 17] .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة فالوعظ والتذكير فريضتان واجبتان ماضيتان على أهلهما بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وقد أمر الله الموعوظين بالاستماع والإصغاء للموعظة لما فيها من المنافع العظيمة.

فعلى كل إنسان مهما جل قدره وعظم خطره أن يحرص ويجتهد على استماع الموعظة وقبول النصيحة لأنه إذا فعل ذلك فاز بقسطه الأوفر وحظه الأجزل واستحق من الله البشرى في العاجل والثواب في الآجل ومن عقلاء خلقه الثناء الحسن والمدح والإكرام والدعاء.

فإن الله جل ذكره يقول: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17]، ثم قال:{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18] .

وقد شبه الله الكفرة المعرضين عن القرآن الذي هو مشتمل على التذكرة الكبرى والموعظة العظمى بالحمر قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 51] . فليحذر المسلم أن يتشبه بهم ويعرض عن الموعظة.

وقد جعل الله جل ذكره الخير في الاعتبار والاعتبار بالتفكير وحث عليه في عدة مواضع من كتابه قال تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] . وقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44] .

وقال جلا وعلا: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ

ص: 118

وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الروم: 8] . وقال جل وعلا وتقدس: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3] .

وقال عز من قائل: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] . وقال جل وعلا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] .

فمن قريب ما يجب أن يفكر فيه اللبيب ويتدبره أن يتذكر أحوال الأمم والقرون الماضية والملوك الأولين الذي كانوا من أشد خلق الله قوة وأكثر جمعًا وأبين آثارًا وأطول أعمارًا الذين بنوا المدائن وجمعوا الخزائن وحفروا الأنهار وعمروا الديار وشيدوا القصور.

ودبروا الأمور وجمعوا الجموع وقادوا الجيوش وساقوا الخيول ودوخوا البلاد وأذلوا العباد ومشوا في الأرض مرحًا واختالوا بما أوتوا فرحًا فأخذهم الله بما كانوا يكسبون.

فأصبحوا بعد العز والمنعة والملك والرفعة والصيت والسطوة والذكر والصولة عظامًا رميمًا ورفاتًا هشيمًا وأصبحت منازلهم خاوية وقصورهم خالية وأجسادهم بالية وأصواتهم هادئة.

تخبرك آثارهم معاينة وتقرع سمعك أخبارهم مجاهرة فلم يصحبهم من الدنيا ما جمعوا ولم يدفع عنهم الردى ما كسبوا ولعلهم ندموا حيث لم تنفعهم الندامة وتلهفوا حيث لا يغني عنهم التلهف شيئًا.

وإن الباقي عما قليل كالفاني والغابر عما قليل كالماضي وما بينهما إلا أنفاس معلومة وأيام معدودة سريعة الانقضاء قريبة الانتهاء.

فليحذر المغتر بملكه والمتمتع بعزه هذه الصرعة وليستعد لهذه الوجبة

ص: 119

ولينته لهذه الموعظة فإن الله جعلها في أوائل مواعظه.

وكررها في مواضع من كتابه حيث جل وعلا وتقدس يقول: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الروم: 9] .

وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [غافر: 82] .

وقال جل وعلا وتقدس: {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ} [غافر: 21] .

وعد جل وعلا كثيرًا منهم في كتابه ووصفهم وسماهم في خطابه حيث يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَاد} [الفجر: 14] .

وقال: {وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [الفرقان: 38] ، هذا خبر أصدق القائلين وهذا قول حق وقد جعل الله بكل ما شوهد في أيامه وعوين في زمانه ممن رفعوا ثم وضعوا وعلوا ثم صرعوا ودارت عليهم الدوائر ونابتهم النوائب ما في بعضه مقنع لمعتبر وبلاغ لمدكر.

قالوا وأشرف أبو الدرداء صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل حمص فقال يا أهل حمص أتبنون ما لا تسكنون وتأملون ما لا تدركون وتجمعون ما لا تأكلون.

ص: 120

إن من كان قبلكم بنوا شديدًا وأملوا بعيدا وجمعوا كثيرا فأصبحت اليوم مساكنهم قبورًا وأملهم غرورا وجمعهم بورا.

وقد قال أحد فصحاء الملوك في خطبته: ألم تروا مصارع من كان قبلكم كيف استدرجتهم الدنيا بزخارفها ونفتهم ثم تركتهم وقد تخلت عنهم فهم في حيرة وظلمة مدلهمة تركوا الأهلين والأولاد والعيال والأموال.

مساكنهم القبور وقد خلت منهم الدور وتقطعت منهم الأوصال والصدور وصاروا ترابًا باليًا وكان الله لهم ناهيًا قال تعالى: {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6] } [فاطر: 5] .

شعرًا:

نَبْكِي على الدنيا وما مِن مَعْشَرٍ

جَمَعَتْهُم الدنيا فِلَمْ يَتفرَّقُوا

أَيْنَ الأكاسِرَةُ الجَبَابِرةُ الأُولى

كَنُزوا الكُنوزَ فما بَقِينَ ولا بَقُوا

مِن كُلِ مَن ضاقَ الفَضَاءُ بِجَيشِهِ

حَتَّى ثَوى فَحَواهُ لَحْدٌ ضَيِّقُ

خُرُسٌ إذا نُوُدُوا كَأنْ لم يَفْهَمُوا

أَنَّ الكلامَ لهُم حَلالٌ مُطْلَقُ

فالموتُ آتٍ والنفُوسُ نَفَائِسٌ

والمُسْتَغِرُ بِمَا لَدَيْهِ الأَحْمَقُ

آخر:

أَجِدكَ مَا الدنيَا ومَاذا نَعِيْمُها

وهَلْ هِيَ إِلَّا جَمْرَةً تَتَوقَدُ

لَعَمِري لَقَدْ شَاهَدتُ فِيهَا عَجَائِبًا

وصَاحَبنَي فيها مَسوْدٌ وسَيدُ

رأيتُ بها أهْلَ المَواهِبِ مَرَّة

وقد طَابَ عَيْشٌ والسُّرور يُجَدَّدُ

فما رَاعَهُم إلا الرَّزا يا ثَوابِتٌ

عَلَيهِم وَقَامَت في أذاهم تُحَشَّدُ

وأَسْقَتْهُمُوا كأسًا مِن الذُلِ مُتْرَعًا

وَكانَ لَهُم فَوقَ السِّمَاكَينِ مَقْعَدُ

ص: 121

وَدانَتْ لِمَنْ ناوَاهُمُ بَعْضَ بُرهَةٍ

عَلَى نَكَدٍ فِي كُلَّ يَومٍ يُجَدَّدُ

اللهم وفقنا للزوم الطريق الذي يقربنا إليك وهب لنا نورًا نهتدي به إليك ويسر لنا ما يسرته لأهل محبتك وأيقظنا من غفلاتنا وألهمنا رشدنا واسترنا في الدنيا والآخرة واحشرنا في زمرة عبادك المتقين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

قال علي بن أبي طالب من هوان الدنيا وحقارتها أن الله أخرج أطايبها من خسائسها فالدنيا سبعة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومنكوح ومسموع ومبصر.

أما المأكولات فأشرفها العسل وهو لعاب ذباب وأطيب المشروبات الماء ويستوي في شربه الآدمي والكلب والخنزير والحمار.

وأفضل الملبوسات الحرير والإبريسم وهو لعاب دودة وأشرف المناكح النساء وحقيقتها مبال في مبال وأشرف المشمومات المسك وهو دم غزال والمسموع والمبصر مشترك بين ذلك وبين البهائم.

قَدْ أوْلَعَ الناسُ في الدنيا بأرْبَعَةٍ

أَكلٍ وشُرْبٍ ومَلْبُوسٍ وَمْنكُوحٍ

وَغَايَةُ الكُلِّ إنْ فَكرتَ فِيهِ إِلى

رَوْثٍ وبَولٍ وَمَطْرُوح ومَفضوحٍ

فإن قيل ما السبب في حب الدنيا والتعلق بها والتكالب عليها مع كثرة همومها وغمومها وأنكادها فالجواب قلة المعرفة بعيوبها فلو كشف الغطاء لهربوا منها فإن قيل ما سبب زهد الأمراء في أبواب العلماء ورغبة العلماء فيما

ص: 122

عند الأمراء قيل سبب زهدهم لقلة رغبتهم ومعرفتهم بالعلم وأما رغبة العلماء فلمعرفتهم بفضيلة المال عند الحاجة إليه والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم (فائدة في معالجة حب الدنيا المستغرق للوقت)

أعلم أن حب الدنيا يندر من يسلم منه وهو ينبعث من طول الأمل لأن الإنسان يقول الأيام بين يدي وأفعل غدًا كذا وبعد غد سأفعل وأتمتع بالدنيا والتوبة مفتوح بابها وتتمادى به الأيام في جمع الأموال وبناء القصور ونحو ذلك وتشعب آماله إلى أن ينسى أن النفس الواحد يبعده من الدنيا ويدنيه من الآخرة.

وما نَفَسٌ إِلَّا يُباعِدُ مَوْلِدًا

ويُدْنِي المَنَايَا لِلنُّفوسِ فَتَقْرُبُ

ولكن من العلاج النافع أن يقول الموت ليس بيدي فكيف اعتمد على الحياة فربنا قضى والموت لا يتأخر بكراهتي قال الله جل وعلا: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61] . وقال عز من قائل: {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا} [المنافقون: 11] .

ومن ذلك أن يقول هبني جمعت الدنيا أليس عند الموت أترك ذلك وأسأل عنه ويتمتع فيه غيري فلما لا أفكر في ذلك أجمع الدنيا لغيري وأبوء بحسابها وأضرارها. وأكون كما قال الشاعر:

كَدُوْدٌ كَدُودِ القَزِّ يَنْسِجُ دَائِمًا

ويَهْلِكُ غَمًّا وَسْط ما هُوْ نَاسِجُ

آخر:

وذِي حِرصٍ تَرَاهُ يُلِمُّ وفرًا

لِوَارِثِهِ وَيَدْفَعُ عَن حِمَاهُ

ككَلْبِ الصَّيِّد يُمْسِكُ وَهُو طَاوٍ

فَرِيْسَتَهُ لِيَأَكَلَها سِوَاهُ

ومن العلاج أن يعلم أن من كانت دنياه أكثر فحسرته أشد وخوفه

ص: 123

أعظم بخلاف من كان أخف منه دنيا فأمره أسهل فصاحب الألفين أشد حسابًا من صاحب الألف وهلم جرا.

ومن العلاج زيارة المقابر والنظر في مصارع الآباء والأمهات والأخوة والأخوات وسائر القرابات والأقران والزملاء والأصدقاء ويزور المستشفيات والمرضى والسجون والمستوصفات ليشكر الله على نعمه العظيمة.

تَزَوَّدْ مِن الدُنَيا فِإِنكَ رَاحِلُ

وَبَادِرْ فإنَّ الموتَ لا شَكَّ نَازِلُ

آخر:

خَلتْ دُورُهُم منهم وَأقْوَتْ عِراصُهُم

وساقَهُمُ نَحْو المنايَا المَقَادِرُ

وَخَلَّوْا عَن الدُنَيا وما جَمَعُوا لَها

وضَمَّهُمُ تَحْتَ التُرابِ الحَفائِرُ

آخر:

وعَضَتَكَ أجْدَاثٌ وهُنَّ صُمُوْت

وَأَصْحَابُهَا تَحْتَ التُراب خُفُوْتُ

أيا جَامِعَ الدنيا ومُهْمِلَ نَفْسِهِ

لِمَنْ تَجْمَعِ الدُنْيَا وَأَنْتَ تَمُوْتُ

ومن العلاج أن ينظر الإنسان إلى جسمه وانحلال قواه واشتعال الشيب الذي هو بريد الموت وضعف نظره وسمعه وتقارب خطاه وسقوط أسنانه.

تَسَاقَطُ أَسْنِانٌ وَيَضْعُفُ ناظِرٌ

وتَقْصُرُ خُطْواتٌ ويَثْقُلُ مَسْمَعُ

ومن العلاج أن تقول الرسل أعلم مني قنعوا بالقوت ورضوا بالكفاف وما طلبوا الدنيا فلماذا أنهمك فيها وأحرق نفسي وأغفل عن ما قدامي من الأهوال والعظائم التي أنا مقبل عليها في الآخرة.

أين الملوك أين الجبابرة أين الطغاة وأعوانهم انظري يا نفس هل بقى منهم أحد قال تعالى: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم: 98] .

ص: 124

ومن العلاج أن تقول نفرض أنك ملكتي الدنيا بأسرها وصفا لك عذبها وزلالها وأدركت الأماني أليس آخر ذلك الموت وعاقبته الفوت فلماذا تحرق نفسك في طلب ما هو عارية ووديعة ولا تذهب إلا بالكفن فقط.

فَقُلْ لِلِّذِي قد غَرَّهُ طُولُ عُمْرهِ

وَمَا قَدْ حَوَاهُ مِن زَخَارِفَ تَخْدَعُ

أفِقْ وانظُر الدُنيا بعَيْنِ بَصِيْرةٍ

تَجِدْ كُلَّ ما فيها وَدَائعَ تَرْجِعُ

آخر:

وَمَا المالُ والأَهْلُوْنَ إِلا وَدَائعٌ

وَلَا بُدَّ يومًا أَنْ تُرَدَّ الوَدَائِعُ

آخر:

هَوِّنْ عَلَْيَك فما الدُنْيا بِدَائمةٍ

ِ

وَإِنَّمَا أَنْتَ مِثْلَ الناسِ مَغْرُوْرُ

وَلَو تَصَوَّرَ أَهْلُ الدهْرِ صُورَتَهُ

لم يُمْسِ منهُمْ لَبيبٌ وَهْوَ مَسْرُورُ

آخر:

لَمَا تُؤْذِنُ الدُّنْيا به مِن صُرُوْفهَا

يَكُونُ بُكَاءَ الطِفْلِ سَاعَةَ يُوْلَدُ

آخر:

نَصِيْبُكَ مِمَّا تَجْمَعَ الدَّهْرَ كُلَّهُ

رِدَاآنِ تُطْويَ فِيْهمَا وحَنُوطُ

والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم

(فصل)

عن إبراهيم التيمي قال ينبغي لمن لا يحزن أن يخاف أن يكون من أهل النار لأن أهل الجنة قالوا: "الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن" وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا:"إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين".

ص: 125

وعن الفضيل بن عياض قال قيل لسليمان التيمي أنت وأنت أي يثنون عليه قال لا تقولوا هكذا فإني لا أدري ما يبدو لي من ربي عز وجل سمعت الله عز وجل يقول: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] . وإني أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن احتسب.

وعن عكرمة عن محمد بن المنكدر أنه جزع عند الموت فقيل له لم تجزع فقال أخشى آية من كتاب الله عز وجل قال الله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] . وإني أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب.

قلت وفيه آيات أخرى ينبغي أن تكون نصب عيني العاقل اللبيب وذلك قوله تعالى: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] .

وقوله تعالى: {يوم تبلوا كل نفس ما أسلفت} [وقوله: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56] .

وقوله جل وعلا وتقدس: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] .

وقال عبد الأعلى التيمي شيئان قطعا عني لذة الدنيا ذكر الموت والوقوف بين يدي الله عز وجل.

وعن أبي إسحاق قال أوى أبو ميسرة عمرو بن شرحبيل إلى فراشه فقال يا ليت أمي لم تلدني فقالت له امرأته أبا ميسرة أليس الله قد أحسن إليك هداك للإسلام وفعل بك كذا قال بلى ولكن الله أخبرنا أنا واردون على النار ولم يبين لنا أنا صادرون عنها.

ص: 126

وقال الحسن إن المؤمن يصبح حزينًا ويمسي حزينًا وينقلب باليقين في الحزن ويكفيه ما يكفي العنيزة الكف من التمر والشربة من الماء.

وقال حبيب ابن أبي ثابت ما استقرضت من أحدٍ شيئًا أحب إلى من نفسي أقول لها أمهلي حتى يجئ من حيث أحب.

شعرًا:

إذا رُمتَ أنْ تَستَقْرِضَ المَالَ مُنْفِقًا

على شهواتِ النَّفْسِ في زَمَنِ العُسْرِ

فَسَلْ نَفْسُكَ الإِنفاقَ مِن كَنْزِ صَبْرِها

عَلَيْكَ وإِنْظَارًا إلى زَمَنِ اليُسْرِ

فإن فَعَلَتْ كُنْتَ الغَنيَّ وإن أَبَتْ

فكُلَّ مَنَوُع بَعْدَها واسِعُ العُذْرِ

وقال الثوري ما ضرهم ما أصابهم في الدنيا جبر الله لهم كل مصيبة بالجنة، وسأل رجل سفيان الثوري فلم يكن معه ما يعطيه فبكى سفيان فقال له مسعر بن كدام ما يبكيك قال وأي مصيبة أعظم من أن يؤمل فيك رجل خيرًا فلا يصيبه عندك.

وبكى ثابت حتى كادت عينه تذهب فجاءوا برجل يعالجها فقال الرجل أعالجها على أن تطيعني قال وأي شيء قال على أن لا تبكي قال فما خيرهما إن لم تبكيا وأبى أن يعالجها.

وكان شقيق بن سلمة إذا صلى في بيته ينشج –أي يخشع ويبكي- ولو جعلت له الدنيا على أن يفعله وأحد يسمعه أو يراه ما فعله- أي يخشى من الرياء.

روى شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أخوف ما أخاف على أمتي الرياء» .

وكان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج على فرسه ليلاً إلى المقبرة فيقف على القبور فيقول يا أهل القبور قد طويت الصحف وقد رفعت الأعمال ثم

ص: 127

يبكي ويصف قدميه حتى يصبح فيرجع فيشهد صلاة الصبح.

وقالت امرأة حسان بن سنان كان يجئ فيدخل معي في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها فإذا علم أني نمت سل نفسه فخرج ثم يقوم فيصلي قالت فقلت له يا أبا عبد الله كم تعذب نفسك ارفق بنفسك فقال اسكتي ويحك فيوشك أن أرقد رقدة لا أقوم منها زمانا.

عن عبد الله بن المبارك قال حدثنا وهيب قال ما اجتمع قوم في مجلس أو ملأ إلا كان أولاهم بالله الذي يفتتح بذكر الله حتى يفيضوا في ذكره وما اجتمع قوم في مجلس أو ملأ إلا كان أبعدهم من الله الذي يفتتح بالشر حتى يخوضوا فيه وفي الحديث طوبى لمن كان مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر وويل لمن كان مفتاحًا للشر مغلاقًا للخير.

(فصل)

كتب عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد الله أن اكتب إلي بشيء من رسائل عمر بن الخطاب فكتب أن يا عمر اذكر الملوك الذين تفقأت أعينهم الذين كانت لا تنقضي لذاتهم وانفقأت بطونهم التي كانوا لا يشبعون بها وصاروا جيفًا في الأرض وتحت أكنافها أن لو كانت إلى جنب مسكين لتأذى بريحهم.

وقال بلال بن سعد: رب مسرور مغبون ورب مغبون لا يشعر فويل لمن له الويل ولا يشعر يأكل ويشرب ويضحك ويلعب وقد حق عليه في قضاء الله أنه من أهل النار.

عن عون بن عبد الله بن عتبة أنه كان يقول: يا ويح نفسي كيف أغفل ولا يغفل عني أم كيف تهنيني معيشتي واليوم الثقيل ورائي أم كيف يشتد

ص: 128

عجبي بدار في غيرها قراري.

وكان داود الطائي في دار واسعة خربة ليس فيها إلا بيت وليس على بيته باب فقال بعض القوم أنت في دار وحشة فلو اتخذت لبيتك هذا بابًا أما تستوحش فقال حالت وحشة القبر بيني وبين وحشة الدنيا.

وقال محمد بن كعب: الدنيا دار فناء، منزل بلغة رغبت عنها السعداء وأسرعت من أيدي الأشقياء فأشقى الناس بها أرغب الناس فيها وأسعد الناس فيها أزهد الناس بها هي المعذبة لمن أطاعها المهلكة لمن اتبعها الخائنة لمن انقاد لها علمها جهل وغناؤها فقر وزيادتها نقصان وأيامها دول.

وعن بكر بن محمد قال: قلت لداود الطائي أوصني قال: عسكر الموتى ينتظرونك.

وقال أبو حازم: من عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء ولم يحزن على بلوى.

وقال ابن المبارك: أهل الدنيا خرجوا من الدنيا قبل أن يتطعموا أطيب ما فيها قيل له وما أطيب ما فيها قال المعرفة بالله عز وجل.

وقال شداد بن أوس رضي الله عنه: إنكم لم تروا من الخير إلا أسبابه ولم تروا من الشر إلا أسبابه، الخير كله بحذافيره في الجنة والشر كله بحذافيره في النار وإن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر والآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر ولكل بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا.

وقال عمر بن ذر اعملوا لأنفسكم رحمكم الله في هذا الليل وسواده فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار والمحروم من حرم خيرهما وإنما جعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربهم ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم فأحيوا لله

ص: 129

أنفسكم بذكره فإنما تحيا القلوب بذكر الله كم من قائم في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في حفرته وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عند ما يرى من كرامة الله عز وجل للعابدين غدًا فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام.

وقال رجل لداود الطائي أوصني فدمعت عيناه ثم قال له يا أخي إنما الليل والنهار مراحل تنزل بالناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم فإن استطعت أن تقدم في كل يوم مرحلة زادًا لما بين يديك فافعل.

فإن انقطاع السفر عن قريب والأمر أعجل من ذلك فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك فكأنك بالأمر قد بغتك إني لأقول هذا وما أعلم أحدًا أشد تضييعًا مني لذلك ثم قام.

وجاء داود الطائي أحد أصحابه بألفي درهم وقال هذا شيء جاء الله به لم تطلبه ولم تشره له نفسك قال داود إنه لمن أمثل ما يأخذون قال فما يمنعك منه قال لعل تركه أن يكون أنجى.

وقال محمد بن واسع: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جنبه.

وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث ضحكت من مؤمل الدنيا والموت يطلبه وغافل لا يغفل عنه وضاحك ملء فيه لا يدري أمُسخطٌ ربه أم مرضيه.

وأبكاني ثلاث فرقة الأحبة محمد وحزبه وهول المطلع عند غمرات الموت والوقوف بين يدي رب العالمين حين لا أدري إلى النار انصرافي أم إلى الجنة.

ص: 130

وقال أحد السلف لأن أعلم أن الله تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها لأن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] .

وقال إبراهيم التيمي مثلت نفسي في النار أعالج أغلالها وسعيرها وأكل من زقومها وأشرب من حميمها فقلت يا نفس أي شيء تشتهين قالت أرجع إلى الدنيا أعمل عملاً أنجو به من هذا العذاب.

ومثلت نفسي في الجنة مع حورها ألبس من سندسها واستبرقها وحريرها فقلت يا نفس أي شيء تشتهين قالت أرجع إلى الدنيا فأعمل عملاً أزداد به من هذا الثواب فقلت الآن أنت في الدنيا وفي الأمنية. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.

‌7 -[موعظة]

عباد الله إن مفتاح سعادة المرء في دنياه وأخراه أن يراقب مولاه بحيث يكون في كل حال من أحواله مستحضرًا عظمة ربه وجلاله ولا ينساه مؤمنًا بأنه تعالى يراه أينما كان ويعلم سره ونجواه فمن كان هكذا أورثه ذلك خشية ربه في سره وعلانيته، فإذا خاف الإنسان ربه خوفًا صحيحًا وقف ولا بد عندما حد له من حدود يفعل أوامره ويجتنب نواهيه، لا يحمله على ذلك إلا إجلاله لربه، ومن أبعد البعد أن يقرب المعصية من كان هكذا، لأنه يستحضر أن الله تعالى يراه، ويوقن أن الله تعالى يجازيه على كل ما قدم من طاعة أو معصية فإذا وصل العبد إلى هذه الحالة كان مع توفيق الله له من صفوة خلق الله المتقين الذين لله تعالى بهم عناية فوق ما يتصوره المتصورون هو أنه تعالى أخبره عن مبلغ هذه العناية في الكتاب المبين أخبر تعالى أنه معهم

ص: 131

لما هم عليه مما وفقهم له من تقوى وإحسان، وإذا كان الأمر هكذا. فمن يغلب التقي ومعه القاهر الغلاب ومن يذله ومعه من بيده ناصية كل مخلوق ومن يحوجه ومعه من كل العوالم تتقلب في بحبوحة جوده وكرمه الباهر، ومن يشقيه ومعه من لا سعادة إلا وهي من فيض كرمه وإحسانه. فعليك بلزوم تقوي الله وطاعته تنل السعادة في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم:«أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت» . رواه الطبراني.

شعرًا:

أَعَارَتْكَ دُنْيَا مُسْتَردٌ مُعارُهَا

غَضَارَة عَيشِ سَوْفَ يَذْوِي اخْضِرَارُها

وهَلْ يَتَمَنَّى المُحْكَمُ الرأي عِيْشَةً

وقد حَانَ مِن دُهم المَنايا مَزارُهَا

وكَيفَ تَلذُّ العَينُ هَجْعَةَ سَاعَةٍ

وقد طَالَ فِيمَا عَايَنَتْهُ اعْتِبَارُهَا

وكَيفَ تَقِرُّ النَّفْسُ فِي دَارِ نُقْلَةٍ

قَدْ اسْتَيقَنَتْ أَنْ لَيْسَ فِيهَا قَرَارُهَا

وأَنّىَ لهَا في الأَرضِ خَاطِرُ فِكْرَةٌ

ولَمْ تَدْرِ بَعْدَ الموتِ أَيْنَ مَحَارُهَا

أَلَيْسَ لَهَا فِي السَّعْي لِلْفَوزِ شَاغِلٌ

أَمَا في تَوقِّيِهَا العَذابَ ازْدِجَارُهَا

فَخَابَتْ نُفُوسُ قَادَهَا لَهُو سَاعَةٍ

إِلَى حَرِّ نَارٍ لَيْسَ يَطْفَى أُوَارُهَا

لَهَا سَائِقٌ حَادِ حَثِيْثٌ مُبَادِرٌ

إِلَى غَيْرَ ما أضْحَى إليهِ مَدَارُهَا

تُرادُ لِأَمْرٍ وَهْيَ تَطْلُبُ غَيَرهُ

وَتَقْصِدْ وَجْهًا فِي سِوَاهُ سِفَارُهَا

أَمُسْرِعَةٌ فِيمَا يَسُوءُ قِيامُهَا

وَقَدْ أَيْقَنَتْ أنَّ العَذَابَ قُصَارُهَا

تُعَطِّلُ مَفُرُوْضًا وَتَعْنَى بِفَضْلَةٍ

لَقَدْ شَفَّهَا طُغْيَانُها وَاغْترارُهَا

إِلَى مَا لهَا مِنْهُ البَلاءُ سُكُونُهَا

وَعَمَّا لَهَا مِنْهُ النَّجَاحُ نِفَارُهَا

وتُعْرضُ عن رَبٍّ دَعَاهَا لِرُشْدِهَا

وتَتَبعُ دُنْيًا جَدَّ عنها فِرَارُهَا

فيأَيُها المَغْرُوْرُ بادِرْ برَجْعَةٍ

ص: 132

فِلِلَّهِ دَارٌ لَيْسَ تَخْمُدُ نَارُهَا

وَلا تَتَخيَّرْ فَانِيًا دُوْنَ خَالِدٍ

دَلِيلٌ على مَحْضِ العُقولِ اخْتِيَارُهَا

أَتَعْلَمُ انَّ الحقَّ فِيْمَا تَركْتَهُ

وتَسْلُكُ سُبْلاً لَيْسَ يَخْفَى عِوَارُهَا

وتَتْرُكَ بَيْضَاءَ المَنَاهِجَ ضِلَّةً

لِبَهْمَاءَ يُؤْذِيْ الرِّجْلَ فيها عِثَارُهَا

تُسَرُّ بِلَهْوٍ مُعْقِبٍ بِنَدَامَةٍ

إِذَا مَا انْقَضَى لَا يَنْقَضِيْ مُسْتَشَارُهَا

وتَفْنَى اللَّيالِي والمَسرَّاتُ كُلُّهَا

وَتَبْقَى تِبَاعَاتُ الذُّنوبِ وَعَارُهَا

فَهَلْ أَنْتَ يَا مَغْبُونُ مُسْتَيْقِظٌ فَقَدْ

تَبَّينَ مِن سِرّ الخُطُوبَ اسْتِتَارُهَا

فَعَجِّلْ إِلَى رِضْوانِ رَبِّكَ واجْتَنِبْ

نَوَاهِيَهُ إِذْ قَدْ تَجَلَّى مَنَارُهَا

تَجدُّ مُرُوْرُ الدهر عَنْكَ بلَاعِب

وتُغْرى بدُنيا سَاءَ فِيْكَ سِرَارُهَا

َفَكَمْ أُمَّةٍ قَدْ غَرَّهَا الدَّهْرُ قَبْلَنَا

وَهَاتِيْكَ مِنْهَا مُقْفِرَاتٌ دِيَارُهَا

إِذَا حَفُّهُمْ عَفْوُ الإِلهِ وفَضْلُهُ

وَأَسْكَنَهُم دَارًا حَلَالاً عَقَارُهَا

يَفزُّ بَنُو الدنيا بِدُنُياهُم الَّتِي

يَظُنُّ عَلَى أهل الحظوظِ اقْتِصَارُهَا

هِيَ الأُمُّ خَيرُ البرِّ فيها عقُوقُهَا

وَلَيْسَ بِغَيْرِ البَذلِ يُحْمَى ذِمَارُهَا

فَمَا نَالَ مِنْهَا الحَظَّ إِلا مُهِيْنُهَا

وَمَا الهُلْكُ إِلَّا قُرْبُها واعْتِمارُهَا

تَهَافَتَ فيها طَاِمعٌ بَعْدَ طَامِعٍ

وقد بانَ لِلُّبِ الذَّكِيّ اخْتِبَارُهَا

تَطَامَنْ لِغَمْرٍ الحادِثاتِ ولا تَكُنْ

لَهَا ذَا اعْتِمَارٍ يَجْتَنِبْكَ غِمَارُهَا

وَإِيَّاكَ اَنْ تَغْتَّرَ منها بما تَرَى

فَقَدْ صَحَّ في العقل الجَلي عِيارُهَا

رَأَيْتُ مُلُوكَ الأرضِ يَبْغُونَ عُدَّةً

وَلَذَّة نَفْسٍِ يُسْتَطابُ اجْتِرارُهَا

وَخَلَّوا طَرِيْقَ القَصْدِ في مُبْتَغَاهُمُ

لِمُتْبِعَةِ الصِفارُ جَمٌ صِغَارُهَ

وإِن الَّتِي يَبغُون نَهْجَ بَقِيَّة

مَكِيْن لِطُلاب الخَلاصِ اخْتِصَارُهَا

هَل العِزُّ إِلا هِمةٌ صَحَّ صَوْنُها

ص: 133

إِذَا صَانَ هَمَّاتِ الرِجال انْكسَارُهَا

وهَلْ رَابحٌ إِلا امْرُؤٌ مُتَوكِّلٌ

قَنُوعٌ غَنِيُّ النِّفْسِ بَادٍ وَقَارُهَا

ويَلْقَى وُلاةُ المُلْكِ خَوفًا وَفكرةً

تَضِيْقُ بها ذَرْعًا وَيَفْنَى اصْطِبَارُهَا

عِيانًا نَرَى هَذا ولَكِنْ سَكْرَةً

أَحَاطَتْ بِنَا مَا إِن يُفيْقُ خُمَارُهَا

تَدَبَّرْ مَن البانِي عَلَى الأَرْضَ سَقْفَهَا

وَفِي عِلْمِهِ مَعْمُورُهَا وَقفِارُهَا

ومَن يُمْسِكُ الأَجرامَ والأَرضَ أَمْرُهُ

بِلا عَمَدٍ يُبْنَي عَلَيهِ قَرارُهَا

ومَن قدَّرَ التَّدبِيْرَ فِيهَا بحِكْمَةٍ

فَصَحَّ لَدَيْهَا لَيْلُها ونَهارُهَا

ومنَ فَتقَ الأَمواهَ في صَفْحِ وَجْهِهَا

فَمِنها يُغَذَّي حَبُها وثمِارُهَا

ومنَ صَيَّر الألوانَ في نَوْرِ نَبْتِها

فأشرقَ فِيهَا وَرْدُهَا وَبَهَارُهَا

فَمِنْهنَّ مُخْضرٌّ يَرُوقُ بَصِيْصُهُ

وَمِنْهنَّ مَا يَغْشَى اللِّحَاظَ احْمَرارُهَا

وَمَن حَفَرَ الأَنْهَارَ دُوْنَ تَكلُفِ

فَثَارَ مِن الصُّمِّ الصِّلاب انْفِجَارُهَا

وَمَن رتَّبَ الشمسَ المنير ابْيِضَاضُهَا

غُدوًّا وَيبْدُو بالعَشِيّ اصْفَرارُهَا

ومَن خَلقَ الأفلاكَ فامْتدَّ جَرْيُهَا

وَأَحْكَمَهَا حتى اسْتَقَامَ مَدَارُهَا

تَذَكَّرْ عَلَى مَا قَدْ مَضَى واعْتِبَرْ بِهِ

فإِنَّ المُذَكِّيْ لِلْعُقُولِ اعْتِبَارُهَا

تَحَامَى ذُراهَا كُلَّ بَاغٍ وَطَالِبٍ

وَكَانَ ضَمَانًا في الأَعَادِي انْتِصَارُهَا

تَوَافَتْ بِبَطْنِ الأَرضِ وَانْشَتَّ شَمْلُهَا

وَعَادَ إِلَى ذِي مُلكةِ مُسْتَعَارُهَا

وَكَمْ رَاقُدٍ في غَفَلَةٍ عَن مُنْيَّةٍ

مُشَمَّرَةٍ في القَصْدِ وَهْوَ سِعَارُهَا

وَمَظْلَمَةٍ قَدْ نَالَهَا مُتَسِلِّطٌ

مُدِلٌ بِأَيْدٍ عِنْدَ ذِي العَرشِ ثَارُهَا

أَرَاكَ إِذَا حَاوَلْتَ دُنْيَاكَ سَاعِيًا

على أَنَّهَا بَادٍ إِليْكَ أَزْوُرَارُهَا

وَفي طَاعَةِ الرحمنِ يُقْعِدُكَ الوَنَى

وتُبْدِيْ أَنَاةً لا يَصْحُّ اعْتِذَارُهَا

تُحَاذِرُ إِخْوَانًا سَتَفْنَى وَتَنْقَضِي

ص: 134

وَتَنْسَى الَّتِي فَرْضٌ عَلَيْكَ حِذارُهَا

كَأَنَّي أَرَى مِنْكَ التَّبَّرمَ ظَاهِرًا

مُبِيْنًا إِذَا الأَقْدَارُ حُلَّ اضْطِرَارَهُا

هُنَاكَ يَقُولُ المَرْءُ مَن لِي بَأَعْصُرٍ

مَضَتْ كَانَ مِلْكًا في يَدَيَّ خِيَارُهَا

تَنَبَّهْ لِيَومٍ قَدْ أَظَلَّكَ وِرْدُهُ

عَصِيْبٍ يُوافِي النَّفْسَ فِيْهِ احْتِضَارُهَا

تَبَرّا فِيْهِ مِنْكَ كُلُّ مُخَالِطٍ

وَإِنَّ مِنْ الآمَالِ فِيْهِ انْهِيَارُهَا

فَأُوْدِعَتْ في ظَلْمًا ضَنْكٍ مَقَرُّهَا

يَلُوْحُ عَلَيْهَا لِلْعُيُونِ اغْبِرَارُهَا

تُنَادَى فَلا تَدرِي المُنادي مُفْردًا

وقد حُطَّ عَن وَجْهِ الحَيَاةِ خِمَارُهَا

تُنَادَى إِلى يومٍ شَدِيْدٍ مُفَزّعٍ

وَسَاعةِ حَشْرٍ لَيْسَ يَخْفَي اشْتَهَارُهَا

إِذَا حُشرتْ فيه الوُحُوشُ وَجُمّعَتْ

صَحَائِفُنَا وانْثَالَ فِيْنَا انْتِثَارُهَا

وَزُيّنَتِ الجنَّاتُ فِيهِ وأُزْلفَتْ

وأُذِكيَ مِن نَارِ الجحيمِ اسْتِعَارُهَا

وَكُوِّرتِ الشَّمْسُ المُنِيْرةُ بالضُّحَى

وَأُسْرِعَ مِن زُهْرِ النُجُومِ انْكِدَارُهَا

لَقَدْ جَلَّ أَمْرٌ كَانَ مِنه انْتِظَامُهَا

وَقَدْ عُطِّلَتْ مِن مَالِكِيْهَا عِشَارِهُا

فإِمَّا لِدَارٍ لَيْسَ يَفْنَى نَعِيْمُهَا

وَإِمَّا لِدَارٍ لا يُفَكُّ إِسَارُهَا

بِحَضْرَةِ جَبّارٍ رَفِيْقٍ مُعَاقِبٍ

فَتُحْصَى المَعَاصِي كُبْرُهَا وصِغَارُهَا

وَيَنْدَمُ يَوْمَ البَعْثِ جَانِي صِغَارهَا

وَتُهْلِكَ أَهْلَيْهَا هُنَاكَ كِبَارُهَا

سَتُغْبَطُ اَجْسَادٌ وَتَحْيَا نُفُوسُهَا

إِذَا ما اسْتَوى أَسْرَارُهَا وَجِهَارُهَا

وَمَن إِنْ أَلمتْ بِالعُقُولِ رَزِيَّةٌ

فَلَيْسَ إِلَي حَيٍّ سِواهُ افْتِقَارُهَا

تَجِدْ كُلَّ هَذا رَاجِعٌ نَحْوَ خَالِقٍ

لَهُ مُلْكُهَا مُنْقَادَةً وَائْتِمَارُهَا

أَبَانَ لَنَا الآيَاتِ فِي أَنْبِيَائِهِ

فَأَمْكَنَ بَعْدَ العَجْز فيها اقْتِدَارُهَا

فَأَنْطَقَ أَفْواهًا بَأَلْفَاظِ حِكْمَةٍ

وَمَا حَلها إِثْغَارُهَا وَاتِّغارُهَا

وأبرزَ مِن صُمٍّ الحِجَارةِ نَاقَةً

ص: 135

وأَسْمَعمُ في الحِين منها حُوَارُهَا

لِيُوقِنَ أَقوامٌ وَتكفُر عُصبةٌ

أَتَاهَا بِأسْبَابِ الهَلاكِ قَدَارُهَا

وشَقَّ لِمُوسَى البَحْرَ دُونَ تَكَلُّفُ

وَبَانَ مِن الأَمواجِ فِيه انْحِسَارُهَا

وسَلَّم مِن نَارِ الأَنوق خَلِيْلَهُ

فَلَمْ يُؤذهِ إِحراقُهَا واعْتِرَارُهَا

ونَجَّىَ مِن الطُوفَانِ نُوحًا وقد هَدَتْ

بِهِ أُمةٌ أَبْدَى الفُسُوقَ شِرارُهَا

وَمَكَّنَ دَاوُدًا بأَيْدٍِ وَابْنَهُ

فَتَعْسِيرهَا مُلْقَى لَهُ وبِذَارُهَا

وذلَّلَ جبَّارَ البِلادِ بِأَمْرِهِ

وَعَلَّمَ طَيْرًا فِي السَّمَاءِ حِوَارُهَا

وَفَضَّلَ بِالقُرْآنِ أُمَّةَ أَحْمدٍ

وَمَكَّنَ فِي أَقْصَى البِلادِ مُغَارُهَا

وَشَقَّ لَهُ بَدْرَ السَّمَاءِ وَخَصَّهُ

بآياتٍ حَقٍّ لا يُخَلُ مُعَارُهَا

وَأَنْقَذَنَا مِن كُفْرٍ أَربابِنَا بِهِ

وَقَدْ كَانَ مِن قُطْبٍ الهَلاكِ مَنارُهَا

فَمَا بَالُنا لا نَتْرُكُ الجهلَ ويْحَنَا

لِنُسْلَمُ مِن نارٍ تَرامَى شِرَارُهَا

اللهم تب علينا قبل أن تشهد علينا الجوارح ونبهنا من رقدات الغفلات وسامحنا فأنت الحليم المسامح وانفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا فمنك الفضل والمنائح واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله أجمعين.

[فصل]

قال الفضيل بن عياض الدخول في الدنيا هين ولكن الخروج منها شديد وقال آخر عجبًا لمن عرف أن الموت حق كيف يفرح وعجبًا لمن عرف النار وأنها حق كيف يضحك، وعجبًا لمن رأى تقلب الدنيا بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجبًا لمن يعلم أن القدر حق كيف ينصب.

ص: 136

قال مالك بن دينار: اصطلحنا على حب الدنيا، فلا يأمر بعضنا بعضًا، ولا ينهى بعضنا بعضًا، ولا يدعنا الله على هذا فليت شعري أي عذاب الله ينزل علينا.

وقيل لبشر مات فلان فقال، جمع الدنيا وذهب إلى الآخرة وضيع نفسه.

وقال آخر: الدنيا تبغض إلينا ونحن نحبها فكيف لو تحببت إلينا.

وقال آخر: لا يصبر عن شهوات الدنيا إلا من كان في قلبه ما يشغله بالآخرة.

وقال آخر: يعظ أخًا له في الله ويخوفه بالله، فقال يا أخي إن الدنيا دحض مزلة، ودار مذلة، عمرانها إلى الخراب صائر، وعامرها إلى القبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار والإعسار فيها يسار.

فافزع إلى الله وارضى برزق الله، لا تتسلف من دار فنائك إلى دار بقائك فإن عيشك في الدنيا فيء زائل وجدار مائل أكثر من عملك وأقلل من أملك.

وقال يحيى بن معاذ العقلاء ثلاثة من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله وأرضى خالقه قبل أن يلقاه.

وقال بندار إذا رأيت أبناء الدنيا يتكلمون بالزهد فاعلم أنهم في سخرية إبليس.

وذكر أناس الدنيا وأقبلوا على ذمها عند رابعة العدوية، فقالت اسكتوا عن ذكرها فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها، إن من أحب شيئًا أكثر من ذكره.

ص: 137

شعرًا:

أَلا إنما الدنيا كجيْفَة مَيْتَةٍ

وَطُلابُهَا مِثْلُ الكِلاب الهَوامِسِ

وَأَعظمُهَمْ ذَمًّا لَهَا وأشدُهُمْ

بهَا شَغَفًا قَومٌ طِوالُ القلانُسِ

وقال آخر: الدنيا مزبلة ومجمع كلاب وأقل من الكلاب من عكف عليها، فإن الكلب يأخذ من الجيفة حاجته وينصرف والمحب للدنيا لا يفارقها بحال.

وقيل لإبراهيم بن أدهم كيف أنت فقال:

نُرقِعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيْق دِيْنِنَا

فَلا دِيْنُنَا يَبْقَى وَلا مَا نُرَقّعُ

فَطَوبَى لِعَبْدٍ آثَر الله وَحْدَهُ

وَجَادَ بِدُنْيَاه لِمَا يُتَوَقْعُ

وقال آخر:

أَرَىَ طالبَ الدُّنْيَا وَإِن طَالَ عمْرُهُ

ونالَ مِن الدُّنْيَا سُرورًا وَأَنْعُمَا

كَبَانٍ بَنَى بُنْيَانَهُ فَأقامَهُ

فَلمَّا اسْتَوى ما قَدْ بَناه تَهَدَّمَا

وقال لقمان لابنه: يا بني بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعًا ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعًا.

وقال محمد بن الحسين لما علم أهل الفضل والعلم والمعرفة والأدب أن الله عز وجل قد أهان الدنيا وأنه لم يرضها لأوليائه وأنها عنده حقيرة ذليلة.

وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم زهد فيها، وحذر أصحابه من فتنتها أكلوا منها قصدا وقدموا فضلا وأخذوا منها ما يكفي، وتركوا ما يلهي، لبسوا من الثياب ما ستر العورة، وأكلوا من الطعام أدناه مما سد الجوعة.

ونظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية وإلى الآخرة أنها باقية، فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب، فخربوا الدنيا وعمروا بها الآخرة.

ص: 138

ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم فعلموا أنهم سينظرون إليها بقلوبهم وأعينهم، ولما علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم تعبوا قليلاً وتنعموا طويلاً كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم أحبوا ما أحب لهم وكرهوا ما كره لهم.

قال عبد الله بن مسعود نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه فقلنا يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء فقال مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها.

اعلم بأن طَرِيْقَ الحقِّ مُنْفَرِدٌ

والسَّالِكُونَ طَرِيْقَ الحقِّ أَفْرَادُ

لا يَطْلُبُونَ ولا تُطْلَبْ مَسَاعِيْهُمْ

فَهُمْ على مَهَلٍ يَمشُون قُصَّادُ

وَالنَّاسُ في غَفْلةٍ عَمَّا لهُ قَصَدُوا

فَجُلْهُمْ عَن طَرِيْقِ الحَقِ رُقَّادُ

وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال: يا أيها الناس إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدقون به وهذا عملكم فإنكم حمقى، وإن كنتم تكذبون به فإنكم هلكى فما خلقتم للأبد ولكنكم من دار إلى دار تنقلون.

عباد الله إنكم في دار لكم فيها من طعامكم غصص ومن شرابكم شرق لا تصفوا لكم نعمة تسرون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها، فاعملوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه ثم غلبه البكاء ونزل.

وقال بعضهم في وصف مراحل السلوك: إن المؤمن إذا آمن بالله واستحكم إيمانه خاف الله تعالى فإذا خاف الله تعالى تولد من الخوف الهيبة.

فإذا سكنت غلبة الهيبة دامت طاعته لربه، فإذا أطاع ربه تولد من الطاعة الرجاء.

فإذا سكنت درجة الرجاء في القلب تولد من الرجاء المحبة.

فإذا استحكمت المحبة في قلب العبد سكن بعدها مقام الشوق، فإذا

ص: 139

اشتاق أداه الشوق إلى الأنس بالله، فإذا أنس بالله اطمأن إلى الله، فإذا اطمأن إلى الله كان ليله في نعيم ونهاره في نعيم وسره في نعيم وعلانيته في نعيم.

وقال بعضهم يا ابن آدم ما أنصفت إذ يدعوك داعي الدنيا بكلمة واحدة لشيء ذاهب فتجيبه مسرعًا، ويدعوك داعي الآخرة لشيء باقي صافي ثابت فلا تجيبه مسرعًا، فليتك إذ لم تقدر الآخرة سويت بينهما.

وقال آخر: العلماء العاملون أرأف بأمة محمد من آبائهم وأمهاتهم وأشفق عليهم، قيل له كيف ذلك، قال لأن آباءهم وأمهاتهم يحفظونهم من نار الدنيا، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة وأهوالها.

وقال آخر: من أقوى القوى أن تغلب نفسك، من عجز عن أدب نفسه كان عن أدب غيره أعجز، وقال: من علامات الاستدراج للعبد عماه عن عيبه، وتطلعه إلى عيوب الناس، وقال من النذالة أن يأكل العبد بدينه.

وقال آخر: وقد سئل عن الطريق إلى الله، فقال: توبة تحل الإصرار، وخوف يزيل الغرور ورجاء ينهض الخيرات، ثم مراقبة الله في خواطر القلوب.

قال أحمد بن عاصم: أنفع اليقين ما عظم في عينيك ما به أيقنت وأنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال منك الحزن على ما فات، وألزمك الفكر في بقية عمرك وخاتمة أمرك.

وأنفع الصدق أن تقر لله عز وجل بعيوب نفسكن وأنفع الحياء أن تستحي أن تسأله ما تحب وتأتي ما يكره.

وأنفع الصبر ما قواك على خلاف هواك وأفضل الجهاد مجاهدتك نفسك لتردها إلى قبول الحق.

وأوجب الأعداء منك مجاهدة أقربهم منك دنوا وأخفاهم عنك شخصًا وأعظمهم لك عداوة وهو إبليس.

ص: 140

قلت: فما ترى في الأنس بالناس؟ قال: إن وجدت عاقلاً مأمونًا فأنس به واهرب من سائرهم كهربك من السباع.

قلت: فما أفضل ما أتقرب به إلى الله عز وجل؟ قال: ترك معاصيه الباطنة.

قلت: فما بال الباطنة أولى من الظاهرة؟ قال: لأنك إذا أجتنبت الباطنة بطلت الظاهرة والباطنة.

قلت: فما أضر الطاعات لي؟ قال: ما نسيت بها مساوئك، وجعلتها نصب عينيك إدلالاً بها وأمنًا.

قال: وسمعته يقول: استكثر من الله عز وجل لنفسك قليل الرزق تخلصًا إلى الشكر، واستقلل من نفسك لله عز وجل كثير الطاعة إزراء على النفس وتعرضًا للعفو.

واستجلب شدة التيقظ بشدة الخوف؛ وادفع عظيم الحرص بإيثار القناعة، واقطع أسباب الطمع بصحة اليأس؛ وسد سبيل العجب بمعرفة النفس.

واطلب راحة البدن بإجمام القلب، وتخلص إلى إجمام القلب بقلة الخلطاء، وتعرض لرقة القلب بدوام مجالسة أهل الذكرن وبادر بانتهاز البغية عند إمكان الفرصة وأحذرك "سوف".

وكُنْ صَارِمًا كَالْوَقْتِ فَالمَقْتُ في عَسَى

وَإِيَّاكَ مَهْلاً فَهي أخْطَرُ عِلَّتِي

وَجُذَّ بسَيْف العَزْمِ سَوْفَ فإن تَجُدْ

تَجِدْ نَفَسًا فَالنَّفْسُ إِن جُدْتَ جدَّتِ

عن الأوزاعي أنه وعظ فقال في موعظته: أيها الناس تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها على الهرب من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة.

ص: 141

فإنكم في دار الثواء فيها قليل وأنتم فيها مؤجلون خلائف من بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا أنفها وزهرتها.

فهم كانوا أطول منكم أعمارًا وأمد أجسامًا وأعظم آثارًا فخددوا الجبال وجابوا الصخور ونقبوا في البلاد مؤيدين ببطش شديد وأجسام كالعماد.

فما لبثت الأيام والليالي أن طوت مددهم وعفت آثارهم وأخوت منزلهم وأنست ذكرهم، فما تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزًا.

كانوا بلهو الأمل آمنين لبيات قوم غافلين أو لصباح قوم نادمين، ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياتًا من عقوبة الله عز وجل.

فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين وأصبح الباقون ينظرون في آثار نقمة وزوال نعمة ومساكن خاوية فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم وعبرة لمن يخشى.

وأصبحتم من بعدهم في أجل منقوص ودنيا مقبوضة في زمان قد ولى عفوه وذهب رخاؤه.

فلم تبق منه إلا حمة شر وصبابة كدر، وأهاويل عبر، وعقوبات غير وأرسال فتن، وتتابع زلازل ورذلة خلف بهم ظهر الفساد في البر والبحر.

فلا تكونوا أشباهًا لمن خدعه الأمل وغر بطول الأجل وتبلغ بالأماني. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن وعى نذره، وعقل فمهد لنفسه.

اللهم انظمنا في سلك عبادك المفلحين واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 142

(فصل)

كتب بعضهم إلى أخ يوصيه: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله، والعمل بما علمك الله عز وجل، والمراقبة حيث لا يراك أحد إلا الله عز وجل والاستعداد لما ليس لأحد فيه حيلة، ولا تنفع الندامة عند نزوله.

فاحسر عن رأسك قناع الغافلين، وانتبه من رقدة الموتى، وشمر للسباق غدًا فإن الدنيا ميدان المسابقين، ولا تغتر بمن أظهر النسك، وتشاغل بالوصف، وترك العمل بالموصوف.

واعلم يا أخي أنه لا بد لي ولك من المقام بين يدي الله عز وجل، ولست آمن أن يسألني وإياك عن وساوس الصدور، ولحظات العيون، وإصغاء الأسماع، وما عسى أن يعجز مثلي عن صفته.

واعلم أنه مما وصف به منافقوا هذه الأمة أنهم خالطوا أهل الدنيا بأبدانهم وطابقوهم عليها بأهوائهم، وخضعوا لما طمعوا من نائلهم، وداهن بعضهم (بعضًا) في القول والفعل، فأشر وبطر قولهم، ومر خبيث فعلهم، تركوا باطن العمل بلا تصحيح فحرمهم الله تعالى بذلك الثمن الربيح.

وأعلم يا أخي أنه لا يجزى من العمل القول، ولا من البذل العدة، ولا من التقوى ولا من التوقى التلاوم.

وقد صرنا في زمان هذه صفة أهله فمن كان كذلك فقد تعرض للمقت وصد عن سواء السبيل. وفقنا الله عز وجل وإياك لما يحب ويرضى، انتهى والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 143

[فائدة]

كلما قويت حاجة الناس إلى الشيء ومعرفته يسر الله أسبابه كما ييسر ما كانت حاجتهم إليه في أبدانهم أشد.

فلما كانت حاجتهم إلى النفس والهوى أعظم منها إلى الماء كان مبذولاً لكل احد في كل وقت.

ولما كانت حاجتهم إلى الماء أكثر من حاجتهم إلى القوت كان وجود الماء أكثر لذلك.

فلما كانت حاجتهم إلى معرفة الخالق أعظم كانت آياته ودلائل ربوبيته وقدرته وعلمه ومشيئته وحكمته أعظم من غيرها.

ولما كانت حاجتهم إلى معرفة صدق الرسل بعد ذلك أعظم من حاجتهم إلى غير ذلك.

أقام الله من دلائل صدقهم وشواهد نبوتهم وحسن حال من اتبعهم وسعادته ونجاته وبيان ما يحصل له من العلم النافع والعمل الصالح.

وقبح حال من خالفهم وشقاوتهم وجهله وظلمه ما يظهر لمن تدبر ذلك {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور: 40] .

وختامًا فالواجب على الإنسان المبادرة إلى الأعمال الصالحة وأن ينتهز فرصة الإمكان قبل هجوم هادم اللذات.

وأن يستعين بالله ويتوكل عليه ويسأله العون في تيسير الأعمال الصالحة وصرف الموانع الحائلة بينه وبينها.

وليحرص على حفظ القرآن، وتدبره، وتفهمه، والعمل به، وكذلك السنة، ويحرص على أداء الصلاة في جماعة.

ص: 144

ويحرص على مجالس الذكر، ويحفظ لسانه عن الغيبة والنميمة والسعاية والكذب وجميع الأعمال والأخلاق السيئة.

ويتهيأ للرحيل، ويتفقد نفسه بما عليه وما له فإن كان عنده حقوق لله كزكاة أو لخلقه كأمانات أو عواري أو وصايا أداها بسرعة خشية أن يفجاءه الموت وهي عنده.

فإذا لم تؤدها أنت في حياتك، فمن بعدك من أولاد أو إخوان يبعد اهتمامهم بذلك، لأنهم يهتمون ويشتغلون بما خلفته لهم وضيعت بسببه نفسك.

فالله الله البدار بالتفتيش على النفس، والمبادرة بالتوبة والإكثار من الاستغفار.

ومما يحثك على ذلك ذكر مرارة الموت الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم هادم اللذات، وتذكر شدة النزع والتفكر في الموتى الذي حبسوا على أعمالهم ليجازوا بها فليس فيهم من يقدر على محو خطيئة، ولا على زيادة حسنة.

وعاد بعضهم مريضًا فقال له كيف تجد؟ \قال: هو الموت. قال له: وكيف علمت أنه الموت؟ قال: أجدني اجتذب اجتذابًا، وكأن الخناجر في جوفي، وكأن جوفي تنور محمى يتلهب.

قال له: فاعهد (أي أوصى)، قال: أرى الأمر أعجل من ذلك فدعا بدواة وصحيفة قال: فو الله ما أتى بها حتى شخص بصره فمات.

وقال إبراهيم بن يزيد العبدي: أتاني رياح القيسي فقال: يا أبا إسحاق انطلق بنا إلى أهل الآخرة نحدث بقربهم عهدًا.

فانطلقت معه، فأتى المقابر فجلسنا إلى بعض تلك القبور، فقال: يا أبا إسحاق ما ترى هذا متمنيًا لو منء، قلت: أن يرد والله إلى الدنيا فيستمتع من

ص: 145

طاعة الله ويصلح.

قال: فها نحن، ثم نهض فجد واجتهد، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى مات.

ومما يحثك على التأهب والاستعداد لهادم اللذات أن تصور لنفسك عرضها على ربك وتخجيله إياك بمضيق العتاب على فعل ما نهاك عنه قال جل وعلا: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم: 95] .

اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، اللهم إنا نسألك باسمك الطاهر الطيب المبارك الأحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت وإذا استرحمت به رحمتن وإذا استفرجت به فرجت أن تغفر سيئاتنا وتبدلها لنا بحسنات يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

(فصل)

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه تبارك وتعالى ليس بينه وبينه ترجمان» .

وعن صفوان بن محرر قال: كنت آخذًا بيد ابن عمر إذ عرض له رجل، فقال كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة.

فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه. ويقول له أتعرف ذنب كذا، أتعرف ذنب كذا، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك. قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» .

ومما يحثك على الاستعداد للموت والابتعاد عن المعاصي أن تتخايل وتتصور شهادة المكان الذي تعصي فيه عليك يوم القيامة.

ص: 146

فعن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] . فقال "أتدرون ما أخبارها، أن تشهد على كل عبد بما عمل على ظهرها، أن تقول عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فهو أخبارها".

ومما يحثك على التأهب والاستعداد للموت والابتعاد عن المعاصي أن تمثل نفسك عند بعض زللك كأنه يؤمر بك إلى النار التي لا طاقة لمخلوق بها.

وتصور نفاد اللذة وذهابها وبقاء العار والعذاب.

تَفنى اللَّذَاذَةُ مِمَّنْ نَالَ شَهْوَتَهُ

مِن الحَرَامِ ويَبْقَى الإِثم والعَارُ

تَبْقَى عَوَاقِبُ سُوْءٍ في مَغَبَّتِهَا

لا خَيْرَ في لَذَّةٍ مِن بَعْدِهَا النَّارُ

عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ناركم هذه ما يوقد بنوا آدم جزء واحد من سبعين جزءًا من حر جهنم» قالوا: والله إن كانت لكافية.

وقال بعض السلف: ربما مثل لي رأسي بين جبلين من نار وربما رأيتني أهوى فيها حتى أبلغ قعرها فكيف تهنا الدنيا من كانت هذه صفته.

وكان عمر رضي الله عنه ربما توقد له النار ثم يدني يديه منها ثم يقول: يا ابن الخطاب هل لك على هذا صبر.

ومما يحثك على الاستعداد وتفقد شئونك وأمرك ذكر أحوال كثير من السلف الصالح الذي أقلقهم خوف الحساب والعذاب في البرزخ والنار.

لما أهديت معاذة العدوية إلى زوجها صلة بن أشيم ادخله ابن أخيه الحمام ثم أدخله بيتًا مطيبًا فقام يصلي حتى أصبح وفعلت زوجته معاذة مثله.

فلما أصبح عاتبه ابن أخيه على فعله ليلة الزواج فقال له: أدخلتني بالأمس بيتًا ذكرتني به النار ثم أدخلتني بيتًا ذكرتني به الجنة فما زالت فكرتي فيهما حتى أصبحت.

ص: 147

ونظر عمر بن عبد العزيز إلى رجل عنده متغير اللون، فقال له ما الذي بك؟ فقال: إني ذقت حلاوة الدنيا فصغر في عيني زهرتها وملاعبها، واستوى عندي حجارتها وذهبها.

ورأيت كأن الناس يساقون إلى الجنة، وأنا أساق إلى النار فأسهرت لذلك ليلي، وأظمأت نهاري، وكل ذلك صغير حقير في جنب عفو الله، وثوابه عز وجل وجب عقابه.

وقال إبراهيم التيمي مثلث نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها.

فقلت لنفسي أي شيء تريدين، قالت أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قال: فلت أنت في الأمنية فاعملي.

وسمع عمر بن الخطاب رجلاً يتهجد في الليل ويقرأ سورة الطور، فلما بلغ قوله تعالى:{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِن دَافِعٍ} [الطور: 8] .

قال عمر: قسم ورب الكعبة حق، ثم رجع إلى بيته فمرض شهرًا يعوده الناس، ولا يدرون ما سبب مرضه.

وكان جماعة من السلف مرضوا من الخوف ولزموا منازلهم وبعضهم صار صاحب فراش.

وكان الحسن يقول في وصف الخائفين: قد براهم الخوف فهم أمثال القداح ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى وما بهم مرض ويقول قد خولطوا وقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم.

هذه القصيدة عدلنا فيها بعض الأبيات:

وحَقِّكَ ياذَ الجُودِ مَالي مَلْجَؤٌ

وَلا لي إلى أبْوَابِ غَيركَ مَطْلَبُ

إِذَا لَم تَكُنْ لِي عِنْدَ غَيْرِكَ حَاجَةٌ

ص: 148

فَكَيْفَ إلى أَبْوَابِ غَيْرَكَ أَذْهَبُ

إِذَا لَم يَكُنْ مُعْطٍ سِوَاكَ بِمَطْلَبِي

فَكَيْفَ سِوَى مَعْرُوْفِ جُوْدِكَ أَطْلُبُ

عَذُوْ لِي فيهِ مَا يَرَى مَا رَأَيْتَهُ

فَيُكْثِرُ مِن لَوْمِي عَلَيه ويُطْنِبُ

سَلَكْتُ سَبيْلاً مَا اهْتَدَى لسُلُوْكِهَا

فَأَعْجَبُ مِنْهُ وَهْوَ مِنِّي يَعْجَبُ

وَكَيْفَ سُلُّوٌ عَن جَمَالٍ مُحَجَّبٍ

أَيَادِيْه عن كُلِ الوَرَى ليس تُحْجَبُ

إِذَا اسْتَأَنَسَ الحَادُوْنَ لِلرَكْبِ بِاسْمِه

فكُلُّهُمُوْا حَتى الركائبِ تَطْرَبُ

يَطيْبُ وَيَحْلُوْ لِلْمُحِبِّيْنَ ذِكْرُهُ

فَلا طَيِّبٌ إِلا وذكْرُكَ أَطْيبُ

فإِنْ قُلْتُ شَهْدًا فَهو أحْلَى مَذَاقَةً

وَإِنْ قُلْتُ مَاءً فَهو أصْفَى وأعْذَبُ

سَأَلْتُكَ يَا حَادِي الرَكَائِبِ حَاجَةً

إِذَا مَا بَدَتْ يَوْمًا لِعَيْنَيْكَ يَثْرِبُ

فَسَلِّم عَلى مَنْ قَدْ حَوَتْهُ قِبَابُهَا

وَشِرْعَتُه في الكَونِ تُمْلَى وتُكْتَبُ

مُحَمَّدٌ المُخْتَارُ وَالمَاجِدُ الذي

إلى فَخْرهِ كُلُّ المناسِبِ تُنْسَبُ

هو الصادِقُ الدَّاعِي إِلى الله وَحْدَهُ

فَمَنْ لَم يُجِبْهُ فَهْوَ فِي الحَشْرِ يُنْدَبُ

فَصَلُّوا عَلَيْهِ دَائِمًا فَصَلاتِكُم

ثَوابُكُمُوا فِيهَا مِن الله يُطْلَبُ

وختامًا فالواجب على العاقل المبادرة إلى الأعمال الصالحة ما دام في قيد الحياة وخصوصًا الصلاة التي فرضها الله جل وعلا على عباده آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين ومحلها من الدين محل الرأس من الجسد.

فكما أن لا حياة لمن لا رأس له فكذلك لا دين لمن لا صلاة له وهي خاتمة وصية النبي صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده من الدنيا.

فعن أنس رضي الله عنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة وهو يغرغر بنفسه «الصلاة وما ملكت أيمانكم» . رواه أحمد وأبو داود.

ص: 149

وهي أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة كما ورد بذلك الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر» . الحديث رواه الترمذي.

والصلاة أكبر عون للعبد على مصالح دينه ودنياه قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] .

فالصلاة سعادة وسرور للمؤمن الخاشع المحب لربه، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وجعلت قرة عيني في الصلاة» وكان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، فالصلاة جسد وروح.

أما جسدها فهو كلام اللسان وحركات الأعضاء وأما روحها فهو الخشوع، قال الله جل وعلا:{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] .

والخشوع حضور الذهن وأن يتصور الإنسان أن ربه أمامه يسمعه ويناجيه فلا يشغل فكره بشيء من الدنيا ما دام في صلاته ويجمع فكره إلى تأمل ما يتلو وما يسمع من الإمام ويحرص كل الحرص على طرد الهواجس.

قال أحد العلماء: إن من المعلوم أن المنتصب لخطاب ملك من ملوك الدنيا يجمع قلبه للإقبال عليه ويحسن التودد إليه ويتحرز التحرز الكلي عن أن تفرط منه كلمة مستهجنة أو التفاتة غير مستحسنة أو ذهول عما يخاطبه به أو يتلقاه من خطابه وإن كان لا يخاف نقمته ولا يرجو نعمته.

فيا عجبًا من منتصب لمناجات ملك السموات والأرض وهو يعلم أنه حاضر لديه ورقيب عليه وأنه محتاج في كل لحظة إليه غير مستغن عنه وإن إحسانه إليه فوق كل إحسان.

ص: 150

وعاقبة عصيانه إنه الخلود في قعر النيران وإن عظمته لا تدانيها عظمة سلطان ومع ذلك يترك الإقبال عليه ويعرض له الذهول عنه لخواطر دنيوية ووساوس غير نافعة ولا مرضية حتى لا يشعر بمعاني ما يتلوه في صلاته ولا يعقل ما المطلوب بها ويسهو عن أركانها وأذكارها هذا مما تحار فيه العقول.

ولعل السبيل إلى ذلك هو التحفظ عن تلك الشواغل في حالة الصلاة التي هي عماد الدين والفارقة بين الكفرة والمؤمنين التي فرضها الله ليتطهر بها عباده عما اقترفوه فيما بين أوقاتها من الذنوب ويغسلوا بها أبدانهم وأرواحهم عن درن الحوب.

كما يشعر به قوله صلى الله عليه وسلم: «مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار يمر على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات. وفي رواية فماذا ترون أيبقى عليه من الدرن بعد ذلك» .

والمهم أن يصرف العبد ذهنه إلى أن قيامه للوضوء والصلاة إنما هو لخطاب ملك الملوك والاعتذار إليه من التقصير في الحياء منه في أحواله السابقة وليطلب منه العفو والمسامحة والإحسان ولداء ما كلفه من العبادة.

اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، اللهم إنا نسألك باسمك الطاهر الطيب المبارك الأحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت أن تغفر سيئاتنا وتبدلها لنا بحسنات يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

ص: 151

[فصل]

قال شيخ الإسلام:

القلب لا يصلح ولا يفلح ولا يسر ولا يلتذ ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحبه والإنابة إليه.

ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه.

وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.

وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له ولا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله فهو دائمًا مفتقر إلى حقيقة إياك نعبد وإياك نستعين.

فهو مفتقر إليه من حيث هو المطلوب المحبوب المعبود ومن حيث هو المستعان به المتوكل عليه.

فهو إلهه لا إله له غيره وهو ربه لا رب له سواه ولا تتم عبوديته إلا بهذين.

وقال: إعراض القلب عن الطلب من الله والرجا له يوجب إنصراف قلبه عن العبودية لله لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق.

بحيث يكون قلبه معتمدًا إما على رئاسته وجنوده وأتباعه وإما على أهله وأصدقائه وإما على أمواله أو غيرهم ممن مات أو يموت قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] .

وقال على كل مؤمن أن لا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يتقدم بين يديه.

بل ينظر ما قال فيكون قوله تبعًا لقوله وعمله تبعًا لأمره فمن قول الله

ص: 152

وقول رسوله يتعلم به ويتكلم.

وكل من خالف ما جاء به الرسول لم يكن عند علم بذلك ولا عدل بل لا يكون عنده إلا جهل وظلم وظن وما تهوى الأنفس {وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] .

وقال رحمه الله: من ابتلي ببلاء قلبي أزعجه فأعظم دواء له قوة الالتجاء إلى الله ودوام التضرع والدعاء بأن يتعلم الأدعية المأثورة ويتوخى الدعاء في مظان الإجابة.

مثل آخر الليل وأوقات الأذان والإقامة وفي سجوده وأدبار الصلوات ويضم إلى ذلك الاستغفار.

وليتخذ وردًا من الأذكار طرفي النهار وعند النوم وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف.

فإنه لا بد أن يؤيده الله بروح منه ويكتب الإيمان في قلبه.

وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس بباطنه وظاهره فإنها عمود الدين.

وليكن هجيراه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

فإنه بها يحمل الأثقال ويكابد الأهوال وينال رفيع الأحوال.

ولا يسأم من الدعاء والطلب فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل.

وليعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا.

وقال ابن القيم: مراقبة الرب علم العبد وتيقنه باطلاع الله على ظاهره وباطنه فاستدامته لهذا العلم واليقين هي المراقبة.

وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله ومطلع على عمله كل وقت وكل لحظة.

ص: 153

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضيّ بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد رسولا» .

وقال: من قال حين يسمع النداء رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا غفرت ذنوبه.

وهذا الحديثان عليهما مدار مقامات الدين وإليهما ينتهي.

وقد تضمنها الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته والرضا برسوله والرضا بدينه والتسليم له.

ومن اجتمعت له فهو الصديق حقًا وقال: الأدب اجتماع خصال الخير في العبد وهي ثلاثة أنواع:

أدب مع الله بأن يصون قلبه أن يلتفت إلى غيره أو تتعلق إرادته بما يمقته عليه، ويصون معاملته أن يشوبها بنقيصه.

وأدب مع الرسول بكمال الانقياد، وتلقى خبره بالقبول والتصديق وأن لا يعارضه بغيره بوجه من الوجوه.

وأدب مع الخلق بمعاملتهم على اختلاف مراتبهم بما يليق بهم ويناسب حالتهم.

وقال رحمه الله: المقبول من العمل قسمان: أحدهما أن يصلى العبد ويعمل سائر الطاعات وقلبه متعلق بالله عز وجل ذاكر الله على الدوام فعمله في أعلى المراتب.

الثاني: أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله.

فأركانه مشغولة بالطاعة وقلبه لاه عن ذكر الله وكذلك سائر أعماله فهذا عمله مقبول ومثاب عليه بحسبه.

ص: 154

اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وآله أجمعين.

فوائد ومواعظ ونصائح

قال أحد العلماء اعلم أنه لا يسلم إنسان من النقص إلا من عصمه الله كالرسل قال الله جل وعلا عن الإنسان: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72] .

وقال صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» . فمن خفيت عليه عيوبه فقد سقط.

وصار من السخف والرذالة والخسة وضعف التمييز والعقل وقلة الفهم بحيث لا يتخلف عنه متخلف من الرذائل.

وعليه أن يتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه والسؤال عنها بدقة وأكثر من يفهم عيوب الإنسان أعداؤه لأنهم دائمًا ينقبون عنها.

وكذلك الأصدقاء الناصحين الصادقين المنصفين يفهمونها غالبًا.

فالعاقل يشتغل بالبحث عنها والسعي في إزالتها ولا يتعرض لعيوب الناس التي لا تضره لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا من باب النصيحة.

كما لو رأى إنسانًا معجبًا بنفسه فيبدي له النصح وجهًا لوجه لا خلف ظهره.

واحذر أن تقارن بينك وبين من هو أكثر منك عيوبًا فتستهل الرذائل وتهاون بعيوبك.

ص: 155

لكن قارن بين نفسك ومن هو أفضل منك لتسلم من عجبك بنفسك وتفيق من داء الكبر والعجب الذي يولد عليك الاستحقار والاستخفاف بالناس مع العلم بأن فيهم من هو خير منك.

فإذا استخففت بهم بغير حق استخفوا بك بحق لأن الله جل وعلا وتقدس يقول: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] .

فتسبب على نفسك أن تكون أهلاً للاستخفاف بك مع ما تجنيه من الذنوب وطمس ما فيك من فضيلة.

فإن كنت معجبًا بعقلك ففكر وتأمل في كل فكرة سوء تحل بخاطرك وفي أضاليل الأماني الطائفة بك فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ.

وإن أعجبت بآرائك فتأمل وفكر في غلطاتك وسقطاتك واحفظها وتذكرها ولا تنسها.

وفي رأي كنت تراه صوابًا فتبين لك خطؤك وصواب غيرك والغالب أن خطأك أكثر من الصواب.

وهكذا ترى الناس غير الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وإن أعجبت بعملك فتفكر في معاصيك هل بيتك خال من الملاهي والمنكرات مثل الصور والتلفاز والمذياع وأغانيه والمجلات والجرائد التي فيها صور ذوات الأرواح.

وهل هو خال من الأولاد الذين لا يشهدون الجماعة وهل أنت سالم من الغيبة وإخلاف الوعد والكذب والحسد والكبر والرياء.

والعقوق وقطيعة الرحم والظلم والرباء والدخان وحلق اللحية والغش وقول الزور وسوء الظن بالمسلمين والتجسس عليهم والاحتقار لهم ونحو ذلك.

ص: 156

فأنت إذا تفقدت نفسك وبيتك وأولادك وجدت عندك من الشرور والآثام ما بعضه يغلب على ما أعجبت به من عملك الذي لا تدري هل هو مقبول أو مردود.

وإن أعجبت بعلمك أو عملك فاعلم أنه موهبة من العزيز العليم وهبك إياها فلا تقابلها بما يسخطه عليك.

قال الله جل وعلا: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] . وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85] .

وأسأل الله أن يزيد منه، وأن يجعله حجة لك لا عليك، قال تبارك وتعالى:{وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] .

وتفكر فيما تحمله من العلم هل أنت عامل به أم لا واجعل مكان عجبك بنفسك استنقاصًا لها واستقصارًا فهو أولى بك.

وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيرًا، ثم أعلم أن العلم الذي تفتخر فيه ربما يكون وبالاً عليك.

فيكون الجاهل أحسن حالاً ومآلاً وأعذر منك فبذلك التفكير يزول العجب والكبر عنك وتهون نفسك عندك حينئذ.

وإن أعجبت بشجاعتك وقوتك فتكفر فيمن هو أشجع وأقوى منك ثم انظر في تلك النجدة التي منحك الله تعالى فيم صرفتها.

فإن كنت صرفتها في معصية الله فأنت جاهل آثم لأنك بذلك نفسك فيما ليس ثمنًا لها.

وإن كنت صرفتها في طاعة فقد أفسدتها بإعجابك بعملك.

ثم تفكر في زوالها عنك وقت الكبر عندما تنحل قوتك ويضعف جسمك.

نَساقَطُ أَسْنَانٌ وَيَضْعُفُ نَاظِرٌ

ص: 157

وَتَقْصُرُ خُطْوَاتٌ وَيَثْقُل مَسْمَعُ

قال الله جل وعلا وتقدس: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] .

وقال وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره.

بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أينما كانت فمدار تعبده عليها فلا يزال متنقلاً في منازل العبودية كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها واشتغل بها.

اللهم وفقنا لسلوك سبيل أهل الطاعة وارزقنا الثبات عليه والاستقامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة وأمنا من فزع يوم القيامة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌8- موعظة

اسمع يا غائب في صلاته، يا شتيت الهم في جهاته يا مشغولاً بآفاته عن ذكر وفاته، يا قليل الزاد مع قرب مماته.

يا من يرحل عن الدنيا في كل لحظة مرحلة، وكتابه قد حوى حتى مقدار الخردلة، وما ينتفع بالنذير والنذر متصلة.

وما يرعوي لنصيح وكم قد عذله، ودرعه متخرقة والسهام مرسلة، ونور الهدى قد يُرى وما رآه ولا تأمله وهو يأمل البقاء وقد رأى مصير من أمله.

وأجله قد دني ولكن أمله قد شغله، وقد عكف على العيب بعد الشيب بصبابة ووله، ويحضر بدنه في الصلاة وأما القلب فقد أهمله.

ص: 158

كن كيف شئت فبين يديك الحساب والزلزلة، ونعم جسمك فلا بد للدود أن يأكله.

يا عجبًا من فتور مؤمن بالجزاء والمسألة، أيقين بالنجاة أم غرور وبله، بادر ما بقي من عمرك واستدرك أوله، فبقية عمر المؤمن لا قيمة له.

وَمُسْنَدُوْنَ تَعاقَروا كَأْسَ الرَّدي

وَدَعَا بِشُرْبهُم الحِمَامُ فَأسُرَعُوْا

بَرَكَ الزَّمانُ عَلَيْهُمُوْا بِجِرَانِهِ

وَهَفَتْ بِهم رِيحُ الخُطُوب الزَّعْزَعُ

خُرُسٌ إِذَا نَادَيْتَ إِلَّا أَنَّهُمْ

وعَظُوْا بِمَا يَزِعُ اللَّبِيْبَ فَأَسْمَعُوْا

والدَّهْرُ يَفْتِكُ بالنُفُوسِ حَمامُهُ

فَلِمَنْ تُعَدُّ كَرِيْمَةٌ أَوْ تُجْمَعُ

عَجَبًا لِمَنْ يُبْقِي ذَخَائِرَ مَالِهِ

وَيَظَلُّ يَحْفظُهُنَّ وهْوَ مُضَيَّعُ

وِلِغَافِلٍ وَيَرَى بِكُلِّ ثَنِيَّةٍ

مُلْقًى لَه بَطْنُ الصَّحَائِفِ مَضْجَعُ

أَتَراهُ يحْسُب أنَّهُم مَا أسْأَرُوْا

مِن كَأسِهِ أَضْعَافَ مَا يَتَجرَّعُ

عباد الله كم أخلى الموت دارًا، وترك المعمور قفارًا، كم أوقد من الأسف في الجوانح نارا، وكم أذاق الغصص المرة مرارا.

لقد جال يمينًا ويسارًا فما حابى فقرًا ولا يسارًا، أين الجيش العرموم، أين الكبير المعظم، ألحق الأخير بمن تقدم.

قال محمد بن كعب القرظي إنما الدنيا سوق خرج الناس منها بما يضرهم وبما ينفعهم.

وكم اغتر ناس فخرجوا ملومين واقتسم ما جمعوا من لم يحمدهم وصاروا إلى من لا يعذرهم.

فيحق لنا أن ننظر إلى ما نغبطهم به من الأعمال فنعملها، وإلى ما نتخوف فنتجنبها.

ذَهَبَ الشَّبَابُ بِجْهلِهِ وَبعارِهِ

ص: 159

وَأَتَى المَشِيْبُ بِحِلْمِهِ وَوَقَارِهِ

شَتَّانَ بَيْنَ مُبِعِّدٍ مِن رَبَّهِ

بِغُرُورِهِ وَمُبَشِّرٍ بِجِوارِهِ

مَا زِلْت اَمُرَحُ بالشبابِ جَهَالَةً

كَالطَّرْفِ يَمْرَحُ مُعْجَبًا بِعِذَارِهِ

وسَحَبْت أثواب البَطَالَةِ لاهِيًا

وَجَررت مِن بَطَرٍ فُضولَ أَزارِهِ

حتى تَقَلْصَ ظِلُه فَتكشَفَتْ

عَوْرَاتُه وبَدَا قبيحُ عَوَارِهِ

لَمْ أُحْظَ مِنْهُ بِطَائِلٍ غَيْرُ الأسَى

وتَنَدمٌ مِنِّي عَلَى أَوْزَارِهِ

والآنَ قَدْ خَطَّ المشيبُ بِمَفْرقِي

بِمَوَاعِظٍ والحقُّ في تَذْكَارِهِ

وَالنَّفْسُ تَرْكَبُ غيَّهَا لا تَرعَوي

عنه ولا تُصْغِ إلى إِنْذَارِهِ

لَهْفِي عَلى عُمْر يَمُرُّ مُضَيَّعًا

مُحْصًى على بلَيْلِهِ ونَهَارِهِ

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ميدانكم نفوسكم فإن انتصرتم عليها كنتم على غيرها أقدر، وإن خذلتم فيها كنتم على غيرها أعجز، فجربوا معها الكفاح أولاً.

كان سفيان الثوري ما ينام إلا أول الليل، ثم ينتفض فزعًا مرعوبًا ينادي النار النار شغلني ذكر النار عن النوم والشهوات.

ثم يتوضأ ويقول على أثر وضوئه، اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم وما أطلب إلا فكاك رقبتي من النار.

قال عمر بن عبد العزيز أيها الناس إنما يراد الطبيب للوجع الشديد، ألا فلا وجع أشد من الجهل ولا داء أخبث من الذنوب ولا خوف أخوف من الموت.

يروى عن الأصمعي قال قرأت «والسارق والسارقة قاطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله» والله غفور رحيم.

ص: 160

وبجنبي أعرابي فقال كلام من هذا فقلت كلام الله.

قال أعد فأعدت فقال ليس هذا كلام الله، فانتبهت فقرأت "والله عزيز حكيم".

فقال أصبت هذا كلام الله، فقلت أتقرأ القرآن، قال لا فقلت من أين علمت.

فقال يا هذا عز فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع.

كان أحد العلماء له وظيفة يأخذ عليها رابت جيد فاتفق أنه كان يأكل يومًا مع أصحابه طعامًا فجاء قط فرموا له شيئًا فأخذه وذهب سريعًا.

ثم رجع فرموا له أيضًا شيئًا فانطلق به سريعًا ثم جاء أيضًا فرموا له شيئًا فعلموا أنه لا يأكل هذا كله فتبعوه فإذا هو يذهب به إلى قط آخر أعمى في سطح هناك فتعجبوا من ذلك.

فقال الشيخ يا سبحان الله هذا حيوان بهيم قد ساق الله إليه رزقه على يد غيره أفلا يرزقني وأنا عبده وأعبده.

ثم ترك ما كان له من الراتب وجمع حواشيه.

وأقبل على العبادة والملازمة في غرفة في جامع عمرو بن العاص إلى أن مات.

وكتب بعضهم إلى أخ له إياك وتأمير التسويف على نفسك وإمكانه من قلبك، فإنه محل الكلال وموئل التلف وبه تنقطع الآمال وفيه تنقطع الآجال وبادر يا أخي فإنه مبادر بك وأسرع فإنه مسرع بك وجد فإن الأمر جد وتيقظ من رقدتك وانتبه من غفلتك.

وتذكر ما أسلفت وقصرت وفرطت وجنيت وعملت فإنه مثبت محصى فكأنك بالأمر قد بغتك فاغتبط بما قدمت أو ندمت على ما فرطت.

ص: 161

ثم اعلم أن في التسويف وتأخير الواجب آفات منها أنك لا تضمن أن تعيش إلى الغد ولا سيما في هذا العصر الذي كثرت فيه الحوادث برغم تقدم الطب وتوفر النعم وتقدم العلم.

ولكن لا يمنع ذلك الموت بسبب الحوادث التي لا تحصى كل يوم من أسباب أدواب الحضارة: السيارات والطائرات والآلات والأجهزة الميكانيكية والكهربائية والقز والنفط وغيرها بل العلم هو الذي نشأت عنه هذه الأسباب بإذن الله حيث كان الإنسان قبل حصول هذه في أمان منها.

ثانيًا: إنك إن بقيت إلى الغد لا تأمن من المعوقات من مرض طارئ أو شغل عارض أو بلاء نازل به فلهذا ينبغي للعاقل الحازم أن يبادر إلى اغتنام الفرص وفعل الخيرات وأداء الواجبات وكان العجز أن تؤخر وتؤجل حتى تفوتك الفرصة وتشكو من الغصة وقد قيل:

ولا تُؤَخِّرْ إذَا مَا حَاجَةٌ عَرَضَتْ

فَهُمْ يَقولُونَ لِلتَّأَخير آفَاتُ

آخر:

عَليكَ بَأَمْرِ اليومِ لا تَنْتَظِرْ غَدًا

فَمَنْ لغَدٍ مِن حَادثٍ بِكَفِيْلٍ

آخر:

وَلا أُأَخِرُ شُغْل اليوم عن كَسَلٍ

إلى غَدٍ إِنَّ يَوْمَ العَاجزينَ غَدُ

اللهم يا خالق الخلق يا قيوم نسألك بأسمائك الحسنى أن تنصر الإسلام والمسلمين وأن تعلي بفضلك كلمة الحق والدين وأن تشمل بعنايتك وتوفيقك كل من نصر الدين وأن تملأ قلوبنا بمحبتك ومحبة من يحبك وأن تأخذ بنواصينا إلى ما ترضاه وأن ترزقنا الاستعداد لما أمامنا وأن تهون أمر الدنيا علينا وأن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى أهله وصحبه أجمعين.

ص: 162

(فصل)

قال بعضهم أعجب حالات الإنسان أنه يحسب لكل شيء حسابًا ويستعد له يخشى الفقر فيدخر له المال ويخشى البرد فيستعد له والحر كذلك.

ويخشى الشيخوخة والكبر فيسعى في تحصيل الأولاد لعلهم يخدمونه عند العجز ويخلفونه في شؤونه الدنيوية والأخروية وهكذا.

لكنه لا يدخل الموت الذي ربما فاجأه في حسابه فلا يستعد له مع أنه يشاهد الموتى يذهبون ولا يعودون.

وهو مهدد بالموت في كل ساعة خصوصًا في زمننا الذي كثرت فيه أسباب موت الفجأة نسأل الله أن يوقظ قلوبنا للاستعداد له.

وقال علي رضي الله عنه: أيها الناس اتقوا الله الذي إن قلتم سمع وإن أضمرتم علم، وبادروا الموت الذي إن هربتم عنه أدرككم، وإن أقمتم أخذكم، وإن نسيتموه ذكركم.

وقال رضي الله عنه: إذا كنت في إدبار الموت في إقبال فما أسرع الملتقى.

وقال آخر: الدنيا كطريق فيه شوك مغطى بالتراب يدوسه من لا يعرف مسلكه فينخسه ويضره ويؤلمه ويقف عنه من استراب به فيسلم من شره.

وقال من مال إلى الدنيا تعجل التعب فيها وكان على يقين من فنائه.

وقال ما أغفل من تيقن بالرحيل عن الدنيا وهو منهمك مجتهد في عمارتها والجدير بالعاقل أن يجعل جل أوقاته للآخرة ولا ينسى نصيبه من الدنيا.

فمن جعل همه كله للدنيا ضيع نفسه، وفعل السبب لا ينافي التوكل قال

ص: 163

- صلى الله عليه وسلم: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» . رواه الترمذي.

ففي الحديث دلالة على طلب الرزق الكفاف وعمارة الآخرة تفيد الراحة في الدنيا والنعيم في الآخرة وعمارة الدنيا تكسب التعب فيها والشقاء بعد مفارقتها.

والآخرة صبر قليل وسرور طويل.

وقال آخر: الموت راحة لمن كان عبد شهوته ومملوك هواه لأنه كلما طالت حياته كثرت سيئاته وانبثت في العالم جناياته.

وقال: الموت محمود على كل حال للبر والفاجر، فأما البر فيصل إلى ما قدم من صالح أعماله وجميل أفعاله، وأما الفاجر فيستريح العالم من فجوره وشروره ويقل تزيده من الأوزار.

وختامًا فإن الإنسان عند موته ينكشف له الحجاب فإن كان ممن رضي الله عنه ينكشف له من سعة رحمة الله وجلاله ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن المضيق.

يفتح له باب إلى الجنة ويأتيه من روحها وريحانها ويوسع له قبره مد بصره.

وإن كان من أهل الشقاء فيرى نفسه محفوفة بالمخازي والفضائح والأنكال ويضيق عليه قبره. ويفتح له باب إلى النار ويأتيه من حرها وسمومها نعوذ بالله من ذلك.

والعجب من غفلتنا وهذه العظائم بين أيدينا وأعجب من ذلك فرحنا بأموالنا وأهلينا وأولادنا وأصدقائنا مع العلم أننا سنفارق الجميع ولكننا في غفلة ولو لم يكن للعاقل هم ولا غم إلا التفكر والتأمل في خطر تلك الحالة

ص: 164

وهول المطلع لكان كافيًا في استغراق جميع العمر ولكن ما عرف قدر العمر وعرف الدنيا حقيقة إلا أفراد من الآلاف الذي تمسكوا بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين جعلوا الدنيا مطية للآخرة نسأل الله العظيم أن يوفقنا لسلوك طريقهم وأن يجزيهم عنا وعن جميع المسلمين خيرًا، اللهم طهر قلوبنا من النفاق والحسد والكبر والعجب والرياء وأعيننا من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين وارحمنا برحمتك الواسعة يا رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال بعضهم موبخًا نفسه:

دَعِ التَّشَاغُلَ بالْغِزْلَانِ وَالغَزَلِ

يَكْفِيكَ مَا ضَاعَ مِنْ أَيَّامِكَ الأَوَلِ

ضَيَّعْتَ عُمْرَكَ لا دُنْيَا ظَفْرِتَ بِهَا

وَكُنْتَ عَنْ صَالِحٍ الأَعمَالِ في شُغُلِ

تَرَكْتَ طُرْقَ الهُدَى كالشمسِ واضِحَةٍ

وَمِلْتَ عنها لِمُعْوَجٍّ مِنَ السُّبُلِ

وِلم تَكُنْ نَاظَرًا في أمْرِ عَاقَبَةٍ

أَأنْتَ في غَفْلَةٍ أم أَنْتَ في خَبَلِ

يَا عَاجِزًا يَتَمَادَى في مُتَابَعَةِ النَّـ

نَفْسِ اللجُوجِ ويَرْجُو أَكْرَمَ النُّزلِ

هِلا تَشَبَّهْتَ بالأكياسِ إِذْ فَطِنُوا

فَقَدَّمُوا خَيْرَ مَا يُرْجَى مِنَ العَمَلِ

فَرَّطْتَ يَا صَاحِ فَاسْتَدْرِكْ عَلَى عَجَلٍ

إِن المَنِيَّةَ لا تَأتِي عَلَى مَهَلِ

هَلْ أَنْذَرَتْكَ يَقِينًا وَقْتَ زَوْرَتِهَا

أَوْ بَشَّرَتْكَ بِعُمْر غَيْرِ مُنْفَصِلِ

هَيْهَات هَيْهَاتَ مَا الدُّنْيَا بِبَاقِيَةٍ

ولا الزَّمَانُ بِمَا أمَّلْتَ فيه مَلي

لا تَحْسَبَنَّ الليَالِي سَالَمَت أَحَدًا

صَفْوًا فَمَا سَالَمَتْ إِلا على دَخَلِ

ولا يَغُرَّنْكَ مَا أوِليتَ مِنْ نِعَمٍ

فَهَلْ رَأَيْتَ نَعِيمًا غَيْرَ مُنْتَقِلِ

كَمْ مِن فَتَى جَبَرَتْهُ بَعْدَ كَسْرَتِهِ

فَقَابَلَتْهُ بِجُرْحٍ غَيْرِ مُنْدَمِلِ

إِلَامَ تَرْفُلُ في ثَوْبِ الغُرُورِ عَلَى

ص: 165

بُسَاطِ لَهْوَكَ بَيْنَ التِّيهِ والجَذَلِ

والشَّيْبُ وَافَاكَ مِنْهَ نَاصِحٌ حَذِرٌ

فَمَا بِهِ كُنْتَ إِلا غَيْرَ مُهْتَبِلِ

وَلَمْ تُرَعْ مِنْهُ بَلْ أَصْبَحْتَ تَنْشُدُهُ

إِنِّي أَتَّهَمْتُ نَصِيحَ الشَّيْبِ في عَذَلِ

وَسِرْتَ تَطْلُبُ حَظَّ النَّفْسِ مِنْ سَفَهٍ

فَبَهْجَةُ العُمْرِ قدْ وَلَّتْ وَلَم تَصِلِ

وَمَالَ عَصْرُ التَّصَابِي مِنْكَ مُرْتَحِلاً

وَحَالةٌ عَنْ طَرِيقِ الغَيِّ لَمْ تَحُلِ

أَقْسَمْتُ بِالله لو أَنْصَفْتَ نَفْسُكَ مَا

تَرَكْتَهَا بِاكْتِسَابِ الوِزْرِ في ثِقَلِ

اَمَا عَلِمْتَ بأنَّ الله مُطَّلِعٌ

عَلَى الضَّمَائِرِ وَالأَسْرَارِ والحِيَلِ

وكُلُّ خَيْرٍ وَشَرٍّ أَنْتَ فَاعِلُهُ

يُحْصَى وَلَو كُنْتَ فِي الأَسْتَارِ وَالكَلَلِ

أَمَا اعْتَبَرْتَ بِتَرْدَادِ المَنُونِ إِلى

هَذِي الخَلِيقَةِ في سَهْلٍ وَفِي جَبَلِ

وَسَوْفَ تَاتي بِلا شَكٍّ إِليكَ فَمَا

أَخِّرْتَ عَمَّنْ مَضَى إِلا إِلى أَجَلِ

لكِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ لَدَيْكَ فَخُذْ

بالحزْمِ وانْهَضْ بِعَزْمٍ مِنْكَ مُكْتَمِلِ

دَعِ البَطَالَةَ وَالتَّفْرِيطَ وَابْكِ على

شَرْخِ الشَّبَابِ الذي وَلَّى وَلَم يَطُلِ

وَلَم تُحَصِّلْ بِهِ عِلْمًا ولا عَمَلاً

يُنْجِيكَ مِنْ هَوْلِ يَوْمِ الحَادِثِ الجَلِلِ

وَابْخَل بِدِينكَ لا تَبْغِي به عِوَضًا

وَلَوْ تَعَاظَمْ وَاحْذَرْ بَيْعَةَ السِّفَلِ

واتْلُ الكِتَابَ كِتِابَ الله مُنْتَهيًا

عَمَّا نَهَى وتَدَبَّرْهُ بِلا مَلَلِ

وَكُلُّ مَا فِيْهِ مِن أَمْرٍ عَلَيْكَ بِهِ

فَهْوَ النَّجَاةُ لتَاليهِ مِنَ الضُلَلِ

وَلازِمِ السُّنَّةَ الغَرَّاءَ تَحْظَ بِهَا

وَعَدِّ عَنْ طُرُقِ الأَهْوَاءِ واعْتَزِلِ

وَجَانِبِ الخَوْضَ فِيمَا لَسْتَ تَعْلَمُهُ

وَاحْفَظْ لِسَانَكَ واحْذَرْ فِتْنَةَ الجَدَلِ

وكُنْ حَريصًا على كَسْب الحَلَالِ وَلَوْ

حَمَّلْتَ نَفْسُكَ فِيْه غَيْرَ مُحْتَملِ

واقنَعْ تَجدْ غُنْيَةً عن كل مَسْألَةٍ

فَفِي القَنَاعَةِ عِزٍّ غَيْرُ مُرْتَحِلِ

واطْلُبْ مِنَ الله واتْرُكْ مَنْ سِوَاهُ تَجدْ

ص: 166

مَا تَبْتَغِيهِ بِلا مَنٍّ وَلَا بَدَلِ

ولا تُدَاهِنْ فَتىً مِنْ أَجْلِ نِعْمَتِهِ

يَوْمًا وَلَوْ نِلْتَ مِنْهُ غَايَةَ الأمَلِ

واعْمَلْ بِعِلْمِكَ لا تَهْجُرْهُ تَشْقَ بِهِ

وانْشُرْهُ تَسْعَدْ بِذِكْرٍ غَيْرِ مُنْخَذِلِ

وَمَن أَتَى لَكَ ذَنْبًا فَاعْفُ عَنْهُ وَلا

تَحْقُدْ عَلَيْهِ وفي عُتْبَاهُ لا تَطُلِ

عَسَاكَ بِالعَفْوِ أَنْ تُجْزَى إذَا نُشِرَتْ

صَحَائِفٌ لَكَ مِنْهَا صِرْتَ في خَجَلِ

وَلَا تَكُنْ مُضْمِرًا مَا لَسْتَ تُظْهُرُهُ

فَذَاكَ يَقْبحُ بَيْنَ النَّاسِ بالرَّجُلِ

ولا تَكُنْ آيِسًا وارْجُ الكَرِيمَ لِمَا

أَسْلَفْتَ مِنْ زَلَّةٍ لَكِنْ عَلَى وَجَلِ

وَقِفْ عَلَى بَابِهِ المَفْتُوحِ مُنْكَسِرًا

تَجْزِمْ بِتَسْكِينِ مَا فِي النَّفْسِ مِن عِلَلِ

وارْفَعْ لَهُ قِصَّةَ الشَّكوَى وسَلْهُ إِذَا

جُنَّ الظَّلامُ بِقَلْبٍ غَيْرِ مُشْتَغِلِ

ولازِمِ البَابَ واصْبِرْ لا تَكُنْ عَجِلاً

واخْضَعْ لَهُ وتَذَلَّلْ وَادْعُ وابْتَهِلِ

وَنَادِ يَا مَالِكِي قَدْ جِئْتُ مُعْتَذِرًا

عَسَاكَ بِالعَفْوِ والغُفْرَانِ تَسْمَحُ لِي

فَإِنَّنِي عَبْدُ سِوْءٍ قَدْ جَنَى سَفَهًا

وَضَيَّعَ العُمْرَ بَيْنَ النَّومِ والكَسَلِ

وغَرَّهُ الحِلْمُ والإِمْهَالُ مِنْكَ لَهُ

حَتَّى غَدَا في المَعَاصِي غَايَةَ المُثُلِ

وَلَيْسَ لِي غَيْرُ حُسْنِ الظَّنِّ فِيكَ فَإِنْ

رَدَدْتَنِي فَشَقَاءٌ كَانَ فِي الأَزَلِ

حَاشَاكَ مِنْ رَدِّ مِثْلِي خَائِبًا جَزِعًا

والعَفْوُ أَوْسَعُ يَا مَوْلاي مِنْ زَلَلي

وَلَمْ أكُنْ بِكَ يَومًا مُشْركًا وإلى

دينٍ سِوَى دينكَ الإِسْلامِ لَمْ أمِلِ

وكَانَ ذَلكَ فَضْلاً مِنْكَ جُدْتَ بِهِ

وَلَيْسَ ذَاكَ بِسَعْي كَانَ مِنْ قِبَلي

الله اعتقنا من رق الذنوب، وخلصنا من أشر النفوس، وأذهب عنا وحشة الإساءة، وطهرنا من دنس الذنوب، وباعد بيننا وبني الخطايا وأجرنا من الشيطان الرجيم.

ص: 167

اللهم طيبنا للقائك، وأهلنا لولائك وأدخلنا مع المرحومين من أوليائك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وتلاوة كتابك، واجعلنا من حزبك المفلحين، وأيدنا بجندك المنصورين، وارزقنا مرافقة الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فوائد ومواعظ وإرشادات وأحكام

قال ابن مسعود رضي الله عنه إني لأكره أن أرى الرجل فارغًا لا في أمر دنياه ولا في أمر دينه.

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة.

وكان محمد بن مسلمة يغرس في أرضه فقال عمر رضي الله عنه أصبت استغن عن الناس يكون أصون لدينك وأكرم لك عليهم.

وسئل إبراهيم النخعي عن التاجر الصدوق أهو أحب إليك أم المتفرغ للعبادة.

قال التاجر الصدوق أحب إلي لأنه في جهاد يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان، ومن قبل الأخذ والعطا فيجاهده.

وقيل للإمام أحمد ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال لا اعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي.

فقال أحمد هذا رجل جهل العلم أما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله جعل رزقي تحت ظل رمحي» .

وقوله صلى الله عليه وسلم حين ذكر الطير: «تغدوا خماصًا وتروح بطانا» فذكر أنها

ص: 168

تغدوا في طلب الرزق.

وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم والقدوة بهم.

وجاءت ريح عاصفة في البحر فقال أهل السفينة لإبراهيم بن أدهم رحمه الله وكان معهم في السفينة.

أما ترى هذه الشدة فقال ما هذه شدة إنما الشدة الحاجة إلى الناس.

وروي أن الأوزاعي لقي إبراهيم بن أدهم وعلى رأسه حزمة حطب فقال يا أبا إسحاق إلى متى هذا إخوانك يكفونك.

فقال دعني عن هذا يا أبا عمرو فإنه بلغني أنه من وقف موقف مذلة في طلب الحلال وجبت له الجنة.

وقال أبو سليمان الداراني ليس العبادة عندنا أن تصف قدميك، وغيرك يقوت لك، ولكن ابدأ برغيفيك فأحرزهما ثم تعبد. اهـ.

فالإنسان البصير يتسبب ويسترزق الله ويبيع ويشتري بإخلاص ونصح لنفسه وللمسلمين.

كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان قسم منها قيمة الحلة أربعمائة، وقسم قيمة الحلة مئتان.

فذهب مبادرًا إلى الصلاة وخلف ابن أخيه في الدكان فجاء أعرابي وطلب حلة بأربعمائة.

فعرض عليه من حلل المئتين فاستحسنها ورضيها فاشتراها بأربعمائة وذهب بها.

فلقيه يونس فقال بكم اشتريت هذه فقال بأربع مائة فقال لا تساوي أكثر من مائتين فارجع حتى تردها.

ص: 169

فقال هذه تساوي في بلدنا خمسمائة وأنا ارتضيتها فقال له يونس انصرف فإن النصح في الدين خير من الدنيا وما فيها.

ثم رده إلى الدكان ورجع عليه مئتي درهم ووبخ ابن أخيه وقال له أما استحييت أما اتقيت الله تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين.

فقال والله ما أخذها إلا وهو راض بها قال فهلا رضيت له ما ترضاه لنفسك.

وكان يونس بن عبيد المذكور التابعي خزازًا (أي يبيع الخز) فطلب منه المشتري خزًا للشراء.

فأخرج غلامه سفط الخز ونشره ونظر إليه وقال اللهم ارزقنا الجنة.

فقال لغلامه رده إلى موضعه ولم يبعه، لأنه خاف أن يكون كلام الغلام تعريضًا بالثناء على السلعة ومدحًا لها فيكون من باب الغش والخداع.

اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعاتب التي تعلمها منا، وامنن علنيا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وكان لمحمد بن المنكدر قطع قماش بعضها بخمسة وبعضها بعشرة فباع غلامه قطعة من القطع التي على خمسة بعشرة.

فلما علم محمد بذلك ذهب يطلب الذي اشترى من غلامه ليرد عليه

ص: 170

خمسة فلم يزل يطلبه طول النهار حتى وجده.

فقال له إن الغلام قد غلط باعك ما يساوي خمسة بعشرة.

فقال يا هذا أنا قد رضيت فقال له وإن رضيت فإنا لا نرضى لك إلا ما نرضاه لأنفسنا.

فاختر إحدى ثلاث خصال إما أن تأخذ بدلها من القطع التي على عشرة بدراهمك وإما نرد عليك خمسة وإما أن ترد القطعة وتأخذ دراهمك.

فقال أعطني خمسة فرجع عليه خمسة وأخذها وانصرف.

فقال من هذا الرجل الناصح لنفسه وللمسلمين فقالوا هذا محمد بن المنكدر رحمه الله. هذا من رقم واحد في الزهد والورع.

وكان ليونس بن عبيد غلام يجهز إليه السكر فكتب إليه مرة أن قصب السكر قد أصابته آفة هذه السنة فاشتر السكر قال فاشترى سكرًا كثيرًا.

فلما جاء وقته ربح فيه ثلاثين ألفًا فانصرف إلى منزله، فأفكر ليلته وقال ربحت ثلاثين ألفًا وخسرت نصح رجل من المسلمين.

فلما أصبح غدا إلى بائع السكر فدفع إليه ثلاثين ألفًا وقال بارك الله لك فيها فقال من أين صارت لي فقال إني كتمتك حقيقة الحال وكان السكر قد غلا في ذلك الوقت.

فقال رحمك الله قد أعلمتني الآن وقد طيبتها لك قال فرجع بها إلى منزله وتفكر وبات ساهرًا وقال ما نصحته فلعله استحيا مني فتركها لي.

فبكر إليه من الغد وقال عافاك الله خذ مالك إليك فهو أطيب لقلبي فأخذ منه ثلاثين ألفًا. هذا من رقم واحد في الورع والزهد.

ونقل عن بعض الورعين أنه اشترى كر لوز وهو ستون قفيزًا بستين دينارًا. وكتب في دفتره ثلاثة دنانير ربحه. وكأنه رأى أن يربح على العشرة

ص: 171

نصف دينار فصار اللوز بتسعين.

فأتاه الدلال فطلب اللوز فقال خذه قال بكم قال بثلاثة وستين دينارًا.

فقال الدلال وكان من الصالحين الورعين قد صار اللوز بتسعين.

فقال قد عقدت عقدًا لا أحله لست أبيعه إلا بثلاث وستين.

فقال الدلال وأنا عقدت بيني وبين الله ألا أغش مسلمًا لست آخذه منك إلا بتسعين.

فتفرقا بدون بيع.

كل منهما ما يريد أن يفسد نيته وهذا من رقم واحد في الورع.

وباع ابن سيرين شاة فقال للمشتري إن فيها عيبًا "إنها تقلب العلف برجلها" قلت فعلى المسلم الناصح أن يبين لأخيه المسلم كل ما يعلمه في المبيع من العيوب ككون الدابة تأكل العذرة أو تأكل الخرق أو ما تحلب إلا على نوع من الطعام.

ويحكى أن واحدًا كان له بقرة يحلبها ويخلط لبنها بالماء ويبيعه فجاء سيل فغرق البقرة.

فقال أحد أولاده إن تلك المياه المتفرقة التي غشينا فيها اللبن اجتمعت دفعة واحدة فأغرقت البقرة.

وعن أحد التابعين أنه قال لو دخلت الجامع وهو غاص بأهله وقيل لي من خير هؤلاء لقلت أنصحهم لهم، فإذا قالوا هذا قلت هو خيرهم.

ولو قيل لي من شرهم قلت أغشهم لهم فإذا قيل هذا قلت هو شرهم.

وباع الحسن بن صالح وهو من رجال البخاري جارية فقال للمشتري إنها تنخمت عندنا دمًا.

وختامًا فعلى المسلم أن يجتنب بيع المنكرات والملاهي كالصور والتلفاز

ص: 172

والفيديو وجميع المحرمات والمنكرات وأواني الذهب والفضة لمن يستعملها.

والدخان وأوراق اللعب والطبول والمزامير وكل ما يشغل عن طاعة الله أو يعين على معاصي الله.

وينصح من يتعاطى هذه وأمثالها نسأل الله أن يعافينا وجميع المسلمين.

تَورَّعْ وَدَعْ مَا إِنْ يُريْبُكَ كُلَّهُ

جَمِيْعًا إِلَى مَا لا يَرِيْبُكَ تَسْلَمِ

وَحَافِظْ عَلَى أَعْضائِكَ السَّبْعِ جُمْلَةً

وَرَاعِ حُقُوقَ اللهِ فِي كُلِّ مُسْلِمِ

وَكُنْ رَاضِيًا بِاللهِ رَبًّا وَحَاكِمًا

وَفَوِّضْ إِلَيْهِ في الأَمُوْر وَسَلِّمِ

اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

عن أبي برزة الأسلمي أن جليبيبا كان امرأ من الأنصار، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لأحدهم أيم (أي لا زوج لها) لم يزوجها حتى يعلم النبي صلى الله عليه وسلم: هل له فيها حاجة أم لا؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم لرجل من الأنصار: يا فلان زوجني ابنتك. قال: نعم ونعمة عين. قال: إني لست لنفسي أريدها قال: لمن؟ قال: لجليبيب. قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أستأمر (أي أشاورها) وأمها.

فأتاها فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك. قالت: نعم ونعمة عين، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: إنه ليس لنفسه يريدها. قالت: فلمن؟ قال: لجليبيب. قالت: حلقى ألجليبيب؟ لا لعمر الله لا أزوج جليبيًا.

ص: 173

فلما قام أبوها ليأتي النبي صلى الله عليه وسلم قالت الفتاة من خدرها لأبويها: من خطبني إليكما؟ قالا: رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: أفتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ ادفعوني إلى رسول الله فإنه لن يضيعني.

فذهب أبوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: شأنك بها. فزوجها جليبيبا.

قال إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة لثابت: أتدري ما دعا لها به النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: وما دعا لها به النبي عليه السلام؟

قال: اللهم صب عليها الخير صبًا ولا تجعل عيشها كدًا كدًا.

قال ثابت: فزوجها إياه، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغزى له قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلانًا ونفقد فلانًا ونفقد فلانًا.

ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلانًا ونفقد فلانًا.

ثم قال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: لا.

قال: لكني أفقد جليبيبا فطلبوه في القتلى.

فنظروا فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا مني وأنا منه، أقتل سبعة ثم قتلوه هذا مني وأنا منه أقتل سبعة ثم قتلوه هذا مني وأنا منه.

فوضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ساعديه ثم حفروا له ما له سرير إلا ساعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وضعه في قبره.

لله در هذه الأنفس فما أعزها وهذه الهمم فما أرفعها؟

وَلَمَّا رَأوَا بَعْضَ الحَياةِ مَذلةً

عليهم وعِز الموتِ غَيرَ مُحَرَّمِ

أَبْوا أنْ يَذُوقُو العَيْشَ والذَمُّ وَاقعُ

عليه وماتُوا مِيْتَةً لَمْ تُذَمَّمِ

ولا عَجَبٌ لِلأَسْدِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهَا

كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعَجَمِ

فَحَرْبةُ وحْشِىٍّ سَقَتْ حَمزةَ الرَّدَى

ص: 174

وَحَتْفُ عَلىٍّ في حُسَامِ ابن مُلْجَمِ

روى مسلم في أفراده من حديث أنس بن مالك قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى بدر حتى سبقوا المشركين، وجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض» .

قال: عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟! قال: نعم. قال: بخ بخ يا رسول الله. فقال: ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال [لا] والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها.

قال: فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكلهن ثم قال: إن أنا حييت حتى أكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة. فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قُتل.

قال الواقدي: لما أراد عمرو بن الجموح الخروج إلى أحد، منعه بنوه، وقالوا: قد عذرك الله. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن بني يريدون حبسي عن الخروج معك وإني لأرجو أن أطأ بعرجتي [هذه] في الجنة، فقال:"أما أنت فقد عذرك الله" ثم قال لبنيه: لا عليكم أن لا تمنعوه لعل الله عز وجل يرزقه الشهادة. فخلوا سبيله.

قالت امرأته هند بنت عمرو بن خزام: كأني أنظر إليه موليًا، قد أخذ درقته وهو يقول: اللهم لا تردني إلى خربي وهي منازل بني سلمة.

قال أبو طلحة: فنظرت إليه حين انكشف المسلمون ثم ثابوا، وهو في الرعيل الأول، لكأني أنظر إلى ضلع في رجله وهو يقول: أنا والله مشتاق إلى الجنة!.

ثم أنظر إلى ابنه خلاد [وهو] يعدو [معه] في أثره حتى قتلا جميعًا.

ص: 175

وفي الحديث أنه دفن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمر وأبو جابر في قبر واحد، فخرب السيل قبورهم، فحفر عنهم بعد ست وأربعين سنة فوجدوا لم يتغيروا كأنهم ماتوا بالأمس.

عن أنس بن مالك قال: كنا جلوسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع الآن عليكم رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه قد علق نعليه بيده الشمال.

فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى. فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو، فقال: إني لاحيت أبي، فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت. قال: نعم".

قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الثلاث الليالي فلم يره يقوم من الليل شيئًا غير أنه إذا تعار تقلب على فراشه ذكر الله عز وجل، وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر.

قال عبد الله: غير أني لم أسمعه إلا خيرًا، فلما مضت الثلاث الليالي، وكدت أن احتقر عمله.

قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوى إليك.

فأنظر ما عملك، فأقتدى بك، فلم أرك عملت كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.

قال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت

ص: 176

غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشًا ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه.

فقال عبد الله: هذه التي بلغت بك، رواه أحمد بإسناد على شرط البخاري ومسلم والنسائي.

عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشًا فيهم رجل يقال له: حدير. وكانت تلك السنة قد أصابتهم سنة من قلة الطعام، فزودهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسى أن يزود حديرًا.

فخرج حدير صابرًا محتسبًا وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله. ويقول: نعم الزاد هو يا رب. فهو يرددها وهو في آخر الركب.

قال: فجاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن ربي أرسلني إليك يخبرك أنك زودت أصحابك ونسيت أن تزود حديرًا، وهو في آخر الركب يقول: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله.

فدعا النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فدفع إليه زاد حدير وأمره إذا انتهى إليه حفظ عليه ما يقول، وإذا دفع إليه الزاد حفظ عليه ما يقول، ويقول له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ورحمة الله، ويخبرك أنه كان نسي أن يزودك، وإن ربي تبارك وتعالى أرسل إلى جبريل يذكرني بك، فذكره جبريل وأعلمه مكانك.

فانتهى إليه وهو يقول: لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: نعم الزاد هذا يا رب. قال: فدنا منه ثم قال له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام ورحمة الله وقد أرسلني إليك بزاد معي، ويقول: إني إنما نسيتك فأرسل إلى جبريل من السماء يذكرني بك. قال: فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 177

ثم قال: الحمد لله رب العالمين، ذكرني ربي من فوق سبع سموات، ومن فوق عرشه، ورحم جوعي وضعفي، يا رب كما لم تنس حديرًا فاجعل حديرًا لا ينساك.

قال: فحفظ ما قال ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما سمع منه حين أتاه، وبما قال حين أخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنك لو رفعت رأسك إلى السماء لرأيت لكلامه ذلك نورًا ساطعًا ما بين السماء والأرض.

وعن محمد بن سعد قال: كان ذو البجادين يتيمًا لا مال له. فمات أبوه ولم يورثه شيئًا، وكفله عمه حتى أيسر.

فلما قدم النبي المدينة جعلت نفسه تتوق إلى الإسلام ولا يقدر عليه من عمه حتى مضت السنون والمشاهد.

فقال لعمه: يا عم إني قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمدًا، فأذن لي في الإسلام.

فقال: والله لئن اتبعت محمدًا لا أترك بيدك شيئًا كنت أعطيتكه إلا نزعته منك، حتى ثوبيك.

قال: فأنا والله متبع محمدًا وتارك عبادة الحجر، وها ما بيدي فخذه، فأخذ ما أعطاه حتى جرده من إزاره.

فأتى أمه فقطعت بجادًا لها باثنين فأتزر بواحد وارتدى بالآخر ثم أقبل إلى المدينة وكان بورقان فاضطجع في المسجد في السحر.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصفح الناس إذا انصرف من الصبح فنظر إليه فقال: من أنت؟ فانتسب له، وكان اسمه عبد العزى. فقال: أنت عبد الله ذو البجادين.

ثم قال: انزل مني قريبًا. فكان يكون في أضيافه حتى قرأ قرآنًا كثيرًا.

ص: 178

فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك قال: ادع لي بالشهادة. فربط النبي صلى الله عليه وسلم على عضده لحى سمرة وقال: اللهم إني أحرم دمه على الكفار.

فقال: ليس هذا أردت.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك إذا خرجت غازيًا فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد، أو وقصتك دابتك فأنت شهيد. فأقاموا بتبوك أيامًا ثم توفي.

قال بلال بن الحارث: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع بلال المؤذن شعلة من نار عند القبر واقفًا بها.

وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "أدنيا إلي أخاكما. فلما هيأه لشقه في اللحد قال: اللهم إني قد أمسيت عنه راضيًا فارض عنه".

فقال ابن مسعود: ليتني كنت صاحب اللحد.

وعن أبي وائل، عن عبد الله قال: والله لكأني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبر عبد الله ذي البجادين، وأبو بكر وعمر يقول: أدنيا إلى أخاكما.

وأخذه من القبلة حتى أسكنه في لحده ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم وولياهما العمل.

فلما فرغ من دفنه استقبل القبلة رافعًا يديه يقول: "اللهم إني أمسيت عنه راضيًا فارض عنه".

وكان ذلك ليلاً فو الله لوددت أني مكانه، ولقد أسلمت قبله بخمس عشر سنة.

عن محمد بن سعد قال: أتى واثلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى معه الصبح. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى وانصرف تصفح أصحابه. فلما دنا من واثلة قال: من أنت؟ فأخبره.

فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت أبايع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما أحببت

ص: 179

وكرهت؟ قال: نعم. قال: فيما أطقت؟ قال: نعم. فأسلم وبايعه.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز يومئذ إلى تبوك فخرج واثلة إلى أهله فلقي أباه الأسقع فلما رأى حاله قال: قد فعلتها؟ قال: نعم. قال أبوه: والله لا أكلمك أبدًا.

فأتى عمه فسلم عليه فقال: قد فعلتها؟ قال: نعم. قال: فلامه أيسر من ملامة أبيه وقال: لم يكن ينبغي لك أن تسبقنا بأمر.

فسمعت أخت واثلة كلامه فخرجت إليه وسلمت عليه بتحية الإسلام. فقال واثلة: أني لك هذا يا أخية؟ قالت: سمعت كلامك وكلام عمك فأسلمت.

فقال: جهزي أخاك جهاز غاز فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم على جناح سفر. فجهزته فلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم قد تحمل إلى تبوك وبقي غبرات من الناس وهم على الشخوص.

فجعل ينادي بسوق بني قينقاع: من يحملني وله سهمي؟ قال: وكنت رجلا لا رحلة بي.

قال: فدعاني كعب بن عجرة فقال: أنا أحملك عقبة بالليل وعقبة بالنهار ويدك أسوة يدي وسهمك لي. قال واثلة: نعم.

قال واثلة: جزاه الله خيرًا لقد كان يحملني ويزيدني وآكل معه ويرفع لي حتى إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك بدومة الجندل.

خرج كعب في جيش خالد وخرجت معه فأصبنا فيئًا كثيرًا فقسمه خالد بيننا فأصابني ست قلائص فأقبلت أسوقها حتى جئت بها خيمة كعب بن عجرة فقلت: اخرج رحمك الله فانظر إلى قلائصك فاقبضها.

ص: 180

فخرج وهو يبتسم ويقول: بارك الله لك فيها ما حملتك وأنا أريد أن آخذ منك شيئًا.

عن بشر بن عبد الله عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: كنا أصحاب الصفة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما فينا رجل له ثوب.

ولقد اتخذ العرق في جلودنا طرقًا من الغبار، إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«ليبشر فقراء المهاجرين» ثلاثًا.

عن نعيم بن ربيعة بن كعب قال: كنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع، حتى يصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة.

فأجلس على بابه إذا دخل بيته، أقول: لعلها أن تحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة. فما أزال أسمعه سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله وبحمده حتى أمل فأرجع أو تغلبني عيني فأرقد.

فقال لي يومًا لما رأى من حفتي (أي العناية والخدمة) له وخدمتي إياه، يا ربيعة سلني أعطك. قال: فقلت: أنظر في أمري يا رسول الله ثم أعلمك ذلك.

فقال: ففكرت في نفسي فعلمت أن الدنيا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقًا سيأتيني، قال: فقلت أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي فإنه من الله عز وجل بالمنزل الذي هو به.

فجئته فقال: ما فعلت يا ربيعة؟ فقلت: أسألك يا رسول الله أن تشفع لي إلى ربك فيعتقني من النار.

فقال: من أمرك بهذا يا ربيعة؟ فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أمرني به أحد ولكنك لما قلت سلني أعطك وكنت من الله بالمنزل الذي أنت به نظرت في أمري فعرفت أن الدنيا منقطعة وزائلة وأن لي فيها رزقًا سيأتيني.

فقلت أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لآخرتي. قال: فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم طويلاً

ص: 181

ثم قال لي: إني فاعل فأعني على نفسك بكثرة السجود.

وأخرجا في الصحيحين، من حديث قيس بن عبادة قال: كنت جالسًا في مسجد المدينة في ناس فيهم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

فجاء رجل في وجهه أثر خشوع، فقال بعض القوم: هذا رجل من أهل الجنة. فصلى ركعتين تجوز فيهما. ثم خرج فاتبعته فدخل منزله فدخلت فأخبرته.

فقال: لا ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لم ذاك؟ رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه.

رأيتني في روضة، وسط الروضة عمود من حديد، أسفله في الأرض وأعلاه عروة.

فقيل لي ارقه. فقلت: لا أستطيع. فجاءني منصف، يعني خادمًا، فقال بثيابي من خلفي، فأخذت بالعروة.

فقصصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الروضة الإسلام، وذاك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة، العروة الوثقى، وأنت على الإسلام حتى تموت، والرجل عبد الله بن سلام.

وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة فأتيت عبد الله بن سلام، فإذا رجل متخشع، فجلست إليه فقال: يا بن أخي إنك جلست إلينا وقد حان قيامنا، أفتأذن؟

اللهم ارحم غربتنا في القبور وأمنا يوم البعث والنشور واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 182

هذه قصيدة وعظية ألق لها سمعك

آخر:

انِسْتُ بِلأ واءِ الزمانِ وَذِلِهِ

فيا عِزَّةَ الدنيا عليكِ سَلامُ

إلىَ كَمْ أُعَانِي تِيْهَهَا ودَلَالَهَا

أَلَم يَأَنِ عَنْهَا سَلْوةُ وَسَآمُ

وقد أَخْلَقَ الأَيَامُ جِلْبِاب حُسْنِهَا

وَأضْحَتْ وديبَاجُ البَهَاءِ مَسَامُ

عَلَى حِيْنَ شَيْبٌ قد أَلَمَّ بِمَفْرِقِي

وعَادَ رُهَامُ الشَّعْرِ وهُوَ ثَغَامُ

طَلائِعُ ضَعْفٍ قَدْ أَغَارَتْ عَلَى القُوَى

وَثَارَ بِمَيْدَانِ المِزَاجِ قَتَامُ

فَلا هِي في بُرْجِ الجَمَالِ مُقِيْمَةٌ

ولا أَنَا في عَهْدِ المُجُونَ مُدَامُ

تَقَطَّعَتْ الأَسْبَابُ بَيْنِي وَبَيْنَها

وَلَمْ يَبْقَ فِيْنَا نِسْبَةٌ وَلِئَامُ

وعادَتْ قَلُوصُ العَزْمِ عَنِّي كَلِيْلَةً

وَقَدْ جُبَّ مِنْهَا غَارِبٌ وَسَنَامُ

كأَنِي بِهَا وَالقَلْبُ زُمَّتْ رِكَابهُ

وَقُوِّضَ أَبْيَاتٌ لَهُ وَخِيَامُ

وسِيْقَتْ إلى دَارِ الخُمُولِ حُمُولهُ

يَحُنُّ إليها والدُمُوعُ رُهَامُ

حَنِيْنَ عُجُول غَرَّهَا البَوُّ فَانْثَنَتْ

إِليْهِ وَفِيْهَا أَنَّةٌ وضُغَامُ

تَوَلَّتْ لَيَالٍ لِلْمَسَرَّاتِ وانْقَضَتْ

لِكُلِ زَمَانٍ غَايَةٌ وَتَمَامُ

فَسَرْعَانَ مَا مَرَّتْ وَوَلَّتْ وَلَيْتَهَا

تَدُوْمُ وَلَكِنْ مَا لَهُنَّ دَوَامُ

دُهُورٌ تَقَضَّتْ بِالمسَرَّاتِ سَاعَةً

وَيَومٌ تَوَلَّى بِالمَسَاءَةِ عَامُ

فَلِلِّهِ دَرُّ الغَمِّ حَيْثُ أَمَدَّنِي

بِطُولِ حَيَاةٍ وَالهُمُومُ سِهَامُ

أَسِيْرُ بِتَيْمَاءِ التَّحَيُرِ مُفْرَدًا

وَلِي مَعَ صَحْبِيْ عِشْرَةٌ وَنَدَامُ

وَكَمْ عِشْرَةٍ مَا أوْرَثَتْ غَيْرَ عُسْرَةٍ

وَرُبَّ كَلامِ في القُلُوبِ كُلامُ

فَمَا عِشْتُ لا أَنْسَى حُقُوقَ صَنِيْعِهِ

وَهَيْهَاتَ أَنْ يُنْسَى لَدَيَّ ذِمَامُ

كَمَا اعْتَادَ أَبْنَاءُ الزَّمَانِ وَأَجْمَعَتْ

ص: 183

عَلَيْهِ فِئَامٌ إِثْرَ ذَاكَ قِيَامُ

خَبَتْ نَارُ أَعْلامِ المَعَارِفِ والهُدَى

وَشُبَّ لِنِيْرَانِ الضَّلالِ ضُرَامُ

وكَانَ سَرِيرَ العِلْمِ صَرْحًا مُمِرَّدًا

يُنَاغِي القِبابَ السَّبْعَ وَهْيَ عِظامُ

مَتيْنًا رَفيْعًا لا يُطَارُ غُرابُهُ

عَزيْزًا مَنِيْعًا لا يَكَادُ يُرَامُ

يَلوحُ سَنَا بَرْقِ الهُدَى مِن بُرُوْجِهِ

كَبَرْقٍ بَدَا بَيْنَ السَّحَابِ يُشَامُ

فَجَرَّتْ عَلَيْهِ الراسِيَاتُ ذُيُولَهَا

فَخَرَّتْ عُرُوشٌ مِنْهُ ثُمَّ دَعَامُ

وسِيْقَ إلىَ دَارِ المهَانَةِ أَهْلُهُ

مَسَاقَ أَسَيْرٍ لا يَزَالُ يُضَامُ

كَذَا تَجْرِي الأَيْامُ بَيْنَ الوَرَى عَلَى

طَرَائِقَ مِنْهَا جائِرٌ وقوامُ

فَما كُلُّ مَا قَدْ قِيْلَ عِلْمٌ وحِكْمَةٌ

وما كُلُّ أَفْرَادِ الحَدِيْدِ حُسَامُ

ولِلْدَّهْرِ ثاراتٌ تَمْرُّ عَلَى الفَتَى

نَعِيْمٌ وَبُؤْسٌ، صِحَّةٌ وَسَقَامُ

ومَن يَكُ في الدُنيا فَلَا يَعْتِبَنَّهَا

فَلَيْسَ عَلَيْهَا مُعْتَبٌ وَمَلامُ

أَجِدَّكَ مَا الدنيا وماذَا مَتَاعُهَا

وَماذَا الذي تَبْغِيْهِ فَهْوَ حُطَامُ

تَشَكَّلَ فِيْهَا كُلُّ شَيءٍ بِشَكْلِ مَا

يُعَانِدُهُ والنَّاسُ عَنْهُ نِيَامُ

تَرَى النَّقْصَ في زِيِ الكَمَالِ كَأَنَّمَا

عَلَى رَأَسٍ رَبَّاتِ الحِجَالِ عِمَامُ

فَدَعْهَا ونَعْمَاهَا هَنِيْئًا لأَهِلْهَا

وَلاتَكُ فِيْهَا رَاعيًا وسَوَامُ

تَعَافُ العَرانِيْنُ السِمَّاطَ عَلَى الخِوى

إذَا ما تَصَدَّى لِلْطَّعَامِ طَغَامُ

عَلَى أَنَّهَا لا يُسْتَطَاعُ مَنَالُهَا

لِمَا لَيْسَ فِيْهِ عُرْوَةٌ وَعِصَامُ

ولَوْ أَنْتَ تَسْعَى إِثْرَهَا أَلْفَ حَجَّةٍ

وَقَدْ جَاوَزَ الطِبْيَيْنِ مِنْكَ حِزَامُ

رَجَعْتَ وَقَدْ ضَلَّتْ مَساعِيْكَ كَلُّها

بِخُفَيْ حُنَينٍ لا تَزَالُ تُلامُ

هَبْ إِنَّ مَقَالِيْدَ الأُمُورِ مَلَكْتَهَا

ودَانَتْ لَكَ الدُنْيا وَأَنْتَ هُمَامُ

ومُتِّعْتَ باللذاتِ دَهْرًا بِغِبْطَةٍ

ص: 184

أَلَيْسَ بِحَتْمٍ بَعْدَ ذَاكَ حِمَامُ

فَبَيْنَ البَرايَا والخُلُودِ تَبَايُنٌ

وَبَيْنَ المنايَا والنُّفُوسُ لِزَامُ

قَضيَّة انْقَادَ الأَنَامُ لِحكْمِهَا

وما حَادَ عَنْهَا سَيِدٌ وَغُلامُ

ضرورية تقضي العقولُ بِصدْقها

سَلْ إن كانَ فيها مِرْيَةٌ وخِصَامُ

سَل الأَرْضَ عن حالِ الملوكِ التي خَلَتْ

لهم فَوقَ فَوقَ الفرقدين مَقَامُ

بأبوابهم لِلوافِدِين تَراكُم

باعتابِهم للعاكِفين زِحامُ

تُجْبكَ عن أسرار السيوفِ التي جَرَتْ

عَليْهم جَوابًا لَيْسَ فِيه كَلامُ

بِأَنَّ المنايَا أَقَصْدَتهُم نِبَالُها

وما طَاشَ عن مَرْمَى لَهُنَّ سِهَامُ

وَسِيقُوا مَسَاق الغابِرينَ إلى الردى

وأقفرَ منهم مَنزَلٌ وَمَقَامُ

وحَلُوا محلاً غَيْرَ ما يَعهدُونه

فَلَيْسَ لهم حتى القيام قِيَامُ

أَلَمَّ بِهم رَيبُ المنونِ فَغَالَهُم

فهم بَيْنَ أَطباقِ الرُغَامِ رُغَامُ

انتهى

(فصل)

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يحبه ويرضاه أن من رضي عن نفسه استحسن حالها وسكن إليها ومن استحسن حال نفسه وسكن إليها استولت عليه الغفلة.

وبالغفلة ينصرف قلبه عن التفقد والمراعاة لخواطره فتثور حينئذ دواعي الشهوة على العبد.

وليس عنده من المراقبة والملاحظة والتذكير ما يدفعها به ويقهرها.

فتصير الشهوة غالبة له بسب بذلك ومن غلبته شهوته وقع في المعاصي.

ص: 185

وأصل ذلك كله رضاه عن نفسه ومن لم يرض عن نفسه لم يستحسن حالها ولم يسكن إليها.

ومن كان بهذا الوصف كان متيقظًا متنبهًا للطوارئ وبالتيقظ والتنبه يتمكن من تفقد خواطره ومراعاتها.

وعند ذلك تخمد نيران الشهوة فلا يكون لها غلبة ولا قوة فيضعف العبد حينئذ بصفة العفة.

فإذا صار عفيفًا كان مجتنبًا لكل ما نهاه الله عنه محافظًا على جميع ما أمره به وهذا هو معنى الطاعة لله عز وجل وأصل هذا كله عدم الرضا عن نفسه.

فإذا يجب على الإنسان أن يعرف نفسه ويلزم من ذلك عدم الرضا عنها وبقدر تحقق العبد في معرفة نفسه يصلح له حاله ويعلوا مقامه.

وكان العلماء المخلصون يذمون نفوسهم ويتهمونها ولا يرضون عنها.

قال بعضهم من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها ولم يجرها إلى مكروهها فهو مغرور ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها.

وكيف يرضى عنها عاقل وهي الأمارة بالسوء وقال بعض العلماء لا تسكن إلى نفسك وإن دامت طاعتها لك في طاعة الله.

وقال آخر: ما رضيت عن نفسي طرفة عين.

وقال آخر: إن من الناس ناس لو مات نصف أحدهم ما انزجر النصف الآخر ولا أحسبني إلا منهم.

وقال آخر: فائدة الصحبة إنما هي للزيادة في الحال وعدم النقصان فيها فإياك وصحبة من لا ينهضك حاله ولا يدلك على الله مقاله.

فصحبة من يرضى عن نفسه وإن كان عالمًا شر محض ولا فائدة فيها

ص: 186

لأن علمه في الغالب غير نافع له.

وجهله الذي أوجب رضاه عن نفسه صار غاية الضرر لأنه فاته العلم الذي يريه عيبه حتى لا يرضى عن نفسه الأمارة بالسوء.

وقال ابن القيم رحمه الله لما ذكر النفس الأمارة بالسوء قال منها أن يعرف أنها جاهلة ظالمة وأن الجهل والظلم يصدر عنهما كل قول وعمل قبيح.

ومن وصفه الجهل والظلم لا مطمع في استقامته واعتداله البتة فيوجب له ذلك بذل الجهد في العلم النافع الذي يخرجها به عن وصف الجهل والعمل الصالح الذي يخرجها به عن وصف الظلم ومع هذا فجهلها أكثر من علمها وظلمها أعظم من عدلها.

فحقيق بمن هذا شأنه أن يرغب إلى خالقها وفاطرها أن يقيه شرها وأن يؤتيها تقواها ويزكيها فهو خير من زكاها وأن لا يكله إليها طرفة عين فإنه إن وكله إليها هلك فما هلك من هلك إلا حيث وكل إلى نفسه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين بن المنذر: «قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي» . وفي خطبة الحاجة: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا» . وقد قال تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] . وقال: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] .

فمن عرف حقيقة نفسه وما طبعت عليه علم أنها منبع كل شر ومأوى كل سوء وأن كل خير فيها ففضل من الله من به عليها لم يكن منها كما قال تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور: 21] .

وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ

ص: 187

إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] . فهذا الحب وهذه الكراهة لم يكونا في النفس ولا بها.

ولكن هو الله الذي مَنَّ بهما فجعل العبد بسببهما من الراشدين {فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 8] . عليم بمن يصلح لهذا الفضل ويزكوا عليه وبه ويثمر عنده حكيم فلا يضعه عند غير أهله انتهى بتصرف يسير.

فعلى العاقل اللبيب محاسبة نفسه دائمًا والمحاسبة هي مطالعة القلب وأعمال اللسان وأعمال الجوارح.

فاجعل ذنوبك نصب عينيك فإن غفلت عنها اجتمعت بسرعة وكثرت.

وتأمل وفكر فلو أنك وضعت في كل معصية تحدثها حجرًا في دارك لامتلأ بيتك في مدة يسيرة.

فمثلاً عندك غيبة أو عندك كذب أو عندك رياء أو عندك عقوق أو قطيعة رحم أو ظلم لمسلم أو لنفسك أو لأهلك أو لأولادك أو لجيرانك أو تعامل معاملة لا تجوز.

أو عندك كفار خدام أو سواقين أو عندك ملاهي كالتلفاز والفيديو أو عندك صور أو تشرب الدخان أو حلق لحية أو إسبال أو تشبه بكفار أو سفر لبلادهم.

أو لك أولاد يدرسون عندهم برضا منك أو أكلك وشربك ولبسك من شركات تتعامل بالربا أو أن عملك لا تؤديه كاملاً مكملاً وتأخذ ما عليه كاملاً.

أو لا تتنسخ من الزكاة أو نحو ذلك مما لا يحصره العد.

ص: 188

فتيقظ وحاسب نفسك وفتش عليها بدقة وأسأل الله الحي القيوم أن يتجاوز عنك.

فإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِن ذِي عَظيمَةٍ

وإِلَّا فِإنِّي لا إخَالُكَ نَاجِيًا

قال تبارك وتعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ} [البقرة: 284] . قيل إن هذه الآية أعظم آية في المؤاخذة. ولما نزلت بكى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال ابن عباس يرحم الله أبا عبد الرحمن وإن الله تبارك وتعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] .

وقال ابن القيم رحمه الله فمن له بصيرة بنفسه وبصيرة بحقوق الله وهو صادق في طلبه لم يبق له نظره في سيئاته حسنة البتة فلا يلقى الله إلا بالإفلاس المحض والفقر الصرف.

لأنه إذا فتش عن عيوب نفسه وعيوب عمله علم أنها لا تصلح لله وأن تلك البضاعة لا تشترى بها النجاة من عذاب الله فضلاً عن الفوز بعظيم ثوابه.

فإن خلص له عمل وحال مع الله وصفا له معه وقت شاهد منة الله عليه به ومجرد فضله وأنه ليس من نفسه ولا هي أهل لذاك.

فهو دائمًا مشاهد لمنة الله عليه ولعيوب نفسه وعمله لأنه متى تطلبها رآها وهذا من أجل أنواع المعارف وأنفعها للعبد.

ولذلك كان سيد الاستغفار «اللهم أنت ربي لا إله إلا أَنْتَ خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» .

ص: 189

فتضمن هذا الاستغفار الاعتراف من العبد بربوبية الله وإلهيته وتوحيده والاعتراف بأنه خالقه العالم به إذ أنشأه نشأة تستلزم عجزه عن أداء حقه وتقصيره فيه والاعتراف بأنه عبده الذي ناصيته بيده وفي قبضته لا مهرب له منه ولا ولي له سواه.

ثم التزم الدخول تحت عهده وهو أمره ونهيه الذي عهده إليه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وإن ذلك بحسب استطاعتي لا بحسب أداء حقك فإنه غير مقدور للبشر إنما هو جهد المقل وقدر الطاقة.

ومع هذا فأنا مصدق بوعدك ثم أنزع إلى الاستعاذة والاعتصام بك من شر ما فرطت فيه من أمرك ونهيك فإنك إن لم تعذني من شره وإلا أحاطت بي الهلكة فإن إضاعة حقك سبب الهلاك وأنا أقر لك والتزم وأبخع بذنبي.

فمنك المنة والإحسان والفضل ومني الذنب والإساءة فأسألك أن تغفر لي بمحو ذنبي وأن تعفيني من شره إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فلهذا كان هذا الدعاء سيد الاستغفار.

وهو متضمن لمحض العبودية فأي حسنة تبقى للبصير الصادق مع مشاهدته عيوب نفسه وعمله ومنة الله عليه فهذا هو الذي يعطيه نظره إلى نفسه ونقصه اهـ.

قال بعض الزهاد لا يكون العبد من المتقين حين يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك لشريكه والشريكان يتحاسبان بعد العمل.

وقال الحسن المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله تعالى وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.

وفي حديث أبي طلحة أنه لما شغله الطين في صلاته فتدبر شغله فجعل

ص: 190

حائطه صدقة لله تعالى ندمًا ورجاء لعوض مما فاته وتأديبًا لنفسه.

المهم أن يعلم العبد أن أعدى عدو له نفسه التي بين جنبيه وقد خلقت أمارة بالسوء أمارة بالشر فرارة من الخير.

والإنسان مأمور بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل العبر إلى عبادة ربها وخالقها ومنعها عن لذاتها وشهواتها المهلكة.

فإن أهملها شردت وجمحت ولم يظفر بها بعد ذلك وإن لازمها بالتوبيخ والتقريع والمعاتبة والعذل والملامة ولم يغفل عن تذكيرها وعتابها اعتدلت بإذن الله تعالى.

والنَّفْسُ كَالطِفْلِ إِنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ عَلَى

حُبِّ الرَّضَاعِ وَإِنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ

ورَاعِهَا وَهي في الأعْمَالِ سَائمةً

وَإِنْ هِيَ اسْتَحْلَتِ المَرْعَى فلا تُسِمِ

كَمْ حَسَّنَتْ لَذَّةً لِلْمَرْءِ قَاتِلَةً

مِنْ حَيْثُ لَمْ يَدْرِي أَنَّ السُّم في الدَّسَمِ

فالعاقل اللبيب من يوبخ نفسه ويعاتبها ويوضح لها عيوبها كلها ويقرر عندها جهلها وحماقتها فإنها إذا أراد الله تعذر وترعوي وترجع.

فيقول لها ما أعظم جهلك تدعين الحكمة والفطنة وأنت من أجهل الناس وأحمقهم.

وأكبر برهان على ذلك إهمالك واستهانتك أما تعرفين ما بين يديك من الأهوال والعظائم والمزعجات والمخاوف.

أما تقرئين وتسمعين قول أصدق القائلين وأوفى الواعدين وأقدر القادرين {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً} [المزمل: 14] .

وقوله تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ

ص: 191

الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] .

وقوله عز من قائل: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] .

وقوله جل وعلا: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17] .

وقوله تبارك وتعالى: {فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل: 14] .

وقوله جل وعلا {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 33] .

ونحو هذه الآيات المخوفة ثم يقول لنفسه فمالك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الأمر العظيم والخطب الجسيم وبين يديك إحدى منزلتين الجنة أو النار فكيف يهنؤك نوم أو يلذ لك مأكول أو مشروب وأنت لا تدرين في أي الفريقين تكونين "فريق في الجنة وفريق في السعير".

وكَيْفُ تَنَامُ العَينُ وهي قَريْرَةٌ

وَلَمْ تَدْرِ في أيِّ المَكانيْنِ تَنْزلُ

وقل لها أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب وأن البعيد ما ليس آت.

أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ومن غير مواعدة وأنه لا يأتي في شتاء دون صيف ولا في صيف دون شتاء ولا في نهار دون ليل ولا في ليل دون نهار ولا يأتي في الصبا دون الكبر ولا في الكبر دون الصبا.

بل كل نفس يمكن أن يأتيها الموت بغتة فإن لم يأت الموت بغتة جاءه المرض لا محالة ثم المرض يفضي إلى الموت.

فما لك يا نفس لا تستعدين والموت أقرب إليك من حبل الوريد.

ص: 192

فهكذا معاملة الزهاد والعباد في توبيخ أنفسهم وعتابها فإن مطلبهم من المناجاة الاسترضاء ومقصودهم من المعاتبة التنبيه والاسترعاء.

فمن أهمل معاتبة نفسه وتوبيخها وأهمل مناجاتها لم يكن لنفسه مراعيًا فنسأل الله العظيم الحي القيوم معرفة حقيقة بأحوال أنفسنا وغرورها.

وختامًا فالعاقل من بذل وسعه في التفكر التام وعلم أن دار الدنيا رحلة فجمع للسفر رحله.

فمبدأ السفر من ظهور الآباء إلى بطون الأمهات ثم إلى الدنيا ثم إلى القبر ثم الحشر ثم إلى دار الإقامة الأبدية.

فدار الإقامة للمؤمن هي دار السلام من جميع الآفات وهي دار الخلود والعدو سبانا منها إلى دار الدنيا.

فالواجب علينا الاجتهاد في فكاك أسرنا ثم في حث السير إلى الوصول إلى دارنا الأولى في مثل هذا قيل:

فحَيَّ على جَنَّاتِ عَدْنٍ فإنَّها

مَنَازلُكَ الأُوْلَى وفيها المُخَيَّمُ

وَلَكِنَّنَا سَبْي العَدُوِّ فَهَل تَرَى

نُرَدُّ إِلى أَوْطَانِنَا وَنُسَلَّمُ

آخر:

تَرَكْتُ هَوَى لَيْلَى وَسُعْدَى بِمَعْزِل

وعُدْتُ إلى تَصْحِيحِ أَوْلَ مَنْزِلِ

وَنَادَتْ بي الأشْوَاقُ مَهْلاً فَهَذِهِ

مَنَازِلُ مَنْ تهوى رُوَيْدَكِ فَانْزلِ

ثم أعلم أن مقدار السير في الدنيا يسير ويقطع بالأنفاس كما قيل:

وما نَفَسٌ إِلَّا يُبَاعِدُ مَوْلِدًا

ويُدْنِي المَنَايَا لِلنُّفوس فَتَقْرُبُ

ويسير الإنسان في هذه الدنيا سير السفينة لا يحس بسيرها وهو جالس فيها كما قيل:

وإنَّا لَفِي الدنيا كَرَكْبِ سَفِيْنَةٍ

ص: 193

تَظُنُّ وقُوْفًا والزمانُ بها يَجْرِى

ويقول الآخر:

نَسِيْرُ إلى الآجالِ في كُلّ لَحْظَةٍ

وَأَيَّامُنَا تُطْوَى وهُنَّ مَرَاحِلُ

والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

فصل

اعلم أيها الأخر أن جميع مصيبات الدنيا وشرورها وأحزانها كأحلام نوم أو كظل زائل.

إن أضحكت قليلاً أبكت كثيرًا وإن سرت يومًا أو أيامًا ساءت أشهرًا أو أعوامًا وإن متعت قليلاً منعت طويلاً.

وما حصل للعبد فيها من سرور إلا أعقبه أحزان وشرور كما قيل: "من سره زمن ساءته أزمان".

وقال بعض العلماء لبعض الملوك إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط له فيها وأعطي حاجته منها.

لأنه يتوقع آفة تعدو على ماله فتجتاحه، أو على جمعه فتفرقه، أو تأتي سلطانه فتهدمه من قواعده.

أو تدب إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشيء هو ضنين به من أحبابه.

فالدنيا أحق بالذم هي الآخذة لما أعطت، والراجعة لما وهبت.

بينما هي تضحك صاحبها إذا هي تضحك منه غيره.

وبينما هي تبكي له إذ بكت عليه.

وبينما هي تبسط كفه بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد.

ص: 194

تعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره بالتراب غدًا.

سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي تجد في الباقي من الذاهب خلفا وترضى بكل بدلاً.

شعرًا:

بأَمْرِ دُنْياك لا تَغْفُلْ وكُنْ حَذِرًا

فَقَدْ أَبانَتْ لأَرْباب النُّهَي عِبَرًا

فأيُّ عَيْشٍ بِهَا ما شَابَهُ غِيَرٌ

وَأَيُّ صَفْوٍ تَنَاهَى لَم يَصِرْ كَدِرًا

كَمْ سَالِم أَسْلَمَتْهُ لِلرَّدَى فَقَضَى

حَتْفًا وَلَم يَقْضِ مِن لَذَّاتها وَطِرًا

ومُتْرَفٍ قَلَبَتْ ظَهْرَ المِجَنِّ لَهُ

فَعَادَ بَعْدَ عُلوِّ القَدْرِ مُحْتِقَرًا

فابْعِدَنْهَا ولا تَحْفَلْ بِزخُرُفِهَا

وَغُضَّ طَرْفَكَ عَنْهُ قَلَّ أو كَثُرًا

فَكُلُّ شَيءٍ تَرَاهُ العَيْنُ مِن حَسَنٍ

كَرُ الأَهِلَّةِ لا يُبٍقي لَهُ أَثَرًا

واصْحَبْ وصَلّ وَوَاصِلْ كُلّ أَونَةٍ

عَلَى النبي سَلامًا طَيِّبًا عَطِرًا

وَصَحْبِهِ ومَنِ اسْتَهْدَى بِهَدْيِهِمُوْا

فَهُمْ أَئِمَّةُ مَن صَلَّى ومَن ذَكَرًا

ثم اعلم أيها الأخ أن من بورك له في عمره أدرك في يسير الزمن من منن الله ما لا يدخل تحت دوائر العبارة.

فبركة العمر أن يرزق الله العبد من الفطنة واليقظة ما يحمله على الجد والاجتهاد على اغتنام أوقات عمره وانتهاز فرصة إمكانه.

فيبادر إلى الأعمال القلبية والأعمال البدنية ويستفرغ في ذلك مجهوده بالكلية وكل ذلك في عمر قصير وزمن يسير.

والخذلان كل الخذلان أن تتفرغ من الشواغل ثم لا تتوجه إلى الله جل وعلا.

ومن الخذلان أيضًا أن تصدك العوائق والشواغل عن التوجه إلى الله تعالى.

ص: 195

والواجب عليك أن تبادر إلى التوجه إلى الله بالأعمال الصالحة وأن ترمي بالعوائق والشواغل خلف ظهرك.

وقد قيل سيروا إلى الله عرجًا ومكاسير ولا تنتظروا الصحة فإن انتظار الصحة بطالة والعاقل من بادر إلى الأعمال الصالحة قال الشاعر حاثًا على اغتنام الوقت:

وخُذ مِن قَرِيْبٍ واسْتَجِبْ واجْتَنِبْ غَدًا

وشَمِّرْ عن السَّاقِ اجْتِهَادًا بِنَهْضَةِ

وَكُنْ صَارِمًا كَالْوَقْتِ فالمَقْتُ في عَسَى

وإيَّاكَ مَهْلاً فَهْيَ أَخْطَرُ عِلَّةِ

وسِرْ زَمنًا وانْهَضْ كَسِيْرًا فَحَظُّكَ الـ

ـبَطَالَةُ مَا أَخَّرْتَ عَزْمًا لِصِحِّةِ

وَجُذَّ بسَيْفِ العَزْمِ سَوْفَ فإنْ تَجُدْ

تَجِدْ نَفَسًا فَالنَّفْسُ إِنْ جُدْتَ جَدَّتِ

اللهم انظمنا في سلك عبادك المخلصين ووفقنا للقيام بأركان دينك القويم ونجنا من لفحات الجحيم وأسكنا في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

قال ابن الجوزي تباعد عن أهل السوء وباعد أولادك عنهم لا يعادونك بأفعالهم وأقوالهم وطباعهم ولا يزال يقسو قلبك حتى يستأنس بهم فهناك الهلاك.

والسوء يتفاوت فمن أهله أهل الفواحش ومنهم أهل اللهو ومنهم أهل الغيبة والنميمة ومنهم أهل الملاهي وآلات الطرب.

فإنهم يسبون أهل العقول عقولهم حتى ينحلوا عن دينهم ومروءتهم

ص: 196

فيعسر عليهم الخلاص لما يجدونه من لذة النغمات والأصوات.

حتى يكون عادة وطبعًا فربما يجلس الرجل إليهم وهو كاره لسماع لغوهم مستوحش من نفسه ثم لا يزال على ذلك حتى يراه حسنًا.

من كيد الشيطان أن يورد ابن آدم الموارد التي يخيل إليه أن فيها منفعته ثم يصدره المصادر التي فيها عطبه ويتخلى عنه ويسلمه للهلاك ويقف يتشمت به ويضحك منه.

فيأمره بالسرقة والقتل واللواط والزنا ويدل عليه ويفضحه قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} [الحشر: 16] .

وقال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 48] .

ذكر ابن القيم رحمه الله الأسباب التي يعتصم بها من الشيطان. الأول: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم. قال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] . والمراد بالسمع هنا سمع الإجابة لا السمع العام.

الثاني: قراءة المعوذتين فإن لهما تأثيرًا عجيبًا في الاستعاذة بالله من شر الشيطان ودفعه.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما وكان صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم» .

وأمر عقبة بن عامر أن يتعوذ بهما دبر كل صلاة وذكر صلى الله عليه وسلم أن من قرأهما

ص: 197

مع سورة الإخلاص ثلاثًا حين يمسى وثلاثًا حين يصبح كفتاه من كل شر.

الثالث: قراءة آية الكرسي.

الرابع: قراءة سورة البقرة ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان»

الخامس: خاتمة سورة البقرة فقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه» .

السادس: أول سورة حم المؤمن إلى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3]، ففي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ حم المؤمن إلى قوله:{غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3] . وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح.

السابع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة.

ففي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة. كانت عدل عشر رقاب وكتب له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكان حرزًا له من الشيطان» .

يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل منه إلا رجل عمل أكثر من ذلك.

الثامن: وهو أنفع الحروز من الشيطان كثرة ذكر الله عز وجل وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة الناس.

فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس الذي إذا ذكر العبد ربه انخنس

ص: 198

فإذا غفل عن ذكر الله ألتقم القلب وألقى إليه الوساوس.

فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز وجل.

الحرز التاسع: الوضوء والصلاة وهذا من أعظم ما يحترز العبد به ولا سيما عند الغضب والشهوة فإنها نار تصلى في قلب ابن آدم.

كما روى الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم فما أطفأ العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة.

فإن الصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال على الله فيها أذهبت أثر ذلك جملة وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه.

الحرز العاشر: إمساك فضول الكلام فإنها تفتح أبوابًا من الشر كلها مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنك تلك الأبواب.

والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

فوائد ونصائح ومواعظ وحكم وآداب ووصايا

من أخلاق المؤمن حسن الحديث، وحسن الاستماع إذا حدث، وحسن البشر إذا لقي، ووفاء بالوعد إذا وعد ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.

سوء الخلق سبب النكد في الحياة والشرور والآثام، فعلى العاقل اللبيب أن يعرف الأخلاق السيئة ليجتنبها، وهي كثيرة ولا يخلو أحد منها فتفقد نفسك وأزل ما فيها.

فمن ذلك المكر، والخديعة والخيانة والغش، والكذب، والغيبة، والنميمة، والسعاية، والظلم والرياء والعقوق، والقطيعة، والكبر، والعجب، والزهو، والأنفة من المسكنة.

ص: 199

والنفاق، والخيانة، والغدر، والحسد، والغل، والحقد، والشماتة، والبغضاء، وسوء الظن، والتجسس على المسلمين.

وإضمار السوء، والتربص بالدوائر ومساعدة الهوى، ومخالفة الحق والرضى بالهوى والحب والبغض بالهوى، والجفاء.

والقسوة، وقلة الرحمة، والحرص، والشره والطمع والطيرة، والطغيان بالمال، والفرح بإقبال الدنيا، واستقلال الرزق.

واحتقار النعم، والاحتقار بمصائب الدين، واستعظام الدنيا، والحزن على ما فات منها.

والاستهانة بعلم الله عز وجل عند فعلك للذنب والاستهانة بسماعه ما يصدر منك من المعاصي قولاً وفعلاً.

وقلة الحياء من اطلاع الله عليك ومن اطلاع من عن اليمين وعن الشمال قعيد.

وأنت لو أطلع عليك مخلوق ضعيف وأنت تعمل معصية الله لانزعجت.

فتنبه لذلك وراقب الله جل وعلا وتقدس وكن منه على حذر.

تَوَارَى بِجُدْرَانِ البُيُوتِ عَن الوَرَى

وَأَنْتَ بِعَيْنِ الله لا شَك تُنْظَرُ

وقال ابن القيم رحمه الله:

وَهُوَ الحليمُ فَلا يُعَاجِلُ عَبْدَهُ

بَعَقُوبِةٍ لِيَتُوبَ مِن عِصْيانِ

لَكِنَّهُ يُلْقِي عَليه سِتْرَهُ

فَهو السَّتِيْرُ وَصَاحِبُ الغُفْرانِ

وهُوَ العَفَّوُ فعَفْوُهُ وسِعَ الوَرَى

لَوْلاهُ غَارَ الأرْضُ بالسُّكَانِ

وَهُوَ الصَّبُورُ عَلَى أَذَى أَعْدَائِهِ

شَتَمُوهُ بَلْ نَسَبُوهُ لِلْبُهْتَانِ

قَالُوا لَهُ ولَدٌ وَلَيْسَ يُعِيْدُنَا

شَتْمًا وَتَكْذِيْبًا مِن الإِنسانِ

هَذَا وَذَاكَ بِسَمْعِهِ وَبِعِلْمِهِ

ص: 200

لَوْ شَاءَ عَاجَلهُم بِكُلِّ هَوَانِ

لَكِنْ يُعَافِيْهِم ويَرْزُقُهُم وَهُمْ

يُؤْذُونَهُ بِالشِرْكِ وَالكُفْرانِ

قال بعض العلماء إخواني إذا تقرب الناس إلى الله عز وجل بأنواع البر الظاهرة مثل الجهاد والحج والصوم والزكاة والصدقة وتلاوة القرآن وغير ذلك.

فنافسوهم فيها واجعلوا أعظم الرغبة في طاعة القلوب التي لا يطلع عليها الإنس ولا الملائكة ولا الجن، ولا يعلمها إلا علام الغيوب.

فإن القليل من أعمال البر كثير لسلامته من الرياء وجميع المكدرات.

ألا فتقربوا إلى الله بطاعة القلوب فإن فيها المعرفة بعظمة الله وكبريائه وجلاله وقدرته وعظيم قدره سبحانه.

وتقربوا إليه بمحابه، وبغض مكارهه والرضا والغضب له وفيه، وتقربوا إليه بشدة الحب له.

والحب فيه والبغض من أجله، وتقربوا إلى الله بالمعرفة بأياديه الحسنة ونعمه الظاهرة والباطنة، وأفعاله الجميلة.

ومننه المتواترة على تواتر الإساءة منا، وهو جل وعلا وتقدس يعود بأنواع النعم علينا.

ألا فتقربوا إليه بالخوف من زوال النعم، وشدة الحياء من التقصير في الشكر.

وتقربوا بالوجل من مكر الله تعالى والإشفاق على إيمانكم.

وتقربوا إلى الله بشدة الخوف منه.

وحقيقة الرجاء فيه، والسرور بذكره، ومناجاته، والشوق إليه، والرغبة في جواره.

وتقربوا إلى الله بصدق اليقين والتوكل عليه والثقة به والطمأنينة إليه

ص: 201

والأنس به والانقطاع إليه.

وتقربوا إليه بالوفاء ولين الجانب والجناح والتواضع والخشوع والخضوع.

وتقربوا إليه بالحلم والاحتمال وكظم الغيظ وتجرع المرارة.

وتقربوا إليه بسلامة الصدر وإرادة الخير للأمة وكراهة الشر لهم.

وتقربوا إلى الله بالرأفة والرحمة والشفقة والحوطة على المسلمين.

وتقربوا إليه بالجود والكرم والتفضل والإحسان وصدق الوفاء.

وتقربوا إليه بالقناعة والعفاف والكفاف والرضى بالبلغة واليأس من نائل الناس.

وتقربوا إليه بالتدبر لكتابه وتفهمه والعمل به والإخلاص.

وتقربوا إليه بمجاهدة إبليس -لعنه الله- ومخالفة الهوى والنفس الأمارة بالسوء والتفقد لأحوالكم والتقوى في كل أموركم وتقربوا إلى الله بأداء الأمانات.

وتقربوا إليه بالإحسان إلى المسيء والإيثار على أنفسكم وإن كان بكم خصاصة.

وارغبوا في مكارم الأخلاق.

وتقربوا إلى الله بالتواضع والابتعاد عن الترفع على عباد الله المؤمنين.

وتقربوا إلى الله بالفرح بمصائب الدنيا، والرضا بقضاء الله وقدره.

وتقربوا إلى الله بالاستعداد للموت والبعث والنشور والحساب والميزان.

أَلَمْ تَر أنَّ المرء يِحبسُ ماله

وَوَراثِةُ فيه غدًا يَتَمَتَّعُ

كَأَنَّ الحماة المشفقين عَلَيْكَ

قَدْ غَدَوا بكَ أَوْ رَاحُوا رَوَاحًا فَأَسْرَعُوا

وما هُوَ إِلا النَّعْشُ لَوْ قَدْ أَتَوَا بِهِ

ص: 202

تُقَلَّ فَتَلْقَى فوْقَهُ ثُم تُرْفَعُ

وَمَا هُوَ إلا حَادِث بَعْدَ حَادثٍ

عَلَيْكَ فَمِنْ أَيِّ الحَوَادِثِ تَجْزِعُ

وَمَا هُوَ إِلا المَوْتُ يَأتِي لِوَقْتِهِ

فَمَالكَ في تَأخِيْرهِ عَنْكَ مَدْفَعُ

أَلا وإذا وُدِّعْتَ تَوْدِيْعَ هَالِكٍ

فَآخِرُ يَوْمٍ مِنْكَ يَوْمٌ تُوَدَّعُ

أَلا وَكَمَا شَعَّيْتَ يَوْمًا جَنَائِزًا

فَأَنْتَ كَمَا شَيَّعْتَهُم سَتُشَيَّعُ

رَأَيْتُكَ في الدُنْيَا عَلَى ثِقَةٍ بِهَا

وَإِنَّكَ في الدُنْيَا لأَنْتَ المُرَوَّعُ

وَصَفْتَ التُّقَى وَصْفًا كَأَنَّكَ ذُو تُقَى

وَرِيْحُ الخَطَايَا مِنْ ثِيَابِكَ تَسْطَعُ

وَلَمْ تُعْنَ بِالأَمْرِ الذي هُوَ وَاقِعُ

وَكُلُّ امْرئٍ يَعْنَي بِمَا يَتَوقَّعُ

وَإِنَّكَ لَلْمَنْقُوْصِ في كُلُّ حَالةٍ

وَكلُّ بَني الدُّنْيَا عَلى النَّقْصِ يُطْبَعُ

وَمَا زِلْتُ أَرْمى كُلُّ يَوْمٍ بِعْبِرَةٍ

تَكادُ لَهَا صُمُّ الجِبَالِ تَصَدَّعُ

فَمَا بَالُ عَيْنِي لا تَجُوْدُ بِمَائِهَا

وَمَا بَالُ قَلْبِي لا يَرِقُّ وَيَخْشَعُ

تَبَارَكَ مَنْ لا يَمْلِكُ المُلْكَ غَيْرُهُ

مَتَى تَنْقَضي حَاجَاتُ مَنْ لَيْسَ يَقْنَعُ

وَأَيُّ امْرِءٍ في غَايَةٍ لَيْسَ نَفْسُهُ

إِلى غَايَةٍ أُخْرَى سِوَاهَا تَطَلَّعُ

وَبَعُْض بَنِي الدُّنْيَا لِبَعْضٍ ذَرِيْعَةٌ

َوَكُلٌّ بِكُل قَلَّمَا يَتَمَتَّعُ

يُحِبُّ السَّعِيْدُ العَدْلَ عِنْدَ احْتِجَاجِهِ

َوَيَبْغِي الشَّقِيُّ البَغْيَ والبَغْيُ يَصْرَعُ

اللهم ثبتنا على نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الحسرة والندامة يوم القيامة وخفف عنا ثقل الأوزار، وارزقنا عيشة الابرار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 203

‌9- موعظة

عباد الله كلنا نعلم أن حياتنا مهما امتدت وصفت للزوال، وكذلك كل واحد منا يعلم أنه أتى للدنيا للاختبار بما كلفنا به من العبادات والمعاملات، وسيصبح الواحد منا عما قريب في حفرة وحيدًا ليس معه أولاد ولا أموال، وحينئذ تكون أيها الأخ كأنك ما رأيت الدنيا ولا هي رأتك لحظة من اللحظات.

ويا ليتك إذا زالت الحياة تزول دون أن يترتب عليها آثار لو كان ذلك لأحب بعضنا الموت، لأنه يكون بشيرًا بانتهاء الأمراض والمصائب والآلام، لكنك تعلم أنه يعقب ذلك الموت أهوال، وأمور مزعجات، تلاقي جزاء ما كان منك قبل الموت في الاختبار.

فإن كنت قد أحسنت، رأيت قبرك روضة نعيم، وإن كنت مسيئًا رأيته نيرانًا محرقات.

عن البراء بن عازب قال كنا في جنازة رجل من الأنصار ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهينا إلى القبر ولم يلحد، ووضعت الجنازة، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال «إن المؤمن إذا احتضر، أتاه ملك الموت في أحسن صورة، وأطيب ريحًان فجلس عنده، لقبض روحه، وأتاه ملكان بحنوط من الجنة وكانا منه على بعيد فاستخرج ملك الموت روحه من جسده رشحًا.

فإذا صارت إلى ملك الموت ابتدرها الملكان فأخذاها منه فحنطاها بحنوط من الجنة وكفناها بكفن من الجنة ثم عرجا بها إلى الجنة، فتفتح له أبواب السماء، وتستبشر الملائكة بها ويقولون لمن هذه الروح الطيبة التي فتحت لها أبواب السماء.

ص: 204

ويسمى بأحسن الأسماء التي كان يسمى بها في الدنيا، فيقال هذه روح فلان فإذا صعدا بها إلى السماء شيعها مقربو كل سماء، حتى توضع بَيْنَ يدي الله عند العرش، فيخرج عملها من عليين فيقول الله عز وجل للمقربين اشهدوا أني قد غفرت لصاحب هذا العمل، ويختم كتابه فيرد في عليين.

فيقول الله عز وجل ردوا روح عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني أردهم فيها.

ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] . فإذا وضع المؤمن في لحده تقول له الأرض إن كنت لحبيبًا إلي وَأَنْتَ على ظهري، فكيف إذا صرت اليوم في بطني سأريك ما أصنع بك، فيفسح له في قبره مد بصره.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضع الكافر في قبره أتاه منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له من ربك، فيقول لا أدري، فيقولان له لا دريت، فيضربانه ضربة فيصير رمادًا، ثم يعاد فيجلس فيقال له ما قولك في هذا الرجل، فيقول أي رجل فيقولان محمد صلى الله عليه وسلم فيقول قال الناس إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضربانه ضربة فيصير رمادًا» .

ويا ليت الأمر ينتهي، ويقف عند هذا الحد، فتبقى في قبرك على الدوام، فإنه أخف مما بعده، فتكون آلامك فيه أخف إن كنت من أهل الشقاء والآثام، ولكن تعلم أن ما أخبر به الله سيقع، وهو القيام من القبور، قال الله تعالى:{يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] .

وحينئذ تسوقك نتيجة اختبارك إما إلى الجنة وإما إلى السعير، من كان مكذبًا بهذا والعياذ بالله فلا كلام لنا معه، لأن مآله إلى جهنم وبئس المهاد

ص: 205

لأنه من الكافرين، وإن كان مؤمنًا بذلك كما أخبر الله ورسوله فهو الذي تفيد فيه المواعظ وضرب الأمثال ويقال لماذا نراك متصفًا بما يخالف قولك:

يَا قَسْوةَ القَلْبِ مَالِي حِيْلةٌ فِيْكَ

مَلَكْتِ قَلْبِي فأَضْحَى شَرَّ مَمْلُوكِ

حَجَبْتِ عَنِي إِفادَاتِ الخُشُوعِ فَلا

يَشْفِيْكِ ذِكْرٌ وَلا وَعْظٌ يُدَاوِيْكِ

وَمَا تَمَادِيْكِ مِن كُثْفِ الذُنُوبِ وَلَـ

ـكِنَّ الذُنُوبَ أَرَاهَا مِن تَمَادِيْكِ

لَكِن تَمَادِيْكِ مِن أَصْلِ نَشَأتِ بِهِ

طَعام سُوْءٍ عَلَى ضَعْفٍ يُقَوِّيْكِ

وَأَنْتَ يا نَفسُ مَأْوَى كُلِّ مُعْضِلةٍ

وَكُلُ دَاءٍ بِقلبِي مِن عَوادِيْكِ

أَنتِ الطَّلِيْعَةُ لِلشَّيْطَانِ في جَسَدِي

فَلَيْسَ يَدْخُلُ إِلا مِن نَواحِيْكِ

لَمَا فَسَحْتِ بِتَوفِيْرِ الحظُوظِ لَهُ

أَضْحَى مَعَ الدَّم يَجْرِيْ في مَجَارِيْكِ

وَالَيْتِهِ بِقَبُوْلِ الزُورِ مِنْكِ فَلَنْ

يُوَالِي الله إِلا مَن يُعَادِيْكِ

ما زِلْتِ في أسْرِهِ تَهْوِيْنَ مَوْثقَةٌ

حَتَّى تَلِفْتِ فَأَعيانِي تَلافِيْكِ

يَا نَفْسُ تُوبِي إلى الرحمنِ مُخْلِصَةً

ثم اسْتَقِيْمِيْ عَلَى عَزْمٍ يُنَجِيْكِ

واسْتَدِركِي فَارِطَ الأوْقَاتِ واجْتَهِدِيْ

عَسَاكِ بالصِدْقِ أنْ تَمْحَيْ مَسَاوِيْكِ

واسْعَيْ إِلَى البِرَّ والتَّقْوىَ مُسَارِعَةً

فَرُبَّما شُكِرَتْ يَومًا مَسَاعِيْكِ

وَلَنْ يَتِمْ لَكِ الأَعْمَالُ صَالِحةً

إِلا بِتَركِكِ شَيْئًا شَرّ مَتْرُوْكِ

حُبُّ التَّكَاثُرِ في الدُّنْيَا وَزِيْنَتهَا

فَهْيَ التِي عَن طِلابِ الخَيرِ تُلْهِيْكِ

لا تُكْثِريْ الحِرْصَ في تَطْلابِهَا فَلَكَمْ

دَمٌ لَهَا بِسُيُوفِ الحِرْصِ مَسْفُوْكِ

بَل اقْنَعِي بِكَفَافِ الرِّزْقِ رَاضِيَةٌ

فَكُلَّمَا جَاَز مَا يَكْفِيْكِ يُعْطِيْكِ

ثُمَّ اذْكُرِيْ غُصصَ الموتِ الفَظِيْع تَهُنْ

عَلَيْكِ أَكْدَارُ دُنْيا لا تُصَافِيْكِ

وَظُلْمَةَ القَبُرِ لا تَخْشَيْ وَوَحْشَتَهُ

عِنْدَ انْفِرَادِكِ عَن خِلِ يُوَالِيْكِ

والصَّالِحَاتِ لِيَوْمِ الفَاقَةِ ادَّخِرِيْ

ص: 206

في مَوْقفٍ لَيْسَ فَيْهِ مِن يُوَاسِيْكِ

وأَحْسِنِي الظَّنَّ بِالرحمنِ مُسْلِمَةً

فَحُسْنُ ظَنِّكِ بِالرحمنِ يَكْفِيْكِ

اللهم إنا نسألك نفسًا مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك، اللهم إنا نسألك باسمك الطاهر الطيب المبارك الأحب إليك الذي إذا دعيت به أجبت، وإذا سئلت به أعطيت، وإذا استرحمت به رحمت، وإذا استفرجت به فرجت أن تغفر سيئاتنا وتبدلها لنا بحسنات يا أرحم الراحمين وصل الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

‌10- موعظة

كتب علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى ولده الحسين من عبد الله علي أمير المؤمنين الوالد الفاني الذام للدنيا الساكن مساكن الموتى، إلى الولد المؤمل ما لا يدرك السالك سبيل من قد هلك، عرضة الأسقام ورهينة الأيام وأسير المنايا وقرين الرزايا وصريع الشهوات ونصب الآفات وخليفة الأموات.

يا بني إن بقيت أو فنيت فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله فإن الله يقول: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 103] . وأي سبب يا بني أوثق من سبب بينك وبين الله عز وجل.

أحي قلبك بالموعظة ونوره بالحكمة وقوه بالزهد وذلله بالموت وقرره بالفناء وحذره صولة الدهر وتقلب الليالي.

واعرض عليه أخبار الماضين وسر في ديارهم وآثارهم فانظر ما فعلوا وأين حلوا فأنك تجدهم قد انتقلوا من دار الغرور ونزلوا دار الغربة.

ص: 207

وكأنك عن قليل يا بني قد صرت كأحدهم فبع دنياك بآخرتك ولا تبع آخرتك بدنياك ودع القول فيما لا تعرف والأمر فيما لا تكلف ومر بالمعروف بيدك ولسانك وكن من أهله وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله.

وخض الغمرات إلى الحق ولا تأخذك في الله لومة لائم وأحفظ وصيتي فلا خير في علم لا ينفع واعلم أنه لا غنى بك عن حسن الارتياد مع بلاغك من الزاد.

فإن أصبت من أهل الفاقة من يحتمل عنك زادك فيوافيك به في معادك فاغتنمه فإن أمامك عقبة كئودًا لا يجاوزها إلا أخف الناس حملاً.

وأجمل في الطلب وأحسن في المكسب فرب طلب قد جر إلى حرب وإنما المحروب من حرب دينه والمسلوب من سلب يقينه واعلم أنه لا غنى يعدل الجنة ولا فقر يعدل النار والسلام عليك ورحمة الله.

قال الناظم رحمه الله:

وكُنْ بَيْنَ خَوْفٍ والرَّجَا عَاملاً لِمَا

تَخَافُ وَلا تَقْنَطْ وُثُوقًا بِمَوْعِدِ

تَذَكَّرْ ذُنوبًا قَدْ مَضَيْنَ وَتُبْ لَهَا

وَتُبْ مُطْلقًا مَعْ فَقْدِ عِلْمِ التَّعَمُّدِ

وبادِرْ مَتَابًا قَبْلَ يُغْلَقُ بَابُه

وَتُطوَى عَلَى الأَعْمَالِ صُحْفُ التزَوُّدِ

فحِيْنَئِذٍ لا يَنْفَعُ المَرْءَ تَوْبَةٌ

إِذَا عايَنَ الأَمْلاكَ أو غَرْغَرْ الصَّدِي

وَلا تَجْعَلِ الآمَالَ حِصْنًا فَإِنَّها

سَرَابٌ يَغُرُّ الغافلَ الجاهلَ الصَّدِي

ويستحب أن يقول لهم في وقت بعد وقت متى رأيتم مني تقصيرًا في شيء انهوني عنه برفق ولطف لأن النفس تضعف في ذلك الوقت وأدوا إلي النصيحة في ذلك فإني معرض للغفلة والسهو والكسل والإهمال فإذا قصرت

ص: 208

فنشطوني وعاونوني على التأهب لهذا السفر البعيد والتغرب المخيف.

وإذا حضره النزع فليكثر من قول لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه فيا له من ختام ويا له من طابع، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» .

ويستحضر أحاديث الرجل مثل حديث أبي ذر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال: «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق» الحديث متفق عليه.

وحديث ابن عباس أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] الآيتين – ونزل {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] . الآية ونحو هذه الآية والأحاديث التي سبقت.

شعرًا:

إِذَا أَتَى الله يَومَ الحَشْرِ في ظُلَلٍ

وَجِيءَ بالأُمَمِ المَاضِينَ وَالرُّسُلِ

وَحاسَبَ الخَلْقَ مِنْ أَحْصَى بِقُدرَتِهِ

أَنْفَاسَهُم وتَوفَّاهُم إلى أَجَلِ

وَلم أَجِدْ فِي كِتَابِي غَيْرَ سَيْئَةٍ

تَسُوءنِي وَعَسَى الإِسْلامُ يَسْلَمُ لِي

رَجَوْتُ رَحْمَةَ رَبِّي وَهي وَاسِعُةٌ

وَرَحْمَةُ الله أَرْجَى لِي مِنَ العَمَلِ

اللهم اجعل في قلوبنا نورًا نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك فالعزيز من لاذ بعزك والسعيد

ص: 209

من التجأ إلى حماك وجودك والذليل من لم تؤيده بعنايتك والشقي من رضي بالإعراض عن طاعتك اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌11- موعظة

عباد الله لقد كان سلفنا في محبة بعضهم بعضًا آية من الآيات وكان التراحم بينهم بالغًا مبلغًا يعده أهل الأنصاف غاية الغايات لذلك كانوا في محبة الخير لبعضهم على أرقى ما يتصور في الدرجات.

وهل يتصور أن يكون أحدهم في أشد الجوع ويؤثر أخاه بماله من طعام عاملين بقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] . وقوله {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان: 8] . وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» .

وإن الخجل ليعلو وجوهنا إذا نحن قارنا بين هؤلاء وبين أبناء هذا الزمان، نحن في حالة تصور حقيقتها فقط يثير في قلوب المؤمنين الأحزان.

كيف ونحن إذا فتشنا ثم فتشنا لا نجد قلبين مع بعضهما معية الإخاء التام يكون الجار في نهاية الفقر ولا يلتفت إليه جاره المثري وينزل بالأخ الشقيق أو العم الشقيق أو نحوهما ما ينزل من الكوارث ولا أثر لنزولها عند أخيه ولا كأنه يرى تلك المصائب الفادحة ولعلك منتظر الجواب ما هو السبب في ذلك فألق سمعك وأحضر قلبك.

فأقول لكل الناس اليوم شغل واحد هو المال شغلهم عما عداه وأنساهم

ص: 210

كل ما سواه ملأ القلوب حب هذا المال حتى لم يبق في القلوب متسع لسواه فمن أجله تستباح الأعراض ومن أجله تراق الدماء ومن أجله يكون الصفا والمعاداة هو القطب الذي تدور حوله أفعال العباد في هذا الزمان.

فالقلوب في سرور ما دام المال سالمًا وإن أنهار بناء الشرف والدين والنفوس في هدوء وطمأنينة ما ابتعد عن المال فإذا قرب حوله هاجوا هيجان الجمال وهم في تواصل ما لم يتعرض للمال فإذا تعرض له انقطعت الصلات حتى بين الأقربين من آباء وأمهات وأولاد وإخوان.

وهذا من ثمرات البخل قال بعضهم البخيل يستعجل الفقر الذي هرب منه ويفوته الغنى الذي يطلبه فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب حساب الأغنياء فالبخيل هو الوحيد الذي يستبشر ورثته بمرضه وموته وتجده ليله ونهاره مستغرق في جمع المال لا يفتر خوفًا من الفقر وهذا هو الفقر كما قيل:

ومَنْ يُنْفِقِ السَاعَاتِ فِي جَمْعِ مَالِهِ

مَخَافةَ فَقْرٍ فالذي فَعَلَ الفَقْرُ

آخر:

يُفْنِي البَخِيْل بِجَمْعِ المَالِ مُدَّتَهُ

وِلِلْحَوادِثِ وَالوُرَّاثِ مَا يَدَعُ

كَدُوْدَةِ القَزِّ مَا تَبْنِِيْهِ يَهْدِمُهَا

وَغَيْرُهَا بِالذي تَبْنِيْهِ يَنْتَفِعُ

آخر:

وذِيْ حِرْصٍ تَرَاهُ يُلِمُّ وَفْرًا

لِوَارِثِهِ وَيَدْفَعُ عَن حِمَاُه

كَكَلْبِ الصَّيْدِ يُمْسِكُ وهْوَ طَاوٍ

فَرِيسَتَهُ لِيَأكُلَهَا سِوَاهُ

أما علم هؤلاء أن المال الذي كان بأيدينا كان قبلنا بيد إخواننا في الإنسانية الذين سبقونا إلى الدنيا ثم انتقل إلى من بعدهم ثم انتقل من جيل إلى جيل إلى أن وصل إلينا سعد به من صرفه في مراضي الله وشقي به من صرفه

ص: 211

في ما يغضب الله.

ولعلك يا أخي تتكدر إذا علمت أنه سينتقل عنك في أسرع وقت فلا تفزع ولا تتكدر ووطن نفسك وأعلم أنك والله ميت وموروث عنك ما جمعت ومنعت رغم أنفك يتمتع به ذلك الوارث العاق أو البار وأنت تسأل عنه هللة وقرشًا قرشًا.

وتكون النتيجة إن كنت جموعًا منوعًا شقاءً تستغيث منه فلا تغاث وتتمنى لو كانت الدنيا بأسرها بيدك وافتديت نفسك بها تكون النتيجة ذلك إن كنت من المغرورين الغافلين الذين ظنوا أن السعادة كلها تيسير جمع المال وتكديسه عندك آلافًا وملايين وعمائر وفلل وأراضي وبيوت كدأب أهل هذا العصر الغافل المظلم بالمعاصي والبدع والمنكرات.

الذي اعتاض أهله عن كتاب الله وسنة رسوله العكوف على الجرائد حمالة الكذب والمجلات الخليعات والكتب الهدامات والجلوس حول الملاهي والمنكرات فسوف تندم وتتحسر حينما ينكشف عنك الغطا ويتبين لك ذلك الخطأ وتتمنى أنك أمضيت أوقاتك في طاعة مولاك وهيهات أن يحصل لك مناك ذهب الأوان وبقي الندم والحرمان.

قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ} [سبأ: 54] .

لقد أنسى الناس حب هذا المال ما لهم من شرف ومروءة ودين

ص: 212

وجعلهم حول حطام الدنيا كما وصفهم الشافعي رحمه الله:

وَمَا هِيَ إِلا جِيْفَةٌ مُسْتَحِيْلَةٌ

عَلَيْهَا كِلابٌ هَمُّهِنَّ اجْتِذَابُهَا

فَإِنَّ تَجْتَنبهَا كُنْتَ سِلْمًا لِأَهْلِهَا

وَإِنْ تَجْتَذبها نَازَعَتْكَ كِلابُهَا

أما علموا أن المال من خدم الدين فإذا تجاوز ذلك كان نكبة على أصحابه وكذاك الأولاد إن كانوا غير صالحين فهم ضرر على أبيهم وعلى أنفسهم وكذلك الزوجة ولذلك ورد عن داود عليه السلام أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من جار السوء ومن مال يكون علي عذابًا ومن ولد يكون وبالاً ومن زوجة تشيبني قبل المشيب ومن خليل ماكر عينه ترعاني وقلبه يشناني إن رأى خيرًا أخفاه وإن رأى شرًا أفشاه» .

وقيل إنه سئل عيسى عليه السلام عن المال فقال لا خير فيه قيل ولم يا نبي الله قال لأنه يجمع من غير حل قيل فإن جمع من حل قال لا يؤدى حقه قيل فإن أدى حقه قال لا يسلم صاحبه من الكبر والخيلاء قيل فإن سلم قال يشغله عن ذكر الله قيل فإن لم يشغله قال يطيل عليه حسابه يوم القيامة.

فتأمل هذه العقبات الخمس وقليل من يتجاوزها سالمًا وورد عن عطاء ابن السائب عن أبي البختري قال كان بين عمار بن ياسر وبين رجل كلام في المسجد فقال عمار أسأل الله تعالى إن كنت كاذبًا أن لا يميتك حتى يكثر مالك وولدك ويوطئ عقبك. وورد عن حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خياركم في المائتين كل خفيف الحاذ» قالوا يا رسول الله وما الخفيف الحاذ قال: «الذي لا أهل له ولا ولد» .

ص: 213

شعرًا:

يَقُولُ الذِيْ يَرْجُو مِن اللهِ عَفْوَهُ

وَيَرْجُوهُ نَصْرًا عَاجِلاً غَيْرَ آجِلِ

لِمَنْ يَتَّقِيْ المَوْلَى وَيَرْجُو لِقَاءِهُ

وَعَمَّا يَقُولُ النَّاسُ لَيْسَ بِسَائِلِ

أَقُولُ بِحَمْدِ اللهِ قَوْلاً مُنَقَّحًا

وَلَوْ أَنَّ فَهْمِي قَاصِر في المَسَائِلِ

عَلَيْهِ مِن النَّصِّ الصَّرِيحِ شَوَاهِدٌ

إِذَا قُلْتُهُ يَهْوَي لَهُ كُلُّ عَاقِلِ

أَسِرُّ بِمَا بِي وَالعُيُونُ عَوَابِرٌ

بِدَمْعٍ عَلَى الخَدَّيْنِ ثَجَا بِوَابِلِ

وَفِي مُدَّعِي الإِسْلامِ قَلْبِي كَأَنَّهُ

عَلَى المُهْلِ مِنْهُمْ لَيْسَ عَنْهُم بِذَاهِلِ

فَمَا بَيْنَ دَهْرِيٍّ وَمَا بَيْنَ مُشْرِكٍ

وَلَم يَعْرِفِ الإِسْلامَ غَيْرُ القَلائِلِ

وَلَو بَذَلُوا الأَمْوَالَ نَفْلاً لِرَبِّنَا

إِذَا الفَرْضُ ضَاعَ لا غِنَى بِالنَّوَافِلِ

تَرَكْنَا الكِتَابَ وَالحَدِيثَ وَرَاءَنَا

لِأَجْلِ مَجَلاتٍ أَتَتْ بِالتَّهَازِلِ

لَقَدْ حَصَّلَ المَقْصُودَ مِنَّا عَدُوُنَا

وَمَقْصُودُنَا مِنْهُمْ فَلَيْسَ بِحَاصِلِ

مَشَيْنَا جَمِيْعًا في فَسَادِ صَلاحِنَا

وَرُمْنَا مَرَامًا خَاسَرًا غَيْرَ طَائِلِ

وَتَسْتَعْجِبُ الأَعْدَاءُ مِنَّا لأَنَّنَا

كَمِثْلِ القَطَا تَصْطَادُنَا بِالحَبَائِلِ

أَحَاطَتْ بِنَا الأَعْدَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ

كَأَنَّا طَعَامٌ قَدَّمُوهُ لَأَكِلِ

وَصَارُوا بِحَارًا يُغْرِقُ الفُلْكَ مَوْجُهَا

وَنَحنُ لَهُمْ صِرْنَا كَمِثْلِ الجَدَاوِلِ

وَتَخْتَرِعُ الأَعْدَاءُ لِلْحَرْبِ قُوَّةً

وَقَدْ هَدَّدَتْ مَنْ لَمْ يُطِعْ بِالقَنَابِلِ

وَلَيْسَ لَنَا مِنَّا زَعِيْمٌ مُصَادِمٌ

أَتَتْ تَتَمطَّى مَا لَهَا مِنْ مُقَابِلِ

وَنَحْنُ هَبَطْنَا لِلْتُّرَابِ تَوَاضُعًا

نُرِيْدُ نَجَاحًا مِنْ خَفِيْفِ القَسَاطِلِ

فَتَبًّا لِعِبَادِ الدَّنَانِيْرِ كُلَّهِمْ

وَتَبًّا لِخَبٍّ جَاهِلٍ مُتَعَاقِلِ

وَتَبًّا لِعَبْدٍ مُشْرِكٍ خَانَ رَبَّهُ

وَضَيَّعَ دِيْنًا مَا لَهُ مِنْ مُمَاثِلِ

وَتَبًّا لِقَوْمٍ عَزَّ فِيْهِمْ سَفيْهُهُمْ

ص: 214

وَصَارَ ذَلِيْلاً عِنْدَهُمْ كُلُّ فَاضِلِ

وَمِنْ أَعْظَمِ الخُسْرَانِ عِزُّ عَدُوِّهِمْ

وَذُلِّهُم مِنْ بَعْدِ عِزِّ الأَوَائِلِ

فَيَا لَيْتَ للإِسْلامِ في الحَالِ شَوْكَةً

ذَوْوا نَجْدَةٍ يَخْشاهُمُ كُلُّ جَاهِلِ

رُجَالٌ يَرَوْنَ المَوْتَ مَجْدًا وَجُنَّةً

عَن الذُّلِّ مِنْ فِعْلِ الصُّقُوْرِ الحَلاحِلِ

تَذُوْدُ عَنِ الدِّيْنِ القَوِيْمِ بِسَيْفِهَا

وَمِنْ أَرْضِهَا تَنْفِي جَمِيْعَ الأَرَاذِلِ

اللهم اختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة أعمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى رحمتك مصيرنا ومآلنا واصبب سجال عفوك على ذنوبنا ومن بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا إلهنا ثبتنا على نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الندامة يوم القيامة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌12- موعظة

روى أبو الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تفرغوا من الدنيا، فإنه من كانت الدنيا أكبر همه، فرق الله عليه أمره وجعل فقره بَيْنَ عينيه ومن كانت الآخرة أكبر همه جمع الله له أموره وجعل غناه في قلبه وما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا جعل الله قلوب المؤمنين تفد إليه بالود والرحمة وكان الله عز وجل إليه بكل خير أسرع» . ولما دخل أبو الدرداء الشام قال يا أهل الشام اسمعوا قول أخ ناصح فاجتمعوا إليه فقال ما لي أراكم تبنون ما لا تسكنون وتجمعون ما لا تأكلون وتؤملون ما لا تدركون إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيدًا وأملوا بعيدًا وجمعوا عتيدًا فأصبح أملهم غرورا

ص: 215

ومساكنهم قبورا. وقال بعضهم:

إن كل يوم يمر بكم يحمل ما ثبت فيه من خير أو شر ثم يمضي فلا يعود أبدًا فإن قدرتم أن تحظوا كل يوم بمكرمة وتثبتوا فيه حسنة فلا تؤخروا فإن الأيام صحائف فخلدوا فيها الجميل فقد رأيتم حفظها لما استودعت من المحامد والمحاسن والمكارم في قديم الدهر وحديثه.

شعرًا:

لَيْسَ الغَرِيْبُ غَرِيْبَ الشَّامِ وَاليَمَنِ

إِنَّ الغَرِيْبَ غَرِيْبُ اللَّحْدِ والكَفَنِ

تَمُرُ سَاعَاتُ أَيَّامِيْ بِلَا نَدَمٍ

وَلا بُكاءٍ ولا خَوفٍ ولا حَزَنِ

سَفَرِيْ بَعِيْدٌ وَزَادِيْ لا يُبَلِّغُنِي

وَقَسْمَي لم تَزَلْ وَالموتُ يَطْلُبُنِي

مَا أَحْلَمَ اللهَ عَني حَيْثُ أَمْهَلَنِي

وَقَدْ تَمَادَيْتُ في ذَنْبِي وَيَسْتُرنِي

أَنَا الذِي أُغْلِقُ الأَبْوَابَ مُجْتَهِدًا

عَلَى المعاصِي وَعَيْنُ اللهِ تَنْظُرُنِي

يا زَلةً كُتِبَتْ يا غَفْلَةً ذَهَبَتْ

يَا حَسْرَةً بَقِيَتْ في القَلْبِ تَقْتُلُنِي

دَعْ عَنْكَ عَذْلِي يا مَن كَانَ يَعْذِلُنِي

لَوْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا بِي كُنْتُ تَعْذُرُنِي

دَعْنِي أَنُوْحُ على نَفْسِي وَأَنْدِبُهَا

وَأَقْطَعُ الدَّهْر بالتَّذْكَارِ وَالحَزَنِ

دَعْنِي أَسِحُّ دُمُوعًا لا انْقطاع لَهَا

فَهَل عَسَى عَبْرَةٌ مِنْهَا تُخَلِّصُنِي

كَأَنَّنِي بَيْنَ تِلْكَ الأَهْلِ مُنْطَرِحًا

عَلَى الفِرَاشِ وَأَيْدِيهِمْ تُقَلِّبُنِي

وَقَدْ أَتَوْا بِطَبِيْبٍ كَيْ يُعَالِجُنِي

وَلَم أَرَ مِن طَبِيْبِ اليَومِ يَنْفَعُنِي

وَاشْتَدَّ نَزْعِي وَصَارَ الموتُ يَجْذِبُها

مِن كُلِّ عِرقٍ بِلا رِفْقٍ وَلا هَوَنِ

وَاسْتَخْرَجَ الرُوْحُ مِنِّي في تَغَرْغُرِهَا

وَصَارَ في الحَلْقَ مُرًا حِيْنَ غَرْغَرنِي

وَغَمَّضُونِي وَرَاحَ الكُلُّ وَانْصَرَفُوا

بَعدَ الإِيَاسِ وَجَدُّوا في شِرَا كَفَنِي

وَقَامَ مَنْ كَانَ أَوْلَى الناسِ في عَجَلٍ

ص: 216

إِلى المُغَسِّلِ يأتِيْنِي يُغَسِلُنِي

وَقَالَ يا قَوْمُ نَبْغِي غَاسِلاً حَذقًا

حُرًّا أَدِيْبًا أَرِيْبًا عَارِفًا فَطِني

فَجَاءَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَجَردَنِي

مِن الثِيَابِ وَأعْرَانِي وَأفردَنِي

واطَّرحُونِي عَلَى الأَلْواحِ مُنْفَرِدًا

وَصَارَ فَوْقِي خَرِيْرُ المَاءِ يُنْظِفُنِي

وَأَسْكَبَ المَاءَ مِنْ فَوْقِي وَغَسَّلَنِي

غُسْلاً ثَلاثًا وَنَادَى القَوْمَ بِالكَفَنِي

وَأَلْبَسُونِي ثِيْابًا لا كُمُومَ لَهَا

وَصَارَ زَادِي حَنُوْطًا حِيْنَ حَنَّطَنِي

وَقَدَّمُونِي إِلى المِحْرَابِ وانصرفُوا

خَلْفَ الأمَامِ فَصَلَّى ثِم وَدَّعْنِي

صَلَّوا عَلَي صَلاةً لا رُكُوعَ لَهَا

وَلا سُجُودَ لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُنِي

وَأَنْزَلُونِي في قَبْرِي عَلَى مَهَل

وَأَنْزَلُوا وَاحِدًا مِنْهُم يُلَحِّدُنِي

وَكَشَّفَ الثَوْبَ عن وَجْهِي لِيْنَظُرنِي

وَأَسْبَلَ الدَّمْعَ مِِن عَيْنَيْهِ أَغْرَقَنِي

فَقَامَ مُحْتَرِمًا بِالعَزْمِ مُشْتَمِلاً

وَصَفَّفَ اللِّبنَ مِن فَوقِي وَفَارَقَنِي

وَقَالَ هُلُّوا عَلَيْهِ التُّرَبَ واغْتَنِمُوا

حُسْنَ الثَّوَابِ مِن الرحمنِ ذِي المِنَنِ

في ظُلْمَةِ القَبْرِ لا أُمُّ هُنَاكَ وَلا

أَبٌ شَفِيْقٌ وَلا أَخٌ يُؤَنِّسُنِي

وَأَوْدَعُونِي وَلَجُوا في سُؤالِهمُوا

مَا لِي سِوَاكَ إِلهي مَن يُخَلِّصُنِي

وَهَالَنِي صُوْرةٌ في العَيْنِ إِذْ نَظَرَتْ

مِن هَوْلِ مَطْلَعِ مَا قَدْ كَانَ أَدْهَشَنِي

من مُنْكَرٍ وَنَكِيْرٍ مَا أَقُولُ لَهُم

إِذْ هَالَنِي مِنْهُمَا مَا كَانَ أَفْزَعَنِي

فامْنُن عَلَيَّ بِعَفْو مِنْكَ يَا أَمَلِي

فَإِنَّنِي مُوثَقٌ بِالذَّنْبِ مُرْتَهَنِ

تَقَاسَمَ الأَهْلُ مالِيْ بَعْدَمَا انْصَرَفُوا

وَصَارَ وزْرِي عَلى ظَهْرِي فَأثْقَلَنِي

فَلا تَغُرَّنَكَ الدُّنْيَا وَزِيْنَتُهَا

وانْظُرْ إلى فِعْلِهَا في الأَهْلِ والوَطَنِ

وانْظُر إلى مَن حَوَى الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا

هَلْ رَاحَ مِنْهَا بِغَيْرِ الزَّادِ وَالكَفَنِ

خُذْ القَنَاعَةَ مِنْ دُنْيَاكَ وَارْضَ بِها

ص: 217

لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلا رَاحَةُ البَدَنِ

يَا نَفْسُ كَفِّيْ عَنِ العِصْيَانِ واكْتَسِبِي

فِعْلاً جَمِيْلاً لَعَلَّ اللهَ يَرْحَمُنِي

اللهم أيقظنا من غفلتنا بفضلك وإحسانك وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك وألحقنا بالذين أنعمت عليهم في دار رضوانك وارزقنا كما رزقتهم من لذيذ مناجاتك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

ثم أعلم أيها الأخ أنه ما من ساعة تمر على العبد لا يذكر الله فيها إلا تأسف وتحسر على فواتها بغير ذكر الله ولذلك ينبغي للعاقل أن يجعل معه شيئًا يذكره لذكر الله كلما غفل عنه.

ويقال إن العبد تعرض عليه ساعات عمره في اليوم والليلة فيراها خزائن مصفوفة أربع وعشرين خزانة فيرى في كل خزانة أمضاها في طاعة الله ما يسره. فإذا مرت به الساعات التي غفل فيها عن ذكر الله رآها فارغة ساءه ذلك وتندم حين لا يفيده الندم.

وأما الساعات التي كان يذكر الله فيها فلا تسأل عن سروره فيها وفرحه بها حتى يكاد أن يقتله الفرح والسرور. قال بعضهم أوقات الإنسان أربعة لا خامس لها النعمة، والبلية، والطاعة، والمعصية.

ولله عليك في كل وقت منها سهم من العبودية.

فمن كان وقته الطاعة لله فسبيله شهود المنة من الله عليه أن هداه ووفقه للقيام بها.

ص: 218

ومن كان وقته المعصية فعليه بالتوبة والندم والاستغفار.

ومن كان وقته النعمة فسبيله الشرك والحمد لله والثناء عليه.

ومن كان وقته البلية فسبيله الرضا بالقضاء والصبر والرضا رضى النفس عن الله، والصبر ثبات القلب بين يدي الرب. اهـ.

العمر إذا مضى لا عوض وما حصل لك منه لا قيمة له. فعمر الإنسان هو ميدانه للأعمال الصالحة المقربة من الله تعالى والموجبة له جزيل الثواب في الآخرة. ولكن ما يعرف قدر العمر إلا نوادر العلماء.

قال الله جل وعلا وتقدس: {ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] . وقال تبارك وتعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الطور: 19] . وقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 16] . الآيات.

وهذه هي السعادة التي يكدح العبد ويسعى من أجلها وليس لها منها إلا ما سعى كما قال جل وعلا وتقدس: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] .

فكل جزء يفوته من العمر خاليًا من عمل صالح. يفوته من السعادة بقدره ولا عوض له منه.

فالوقت لا يستدرك وليس شيء أعز منه وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من العمل الصالح يتوصل به إلى ملك كبير لا يفنى ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك لأنه في غاية الشرف والنفاسة.

ولأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح رضي الله عنهم لأنفاسهم ولحظاتهم وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير ولم يقنعوا لأنفسهم إلا بالجد والتشمير فلله درهم ما أبصرهم

ص: 219

بتصريف أوقاتهم.

تَبْغِي الوُصُولَ بِسَيْرٍ فيه تَقْصِيْرُ

لا شَكَّ أَنَّكَ فِيْمَا رُمْتَ مَغْرُورُ

قَدْ سَارَ قَبْلَكَ أَبْطَالٌ فَمَا وَصِلُوا

هَذا وفي سَيْرهم جدٌّ وَتَشْمِيْرُ

قال بعضهم أدركت أقوامًا كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهمكم فكما لا يخرج أحدكم دينارًا ولا درهمًا إلا فيما يعود نفعه عليه فكذلك السلف لا يحبون أن تخرج ساعة بل ولا دقيقة من أعمارهم إلا فيما يعود نفعه عليهم ضد ما عليه أهل هذا الزمان من قتل الوقت عند المنكرات.

بَقِيَّةُ العُمْرِ عندِي مَا له ثَمنٌ

وإِنْ غَدَا غَيْرَ مَحْسُوبٍ مِن الزمَنِ

يَسْتدَرِكُ المرءُ فِيهَا كلَّ فائِتةٍ

مِن الزمانِ وَيَمْحُو السُوءَ بِالحَسَنِ

آخر:

لا يحْقِر الرَّجُلُ الرَّفِيْعُ دَقِيْقَةً

في السَّهْو فيها لِلْوَضِيْعِ مَعَاذِرُ

فَكَبَائِرُ الرَّجُلِ الصَّغِير صَغِيْرَةٌ

وَصَغَائِرُ الرجُلِ الكَبير كَبَائِرُ

رأى أحد الزهاد إنسانًا يأكل فطوره وهو يحتاج إلى مضغ فقال هذا يستغرق وقتًا طويلاً فلما أخرج فطوره وإذا هو ما يستغرق إلا وقتًا يسيرًا.

فقال له ما حملك على هذا فقال إني حسبت ما بين المضغ والسف سبعين تسبيحة.

لله دره على هذه الملاحظة ولقد بلغنا أن أحد علماء السلف كان يأكل باليمنى والكراس باليسرى.

وإذا دخل الخلا أمر القارئ أن يرفع صوته كل هذا محافظة على الوقت.

ص: 220

بلغ يا أخي قتالة الأوقات عند الملاهي والمنكرات من تلفاز ومذياع وكورات وجرائد ومجلات وقيل وقال ونحو ذلك.

ويا أخي إن كنت ممن عصمهم الله من هذه الشرور والبلايا والمنكرات فكثر من حمد الله وشكره وذكره واسأله الثبات حتى الممات.

وانصح إخوانك المسلمين واجتذبهم عن ضياع الأوقات فلعلك أن تكون سببًا لهدايتهم.

وَلا يَذْهَبَنَّ العُمْرُ مِنْكَ سَبَهْلَلا

وَلا تُغْبَنَنْ بالنَّعْمتينَ بَل اجْهِدِ

فَمَنْ هَجَر اللذَّاتِ نَالَ المُنَى ومَنْ

أَكَبَّ على اللذَّاتِ عَضَّ عَلَى اليَدِ

فَفِي قَمْعِ أَهْوَاءِ النُفُوسِ اعْتِزَازُهَا

وفي نَيْلِها ما تشتهِي ذِلُ سَرْمَدِ

ثم اعلم أيها الأخ إن الوقت ليس من ذهب كما يقول الناس فإنه أغلى من الذهب والفضة مهما بلغا كثرة إنه الحياة من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة فتنبه لذلك وحافظ عليه واقتد بالسلف الصالح الذين عرفوا قيمة الوقت.

قال ابن مسعود رضي الله عنه ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه عمري ولم يزد فيه عملي.

وقال آخر كل يوم يمر بي لا أزداد فيه علمًا يقربني من الله عز وجل فلا بورك لي في طلوع شمسه.

وقال آخر من أمضى يومًا من عمره في غير حق قضاه أو فرض أداه أو مجد أثله أو حمد حصله أو خير أسسه أو علم اقتبسه فقد عق يومه وظلم نفسه. ولا تسأل عن ندمه يوم ينظر المرء ما قدمت يداه.

وإذا كان هذا حرص السلف على الوقت والمحافظة عليه وتقديره عندهم فإن مما يحزن المسلم ويجرحه ويدمي القلب ويمزق الكبد أسى وأسفًا

ص: 221

نشاهده عند كثيرين من المؤمنين من إضاعة للوقت تعدت حد التبذير والإسراف والتبديد.

وبالحقيقة أن السفيه هو مضيع الوقت لأن المال له عوض أما الوقت فلا عوض له.

فالعاقل من حفظ وقته وتجنب ما يضيعه عليه كالجلوس عند الملاهي والمنكرات ومطالعة في الكتب الهدامات إن من أخسر الناس أعمارًا من شغلتهم شهواتهم عن أمور دينهم ومصالح أمورهم قال الله جل وعلا وتقدس: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف: 28] .وقال عز من قائل: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر: 8] .

اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللهم إن كنا مقصرين في حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأنت تعلم صدقنا في رجاء رفدك، وخالص ودك، اللهم أنت أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شعرًا: قصيدة زهدية وعظية سقط بعضها وعوضناها عنه ما بين الأقواس:

لا تَأْسَفَنَّ عَلَى الدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا

فَالمَوْتُ لا شَكَّ يُفْنِيْنَا وَيُفْنِيْهَا

وَمَنْ يَكُنْ هَمُّهُ الدُّنْيَا لِيَجْمَعَهَا

فَسَوْفَ يَوْمًا عَلَى رَغْمٍ يُخَلِّيْهَا

لا تَشْبَعُ النَّفْسُ مِنْ دُنْيَا تُجَمِّعُهَا

وَبُلَغَةٌ مِنْ قِوَامِ العِيْشِ تَكْفِيْهَا

إعْمَلْ لِدَارِ البَقَا رِضْوَانُ خَازنُهَا

الجَارُ أحْمِدُ والرَّحمنُ بَانِيْهَا

أَرْضٌ لَهَا ذَهَبٌ والمِسْكُ طِيْنَتُهَا

وَالزَّعْفَرانُ حَشِيْشٌ نَابِتٌ فِيْهَا

أَنْهَارُهَا لَبَنٌ محْضَّ وَمِنْ عَسَلٍ

ص: 222

والخَمْرُ يَجْرِي رَحَيْقًا في مَجَارِيْهَا

وَالطَّيْرُ تَجْرِي عَلَى الأَغْصَانِ عَاكِفَةً

تُسَبِّحُ اللهَ جَهْرًا في مَغَانِيْهَا

مَنْ يَشْتَرِي قُبَّةً في العَدْنِ عَالِيةً

في ظَلِّ طُوبى رَفِيْعَاتٍ مَبَانِيْهَا

دَلالُهَا المُصْطَفَى واللهُ بَائِعُهَا

وَجُبْرَئِيْل يُنَادِي في نَوَاحِيْهَا

مَنْ يَشْتَرِيْ الدَّارِ في الفِرْدَوْسِ يَعْمُرَهَا

بِرَكْعَةٍ في ظَلامِ اللَّيْلِ يُخْفِيْهَا

أَو سَدِّ جَوْعَةِ مِسْكِينٍ بِشِبْعَتِهِ

في يَوْم مَسْغَبَةٍ عَمَّ الغَلا فِيْهَا

النَّفْسُ تَطْمَعُ في الدَّنْيَا وَقَدْ عَلِمَتْ

أَنَّ السَّلامَةَ مِنْهَا تَرْكُ مَا فِيْهَا

وَاللهِ لَو قَنِعَتْ نَفْسِي بِمَا رُزِقَتْ

مِنَ المَعِيْشَةِ إِلا كَانَ يَكْفِيْهَا

وَاللهُ واللهِ أَيْمَانٌ مُكَرَّرَةٌ

ثَلاثَةٌ عَنْ يَمِيْنٍ بَعْدَ ثَانِيْهَا

لَوْ أَنْ في صَخْرَةٍ صَمَّا مُلَمْلَمَةٍ

في البَحْر رَاسِيَةٌ مِلْسٌ نَوَاحِيْهَا

رِزْقًًا لِعَبْدٍ بَرَاهَا اللهُ لانْفَلَقَتْ

حَتَّى تُؤدِيْ إِلَيْهِ كُلُّ مَا فِيْهَا

أَوْ كَانَ فَوْقَ طِباقِ السَّبْعِ مَسْلَكُهَا

لَسَهَّلَ اللهُ في المَرْقَى مَرَاقِيْهَا

حَتَّى يَنَال الذِي في اللَّوحِ خُطَّ لَهُ

فَإِنْ أَتَتْهُ وإِلا سَوْفَ يَأْتِيْهَا

أَمْوَالُنَا لِذَوِي المِيْرَاثِ نَجْمَعُهَا

وَدَارُنا لِخَرَاِب البُومِ نَبْنِيْهَا

لا دَارَ لِلْمَرْءِ بَعْدَ المَوتِ يَسْكُنُهَا

إِلا التي كانَ قَبْلَ المَوْتِ يَبْنِيْهَا

فَمَنْ بَنَاهَا بِخَيْر طَابَ مَسْكَنُهُ

وَمَنْ بَنَاهَا بِشرِّ خَابَ بِانِيْهَا

وَالنَّاسُ كَالحَبِّ والدُّنْيَا رَحَى نَصُبِتْ

لِلْعَالمِيْنَ وَكفُّ المَوْتِ يُلْهِيْهَا

فَلا الإِقَامَةُ تُنْجِي النَّفْسَ مِنْ تَلَفٍ

وَلا الفِرَارُ مِنَ الأَحْدَاثِ يُنجِيْهَا

ولِلنُّفُوسِ وَإَن كَانَتْ عَلَى وَجَلٍ

مِن المنية آمَالٌ تُقَوِّيْهَا

فَالمَرْء يَبْسُطُهَا والدَّهْرُ يَقْبِضُهَا

وَالبِشْرُ يَنْشُرهَا وَالمَوْتُ يَطْوِيْهَا

وَكُلُّ نَفْسٍ لَهَا زَوْرٌ يُصَبِّحُهَّا

ص: 223

مِنَ المَنِيَّةِ يَوْمًا أَوْ يُمَسِّيْهَا

تِلْكَ المَنَازِلُ في الآفَاقِ خَاوِيَةٌ

أَضْحَتْ خَرَابًا وَذَاقَ المَوْتَ بَانِيْهَا

كَمْ مِن عَزيزٍ سَيَلْقَى بَعد عزته

ذُلاً وضَاحِكَةٍ يَوْمًا سَيُبْكِيْهَا

وَلِلْمَنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مُرضِعَةٍ

وَلِلْحِسَاب بَرَى الأَرْواحَ بارِيْهَا

لا تَبْرَحَ النَّفْسُ تَنْعَى وهي سَالمةٌ

حَتَّى يَقُومَ بِنَادِ القَومِ نَاعِيْهَا

وَلَنْ تَزَالَ طِوَالَ الدَّهْرِ ظَاعِنَةً

حَتَّى تُقِيْمَ بِوَادٍ غَيْرِ وَادِيْهَا

أَيْنَ المُلوكُ الَّتِي عَنْ حَظِّهَا غَفَلَتْ

حَتَّى سَقَاهَا بِكَأسِ المَوْتِ سَاقِيْهَا

أَفْنَى القُرونَ وَأَفْنَى كُلَّ ذِي عُمُرٍ

كَذَلِكَ المَوتُ يُفْنِي كُلَّ مَا فِيْهَا

فَالمَوتُ أَحْدَقَ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا

وَالنَّاسُ في غَفْلَةٍ عَنْ كُلَّ مَا فِيْهَا

لَوْ أَنَّهَا عَقَلَتَ مَاذَا يُرَادُ بِهَا

مَا طَابَ عَيْشٌ لَهَا يَوْمًا وَيُلْهِيْهَا

"تَجْني الثَمَارَ غَدًا في دَارِ مَكْرُمَةٍ

لا مَنَّ فِيْهَا وَلا التَّكْدِيْرُ يَأْتِيْهَا"

"فِيْهَا نَعِيْمٌ مُقِيْمٌ دَائِمًا أَبَدًا

بِلا انْقِطَاعٍ وَلا مَن يُدَانِيْهَا"

"الأُذْنُ وَالعَيْنُ لَمْ تَسْمَعْ وَلَمْ تَرَهُ

وَلَمْ يَدْر في قُلُوبِ الخَلْقِ مَا فِيْهَا"

"فَيَا لَهَا مِنْ كَرَامَاتٍ إِذَا حَصَلَتْ

وَيَا لَهَا مِنْ نُفُوسِ سَوْفَ تَحْوِيْهَا"

"وَهَذِهِ الدَّارُ لا تَغْرُرْكَ زَهْرَتُهَا

فَعَنْ قَرِيْبٍ تَرَى مُعْجِبكَ ذَاوِيْهَا"

"فَارْبَأ بنَفْسُكَ لا يَخْدَعكَ لامِعُهَا

مِنَ الزَّخَارِفِ وَاحْذَرْ مِنْ دَوَاهِيْهَا"

"خَدَّاعَةٌ لَمْ تَدُمْ يَوْمًا عَلَى أَحَدٍ

وَلا اسْتَقَرَّتْ عَلَى حَالٍ لَيَالِيْهَا"

"فَانْظُرْ وَفَكَّرْ فَكَمْ غَرَّتْ ذَوي طَيْشِ

وَكَمْ أَصَابَتْ بِسَهْم المَوْتِ أَهْلِيْهَا"

اعْتَزَّ قَارُون في دُنْيَاهُ مِنْ سَفَهٍ

وَكَانَ مِنْ خَمْرِهَا يَا قَوْمُ ذَاتِيْهَا

يَبِيْتُ لَيْلَتَهُ سَهْرَانَ مُنْشَغِلاً

في أَمْرِ أَمْوَالِهِ في الهَمِّ يَفْدِيْهَا

وَفي النَّهَارِ لَقَدْ كَانَتْ مُصِيْبَتُهُ

ص: 224

تَحُزُّ في قَلْبِه حَزًّا فَيُخْفِيْهَا

فَمَا اسْتَقَامَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَلا قَبِلتْ

مِنْهُ الودَادَ وَلَمْ تَرْحَمْ مُجِبِّيْهَا

"ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى المَعْصُومِ سَيِّدِنَا

أَزْكَى البَرِّيةِ دَانِيْهَا وَقَاصِيْهَا"

‌13- (موعظة)

قال الله جل وعلا: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] . الاعتبار: النظر في الأمور ليعرف بها شيء من غير جنسها، والأبصار: العقول والمعنى تدبروا.

إخواني: الدنيا دار عبرة ما وقعت فيها حبرة إلا وردفتها عبرة أين من عاشرناه كثيرًا وألفنا، أين من ملنا إليه بالوداد وانعطفنا، أين ما ذكرناه بالمحاسن ووصفنا ما نعرفهم لو عنهم كشفنا، ما ينطقون لو سألناهم وألحفنا.

وسنصير كما صاروا فليتنا أنصفنا، كم أغمضنا من أحبابنا على كرههم جفنا، كم ذكرتنا مصارع من فنى من يفني، كم عزيز أحببنا دفناه وانصرفنا، كم مؤنس أضجعناه في اللحد وما وقفنا، كم كريم علينا إذا مررنا عليه انحرفنا.

ما لنا نتحقق الحق فإذا أيقنا صدفنا، أما ضر أهله التسويف، وها نحن قد سوفنا، أما التراب مصيرنا فلماذا منه أنفنا، ألام تغرنا السلامة وكأن قد تلفنا.

أين حبيبنا الذي كان وانتقل، أما غمسه التلف في بحره وارتحل، أما خلا في لحده بالعمل، أين من جر ذيل الخيلاء غافلاً، ورفلن أما سافر عنا وإلى الآن ما قفل.

ص: 225

أين من تنعم في قصره وفي قبره قد نزل، فكأنه بالدار ما كان وفي اللحد لم يزل، أين الجبابرة الأكاسرة الأول الذين كنزوا الكنوز العتاة الأول، ملك الأموال سواهم والدنيا دول.

شعرًا:

تَنَامُ وَقَدْ أُعِدَّ لكَ السُهَادُ

وَتُوقِنُ بِالرَّحِيْلُ وَلَيْسَ زَادُ

وَتُصِبْحُ مِثْلَ ما تُمْسِيْ مُضِيْعًا

كَأَنَّكَ لَسْتَ تدْرِيْ مَا المُرَادُ

أَتَطْمَعُ أَنْ تَفُوْزَ غَدًا هَنِيًا

وَلَمْ يَكُ مِنْكَ في الدُّنْيَا اجْتِهَادُ

إِذَا فَرَّطْتَ في تَقْدِيمِ زَرْعٍ

فَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ عَدَمٍ حَصَادُ

اللهم اجعل في قلوبنا نورًا نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك فالعزيز من لاذ بعزك والسعيد من التجأ إلى حماك وجودك والذليل من لم تؤيده بعنايتك والشقي من رضي بالإعراض عن طاعتك اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك واجعلنا من قوم تحبهم ويحبونك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌14- موعظة

عباد الله سيجيء يوم يتغير فيه هذا العالم تنفطر فيه السماء وتنتثر فيه الكواكب وتطوى السماء كطي الصحيفة يزيلها الله ويطويها جل وعلا وتبدل الأرض غير الأرض وينفخ في الصور فيقوم الناس من قبورهم أحياء كما كانوا في هذه الدنيا حفاة عراة غرلاً.

وحينئذ يحشر الكافر أعمى لا يرى أصم لا يسمع أخرس لا يتكلم

ص: 226

يمشي على وجهه ليعلم من أول أنه أهل للإهانة ويكون أسود الوجه أزرق العينين في منتهى العطش في يوم مقداره خمسين ألف سنة ليس بينه وبين الشمس إلا مقدار ميل إذا ذاك يقف ذاهل العقل شاخص البصر لا يرتد إليه طرفه وفؤاده هواه ويعطى كتابه بشماله أو من وراء ظهره فيتمنى أنه لم يعطه.

ثم يؤمر به إلى النار ويسلك في سلسلة ذرعها سبعون ذراعًا وبعد دخولها لا يخرج أبدًا ولا يزيده إلا عذابًا إذا استغاث من العطش يغاث بماء كالمهل يشوي الوجوه ويذيب الأمعاء والجلود تحيط به جهنم من كل ناحية وكلما نضج جلده بدل غيره.

وله مقامع من حديد، كل هذا العذاب يعانيه ولا يموت ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ كما قال تعالى:{لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} [الأعلى: 13] . وسواء صبر أو لم يصبر هو خالد في هذا العذاب خلودًا لا نهاية له هذا أقصى عذاب يتصور لأنه جزاء أقصى جريمة هي الكفر بالله هذا عذاب مجرد تصوره يطيش العقول ويذهل النفوس ويفتت الأكباد فاستعذ بالله منه أيها المؤمن واسأل الله التثبيت على الإسلام وحسن الاعتقاد.

شعرًا:

إِذَا مَا خَلَوْتَ الدَّهْرَ يَوْمًا فَلا تَقُلْ

خَلَوْتُ وَلَكِنْ قُلْ عَلَيَّ رَقِيْبُ

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ يَغْفَلُ سَاعَةً

وَلا أَنَّ مَا يَخْفَى عَلَيْهِ يَغِيْبُ

لَهَوْنَا لَعَمْرُ اللهِ حَتَّى تَتَابَعَتْ

ذُنُوبٌ عَلَى آثَارِهِنَّ ذُنُوْبُ

فَيَا لَيْتَ أَنَّ اللهَ يَغْفِرُ مَا مَضَى

وَيَأْذَنَ في تَوْبَاتِنَا فَنَتُوْبُ

أَقُوْلُ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيَّ مَذَاهِبِيْ

وَحَلَّ بِقَلْبِيْ لِلْهُمُومِ نُدُوْبُ

لِطُوْلِ جِنَايَاتِيْ وَعُظْمِ خَطِيْئَتِيْ

ص: 227

هَلَكْتُ وَمَا لِي في المَتَابِ نَصِيْبُ

وَيَذْكِرُنِي عَفْوَ الكَريْمِ عَنْ الوَرَى

فَأَحْيَا وَأَرْجُوْ عَفْوَهُ وَأَنِيْبُ

فَأَخْضَعُ في قِولي وَأَرَغْبُ سائلاً

عَسَى كَاشِفُ البَلْوى عَلَيَّ يَتُوبُ

‌15- موعظة

خطب علي رضي الله عنه على المنبر فقال في خطبته: اتقوا الله عباد الله، وبادروا آجالكم بأعمالكم، وابتاعوا ما يبقى بما يزول عنكم –أي: اشتروا ما يبقى من النعيم الأبدي- مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بما يفني من لذة الحياة الدنيا، وشهواتها الزائلة، وترحلوا فقد جد لكم الانتقال-أي: حثثتم وأزعجتم إلى الرحيل –واستعدوا فانتبهوا واعلموا أن الدنيا ليست بدار إقامة، فاستبدلوها بدار الآخرة فإن الله سبحانه لم يخلقكم عبثًا، ولم يترككم سدى- أي: مهملين، بلا راع يزجركم عما يضركم، ويسوقكم إلى ما ينفعكم- وما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به، وإن غاية هي الأجل، تنقصها اللحظة، وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدة، وإن غائبًا يحدوه الجديدان الليل والنهار لحري بسرعة الأوبة، وإن قادمًا يقدم بالفوز أو الشقوة، لمستحق لأفضل العدة فتزودوا في الدنيا من الدنيا، ما تحرزون به أنفسكم غدًا، فاتقى عبد ربه، نصح نفسه، قدم توبته وغلب شهوته، فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكل به، يزين له المعصية ليركبها ويمنيه التوبة ليسوفها حتى تهجم منيته عليه، أغفل ما يكون عنها. اللهم اجعلنا ممن لا تبطره النعمة، ولا تطغيه، ولا تسدل على بصيرته حجب الغفلة عما هو صائر إليه، ولا تقصر به عن طاعة ربه

ص: 228

غاية، ولا تحل به بعد الموت ندامة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

هذه قصيدة بليغة جدًا وهي زهدية وعظية ألق لها سمعك

سِهَامُ المَنَايَا في الوَرَى لَيْسَ تُمْنَعُ

فَكُلُّ لَهُ يَوْمًا وَإِنْ عَاشَ مَصْرَعُ

وَكُلُّ وَإِنْ طَالَ المَدَى سَوْفَ يَنْتِهِي

إِلى قَعْر لَحْدٍ في ثَرَى مِنْهُ يُوْدَعُ

فَقُلْ لِلَّذِي قَدْ عَاشَ بَعْدَ قَرِيْنِهِ

إِلى مِثْلِهَا عَمَّا قَلِيْلٍ سَتُدْفَعُ

فَكُلُّ ابْنِ أُنْثَى سَوْفَ يُفْضِي إِلى الرَّدَى

وَيَرْفَعُهُ بَعْدَ الأَرائِكِ شَرْجَعُ

وَيُدْرِكُهُ يَوْمًا وَإِنْ عَاشَ بُرْهَةً

قَضَاءٌ تَسَاوَي فِيْهِ عَوْدٌ وَمُرْضَعُ

فَلا يَفْرَحَنْ يَوْمًا بِطُولِ حَيَاتِهِ

لَبِيْبٌ فَمَا في عَيْشِهِ المَرْءُ مَطْمَعُ

فَمَا العَيْشُ إِلا مِثْلُ لَمْحَةِ بَارِقٍ

وَمَا المَوْتُ إِلا مِثْلُ مَا العَيْن تَهْجعُ

وَمَا النَّاسُ إِلا كَالنَّبَاتِ فَيَابِسٌ

هَشِيْمٌ وَغَضُّ إِثرَ مَا بَادَ يَطْلَعُ

فَتَبًا لِدَارٍ مَا تَزَالُ تَعُلُّنَا

أَفَاوِيْقَ كَأْسٍ مُرَّةً لَيْس تُقْنِعُ

سَحَابُ أَمَانِيْهَا جَهَامٌ وَبَرْقُهَا

إِذَا شِيْمَ بَرْقٌ خَلَّبٌ لَيْسَ يَهْمَعُ

تَغُرُّ بَنِيْهَا بالمُنَى فَتَقُودُهُمْ

إِلى قَعْرِ مَهْوَاةٍ بِهَا المَرْءُ يُوْضَعُ

فَكَمْ أَهْلَكَتْ في حُبَّها مِنْ مُتَيَّمٍ

وَلَمْ يَحْظَ مِنْهَا بِالمُنَى فَيُمَتَّعُ

تُمَنِّيْهِ بالآمَالِ في نَيْل وَصْلِهَا

وَعَنْ غَيَّهِ في حُبِّهَا لَيْسَ يَنْزِعُ

أَضَاعَ بِهَا عُمْرًا لَهُ لَيْسَ رَاجِعًا

وَلَمْ يَنَلِ الأَمْرَ الذِي يُتَوقَّعُ

فَصَارَ لَهَا عَبْدًا لِجَمْعٍ حُطَامِهَا

وَلَمْ يَهْنَ فِيها بِالذِي كَانَ يَجْمَعُ

وَلَوْ كَانَ ذَا عَقْلٍ لأغْنَتْهُ بُلْغَةٌ

مِنَ العَيْشِ في الدَّنْيَا وَلَم يَكُ يَجْشَعُ

إِلى أَنْ تُوَافِيْهِ المَنِيَّةُ وَهُوَ بَالْ

قَنَاعَةٍ فِيْهَا آمِنًا لا يُرِوَّعُ

مَصَائِبُهَا عَمَّتْ فَلَيْسَ بِمُفْلَتٍ

ص: 229

شُجَاعٌ وَلا ذُو ذِلّةٌ لَيْسَ يَدْفَعُ

وَلا سَابِحٌ في قَعْرِ بَحْرٍ وَطَائِرٌ

يُدَوِّمُ في بُوْحِ الفَضَاءِ وَيَنْزِعُ

وَلاذُو امْتِنَاعٍ في بُرُوجٍ مُشِيْدَةٍ

لَهَا في ذُرَى جَو السَّمَاءِ تَرَفُّعُ

أَصَارَتْهُ مِنْ بَعْدِ الحَيَاةِ بِوَهْدَةٍ

لَهُ مِنْ ثَرَاهَا آخِرَ الدَّهْرِ مَضْجَعُ

تَسَاوَى بِهَا مَنْ حَلَّ تَحْتَ صَعِيْدِهَا

عَلَى قُرْبِ عَهْدٍ بِالمَمَاتِ وَتُبَّعُ

فَسِيَّانِ ذُو فَقْرٍ بِهَا وَذَوُوا الغِنَى

وَذُوْ لَكَنْ عِنْدَ المَقَالِ وَمِصْقَعُ

وَمَنْ لَمْ يَخَفْ عِنْدَ النَّوَائِب حَتْفَهُ

وَذُوْ جُبُنٍ خَوْفًا مِنَ المَوْتِ يُسْرِعُ

وَذُوْ جَشَعٍ يَسْطُو بِنَابٍ وَمَخْلَبٍ

وَكُلُّ بُغَاثٍ ذَلَّةً لَيْسَ يَمْنَعُ

وَمَنْ مَلَكَ الآفَاقَ بَأْسًا وَشِدَّةً

وَمَنْ كَانَ مِنْهَا بِالضَّرُوْرَةِ يَقْنَعُ

وَلَوْ كَشَفَ الأَجْدَاثَ مُعْتَبِرًا لَهُمْ

لِيَنْظُرَ آثَارَ البِلَى كَيْفَ يَصْنَعُ

لِشَاهَدَ أَحْدَاقًا تَسِيْل وَأَوْجُهًا

مُعَفَّرَةً في التُّرْبِ شُوهًا تُفَزعُ

غَدَتْ تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى مُكْفَهِرَّةً

عَبُوْسًا وَقَدْ كَانَتْ مِنَ البَشْرِ تَلْمَعُ

فَلَمْ يُعْرَفِ المَوْلَى مِنَ العَبْدِ فِيْهِم

وَلا خَامِلاً مِنَ نَابِهٍ يَتَرَفَّعُ

وَأَنَّى لَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ بَعْدَمَا

تَبَيَّنَ مِنْهُم مَا لَهُ العَيْنُ تَدْمَعُ

رَأَى مَا يَسُوءُ الطَّرْفَ مِنْهُم وَطَالَمَا

رَأَي مَا يَسُرُّ النَّاظِرِيْنَ وَيُمْتِعُ

رَأَى أَعْظُمًا لا َتْسَتطِيْعُ تَمَاسُكًا

تَهَافَتَ مِنْ أَوْصَالِهَا وَتَقَطَّعُ

مُجَرَّدَةً مِنْ لَحْمِهَا فَهِي عِبْرَةٌ

لِذِي فِكْرَةٍ فِيْمَا لَهُ يَتَوقَّعُ

تَخَوَّنَها مَرُّ الليَالِي فَأصْبَحَتْ

أَنَابِيْبَ مِنْ أَجْوَافِهَا الرِّيْحُ تُسْمَعُ

إلى حَالَةٍ مُسْوَدَّةٍ وَجَمَاجِمٍ

مَطَأْطَأَةٍ مِنْ ذِلَّةٍ لَيْس تُرْفَعُ

أُزِيْلَتْ عَنِ الأَعْنَاقِ فَهِي نَوَاكِسٌ

عَلَى التُّرْبِ مِنْ بَعد الوَسَائِدِ تُوْضَعُ

عَلاهَا ظَلامٌ لِلْبِلَى وَلَطَالَمَا

ص: 230

غَدَا نُورُهَا في حِنْدِسِ الظُّلْمِ يَلْمَعُ

كَأَن لَمْ يَكُنْ يَوْمًا عَلا مَفْرِقًا لها

نَفَائِسُ تِيْجَانٍ وُدُرٍ مُرَصَّعُ

تَبَاعَدَ عَنْهُمْ وَحْشَةًَ كُلُّ وَامِقٍ

وَعَافَهُمْ الأَهْلُونَ وَالنَّاسُ أَجْمَعُ

وَقَاطَعَهُمْ مَنْ كَانَ حَالَ حَيَاتِهِ

بِوَصْلِهِمُ وَجْدا بِهِمْ لَيْسَ يَطْمَعُ

يُبَكِّيْهِمْ الأَعْدَاءُ مِنْ سُوءِ حَالِهِمْ

وَيَرْحَمُهُمْ مَنْ كَانَ ضِدًا وَيَجْزَعُ

فَقُلْ لِلذِي قَدْ غَرَّهُ طُوْلُ عُمْرِهِ

وَمَا قَدْ حَوَاهُ مِنْ زَخَارِفَ تَخْدَعُ

أَفِقْ وَانْظُرِ الدُّنْيَا بِعَيْنٍ بَصِيْرَةٍ

تَجِدْ كُلَّ مَا فِيْهَا وَدَائِعَ تَرْجِعُ

فَأَينَ المُلُوكُ الصَّيْدُ قِدْمًا وَمَنْ حَوَى

مِنَ الأَرْضِ مَا كَانَتْ بِهِ الشَّمْسُ تَطْلَعُ

حَوَاهُ صَرِيحٌ مِنْ فَضَاءِ بَسِيْطِهَا

يُقَصِّرُ عَنْ جُثْمَانِهِ حِيْنَ يُذْرَعُ

فَكَمْ مَلِكٍ أَضْحَى بِهَا ذَا مَذَلَّةٍ

وَقَدْ كَانَ حَيًّا لِلْمَهَابَةِ يُتْبَعُ

يَقُودُ عَلَى الخَيْل العِتَاقِ فَوَارِسًا

يَسُدُّ بِهَا رَحْبَ الفَيَافِي وَيُتْرِعُ

فَأَصْبَحَ مِنْ بَعْدِ التَّنَعُّمِ فِي ثَرَى

تُوارِي عِظَامًا مِنْهُ بَهْمَاءُ بَلْقَعُ

بَعِيْدًا عَلَى قُرْبِ المَزَارِ إِيَابُهُ

فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى القِيَامَةَ مَرْجِعُ

غَرِيْبًا عَنِ الأَحْبَابِ وَالأَهْلِ ثَاوِيًا

بَأَقْصَى فَلاةٍ خَرْقُهُ لَيْسَ يُرْقَعُ

تُلِحُّ عَلَيْهِ السَّافِيَاتُ بِمَنْزِلٍ

جَدِيْبٍ وَقَدْ كَانَتْ بِهِ الأَرْضُ تُمْرِعُ

رَهِيْنًا بِهِ لا يَمْلِكُ الدَّهْرَ رَجْعَةً

وَلا يَسْتَطِيْعَنَّ الكَلامَ فَيُسْمَعُ

تَوَسَّدَ فِيْهِ التُّرْبَ مِنْ بَعْدِ مَا اغْتَدَى

زَمَانًا عَلَى فُرُشٍ مِنَ الخَزِّ يُرْفَعُ

كَذَلِكَ حُكْمُ اللهِ في الخَلْقِ لَنْ تَرَى

مِنَ النَّاسِ حَيًّا شَمْلُهُ لَيْسَ يَصْدَعُ

اللهم انهج بنا مناهج المفلحين وألبسنا خلع الإيمان واليقين وخصنا منك بالتوفيق المبين ووفقنا لقول الحق وإتباعه وخلصنا من الباطل وابتداعه وكن له

ص: 231

مؤيدًا ولا تجعل لفاجر علينا يدًا واجعل لنا عيشًا رغدًا ولا تشمت بنا عدوًا ولا حاسدًا وارزقنا علمًا نافعًا وعملاً متقبلاً وفهمًا ذكيًا وطبعًا صفيًا وشفا من كل داء واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌16- "موعظة

"

عباد الله من تكبر أذله ومن تواضع لله رفعه الله والمتكبرون يحشرون يوم القيامة في صور الذر تطؤهم الناس لهوانهم على الله تعالى المتكبرون شرار الخلق وأهل النار كل جعظري جواظ مستكبر، المتكبر يشمخ بأنفه إذا تكلم، ويجافي مرفقيه عن جنبيه لاويًا عنقه، يقارب خطاه إذا مشى، متطاولاً على إخوانه، مترفعًا على أقرانه، ينظر الناس شزرًا بمؤخر العين، متقدمًا عليهم إذا مشى، محتقرًا للعامة، ولا فرق عنده بينهم وبين الحمير استجهالاً منه له، فالمتكبر لا يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، لأنه لا يقدر على ذلك، ولا يقدر على التواضع وهو رأس أخلاق المتقين، ولا يقدر على ترك الحقد، ولا يقدر أن يدوم على الصدق، ولا يقدر على ترك الغضب، ولا على كظم الغيظ، ولا يسلم من الازدراء بالناس واحتقارهم ولا يسلم من اغتيابهم، وتنقصهم، لأن فيه من العظمة والعزة والكبرياء، ما يمنعه من ذلك، فما من خلق ذميم إلا وصاحب الكبر والعظمة مضطر إليه، ليحفظ به عزه وعظمته، وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه خوفًا من أن يفوته عزه وعظمته، ولذلك ورد في الحديث أنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ومما جاء في وصية لقمان لابنه:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] . ومن تعاليم ربنا لهذه الأمة ونبيها عليه الصلاة والسلام، يقول تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن

ص: 232

تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء: 37] . فيا أيها المتكبر الناظر في عطفيه، المتعاظم في نفسه، إن شأنك حقير، وقدرك صغير ولست بمحسوب في العير، ولا في النفير، وما لك عند عاقل من حساب، ولا تقدير، لا قليل ولا كثير، فهون عليك، وارفق بنفسك، فإنك مغرور، يا مسكين وتدبر كلام رب العالمين {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23] {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]{قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72] . وذم الكبر في القرآن كثير، والمتكبر عدو لله ولنفسه، وللناس، يقصر في الواجب ويدعي ما ليس له ويتشدق في الكلام، ويتألق في اللباس، وإنه لثقيل في حركاته، وسكناته، بغيض في أمره ونهيه، ومجالسته، ومؤاكلته ومشاربته، والويل كل الويل لمن صاهره أو شاركه أو ربطته به صلة، لأن داء الكبر يعدي ويسري فتبعد السلامة من المقترب منه رأى بعض أهل العلم من يختال في مشيته فغمز جنبه، ثم قال ليست هذه مشية من في بطنه خراء، وكيف يتكبر من أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة وهو مع ذلك يحمل البول والعذرة، هذا أكبر برهان على أنه دنس جاهل مجهول نكرة ممتلئًا كبرًا وإعجابًا بنفسه وسمعة، ورياء ولؤمًا وشؤمًا وشرها فهو أشبه شيء بالدخان يملأ الفضاء ويتك صدور الناس وأصله من القمامات والأوساخ المبعثرة نسأل الله أن يقلل هذا النوع المنحط وأن يكثر ضده من أهل التواضع واللين والعطف والحنان: قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] .

نُحْ وابْكِ فالمعروف أقْفَرَ رَسْمُهُ

وَالمنكرُ اسْتَعْلَى وَأَثَّرَ وَسْمُهُ

لَمْ يَبْقَ إِلا بِدعةٌ فَتَّانَةٌ

ص: 233

بهوى مُضِل مُسْتَطِيْر سُمُّهُ

وَطَعَامُ سُوْءٍ من مَكَاسِبَ مُرَّةٍ

يُعْمِي الفؤادَ بِدَائِهِ ويُصِمُّهُ

فَفَشَا الرَّيَاءُ وغِيْبَةُ ونَمِيْمَةٌ

وقَسَاوةَ مِنْهُ وأثْمَر إِثْمُهُ

لَمْ يَبْقَ زَرْعٌ أَوْ مَبِيْعٌ أَوْ شِرَى

إِلا أُزِيْلَ عَن الشَّرِيْعَةِ حُكْمُهُ

فَلِكَيْفَ يُفْلحُ عَابِدٌ وعِظَامُهُ

نَشَأَتْ عَلَى السُّحْتِ الحَرَامِ وَلَحْمُهُ

هذا الذي وَعَدَ النَّبِيُّ المُصْطَفَى

بظُهُوْرِهِ وَعْدًا تَوثقَ حَتْمُهُ

هذا لعَمْرُ إِلهِكَ الزَّمن الذِي

تَبدُو جَهَالَتُهُ وَيُرْفَعُ عِلْمُهُ

هذا الزمانُ الآخِرُ الكَدِرُ الذِي

تَزْدَادَ شِرَّتُهُ ويَنْقُصُ حِلْمُهُ

وَهَتِ الأَمَانَةُ فِيْهِ وانْفَصَمَتْ عُرَى التَّ

ـقْوَى بِهِ والبِرُّ أَدْبَرَ نَجْمُهُ

كَثُرَ الرِّيَا وَفَشا الزِّنَا ونَمَا الخَنَا

وَرَمَي الهَوَى فيهِ فَأَقْصد سَهْمُهُ

لَمْ يَبْقَ إِلا ظَالِمٌ هُوَ مُرْتَشٍ

أَوْ حَاكِمٌ تَخْشَى الرِّعيَّةُ ظُلْمَهُ

وَالصَّالِحُونَ عَلَى الذَّهَابِ تَتَابَعُوا

فَكَأَنَّهُم عِقْدٌ تَنَاثَرَ نَظْمُهُ

لَمْ يَبْقَ إِلا رَاغِبٌ هو مُظْهِرٌ

لٍلزُّهْدِ والدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ هَمُّهُ

لَوْلا بَقَايَا سُنَّةٍ ورِجَالِهَا

لَمْ يَبْقَ نَهْجٌ وَاضِحٌ نأَتَّمُهُ

يَا مُقْبِلا في جَمْعِ دُنْيَا أَدْبَرَتْ

كَبِنَاءٍ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ هَدْمُهُ

هَذِي أَمَاراتُ القِيَامَةِ قَدْ بَدَتْ

لِمُبَصَّر سَبَقَ العَوَاقَبَ فَهْمُهُ

ظَهَرَتْ طُغَاتُ التُركِ وَاجتَاحُوا الوَرَى

وَأبادَهُم هَرْجٌ شَدِيْدٌ حَطْمُهُ

الصغير منا والكبير الكمال في نفسه ومن اعتقد ذلك في نفسه هوى لأنه لا يلتفت إلى ما به كمال الرجال، ومرض ينتج مرضًا آخر هو مرض الكبر وصف الأنذال والأرذال والجهال، والمتكبر لا ينظر إليه بعين الرضا

ص: 234

والكبر ينشأ عنه مرض الحسد والحسود يتمنى زوال نعمة الله عن خلقه، والحسد يولد الحقد الذي ربما حمل صاحبه على قتل من لا ذنب له إلا ما أولاه الله من النعم، وليس هذا كل ما في قلوبنا من الأمراض بل فيها مرض البخل والشح الذي وصل بنا إلى منع الزكاة أو بعضها، وغير ذلك كثير وكلها أمراض مهلكات، ونحن لا نهتم بقلوبنا ولا بأمراضها وإنما نهتم بأمراض أجسامنا، ونبادر في علاجها إلى المستشفيات، وأمراضها يسيرة بسيطة بالنسبة إلى أمراض القلوب، ونهتم أيضًا بجمال ظواهرنا فنبالغ في تحسين ملابسنا ومراكبنا ومساكننا ومجالسنا وأبداننا، أنظر إلينا عند الذهاب إلى مقر العمل لتتعجب من تغفيلنا وانخداعنا، ولو كانت عنايتنا بالقلوب كعنايتنا بالملابس فقط ما كنا بهذه الحالات المحزنات.

اللهم يا عالم الخفيات ويا سامع الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا خالق الأرض والسموات أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد الوهاب الذي لا يبخل والحليم الذي لا يعجل لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثبت محبتك في قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إنك على كل شيء قدير وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

‌17- "موعظة

"

عباد الله إن داء الحسد من أعظم الأدواء، والابتلاء به من أشد البلوى، يحمل صاحبه على مركب صعب ويبعده عن التقوى، ويركبه الأهواء فيظل ويغوى، يضيق صدر الحسود وينفطر قلبه إذا رأى نعمة الله على أخيه المسلم فيعاني من البؤس واللأوى، ما لا يستطيع أن يبث معه ما يجده من الحزن

ص: 235

والقلق، ولا يقدر على الشكوى، إلا إلى الشيطان ونفسه الأمارة بالسوء أو من هو مثله في الحسد، فقاتل الله الحسود لا يفعل الخير ولا يحبه لإخوانه المسلمين، غاية أمنيته زوال نعمة الله عن عباده إنه بعمله سالك طريق إبليس لعنه الله، فما أوقع الشيطان في معصية الله إلا حسده لأبينا آدم وامتناعه من السجود بعد ما أمره الله، وما حمل قابيل على قتيل هابيل إلا حسده لأخيه حيث تقبل الله منه قربانه الذي أراد به وجه الله والدار الآخرة وما منع المشركين والمترفين من إتباع الرسل إلا الحسد والكبر، وما حمل أهل الكتاب على كراهة الدين الإسلامي وصرف المسلمين عن كتاب الله والإيمان بسيد الرسل وخاتمهم إلا ما ذكره الله عنهم {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ البقرة: 109] . الآية، وقال صلى الله عليه وسلم:«الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» الحاسد لا يضمر إلا غدرًا ولا يعمل إلا شرًا ولا يدبر إلا مكرًا وجملة القول أن الحاسد ميسر للعسرى لا تجدي معه المواعظ والنصائح وقد قيل إن بضاعة إبليس خمسة أصناف يبيعها من قوم معروفين، وهي الحسد وأهله العلماء، وأهل الحرفة الواحدة، أي كل من يتفق عملهم مسلمين أو غير مسلمين، والكبر وأهله الأنذال والسفلة والسفهاء والحمقاء ومن لا خير فيه من المحترفين.

والجور والطغيان، وأهله الملوك والأمراء والوزراء والعظماء، وأعوانهم من الفسقة والمجرمين، والكيد، وأهله النساء، والنمامين والدلالين، والمتسببين وبئست البضاعة بضاعة الشيطان، ويا حسرة المشترين، ويا ندامتهم {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ} [الدخان: 41] . {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] قيل إنه كان رجل يغشى أحد الملوك

ص: 236

فيقوم بحذاء الملك فيقول أحسن إلى المحسن بإحسانه، فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فحسده رجل على ذلك المقام، والكلام فسعى به إلى الملك، فقال إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ويقول ما يقول يزعم أنك أبخر، فقال له الملك وكيف يصح ذلك عندي، قال تدعوه إليك فإنه إذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم رائحة البخر، فقال له انصرف حتى أنظر وأتحقق ذلك، فخرج من عند الملك، فدعا الحاسد ذلك الرجل إلى منزله فأطعمه طعامًا فيه ثوم فخرج الرجل من عنده وذهب إلى الملك على عادته وقام بحذاء الملك فقال أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته فقال له الملك إدن مني، فدنا منه ووضع يده على فيه، مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم فقال الملك في نفسه ما أرى فلانًا إلا صدق، قال وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أو صلة، فكتب له كتابًا بخطه إلى عامله: قال فيه إذا أتاك حامل كتابي هذا فاذبحه، واسلخه، وأحش جلده تبنًا وابعث به إلي، وأخذ الكتاب وخرج فلقيه الرجل الذي سعى به إلى الملك وكذب عليه، فقال له ما هذا الكتاب قال خط الملك لي به صلة فقال هبه لي فقال هو لك فأخذه، الساعي ومضى به إلى عامل الملك، فقال له العامل: في كتابك أني أذبحك، وأسلخك فقال إن الكتاب ليس لي، فالله الله في أمري حتى تراجع الملك فقال ليس لكتاب الملك مراجعة فذبحه وسلخه وحشى جلده تبنًا، وأرسله للملك، ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته وقال مثل قوله، فتعجب الملك، وقال له ما فعل الكتاب، فقال لقيني رجل هو فلان فاستوهبه مني فوهبته له، قال له الملك إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر قال ما قلت ذلك قال فلم وضعت يدك على فيك قال لأنه أطعمني طعامًا فيه ثوم فكرهت أن تشمه، قال صدقت، ارجع إلى مكانك، فقد كفى المسيء إساءته فانظر يا أخي كيف دارت على الباغي الدوائر

ص: 237

واسأل ربك أن يعافيك من هذه الأمراض الفتاكة التي ربما قضت على حياته وأوصلته في الآخرة نار جهنم.

وختامًا فعلى اللبيب أن يتجنب الحسد فإنه من خُلُق الأدنياء وصفة الجهلاء فإن أبصرت بقائم بالحق فاعضده ويسر له السبيل حسب استطاعتك وإن رأيت نعمة أسبغها الله على عبد من عباده فاسع إلى مثلها بقلب طاهر ووجدان نقي لعلك أن تبلغها بإذن الله.

فعزيز النفس إن أبصر غيره في أمر يثنى عليه به، أو رآه في منزلة يغبط عليها فلا يجول في وهمه أن يحسده على نعمته أو يحط من منزلته بل يسعى كل السعي لينال مثل مناله ويرقى مثل رقيه فإن زادت فيه عزة النفس والإباء فلا يرضى لنفسه إلا بما فوق ذلك المقام.

اللهم وفقنا توفيقًا يقينا عن معاصيك وأرشدنا إلى السعي فيما يرضيك وأجرنا يا مولانا من خزيك وعذابك وهب لنا ما وهبته لأوليائك وأحبابك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌18- موعظة

عباد الله ما بال الكثير اليوم لا يسمعون، وإذا سمعوا لا ينتفعون، أفي آذانهم صمم، أم هم في الأمر متهاونون، ولأي شيء يجتمعون، ويقوم فيهم الخطباء المجيدون، والوعاظ المبلغون، ويذكرونهم أيام الله فلا يخشع الوعاظ ولا الموعظون، ويرغبونهم في الخير فلا يسارعون، وينذرونهم عواقب السوء فلا يتأثرون {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83] لقد كان السلف الصالح إذا وعظوا تأثر المستمع لهم تأثرًا عظيمًا، وفارق ما

ص: 238

عنده من المنكرات، والمحرمات، وفارق من أصر عليها من أقاربه، وأولاده، وإخوانه، وآبائه، وجدد توبة نصوحًا، عما سلف له من الأعمال، التي لا يرتضيها الدين الإسلامي، فأين أولئك من هؤلاء الخلف، الذين ضيعوا تعاليم الدين الإسلامي، وضيعوا العمل به، وتركوا الانقياد لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تأمل كيف ترى أكثرهم أضاعوا الصلاة، وعطلوا الأحكام، وتساهلوا بأمر الحرام، يمرون بالمساجد، وقت الصلاة، فلا يعيرونها أي اهتمام أما الملاهي والمنكرات فإليها يسرعون وعليها يعكفون وإلى ما فيها من الأغاني والمجون والسخف يتسابقون فإنا لله وإنا إليه راجعون، أين الخوف من الجبار، أين الحيا من فاطر الأرض والسموات، أين المروءة والاعتصام بالقرآن، وما كان عليه آباؤكم وأجدادكم العباد الكرام، الذين كانت المساجد تغص بهم شيوخًا وشبانًا، وكانت تعج بأصواتهم تسبيحًا، وتحميدًا وتهليلاً، وتكبيرًا، واستغفارًا، وقرآنا، وكانوا يؤمون المساجد قبل الآذان زرافات ووحدانا، ولا يتخلف منهم إلا معذور، إما مريض أو غائب، أو نحو ذلك، وكان المار ببيوتهم ليلاً يسمع زجل التسبيح، والتهليل، والبكاء والأنين والتضرع إلى بديع السموات والأرض، والإلحاح بدعائه، والالتجاء إليه والإنابة، عكس ما عليه هؤلاء الخلف، الذين صدق عليهم قول الله تعالى:{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم: 59] . الذين إن بحثت عنهم في الليل، وجدتهم حول الملاهي والمنكرات، متربعين أمام التليفزيون، وغناء المطربين، وإن بحثت عنهم في صلاة الفجر وجدتهم في فرشهم، إثر سهرهم حول تلك المنكرات، وإن بحثت عنهم وقت صلاة الظهر ففي شؤون الدنيا، وما يتعلق بها، وإن أردتهم في صلاة العصر، وجدت بعضهم عند الكورة، والبعض عند التلفزيون، والبعض عند المذياع، وأغانيه

ص: 239

وملاهيه، وإن سألت عنهم وقت صلاة المغرب وجدت بعضهم يمشي مترددًا، والبعض في الملعب، والبعض عند التلفزيون، أو المذياع، وأما العشاء الآخرة فتلك هم فيها أقسام أكثرهم حول التلفزيون أو في الأسواق، أو يلعبون ورقة، أو نحو ذلك من المنكرات وهكذا قتلوا أوقاتهم الثمينة، وضيعوها، وقضوا على مستقبلهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أعلم بما أراده بعباده، قال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] والحالة هذه مخيفة لذوي العقول والفهوم، لا سيما وقد توالت أسباب الهناء والراحة، والسرور، والاطمئنان، وقد قيل إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج وروى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] » وقال قتادة ما أخذ الله قومًا إلا عند سكرتهم وغرتهم، ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.

‌19- موعظة

عباد الله لقد توعد الله الذين يخالفون أمره وينصرفون عن ذكره ويجترؤن على معاصيه بشديد غضبه وعظيم سخطه وحذرهم بأسه وانتقامه فما بال كثير من الناس بعد القرون الأولى عمدوا إلى محارم الله فارتكبوها ومأموراته فاجتنبوها ثم عادوا بمر الشكوى من تغير الأحوال وانتزاع البركة من الأرزاق والأموال.

ص: 240

أحسبت أنك يا ابن آدم تهمل وتترك فلا تعاقب، وتظلم وتتقلب في النعيم كيف شئت ولا تحاسب أنسيت قول النبي صلى الله عليه وسلم:«إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» كل هذا من جهالتك وانطماس بصيرتك ولكن اعمل ما شئت فسيرى الله عملك ثم ترد إليه ويجازيك بما تستحق، جهلت في حال النعيم وكان الواجب عليك أن تتعرف إلى الله في الرخاء ليعرفك في الشدة، ولكن لم تفعل، وأصبحت بعد زوالها منك تشكو لمن؟ تشكو لمن عصيته بالأمس تشكو لمن خالفت أوامره وفعلت نواهيه مع علمك انه المنتقم الجبار تشكو لمن حاربته بالمعاصي المتنوعة وقد أسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنه ولو شاء لمنعها عنك لأنه الفعال لما يريد تشكو لمن تأكل نعمه في أرضه مستعينًا بها على معاصيه أليس عملك هذا في منتهى اللآمة والخساسة يمدك بالنعم وتبارزه بالمعاصي، ألك صبر على جهنم وزمهريرها، ألك طاقة بالويل والغساق والزقوم والحميم والضريع، عباد الله هذا الذي نحن فيه من الانهماك في الدنيا وقتل كل الوقت في جمعها والابتعاد عن الآخرة وانتشار المعاصي بسرعة هائلة ما هو والله إلا بما كسبت أيدينا، قال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41] . الآية. عباد الله إن غلاء الأسعار، وانتشار الأمراض، وما رأيتم من الفتن والتعقيد في الممتلكات والتقاطع والعقوق، ما هو والله إلا جزاء عملنا وما هو إلا قليل من كثير فقد تمادينا في المعاصي والله يغار على أوامره أن تجتنب ومحارمه أن ترتكب قال صلى الله عليه وسلم:«لا أحد أغير من الله» الحديث.

اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 241

‌20- "موعظة

"

عباد الله ما للألسن عن شكر نعم الله المتتالية قاصرة، وما للعيون إلى زهرة الحياة الدنيا الفانية ناظرة، وما للأقدام عن طريق الهداية الواضحة حائرة وما للعزائم والهمم عن العمل الصالح فاترة وما للنفوس لا تتزود من التقوى وهي مسافرة وما لها لا تتأهب وتستعد للنقلة إلى الدار الآخرة، أركونا إلى الدنيا وقد فرقت الجموع وكسرت أعناق الأكاسرة وقصرت آمال القياصرة وأدارت على أهلها من تقلبها الدائرة أم اغترارًا بالإقامة، ومطايا الأيام بكم في كل لحظة سائرة أم تسويفًا بالتوبة والأعمال فهذه والله الفكرة والصفقة الخاسرة لقد رانت على القلوب قبائح الأعمال، وضربت عليها وعلى المسامع من الذنوب أقفال فيا خجلة من سئل فعدم الجواب أو بجواب يستحق عليه أليم العذاب ويا حسرة من نوقش عن الدقيق والجليل في الآخرة الحساب، ويا ندامة من لم يحصل إلا على الغضب من الكريم الوهاب ويا خيبة من مآله إلى نار تلتهب إلى إحراقه التهابا، فمتى تقبلون على الله بقلوب صادقة لا تنتهون من مفارقة الذنوب بعزمة صادقة، لا في الصادقين تيقنون أنه ثابت لكم قدم، ولا في التائبين صحت لكم توبة وإقلاع وعزم وندم. ولا عند تلاوة كتاب الله تقشعر منكم الجلود ولا عند سماع المواعظ ترق منكم القلوب، التي هي أقسى من الجلمود فبماذا ترجون لحاق السعداء؟ وكيف تطعمون في الفوز والنجاة معهم غدًا؟ وأنتم تتبعون الخطايا بالخطايا وتبارزون الله بها في البكر والعشيا، فيا حسرة نفوس أطمأنت إلى الدنيا دار الغرور، ويا خراب قلوب عمرت بأماني كلها باطل وزور، ويا نفاذ أعمار ينقص منها كل يوم وساعة ولا يزاد ويا خيبة مسافر يسير السير السريع وهو بلا زاد، فالبدار البدار عباد

ص: 242

الله بالتوبة البدار والغنيمة الغنيمة قبل خروج وقت الاختيار، وإتيان وقت لا تقال فيه العثار:

نَسِيرُ إِلى الآجَالِ في كُلِّ لَحْظَةٍ

وَأَيَّامُنا تُطْوَى وَهُنَّ مَرَاحِلُ

وَلَم نَرَ مِثْلَ المَوِت حَقًّا كَأَنَّهُ

إِذَا مَا تَخَطَّتُهْ الأَمَانِيُّ بَاطِلُ

تَرَحَّلْ مِن الدُّنْيَا بِزَادٍ مِنَ التَّقَى

فَعُمْركَ أَيَّامٌ تُعَدُّ قَلائِلُ

اللهم يا حي ويا قيوم فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، واجعلنا ممن يؤمن بلقائك، ويرضى بقضائك، ويقنع بعطائك، ويخشاك حق خشيتك.

اللهم اجعل رزقنا رغدًا، ولا تشمت بنا أحدًا.

اللهم رغبنا فيما يبقى، وزهدنا فيما يفنى، وهب لنا اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه، ولا يعول في الدنيا إلا عليه.

اللهم إنا نسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكفينا شر ما أهمنا وما لا نهتم به وأن تعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.

‌21- "موعظة

"

عباد الله إن لكم بأبدانكم عناية عظيمة لا تساميها العنايات بل كل حياتكم ذاهبة فيما تبذلونه لخدمة هذا البدن من مجهودات أليس ليلكم ونهاركم في كد مديم لجمع الأموال وهل كل تلك الأموال إلا وسيلة تصلون بها ما لهذا البدن من ملذوذات.

لا بأس بالاعتناء بالبدن لكن بدون هذا الإفراط الذي لا يرتضيه العاقل

ص: 243

اللبيب لأن البدن مهما أكرم مآله إلى التراب تتمتع بلذيذ لحمه الديدان والذي ينبغي أن تهتم به وتصرف عنايتك به نفسك قبل جسمك التي أنت بها من صفوة هذا العالم وعلى العناية بها تتوقف سعادتك في هذه الحياة وبعد الممات.

ولهذه النفس غذاء ولعلك تود أن تعرفه وهو جدير بالاعتناء منك والتقدير والجد له والتشمير لأن منفعته دنيا وأخرى ولا نسبة بينها وبين منفعة هذه الأبدان.

ذلك الغذاء أو القوت هو أنواع الطاعات كإخلاص الأعمال لله والذكر له والشكر له ومحبته وتعظيمه والقيام التام بأركان الإسلام الشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج وسائر الباقيات الصالحات وأنواع العلوم والمعارف أوحاها الله وأودعها هذه المصنوعات.

والاعتناء بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وما إلى ذلك من أنواع القربات والذي يظهر لنا من حالك وسيرتك أنك في شغل شاغل عن الإقبال على النفس وتغذيتها بما قلنا من أنواع الطاعات ذلك أن قلبك متعلق بتحصيل غذاء الجسم والاعتناء به فهو الذي نصب عينيك.

ولذلك تشب وتشيب وتموت وأنت جاهل بضروريات الدين الإسلامي وربما مر عليك مدة طويلة بدون أن تتفكر بنعم الله وتذكره بلسانك وتشكره على ما أولاك وكذلك الآخرة ربما أنها تمضي المدة لا تذكرها ولا تستعد لها.

وكما أن للأبدان أمراض كثيرة فللنفس أمراض أكثر وأعظم وأخطر وتلك الأمراض هي السيئات التي من وقيها رحم قال الله تعالى: {وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 9] .

وكذلك من أمراض النفس رذائل الأخلاق والجهل بالشرع الحكيم

ص: 244

ولهذه الأمراض دواء نافع بإذن الله أن تتوب توبة نصوحًا إلى الله وتتخلق بضد الفعل أو الخلق الذميم فهل لك شوق إلى هذا الدواء الشافي بإذن الله كما أنك تشتاق بل تهرول وتسرع إلى طبيب الأبدان ومعك ما معك من المال إذا أحسست بمرض في بدنك وإن لم تجد في بلادك ذهبت تطلب الشفاء ولو في بلاد الحرية والكفر محكمة القوانين أعداء الله ورسوله والمؤمنين.

أما بديع السموات والأرض فلا أراك تلتجي له إلا عند الشدائد وهذا والله قبيح ممن يدين بدين الإسلام ويؤمن بالبعث والنشور، فالتفت يا أخي لنفسك وذكرها بنعم الله عليك لتتمكن محبته منها واقبل عليها وعودها على الآداب الشرعية.

شعرًا:

للهِ قومٌ أَخْلَصُوْا في حُبِّهِ

فَكَسَا وجُوهَهُمُ الوَسِيْمَةَ نُوْرًا

ذَكَرُوا النَّعِيْمَ فَطَلَّقُوا دُنْْيَاهُمُوا

زُهْدًا فَعَوضَهُم بِذَاكَ أَجُوْرًا

قَامُوا يُنَاجُونَ الإلهَ بِأَدْمُعٍ

تَجْري فَتَحْكِيْ لُؤلُؤًا مَنْثُوْرًا

سَتَروا وُجُوهَهُمُوا بِأَسْتَارِ الدُّجَى

لَيْلاً فَأَضْحَتْ في النَّهَارِ بُدُوْرًا

عَمِلُوا بِمَا عَلِمُوا وَجَادُوْا بِالذِي

وَجَدُوا فَأَصْبَحَ حَظهُم مَوفُورًا

وَإِذَا بَدَا لَيْلٌ سَمِعْتَ حَنِيْنَهُمْ

وَشِهَدْتَ وجْدًا مِنْهُمُوا وَزَفِيرًا

تَعِبُوا قَلِيلاً في رِضَا مَحْبُوبِهِم

فَأَرَاحَهُم يَوْمَ اللِّقَاءِ كَثِيْرًا

صَبَرُوا عَلى بَلْوَاهُمُوا فَجَزَاهُمُوا

يَوْمَ القِيَامَةِ جَنَّةً وَحَرِيْرًا

يَا أَيُّهَا الغِرُّ الحَزِيْنُ إِلى مَتَى

تُفْنِي زَمَانَكَ بَاطِلاً وَغُرُوْرًا

بَادِرْ زَمَانَكَ واغْتَنِمْ سَاعَاتِهِ

وَاحْذَرْ تَوانًا كَي تَحَوُزَ أَجُوْرًا

وَاضْرعْ إِلى المَولى الكَريمِ وَنَادِهِ

يَا وَاحِدًا في مُلكِهِ وَقَدِيْرًا

مَا لي سِوَاكَ وَأَنْتَ غَايَةُ مَقْصَدِي

ص: 245

وَإِذَا رَضِيْتَ فَنِعْمَةٌ وَسُرُوْرًا

اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.

‌22- "موعظة

"

عباد الله طلب الرزق الحلال فريضة على كل مسلم فالتمس الرزق أيها المسلم من حله وإياك وما نهاك الله عنه وحرمه فمتاع الدنيا قليل، أيها المسلم إن جمعك للمال من حله عبادة إذا كنت تريد به إعفاف نفسك، والقيام بما أوجبه الله عليك من الحقوق، واحذر من ترك العمل، وافعل الأسباب التي بها يحصل الرزق بإذن الله، واعلم أن من ترك العمل وغلب عليه الكسل حتى صار كلا على الخلق يعده أهله ثقلاً ويراه صاحبه بغيضًا، ولا يلقاه أحد إلا وكره لقياه قال تعالى حاثًا على طلب الرزق {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] ، وقال تعالى:{رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] .

والمؤمن المحترف الكسوب الذي يأكل من عمل يده مكرم محبوب محترم، عند أهله، والأولاد، وكان نوح وداود عليهما السلام يحترفان التجارة ومحمد صلى الله عليه وسلم رعى الغنم، وموسى كان أجيرًا عند صاحب مدين وكان إدريس خياطًا، وما أبعد هذه الأعمال الشريفة عن الكسل والبطالة وكان السلف رضي الله عنهم عمالاً مكتسبين، فكلهم ما بين غني شريف وفقير شريف

ص: 246

عفيف، لا تشغلهم الدنيا عن الآخرة ولا يمنعهم الدين عن طلب الكسب، والقيام بالواجبات، وهم مع هذا من أقوى الناس توكلاً على الله ورضا بما قدر الله وقضاه.

اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبة تمحو بها عنا كل ذنب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

‌23- "موعظة

"

عباد الله للعلم الديني آثار جليلة كم جل بها رجل حقير وكلما كان الرجل أعلم بالعلم الديني كان عند الله وعند العقلاء جليل مضى السلف الصالح الذين يطيب المجلس بذكرهم لقدرهم المنقطع النظير كأنوار رجالاً مثلنا ولكن ببركات ما وهبهم مولاهم من العلم الديني وآثاره الجليلة كانوا خير الناس بعد النبيين كانوا أغنى العالم لأنهم رضوا بقسمة مولانا الحكيم الخبير وكانوا أشجع الناس لأنهم علموا أن الأجل لا يطيله الجبن الذميم فكم من قتلة قرنت بالجبن كما قيل:

كَمْ مَخْلَصٍ وَعُلاً في خَوْضِ مَهْلَكَةٍ

وَقَتْلَةٍ قُرِنَتْ بِالذَّمِ في الجُبُنِ

وكانوا في الحلم والعقل كالجبال الرواسي وكانوا محط رحال الجود والكرم لأنهم يعلمون أن البخيل بعيد من الله بعيد من الناس وأن الذي يرضى بالبخل ويحث عليه إبليس لعنه الله وكانوا يستقبلون البلايا مهما قست بالصبر

ص: 247

الجميل لعلمهم أنها تصرف الحكيم الخبير وكانوا يستقبلون النعم بالحمد والشكر لجزمهم أنها لله ومن الله وأنه يزيد الشاكرين ويرضى عن الحامدين وكانوا أبعد الناس عن الشر ولا يحبون أهله لعلمهم أن ذلك يغضب الله وكانوا يحبون الخير لإخوانهم المسلمين وكانوا لا يضمرون حسدًا ولا شرًا لأحد من إخوانهم المؤمنين لعلمهم أن الله يحيط علمًا بما يسرون وما يعلنون وكانوا إذا قالوا أو فعلوا يتحرون ما يرضي الله تعالى فيما يقولونه ويفعلونه وكانوا لا يشهدون المنكر والزور بل ينكرون على من يحضرون وكانوا يحنون إلى مجالس الذكر حنين الإلف فارقه الإلف وهكذا كانوا إذا أرادوا أن يتحركوا أو يسكنوا باستشارة العلم الديني يتحركون ويسكنون لهذا كانوا لليوم موضع إعجاب الشرق والغرب ونالوا فوق هذا رضى رب العالمين هكذا كانوا ببركات ما وهبهم الله من العلم الديني أما نحن فقد كنا موضع إعجاب من ناحية أن هدفنا في التعليم هو الحطام الفاني لا غير، لهذا كان الواحد منا إذا رسب يكاد ينتحر ويقول فات علي سنة محصول رواتبها لا يقل عن خمسة آلاف ولو كان قصده العلم بما جهله وتوجيه عباد الله عندما ينجح كان عنده يتساوى السرعة والبطء لأجل أن يمهر في المعلومات لهذا القصد ماتت الفضائل وانتزعت بركة العلم وفقدت هيبة العالم عند كل أحد وصار كل يفتي وكل يرشح نفسه للفتيا فورًا ولكن الناس الورعين لا يطمئنون إلا إلى النوادر ممن يوثق بدينهم وأمانتهم ويتركون المرائين والمحبين للظهور والشهرة الذين ضاعوا وضيعوا عباد الله.

وختامًا فلو أننا أحيينا طريقة سلفنا في العلم المطابق للعمل لأصبحنا وقد أحيينا عزهم وشرفهم الدفين رحمة الله على تلك الأرواح العاملة بما علمت.

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَبْكِ العُلُومَ وَأْهَلَهَا

ص: 248

وَقَدْ غَيَّبْتَهَا في التُّرَابِ لُحُودُ

فَأَنْتَ بَهِيْمِيُّ الطِّبَاعِ وَإِنَّما

قُصَارَاكَ ثَوْبٌ نَاعِمٌ وَثَرِيْدُ

سَتَبْكِيْ العُلا قَوْمًا تَسَامَوا لِنَيْلِهَا

كَأَنَّ لَهُمْ دَمْعَ العُيُونِ هُجُودُ

يُعِيْدُوْنَ مِنْهَا مَا تَعَفَّتْ رُسُوْمُهُ

فَتُضْحِيْ عَلَيْهَا لِلْفِخَارِ بُرُوْدُ

كَفَى غُرْبَةً لِلِّدْيِن هَذَا الذِي نَرَى

فَلَيْسَ عَلَى ذَا الاغْتِرَابِ مَزِيٍدُ

اللهم يا مثبت القلوب ثبت محبتك في قلوبنا وقوها ووفقنا لمحبة أوليائك وبغض أعدائك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى واجعلنا هداة مهتدين وبكتابك وبرسلك مقتدين واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌24- "موعظة

"

عباد الله نحن في عصر بارك الله فيه بركة عمت المشارق والمغارب وكل ما للأرض من أنحاء مما نعلمه وجه بقدرته وإرادته أفكار بني آدم إلى ما أودعه في خلقه من أسرار تفوت الإحصاء ويسر لهم السبيل فوصلوا من التراقي في الاختراع والاطلاع إلى ما يدهش الأفكار وتزداد به عقيدة المؤمن قوة لا يعتريه أدنى شك في ما أخبر الله به ورسوله.

أصبحت الدنيا كلها كأنها بيت واحد يكلم الناس بعضهم بعضًا مع بعد المسافة ويسافرون برًا وبحرًا فيقطعون بالمراكب البرية والبحرية في مدة يسيرة ما يحتاج إلى مدة طويلة فيما مضى وتنقل تلك المراكب التي خلقها الله لنا من الأثقال بقوة وسرعة تقف أمامها الألباب حائرات بل لو أرادوا مسابقة الطير في السماء لسبقوه بالطائرات.

ص: 249

فسبحان من أرشد عباده إلى صنع هذه المخترعات قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] .

وانظر إلى الكهرباء وفائدته العظيمة في الليل والنهار فقد صار الليل بأنواره وكأنه نهار وما فيه من أسباب الراحة والمنافع العظيمة التي لم تحصل لمن قبلنا أليس هذا من أعظم البراهين والأدلة على صدق ما أخبر الله به بقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] .

وعلى صدق ما أخبر به الصادق المصدوق من أن الزمان يتقارب وها أنت لا تمشي شرقًا ولا غربًا إلا وأنت ترى وتسمع من تلك الأسرار ما تحار به الأفكار فنحن اليوم نتقلب في كل أحوالنا في نعيم لم يظفر به عصر من الأعصار حتى إنك ترى حيوان هذا العصر في راحة وإكرام لم تتمتع بها بنو العصور الماضيات إن حقًا علينا إزاء كل هذا أن نكون أسبق الأجيال في ميدان شكر الله ليبرهن كل منا أنه يحس ويشعر بما اختصه به مولاه. اهـ.

ولكن يا للأسف لم يكن منا شكر هذه النعم واستعمالها في طاعة الله ومراضيه ودليل ذلك ما ترى وتسمع من المعاصي والمنكرات التي تكاد أن تبكي من فشوها وازديادها الجمادات.

فيا لله للمسلمين إنها لتجرح قلب المؤمن السالم منها جرحًا يوشك أن يوصله إلى القبر اللهم وفق ولاتنا لإزالة هذه المنكرات ولتأييد الإسلام والمسلمين في جميع الجهات ووفقهم للرفق في رعاياهم والنصح لهم وسدد خطاياهم ولله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه.

ص: 250

‌25- "موعظة

"

عباد الله إنما حرم الله عليكم الخمر، لما فيه من الأضرار والأخطار، وما منعكم من شربها إلا لما ينشأ عن ذلك من المفاسد والشرور والأضرار، فشارب الخمر ملعون على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وبائعها، وشاربها، وعاصرها ومعتصرها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليهن ومدمن شربها لا يدخل الجنة، بل يدخل النار ويسقى من طينة الخبال -عرق أهل النار- وورد أن مدمن الخمر كعابد وثن فشارب الخمر مفسد لدينه، ومفسد لجسمه، وصحته، وجان على نفسه، وعلى أولاده، وأقاربه، وأهله وجيرانه ومفرط في ماله ومسرف فيه وعابث بكرامته، وساع إلى الشر والفساد بيده، ورجله، ولسانه، وصائل، خبيث، على الأخلاق والأديان شارب الخمر عضو مسموم في جسم مواطنيه، إذا لم يبادروه بالعلاج أو يقطعوه أصابهم ضرره، شارب الخمر يزين الشر ويحسنه، لبنيه، وبناته، وأصدقائه ويدعوهم بلسان حاله ومقاله، وأنتم تعلمون أن داعي الفساد مجاب في كل زمان ومكان وأنصاره بلا عد ولا حسبان، وإذا دبت الخمر في رأس شاربها فقد شعوره، وزنى، ولاط، أو ليط به، وجاء بأنواع الفحش، والفجور، وسب وشتم، وقذف، ولعن، وطلق وسب الدين والمسلمين، بل ربما وقع على أمه، أو بنته أو أخته أو على نساء جيرانه، أو على بهائمه، وربما كفر بالله وارتد عن الإسلام، وترك الصلاة، وأفطر في رمضان، وسب القرآن، وبالجملة أن من تعاطى الخمر سقط من شاهق مجده إلى مستوى الخنازير، والقردة يصدق بهذا من عاين شارب الخمر وقد استولى عليه الشراب وغطى عقله فترى من يقوده متعب، يجره كما يجر الدابة الحرون بل الدابة تمشي أحيانًا هادئة إذا جرت لا

ص: 251

تتعب القائد دائمًا، وأما السكران فيميل بقائده هكذا وهكذا، حتى يكلفه متاعب عظيمة، والدابة إذا رأت حفرة امتنعت عنها وتباعدت عنها، أما شارب الخمر فتكون الحفرة أمامه ويسقط فيها، والدابة ربما دافعت عن طعامها وشارب الخمر تسلب منه النقود، ولا يحصل منه أدنى ممانعة، ومعنى هذا أن البهيمة أرجح وأحسن حالاً منه، وقد قال الخبير بأحوال شراب الخمر، من أردا أن يعرف قدر السكير، فلينظر إلى قهقهته، وضحكه، والخمار يوالي الصفعات على قفاه، ولينظر رقصه أمام البزور، كأنه قرد يرقصه صاحبه، ليضحك من يراه، ولينظره وهو يجري وراء أمه، أو بنته، ليقضي منها حاجته ومناه، ولينظره وامرأته تكنس ملابسه، وتمسحها من الأوساخ، التي يقذفها على ثيابه، والقاذورات، هذا قدر شارب الخمر عندنا، أما عند الله عز وجل فهو كعابد وثن ملعون، نسأل الله جل وعلا أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منها ومن سائر المعاصي وأن يلطف بنا ويوفقنا لما يرضيه عنا ويغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شعرًا:

نَبْنِي وَنَجْمَعُ وَالآثارُ تَنْدَرِسُ

وَنَأَمَلُ اللُّبْثَ والأعمارُ تُخْتَلَسُ

ذَا اللُّبِّ فَكِّرْ فَمَا في العَيْشِ مِن طَمَعٍ

لا بُدَّ مَا يَنْتَهِي أَمْرٌ وَيَنْعَكِسُ

أَيْنَ المُلُوْكُ وَأَبْنَاءُ المُلوكِ وَمَن

كانُوا إِذَا النَّاسُ قَامُوا هَيْبَةً جَلَسُوا

وَمَنْ سُيُوفُهُم في كُلِّ مُعْتَرَكٍ

تَخْشَى وَدُوْنَهُم الحُجَّابُ وَالحَرَسُ

أَضْحَوْا بِمَهْلَكَةٍ في وَسْطِ مَعْرَكَةٍ

صَرْعَى وَصَاُروا بِبَطْنِ الأَرْضِ واْنَطَمُسوا

وَعَمَّهُهُم حَدَثٌ وَضَمَّهُمْ جَدَثٌ

بَاتُوْا فَهُم جُثَثٌ في الرَّمْسِ قَدْ حُبِسُوا

كَأَنَّهُم قَطُ مَا كَانَوا وَمَا خَلَقُوْا

ص: 252

وَمَاتَ ذِكْرُهم بَيْنَ الوَرَى وَنُسُوا

واللهِ لَو عَايَنَتْ عَيْنَاكَ مَا صَنَعَتْ

أَيْدِي البِلَى بِهِمُوا وَالدُودُ يَفْتَرِسُ

لَعَايَنَتْ مَنْظِرًا تُشٍجَى القُلُوْبُ لَهُ

وَأَبْصَرَتْ مُنْكَرًا مِنْ دُوْنِه البَلَسُ

مِن أَوْجُهٍ نَاظِرَاتٍ حَارَ نَاظِرُهَا

في رَوْنَقِ الحُسْنِ مِنْهَا كَيْفَ يَنْطَمِسُ

(فصل)

قال بعض العلماء ليس في العالم منذ كان إلى أن يتناهى أحد يستحسن الهم ولا يريد إلا طرحه عن نفسه.

فلما استقر في نفسي هذا العلم الرفيع وانكشف لي هذا السر العجيب وأنار الله تعالى لفكري هذا الكنز العظيم.

بحثت عن سبيل موصلة -على الحقيقة- إلى طرد الهم الذي هو المطلوب النفيس الذي اتفق جميع أنواع الإنسان الجاهل منهم والعالم والصالح والطالح على السعي له فلم أجد إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة.

وإلا فإنما طلب المال طلابه ليطردوا به هم الفقر عن أنفسهم.

وإنما طلب الصيت من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الاستعلاء عليها.

وإنما طلب العلم من طلبه ليطرد به عن نفسه هم الجهل.

وإنما هش إلى سماع الأخبار ومحادثة الناس من يطلب ذلك ليطرد بها عن نفسه هم التوحد ومغيب أحوال العالم عنه.

وإنما أكل من أكل وشرب من شرب ونكح من نكح ولبس من لبس ولعب من لعب واكتنز من اكتنز وركب من ركب ومشى من مشى وتودع من تودع.

ص: 253

ليطردوا عن أنفسهم أضداد هذه الأفعال وسائر الهموم.

وفي كل ما ذكرنا لمن تدبره هموم حادثة لا بد لها من عوارض تعرض في خلالها وتعذر ما يتعذر منها.

وقال رحمه الله: وجدت العمل للآخرة سالمًا من كل عيب خالصًا من كل كدر موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة.

ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم بل يسر.

إذ رجاؤه في عاقبة ما ينال به عون على ما يطلب وزائد في الغرض الذي إياه يقصد.

ووجدته إن عاقه عما هو بسبيله عائق لم يهتم إذ ليس مؤاخذًا بذلك فهو غير مؤثر فيما يطلب ورأيته إن قصد بالأذى سر.

وإن نكبته نكبة سر وإن تعب فيما سلك فيه سر فهو في سرور متصل أبدًا وغيره بخلاف ذلك أبدًا.

وقال رحمه الله تعالى: ولو تدبر العالم في مرور ساعاته ماذا كفاه العلم من الذل بتسليط الجهال.

ومن الهم بمغيب الحقائق عنه ومن الغبطة بما قد بان له وجهه من الأمور الخفية عن غيره.

لزاد حمدًا وشكرًا وذكرًا لله عز وجل وغبطة بما لديه من العلم ورغبة في المزيد منه.

أَجَلَّ العلوم ما قربك إلى خالقك جل وعلا وما أعانك على الوصول إلى رضاه.

العلوم الغامضة كالدواء القوي يصلح الأجساد القوية ويهلك الأجساد

ص: 254

الضعيفة.

وكذلك العلوم الغامضة تزيد العقل القوي جودة وتصفيه من كل آفة وتهلك ذا العقل الضعيف.

العاقل في الدنيا متعب ومن جهة أخرى مستريح.

ووجه ذلك أنه متعب ومتكدر فيما يرى من انتشار الباطل وغلبة دولته وبما يحال بينه من إظهار الحق.

وأما وجه راحته فمن كل ما يهتم به سائر الناس من فضول الدنيا.

إذا حققت أمر الدنيا لم تجدها إلا الآن الذي هو فصل بين زمانين فقط.

وأما ما مضى وما لم يأت فمعدومان كما لم يكن.

فمن أضل ممن يبيت باقيًا خالدًا بمدة هي أقل من كر الطرف.

من شغل نفسه بأدنى العلوم وترك أعلاها وهو قادر عليه كان كغارس الأثل والسدر في الأرض التي يجود ويزكوا فيها النخيل والتين والموز والعنب.

نشر العلم عند من ليس من أهله مفسد لهم كإطعامك العسل والسكر والتمر من به مرض السكر ومن به احتراق وحمى.

وكتشميمك المسك والعنبر لمن به صداع الصفراء، أو به شقيقة وهو وجع نصف الرأس.

من أراد الآخرة وحكمة الدنيا وعدل السيرة والاحتواء على محاسن الأعمال والأخلاق والآداب كلها واستحقاق الفضائل بأسرها فليقتدي بمحمد صلى الله عليه وسلم وليستعمل أخلاقه وسيره.

والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 255

(فصل)

وقال رحمه الله: منفعة العلم في استعمال الفضائل عظيمة وهو أن يعلم حسن الفضائل فيأتيها ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها ويستمع الثناء الحسن فيرغب في مثله والثناء الردي فينفر منه.

فعلى هذه المقدمات وجب أن يكون للعمل حصة في كل فضيلة وللجهل حصة في كل رذيلة.

وقال: وقد رأيت من غمار العامة من يجري من الاعتدال وحميد الأخلاق إلى ما لا يتقدمه فيه حكيم عالم رائض لنفسه ولكنه قليل جدًا.

ورأيت ممن طالع العلوم وعرف عهود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ووصايا الحكماء وهو لا يتقدمه في خبث السيرة.

وفساد العلانية والسيرة شرار الخلق وهذا كثير جدًا فعلمت أنهما مواهب وحرمان من الله تعالى.

وقال: من جالس الناس لم يعدم إثمًا وهمًا يؤلم نفسه وغيظًا ينضج كبده وذلاً ينكس همته.

فما الظن بعد بمن خالطهم وداخلهم واندمج معهم.

وإنما يندم ويحزن ويتحسر على ذلك في معاده.

فالعز والسرور والأنس والراحة والسلامة في الإنفراد عنهم.

ولكن اجعلهم كالنار تدفأ بها ولا تخالطها.

وقال آخر: من مضار مجالسة الناس ومخالطتهم الانهماك في الغيبة. ثانيًا: ضياع الوقت في الآثام.

ثالثًا: فوات الأعمال النافعة في الآخرة أو الأعمال الدنيوية التي يعود

ص: 256

نفعها في الآخرة ولا سبيل إلى السلامة من ذلك إلا بالانفراد عن مجالستهم جملة.

مَن جَنَّبَ النَّاس يَسْلَمْ مِن غَوَائِلهم

وَعَاشَ وَهْوَ قَرِيْرُ العَيْنِ جَذْلان

وقال لا تحقرن شيئًا من عمل غد بأن تخففه وتعجله اليوم وإن قل فإن من قليل الأعمال يجتمع كثيرها.

لا تُحَقِّرَنَّ مِن الأُمُورِ صِغَارَهَا

فَالقَطْرُ مِنْهُ تَدَفَّقُ الخِلْجَانِ

وربما أن الأعمال إذا لم تخفف يعجز أمرها فيبطل الكل.

ولا تحقر شيئًا مما تثقل به ميزانك يوم البعث أن تعجله الآن وإن قل.

فإنه يحط عنك كثيرًا لو اجتمع لقذف بك في النار.

اجتهد في أن تستعين في أمورك بمن يريد منها لنفسه مثل ما تريد منها لنفسك.

أَبْلَغَ في ذمك من مدحك بما ليس فيك لأنه نبه على نقصك.

وأبلغ في مدحك من ذمك بما ليس فيك لأنه نبه على فضلك ولقد انتصر لك من نفسك بذلك وباستهدافه إلى الإنكار واللائمة.

ولو علم الناقص نقصه لكان كاملاً إذا عدله.

من عيب حب الذكر أنه ربما يحبط الأعمال إذا أحب أن يذكر بها لأنه يعمل لغير الله عز وجل.

وهو يطمس الفضائل لأن صاحبه لا يكاد يفعل الخير حبًا للخير لكن ليذكر به.

من أفضل نعم الله على العبد أن يحبب إليه العدل ويوفقه للعمل به ويحبب إليه الحق وإيثاره والعمل به.

ص: 257

ومن قلة توفيق العبد وخذلانه أن يطبع على الجور واستسهاله وعلى الظلم واستخفافه.

ومن كان كذلك فلييئس من أن يصلح نفسه أو يقوم طباعه أبدًا إلا أن يشأ الله.

إذا حضرت مجلس علم فلا يكون حضورك إلا حضور مستزيد علمًا وأجرًا لا طالبًا لعثرة أو زلة تشنعها أو غريبة تشيعها.

فإن تتبع العثرات والزلات أفعال الأراذل والسفل الذين لا يفلحون في العلم فإذا حضرتها على طلب الاسترشاد فقد حصلت خيرًا.

وإن لم تحضرها على نية صالحة فجلوسك في منزلك أحسن وأروح لبدنك وأكرم لخلقك وأسلم لدينك.

فإذا حضرتها فالتزم أحد ثلاثة أوجه أحدها إما أن تسكت فتحصل على أجر النية بالمشاهدة وعلى الثناء عليك بقلة فضول الكلام وعلى كرم المجالسة ومودة من تجالس.

وإذا سألت فاسأل سؤال المتعلم عما لا تدري فإن السؤال عما تدري سخف وقلة عقل ولا تخلو من العجب.

وفيه شغل عما هو أولى وفيه قطع لزمانك بما لا فائدة فيه لا لك ولا لغيرك وربما ترتب عليه مفسدة أو مفاسد.

وإذا أردت أن تراجع فراجع مراجعة العالم.

وصفة ذلك أن تعارض جوابه بما ينقضه نقضًا بينًا فإن لم يكن عندك إلا تكرار قولك أو لمعارضة بما لا يراه خصمك معارضة فأمسك.

لأنك لا تحصل بتكرار ذلك على أجر زائد ولا على تعليم بل ربما حصلت على ما يسؤك من الغيظ والعداوة.

ص: 258

واحذر سؤال التعنت ومراجعة المكابر الذي يطلب الغلبة بغير علم فهما خلقا سوء دليلان على قلة الدين وضعف العقل وقوة السخف وكثرة الفضول. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

(فصل)

صلاح القلب بتقوى الله وطاعته والتوكل عليه وتوحيده وإخلاص العمل لوجهه الكريم.

وفساد القلب بعدم التقوى والتوكل والطاعة والتوحيد والإخلاص.

ومما يورث فساد القلب وانتكاسه وفساد الأخلاق مجالسة أموات القلوب وأهل الآراء الفاسدة وأهل البدع كالأشاعرة والمعتزلة والرافضة والفسقة كأهل الملاهي والمنكرات.

عليك بمجالسة أهل الدين والصلاح فإنهم هم الناس لأن أعقل خلق الله من امتثل أمره واجتنب نهيه.

وأجهل خلق الله من عصى الله.

العلماء العاملون المخلصون هم السالكون طريقة الرسل عليهم الصلاة والسلام.

الذين لا يطلبون من الناس أجرًا على أعمالهم بل يريدون وجهه عز وجل قال الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، وقال جل وعلا:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً} [الإنسان: 9] .

قلوب صافية طاهرة معرضة عن الخلق مقبلة على الخالق ذاكرة له ناسية للدنيا ذاكرة للآخرة.

ص: 259

الجلوس مع الذين يطيعون الله نعمة من الله على عبده والجلوس مع المنافقين والمكذبين نقمة على العبد نعوذ بالله من مجالسة أهل الضلال والبدع والأخلاق المنحرفة وأهل الملاهي والمنكرات.

فالواجب هجرانهم والابتعاد عنهم والتحذير منهم.

واهجر أيضًا أقران السوء واقطع المودة والصلة بينك وبينهم وواصلها بينك وبين الصالحين.

قال بعضهم لا تغتر بموضع صالح فلا مكان أصلح من الجنة فلقي فيها آدم ما لقي ولا تغتر بكثرة العبادة فإن إبليس لعنه الله بعد طول تعبده لقي ما لقي.

ولا تغتر بكثرة العلم فإن بُلْعَام كان يحسن الاسم الأعظم فانظر ماذا لقي.

ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر من المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم ينتفع بلقائه أعداؤه وبعض أقاربه.

وقال إذا سمعت بحال الكفار وخلودهم في النار فلا تأمن على نفسك فإن الأمر على الخطر ولا تدري ماذا يكون من العاقبة وماذا سبق لك في حكم الغيب.

ولا تغتر بصفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات.

والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 260

(فصل)

كتب أبو حامد العزالي إلى أبي الفتح بن سلامة فقال: قرع سمعي بأنك تلتمس مني كلامًا وجيزًا في معرض النصح والوعظ وإني لست أرى نفسي أهلاً له.

فإن الوعظ زكاة نصابه الاتعاظ فمن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة وفاقد النور كيف يستنير به غيره ومتى يستقيم الظل والعود أعوج.

وقد أوصى الله جل وعلا عيسى بن مريم عليهما السلام يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني.

وقال نبينا صلى الله عليه وسلم "تركت فيكم ناطقًا وصامتًا" فالناطق هو القرآن والصامت هو الموت وفيهما كفاية لكل متعظ فمن لم يتعظ بهما كيف يعظ غيره.

ولقد وعظت نفسي بهما وقبلت وصدقت قولاً وعلمًا وأبت وتمردت تحقيقًا وفعلاً.

فقلت لنفسي أما أنت مصدقة بأن القرآن هو الواعظ وأنه كلام الله المنزل الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] . فقالت بلى فقلت لها قد قال الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 15،: 16] .

فقد وعد الله جل وعلا بالنار على إرادة الدنيا وكل ما لا يصحب بعد الموت فهو من الدنيا فهل تنزهت عن حب الدنيا وإرادتها.

ص: 261

ولو أن طبيبًا نصرانيًا وعدك بالموت أو بالمرض على تناول ألذ الشهوات لتحاميتيها وأنفت منا وجنبتها أفكان النصراني عندك أصدق من الله جل وعلا؟

فإن كان كذلك فما أكفرك أم كان المرض أشد عليك من النار؟ فإن كان كذلك فما أجهلك، فصدقت ثم ما انتهت بل أصرت على الميل إلى العاجلة واستمرت.

ثم أقبلت عليها فوعظتها بالواعظ فقلت لها قد قال الله جل وعلا: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8] .

وقلت لها هبي أنك ملت إلى العاجلة أفلست مصدقة بأن الموت لا محالة يأتيك قاطعًا عليك ما أنت متمسكة به وسالبًا منك كل ما أنت راغبة فيه.

وأن كل ما هو آت قريب وقد قال الله جل جلاله: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 207] .

وقال مخبرًا عن نفسه عندما وعظها ولم تجتهد في التزود للآخرة كاجتهادها في تدبير العاجلة ولم تجتهد في رضا الله كاجتهادها في طلب رضاها وطلب رضا الخلق.

ولم تستحي من الله تعالى كما تستحي من واحد من الخلق ولم تشمر للاستعداد للآخرة كتشميرها في الصيف لأجل الشتاء، وفي الشتاء لأجل الصيف فإنها لا تطمئن في أوائل الشتاء ما لم تتفرغ عن جميع ما تحتاج إليه فيه مع أن الموت ربما يخطفها والشتاء لا يدركها.

فقلت لها ألست تستعدين للصيف بقدر طوله وتصنعين له آلة الصيف

ص: 262

بقدر صبرك على الحر قالت نعم.

ثم استمرت على سجيتها ولما رأيتها متمادية في الطغيان غير منتفعة بموعظة الموت والقرآن رأيت أهم الأمور التفتيش عن سبب تماديها مع اعترافها وتصديقها فإن ذلك من العجائب العظيمة.

فطال تفتيشي عنه حتى وقفت على سببه وها أنا ذا موصي نفسي وإياك بالحذر منه فهو الداء العظيم وهو السبب الداعي إلى الغرور والإهمال.

وهو اعتقاد تراخي الموت واستبعاد هجومه على القرب فإنه لو أخبر صادق في بياض نهاره أنه يموت في ليلته أو يموت بعد أسبوع أو شهر لاستقام واستوى على الصراط المستقيم.

فانكشف لي تحقيقًا أن من أصبح وهو يؤمل أنه يمسي أو أمسى وهو يؤمل أن يصبح لم يخل من الفتور والتسويف.

فأوصيك ونفسي بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «صل صلاة مودع» ولقد أوتي جوامع الكلم وفصل الخطاب ولا ينتفع بوعظ إلا به.

ومن غلب على ظنه في كل صلاة أنها آخر صلاته حضر معه خوفه من الله تعالى وخشيته منه.

بخلاف من لم يخطر بخاطره قصر عمره وقرب أجله وغفل قلبه عن صلاته وسئمت نفسه فلا يزال في غفلة دائمة وفتور مستمر وتسويف متتابع إلى أن يدركه الموت ويهلكه حسرة الفوت.

فعلى الإنسان العاقل أن يحذر مواقع الغرور ويحترز من خداع النفس فإن خداعها لا يقف عليه إلا الأكياس وقليل ما هم.

والوصايا وإن كانت كثيرة والمذكورات وإن كانت كبيرة فوصية الله أكملها وأنفعها وأجمعها وقد قال الله جل وعلا وتقدس: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ

ص: 263

أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} [النساء: 131] . فما أسعد من قبل وصية الله وعمل بها وادخرها ليجدها يوم مردها ومنقلبها.

عصمنا الله وإياكم من الزلل ووفقنا لصالح العمل وهدانا بفضله سبيل الرشاد وطريق السداد إنه جل شأنه نعم المولى ونعم النصير وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وقال ابن القيم رحمه الله: لا يتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها وألم المزاحمة عليها والحرص عليها وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد.

وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب ذلك من الحسرة والأسف فطالبها لا ينفك من هم قبل حصولها وهم في حال الظفر بها وغم بعد فواتها فهذا أحد النظرين.

النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا فهي كما قال الله سبحانه: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] . فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة، منقطعة مضمحلة.

فإذا تم له هاذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره وزهد فيما يقتضي الزهد فيه فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل وقويت رغبته في الأعلى الأفضل فإذا آثر الفاني الناقص، كان ذلك إما لعدم

ص: 264

تبين الفضل له وإما لعدم رغبته في الأفضل.

وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان وضعف العقل والبصيرة فإن الراغب في الدنيا الحريص عليها المؤثر لها إما أن يصدق أن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى وإما أن لا يصدق فإن لم يصدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه.

وهذا تقسيم حاضر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الأيمان وإما من فساد في العقل وما أكثر ما يكون منهما ولهذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم وأطرحوها ولم يألفوها وهجروها ولم يميلوا إليها وعدُّوها سجنًا لا جنة فزهدوا فيها حقيقة الزهد ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب ولوصلوا منها إلى كل مرغوب.

فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها وفاضت على أصحابه فأثروا بها ولم يبيعوا بها حظهم من الآخرة بها وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر وأنها دار عبور لا دار سرور وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى آذن بالرحيل.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما لي وللدنيا إنما أنا كراكب مال في ظل شجرة ثم راح وتركها» وقال: «ما الدنيا في الآخرة إلا كما يدخل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم ترجع» .

وقال خالقها سبحانه: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ

ص: 265

وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [يونس: 25] .

فأخبر عن خسة الدنيا وزهد فيها وأخبر عن دار السلام ودعا إليها وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46] .

وقال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] .

وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 14،: 15] .

وقال تعالى: {وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} [الرعد: 26] .

وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرج لقاءه فقال: {إَنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [يونس: 8] .

ص: 266

وعبر سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} [التوبة: 38] .

وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة ويكفي في الزهد في الدنيا قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء: 207] .

وقوله: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} [يونس: 45] . وقوله: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35] .

وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] .

وقوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55] . وقوله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 114] .

وقوله: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} [طه: 104] . والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.

خُلِقْنَا لأَحْدَاثِ الليَالِي فَرائِسًا

ص: 267

تَزَفُّ إِلى الأَجْدَاثِ مِنَّا عَرائِسًا

تُجَهِّز مِنَّا لِلْقُبُورِ عَسَاكِرًا

وَتُرْدِفُ أَعْوَادُ المَنَايَا فَوَارِسًا

إِذَا أَمَلٌ أَرْخَى لَنَا مِنْ عَنَانِهِ

غَدا أَجَلٌ عَمَّا نُحَاوِلُ حَابِسًا

أَرَى الغُصْنَ لَمَّا اجْتُثَّ وَهْوَ بِمَائِهِ

رَطِيْبًا وَمَا إِنْ أَصْبَحَ الغُصْنُ يَابِسًا

نَشِيدُ قُصُورًا لِلْخُلُودِ سَفَاهَةً

وَنَصْبِرُ ما شِئْنَا فُتُورًا دَوَارِسًا

وَقَدْ نَعَتِ الدُّنْيَا إِلينَا نُفُوسَنا

بِمَنْ مَاتَ مِنَّا لَوْ أَصَابَتْ أَكَايِسًا

لَقَدْ ضَرَبَتْ كِسْرَى المُلُوكِ وَتُبَّعًا

وَقَيْصَرُ أَمْثَالاً فَلَم نَرَ قَائِسًا

نَرَى ما نَرَى مِنْهَا جَهَارًا وَقَدْ غَدَا

هَوَاهَا عَلَى نُوْرِ البَصِيرةِ طَامِسًا

وَقَدْ فَضَح الدنيا لَنَا الموتُ وَاعِظًا

وَهَيْهَاتَ مَا نَزْدَادُ إِلا تَقَاعُسًا

الله يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌موعظة

عباد الله إن الناس في هذه الحياة انقسموا قسمين قسم جعلوا غايتهم الأكل والشرب والتمتع بملاذ الدنيا من مساكن وملابس وقضاء وطر وليس وراء هذه الغاية عندهم غاية أخرى فهم يقضون أوقاتهم يصرمون أعمارهم ليتمتعوا ما وسعهم التمتع فما بعد نظرهم الكليل الحسير وقلوبهم الميتة إلا العدم والفناء.

وهؤلاء هم جند الشيطان شر خلق الله وأشقاهم قال تعالى: {وَذَرْنِي

ص: 268

وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل: 11] . وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12] . فهم صاروا كالأنعام لا يختلفون عنها إلا في الصورة والشكل وإلا في دخولهم النار ولذلك قال الله جل وعلا: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44] .

تلك هي غاية هذا الصنف أما مركزهم بين الناس فهو مركز الإفساد والإضلال ومآلهم جميعًا دخول النار، قال تعالى:{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 197] . وقال: {قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [إبراهيم: 30] .

الصنف الثاني الذين عرفوا الحقيقة والغاية التي خلقوا لها عرفوا أن الله خلقهم لعبادته كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . أيقنوا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6] . فغايتهم كما تقدم عبادة الله.

ومنها الجهاد في سبيل الله والدعوة إليه وعمارة الأرض بفعل الخير وهداية الحيارى إلى الحق وقيادتهم في دروب الحياة الدنيا ووراءها الغاية العظمى والعليا وهي ابتغاء مرضاة الله وحده جل جلاله.

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78] .

ص: 269

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 12] .

هذه مهمة المسلم وغايته فيها عبادة الله وحده وجهاده في سبيله يجاهد نفسه حتى يحملها على طاعة الله ويبعدها عن المعصية جهده ويجاهد بقلمه ولسانه وماله ويده في سبيل الله حتى تعلو كلمة الله ويستنير البشر بنور الإسلام.

وقد اختار الله المسلمين لهذه المهمة الخطيرة مهمة دلالة الناس وقيادتهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور فلا مجال للتخلي عن هذه المهمة الشريفة هذه طريقة الرسل عليهم أفضل الصلاة والسلام قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] .

وقال صلى الله عليه وسلم "بلغوا عني ولو آية" فكل واحد من المسلمين عليه على قدر حاله ولا يعذر وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] .

فالذي يقول إنه مسلم عليه أن يبلغ ويدعو ويؤدي هذه الشهادة لهذا الدين شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء ويؤيد الخير الذي يحمله هذا الدين للبشر.

وهو لا يؤيد هذه الشهادة تمامًا حتى يجعل من نفسه ومن خلقه ومن سلوكه ومن حياته صورة لهذا الدين صورة يراها الناس فيرون فيها مثلاً رفيعًا يشهد لهذا الدين الإسلامي بالأحقية في الوجود بالخيرية وبالأفضلية على سائر ما في الأرض.

ص: 270

فالشهادة في النفس أولاً بمجاهدتها حتى تكون ترجمة له ترجمة حية في شعورها وسلوكها حتى صورة الأيمان في هذه النفس فيقولوا ما أطيب هذا الإيمان وما أحسنه وما أزكاه.

وهو يصوغ أصحابه على هذا الشكل من الخلق والكمال فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون والشهادة له بدعوة الناس إليه وبيان فضله ومحاسنه ومزيته بعد تمثل هذا الفضل.

وهذه المزية في نفس الداعية فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه إذا هو لم يدع إليها الناس وما يكون قد أدى الدعوة والتبليغ والبيان قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أحسن} [النحل: 125] . وقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] .

ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض منهجًا للجماعة المؤمنة ومنهجًا للبشرية جميعًا والمحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة.

فإقرار هذا المنهج في حياة البشر هو كبرى الأمانات بعد الإيمان الذاتي ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة ومن ثم فالجهاد ماض إلى يوم القيامة اهـ.

اللهم خفف عنا الأوزار وارزقنا عيشة الأبرار واصرف عنا شر الأشرار واعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا من النار يا عزيز يا غفار يا كريم يا ستار ويا حليم يا جبار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 271

شعرًا:

لَقَدْ عَفَتْ مِنْ دِيَارِ العِلْمِ آثَارُ

فَأَصْبَحَ العِلْمُ لا أَهْلٌ وَلا دَارُ

يَا زَائِرِيْنَ دِيَارَ العِلْمِ لا تَفِدُوا

فَمَا بِذَاكَ الحِمَى وَالدَّارِ دَيَّارُ

تَرَحَّلَ القَوْمُ عنهَا واسْتَمَرَّ بِهِم

مُشَمِّرٌ مِنْ حُدَاةِ البَيْنِ سَيَّارُ

قَدْ أَوْرَدَ القَوْمَ حَادِيْهم حِياضَ رَدَى

فَمَا لَهُم بَعْدَ ذَاكَ الوِرْدِ اصْدَارُ

لَهَفِيْ عَلَى سُرُجِ الدُّنْيَا الَّتِي طَفِئَتْ

وَلا يَزَالُ لَهَا في النَّاسِ أَنْوَارُ

لَهْفِيْ عَلِيْهِم رِجَالاً طَالَمَا صَبَرُوا

وَهَكَذَا طَالِبُ العَلْيَاءِ صَبَّارُ

لَهْفِيْ عَلَيْهِم رِجَالاً طَالَمَا عَدَلُوا

بَيْنَ الأَنَامِ وَمَا حَابَوْا وَلا جَارُوْا

مَالوُا يَمِيْنًا عَنِ الدُّنْيَا وَزَهْرَتَهَا

لأَنْهَا في عُيُونِ القَوْمِ أَقْذَارُ

وَصَاحَبُوهَا بِأَجْسَادٍ قُلُوبُهُم

طَيْرٌ لَهَا في ظِلالِ العَرْشِ أَوْكَارُ

هُمُ الذِيْنَ رَعَوا لِلْعِلْمِ حُرْمَتَهُ

لِلْعِلْمِ بَيْنَهُم شَأَنٌ وَمِقْدَارُ

صَانُوْهُ طَاقَتَهُم عَنْ مَا يُدَنِّسُهُ

كَمَا يَصُونُ نَفِيْسَ المَالَ تُجَّارُ

وَأَحْسَنُوا فِيْهِ تَصْرِيفًا لأَنَّهُم

لَهُم مِنَ اللهِ تَوْفِيْقٌ وَإِقْدَارٌ

رَأوهُ كَالنَّجْمِ بُعْدًا لَيْسَ يُدْرِكُهُ

بَاعٌ قَصِيْرٌ وَفَهْم فيْهِ إِقْصَارُ

اللهم ألهمنا القيام بحقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يا قاضي الحاجات ويا مجيب الدعوات هب لنا ما سألناه، وحقق رجاءنا فيما تمنيناه وأملناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في ضمائر الصامتين، أذقنا برد عفوك، وحلاوة مغفرتك، يا أرحم الراحمين وصل الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

ص: 272

‌26- "موعظة

"

عباد الله كلنا يعلم أن الزنا من كبائر الذنوب وأن فيه فسادًا للزاني والزانية أما فساده للزانية فهو واضح لأنها بذلك الجرم العظيم -جرم الزنا- تجد حلاوة، فتفسد كل من اتصل بها، فيصبحون في تعلقهم بالنساء كالكلب المسعور هذا من جهة ومن جهة أخرى تفسد فراش زوجها إن كانت ذات زوج وربما أدخلت عليه أولادًا من الزناة ينفق عليهم طول حياته ويرثون منه بعد وفاته، ويتفوضون حرم الزوج، وربما تولوا عقد نكاح لهن، أو صاروا محارم لهن في حج أو نحو ذلك نسأل الله العافية ومن جهة فساد الزاني، فإنه بالزنا ينكلب، ويتولع فيه، وكل أنثى يتعدى عليها يحلو لها هذا السفاح فتفسد كالأولى كثيرين من الناس تنبهوا بعد أن كانوا غافلين فيفسدون من النساء كثيرات وهكذا فالزاني لص يسرق ثروة الناس في حياتهم وبعد الممات بما يدخله عليهم من أولاد يعولونهم، وإن كانت المرأة التي تعدى عليها غير متزوجة، فقد أفسد حياتها، بهتك عرضها، وصرف أنظار راغبي الزواج عنها، فتعيش بعد جرم الزنا عيشة ذل وهوان لا زوج يحصنها ولا عائل يعولها هذا مضافًا إلى سوء السمعة وإلى الجناية على شرفها وأهلها فيقفون منه موقف الانتقام غالبًا وربما قضوا عليه أو على ابنتهم وإن لم يقضوا وثبت ذلك بطريق الشرع فإما جلد مائة، وإما رجم يؤدي بالنفسين، هذا عاقبة هذه الكبيرة عصمنا الله وإياكم منها ومن جميع المعاصي فعلى الإنسان أن يفكر ويعرف عواقب الجنايات على الأعراض ليحذر ويحذر عنها أجنبية أو قريبة ولا أدري كيف يقدم الزاني على الزنا وهو يؤمن أن الله مطلع عليه لا تخفى عليه منه خافية وأن جزاءه إن لم يتب توبة نصوحًا الهاوية نسأل الله السلامة منها ولا

ص: 273

أدري كيف يزني وهو لا يشك أنه سيجازى على فعله في الدنيا قبل الآخرة، ومن كان الزنا من أعماله فلا يؤمن حتى على محارمه ولا يرغب في مصاهرته ولا مجاورته ولا مشاركته ولا معاملته ولا الاجتماع معه في محل عمله قال الله تعالى:{وَلَا تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً} [الإسراء: 32] .

وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا ظهر الزنا والربا في قرية، فقد أحلوا بأنفسهم عذاب الله» . رواه الحاكم اللهم احمنا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌27- "موعظة

"

عباد الله إن صفات الشر وخصال السوء ما وجدت في قوم إلا كانوا أهلاً لغضب الله وسخطه فاستحقوا الشقاء والذل في الدنيا والآخرة وإن من أقبح الخصال وأشنع الخلال الغيبة والنميمة وقد انهمك الناس فيهما وصارت مجالسهم لا تعمر إلا بهما يسمع المرء من أخيه الكلمة ليفرج بها من كربه ويخفف بها من آلامه فينقلها إلى صاحبها قصد الإيقاع به والتفريق بين المؤمنين هذه يا عباد الله غاية الدناءة، ومنتهى الخسة والنذالة واللآمة، ألا شهامة تحمل النمام على كتمانه سر أخيه ألا مروءة تمنعه من أن ينم على أخيه المسلم، إن النمام لا يعرف للشهامة سبيلاً، ولا للمروءة طريقًا، إن من ينم على المسلمين ليبدل الود جفا وبغضًا والصفو كدرًا وحقدًا ويفتح أبواب الشرور والجنايات على مصراعيها بين المؤمنين من أكبر المصائب، وأشد الرزايا على هذا المجتمع الإنساني، وكذلك الغيبة فإنها تذهب الحسنات، وأنت إذا قلت في أخيك كلمة يكرهها فأنت له بها مغتاب وهو لا يكره كلمة إلا

ص: 274

إذا كانت متضمنة عيبًا، ذلك العيب الذي أنت تريد أن تكشفه للناس تريد منهم أن يحقروه ويزدروه ويحترسوا منه أن يكون يومًا لهم من الأصحاب أنت تريد منهم أنه أن خطب منهم منعوه لتحقيرك إياه عندهم تريد من غيبتك له أن يبعد منهم ويكون منطويًا عنهم لما لقنتهم مما ذكرته فيه ويكون في وحشية منهم وتريد من غيبتك أنه إذا احتاج لا يدلي عليهم بشيء يقضي فيه حاجته بل تريد منهم أن لا يردوا عليه السلام إذا سلم لما عندهم له مما لقنتهم من الازدراء والاحتقار وإن كان صانعًا فيسبب غيبتك له أن يجفوا صنعته فتقف، وإن كان تاجرًا فتريد بعيبتك أن تخسر تجارته لإعراضهم عنه، وتريد أنه إذا كان له أولاد أو بنات يرغب في تزويجهم أن يأنف الناس منهم فيبورون، هذا والله شيء يؤلم النفوس الزكية لأنها مضار عظيمة جدًا تنزل بمن تغتابه فعلى العاقل أن لا يصدق المغتاب وأن يرده خائبًا ولا يظن بأخيه المسلم إلا خيرًا والله أعلم.

شعرًا:

حَيَاتُكَ في الدُّنْيَا قَلِيْلٌ بَقَاؤُهَا

وَدُنْيَاكَ يَا هَذَا شَدِيْدٌ عَنَاؤُهَا

وَلا خَيْرَ فيْهَا غَيْرَ زَادٍ مِنَ التَّقَى

يَنَالُ بِهِ جَنَّاتُ عَدْنٍ وَمَاؤُهَا

بَلَى إِنَّهَا لِلْمُؤْمِنِيْنَ مَطِيَّةٌ

عَلَيْهَا بُلُوغُ الخَيْرِ والشَّرُ دَاؤُهَا

وَمَنْ يَزْرَعُ التَّقْوى بِهَا سَوْفَ يَجْتَنِي

ثِمَارًا مِنَ الفِرْدَوْسِ طَابَ جَنَاؤُهَا

نُؤَمِلُ أَنْ نَبْقَى بِهَا غَيْرَ أَنَّنَا

عَلَى ثِقَةٍ أَنَّ المَمَاتَ انْتَهَاؤُهَا

فَكُنْ أَيَّهَا الإِنْسَانُ في الخَيْرِ رَاغِبًا

يَلُوحُ مِن الطَّاعَاتِ فِيْكَ بَهَاؤُهَا

وَجَانِبْ سَبِيْلَ الغَي واتْرَكْ مَعَاصِيًا

يُذِيبُكَ مِنَ نَارِ الجَحِيْمِ لَظَاؤُهَا

اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا

ص: 275

هم يحزنون واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌28- "موعظة

"

عباد الله نحن في زمن بلغ فيه الفساد مبلغًا ما كان يدور في خلد إنسان وهان على كثير من الناس اليوم أن يتقدموا إلى المعاصي مطمئنين وخف عليهم جدًا أن يرتكبوا ما حرم الله عليهم غير هيّابين وسهل كل السهولة عليهم أن يقتحموا حتى موبقات الأوزار غير خائفين من الله تعالى ولا مبالين بنواهيه.

ولعل زمننا هذا ينطبق عليه ما في حديث أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر» وما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء» . أخرجه مسلم.

وأخرجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث بن مسعود بزيادة في آخره وهي –قيل يا رسول الله ومن الغرباء قال: «النزاع من القبائل» .

وأخرجه أبو بكر الآجري وعنده- قيل ومن هم يا رسول الله، قال:«الذين يصلحون إذا فسد الناس» .

وخرجه غيره وعنده قال: «الذين يفرون بدينهم من الفتن» .

وخرجه الترمذي من حديث كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الدين بدأ غريبًا وسيرجع غريبًا فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي» . وفي حديثه قيل ومن هم يا رسول الله قال: «الذين يصلحون حين فساد الناس» .

ص: 276

أما الحديث الأول فهو واضح ومنطبق كل الانطباق على هذا الزمان فيما أرى والله أعلم وذلك أنك ترى الشر والفساد في كل مكان منتشرًا والخير نادر الوجود فالفتن في البيوت والأسواق والدكاكين والسيارات والقطارات والطائرات فتن شهوات نساء سافرات وفتن شكوك وإلحاد وشبهات من أناس منحرفين وكتب ضلال ومجلات تحمل في طيها البلايا والشرور وفديوات تعلم الفساد أبلغ تعليم وتهيج عليه، حدث فتن يرقق بعضها بعضًا وحوادث الأخرى أعظم من الأولى ومن أعظم ما حدث كثرة الخدامين والخدامات والسواقين والطباخين والمربين فإن ضررهم عظيم على الدين والأخلاق والدنيا. فأنتبه يا من زين له سوء عمله وأتى بالكفار أعداء الله ورسوله والمؤمنين وأمنهم على محارمه خدامين أو سواقين أو مربين أو نحو ذلك عياذًا بالله من ذلك.

يَا غَافِلاً عَنْ سَاعَةً مَقْرُوْنَةٍ

بِنَوَادِبٍ وصَوَارِخٍ وَثَوَاكِلِ

قَدِّمْ لنَفْسُكَ قَبْلَ مَوْتِكَ صَالِحًا

فَالمَوْتُ أَسْرَعُ مِن نُزُولِ الهَاطِلِ

حَتَّامَ سَمْعُكَ لا يَعِي لِمُذَّكِرٍ

وَصَمِيْمُ قَلْبِكَ لا يَلِيْنُ لِعَاذِلِ

ذ

تَبْغِي مِنَ الدُّنْيَا الكَثيْرَ وإِنَّمَا

يَكْفِيْكَ مِنْ دُنْيَاكَ زَادُ الرَّاحِلِ

آيُ الكِتَابِ يَهُزُّ سَمْعَكَ دَائِمًا

وَتَصُمُّ عَنْهَا مُعْرِضًا كَالغَافِلِ

كَمْ لِلإلهِ عَلَيْكَ مِن نِعَمٍ تُرَى

وَمَوَاهِبٍ وفَوَائِدٍ وَفَوَاضِلِ

كَمْ قَدْ أَنَالَكَ مِن مَوانِحِ طَوْلِهِ

فَاسْأَلْهُ عَفْوا فَهُوَ غَوثُ السَّائِلِ

اللهم مكن حبك في قلوبنا وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لامتثال طاعتك وأمرك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

ص: 277

‌29- "موعظة

"

عباد الله من تكبر أذله ومن تواضع لله رفعه الله والمتكبرون يحشرون يوم القيامة في صور الذر تطؤهم الناس لهوانهم على الله تعالى المتكبرون شرار الخلق وأهل النار كل جعظري جواظ مستكبر، المتكبر يشمخ بأنفه إذا تكلم ويجافي مرفقيه عن جنبيه. لاويًا عنقه، يقارب خطاه إذا مشى، متطاولاً على إخوانه، مترفعًا على أقرانه ينظر الناس شزرًا بمؤخر العين، متقدمًا عليهم إذا مشى، محتقرًا للعامة، ولا فرق عنده بينهم وبين الحمير استجهالاً منه لهم، فالمتكبر لا يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، لأنه لا يقدر على ذلك، ولا يقدر على التواضع وهو رأس أخلاق المتقين، ولا يقدر على ترك الحقد، ولا يقدر أن يدوم على الصدق، ولا يقدر على ترك الغضب، ولا على كظم الغيظ، ولا يسلم من الازدراء بالناس واحتقارهم ولا يسلم من اغتيابهم، وتنقصهم، لأن فيه من العظمة والعزة والكبرياء، ما يمنعه من ذلك فما من خلق ذميم إلا وصاحب الكبر والعظمة مضطر إليه، ليحفظ به عزه وعظمته، وما من خلق محمود إلا وهو عاجز عنه خوفًا من أن يفوته عزه وعظمته، ولذلك ورد في الحديث أنه لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ومما جاء في وصية لقمان لابنه:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] . ومن تعاليم ربنا لهذه الأمة ونبيها عليه الصلاة والسلام، بقول تعالى:{وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء: 37] .

فيا أيها المتكبر الناظر في عطفيه، المتعاظم في نفسه، إن شأنك حقير، وقدرك صغير ولست بمحسوب في العير، ولا في النفير، وما لك عند عاقل من

ص: 278

حساب، ولا تقدير، لا قليل ولا كثير، فهون عليكن وارفق بنفسك، فإنك مغرور، يا مسكين وتدبر كلام رب العالمين:{إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل: 23] . {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] : {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 72] . وذم الكبر في القرآن كثير، والمتكبر عدو لله ولنفسه، وللناس، يقصر في الواجب ويدعي ما ليس له ويتشدق في الكلام، ويتألق في اللباس، وإنه لثقيل في حركاته، وسكناته، بغيض في أمره ونهيه، ومجالسته، ومؤاكلته ومشاربته، والويل كل الويل لمن صاهره أو شاركه أو ربطته به صلة، لأن داء الكبر يعدي ويسري فتبعد السلامة من المقترب منه. ومن آثار الكبر تصعير الخد، والنظر شزرًا، وإطراق رأسه، وجلوسه متربعًا أو متكئًا ويظهر الكبر أيضًا في أقوال المتكبر حتى في صوته ونغمته وصيغة كلامه في الإيراد وقيل لإحمق تكبر وقام ساخطًا على أستاذه لماذا قمت فقال دخلت ولم يحترمني وجلست فلم يكرمني ولم يدر من أنا واستشهد بقول من جنبه، قال ليست هذه مشية من في بطنه خراء، وكيف يتكبر من أوله نطفة مذرة، وآخره جيفة قذرة وهو مع ذلك يحمل البول والعذرة، هذا أكبر برهان على أنه دنس جاهل مجهول نكرة ممتلئًا كبرًا وإعجابًا بنفسه وسمعة، ورياء، ولؤمًا وشؤمًا وشرها فهو أشبه شيء بالدخان يملأ الفضاء ويتك صدور الناس وأصله من القمامات والأوساخ المبعثرة نسأل الله أن يقلل هذا النوع المنحط وأن يكثر ضده من أهل التواضع واللين والعطف والحنان. قال الله تعالى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] .

اللهم انظمنا في سلك عبادك الأخيار ونجنا برحمتك من عذاب النار

ص: 279

وأسكنا الجنة مع أوليائك الأبرار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

وللكبر آثار تظهر على الجوارح كلها تدور حول ذلك النظر، فترى المتكبر إن سمح بممشاه مع الناس يكون متقدمًا عليهم، حريصًا جدًا أن يكونوا كلهم خلفه، وتراه إن جلس معهم ورضي أن يكونوا جلساءه، محتفظًا بصدر المجلس مستقلاً به ويسره أن يصغوا إلى كلامه، ويؤلمه كلام غيره وتجده ينتظر من الناس أن يتلقوا كلامه بالقبول والتصديق.

الشاعر:

وَلَوْ كَانَ إِدْرَاَُ الهُدَى بِتَذَلُّلٍ

رَأَيْتُ الهُدَى أَنْ لا أَمِيْلَ إِلى الهُدَى

ويظهر أيضًا أثر الكبر في مشيه وتبختره وقيامه وجلوسه وحركاته وسكناته وفي تعاطيه لأفعاله، وفي سائر تقلباته في أحواله وأقواله وأعماله.

وفي كتاب الخمول والتواضع لابن أبي الدنيا عن أبي بكر الهذلي قال: بينما نحن مع الحسن، إذ مر عليه ابن الأهتم يريد المنصور وعليه جباب خز، قد نضد بعضها فوق بعض على ساقه، وانفرج عنها قباؤه وهو يمشي ويتبختر، إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال: أف أف، شامخ بأنفه ثاني عطفه، مصعر خده، ينظر في عطفيه أي حميق ينظر في عطفيه في نعم غير مشكورة ولا مذكورة، غير المأخوذ بأمر الله فيها، ولا المؤدي حق الله منها والله أن يمشي أحدهم طبيعته يتلجلج تلجلج المجنون في كل عضو منه نعمة وللشيطان بها لعنة، فسمعه ابن الأهتم، فرجع يعتذر إليه، فقال لا تعتذر إلي وتب إلى ربك، أما سمعت قول الله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ

ص: 280

الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء: 37] .

اللهم امنن علينا بإصلاح عيوبنا واجعل التقوى زادنا وفي دينك اجتهادنا وعليك توكلنا واعتمادنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد على آله وصحبه أجمعين.

‌30- "موعظة

"

عباد الله لقد كانت القلوب موضع العناية التامة عند السلف الصالح لأنهم يعلمون أنها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا صلحت صلح الجسد كله» وذلك لأنها مبدأ الحركات البدنية، والإرادات النفسانية، فإن صدرت من القلوب إرادة صالحة تحرك البدن حركة طاعة، وإن صدرت عنها إرادة فاسدة تحرك البدن حركة فاسدة، فهو كملك والأعضاء كالرعية، ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك وتفسد بفساده، وكان واجبًا علينا أن نكون كما كان سلفنا في العناية بهاتيك القلوب لأن بها سعادتنا بإذن الله وبها شقاؤنا، ولكن يا للأسف ما كان من ذلك شيء والذي كان منا أننا أهملنا قلوبنا إهمالاً تتجرح له القلوب، وتذوب له الأكباد ولذلك نشأ فينا نتيجة الإهمال كثرة الأمراض في القلوب وتشعبت وأعضلت وصعب شفاؤها، وانعدم أطباؤها ومن وصل إلى هذا الحد فهو في خطر عظيم.

فمن الأمراض التي أزمنت في قلوبنا مرض الرياء الذي لا يكاد يسلم منه إلا النوادر، ومن الأمراض التي أصبنا بها مرض العجب، ولهذا يعتقد الصغير منا والكبير الكمال في نفسه ومن اعتقد ذلك في نفسه هوى لأنه لا يلتفت إلى ما به كمال الرجال، ومرض ينتج مرضًا آخر هو مرض الكبر وصف

ص: 281

الأنذال والأرذال والجهال، والمتكبر لا ينظر إليه بعين الرضا، والكبر ينشأ عنه مرض الحسد والحسود يتمنى زوال نعمة الله عن خلقه، والحسد يولد الحقد الذي ربما حمل صاحبه على قتل من لا ذنب له إلا ما أولاه الله من النعم، وليس هذا كل ما في قلوبنا من الأمراض بل فيها مرض البخل والشح الذي وصل بنا إلى منع الزكاة أو بعضها، وغير ذلك كثير وكلها أمراض مهلكات، ونحن لا نهتم بقلوبنا ولا بأمراضها وإنما نهتم بأمراض أجسامنا، ونبادر في علاجها إلى المستشفيات، وأمراضها يسيرة بسيطة بالنسبة إلى أمراض القلوب، ونهتم أيضًا بجمال ظواهرنا فنبالغ في تحسين ملابسنا ومراكبنا ومساكننا ومجالسنا وأبداننا، انظر إلينا عند الذهاب إلى مقر العمل لتتعجب من تغفيلنا وانخداعنا، ولو كانت عنايتنا بالقلوب كعنايتنا بالملابس فقط ما كنا بهذه الحالات المحزنات.

اللهم يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع بيننا وبين الصدق والنية الصالحة والإخلاص والخشوع والمراقبة واليقين والعلم والمعرفة والفصاحة والبيان والفهم في القرآن وخصنا منك بالمحبة والاصطفائية ووفقنا للعمل الصالح الرشيد والرزق الهنيء الذي لا حجاب به في الدنيا ولا حساب ولا سؤال ولا عقاب عليه في الدنيا والآخرة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، ووفقنا للعمل بما فهمتنا، اللهم إن كنا مقصرين في حفظ حقك، والوفاء بعهدك، فأنت تعلم صدقنا في رجاء رفدك، وخالص ودك، اللهم أنت أعلم بنا منا، فبكمال جودك تجاوز عنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 282

‌31- (موعظة)

عباد الله بما أن الله جل وعلَا منّ عليكم بالإسلام فيجب عليكم أن تحبوه، فإنه الذي بيده خير الدنيا والآخرة، وأن تحبوا رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لولا الله ثم لولاه لكنتم من حطب جهنم تلتهب بكم أبد الآبدين، وأن تحبوا أحباب الله، وأحبابه هم الذين لزموا طاعة مولاهم وتباعدوا عن معصيته كما يتباعد الإنسان عما يقتله من سم ونحوه بل السم أهون وأخف من كثير من المعاصي كيف لا والمعاصي لا تسلم فاعلها إلا إلى العذاب الأليم إن لم يتجاوز عنه مولاه، مضى في صدر هذه الأمة أناس قال الله فيهم:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] . وهم الذين كانوا بأرواحهم في سبيل الله يجودون، وكانوا يرون السعادة كل السعادة في ذلك الجود وإذا لم يستطيعوا كانوا لذلك يحزنون وكان هؤلاء الناس يحبون رسولهم فوق محبتهم لأموالهم وأنفسهم وكان حب أحدهم لأخيه أعظم من حبه لآثاثه وماله يحب له ما يحب لنفسه ولذلك كانوا في كل المنافع لا يعرفون إلا خلق الإيثار، كما حكى الله عنهم بقوله:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] . سل التاريخ عنهم يخبر عنهم أخبارًا ما سمعت قط بمثلها يخبرك أنهم كانوا سادة الدنيا يعترف بذلك العدو قبل الصديق اعتراف إقرار وإذعان يخبرك أنهم كانوا إذا اتجهوا لغزو جهة ينهزم أهلها وبينهم وبينهم مسافة عظيمة وكيف لا يعزهم ربهم وقلوبهم كانت وقفًا على حبه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب كل ما يرضيه من مبار، هؤلاء كانوا عبيد الله عبودية ما رأت الدنيا عبودية مثلها في سائر العبيد عدا الرسل الكرام لذلك كانوا يحنون لطاعته حنينًا لا ينقضي عجبه وهو مخلص وشديد كانوا لا يشبعون من العبادة بالنهار فيستقبلون الليل

ص: 283

بعزائمهم بعثتها همم عالية، لا تكل ولا تمل من العبادة، بل هي في العبادة كالسمك في البحر، والليل على ذلك شهيد ومن الذي يقوم إن الحبيب يشبع من خدمة حبيبه وسيده ومولاه الذي بيده الخير كله خير الدنيا والآخرة هؤلاء الذين هم خيرة الله من خلقه هم سلفنا الصالح، فينبغي أن نقفوا آثارهم، ونكون على مثل ما كانوا عليه من المحبة الفائقة والطاعة الفريدة لمولانا.

اللهم يا عظيم العفو يا واسع المغفرة يا قريب الرحمة يا ذا الجلال والإكرام فرغنا لما خلقتنا له، ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به، وهب لنا العافية في الدنيا والآخرة، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

‌32- موعظة

عباد الله فتشوا قلوبكم بتأن وائتاد، وابحثوا عما تغلغل فيها من الأضغان والأحقاد، فإذا وجدتم شيئًا من ذلك فاجتهدوا واعملوا على سرعة إزالته ومحوه بجد واجتهاد وأعرضوا بكليتكم عن وحي الشيطان ووساوسه، واستعيذوا بالله القوي القدير من همزاته وهواجسه، فإنه لا يريد إلا إيقاعكم في البلاء، وتعريضكم لسخط الله ومقته الشديد، ماذا يضركم إن تنازلتم عن بعض حقوقكم، وتجاوزتم وصفحتم عمن أساء إليكم من إخوانكم، وقصدتم وجه الله وثوابه في صفحكم وتنازلكم، وبذلك تكونون قد أرضيتم الله رب العالمين، وأبعدتم شبح الشر عنكم. وعن إخوانكم المسلمين وكنتم أصحاب الفضل والمنة، يشكر الله والناس لكم هذا الخلق الطيب الحميد، ألا فاحرصوا عباد الله على الفضل العظيم، وأقبلوا سراعًا إليه، واكظموا غيظكم، وابذلوا

ص: 284

جهدكم في التغلب عليه، واعلموا أن الجزاء من جنس العمل، فالله يغفر من ذنوب العافين عن الناس، ويمجد الكاظمين الغيظ، ويتولاهم بالفضل والكرامة، ويزوجهم من حور الجنان ما يشاءون يوم القيامة، ويدعوهم يوم القيامة على رءوس الخلائق إلى تلك الكرامة، ليعلم فضلهم، ويشهد مجدهم القريب والبعيد. فإذا ما علمتم هذا فقارنوا بينه وبين ما يعامل الله به المشاحن الحقود الحسود، الذي أجاب داعي الشيطان، وأعرض عن نصيحة ربه الذي خلقه ورزقه، ويسر له أموره، وأصر على ما هو عليه من التقاطع والشحناء والصدود، وسترون أنه بعناده وإبائه واستكباره قد خسر الدنيا والآخرة عرض نفسه في الدنيا لنقم الله المتعاقبة، وأبقى لها بعد الموت جهنم يلقى فيها العذاب الأليم، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن المتهاجرين المتشاحنين يُعرض الله عنهما، وإذا أفاض على خلقه رحمته كان الحرمان نصيبهما، ولا يزالان هكذا. حتى يزيلا ما بينهما من الخصام، ويعودا إلى ما كانا عليه من قبل من الصفاء والوئام، والله سبحانه وتعالى عفو غفور: تفهموا يا إخواني جيدًا، واقرعوا قلوبكم بما سمعتم من الزواجر والعظات، واعلموا أن أقرب المتصافيين إلى الله أسبقهما إلى الصفح، وتناسي ما فات، وأعظمهما أجرًا من بدأ بالسعي إلى إزالة الأضغان والأحقاد، فإن استجاب خصمه للصلح، ولم يتأخر، فبها ونعمت، واستحق نصيبه من الأجر والثواب، وإن أبى وامتنع فقد احتمل الإثم والعقاب فاتقوا الله عباد الله، واعملوا بهذه النصيحة، وسارعوا بالاعتذار إلى ربكم، واستجيبوا إلى داعي الهدى والرشاد، وأصلحوا ذات بينكم، وهلموا سراعًا إلى مصافاة من خاصمتم من إخوانكم، وبذلك تصونون بيوتكم من الخراب، وتحفظون أموالكم من التلاشي والذهاب، وترجون رضا ربكم وعفوه يوم البعث والحساب، {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ

ص: 285

إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 89]، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] .

روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنًا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلقه فليسلم عليه، فإن رد عليه السلام فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يرد عليه فقد باء بالإثم وخرج المسلم من الهجر» .

وروى الطبراني عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فمن مستغفر فيغفر له، ومن تائب فيتاب عليه، ويرد أهل الضغائن بضغائنهم حتى يتوبوا» .

وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من كظم غيظًا وهو قادر أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رءوس الخلائق، حتى يخيره من الحور العين ما شاء» . والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

‌33- "موعظة

"

عباد الله إن شأن الصلاة عظيم جدًا في ديننا معشر المسلمين وفي كل دين وأسرارها العظيمة وبركاتها العميمة وفوائدها الكثيرة لا تخفى على كثير من المؤمنين وليست الصلاة مجرد أقوال يلوكها اللسان وحركات تؤديها الجوارح بلا تدبر من عقل ولا تفهم ولا خشوع من قلب ليست تلك التي ينقرها صاحبها نقر الديكة ويخطفها خطف الغراب ويمر بها مر السحاب كأن وراءه طالب حثيث ويلتفت فيها التفات الثعلب يمينًا وشمالاً وفوقًا وتحتًا.

كلا فالصلاة المقامة تمامًا هي التي تأخذ حقها من التأمل والخشية والخضوع والسكون واستحضار عظمة المعبود جل جلاله.

ص: 286

وذلك أن القصد من الصلاة وسائر العبادات هو تذكير الإنسان بربه الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى.

والصلاة صلة بين العبد وربه تقوى بها محبة العبد لربه كلما تكررت قال ابن القيم رحمه الله فإن المحب يتلذذ بخدمة محبوبه وتصرفه في طاعته وكلما كانت المحبة أقوى كانت لذة الطاعة والخدمة أكمل فليزن العبد إيمانه ومحبته بهذا الميزان ولينظر هل هو ملتذ بخدمة محبوبه أو متكره لها يأتي بها على السآمة والملل والكراهة فهذا محك إيمان العبد ومحبته لله.

قال بعض السلف إني أدخل في الصلاة فأحمل هم خروجي منها ويضيق صدري إذا فرغت لأني خارج منها ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وجعلت قرت عيني في الصلاة ومن كانت قرة عينه في شيء فإنه لا يود أن يفارقه ولا يخرج منه فإن قرة عين العبد نعيمه وطيب حياته به» .

وقال بعض السلف إني لأفرح بالليل حين يقبل لما تتلذذ به عيشتي وتقر به عيني من مناجاة من أحب وخلوتي بخدمته والتذلل بين يديه وأغتم للفجر إذا طلع لما أشتغل به بالنهار عن ذلك فلا شيء ألذ للمحب من خدمة محبوبه وطاعته أين هؤلاء ممن لذتهم وأنسهم عند المنكرات.

وقال بعضهم تعذبت بالصلاة عشرين سنة ثم تنعمت بها عشرين سنة وهذه اللذة والتنعم بالخدمة إنما تحصل بالمصابرة على التكره والتعب أولاً فإذا صبر عليه وصدق في صبره أفضى به إلى هذه اللذة.

وقال أبو زيد سقت نفسي إلى الله وهي تبكي فما زلت أسوقها حتى انساقت إليه وهي تضحك اهـ.

وقال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]

وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما فرضت الصلاة وأمر بالحج وأشعرت المناسك لإقامة

ص: 287

ذكر الله» . رواه أبو داود ولهذا كانت عنوان على الفلاح قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ} [التوبة: 18] . الآية.

والمراد بعمارتها بالصلاة والقربات وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فشاهدوا له بالإيمان» ، فإن الله يقول:{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة: 18] .

وجاء ذكر الصلاة في القرآن في مواضع كثيرة وأثنى جل وعلا على المقيمين لها والمحافظين عليها وأخبر أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ومن دعاء الخليل عليه السلام أنه يسأل ربه أن يجعله مقيمًا لها قال تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم: 40] .

ومدح بها إسماعيل قال تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم: 55] . وأمر جل وعلا موسى بإقامتها أول ما يأمره به في ساعات الوحي الأولى قال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] . وقال له ولهارون: {أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلَاةَ} [يونس: 87] .

وفي وصية لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ} [لقمان: 17] الآية وينطق الله عيسى وهو في مهده فيقول: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم: 31] .

ويأمر الله بها صفوة خلقه وخاتم أنبيائه فيقول جل وعلا: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ} [العنكبوت: 45] . ويقول جل وعلا وتقدس: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] .

ص: 288

ويبتدؤ بها أوصاف المؤمنين ويختم بها فيقول سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] . الآيات إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34] .

ويؤكد المحافظة عليها حضرًا وسفرًا وفي الأمن والخوف والسلم والحرب {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] .

وأخبر جل وعلا عمن أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات أن عاقبة أعمالهم وسوء مآلهم شر وخسران فقال: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم: 59] .

وجعلها النبي صلى الله عليه وسلم الشعار الفاصل بين المسلم والكافر فقال بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة وقال العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر وفي الحديث الآخر من ترك الصلاة متعمدًا فقد برئت منه ذمة الله ورسوله وقال صلى الله عليه وسلم: «من فاتته صلاة فكأنما وتر أهله وماله» .

ومما يدل على عظم شأن الصلاة مع ما تقدم اهتمام المسلمين بتوجيه المحتضر وهو في سكرات الموت إلى القبلة وكذلك وضعه في قبره متجهًا إلى القبلة وما ذاك إلا لأنها الجهة التي يتجه إليها كلما أراد أن يتعرف إلى ربه ويدعوه ويجدد الصلة بينه وبين ربه في الصلاة.

عَلَى الصَّلَواتِ الخَمْسِ حَافظْ فَإِنَّهَا

لآكَدُ مَفْرُوضِ عَلَى كُلِّ مُهْتَدِ

فَلا رُخْصَةِ في تَرْكِهَا لِمُكَلَّفِ

وَأَوْلَ مَا عَنْه يُحَاسَبُ في غدِ

بِإِهْمَالِها يَسْتَوجِبُ المَرَءُ قَرْنَهُ

بِفرعونَ مَعْ هَامانَ في شَرِّ مَوْرِدِ

وَمَا زَالَ يُوصِي بِالصَّلاة نَبِيُّنَا

لَدَى الموتِ حَتَّى كَلَّ عن نُطْقِ مِذْوَدِ

والله أعلم وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 289

‌34- "موعظة

"

عباد الله ما بال الكثير اليوم لا يسمعون، وإذا سمعوا لا ينتفعون، أفي آذانهم صمم؟ أم هم في الأمر متهاونون؟ ولأي شيء يجتمعون ويقوم فيهم الخطباء المجيدون، والوعاظ المبلغون، ويذكرونهم أيام الله فلا يخشع الوعاظ ولا الموعظون، ويرغبونهم في الخير فلا يسارعون، وينذرونهم عواقب السوء فلا يتأثرون {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83] . لقد كان السلف الصالح إذا وعظوا تأثر المستمع لهم تأثرًا عظيمًا، وفارق ما عنده من المنكرات، والمحرمات، وفارق من أصر عليها من أقاربه، وأولاده، وإخوانه وآبائه، وجدد توبة نصوحًا، عما سلف له من الأعمال، التي لا يرتضيها الدين الإسلامي، فأين أولئك من هؤلاء الخلف، الذين ضيعوا تعاليم الدين الإسلامي، وضيعوا العمل به، وتركوا الانقياد لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، تأمل كيف ترى أكثرهم أضاعوا الصلاة، وعطلوا الأحكام، وتساهلوا بأمر الحرام، يمرون بالمساجد، وقت الصلاة، فلا يعيرونها أي اهتمام أما الملاهي والمنكرات فإليها يسرعون وعليها يعكفون وإلى ما فيها من الأغاني والمجون والسخف يتسابقون فإنا لله وإنا إليه راجعون، أين الخوف من الجبار، أين الحياء من فاطر الأرض والسموات، أين المروءة والاعتصام بالقرآن، وما كان عليه آباؤكم وأجدادكم العباد الكرام، الذين كانت المساجد تغص بهم شيوخًا وشبانًا، وكانت تعج بأصواتهم تسبيحًا، وتحميدًا وتهليلاً، وتكبيرًا، واستغفارًا، وقرآنًا، وكانوا يؤمون المساجد قبل الأذان زرافات ووحدانا، ولا يتخلف منهم إلا معذور، إما مريض أو غائب، أو نحو ذلك، وكان المار ببيوتهم ليلاً يسمع زجل التسبيح، والتهليل، والبكاء والأنين

ص: 290

والتضرع إلى بديع السموات والأرض، والإلحاح بدعائه، والالتجاء إليه والإنابة، عكس ما عليه هؤلاء الخلف، الذين صدق عليهم قول الله تعالى:{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم: 59] . الذين إن بحثت عنهم في الليل، وجدتهم حول الملاهي والمنكرات، متربعين أمام التلفزيون، وغناء المطربين، وإن بحثت عنهم في صلاة الفجر وجدتهم في فرشهم، إثر سهرهم حول تلك المنكرات، وإن بحثت عنهم وقت صلاة الظهر ففي شئون الدنيا، وما يتعلق بها، وإن أردتهم في صلاة العصر، وجدت بعضهم عند الكرة، والبعض عند التلفزيون، والبعض عند المذياع، وأغانيه وملاهيه، وإن سألت عنهم وقت صلاة المغرب، وجدت بعضهم يمشي مترددًا، والبعض في الملعب، والبعض عند التلفزيون، أو المذياع، وأما العشاء الآخرة فتلك هم فيها أقسام أكثرهم حول التلفزيون أو في الأسواق، أو يلعبون ورقة، أو نحو ذلك من المنكرات وهكذا قتلوا أوقاتهم الثمينة، وضيعوها، وقضوا على مستقبلهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله والله أعلم بما أراده بعباده، قال تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41] .

والحالة هذه مخيفة لذوي العقول والفهوم، لا سيما وقد توالت أسباب الهناء والراحة، والسرور، والاطمئنان، وقد قيل إذا رأيت الله تعالى أنعم على عبد وهو مقيم على معصيته فاعلم أنه مستدرج.

وروى عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته فإنما ذلك استدراج» ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم

ص: 291

بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] .

وقال قتادة ما أخذ الله قومًا إلا عند سكرتهم وغرتهم، ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون.

اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌35- "موعظة

"

إخواني إن في مواعظ الأيام والليالي لعبرة لذوي البصائر ركائب أموات تزعج عن مقصورات القصور ثم تحمل إلى مضائق القبور، فكم قد شاهدتم من شخصيات في الأرض، قد وضعت، وكم قد عاينتم من أبدان ناعمة في الأكفان قد لفت وإلى مضيق الألحاد قد زفت فيا لها من غاية يستبق إليها العباد ويا له من مضمار يتناوبه جواد بعد جواد ويا له من هول شديد يعقبه أهوال شداد فتنة قبور وحشر في موقف مهيل موقف فيه تنقطع الأنساب وتخضع فيه الرقاب وتنسكب فيه العبرات وتتصاعد فيه الزفرات ذلك موقف تنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموازين، ويمد فيه الصراط، وحينئذ يقع الامتياز فناج مسلم ومكردس في النار.

دخل عمر بن عبد العزيز رحمه الله على سابق البربري وهو يتمثل بالأبيات المشهورة من قصيدة الأعشى.

أَجِدَّكَ لمْ تَذْكُرْ وِصَاةَ مُحَمَّدٍ

نَبِيّ الإلهِ حِيْنَ أَوْصَى وَأَشْهَدَا

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التَّقَى

وَأَبْصَرْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا

نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لا تَكُوْنَ كَمِثْلِهِ

ص: 292

وَأَنَّكَ لَمْ تُرْصِدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا

فغشي على عمر رحمه الله فلما أفاق قال زدنا فقال القصيدة التي تلي:

بِاسْمِ الذِي أَنْزِلَتْ مِنْ عِنْدِهِ السُّوَرُ

الحَمْدُ للهِ أَمَّا بَعْدُ يَا عُمَرُ

إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ مَا تُبْقِى وَمَا تَذَرُ

فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ قَدْ يَنْفَعُ الحَذَرُ

واصْبِرْ عَلَى القَدَرِ المَقْدُورِ وارْضَ به

وَإِنٍ أَتَاكَ بِمَا لا تَشْتَهِي القَدَرُ

فَمَا صَفَى لامْرِئٍ عَيْشٌ يُسَرُّ بِهِ

إِلا وَأَعْقِبَ يَوْمًا صَفْوُهُ كَدَرُ

قَدْ يَرعَوِي المَرْءُ يَوْمًا بَعْدَ هَفْوَتِهِ

وَتُحْكمُ الجَاهِلَ الأَيَّامُ والعِبَرُ

إِن التُّقَى خَيْرُ زَادٍ أَنْتَ حَامِلُهُ

وَالبِرُّ أَفْضَلَ مَا تَأَتِي وَمَا تَذَرُ

مَن يَطْلُبِ الجَوْرَ لا يَظْفُرْ بِحَاجَتِه

وَطَالِبُ العَدْلِ قَدْ يُهْدَى لَهُ الظَّفَرُ

وَفي الهُدَى عِبَرٌ تُشْفَى القُلُوبُ بِهَا

كَالغَيْثِ يَحْيَى بِهِ مَنْ مَوتِهِ الشَّجَرُ

وَلَيْسَ ذُو العِلْمِ بالتَّقْوَى كَجَاهِلِهَا

وَلا البَصِيرُ كَأَعْمَى مَالَهُ بَصَرُ

وَالذِّكْرُ فِيْهِ حَيَاةٌ لِلْقُلُوبِ كَمَا

تَحْيَا البِلادُ إِذَا مَا جَاءَهَا المَطَرُ

والعِلْمُ يَجْلُو العَمَى عَن قَلْبِ صَاحِبه

كَمَا يُجَلِّي سَوادَ الظُّلمَةِ القَمَرُ

لا يَنْفَعُ الذِّكْرُ قَلْبًا قَاسِيًا أَبدًا

وَهَلْ يَلِيْنُ لِقَوْلِ الوَاعِظِ الحَجَرُ

ما يَلْبَثُ المَرْءُ أَنْ يَبْلَى إِذَا اخْتَلَفت

يَوْمًا عَلَى نَفْسِهِ الرَّوْحَاتُ وَالبِكَرُ

وَالَمْرءُ يَصْعَدُ رَيْعَانُ الشَّبَابِ بِهِ

وَكُلُّ مُصْعِدَةٍ يَوْمًا سَتَنْحَدِرُ

وَكُلُّ بَيِتٍ سَبَيْلَى بَعْدَ جِدَّتِهِ

وَمِن وَرَاءِ الشَّبَابِ المَوْتُ والكِبَرُ

والمَوْتُ جَسْرٌ لِمَنْ يَمْشِيْ عَلَى قَدَمِ

إِلى الأُمُورِ التِي تُخْشَى وَتَنْتَظَرُ

فَهُمْ يَمُرُّونَ أَفْوَاجًا وَتَجْمَعُهَم

دَارٌ يَصِيْرُ إِلَيْهَا البَدْو والحَضَرُ

كَمْ جَمْعُ قَوْمٍ أَشَتَّ الدَّهُر شَمْلَهُم

وَكُلُّ شَمْلٍ جَمِيْعٍ سَوْفَ يَنْتَثِرُ

وَرُبَّ أَصْيَدَ سَامَ الطَّرْفِ مُقْتَضِبًا

ص: 293

بَالتَّاج نِيْرانُه لِلْحَرْبِ تُسْتَعرُ

يَظَلُّ مُفْتَرِشَ الدِّيْبَاجِ مُحْتَجِبًا

عَلَيْهِ تُبْنِى قِبَابُ المُلْكِ وَالحُجَرُ

إِلى الفَنَاءِ وَإِن طَالَتْ سَلامَتُهُم

مَصِيْرُ كُلِّ بَنِي أنثَى وَإِنْ كَبُرُوا

إِذَا قَضَتْ زُمْرٌ آجالَها نَزَلَتْ

عَلَى مَنَازِلِهِم مِنْ بَعْدِهَا زُمَرُ

أَصْبَحْتُمْ جُزُرًا لِلْمَوْتِ يَأْخُذُكُمْ

كَمَا البَهَائِمُ فِي الدُّنْيَا لَكُمْ جُزُرُ

أَبَعْدَ آدَمَ تَرْجُونَ الخُلُودَ وَهَل

تَبْقَى الفُرُوعُ إِذَا مَا الأَصْلُ يَنْعَقِرُ

وَلَيْسَ يَزْجُرُكُمْ مَا تُوعَظُونَ بِهِ

وَالبَهْمُ يَزْجُرُهَا الرَّاعِي فَتَنْزَجِرُ

لا تَبطُرُوا واهْجُروا الدُّنْيا فإِنَّ لهَا

غِبًا وَخِيْمًا وَكُفْرُ النِّعْمَةِ البَطَرُ

ثُمَّ اقْتَدُوا بالأُوْلَى كَانُوا لَكُمْ غُرَرًا

وَلَيْسَ مِن أُمَّةٍ إِلا لَهَا غُرَرُ

مَتَى تَكُونُوا عَلَى مِنْهَاجِ أَوَّلِكُمْ

وَتَصْبِرُوا عَن هَوَى الدُّنْيَا كَمَا صَبَرُوا

مَالِي أَرَى النَّاسَ والدُّنْيَا مُوَليَّةٌ

وَكُلُّ حَبْلِ عَلَيْهَا سَوْفَ يَنْبَتِرُ

لا يَشْعُرُونَ إِذَا مَا دِيْنَهُم نُقِصُوا

يَوْمًا وَإِنْ نُقِصَتْ دُنْيَاهُم شَعِرُوا

حَتَّى مَتَى أَكُ في الدُّنْيا أَخَا كَلَفٍ

في الخَدِّ مِنِّي إِلى لَذَّاتِهَا صَعرُ

وَلا أَرَى أَثَرًا لِلذكْرِ في جَسَدِي

وَالحَبْلُ في الحَجَرِ القَاسِي لَهُ أَثَرُ

لَوْ كَانَ يَسْهِر لَيِْلي ذِكْرُ آخِرتِي

كَمَا يُؤرِّقَنِي لِلْعَاجِلْ السَّفَرُ

إِذَا لِدَاوَيْتُ قَلْبًا قَدْ أَضَرَّ بِهِ

طُولُ السِّقامِ وَكَسْرُ العَظْمِ يَنْجَبِرُ

ثُمَّ الصَّلاةُ عَلَى المَعْصُومِ سَيِّدِنَا

مَا هَبَّت الرِّيْحُ واهْتَزَّتْ بِهَا الشَّجَرُ

اللهم ثبت إيماننا ثبوت الجبال الراسيات واشرح صدورنا للإسلام وثبتنا عليه واجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 294

‌36- "موعظة

"

عباد الله: سنة الله في خلقه أن لا يؤاخذ مذنبًا بذنب اقترفه، أو جريمة اجترمها، أو جريرة ارتكبها إلا بعد أن يبين لهم ما ينبغي أن يتقوه من محارمه، ويجتنبوه من الموبقات، المؤدية بهم إلى هوة الهلاك والدمار، وقد أرسل الله جل وعلا إلى هذه الأمة الإسلامية محمدًا رسوله صلى الله عليه وسلم النبي الأمي {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 157] . وأنزل عليه كتابه الكريم: {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 28]، {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16] . فيه هدى، وتبيانًا لكل شيء مما يحتاج إليه الناس في دنياهم وأخراهم، فاستمسك المسلمون مدة من الدهر بهديه، وتخلقوا بآدابه، فكانوا في ذلك الحين أهل الحول والطول والقوة والمنعة، تعنو لهم الوجوه، وتخضع لهم الرقاب فلم يقم لهم منازع إلا ابتزوا ملكه، واستباحوا مكان العزة منه، وأخذوا بطرفي الشرق والغرب، وكانوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالله، كانوا في تلك الأزمان يعملون بطاعة الله ويتقونه، ويحسنون في عبادته وإلى عباده، ويصبرون عن معاصيه، وعلى أقداره، فكان الله معهم بعونه وتوفيقه، ونصره وتأييده وتسديده، يا عباد الله كان كبراء الناس وسادتهم في الصدر الأول أشد الناس ظهورًا بالتمسك بالدين تقتدي بهم العامة في توحيدهم وعباداتهم ومعاملاتهم، فانعكست علينا الآن القضية، وصار العامة أشد تمسكًا بالدين، وأرسى عقيدة، من أولئك، وأصبح كثير من المتعلمين الذين يزعمون أنهم مثقفون،

ص: 295

يحملون المؤهلات المعروفة أزهد الناس في الدين، وأبعدهم عن تعاليمه، نبذه كثير منهم كما تنبذ النواة، لا لأنهم وقفوا على عيب في الدين، أو هفوة في أصوله، ولكنهم مقلدون في هذا الضلال لقوم عرفوا {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم: 7] .

ورأوا تكاليف الدين وتعاليمه لا تتفق مع شهواتهم وملاذهم، فاتخذوا الخروج عن تكاليفه للحصول على ملاذ الحياة، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] .

اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك وألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا للقيام بحقك وخلصنا من حقوق خلقك ورضنا باليسير من رزقك يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج، يا قاضي الحاجات ومجيب الدعوات هب لنا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في صدور الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌37- "موعظة

"

عباد الله أين الذين سادوا وشادوا أوطانا، وحكموا وأحكموا بنيانًا، وجمعوا فحشدوا أموالاً وأعوانًا عوضوا بأرباح الهوى خسرانا، وبدلوا بإعزاز الكبر والتجبر هوانا وأخرجوا من ديارهم بعد الجموع وحدانا، وما استصحبوا مما جمعوا إلا أكفانا.

نَصِيْبُك مِمَا تَجْمَعَ الدَّهْرَ كُلَّهُ

رِدَاءانِ تُطْوَي فِيْهَما وَحَنُوْطُ

ص: 296

آخر:

فَمَا تَزودَ مِمِا كَانَ يَجْمَعُه

سِوَى حَنوط غداة البين في خرق

وغير نِفحة أعوادٍ تشبُّ لَهُ

وَقَلّ ذلك مِن زاد لمنطلق

يحملون على الأعناق ولا يسمون ركبانا، وينزلون بطون الإلحاد ولا يسمون ضيفانا، متقاربين في القبور ولا يسمون جيرانا.

أو ليس قد رأينا كيف ينقلون ولا كفانا، فيا من قد بقي من عمره القليل ولا يدري متى يقع الرحيل، كأنك بطرفك حين الموت يسيل والروح تنزع والكرب ثقيل، والنقلة قد قربت وأين المقيل، أفي الجنة ونعيمها والسلسبيل أم في الجحيم وأنكالها وأغلالها وبئس المقيل.

يا من تعد عليه أنفاسه استدركها، يا من ستفوته أيامه أدركها، إن أعز الخلق عليك نفسك فلا تهلكها كم أغلقت بابا على قبيح، وكم أعرضت عن قول المخلص النصيح، أعظم الله أجرك في عمر قد مضى ما رزقت فيه العفو ولا الرضى.

انقضت فيه اللذات كمن قضى، وصارت الحسرات من الشهوات عوضا، قال الله جل وعلا وتقدس:{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39] . وقال تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56] . والله أعلم وصلى الله على محمد.

ص: 297

‌38- "موعظة

"

عباد الله ما هذه الغفلة وأنتم مستبصرون وما هذه الرقدة وأنتم مستيقظون كيف نسيتم الزاد وأنتم راحلون، أين ما كان قبلكم ألا تتفكرون أما رأيتم كيف نازلهم المنون {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50] .

عباد الله لو حضرت القلوب لجرت من العيون عيون فكأنكم بالآلام قد اعترضت، وبالأجسام قد انقضت، وبالأوصال قد فصلت، فرحم الله عبدًا أعتق نفسه من رق شهواتها ونظر لها قبل مماتها وأخذ من جدته عتادًا لفقره وادخر من صحته زاد لقبره قبل أن يفوت زمن الاستدراك بوقوع الهلاك.

فكأنكم بالموت قد حل العراص، وأنشب مخاليبه في الأرواح للاقتناص، وأين لكم الفلات فلات حين مناص ثم يقومون للحساب والجزاء والقصاص.

وإذا الخلائق قد حشرت، وإذا الصحف قد نشرت، وإذا جهنم قد سيقت ومرارة الندم قد ذيقت، فستنطق عليكم الجوارح وتنشر حين القضاء الفضائح.

فيا خجل المقصرين ويا أسف المذنبين ويا حسرة المفرطين ويا سوء منقلب الظالمين، قال الله جل وعلا وتقدس {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء} [إبراهيم: 43] .

وقال تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227] .

خَفِ اللهِ في ظلمِ الورَى واحْذَرَنَّهُ

وَخَفْ يومَ عض الظالمين على اليد

ص: 298

اللهم سلمنا من شرور أنفسنا التي هي أقرب أعدائنا وأعذنا من عدوك واعصمنا من الهوى ومن فتنة الدنيا ومكن محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وفرح قلوبنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌39- "موعظة

"

عباد الله اغتنموا مواسم الطاعات فأيام المواسم معدودة وانتهزوا فرص الأوقات فساعات الإسعاد محدودة وجدوا في طلب الخيرات فمناهل الرضوان مورودة وقوموا على قدم السداد واتقوا الله الذي إليه تحشرون.

وكونوا من الذين يدعون ربهم خوفًا وطمعًا ومما رزقهم ينفقون قال تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 19] .

فيا سعادة أولى الطاعات الذين اجتباهم مولاهم لدار السلام واصطفاهم لحظيرة قدسه وأوردهم مناهل الإنعام وأولاهم حلاوة الأنس ووالاهم بمواهب الإكرام وسقاهم من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

ويا مسرة من شاهد معالم الرشد فسلك مسالكه وكان من المستبشرين الذين يوم القيامة وجوهم مسفرة ضاحكة لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.

فتدبروا عباد الله الأمر وانظروا بعين الناقد البصير وتذكروا العرض يوم الفزع الأكبر بين يدي رب العالمين العليم الخبير واعلموا أن الظالمين ما لهم من

ص: 299

ولي ولا نصير "يوم يقال"{هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] .

شعرًا:

لا تَبْكِ للدُّّنْيَا ولا أَهْلِهَا

وابْكِ لِيَوْمٍ تَسْكُنِ الحَافرة

وابْكِ إذا صِيْحَ بِأهلِ الثَّرى

فاجْتَمَعُوا في سَاعَةِ السَّاهِرة

وَيْلَكِ يَا دُنْيَا لَقَدْ قَصَّرَتْ

آمَالُ مَن يَسْكُنُكِ الآخرة

آخر:

واذْكُرْ مُنَاقَشِةَ الحِسَابِ فَإِنَّهُ

لا بُدَّ يُحْصَى مَا جَنَيْتَ وَيُكْتَبُ

لَمْ يُنْسَهُ المَلَكَانِ حِيْنَ نَسِيْتَهُ

بَلْ أَثْبَتَاهُ وَأَنْتَ لاهٍ تَلْعَبُ

اللهم ثبت محبتك في قلوبنا ثبوت الجبال الراسيات واشرح صدرنا ويسر أمورنا وألهمنا ذكرك وشكرك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

(فصل)

إذا فهمت ذلك فاعلم أنه ينبغي لمن آيس من حياته بل يستحب له ويتأكد أن يكثر من قراءة القرآن والأذكار ويكره له الجزع وسوء الخلق والشتم والمخاصمة والمنازعة في غير الأمور الدينية في الدفاع عنها ويستحب أن يكون شاكرًا لله تعالى بقلبه ولسانه ويستحضر في ذهنه أن هذا آخر أوقاته من الدنيا فيجتهد على ختمها بخير ويكثر من قول لا إله إلا الله.

ويبادر إلى أداء الحقوق إلى أهلها من رد المظالم والعواري والودائع والغصوب ويستحل أهله وزوجته ووالديه وأولاده وغلمانه وجيرانه

ص: 300

وأصدقاءه وزملاءه وكل من كانت بينه وبينه معاملة أو مصاحبة في سفر أو غيره أو له تعلق بشيء.

وأخرج البيهقي وابن عساكر عن عبادة بن محمد بن عبادة بن الصامت قال لما حضرت عبادة رضي الله عنه الوفاة قال أخرجوا إلي موالي وخدمي وجيراني ومن كان يدخل علي فجمعوا له فقال إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم يأتي علي من الدنيا وأول ليلة من الآخرة.

وإني لا أدري لعله قد فرط مني إليكم بيدي أو بلساني شيء وهو والذي نفسي بيده القصاص يوم القيامة وأحرج إلى أحد منكم في نفسه شيء من ذلك إلا اقتص مني من قبل أن تخرج نفسي فقالوا بل كنت والدًا وكنت مؤدبًا قال وما قال لخادم سوءًا قط فقال أعفوتم ما كان من ذلك؟ قالوا! نعم قال اللهم اشهد

إلخ.

وورد أن عبد الله بن عمرو لما حضرته الوفاة قال انظروا فلانًا فإني كنت قلت له في ابنتي قولاً كشبه العدة فما أحب أن ألقى الله بثلث النفاق فأشهدكم أني قد زوجته.

وينبغي أن يوصي بأمور أولاده إن لم يكن جد يصلح للولاية ويوصي بما لا يتمكن من فعله في الحال من قضاء الديون ونحو ذلك وأن يكون حسن الظن بالله تعالى راجيًا عفوه ومغفرته ورحمته وإحسانه.

ويستحضر في ذهنه أنه حقير في مخلوقات الله تعالى وأن الله تعالى غني عن عذابه وعن طاعته وأنه عبده ولا يطلب العفو والإحسان والصفح والامتنان إلا منه جل وعلا وتقدس.

ويستحب أن يكون متعاهدًا نفسه بقراءة آيات من القرآن العزيز في الرجاء وكذلك أحاديث الرجاء يقرؤها أو يجعل من يقرؤها عليه وأن يكون

ص: 301

خيره متزايدًا ويحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها.

ويجتنب النجاسات ويحرص على التطهر ويصبر على مشقة ذلك وكذا باقي وظائف الدين يحرص على أدائها كاملة مكملة وليحذر من التساهل في ذلك فإنه أقبح القبائح أن يكون آخر عهده من الدنيا التي هي مزرعة الآخرة التفريط فيما وجب عليه أو ندب إليه.

وليجتهد في ختم عمره بأكمل الأحوال ويستحب أن يوصي أهله وأصحابه بالصبر عليه في مرضه واحتمال عما يصدر منه ويوصيهم أيضًا بالصبر على مصيبتهم به ويوصيهم بالرفق بمن يخلفه من طفل وغلام وجارية ويوصيهم بالإحسان إلى أصدقائه ويعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه» .

وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكرم صواحبات خديجة رضي الله عنها بعد وفاتها.

ويوصيهم بتعاهده بالدعاء وفعل ما يقرب إلى الله وينوي الثواب له وذلك كالحج والصدقة والأضحية وطبع المصاحف والكتب الدينية المقوية للشريعة المحمدية والإعانة على بناء المساجد.

وكالعين الجارية ونحو ذلك ويوصيهم بأن لا ينسوه بل يتعاهدوه بالدعاء له ولوالديه.

ويتسحب أن يقول لهم في وقت بعد وقت متى رأيتم مني تقصيرًا في شيء انهوني عنه برفق ولطف لأن النفس تضعف في ذلك الوقت وأدوا إلي النصيحة في ذلك فإني معرض للغفلة والسهو والكسل والإهمال فإذا قصرت فنشطوني وعاونوني على التأهب لهذا السفر البعيد والتغرب المخيف.

وإذا حضره النزع فليكثر من قول لا إله إلا الله لتكون آخر كلامه فيا

ص: 302

له من ختام ويا له من طابع، فعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» .

ويستحضر أحاديث الرجاء مثل حديث أبي ذر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم ثم أتيته وقد استيقظ فقال «ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة قلت وإن زنى وإن سرق قال وإن زنى وإن سرق» الحديث متفق عليه.

وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قد قتلوا وأكثروا وزنوا وأكثروا فأتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا إن الذي تدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة فنزل: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] . الآيتين – ونزل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] الآية. ونحو هذه الآية والأحاديث التي سبقت.

شعرًا:

إِذَا أَتَى اللهُ يَومَ الحَشرِ في ظُلَلٍ

وَجِيءَ بِالأُمَمِ المَاضِينَ والرُّسُلِ

وَحَاسَبَ الخَلْقَ مَنْ أَحْصَى بِقُدرَتِه

أَنْفَاسَهُم وتَوفَّاهُم إِلى أَجَلِ

وَلَمْ أَجِدْ في كِتَابِي غَيْرَ سَيِّئَةٍ

تَسُوءني وَعَسَى الإِسْلامُ يَسْلَمُ لِي

رَجَوتُ رَحْمَةَ رَبِّي وهي وَاسِعُةٌ

وَرَحْمَةُ اللهِ أَرْجَى لِي مِنَ العَمَلِ

اللهم اجعل في قلوبنا نورًا نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك فالعزيز من لاذ بعزك والسعيد من التجأ إلى حماك وجودك والذليل من لم تؤيده بعنايتك والشقي من رضي بالإعراض عن طاعتك اللهم نزه قلوبنا عن التعلق بمن دونك واجعلنا من قوم

ص: 303

تحبهم ويحبونك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌40- "موعظة

"

عباد الله إن قوارع الأيام خاطبة، فهل أذن لعظاتها واعية، وإن فجائع الموت صائبة فهل نفس لأمر الآخرة مراعية، إن مطالع الآمال إلى المسارعة إلى الخيرات ساعية ألا فانظروا بثواقب الأبصار والبصائر في نواحي الجهات والأقطار فما ترون في حشودكم وجموعكم إلا الشتات ولا تسمعوا في ربوعكم إلا فلان مريض وفلان مات أين الآباء الأكابر أين العلماء العاملون بعلمهم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم المناصحون لولاتهم وأمتهم الزاهدون في حطام الدنيا الفانية أين الكرماء الأفاضل الذين يغارون إذا انتهكت المحارم أين الهاجرون المصارمون للفاسق والفاجر أين المناصرون للقائم على أهل المعاصي والكبائر أين أهل الولاء والبراء المحبون في الله المبغضون لأعدائه.

أين المنقون لمآكلهم وملابسهم ومساكنهم عن الحرام والمشتبه وهو ما كان القلب في الإقدام عليه والكف عنه حائر.

أين الذين لا يسكنون إلا برضا صاحب الملك خوفًا من المخاطرة في صلاتهم وصيامهم ونكاحهم ومكثهم في الأملاك المسكونة قهرًا وغصبًا.

أين المتفقدون للفقراء والمساكين الذين ليس لهم موارد.

عثرت والله بهم العواثر وأبادتهم السنين الغوابر وبترت أعمارهم الحادثات البواتر واختطفهم عقبات كواسر. وخلت منهم المشاهد والمحاضر وعدمت من أجسادهم تلك الجواهر وطفئت من وجوههم الأنوار الزواهر

ص: 304

وابتلعتهم الحفر والمقابر إلى يوم تبلى السرائر فلو كشفت عنهم أغطية القبور بعد ليلتين أو ثلاث ليال لرأيت الأحداق على الخدود سائلة والأوصال بعضها عن بعض مائلة وديدان الأرض في نواعم تلك الأبدان جائلة والرءوس الموسدة على الأيمان زائلة ينكرها من كان عارفًا بها وينفر عنها من لم يزل آلفًا بها.

فلا يعرف السيد من المسود ولا الملك من المملوك ولا الذكي من البليد ولا الغني من الفقير فرحم الله عبدًا بادر بالإقلاع عن السيئات وواصل الإسراع والمبادرة في الأعمال الصالحات قبل انقطاع مدد الأوقات وطي صحائف المستودعات ونشر فضائح الاقترافات والجنايات فلا تغتروا بحياة تقود إلى الممات فورب السماء والأرض إنما توعدون لأت فالبدار البدار قبل أن تتمنوا المهلة وهيهات.

شعرًا:

نَمْضِي عَلَى سُبُلٍ كَانُوا لَهَا سَلَكُوا

أَسْلافُنَا وَهُمْ لِلْدِّيْن قَدْ شَادُوْا

لَنا بِهِمْ أُسْوَةٌ إِذْ هُمْ أَئِمَّتُنَا

وَنَحْنُ لِلْقَوْمِ أَبْنَاءٌ وَأَحْفَادُ

وَالصَّبْرُ يَا نَفْسُ خَيْرٌ كَلُّهُ وَلَهُ

عَوَاقِبٌ كُلُّهَا نُجْح وَإِمْدَادُ

فَاصْبِرْ هُدِيْتَ فَإنَّ المَوْتَ مُشْتَرَكٌ

بَينَ الأَنَامِ وإنْ طَاوَلْنَ آمَادُ

وَالنَّاسُ في غَفَلاتٍ عَنْ مَصَارِعِهِمْ

كَأَنَهُمْ وَهُمْ الأَيْقَاظُ رُقَّادُ

دُنْيا تَغُرُّ وَعَيْشٌ كُلُّهُ كَدَرٌ

لَوْلا النُّفُوسُ التِي لِلْوَهْمِ تَنْقَادُ

كُنَّا عَدَدنَا لِهَذَا المَوْتِ عُدَّّّتَهُ

قَبْلَ الوَفَاةِ وَأَنْ تُحْفَرْنَ أَلْحَادُ

فَالدَّارُ مِنْ بَعْدِ هَذِي الدَّارِ آخِرَةٌ

تَبْقَى دَوَامًا بِهَا حَشْرٌ وَمِيْعَادُ

وَجَنَّةٌ أُزْلِفَتْ لِلْمُتَّقِيْنَ وَاَهْـ

ـلُ الحَقِّ وَالصَّبْرِ أَبْدَالٌ وَأَوْتَادُ

فَاعْمَلْ لنَفْسُكَ مِنْ قَبْلِ المَمَاتِ وَلا

تَعْجَلْ وَتَكْسَلْ فَإِنَّ المَرْءَ جَهَّادُ

لا يَنْفَعُ العَبْدَ إِلا مَا يُقَدِّمُهُ

ص: 305

فَبَادِرِ الفَوْتَ وَاصْطَدْ قَبْلَ تَصْطَادُ

وَالمَوْتُ لِلْمُؤْمِنِ الأَوَّابِ تُحْفَتُهُ

وَفِيْهِ كُلُّ الذِي يَبْغِي وَيَرْتَادُ

اللهم يا عالم الخفيات ويا سامع الأصوات ويا باعث الأموات ويا مجيب الدعوات ويا قاضي الحاجات يا خالق الأرض والسموات أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد الوهاب الذي لا يبخل والحليم الذي لا يعجل لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك نسألك أن تغفر ذنوبنا وتنور قلوبنا وتثبت محبتك في قلوبنا وتسكننا دار كرامتك إنك على كل شيء قدير وصلى على محمد وآله وصحبه أجمعين.

‌41- "موعظة

"

عباد الله لا شيء أغلى عليكم من أعماركم وأنتم تضيعونها فيما لا فائدة فيه. ولا عدو أعدى لكم من إبليس وأنتم تطيعونه، ولا أضر عليكم من موافقة النفس الأمارة بالسوء وأنتم تصادقونها، لقد مضى من أعماركم الأطايب، فما بقي بعد شيب الذوائب.

يا حاضر الجسم والقلب غائب، اجتماع العيب مع الشيب من أعظم المصائب، يمضي زمن الصبا في لعب وسهو وغفلة، يا لها من مصائب، كفى زاجرًا واعظًا تشيب منه الذوائب، يا غافلاً فاته الأرباح وأفضل المناقب، أين البكاء والحزن والقلق لخوف العظيم الطالب أين الزمان الذي فرطت فيه ولم تخش العواقب، أين البكاء دما على أوقات قتلت عند التلفزيون والمذياع والكرة والسينماء والفيديو والخمر والدخان والملاعب واللعب بالورق والقيل والقال.

ص: 306

كم في يوم الحسرة والندامة من دمع ساكب على ذنوب قد حواها كتاب الكاتب، من لك يوم ينكشف عنك غطاؤك في موقف المحاسب، إذا قيل لك ما صنعت في كل واجب، كيف ترجو النجاة وأنت تلهو بأسر الملاعب، لقد ضيعتك الأماني بالظن الكاذب، أما علمت أن الموت صعب شديد المشارب، يلقي شره بكأس صدور الكتائب، وأنه لا مفر منه لهارب فانظر لنفسك واتق الله أن تبقى سليمًا من النوائب فقد بنيت كنسج العنكبوت بيتًا أين الذين علوا فوق السفن والمراكب أين الذين علوا على متون النجائب، هجمت عليهم المنايا فأصبحوا تحت النصائب وأنت في إثرهم عن قريب عاطب، فانظر وتفكر واعتبر وتدبر قبل هجوم من لا يمنع عنه حرس ولا باب ولا يفوته هرب هارب.

اللهم اسلك بنا مسلك الصادقين الأبرار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

اللهم أحي قلوبًا أماتها البعد عن بابك، ولا تعذبنا بأليم عقابك يا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالإفضال، اللهم أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌42- "موعظة

"

عباد الله لما كان الإنسان مكلفًا بالسعي والعمل لطلب الرزق من وجوهه المشروعة كان حقًا عليه أن يصون نفسه عن مسألة الناس.

وأن لا يمد يده لسؤالهم ولا يتقدم إليه لطلب حطام الدنيا إلا عند

ص: 307

الضرورة أو الحاجة الشديدة لأنه إذا قعد عن العمل ولزم البطالة والكسل ونظر لما في أيدي الناس من أوساخهم ساءت حاله، وضاعت آماله، وضعف توكله، وضاق عيشه، وانحطت نفسه، واعتاد السؤال الذي لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة:

الأول: إظهار الشكوى من الله تعالى، إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله عنه، وهو عين الشكوى، وكما أن العبد المملوك لو جعل يسأل وأنه ما يجد شيئًا لكان سؤاله تشنيعًا على سيده ولا يرضى بذلك ولله المثل الأعلى.

ولا سيما إذا أتى إلى بيت الله يسأله من فضله، ثم قام من حين ما يسلم الإمام وجعل يشرح حاله وفقره وأوقف الناس عن تهليلهم، وتسبيحهم، وتكبيرهم، والمساجد لم تبن إلا لذكر الله، والصلاة فيها وقراءة القرآن. وهذا المنكر قل من ينتبه له.

الأمر الثاني: أن في سؤال الناس إذلال لنفس السائل، وليس للإنسان أن يذل نفسه ويخضعها إلا لله، الذي في إذلالها عزه، فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا يذل لهم نفسه.

ثالثًا: أن فيه ظلم لنفسه إلا عند الضرورة أو الحاجة الشديدة وفيه أيضًا إيذاء للمسئول خصوصًا إذا كان مع إلحاح، والإيذاء حرام، فأي عاقل يرضى لنفسه بهذه الحالة التعسة، بل كيف يرضى أن يكون عضوًا أشلاً في الهيئة الاجتماعية لا يقام له وزن ولا تقام له قيمة.

وقد أثنى الله على الذين لا يسألون الناس إلحافًا وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق

ص: 308

عليه ولا يقوم فيسأل الناس» .

ففي زمننا الذي اختلط فيه الحابل بالنابل وصار عندهم الحلال ما وصل إلى اليد وذهب عنهم الورع والابتعاد عن الشبهات، على الإنسان أن يبذل جهده ويتثبت ولا يبذل زكاته إلى كل من مد يده، بل يسأل بدقة، ويتحقق من الأوراق التي تعرض عليه، التي صارت تصور وتباع وتشترى.

وربما حصل المتسول على أضعاف ما فيها ولو أن هؤلاء المتسولين الشحاذين استعملوا في طريق منتج من تجارة أو غيرها ما يصل إلى أيديهم من الصدقات لما بقي في الأمة منهم متسول، ولكن هؤلاء قوم ألفوا هذا العيش وركنوا إليه لا يدفعهم إليه فقر ولا يردهم عنه غنى، وكم ممن اكتشف فصار عنده ثروة، وهذا سببه عدم التثبت وإجراء العادات بدون سؤال هل اغتنى أم لا؟

وقد بين صلى الله عليه وسلم من يحل له السؤال وذلك فيما ورد عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال تحملت حمالة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال:«أقم حتى تأتينا الصدقة فآمر لك بها، ثم قال يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، أو رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش أو قال سدادًا من عيش» .

ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه يقولون لقد أصابت فلانًا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قوامًا من عيش أو قال سدادًا من عيش –فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتًا. رواه مسلم.

وقد ذكرنا الأحاديث التي تتضمن التغليظ الشديد في السؤال من غير ضرورة وذلك في موضوع "من تحل له الصدقة".

ص: 309

شعرًا:

غَفَلْتُ وَحَادِيْ المَوتِ فِي أَثَرِيْ يَحْدُو

فَإِنْ لَمْ أَرُُُُحْ يَوْمِيْ فَلا بُدَّ أَنْ أَغْدُ

أَنَعِّمُ جِسْمِيْ بِاللَّبَاسِ وَلِيْنِهِ

وَلَيْسَ لِجِسْمِيْ مِنْ لِبَاسِ البِلَى بُدُّ

كَأَنِّيْ بِهِ قَدْ مَرَّ في بَرْزخِ البِلَى

وَمِِنْ فَوْقِهِ رَدْمٌ وَمِنْ تَحْتِهِ لَحْدُ

وَقَدْ ذَهَبَتْ مِنِّيْ المَحَاسِنُ وَانْمَحَتْ

وَلَمْ يَبْقَ فَوْقَ العَظْمِ لَحْمٌ وَلا جِلْدُ

أَرى العُمْرَ قَدْ وَلَّى وَلَمْ أَدْرِك المُنَى

وَلَيْسَ مَعِيْ زَادٌ وَفي سَفَرِيْ بُعْدُ

وَقَدْ كُنْتُ جَاهَرْتُ المُهَيْمِنَ عَاصِيًا

وَأَحْدَثْتُ أَحْدَاثًا وَلَيْسَ لَهَا رَدُّ

وَأَرْخَيْتُ خَوْفَ النَّاسِ سِتْرًا مِنْ الحَيَا

وَمَا خِفْتُ مَنْ سِرّيْ غَدًا عِنْدَهُ يَبْدُو

بَلَى خِفْتُهُ لَكِنْ وَثِقْتُ بِحِلْمِه

وَأَنْ لَيْسَ يَعْفُو غَيْرُهُ فَلَهُ الحَمْدُ

فَلَوْ لَمْ يَكُنْ شَيءٌ سِوَى المَوْتِ والبلى

عَن اللَّهْوِ لَكِنْ زَالَ عَنْ رَأْيِنَا الرُّشْدُ

عَسَى غَافِرُ الزَّلاتِ يَغْفِرُ زَلَّتِي

فَقَدْ يَغْفِرُ المَوْلَى إِذَا أَذْنَبَ العَبْدُ

أَنَا عَبْدُ سُوْءٍ خُنْتُ مَوْلاي عَهْدَهُ

كَذَلِكَ عَبْدُ السُّوءِ لَيْسَ لَهُ عَهْدُ

فَكَيْفَ إِذَا أَحْرَقْتَ بِالنَّارِ جُثَّتِي

وَنَارُكَ لا يَقْوَى لَهَا الحَجَرُ الصَّلْدُ

أَنَا الفََرْدُ عِنْدَ المَوْتِ وَالفَرْدُ في البِلَى

وَأَبَعَثُ فَرْدًا فَارْحَمْ الفَرْدَ يَا فَرْدُ

اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة وارزقنا الإقبال على طاعتك والإنابة وبارك في أعمالنا وأعمارنا وأجزل لنا الأجر والإثابة وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 310

‌43- (موعظة)

عباد الله، اقتربت الساعة وقرب التحول والمسير، وأزفت الآزفة وليس هناك حميم ولا نصير وكتبت الصحيفة فلا نسيان لقليل ولا كثير {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [النمل: 75] .

تالله لقد غرت الأماني أكثر خلق الله فتركوا سبيل الهدى وأعرضوا عن دار التهاني والقرار فوقعوا في شرك الردى وتمادوا على التواني وظنوا أن يتركوا سدى ونسوا قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183] . وقوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3]، وقوله تعالى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 56] .

عباد الله كيف حالكم إذا قمتم من القبور حيارى حفاة عراة غرلاً، وقد عظمت الأهوال {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} [الحج: 2] . ولزمت الصحف الأعناق ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين.

كيف أنتم إذا سمعتم قول الجبار {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} [ق: 28]، {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] . وقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يس: 60] .

فعند ذلك يؤخذ المجرمون بالنواصي والأقدام، ويطرح في الجحيم من كان له على المعاصي جراءة وإقدام.

ويمرح بالنعيم من قدم الخيرات لدار السلام وعمل الباقيات الصالحات

ص: 311

ويحظى بجنة عرضها كعرض السماء والأرض فاتقوا الله عباد الله واسلكوا طريق الشرع القويم الذي لا اعوجاج فيه وقوموا بأوامر المنان ولا تتبعوا خطوات الشيطان.

واحذروا أن تكونوا ممن غرتهم الحياة الدنيا بزخارفها الزائلة وزينتها العاطلة وأولئك هم الذين تنقص الأيام والليالي آجالهم وهم لاهون وتجري بهم الأعوام إلى مراقد قبورهم وهم نائمون وتتخطفهم المنايا وهم لاعبون وتناديهم العبر والمواعظ وهم لا يسمعون ولا يبصرون ويرون ما وقع بالأمم من قبلهم وما نزل بآبائهم ولكن لا يفقهون والله سبحانه وتعالى أعلم بمآلهم وما إليه صائرون، إذا هم وصلوا إلى الغاية المفهومة من قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6] .

شعرًا:

يَا غَافِلاً عَمَّا خُلِقْتَ لَهُ انْتَبِهْ

جَدَّ الرَّحِيْلُ وَلَسْتَ بِاليَقْظَانِ

سَارَ الرَّفَاقُ وَخَلّفُوكَ مَعَ الأَوُلَى

قَنِعُوا بِذَا الحَظِّ الخَسِيْسِ الفَانِ

وَرَأَيْتَ أَكْثَرَ مَنْ تَرَى مُتَخَلِّّفًا

فَتَبِعْتَهُم وَرَضِيْتَ بِالحِرْمَانِ

لَكِنْ أَتَيْتَ بِخُطَّتَي عَجْزٍ وَجَهْـ

ـلٍ بَعْدَ ذَا وَصَحِبْتَ كُلَّ أَمَانِ

مَنَّتْكَ نَفْسُكَ بِاللَّحَاقِ مَعَ القُعُو

دِ عَن المَسِيْر وَرَاحَةِ الأَبْدَانِ

وَلَسَوفَ تَعْلَمُ حِيْنَ يَنكِشفُ الغِطَا

مَاذَا صَنَعْتَ وَكُنْتَ ذَا إِمْكَانِ

اللهم أيقظنا من غفلتنا بفضلك وإحسانك وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك وألحقنا بالذين أنعمت عليهم في دار رضوانك وارزقنا كما رزقتهم من لذيذ مناجاتك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 312

‌44- "موعظة

"

عباد الله إن كنتم في سعة من العيش فاحمدوا الله تعالى أن جعلكم من أهل الإيسار وأديموا شكره يدم عليكم النعمة ويزدها، وهو الكريم الجواد. ومن تمام النعمة أن تنسخوا من الزكاة بإخراجها كاملة إلى ذوي الحاجات لعلكم أن تفوزوا بالخلف والثواب الجزيل من فاطر الأرض والسموات، أحسنوا إلى عباد الله كما أحسن الله إليكم وراعوا عند الإحسان الأدب فلا تمنوا على الفقير ولا تؤذوه فإن ذلك محبط للأعمال واستروا عطاءكم مخلصين متيقنيين أن حاجتكم إلى الثواب وتكفير الذنوب أشد من حاجة الفقير إلى ما تخرجون. واعلموا أن إحسانكم إنما هو لأنفسكم واعصوا الشيطان فإنه يأمر بالبخل وينهى عن العطف على المساكين، يخيفكم إن تصدقتم أن يذهب مالكم وأنتم تعلمون أن نصيحة العدو مهلكة، وقد أخبر الله جل وعلا أن الشيطان للإنسان عدو مبين، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه ما من يوم يصبح العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقًا خلفًا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكًا تلفًا. رواه البخاري ومسلم.

اللهم اعصمنا عن المخالفة والعصيان وألهمنا ذكرك وشكرك يا كريم يا منان اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌45- "موعظة

"

عباد الله إن وجود الموت بين الناس موعظة كبرى لو كانوا يعقلون فإنه بلسان الحال يقول لكل واحد منا: سأنزل بك يومًا أو ليلة كما ترى

ص: 313

الناس بعينك يموتون وقد يكون لأحدهم من المال والجاه والقوة والجمال والعلم والفصاحة والمركز الدنيوي ما يدهش الناظرين له، وقد يكون قد طال عمره وطال أمله حتى مل ومل منه. وبين ما هو في حال من النشاط قوي مشدود أسره، ذو همة تضيق بها الدنيا، قد أقبلت عليه الدنيا من كل جهة، وزهت له، إذا تراه جثة هامدة أشبه بأعجاز النخل الخاوية لا حس له ولا حركة ولا أقوال ولا أفعال قد ضيق على من حوله وإذا لم يسرعوا به إلى الدفن يكون جيفة من الجيف تؤذي رائحتها الكريهة كل من قرب منها، هذا كله يكون بعد ذلك النشاط والقوى لأن هادم اللذات نزل به.

وبعد نزوله لا تسأل كان له ما كان، وفي الحال تصبح زوجته أرملة ويصبح أولاده أيتامًا. وفي الحال تقسم أمواله التي جمعها وقاسى على جمعها الشدائد. لأن الموت يزيل ملكه وينقله إلى ملك ورثته نقلاً تعجز عن نقضه الأيام، نعم إنه بالموت يزول ماله كله وهي أكبر مصيبة مالية.

وأكبر منها أنه يسأل عنه كله داخلاً وخارجًا من حلال أم من حرام وبعد مدة يسيرة ينسى هو وينسى ماله وينسى جاهه وينسى مركزه ومكانته ولو كان ملكًا أو وزيرًا وما كأنه رأته العيون ولا سمعت كلامه الأذان.

اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللهم أفض علينا من بحر كرمك وعونك حتى نخرج من الدنيا على السلامة من وبالها وارأف بنا رأفة الحبيب بحبيبه عند الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدنيا وغمومها بالروح والريحان إلى الجنة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 314

‌46- "موعظة

"

عباد الله إن القلوب إذا قست واستولى عليها حب الدنيا دواؤها النافع بإذن الله ذكر الله جل وعلا وتلاوة كتابه العزيز وزيارة المقابر لترى فيها بعينك ما صار إليه الأكابر والأصاغر ترى فيها الملوك والوزراء والوجهاء والجبابرة والظلمة والمتكبرين والفسقة صرعى في ضيق تلك الحفائر وقد كانت الدنيا على سعتها تضيق عما لهم من آمال وأماني.

وترى هناك أحباء الله وأولياءه وعباده الصالحين الكل حكم عليه العزيز الحكيم القهار بالموت فلبوا طائعين أو مكرهين وأصبح الكل منفردًا لا أنيس له إلا ما قدمه من الأعمال فالمطيع لله الذي امتثل ما أمر الله به وانتهى عما نهى الله عنه في روضة من رياض الجنة وعنده عمله الصالح.

وأما الآخر فلو أنطقه الله لقال لك كلامًا تقطع له القلوب حسرات يقول إن الحكم العدل جازاني بما استحق وإني بعذاب لا تحتمله الجبال الراسيات وإني مستحق لذلك لأني اغتررت بالدنيا وزخارفها فلم أعبأ بأوامر ربي ولا نواهيه واقتحمت الموبقات لذا صرت إلى ما لو رأيته لصعقت وذهلت وغشي عليك، وملئت رعبًا واشتعل شعرك شيبًا ولم تنتفع بعد قوله بأكل وشرب ورأيت أحداقًا على الخدود سائلة، ورأيت أعظمًا غير متماسكة وأوصالاً متقطعة ورأيت جماجمًا قد علاها الدود والخشاش كأنها الأنابيب ورأيت ما كان مجتمعًا متفرقًا رميمًا ورأيت الصديد والقيح يجري فيا له من منظر ما أفزعه ويا له من سفر ما أطوله.

والعجب ممن يزور القبور ويسمع ذلك ويصدق به ويأكل ويشرب وينام مطمئنًا ما كأنه سيساكنهم عن قريب، ماتت القلوب فأصبحت لا

ص: 315

تنتفع بالوعظ والتذكير ولا بزاجر الموت وهو أبلغ زاجر للأحياء فزر يا أخي القبور معتبرًا وانتبه من هذه الغفلة فالموت مهما مد في عمرك لا بد أن يأتيك فكن منه على حذر فإنه لا يؤمن أن يفجأك وأنت سارح في أوديه الدنيا. وما أكثر موت الفجأة في زمننا بواسطة السيارات والقز والكهرباء والطائرات ونحو ذلك.

اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، اللهم أفض علينا من بحر كرمك وعونك حتى نخرج من الدنيا على السلامة من وبالها وارأف بنا رأفة الحبيب بحبيبه عند الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدنيا وغمومها بالروح والريحان إلى الجنة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌47- "موعظة

"

أيها الغافل راقب من يراك في كل حال، وطهر سرك فهو عليم بما يخطر بالبال، إلى متى تميل مع الزخارف وإلى كم ترغب لسماع الملاهي والمعازف والمحرمات أما آن لك أن تجالس صاحب الدين والصلاح العاكف على عمله يقطع ليله بالقيام حتى الصباح ونهاره بالصيام لا يمل ولا يتوانى رجاء الفوز بالأرباح وأنت في غمرة هواك مفتونًا في الانهماك بدنياك وكأني بك وقد هجم عليك ما بدد شملك وأوهن قواك وافترسك من بين أهلك وعشيرتك وأخلائك وتخلى عنك خليلك وأصدقاؤك لا يستطيعون رد ما نزل بك ولا

ص: 316

تجد له كاشفًا فانتبه ما دام جسمك صحيحًا والعمل منك في إمكان.

وَاذْكُرْ وقُوفَكَ في المَعَادِ وَأَنْتَ في

كَرْب الحِسَابِ وَأَنْتَ عَبْدًا مُفْْرَدًا

سَوَّفْتَ حَتَّى ضَاعَ عُمْرُكَ بَاطِلاً

وَأَطَعْتَ شَيْطَانَ الغِوَايَةِ وَالعِدَا

فَانْهَضْ وَتُبْ مِمَّا جَنَيْتَ وَقُمْ إلى

بَابِ الكَرِيْمِ وَلُذْ بِهِ مَتَفَرِّدًا

وَادْعُوهُ في الأَسْحَارِ دَعْوَةَ مُذْنِبٍ

وَاعْزِمْ وَتُبْ وَاحْذَرْ تَكُنْ مُتَرَددًا

وَاضْرَعْ وَقُلْ يَا رَبِّ جِئْتُكَ أَرْتجي

عَفْوًا وَمَغْفِرَةً بِهَا كَيْ أَسْعَدَا

فَلَعَلَّ رَحْمَتَهُ تعُم فإِنَّهَا

تَسَعُ العِبَادَ وَمَنْ بَغَى وَمَن اعْتَدى

وإِِذَا أَرَدْتَ بَأَنْ تَفُوزَ وَتَتَّقِي

نَارَ الجَحِيمِ وَحَرَّهَا المُتَوَقِدَا

أَخْلِصْ لِمَنْ خَلَقَ الخَلائِقَ واعْتَلى

فَوْقَ السمواتِ العُلَى وَتَفَرِّدَا

ثُمَّ الصَّلاة على النبيِّ مُحَمَّدٍ

خَيْرِ الوَرَى نَسَبًا وَأَكْرَمَ مَحْتَدًا

‌48- "موعظة

"

عباد الله، إن بين أيديكم يوم لا شك فيه ولا مراء، يقع فيه الفراق وتنفصم فيه العرى، فتدبروا أمركم، قبل أن تحضروا، وانظروا لأنفسكم نظر من قد فهم ودرى، قال الله تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} [آل عمران: 30] . يا له من يوم يشيب فيه الولدان، وتسير فيه الجبال، وتظهر فيه الخفايا، وتنطق فيه الأعضاء، شاهدة بالأعمال، فانتبه يا من قد وهي شبابه، وامتلأ بالأوزار كتابه، عباد الله، أما بلغكم أن النار للكفار والعصاة أعدت، إنها لتحرق كل ما يلقى فيها، قال الله تعالى:{إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 8] . وقال {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 33] .

ص: 317

عباد الله، أما بلغكم أن طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، قال صلى الله عليه وسلم:«لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمرت على أهل الدنيا معيشتهم» . فكيف بمن هو طعامه، لا طعام له غيره، قال تعالى:{إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:: 46] .

أخرج الطبراني وابن أبي حاتم من طريق منصور بن عمار حدثنا بشير بن طلحة عن خالد بن الدريك عن يعلى بن منية رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال "ينشء الله لأهل النار سحابة سوداء مظلمة، فيقال يا أهل النار أي شيء تطلبون، فيذكرون بها سحابة الدنيا، فيقولون يا ربنا الشراب، فتمطر أغلالاً تزيد في أغلالهم، وسلاسل تزيد في سلاسلهم، وجمرًا يلتهب عليهم".

اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌49- "موعظة

"

ابن آدم كأنك بالموت وقد فجأك وألحقك بمن قد سبقك من الأمم ونقلك من الفلل والعمائر إلى بيت الوحدة والوحشة والظلم ومن ذلك إلى عسكر الموتى مخيمة بين الخيم مفرقًا من مالك ما اجتمع ومن شملك ما انتظم وليس لك قدرة فتدفعه بكثرة الأموال ولا بقوة الخدم وندمت على التفريط ولات ساعة ندم.

فيا عجبًا لعين تنام وطالبها مجد في طلبها لم ينم، متى تحذر مما توعد وتهدد، ومتى تضرم نار الخوف في قلبك وتتوقد إلى متى حسناتك تضمحل وسيئاتك تتجدد، وإلى متى لا يهو لك زجر الواعظ وإن شدد وإلى متى وأنت

ص: 318

بين الفتور والتواني تردد متى تحذر يومًا تنطق فيه الجلود وتشهد ومتى تقبل على ما يبقى وتترك ما يفنى وينفد.

متى تهب بك في بحر الوجد ريح الخوف والرجا متى تكون في الليل قائمًا إذا سجى أين الذين عاملوا مولاهم بالإخلاص وانفردوا وقاموا في الدجى فركعوا وسجدوا وقدموا إلى بابه في الأسحار ووفدوا وصاموا هواجر النهار فصبروا واجتهدوا، لقد ساروا وتخلفت وفاتك ما وجدوا وبقيت في أعقابهم وإن لم تسرع وتجتهد بعدوا.

فتنبه وتيقظ يا مسكين قبل أن يفاجئك هادم اللذات فلا تقدر على استدراك لما فات، قال الله جل وعلا:{وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11] .

اللهم وفقنا لصالح الأعمال ونجنا من جميع الأهوال وأمنا من الفزع والرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فائدة عظيمة النفع

وقال رحمه الله ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها وكونها ذنوبًا تأتي من نفس العبد فإن سبب الذنب الظلم والجهل وهما من نفس العبد كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى.

وهي أمور ذاتية للرب وذات الرب سبحانه، مستلزمة للحكمة والخير والجود.

ص: 319

وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه وهو أمر خارج عن نفسه.

فمن أراد الله به خيرًا أعطاه هذا الفضل فصدر منه الإحسان والبر والطاعة.

ومن أراد به شرًا أمسكه عنه وخلاه، ودواعي نفسه وطبعه وموجبها فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح.

وليس منعه لذلك ظلمًا منه سبحانه فإنه فضله وليس من منع فضله ظالمًا لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به.

وأيضًا فإن هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه ولا يخلي بينه وبين نفسه وهذا محض فعله وفضله.

وهو سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لهذا الفضل ويليق به ويثمر به ويزكو. وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ اهؤُلاء مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53] .

فأخبر سبحانه أنه أعلم بمن يعرف قدر هذه النعمة ويشكره عليها فإن أصل الشكر هو الاعتراف بانعام المنعم على وجه الخضوع والذل والمحبة. فمن لم يعرف النعمة. بل كان جاهلاً بها لم يشكرها.

ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضًا ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها.

ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ويحبه ويرضى به وعنه لم يشكرها أيضًا.

ومن عرفها وعرف المنعم بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه

ص: 320

واستعملها في محابة وطاعته فهذا هو الشكر لها.

فلا بد في الشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له.

كما في صحيح البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أَنْتَ ربي لا إله إلا أَنْتَ خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها إذا أصبح موقنا بها فمات من يومه دخل الجنة ومن قالها إذا أمسى موقنًا بها فمات من ليلته دخل الجنة» .

فقوله: "أبوء لك بنعمتك علي" يتضمن الإقرار والإنابة إلى الله بعبوديته. فالعبد يبوء إلى الله بنعمته عليه ويبوء بذنبه ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وبهذا رجوع مطمئن إلى ربه منيب إليه ليس رجوع من أقبل عليه ثم أعرض عنه.

فهو معبوده وهو مستعانه لا صلاح له إلا بعبادته ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته.

ومن المعلوم أن أجل نعمة على عبده نعمه الإيمان به ومعرفته ومحبته وطاعته والرضا به والإنابة إليه والتوكل عليه والتزام عبوديته.

ومن المعلوم أيضًا أن الأرواح منها الخبيث الذي لا أخبث منه ومنها الطيب. وبين ذلك وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكي والقلب الخسيس الخبيث.

وهو أعلم بالقلوب الزاكية والأرواح الطيبة التي تصلح لاستقرار هذه النعم وإيداعها عندها ويزكو بذرها فيها فيكون تخصيصه لها بهذه النعمة

ص: 321

كتخصيص الأرض الطيبة القابلة للبذر بالبذر.

فليس من الحكمة أن يبذر البذر في الصخور والرمال والسباخ وفاعل ذلك غير حكيم فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة ونور المعرفة والبصيرة في المحال التي هي أخبث المحال فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصلاً وميراثًا.

فهو أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده بالأمانة والنصيحة وتعظيم المرسل والقيام بحقه والصبر على أوامره والشكر لنعمه والتقرب إليه. ومن لا يصلح لذلك.

وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأمم لوراثة رسله والقيام بخلافتهم وحمل ما بلغوه عن ربهم.

فالرب سبحانه إذا علم من محل أهلية لفضله ومحبته ومعرفته وتوحيده حبب إليه ذلك ووضعه فيه وكتبه في قلبه ووفقه له وأعانه عليه ويسر له طرقه وأغلق دونه الأبواب التي تحول بينه وبين ذلك.

ثم تولاه بلطفه وتدبيره وتيسيره وتربيته أحسن من تربية الوالد الشفيق الرحيم المحسن لولده الذي هو أحب شيء إليه.

فلا يزال يعامله بلطفه ويختصه بفضله ويؤثره برحمته ويمده بمعونته ويؤيده بتوفيقه ويريه مواقع إحسانه إليه وبره به فيزداد العبد به معرفة وله محبة وإليه إنابة وعليه توكلاً. ولا يتولى معه غيره ولا يعبد معه سواه.

وهذا هو الذي عرف قدر النعمة وعرف المنعم وأقر بنعمته وصرفها في مرضاته.

واقتضت حكمة الرب وجوده وكرمه وإحسانه أن بذر في هذا القلب نور الإيمان والمعرفة وسقاه بالعلم النافع والعمل الصالح وأطلع عليه من نوره

ص: 322

شمس الهداية وصرف عنه الآفات المانعة من حصول الثمرة.

فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كريم فمن لم ينبت قلبه شيئًا من الخير ألبتة فهذا من أشقى الأشقياء.

فصلوات الله وسلامه على من الهدى والبيان والشفاء والعصمة في كلامه وفي أمثاله.

والمقصود أن الله سبحانه أعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه ومن يصلح لها ومن لا يصلح وأن حكمته تأبى أن يضع ذلك عند غير أهله كما تأبى أن يمنعه من يصلح له.

وهو سبحانه الذي جعل المحل صالحًا وجعله أهلاً وقابلاً فمنه الإعداد والإمداد ومنه السبب والمسبب.

وقال رحمه الله كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من إحدى جهتين إما أن تكون طبيعته يابسة غير لينة ولا منقادة ولا قابلة لما به كمالها وفلاحها.

وإما أن تكون لينة منقادة سلسة القيادة لكنها غير ثابتة على ذلك بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلب.

فمتى رزق العبد انقيادًا للحق وثباتًا عليه فليبشر فقد بشر بكل خير وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

وقال صدق التأهب للقاء الله من أنفع ما للعبد وأبلغه في حصول استقامته فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها وخمدت من نفسه نيران الشهوات وأخبت قلبه إلى الله وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته.

واستحدثت همة أخرى وعلومًا أخر وولد ولادة أخرى نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه فيولد

ص: 323

قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة وكما أن بطن أمه حجابًا لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة.

فخروج قلبه عن نفسه بارزًا إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أمه بارزًا إلى هذه الدار وهذا معنى ما يذكر عن المسيح أنه قال يا بني إسرائيل إنكم لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين.

ولما كان أكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصوروها فضلاً عن أن يصدقوا بها فيقول القائل كيف يولد الرجل الكبير أو كيف يولد القلب لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة إذ كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدقه ولكن إذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد.

والمقصود أن صدق التأهب للقاء الله هو مفتاح جميع الأعمال الصالحة والأحوال الإيمانية ومقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه من اليقظة والتوبة والإنابة والمحبة والرجاء والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب والجوارح.

فمفتاح ذلك كله صدق التأهب والاستعداد للقاء الله والمفتاح بيد الفتاح العليم لا إله غيره ولا رب سواه.

وقال رحمه الله طوبى لمن أنصف فأقر له بالجهل في علمه، والآفات في عمله، والعيوب في نفسه، والتفريط في حقه، والظلم في معاملته.

فإن أخذه بذنوبه رأي عدله، وإن لم يؤخذه رأى فضله.

وإن عمل حسنة رآها من منته عليه، فإن قبلها فمنة وصدقة ثانية، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به.

وإن عمل سيئة رآها من تخليه عنه، وخذلانه له، وإمساك عصمته،

ص: 324

وذلك من عدله فيه.

فيرى في ذلك فقره إلى ربه وظلمه في نفسه، فإن غفر له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه.

ونكتة المسألة وسرها أنه لا يرى ربه إلا محسنًا ولا يرى نفسه إلا مسيئًا ومفرطًا أو مقصرًا.

فيرى كل ما يسره من فضل ربه عليه وإحسانه إليه، وكل ما يسؤه من ذنوبه.

وقال من لم يعرف نفسه كيف يعرف خالقه؟ فاعلم أن الله خلق في صدرك بيتًا وهو القلب. ووضع في صدره عرشًا لمعرفته يستوي عليه المثل الأعلى، فهو مستو على سرير القلب، وعلى السرير بساط من الرضا.

ووضع عن يمينه وشماله مرافق شرائعه وأوامره، وفتح إليه بابًا من جنة رحمته، والأنس به، والشوق إلى لقائه.

وأمطره من وابل كلامه ما أنبت فيه من أصناف الرياحين والأشجار المثمرة، من أنواع الطاعات والتهليل والتسبيح والتحميد والتقديس.

وجعل في وسط البستان شجرة معرفته، فهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها من المحبة والإنابة، والخشية والفرح به، والابتهاج بقربه، وأجرى إلى تلك الشجرة، ما يسقيها من تدبر كلامه وفهمه، والعمل بوصاياه.

وعلق في ذلك البيت قنديلاً أسرجه بضياء معرفته، وإيمان به وتوحيده، فهو يستمد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار.

ثم أحاط عليه حائطًا يمنعه من دخول الآفات والمفسدين ومن يؤذي البستان، فلا يلحقه أذاهم، وأقام عليه حرسًا من الملائكة يحفظونه في يقظته

ص: 325

ومنامه.

ثم أعلم صاحب البيت والبستان بالساكن فيه فهو دائمًا همه إصلاح السكن ولم شعثه ليرضاه الساكن منزلاً.

وإذا أحس بأدنى شعث في السكن بادر إلى إصلاحه ولمه، خشية انتقال الساكن منه، فنعم الساكن، ونعم المسكن فسبحان الله رب العالمين.

كم بين هذا البيت وبيت قد استولى عليه الخراب، وصار مأوى للحشرات والهوام، ومحلا لإلقاء الأنتان، والقاذورات فيه.

فمن أراد التخلي وقضاء الحاجة وجد خربة لا ساكن ولا حافظ لها.

وهي معدة لقضاء الحاجة، مظلمة الأرجاء، منتنة الرائحة، قد عمها الخراب، وملأتها القاذورات. فلا يأنس بها ولا ينزل فيها إلا من يناسبه سكناها من الحشرات والديدان والهوام.

الشيطان جالس على سريرها وعلى السرير بساط الجهل وتخفق فيه الأهواء، وعن يمينه وشماله مرافق الشهوات.

وقد فتح إليه باب من حقل الخذلان والوحشة، والركون إلى الدنيا، والطمأنينة بها، والزهد في الآخرة.

وأمطر من وابل الجهل والهوى والشرك والبدع، ما أنبت فيه أصناف الشوك والحنظل، والأشجار المثمرة بأنواع المعاصي والمخالفات، من الزوائد والانتدابات، والنوادر والهزليات والمضحكات، والأشعار الغزليات، والخمريات التي تهيج على ارتكاب المحرمات، وتزهد في الطاعات.

وجعل في وسط الحقل شجرة الجهل به والإعراض عنه، فهي تؤتي أكلها كل حين من الفسوق والمعاصي، واللهو واللعب والمجون، والذهاب مع كل ريح، وإتباع كل شهوة.

ص: 326

ومن ثمرها الهموم والغموم، والأحزان والآلام، ولكنها متوارية باشتغال النفس بلهوها ولعبها. فإذا أفاقت من سكرها أحضرت كل هم وغم وحزن وقلق، ومعيشة ضنك.

وأجري إلى هذه الشجرة ما سقيها من إتباع الهوى، وطول الأمل والغرور.

ثم ترك ذلك البيت وظلماته وخراب حيطانه بحيث لا يمنع منه مفسد ولا حيوان، ولا مؤذ ولا قذر.

فسبحان خالق هذا البيت وذلك البيت، فمن عرف بيته وقدر الساكن فيه، وقدر ما فيه من الكنوز والذخائر والآلات انتفع بحياته ونفسه.

ومن جهل ذلك، جهل نفسه وأضاع سعادته. والله الموفق.

وقال أقام الله سبحانه هذا الخلق بين الأمر والنهي والعطاء والمنع فافترقوا فرقة قابلت أمره بالترك، ونهيه بالارتكاب، وعطاؤه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط؛ وهؤلاء أعداؤه، وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك.

وقسم قالوا: إنما نحن عبيدك فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتنا أمسكنا نفوسنا وكففناها عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك.

فليس من بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا، فإذا مزقه عليهم الموت، صاروا إلى النعيم المقيم، وقرة الأعين كما أن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة الدنيا.

فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم. فإذا تصادمت جيوش الدنيا والآخرة في قلبك وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت فانظر مع من تميل

ص: 327

منهما، ومن تقابل؛ إذ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين، فأنت مع أحدهما لا محالة.

فقسم استغشوا الهوى فخالفوه، واستنصحوا العقل فشاوروه. وفرغوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا له وجوارحهم للعمل بما أمروا به، وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في الآخرة.

واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى الأعمال وسكنوا الدنيا وقلوبهم مسافرة عنها.

واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم إليها، واهتموا بالله وطاعته على قدر حاجتهم إليه، وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها.

فجعل لهم سبحانه من نعيم الجنة وروحها، أن آنسهم بنفسه، وأقبل بقلوبهم إليه، وجمعها على محبته، وشوقهم إلى لقائه، ونعمهم بقربه.

وفرغ قلوبهم مما ملأ به قلوب غيرهم من محبة الدنيا والهم والحزن على فوتها، والغم من خوف ذهابها.

فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانهم، والملأ الأعلى بأرواحهم.

فائدة: وقال رحمه الله إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده تحمل الله سبحانه حوائجه كلها وحمل عنه كل ما أهمه وفرغ قلبه لمحبته ولسانه لذكره وجوارحه لطاعته.

وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها وغمومها وأنكادها ووكله إلى نفسه.

فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق ولسانه عن ذكره بذكرهم وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم.

ص: 328

فهو يكدح كدح الوحش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه ويعصر أضلاعه في نفع غيره.

فكل من أعرض عن عبودية الله وطاعته ومحبته بلي بعبودية المخلوق ومحبته وخدمته.

قال تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] .

قال سفيان بن عيينة لا تأتون بمثل مشهور للعرب إلا جئتكم به من القرآن.

فقال له قائل فأين في القرآن أعط أخاك ثمرة فإن أبى فجمرة.

فقال في قوله تعالى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} [الزخرف: 36] .

اللهم وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم وارزقنا الاستعداد لذلك اليوم الذي يربح فيه المتقون اللهم وعاملنا بإحسانك وجد علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون اللهم ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.

ص: 329

‌50- (موعظة)

في الحث على تقوى الله عز وجل

عباد الله عليكم بتقوى الله فإنها وصية الله للأولين والآخرين، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ} [النساء: 31] ، فما من خير عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيل موصل إليه، ووسيلة مبلغة له، وما من شر عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله عز وجل حرز متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.

وكم علق الله العظيم في كتابه العزيز على التقوى من خيرات عظيمة وسعادات جسيمة من ذلك المعية الخاصة المقتضية للحفظ والعناية والنصر والتأييد، قال تعالى:{وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 194] . ومن ذلك المحبة لمن اتقى الله، قال الله تعالى:{فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7] .

ومن ذلك التوفيق للعلم قال تعالى: {وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [البقرة: 282] . ومن ذلك نفي الخوف والحزن عن المتقي المصلح قال الله تعالى: {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35] . ومن ذلك الفرقان عند الاشتباه ووقوع الإشكال والكفارة للسيئات والمغفرة للذنوب قال الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال: 29] .

ومن ذلك النجاة من النار قال الله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا} [مريم: 72] . وقال تعالى:

ص: 330

{وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61] . ومن ذلك المخرج من الشدائد والرزق من حيث لا يحتسب قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] .

ومن ذلك اليسر قال الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4] . ومن ذلك عظم الجر قال تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق: 5] . ومن ذلك الوعد من الله بالجنة قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} [مريم: 61] . الآيات إلى قوله من {من كان تقيًا} .

وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90] . وقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَر فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 55] . وقال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27] . وقال تعالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] .

ومن ذلك الكرامة عند الله بالتقوى قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . إذا فهمت ذلك فاعلم أن التقوى هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فالمتقون هم الذين يراهم الله حيث أمرهم ولا يقدمون على ما نهاهم عنه.

المتقون هم الذين يعترفون بالحق قبل أن يشهد عليهم ويعرفونه ويؤدونه، وينكرون الباطل ويجتنبونه ويخافون الرب الجليل الذي لا تخفى عليه خافية، المتقون يعملون بكتاب الله فيحرمون ما حرمه ويحلون ما أحله.

ولا يخونون في أمانة ولا يرضون بالذل والإهانة ولا يعقون ولا يقطعون، ولا يؤذون جيرانهم ولا يضربون إخوانهم، يصلون من قطعهم،

ص: 331

ويعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم الخير عندهم مأمول، والشر من جانبهم مأمون لا يغتابون ولا يكذبون ولا ينافقون، ولا ينمون ولا يحسدون ولا يراؤن ولا يرابون ولا يقذفون ولا يأمرون بمنكر ولا ينهون عن معروف، بل يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تلك صفات المتقين حقًا الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون.

إخواني، لو تحلى كل منا بالتقوى لحسن عمله، وخلصت نيته، واستقام على الهدى، وابتعد عن المعاصي والردى، وكان يوم القيامة من الناجين.

وصف المؤمن المتقي

للإمام علي رضي الله عنه

المتقون هم أهل الفضائل منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم نزلت أنفسهم منهم في البلاء كما نزلت في الرخاء ولولا الأجل الذي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقًا إلى الثواب وخوفًا من العقاب.

عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها منعمون وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها معذبون قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة وأجسادهم نحيفة وحاجاتهم خفيفة وأنفسهم عفيفة صبروا أيامًا قصيرة أعقبتهم راحة طويلة وتجارة مريحة يسرها لهم ربهم.

أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً يحزنون به أنفسهم

ص: 332

ويستثيرون به دواء دائهم.

فإذا مرو بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعًا وتطلعت نفوسهم إليها شوقًا وظنوا أنها نصب أعينهم وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلبوهم وظنوا أن زئير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم واكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء.

قد براهم الخوف بري القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ويقول قد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم، لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير فهم لنفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون إذا زكي أحدهم خاف مما يقال فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بي من نفسي اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون.

فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين وحزمًا في لين وإيمانًا في يقين، وحرصًا في علم، وعلمًا في حلم وقصدًا في غنى وخشوعًا في عبادة وتحملاً في فاقة وصبرًا في شدة وطلبًا في حلال، ونشاطًا في هدى وتحرجًا عن طمع.

يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يمسي وهمه الشكر، ويصبح وهمه الذكر يبيت حذرًا ويصبح فرحًا، حذرًا لما حذر من الغفلة، وفرحًا بما أصاب من الفضل والرحمة، إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره، لم يعطها سؤلها فيما تحب.

ص: 333

قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريبًا أمله، قليلاً زلله، خاشعًا قلبه، قانعة نفسه، منزورًا أكله سهلاً أمره، حريزًا دينه، ميتة شهوته مكظومًا غيظه، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون.

إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين يعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه، بعيدًا فحشه، لينا قوله غائبًا منكره، حاضرًا معروفه، مقبلاً خيره، مدبرًا شره، في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور وفي الرخاء شكور.

لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يحب، يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه، لا يضيع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكر، ولا ينابز بالألقاب، ولا يضار بالجار، ولا يشمت بالمصاب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق.

إن صمت لم يغمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي، ينتقم له، نفسه منه في عناء والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه.

بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة.

قال فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها. فقال أمير المؤمنين عليه السلام أما والله لقد كنت أخافها عليه، ثم قال هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين فقال ويحك، إن لكل أجل وقتًا لا

ص: 334

يعدوه وسببًا لا يتجاوزه. اهـ.

عَلَيْكُم بِتَقْوَى اللهِ لا تَتْرُكُوْنَهَا

فِإِنَّ التُّقَى أَقْوَى وأَوْلَى وأَعْدَلُ

لِبَاسُ التُّقَى خَيْرُ الملابِسِ كُلِّهَا

وَأَبْهَى لِبَاسًا في الوُجُودِ وَأَجْمَلُ

فَمَا أَحْسَنَ التَّقْوَى وأَهْدَى سَبِيْلَهَا

بِهَا يَنْفَعُ الإِنْسَانَ مَا كَانَ يَعْمَلُ

فَيَا أَيُّهَا الإِنسانُ بَادِرْ إِلى التُّقَى

وَسَارِعْ إِلى الخَيْرَاتِ مَا دُمْتَ مُمْهَلُ

وَأَكْثِرْ مِن التَّقْوَى لِتَحْمِدَ غِبَّهَا

بِدَارِ الجَزَاء دَارٍ بِهَا سَوْفَ تَنْزِلُ

وَقَدِّمْ لِمَا تَقْدَمْ عَلِيهِ فَإِنَّمَا

غَدًا سَوْفَ تُجزَى بِالذَّي سَوْفَ تَفْعَلُ

وَأَحْسِنْ وَلا تُهْمِلْ إِذَا كُنْتَ قادِرًا

فَدَارُ بَنِيْ الدُّنْيَا مَكَانُ التَّرَحُّلُ

وَأَدِّ فُرُوْضَ الدِّيْنِ وَاتْقِنْ أَدَاءَهَا

كَوَامِلَ في أَوْقَاتِهَا والتَّنَفل

وَسَارِعْ إِلى الخَيْرَاتِ لا تُهْمِلنَّهَا

فَإِنَّكَ إنْ أَهْمَلْتَ مَا أَنْتَ مُهْمَلُ

وَلَكِنْ سَتُجْزَى بِالذِي أَنْتَ عَامِلٌ

وَعَنْ مَا مَضَى عَنْ كُلِّ شَيْءٍ سَتُسْأَلُ

وَلا تُلْهِكَ الدُّنْيَا فَرَبُّكَ ظامِنٌ

لِرِزْقِ البَرَايَا ضَامِنٌ مُتَكَفِلُ

وَدُنْيَاكَ فَاعْبُرْهَا وآخْرَاكَ زِدْ لَهَا

عَمَارًا وَإِيْثَارًا إِذَا كُنْتَ تَعْقِلُ

فَمَنْ آثَرَ الدُّنْيَا جَهُولٌ وَمَنْ يَبِعْ

لأُخْرَاهُ بِالدُّنْيَا أَضْلُّ وَأَجْهَلُ

وَلَذَّاتُهَا وَالجَاهُ وَالعِزُ والغِنَى

بَأَضْدَادِهَا عَمَّا قَلِيْلٍ تَبَدَّلُ

فَمَنْ عَاشَ في الدُّنْيَا وَإِن طَالَ عُمْرُهُ

فَلا بُدَّ عَنْهَا رَاغِمًا سَوْفَ يُنْقَلُ

وَيَنْزِلُ دَارًا لا أَنِيْسَ لَهُ بِهَا

لِكُلِ الوَرَى مِنهم مَعَادٌ وَمَوْئِلُ

وَيَبْقَى رَهِيْنًا بِالتُّرابِ بِمَا جَنَى

إلى بَعْثِهِ مِن أَرْضِهِ حِيْنَ يَنْسِلُ

يُهَالُ بِأَهْوَالٍ يَشِيْبُ بِبِعْضِهَا

وَلا هَوْلَ إِلا بَعْدهُ الهَوْلُ أَهْوَلُ

وَفِي البَعْثِ بَعْدَ المَوتِ نَشْرُ صَحائِفٍ

وَمِيْزَانُ قِسْطٍ طَائِشٍ أَوْ مُثَقِّلُ

وَحَشْرٌ يَشِيْبُ الطفْلُ مِنه لِهَولِهِ

ص: 335

وَمنه الجِبَال الرَّاسِياتُ تَزَلْزَلُ

وَنَارٌ تَلَظَّى في لظَاهَا سَلاسِلٌ

يُغَلُّ بِهَا الفُجَارُ ثِمَّ يُسَلْسَلُ

شَرَابُ ذََوِي الإِجْرَامِ فِيهَا حَمِيْمُهَا

وَزقُوْمُهَا مَطْعُومُهُمْ حِيْنَ يُؤْكَلُ

حَمِيْمٌ وَغَسَّاقٌ وَآخَرٌ مِثْلُهُ

مِنْ المُهْلِ يَغْلِي في البُطُونِ وَيَشْعَلُ

يَزِيْدُ هَوَانًا مِن هَوَاهَا ولا يَزَل

إِلى قَعْرِهَا يَهْوِي دَوَامًا وَيَنْزِلُ

وَفي نَارِهِ يَبْقَى دَوَامًا مُعَذَّبًا

يُصِيْحُ ثُبُورًا وَيْحَهُ يَتَوَلْْوَلُ

عَلَيْهَا صِرَاطٌ مَدْحَضٌ وَمَزلَّةٌ

عَلَيْهِ البَرايَا في القِيَامَةِ تُحْمَلُ

وَفِيهِ كَلالِيْبٌ تَعَلَّقُ بِالوَرَى

فَهَذا نَجَا مِنها وَهَذا مُخْرَدَلُ

فَلا مُذْنِبٌ يَفْدِيْهِ مَا يَفْتَدِيْ بِهِ

وَإِنْ يَعْتَذِرْ يَوْمًا فَلا العُذْرُ يُقْبَلُ

فَهَذَا جَزَاءُ المجرمِينَ عَلى الرَّدَى

وَهَذا الذي يَومَ القِيامَةِ يَحْصُلُ

أَعُوذُ بِرَبِي مِن لَظَى وَعَذَابِهَا

وَمِنْ حَالِ مَن يَهْوَي بِهَا يَتَجَلْجَلُ

وَمِن حَالِ مَن في زَمْهَرِيْرٍ مُعَذَّبِ

وَمَن كانََ في الأَغْلالِ فِيْهَا مُكَبِّلُ

وَجَنَّاتُ عَدْنِ زُخْرِفَتْ ثُمَّ أُزْلِفَتْ

لِقَوْمٍ على التَّقْْوَى دَوَامًا تَبَتَّلُ

بِهَا كُلُ مَا تَهْوَى النُفُوسُ وَتَشْتَهِي

وَقُرَّةُ عَيْنٍ لَيْسَ عَنها تَرَحُّلُ

مَلابِسُهُم فِيْهَا حَرِيْرٌ وَسُنْدُسٌ

وَإِسْتَبْرَقٌ لا يَعْتَرِيْهِ التَّحَلُّلُ

وَمَأكُولهُم مِن كُلِّ مَا يَشْتَهُونَهُ

وَمِن سَلْسَبِيْلِ شُرْبُهُم يَتَسَلْسَلُ

وَأَزْوَاجُهُم حُوْرٌ حِسَانٌ كَوَاعِبٌ

عَلَى مِثْلِ شَكْلِ الشَّمْسِ بل هُوَ أَشْكَلُ

يُطَافُ عَلَيْهِم بِالذي يَشْتَهُونَهُ

إِذَا أَكلُوا نَوْعًا بآخَرَ بُدِّلُوا

فَوَاكِهُهَا تَدْنُوا إِلى مَنْ يُرِيْدُهَا

وَسُكَّانُهَا مَهْمَا تَمَنِّوْهُ يَحْصُلُ

وَأَنْهَارُهَا الأَلْبَانُ تَجْرِِي وَأَعْسُلٌ

تَنَاوُلُهَا عِنْدَ الإِرَادَةِ يَسْهُلُ

بِهَا كُلُّ أَنوَاعِ الفَوَاكِهِ كُلَّها

ص: 336

وَخَمْرٌ وَمَاءٌ سَلْسَبِيْلٌ مُعَسِّلُ

يُقَالُ لَهُمْ طِبْتُمْ سَلِمْتُمْ مِن الأَذَى

سَلامٌ عَلَيْكُمْ بالسَّلامَةِ فَادْخُلُوا

بِأَسْبَابِ تَقْوَى للهِ وَالعَمَلِ الذي

يُحِبُّ إلى جَنَّاتِ عَدْنٍ تَوَصَّلُوا

إِذَا كَانَ هَذَا وَالذي قَبْلَهُ الجَزَاء

فَحَقٌّّ عَلَى العَيْنَيْنِ بالدَّمْعِ تُهْمِلُ

وَحَقٌّ عَلَى مَنْ كَانَ بِاللهِ مُؤْمِنًا

يُقَدِّمْ لَهُ خَيْرًا وَلا يَتَعَلَّلُ

وَأَنْ يَأْخُذَ الإِنْْسَانُ زَادًا مِن التُّقَى

وَلا يَسْأَم التَّقَوَى وَلا يَتَمَلْمَلُ

وَإِنَّ أَمَامَ النَّاسِ حُشْرٌ وَمَوْقِفٌ

وَيَومٌ طَويْلٌ أَلفُ عَامِ وَأَطْوَلُ

فَيَا لَك مِن يَوْمٍ عَلَى كُلِّ مُبْطِلٍ

فَظِيْعٍ وَأَهْوَالُ القِيامَةِ تُعْضِلُ

تَكًونُ بِهِ الأَطْوادُ كَالعِهْنِ أَوْ تَكُنْ

كَثيْبًا مَهيْلاً أَهْيَلاً يَتَهَلْهَلُ

بِهِ مِلَّةُ الإِسْلامِ تُقْبَلُ وَحْدَهَا

وَلا غَيْرُهَا مِن أَي دِيْنِ فَيَبْطُلُ

بِهِ يُسْأَلُونَ النَّاسُ مَاذَا عَبدتموا

وَمَاذَا أَجَبْتُم مَن دَعَا وَهُوَ مُرْسَلُ

حِسَابُ الذِِي يَنْقَادُ عَرْضٌ مُخَفَّفٌ

وَمَن لَََيْسَ مُنْقَادًا حِسَابٌ مُثَقَّلُ

أَعوذُ بِكَ اللَّهُمَّ مِن سُوْءِ صُنْعِنَا

وَأَََسْألُكَ التَّثْبِيْتَ أُخْرَى وَأَوَّلُ

إلهي فَثَبِّتْنِي عَلَى دِيْنكَ الذِي

رَضِيْتَ بِهِ دِيْنًا وََإيَّاهُ تَقْبَلُ

وَهَبْ لِي مِن الفِرْدَوْسِ قَصْرًا مُشَيَّدًا

وَمُنَّ بِخَيْرَاتٍ بِهَا أَتَعَجَّلُ

ولِلهِ حَمْدٌ دَائِمٌ بِدَوَامِهِ

مَدَى الدَّهْرِ لا يَفْنَى وَلا الحَمْدُ يَكْمُلُ

يَزِيْدُ على وَزْنِِ الخَلائِقِ كُلِّهَا

وَأَرْجَحُ مِن وَزْنِ الجَمِيْعِ وأَثقَلُ

وَإِنِّي بِحَمْدِ اللهِ في الحَمْدِ أَبْتَدِي

وَأُنْهِي بِحَمْدِ اللهِ قَوْلِي وَأَبْتَدِي

صَلاةً وَتَسْلِيْمًا وَأَزْكَى تَحِيَّةً

تَعُمُّ جَمِيْعَ المَرْسَلِيْنَ وَتَشْمَلُ

وَأَزْكَى صَلاة اللهِ ثُمَّ سَلامُهُ

عَلََى المُصْطَفَى أَزْكَى البَرِيَّةِ تَنْزِلُ

ص: 337

اللهم وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم وارزقنا الاستعداد لذلك اليوم الذي يربح فيه المتقون اللهم وعاملنا بإحسانك وجد علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون اللهم ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا ولا تطردنا بعيوبنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

‌51- "موعظة

"

عباد الله لقد ضاعت أعمارنا في القيل والقال، والغيبة والنميمة، والمداهنة، والانهماك في الدنيا، إلى أن استلحق كثير من الناس جزءًا من الليل مضافًا إلى النهار، وكأننا لم نخلق إلا لهذه الأعمال، أفلا نستيقظ من غفلتنا، ونحفظ ألسنتنا عن نهش أعراض الغوافل، والطعن في الأحساب والأنساب، ونصرف جل الأوقات، إلى الباقيات الصالحات، التي هي خير عند ربنا ثوابًا وخير مردًا، ونذكر مولانا الذي فضله علينا مدرارًا، فإن الذكر عاقبته الجنة دار الكرامة والقرار، مع رضى ربنا الذي دونه كل ثواب، تالله لو عرفتم قيمة هذه النصيحة لبادرتم إلى العمل بها كل البدار، فإنك وأنت تذكر الله أفضل ممن يفرق الذهب والفضة وسائر الأموال، وأفضل من أن تجاهد العدو فيضرب عنقك، أو تضرب عنقه، وتكون من الشهداء الأبرار، كيف لا والذكر خير الأعمال وأزكاها، وأرفعها للدرجات عند مولانا الوهاب.

حسب الذاكر: أن تحفه الملائكة، وتنزل عليه السكينة، وتغشاه الرحمات، ومن في الوجود مثل الذاكر، وهو وقت ذكره لله يذكره بارئ

ص: 338

الكائنات، ومن مثله في الدنيا وهو بالذكر في حصن حصين، يحفظه من الشيطان ووساوسه الفاتنات، ومنزلة الذاكر بين الغافلين كمنزلة الحي بين الميتين، ذكر الله ينير القلب، ويوقظه ويحييه، ويزيل رانه ويهديه إلى الحق.

‌52- "موعظة

"

عباد الله انتبهوا وبادروا بالأعمال الصالحات، فإن أعماركم سريعة الانصرام، والأيام والليالي تمر بكم مر السحاب، والدنيا إذا تأملها اللبيب رآها كالسراب، وصدق القائل في وصفها حيث قال:

أَلا كُلُّ حَيٍّ هَالِكٍ وَابْنُ هَالِكٍ

وَذُو نَسَبٍ فِي الهَالِكِيْنَ عَرِيْقُ

إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيْبٌ تَكَشَّفَتْ

لَهُ عَنْ عَدُوٍ في ثِيَابِ صَدِيْقِ

أعوام سريعة المرور، وشهور تقتفي أثر شهور وعبر بين ذلك تترى، فعلام الغرور، فلا تغتروا بالدنيا فقد نهاكم الله عن الاغترار بها، وضربت لكم بأخذ أمثالكم الأمثال، أرتكم عيانًا كيف تقلبت بأهلها الأحوال، وخدعتهم الآمال، حتى انتهت لهم الآجال، قبل أن يحصلوا على ما سيتمنونه من صالح الأعمال، فاستيقظوا من نومكم، وحاسبوا أنفسكم على ما اكتسبته من الذنوب والمعاصي الثقال، فأي نفس منا لم تحمل ظلمًا، وأي جارحة من جوارحنا لم تقترف إثمًا، وأي عمل من أعمالنا يليق بذلك المقام، وأي وقت من أوقاتنا تمحض للطاعة وخلا من الآثام، لقد جنينا على أنفسنا بالذنوب جناية عظيمة، فلينوا قلوبكم بذكر هاذم اللذات، لعلها تلين، وعظوها بذكر القبر وفتنته فإنهما لحق اليقين وذكروها {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] . {يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40] ، {يَوْمَ تَجِدُ

ص: 339

كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً} [آل عمران: 30] . {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل: 111] .

اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة وبعدها، واجعلنا من عبادك المفلحين الذين نورت قلوبهم بمعرفتك، وأهلتهم لخدمتكن وحرستهم من عدوك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌53- "موعظة

"

عباد الله لقد أنعم الله علينا بنعم كثيرة، وجاد علينا بخيرات وفيرة غفلنا عنها، وعن ضدها، وجهلنا حكمتها، أعطانا جل وعلا العقل، وميزنا به عن الحيوانات، وأرسل إلينا الرسل، يرشدوننا للحق وخالص الإيمان، منحنا القوة والعافية، وصحة البدن، وسلامة الأعضاء.

وجعل لنا السمع، والبصر، واللسان، والشفتين، وعلمنا البيان والإفصاح، عن ما نقصد بالكلام، خلقنا في أحسن تقويم، وجعل لنا الأرض فراشًا والسماء بناءً، وأنبت لنا في الأرض النخيل، والأعناب والزرع وسائر ما نحتاج إليه من الثمار، ونستخرج منها المعادن، والخامات.

وأجرى لنا فيها الأنهار، وأنبع لنا الماء الزلال، وخلق الشمس والقمر، والنجوم، مسخرات بأمره تمدنا بالأنوار، والمنافع، للأبدان والثمار، والنباتات، وفيها من الإتقان، والجمال، والاتزان في سيرها مدى الليالي والأيام، ما يشهد لله بالوحدانية، والحكمة، والقدرة الباهرة، والعلم، وسائر صفات الكمال.

ص: 340

ولله نعم أخرى لا تعد، ولا تحصى، كما قال تعالى:{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] . إذا يجب علينا شكره تعالى على نعمه، وهو الغني الحميد، غني عن العالمين، والخلق هم الفقراء إليه، كما قال جل وعلا:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15] ، وليس لله في شكرنا منفعة تعود إليه، وليس في كفر نعمه ضرر عليه، إنما تعود منفعة الشكر إلى الشاكر كما قال تعالى:{وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل: 40] .

إنما الذي ينتظر الشكر مخلوق مثلنا وأنت إذا شكرت الله إنما تبرهن على فهمك لنعمة الله، وتقديرك له إن شكرت فقد وجهت النعمة وجهة الخير، والنفع، واستعملتها فيما يسعدك في الدنيا والآخرة، وإن كفرت فقد برهنت على سوء فهمك، وعدم تقديرك لربك، وعلى تعمقك في اللؤم والرداءة.

وإذا تأملت الكثير من الناس وجدته مهملاً للشرك الذي هو صرف النعم فيما خلقت له، واستعمالها فيما شرعت لأجله، لتظهر فائدتها وتتم حكمتها، ويجني العباد منافعها، فالشاكر بلسانه وقلبه، وعمله من الفائزين، ولكنه قيل، كما قال تعالى:{وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] . الأكثر كما تقدم صرفوها فيما يعود عليهم، وعلى أولادهم، وأهلهم، وأمتهم بالضرر.

أنعم عليهم بالمال فقسم خزنوه ومنعوا حقوقه فلم يخرجوا زكاته، ولم يساهموا في مشاريع دينية، كبناء مساجد، وقضاء دين عن مدين ومساعدة

ص: 341

فقير، وإجراء مياه للمسلمين، والمساعدة على نشر الإسلام وطباعة مصاحف طباعة جيدة وتوزيعها على التالين لكتاب الله، وطباعة الكتب الدينية المقوية للشريعة المحمدية، وبناء بيوت لمن لا مساكن لهم، ونحو ذلك.

وقسم أنفقوا المال في الملاذ والملاهي، والمنكرات، وسائر المحرمات، أذهبوها في الحياة الدنيا، واستمتعوا بها، ولم يراقبوا الله فيها، أنعم عليهم في الصحة والفراغ المفروض أن تغتنم في طاعة الله.

ولكن يا للأسف صرفت في السهر، وفي الفساد، وفي المجون والكسل والتسكع، والخمول أو التطاول بالقوة على الضعفاء، والمساكين، وإعانة الظلمة والفاسقين، ونحو ذلك، من المفاسد والشرور.

وقس على ذلك باقي النعم من السمع والبصر واللسان والرجل فلم يبق نعمة إلا وقلبوها، ولا هبة من الله إلا وجحدوها فنزلوا بعد الرفعة وذلوا بعد العزة فإنا لله وإنا إليه راجعون.

اللهم قوي إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.

اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا صيانة أوقاتنا وحفظها عن المعاصي ووفقنا لشغلها بالباقيات الصالحات واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 342

‌54- "موعظة

"

عباد الله لقد كان سلفنا في محبة بعضهم بعضًا آية من الآيات وكان التراحم بينهم بالغًا مبلغًا يعده أهل الإنصاف غاية الغايات لذلك كانوا في محبة الخير لبعضهم على أرقى ما يتصور في الدرجات.

وهل يتصور أن يكون أحدهم في أشد الجوع ويؤثر أخاه بماله من طعام عاملين بقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، وقوله:{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان: 8] . وبقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» .

وإن الخجل ليعلو وجوهنا إذا نحن قارنا بين هؤلاء وبين أبناء هذا الزمان، نحن في حالة تصور حقيقتها فقط يثير في قلوب المؤمنين الأحزان.

كيف ونحن إذا فتشنا ثم فتشنا لا نجد قلبين مع بعضهما معية الإخاء التام يكون الجار في نهاية الفقر ولا يلتفت إليه جاره المثري وينزل بالأخ الشقيق أو العم الشقيق أو نحوهما ما ينزل من الكوارث ولا أثر لنزولها عند أخيه ولا كأنه يرى تلك المصائب الفادحة ولعلك منتظر الجواب ما هو السبب في ذلك فالق سمعك وأحضر قلبك.

فأقول لكل الناس اليوم شغل واحد هو المال شغلهم عما عداه وأنساهم كل ما سواه ملأ القلوب حب هذا المال حتى لم يبق في القلوب متسع لسواه فمن أجله تستباح الأعراض ومن أجله تراق الدماء ومن أجله يكون الصفا

ص: 343

والمعاداة هو القطب الذي تدور حوله أفعال العباد في هذا الزمان.

فالقلوب في سرور ما دام المال سالمًا وإن أنهار بناء الشرف والدين والنفوس في هدوء وطمأنينة ما ابتعد عن المال فإذا قرب حوله هاجوا هيجان الجمال وهم في تواصل ما لم يتعرض للمال فإذا تعرض له انقطعت الصلات حتى بين الأقربين من آباء وأمهات وأولاد وإخوان.

أما علم هؤلاء أن المال الذي كان بأيدينا كان قبلنا بيد إخواننا في الإنسانية الذين سبقونا إلى الدنيا ثم انتقل إلى من بعدهم ثم انتقل من جيل إلى جيل إلى أن وصل إلينا سعد به من صرفه في مراضي الله وشقي به من صرفه في ما يغضب الله.

ولعلك يا أخي تتكدر إذا علمت أنه سينقل عنك في أسرع وقت فلا تفزع ولا تتكدر ووطن نفسك واعلم أنك والله ميت وموروث عنك ما جمعت ومنعت رغم أنفك يتمتع به ذلك الوارث العاق أو البار وأنت تسال عنه هللة وقرشًا قرشًا.

وتكون النتيجة إن كنت جموعًا منوعًا شقاء تستغيث منه فلا تغاث وتتمنى لو كانت الدنيا بأسرها بيدك وافتديت نفسك بها تكون النتيجة ذلك إن كنت من المغرورين الغافلين الذين ظنوا أن السعادة كلها تيسير جمع المال وتكديسه عندك آلافًا وملايين وعمائر وفلل وأراضي وبيوت كدأب أهل هذا العصر الغافل المظلم بالمعاصي والبدع والمنكرات.

الذي اعتاض أهله عن كتاب الله وسنة رسوله العكوف على الجرائد حمالة الكذب والمجلات الخليعات والكتب الهدامات والجلوس حول الملاهي

ص: 344

والمنكرات فسوف تندم وتتحسر حينما ينكشف عنك الغطا ويتبين لك ذلك الخطأ وتتمنى أنك أمضيت أوقاتك في طاعة مولاك وهيهات أن يحصل لك مناك ذهب الآوان وبقي الندم والحرمان.

لقد أنسى الناس حب هذا المال ما لهم من شرف ومروءة ودين وجعلهم حول حطام الدنيا كما وصفهم الشافعي رحمه الله:

وَمَا هِي إِلا جِيْفَةٌ مُسْتَحِيْلَةٌ

عَلَيْهَا كِلابٌ هَمُّهُنَّ اجْتِذَابُهَا

فَإِنَّ تَجْتَنِبْهَا كُنْتَ سِلْمًا لأَهْلِهَا

وإِنْ تجتذبها نَازَعَتْكَ كِلابُهَا

أما علموا أن المال من خدم الدين فإذا تجاوز ذلك كان نكبة على أصحابه وكذلك الأولاد إن كانوا غير صالحين فهم ضرر على أبيهم وعلى أنفسهم وكذلك الزوجة ولذلك ورد عن داود عليه السلام أنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من جار السوء ومن مال يكون علي عذابًا ومن ولد يكون وبالاً ومن زوجة تشيبني قبل المشيب ومن خليل ماكر عينه ترعاني وقلبه يشناني إن رأى خيرًا أخفاه وإن رأى شرًا أفشاه".

وقيل إنه سئل عيسى عليه السلام عن المال فقال: «لا خير فيه» قيل ولم يا نبي الله قال لأنه يجمع من غير حل قيل فإن جمع من حل قال لا يؤدي حقه قيل فإن أدى حقه قال لا يسلم صاحبه من الكبر والخيلاء قيل فإن سلم قال يشغله عن ذكر الله قيل فإن لم يشغله قال يطيل عليه حسابه يوم القيامة.

فتأمل هذه العقبات الخمس وقليل من يتجاوزها سالمًا.

اللهم اجعل الإيمان هادمًا للسيئات، كما جعلت الكفر عادمًا للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، واجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك

ص: 345

فهديته ودعاك فأجبته، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

‌55- "موعظة

"

عباد الله اتقوا الله تعالى واحمدوه على كل حال وارغبوا إليه في حراسة النعم عن الزوال فإن نعم الله قد عمت البوادي والأمصار وإن نعم الله لا تعد ولا تحصى ولا تحد بمقدار.

قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] . فكم أسدى معروفًا وكم أغاث ملهوفًا فاشكروا آلاء الله واذكروه كثيرًا قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] .

وهبوا من هذه الرقدة والمقام واحذروا الأهواء فإنها تورث المهالك والمذام، وألزموا طاعة الملك العلام، واغتنموا بقية العمر والأيام، وبادروا بالتوبة من المعاصي والإجرام، قبل أن يأتي يوم تشقق فيه السماء بالغمام وتظهر فيه الخفايا والدواهي والأهوال الطوام، وتنكس فيه الظلمة رءوسها ويعلوها الذل من الرءوس إلى الأقدم ويتجلى لفصل القضاء بين عباده حاكم الحكام.

قال تعالى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر: 70] . ونودي أين الظلمة وأعوان الظلمة ومن كان لهم على المعاصي وثوب وإقدام فيا له من يوم ما أطوله ومن بلاء ما أهوله ومن حساب ما أثقله ومن عذاب ما أعضله ومن جزاء ما أجزله ومن

ص: 346

حاكم ما أعدله.

هنالك شاب الوليد وحق الوعيد وعظم الهول الشديد قال تعالى: {وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] . وخضعت الرقاب وذل كل فاجر كذاب ورجع الأشقياء بالخسران والتباب فالسعيد من استعمل نفسه في طاعة الملك المعبود وخاف أن لا ينجو من النار بعد الورود.

فانتبه أيها العبد لأيام شبابك قبل فراق أحبابك وأحفظ أيام عمرك قبل حلول قبرك واغتنم حياتك قبل أوان وفاتك فإن العمر بالسنين ينهب والأجل بمرور الليالي والأيام يذهب.

‌56- "موعظة

"

عباد الله أحسنوا إلى الوالدين ما أمكن لكم الإحسان، وإن حسبتم أنكم كافأتموهم فقط أخطأتم في ذلك الحسبان، وكونوا معهما في غاية الأدب والاحترام، واحذروا سوء الأدب عندهما وإلا هويتم في هوة شقاء ما لها من قرار وكونوا معهما في إجلال واحترام، وتقدير تام وإن حصل منهما لك ظلم، لأنهما اللذان لولا الله ثم لولاهما لم تخرج على هذا الوجود ولأنهما اللذان سخرهما الله لك فصبرا على ما رأيا من الأهوال، وسخرهما لتربيتك والعناية بك في هذه الحياة. تذكر زمن حمل أمك بك وأنت في بطنها علة من أكبر العلل، وتذكر وقت أن كانت تلدك وهي مما بها لا من الأحياء ولا من الأموات وتذكر ما خرج عقب ولادتك من النزيف الدم الذي هو نفسها.

وتذكر أنك كنت تمص دمها مدة الرضاع، وسرورها بك تقصر عن

ص: 347

شرحه العبارات. وتذكر تنظيفها لبدنك وملابسك من الأقذار، وتذكر فزعها عندما يعتريك خوف أو مرض أو نحو ذلك، وتذكر دفاعها عنك إذا اعتدى عليك معتدي.

وتذكر حرصها الشديد على أن تعيش لها ولو حرمت لذة الطعام والشراب وتذكر سهرها عليك عندما يؤلمك شيء من جسدك، وتذكر كد والدك عليك في تحصيل ما به تحيا بإذن الله، لا يهدؤ عن ذلك والدك مدى الليالي والأيام، وكلما خشي أن تجوع تقحم الشدائد وهام على وجهه في الدنيا لا يرده إلا أن يراك في يسار.

وتذكر عنايته بك في تعليمك وتوجيهك إلى ما فيه صلاح دينك ودنياك وتذكر حياطته ونصحه لك ومقاسات الشدائد لراحتك، وتذكر فرحه واستبشاره بمحبتك ونجاحك، وتذكر دفاعه عنك بيده ولسانه، وتذكر دعاءه لك في مظنة أوقات الإجابة أن يصلحك الله ويوفقك.

وتذكر قلقهما والإدلاج في البحث عنك إذا تأخرت عن وقت المجيء، وتأمل وتذكر بشاشتهما فيمن يعز عليك لسرورهما بما يسرك، من أجل ذلك أكد الله وشدد عليك بالوصية بهما.

وأخبر نبينا صلى الله عليه وسلم: «أنهما جنتك ونارك، وقدم برهما على الجهاد، ودعا أن يرغم أنف من أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخل الجنة، وأخبر بأكبر الكبائر فذكر عقوقهما بعد الإشراك بالله» .

اللهم إنا نعوذ بك من شر أنفسنا والشيطان والدنيا والهوى ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 348

‌57- "موعظة

"

قال الله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 77] . وقال: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] . عباد الله يعيش ابن آدم ما قدر الله له أن يعيش، ويمشي الإنسان في هذه الأرض ويتقلب فيها، ويرى حلوها ومرها وسرورها وأحزانها، ويأخذ فيها حظه من الشقاء وحظه من السعادة، بمقدار ما قدره الله له وما قدره عليه، ولكن لكل هذا نهاية، ولكل ذلك غاية قال الله جل وعلا:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35] . وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35] . وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] . فسبيل الموت غاية كل حي، والخلود في دار الفناء غير معقول، أيها المسلم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه.

شعرًا:

لَعَمَرْكُ مَا الدُّنْيَا بِدَارِ إِقَامَةٍ

إِذَا زَالَ عَنْ عَيْنِ البَصِيْرِ غِطَاؤُهَا

وَكَيْفَ بَقَاءَ النَّاسِ فِيْهَا وَإِنَّمَا

يُنَالَ بِأَسْبَابِ الفَنَاءِ بَقَاؤُهَا

آخر:

سَلامٌ عَلَى دَارِ الغُرُورِ فإِنَّهَا

مُنَغَّصَةً لِذَاتِهَا بِالفَجَائِعِ

فَإِنَّ جَمَعَتْ بَيْنَ المُحِبِّينَ سَاعَةً

فَعَمَّا قَلِيْلٍ أَرْدَفَتْ بِالموانِعِ

فالبقاء في الدنيا محال، هذه الدنيا جسر، هذه الدنيا ممر ومعبر وطريق إلى الآخرة، ومن الناس من يتخبط في هذه الطريق ويتعثر فيما ولا يهتدي،

ص: 349

ومن الناس من يوفقه الله فيسلكها مستقيمًا لا يلوي على شيء إلا على زاد الآخرة، وأمل يهدف إليه، في تلك الدار الباقية، ذلك الهدف هو رضى رب العزة والجلال، الذي فيه كل نعيم، الذي فيه الهدوء والاطمئنان، والذي فيه الفوز والنجاة من كل مكروه، تلك حال من اتعظ واعتبر فنفعته العبرة، ولمس الموعظة من دروس الحياة وأحداثها فاهتدى، وزاده الله هدى، تلك حال من اعتبروا، فنفعتهم العبرة، وجعلوا التقوى إلى الله أمامهم لا يحيدون عنها، يخافون ربهم ويخشون سوء الحساب. {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 52] .

أيها المسلم لقد خرجت من ظلمات، وستنتهي إلى ظلمات خرجت من ظلمات الأرحام، وتنتظرك ظلمات القبور، خرجت من أحشاء أمك، واستقبلتك أحشاء أخرى، أقوى وأعظم، قال تعالى:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] . دفعك جوف يحن عليك، إلى جوف الأرض، وبين الجوفين أمور وأمور، ففي الدنيا السراء والضراء والسعادة والشقاء إنك تخرج من شدة إلى رخاء، ومن رخاء إلى بلاء، وتصادفك عقبات في طريقك، بعد عقبات، وتتغير أحوالك من حالات إلى حالات، فمن ذل إلى عز، ومن عز إلى ذل، ومن غنى إلى فقر ومن فقر إلى يسر، ومن صحة إلى مرض، ومن مرض إلى عافية، ومن راحة إلى تعب، هذه هي الدنيا وهذه أحوالها، عزها لا يدوم، ورخاؤها لا يبقى، قال الله تعالى:{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26] . فحاسب نفسك أيها المسلم، قبل أن تحاسب، وزن أعمالك قبل أن

ص: 350

توزن عليك، وراقب مولاك الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وتب إليه توبة نصوحًا، قال تعالى:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82] .

اللهم وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغفلة والنوم وارزقنا الاستعداد لذلك اليوم الذي يربح فيه المتقون اللهم وعاملنا بإحسانك وجد علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون اللهم ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.

‌58- "موعظة في الحث على الإقبال على الآخرة

"

إخواني أين رفقاؤنا وإخواننا أين ذهب معارفنا وجيراننا أين أصدقاؤنا أين زملاؤنا وأقراننا أين علماؤنا العاملون بعلمهم أين آباؤنا وأجدادنا رحلوا وقل والله بعدهم بقاؤنا. هذه مساكنهم فيها غيرهم قد نسيناهم ونسيهم محبهم وجفاهم. أين أصحاب القصور الحصينة، والأنساب العالية الرصينة والعقول الراجحة الرزينة، قبضت عليهم يد المنايا فظفرت، ونقلوا إلى أجداث ما مهدت إذ حفرت ورحلوا بذنوب لا يدرون هل غفرت أو بقيت فالصحيح منهم بالحزن قد سقم والمدعو إلى دار البلى أسرع ولم يقم والكتاب قد سطر بالذنوب فرقم. ولذيذ عيشهم بالتنغيص قد ختم وفراقهم لأحبابهم وأموالهم قد حتم والولد قد ذل ويتم، فتفكروا في القوم كيف

ص: 351

رحلوا، وتذكروا ديارهم أين نزلوا، واسألوا منازلهم عنهم ماذا فعلوا فانتبه من رقادك قبل أن تصل ما وصلوا يا من غفل وسهى ولهى ونسى المقابر والبلى.

اللهم لا تشغل قلوبنا بما تكفلت لنا به، ولا تجعلنا في رزقك خولاً لغيرك، ولا تمنعنا خير ما عندك بشر ما عندنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌59- موعظة

قال بعض العلماء بعد سياقه لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} : أيها الناس لقد كانت الأمة الإسلامية فيما مضى مُتمسكة بكتاب الله، عاملةً بسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، صحيحة في عقائدها. صالحة في أعمالها حسنةً في مُعاملاتها وعاداتها، كريمة في أخلاقها بصيرة في دينها راقية في آدابها وعلومها، فكانت عزيزة الجانب، قوية الشوكة، جليلة ً مهيبةً، صاحبة السلطان والصولة على من عداها، واليوم تغير أمرها، وتبدل حالها، اختلت عقائدها وفسدت أعمالها، وساءت معاملاتها وعاداتها، وتدهورت أخلاقها، وجهلت أمر دينها ودنياها، وتأخرت علومها وصنائعها فصارت ذليلة الجانب، ضعيفة الشوكة، ساقطة الكرامة، فاقدة الهيبة مغلوبة على أمرها، متأخرةً في مرافق حياتها تتخبط في ظلمات الجهل، وتنقاد للخرافات والأوهام، قال الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} وما ذاك إلا لأنها خالفت كتاب ربها، وانحرفت عن طريق الهادي نبيها، وسارت وراء هواها، وفُتنت بزخارف الحضارة المزيفة، والمدنية الكاذبة

ص: 352

وظنت الإباحية حرية والخلاعة رُقياً، فتعدت حدود الدين والعقل. وأغضبت خالق الأرض والسماء فساءت حالها، وسُلط عليها عدوها، قال الله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أيها الناس لقد ذاقت الأمة وبال أمرها، وعوقبت بشر آمالها، وتجرعت مرارة الذل والهوان، والتفرق والانحلال، كل ذلك نتيجةٌ لازمة لعدم استقامة الأمة، وانحرافها عن الصراط المستقيم، {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ} كل ذلك نازل بنا وواقع علينا، ونحن لا نفيق من سكرتنا، ولا ننتبه من غفلتنا، ولا ننزجر بالمحن والبلايا، ولا نعتبر بحوادث الأيام فلو كانت لنا نفوس حية وقلوب يقظة وشعور حي وإحساس قوي، لنبهتنا البلايا، وأيقظتنا المؤلمات.

أيها المسلم: الدين عقيدة صحيحة، وعبادة قوية، ومعاملات حسنة عادلة، وأخلاق كريمة، فانظروا وفكروا، وفتشوا على أنفسكم، هل أنتم سائرون في أعمالكم وأحوالكم على منهج الصراط المستقيم، أم أنتم منحرفون عنها، فألزِموها السير على الطريق على الطريق القويم، وفقنا الله وإياكم للاستقامة، وأمَّننا وإياكم من أهوال يوم القيامة، ووقانا وإياكم شر الحسرة والندامة، وغفر لنا ولكم ولجميع المسلمين، برحمته إنه أرحم الراحمين، وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌60- موعظة

إخواني إنكم في دار هي محل العبر والآفات، وأنتم على سفر والطريق كثيرة المخافات، فتزودوا من دنياكم قبل الممات، وتداركوا هفواتكم قبل الفوات، وحاسبوا أنفسكم وراقبوا الله في الخلوات، وتفكروا فيما أراكم من

ص: 353

الآيات، وبادروا بالأعمال الصالحات، واستكثروا في أعماركم القصيرة من الحسنات، قبل أن يُنادي بكم مُنادِ الشتات، قبل أن يُفاجئكُم هادم اللذات، قبل أن يتصاعد منكم الأنين والزفرات قبل أن تنقطع قلوبكم عند فراقكم حسرات، قبل أن يغشاكم من غم الموت الغمرات، قبل أن تُزعجوا من القصور إلى بطون الفلوات، قبل أن يُحال بينكم وبين ما تشتهون من هذه الحياة قبل أن تتمنوا رجوعكم إلى الدنيا وهيهات.

شعراً:

بَكَى لأنْ مَاتَ مَيْتٌ من عَشيْرَتِهِ

وَقَالَ وَاحرَبَا وَصَاحَ يَا هَرَبَا

وَبَاتََ فَوْقَ حَشاهُ لِلأَسَىَ لَهَبٌ

إِذَا أَرَادَ خُبُوا فارَ وَالتَهَبَا

وَلَو رَآى بِصَحِيْحِ العَقْلِ حَيْنَ رَأى

وَكَشَّفَ اللهُ عَنْهُ لِلْهَوى حُجُبَا

لَمَّا رَأَى الدَّهْرَ مَيْتاً أَوْ أَحَسَّ بِهِ

إِلا بَكَى نَفْسَهُ المِسْكِيْنُ وَانْتَحَبَا

وَمَنْ رَأى السُّمْرَ في جَنْبَيْهِ شَارِعَةٌ

أنَّى يَرَاهَا بِجَنْب ناءَ أو قَرُبَا

وَطَلْعَةُُ الموتِ إِنْ تَطْلَعْ عَلَى أَحَدٍ

أَرَتْهُ في نَفْسِهِ مِنْ هَولِهَا عَجَبَا

وقال أحد العلماء رحمه الله في موعظة وعظها ألاَّ إن الدنيا بقاؤها قليل،

ص: 354

وعزيزها ذليل، وغنيها فقير، شابها يهرم، وحيُّها يموت، ولا يغركم إقبالها مع معرفتكم بسرعة إدبارها، والمغرور من اغتر بها.

أين سكانها الذين بنوا مرابعها وشققوا أنهارها وغرسوا أشجارها وأقاموا فيها أياماً يسيرة وغرتهم بصحبتهم وغُرُّوا بنشاطهم فركبوا المعاصي إنهم كانوا والله بالدنيا مغبوطين بالمال على كثرة المنع عليه محسودين على جمعه.

ما صنع التراب بأبدانهم والرمل بأجسامهم والديدانُ بأوصالهم ولحومهم وعظامهم وإذا مررت فنادهم إن كنت منادياً وادعهم إن كنت لا بد داعيا.

ومُر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم وسل غنيهم ما بقي من غناه وسل فقيرهم ما بقي من فقره واسألهم عن الألسن التي كانوا بها يتكلمون وعن الأعين التي كانوا بها ينظرون وسلهم عن الأعضاء الرقيقة، والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنعت بها الديدان.

محت الألوان، وأكلت اللُّحمان، وعفرت الوجوه، ومحت المحاسن، وكسرت الفقار، وأبانت الأعضاء، ومزقت الأشلاء قد حِيل بينهم وبين العمل وفارقوا الأحبة.

فكم من ناعمٍ وناعمةٍ أصبحت وجوههم بالية، وأجسادهم من أعناقهم بائنة، وأوصالهم مُتمزقة، وقد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه صديداً، ودبت دواب الأرض في أجسامهم، وتفرقت أعضاؤهم.

ثم لم يلبثوا إلا يسيراً حتى عادت العظام رميماً قد فارقوا الحدائق فصاروا بعد السعة إلى المضائق قد تزوجت نساؤهم وترددت في الطرق أبناؤهم.

فمنهم والله الموسَّعُ له في قبره الغض الناعم فيه المُتنعم بلذاته، فيا ساكن

ص: 355

القبر ما الذي غرك في الدنيا هل تظن أنك تبقى أو تبقى لك أين دارك الفيحاء ونهرك المطرد وأين ثمرتك الحاضر ينعُها وأين رقاق ثيابك وأين كسوتك لصيفك وشتائك هيهات هيهات يا مُغمض الوالد والأخ وغاسله وحامله يا مُدلِّيهِ في قبره وراحل عنه، ليت شعري كيف نمت على خُشُونةِ الثرى، وبأيِّ خديك بدأ البلى، يا مُجاور الهلكى صرت في مَحَلَّةِ الموت، ليت شعري ما الذي يلقاني به ملك الموت عند خروج روحي من الدنيا.

اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ وآله وسلم.

‌61- موعظة

عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله فالزموها، وأحُثُّكم على الأعمال الصالحة فاغتنموها، إن الزمان يَطوي بكم مسافة الأعمار لا شك وأنتم راحلون عن هذه الدار فيا معشر الشيوخ ماذا تنتظرون بعد المشيب وهل بعده إلا الموت فإن الموت قريب إنه ليس إلى البقاء من سبيل فماذا تزودتم للرحيل ويا معشر الشباب أنفقتم غرر الأعمار عند المذياع والكرة ونحو ذلك مما يصدُّكُم عن ذكر الله وعن الصلاة ويا معشر التجار لقد ضاعت أعماركم في "ألو" و"كم ربح فلان" و"كم بيع البيت الفلاني والأرض الفلانية" وخذ هذه الجريدة وأعطني الأخرى ألا صرفتم بعض الوقت إلى المسابقة إلى غرف الجنة وأراضيها وأنفقتم بعض ما وهبكم الله من المكاسب إلى ما يُرضي الله من تفقد الفقراء الذين ليس لهم موارد لا قليلة ولا كثيرة ممن يستعينون بها على

ص: 356

طاعة الله ومن مساجد تحتاج إلى ترميم أو فُرُشٍ وإلى إنشاء مساجد عند من ليس عندهم شيء منها أو إلى طباعة مصاحف طباعة جيدة فتوزعوها على التالين للقرآن آناء الليل والنهار أو طبع كتب دينية فيها تقوية للشريعة ونشر لمحاسن الإسلام ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وابن رجب وابن مُفلح وابن كثير والموفق والمجد والشيخ المُجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ونحوهم من العلماء العاملين بعلمهم المُصلحين المُخلصين الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم نسأل الله أن يُيسر لنا في هذا الزمان أمثالهم لنصر دينه إنه القادر على ذلك.

شعراً:

المَالُ يَذْهَبُ حِلَّهُ وَحَرَامَهُ

طُراً وَتَبْقَى في غَدٍ آثَامَهُ

لَيْسَ التَّقِيُّ بمُتَّقِ لإِلاهَهِ

حَتَّى يَطِيبُ شَرَابُهُ وَطَعَامُه

وَيَطِيبُ مَا يَحْوِي وَيَكْْسِبُ كفُّهُ

وَيَكُوْنُ في حُسْنِ الحَديْثِ كَلامُهُ

نَطَقَ النَّبِيُّ لَنَا بِهِ عَنْ رَبِّهِ

فَعَلى النَّبِيِّ صَلاتُهُ وَسَلامُهُ

اللهم طهر قلوبنا من النفاق وعملنا من الرياء وطهر مكسبنا من الربا وألسننا من الكذب ووفقنا لمصالحنا واعصمنا عن ذنوبنا وقبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأَكَنْتهُ سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ

ص: 357

وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌62- خطبة في (شؤم المعاصي وخطرها)

الحمد الله كتب العزة والكرامة لمن أطاعه. وقضى بالذل والهوان على من عصاه، نحمده سبحانه ونشكره، لا رب لنا سواه ولا نعبد إلا إياه. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العالم بما في الكون من حوادثٍ وخطوب، وبما ألم بالمسلمين من شدائدٍ وكروب، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه وكل من سار على نهجه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} ، عباد الله: اتقوا الله واحذروا وخافوا ما أنذرتكم منه. هذه الآية إذ هي نصٌ صريح بأن الله لا يؤاخذ قوماً إلا بما كسبت أيديهم فلا يُغير تعالى ما بهم من نعمةٍ بنقمة أو عافيةٍ ببلاء أو أمنٍ بخوف أو سرورٍ بحزن أو غِنىً بفقر حتى يُغيروا ما بأنفسهم فيُقابل الشكر بالكفران والطاعة بالعصيان تلكم سُنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً. أيها المسلمون يظهر لنا جلياً مصداق الآية الكريمة وشاهدها من التأمل في ماضي المسلمين الوضاء وحاضرهم المظلم وما طرأ عليه من تحولٍ فظيع لما أن غيروا وتهاونوا بحرمات الله ففي الماضي إبان أن كانت الأمة الإسلامية صادقة في دعوتها، متمسكة بكتاب ربها عاملةً بسنةِ نبيها صحيحة العقائد كريمة الأخلاق حسنة المعاملة بصيرةً في دينها ودنياها كانت مُهابة، قوية الشوكة، عظيمة الجانب، صاحبة السلطة، تغزو القلوب قبل الأجسام يقول سبحانه:{سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} ، ويقول صلى الله عليه وسلم:«نصرت بالرعب مسيرة شهر» وبعد أن وهن المسلمون وضعفوا وفُتنوا أو معظمهم، بزخارف الدنيا وساروا

ص: 358

وراء أطماعهم الخاصة واتبعوا شهواتهم وأهواءهم وغاروا لأنفسهم ولم يغاروا لحرمات الله والتمسوا الأعذار للمخلوقين ونسوا أو تناسوا مسؤولية رب العالمين. بعد أن وجد فيهم ذلكم سافراً أعذر الله فيهم فسلط عليهم ذلاً لا ينزعه حتى يرجعوا إلى دينهم وتداعت عليهم الأمم من كل حدبٍ وصوب حتى أصبحوا خائفين بعد أن كانوا مخوفين، ومغزيين بعد أن كانوا غازين، وهائبين بعد أن كانوا مهيبين فلا حول ولا قوة إلا بالله. روى الإمام أحمد عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها» قلنا يا رسول الله أمن قلةٍ بنا يومئذٍ؟ قال: «أنتم يومئذٍ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل تنزع المهابة من قلوب عدوكم ويجعل في قلوبكم الوهن» قالوا: وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت» . وما ذلكم يا عباد الله إلا شؤم المعاصي وثمرات الذنوب التي أفقدتنا أعظم عدة وأنكى سلاح وهو غزو القلوب: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ، فهم ذلكم عقلاء الإسلام فحذروه كل الحذر. روى الإمام أحمد رحمه الله عن عبد الرحمن بن جبير بن نغير عن أبيه قال: لما فتحت قبرص وفرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض فرأيت أبا الدرداء جالساً يبكي فقلت: يا أبا الدرداء ما يُبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله فقال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.

عباد الله: حذار أن تستهينوا بمحارم الله ومعاصيه فإن لها حامياً غيوراً يُراقب السر والجهر ويعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور. فحذار من معاصيه فإنكم بارتكابها تؤججون نار إحراقكم وتحفرون الهوى السحيقة لأنفسكم فقد أخبر القرآن الكريم عن مصير العُصاة وما لاقوه من نتائج

ص: 359

وخيمة في العاجل والآجل فما الذي يا عباد الله أخرج الأبوين من الجنة دار اللذةِ والنعيم إلى دار الأحزان والآلام إلا شؤم أكلةً واحدة نُهيا عنها وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وصيره طريداً مصدراً لكل شقاء إلا تكبره وامتناعه من الإتيان بسجدةٍ واحدة، وما الذي أغرق أهل الأرض حتى علا الماء رءوس الجبال وسلط الريح العقيم على قومِ عاد وأرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وما الذي رفع قوم لوط حتى سمع أهل السماء صوت كلابهم ثم قلبها عليهم وما الذي خسف الأرض بقارون وأغرق فرعون وهامان وجنودهما، ما الذي أطاح بعروش كثيرة أضحى أهلها بعد العز أُلعوبة في يد الطغاة إلا شؤم ذنوبهم وما ذكر الله أولئكم في كتابه الكريم إلا ليخوفنا ويُنذرنا ويُحذرنا مما حل بهم. فحذارِ عباد الله من معاصي الله فإنها شهوةٌ قصيرة عاجلة تعقبها حسرةٌ دائمة ونارٌ حامية. حذارِ فقد وضح السبيل ولن ينفع عند الله مُلفق الأعذار ولا التأويل. نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وجعلنا من أهله. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

‌63- خُطبة في (فضل الشهادة بالحق)

وضرر كتمها - وخطر شهادة الزور

الحمد لله الخبير فلا تخفى عليه خافية يعلم ما توسوس به نفس المرء وما ينطق به سراً أو علانية. أحمده سبحانه أمرنا بحفظ ألسنتنا عن قول الزور والفحشاء وأسأله التوفيق لقول الحق في السراء والضراء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا مُحمداً عبده ورسوله بشر الصادقين

ص: 360

بجناتٍ تجري من تحتها الأنهار. وآذن الكاذبين بسوء العاقبة والنار والدمار. صلى الله وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الصدق في الأقوال والأفعال والبُعد عن الزيغ والضلال وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله واسمعوا قوله سبحانه بآذانٍ مُصغية وقلوبٍ واعية تنشد الحق لتتبعه، يقول جل من قائل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنَفْسُكَمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ، عباد الله: ها هو جل وعلا أمركم بالقسط الذي هو العدل وبأن تكون شهادتكم بحق لشخص أو عليه مُراداً بها وجه الله سبحانه. أمركم بالإتيان بالشهادةِ على وجهها من غير التواء أو تأويل: ومن يُطع الله فقد وقع أجره على الله فتحروا رحمكم الله في شهاداتكم وأقوالكم الحق الذي لا غبار عليه فبشهادة الحق إثبات الحقوق وتوطيد دعائم الأمن وإياكم وتحكيم عاطفة القرابة في الشهادة. إياكم والميل إلى غنيٍ لغناه أو فقيرٍ رحمةً به فالله أولى بعباده منكم فقد تظنون أن الشهادة بالحق عليهم نقمة وهي في باطن الأمر نعمة.

عباد الله: إن الشهادة بالحق لا يؤديها إلا نفوس علوية متنزهة عن أن تريد بها الدنيا وحطامها الفاني نفوس متطلعة إلى الفردوس إلى الرحيق المختوم الذي ختامه مسك فاستسيغوا رحمكم الله في أدائها كل مرارة واستسهلوا كل صعبٍ سواء كان سيراً إلى المحاكم أو انتظاراً أو كان في ذلك إغضاب لأحد ففي تأخركم عن أداء شهادة بحق تعلمونه إثمٌ كبير والله يقول: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} ، وإن القلب يا عباد الله مصدر الفساد والصلاح فإذا أثم القلب فماذا يبقى بعد ذلك فلا تكتموها ففي كتمانها شرٌ على بني الإنسانية التي أمرتم بجلب الخير لهم ودفع الشر عنهم.

ص: 361

عبادالله: إذا كان كتم الشهادة فيه ضرر على البشرية واختلال لنظامها فهناك ما هو أشد منه إثماً وأكبر خطراً وما أدراكم ما هو، هو الجريمة العظمة والطامة الكبرى شهادة الزور التي كادت تعدل الإشراك بالله شهادة الزور التي تهددنا في أموالنا ودمائنا وأمننا تلكم التي أخربت بيوتاً عامرة وأزهقت أرواحاً بريئة وأهدرت حقوقاً واضحة فما فشت في أمة إلا وسادت فيها الفوضى وتحكمت فيها الأهواء، لذا وغيره من أضراره الخطرة حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم منها بقوله:«ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس» يقول الراوي: كان متكئاً فجلس ثم قال: «وشهادة الزور وقول الزور» وما زال يُكررها حتى قلنا ليته سكت. فحذار معشر المسلمين من شهادة الزور وقوله فإن فيها إساءة على قضاة المسلمين بتلبيس الحق عليهم فيها إساءة إلى المشهود له بمساعدته على الإثم والعدوان. فيها إساءة إلى من حرمه حقه بشهادته وخذله في حين حاجته إلى نصرته فليتق الله شاهد الزور وقائل الزور وليتُب إلى الله قبل أن يوقف بين يدي أحكم الحاكمين وأعدل العادلين الذي سيقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء. ليتب إلى الله قبل أن يُساق إلى جهنم مع المجرمين فو الله لو علم ما أعد الله له من الخزي العاجل والعذاب الأليم في الآخرة لتمنى أن لسانه قطع قبل أن ينطق بشهادة زور أو كلمة زور فاتقوا الله أيها المسلمون: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} . نفعني الله وإياكم بهدي كتابه أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

ص: 362

خطبة في (أكلُ الأموال بالباطل - وخَطَرُ الرِشُّوة)

الحمد لله الهادي إلى سبيل الرشاد. أحمده تعالى وأعوذ به من مفاتن الدنيا ونزعات الفساد. وأشكره وأسأله التوفيق المتواصل والسداد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمرنا بالأكل من طيبات الأموال. ونهانا عن كل ما فيه خطر على كياننا من الأعمال. وأشهد أن سيدنا ونبينا مُحمداً عبده ورسوله صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد فيا عباد الله إليَّ بالآذان المُفتحة والقلوب الواعية إليَّ لنتعقل ونتفهم الوحي السماوي الذي جاء بما يكفل سعادة الفرد والمجموع جاء بما إن تمسكنا به لن نضل أبداً. جاء بما يُقوي الروابط ويحفظ الصلات يقول سبحانه: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، عباد الله: نهاكم الله في هذه الآية الكريمة عن أن تأكلوا أموالكم أو أن يأكل بعضكم مال بعضٍ بالباطل. وأكله بالباطل أكله من غير الوجه الذي أباحه الإسلام فكلما أنفقه الإنسان في حرام أو فيما لا فائدة فيه فهو أكلٌ له بالباطل وما أخذ من إنسان بغير وجه شرعي كالزيادة الربوية وأثمان الجزء المغشوش من الأعيان وما كسب بالقمار وما يُدفع للكاهن ومهر البغي والرشوة وما إلى ذلك من غلول وشُبهةٍ فكل من وصل إليه مال من هذه الطرق يُعد آكلاً لمال غيره بالباطل وكل من أنفق فيما لا فائدة فيه يُعد مُنفقاً في باطل والباطل هو الزائل الذاهب الذي عاقبته الويل والخسران وما أحرى وأحق - يا عباد الله - أهل هذه الجرائم الذين أعرضوا عن هذه التعاليم السماوية الكريمة: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} ، ما أحقهم بالعذاب الأليم وتصلية الجحيم.

عباد الله: إن من أكبر الكبائر أكل الأموال بالباطل وأخبثها أخذ

ص: 363

الرشوة أو إعطاءها فذلكم الداء الخطر داء السرطان الذي ما خالط جسماً إلا وقضى عليه ما لم يُستأصل فما خالطت الرشوة عملاً إلا أفسدته، ولا نظاماً إلا قلبته ولا قلباً أو طريقاً منيراً إلا أظلمته فما فشت في أمةٍ إلا وأطاحت بسلطانها ما وُجدت في أمةٍ إلا وحل الغش فيها محل الإخلاص والخيانة محل الأمانة ولا غرو فكم لله من ألسنةٍ ناطقة أخرستها وضمائر وأدتها، لذا وغيره من أضرارها السيئة وعواقبها الوخيمة لم يقف النظم القرآني بإدخالها في الباطل فقط بل قال بعد ذلك مؤكداً لتحريمها ومُحذراً من سوء عاقبتها:{وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [أي ولا تدلوا بالأموال إلى الحكام. والإدلاء المنهي عنه له معنيان أحدهما أن الله سبحانه ينهاك أيها المسلم أن تُدلي بحجتك إلى الحاكم ليُحلل لك ما أكلته بالباطل. والحاكم إنما يحكم بالظاهر فحكمه لا يحرم حلالاً في باطن الأمر ولا يحل حراماً يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إليَّ فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئاً فإنما أقطع له قطعة من نار فليأخذها أو ليدعها» . المعنى الثاني للإدلاء أن الله سبحانه ينهاكم أن تُعطوا الحاكم شيئاً من المال ملتمسين بذلكم استمالته في الحكم كي تتوصلوا إلى أكل طائفة من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون ما أنتم عليه من باطل وظلم تعلمون أنكم بذلك أسأتم إلى أنفسكم وعرضتموها للعنة الله وغضبه وعقابه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الراشي والمرتشي والرائش» ، وروى الطبراني عن ابن مسعود موقوفاً قال:«الرشاء في الحكم كفر وفيما بَيْنَ الناس سُحت» .

عباد الله: ليست الرشوة المتوعد أهلها بالطرد والإبعاد من رحمة الله مقصورة على دفع مال إلى حاكم وشبهه بل كل نفع تقدمه إلى حاكم أو

ص: 364

رئيس مصلحة أو مأمور ثغر تقصد بذلك استمالته واستغلال منصبه في باطل فهو رشوة جاء الحديث النبوي مُثبتاً إن هدايا العمال غلول استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً على الصدقة يُقال له ابن اللتبية فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا لكم وهذا أهديَّ إليّْ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وصعد المنبر فقال:«ما بال أحدكم نستعمله فيقول هذا لكم وهذا أُهديَّ إِليّْ هلا قعد أحدكم في بيت أمهٍ فينظر ماذا يُهدي إليه» فاتقوا الله عباد الله وتعاونوا على تطهير نفوسكم ومجتمعكم من داء الرشوة فإنه مُهدر للحقوق مُعطل للمصالح فحذار منه فإن فشوه في أُمةٍ مؤذن بهلاكها كيف لا وهي مُساعدة على الإثم والعدوان تقدم الجهلاء وتؤخر الأكفاء ترفع الخامل وتضع المُجد العامل فحذار من الرشى يا عباد الله فإنها فخ المروءة وقبر الأمانة والشرف لا يقدم عليها إلا خائن وضيع دنيء النفس سافل المروءة مساوم في دينه وكرامته. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم لما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

‌64- موعظة

أيها الإخوان لقد ذهب أكثر عامكم وفات، وتقضت أيامه ولياليه وأنتم مُنهمكون في اللذات، فما أسرع ما تضرمت منه الأوقات، وما أكثر ما خطبكم لسان حاله بزواجر العظات، وما أطول ما نادى بكم مُنادي الشتات.

أبنيَّ أبيْنَا نَحنُ أهلُ مَنَازِلٍ

ص: 365

أبداً غُرابُ البَيْنِ فيها ينعِقُ

فطوبى لمن تدارك الهفوات، وبُشرى لمن لازم تقوى الله، وعمل بالباقيات الصالحات، وهنيئاً لمن أذهب السيئات بالحسنات، ويا خيبة من شغلته الملاهي والمنكرات، عن طاعةِ رفيع الدرجات، وما أعظم خسارة من باع نفيس آخرته بخسيس دُنياه، وحسرةً له يوم:{تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} ، وتعساً وجدعاً له:{يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} .

عباد الله: قد سبق ذكر الموت وأحوال الميت في سكراته وفتنة القبر وسؤال مُنكر ونكير وعذاب القبر ونعيمه وخطر من كان مسخوطاً عليه وأعظم من ذلك الأخطار التي بين يديه من نفخ الصور والبعث والنشور والعرض على الجبار والسؤال عن الدقيق والجليل، ونصب الميزان لمعرفة المقادير.

ثم جواز الصراط مع دقته وحدته ثم انتظار النداء عند فصل القضاء إما بالإسعاد وإما بالإشقاء فهذه أحوال وأهوال لا بد من معرفتها ثم الإيمان بها على سبيل الجزم والتصديق ثم تطويل الفكر في ذلك اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة.

كما جاء في الكتاب والسُنة يجمع الله فيه الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد يُسمعهم الداعي وينفذهم البصر لا يغيب منهم أحد وتدنو منهم الشمس ويُلجمهم العرق هذا اليوم هو اليوم الذي: {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} .

ص: 366

في ذلك اليوم يبلغ الأمر من الحيرة والدهشة والاضطراب والذهول أن تذهل المرضعة عن ولدها الذي فمه في ثديها وهو أعز شيء لديها فكيف بالذهول عما سواه وتسقط الحوامل من الفزع والرعب والروع ما في بطونها من الأجنة قبل التمام وترى الناس كأنهم سُكارى من شدة الروع والفزع والخوف الذي صير من رآهم يُشبههم بالسكارى لذاهب عقولهم من شدة الخوف كما يذهب عقل السكران من الشراب: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} ، تكون الأرض كالسفينة في البحر عند اضطراب الأمواج تكفأ بأهلها.

فيميد الناس على ظهرها ويتساقطون من شدة الأمر وبلوغه أقصى الغايات ولهذا أذهل العقول وأذهب التمييز والفكر والصحو إنه يوم القيامة: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا} .

إنها لهزة عنيفة للقلوب الغافلة حيث ترجف الأرض الثابتة ارتجافاً وتزلزل زلزالاً وتنفض ما في جوفها نفضاً وتُخرج ما يُثقلُها من أجساد ونقود وغيرها مما حملته طويلاً وهو مشهد يهز كل شيء ثابت والأرض تهتز والسماء تمور.

إنه لمشهد مُجرد تصوره، يخلع القلوب يرى الإنسان ما لا يعهد ويواجه ما لا يُدرك ويشهد ما لا يملك الصبر أمامه ولا السكوت عنه:{وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا} ، ما الذي يُزلزلها هكذا ويرُجها رجاً.

وكأنه من شدة ما نزل يتمايل على ظهر الأرض ويتشبث ويحاول أن يُمسك بشيءٍ لعله يثبت لأن كل ما حوله يمور موراً شديداً قد امتلأ من الرعب والفزع والدهشة والعجب.

يرى الجبال وهي تسير: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} ، هذه الجبال وقد

ص: 367

نُسفت وبُست وراءها ذرات في الهواء: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} ، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} ، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} .

هذه تُصرح وتشير إلى حدثٍ عظيم تتزلزل منه الجبال وتذهب هباءً يتلاشى ثباتها ورُسُوخها واستقرارها وتماسكها والإنسان ينظر ولا يكاد يلتقط أنفاسه: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} .

هنا يُشاهد ويُواجه الحشر والحساب والوزن والجزاء ويقف جبريل عليه السلام والملائكة صفاً بين يدي الرحمن: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} ، {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} ، {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ} ، {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} .

وموقف هؤلاء المُقربين صامتين خاشعين خاضعين لعظمة الله: {وَخَشَعَتِ الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} ، {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} .

موقفهم هكذا صامتين لا يتكلمون إلا بإذنٍ من الرحمن يُلقي في النفس الرهبة والرُعب والفزع من ذلك اليوم العظيم الذي ينكشف فيه كل مستور ويعلم فيه كل مجهول.

وتقف فيه النفس أمام ما أحضرت من الرصيد والزاد في موقف الفصل والحساب: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ} ، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} ، {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} ، {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} .

ص: 368

في ذلك اليوم يكون التغير العظيم الشامل للمعهودات السموات والأرض الشمس مُكورة والنجوم منكدرة والسماء مُنشقة والوحوش النافرة محشورة والأنعام والطيور والعشار مُعطلة: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ * يَقُولُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} ، {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} ، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلا} ، {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} .

هذه الآيات وأمثالها تشير إلى ذلك الحادث الهائل في الكون كله ولا يعلم حقيقته إلا الله إنه حادث عظيم ترجف الأرض منه وتخاف وتنهار فكيف بالخلق الضعاف المهازيل الذين تهزهم الصواعق هزاً وتخلع قلوبهم خلعاً: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} ، {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا} .

وفي وسط هذا الرعب والخوف والقلق والفزع والذهول والانقلاب يتساءل الإنسان المذعور أين المفر ويبدو ذلك في سؤاله وكأنما ينظر في كل اتجاه فإذا هو مسدود دونه مأخوذ عليه ولا ملجأ ولا محيص ولا منفذ ولا وقاية من قهر الله وأخذه، والرجعة إليه والمصير والمستقر عنده:{كَلا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} ، {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا} .

ففي هذا الموقف الرهيب يتبين عجز الخلائق وضعفهم وكمال سلطان الله وقدرته ونفوذ مشيئته: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} إنكم في قبضة الله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} إنه ليومٌ عصيب وموقفٌ رهيب: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ

ص: 369

أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} .

فلا مجال لهرب أحد ولا نسيان لأحد فعين الله على كل فرد وكل فرد يقوم وحيداً لا يأنس بأحد فإذا هو فريد وحيد أمام الديان: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} ، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه} .

مشهد المرء يفر وينسلخ ويهرب من أقرب الناس إليه وألصقهم به أولئك الذين تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم ولكن الصاخة والطامة تُمزق هذه الروابط وتُقطَّع الوشائج والصلات: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} .

فالهول يُفزع النفس ويُقلقها ويفصلها من محيطها ويستبد بها استبداداً فلكلٍّ نفسه وشأنه ولديه الكفاية من الهم الخاص به الذي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيه} ، {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ} .

فها هي ذي الساعة التي يغفل عنها الغافلون ويلهوا عنها اللاهون ويستعجل بها المستعجلون: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} ، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} ، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} .

وهؤلاء المجرمون حائرين يائسين لا أمل في النجاة ولا رجاء ولا خلاص بل قد أيقنوا في العطب: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ

ص: 370

يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} ، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} .

هنا يعترفون بالخطيئة ويُقرون بالحق الذي جحدوه بالدنيا ويُعلنون اليقين بما شكوا فيه ويطلبون العودة إلى الدنيا لإصلاح ما فات في الدنيا ومنظرهم إذ ذاك مُفزع مُخيف وهم ناكسوا الرءوس خجلاً وخزياً.

فالأمر أمر فظيع والحال مُزعجة أقواماً حاسرين مكروبين وسؤال غير مُجاب لفوات وقت الإمهال: {وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} .

فيا عباد الله انتبهوا من رقدتكم واستدركوا بقية أعماركم واحذروا الانهماك في دار الغرور فالويل كل الويل لكم إن أدرككم الموت وأنتم على هذه الحالة، زينتم الفلل والقصور ونسيتم القبور، اذكروا القبر وظلمته ووحشته والموت وسكرته والميزان وخفته أو رجحته والكتاب وأخذته والصراط ودقته، والموت، سكرة في سكرة وحيرة في حيرة وجذبةٌ يا لها من جذبة وكربة يا لها من كُربة فالمسكين يُكابد غصص المنون داهش العقل كالمحزون.

فالله الله عباد الله أفيقوا من سكراتكم وانتبهوا من نوماتكم واستيقظوا من غفلاتكم قبل مُفاجأة المنية وحلول الرزية ووقوع البلية حيث لا مال ولا ولد نافع ولا حميم شافع ولا فرح واقع ولا رجاء طامع ولا حسنة تُزاد ولا سيئة تُحذف ولا حياة تُعاد ويُزودُك أحبابك بالحزن عليك والبكاء فلا عثرةٌ تُقال ولا رجعة تُنال.

اللهم يا مُصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا واستر في الدنيا والآخرة عيوبنا واغفر بعفوك ورحمتك ذنوبنا، وهب لنا مُوبقات الجرائر واستر علينا يا

ص: 371

مولانا فاضحات السرائر، ولا تُخلنا في موقف القيامة من برد عفوك وغفرانك ولا تتركنا من جميل صفحك وإحسانك وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌65- "موعظة في الحث على الإقبال على الآخرة

"

إخواني أين رُفقاؤنا وإخواننا أين ذهب معارفنا وجيراننا أين أصدقاؤنا أين زُملاؤنا وأقراننا أين عُلماؤنا العاملون بعلمهم أين آباؤنا وأجدادنا رحلوا وقلَّ والله بعدهم بقاؤنا هذه مساكنهم فيها غيرهم قد نسيناهم ونسيهم مُحبهم وجفاهم. أين أصحاب القصور الحصينة، والأنساب العالية الرصينة والعقول الراجحة الرزينة، قبضت عليهم يدُ المنايا فظفرت، ونُقلوا إلى أجداث ما مُهدت إذ حُفرت ورحلوا بذنوبٍ لا يدرون هل غُفرت أو بقيت فالصحيح منهم بالحزن قد سقم والمدعو إلى دار البلى أسرع ولم يقم والكتاب قد سطر بالذنوب فرُّقِم، ولذيذ عيشهم بالتنغيص قد ختم وفراقهم لأحبابهم وأموالهم قد حُتم والولد قد ذل ويُتم، فتفكروا في القوم كيف رحلوا، وتذكروا ديارهم أين نزلوا، واسألوا منازلهم عنهم ماذا فعلوا فانتبه من رقادك قبل أن تصل ما وصلوا يا من غفل وسهى ولهى ونسي المقابر والبلى.

‌66 - موعظة

عباد الله إن التوبة من الذنوب مفتاح السعادة في هذه الدار وفي دار القرار، وإنما كانت التوبة كذلك لأن بها يغفر الله الذنوب جميعاً لا فرق بين صغارها والكبار ولأن التائب إذا صحت توبته بأن اجتمعت شروطها وانتفت

ص: 372

الموانع يصبح بالتوبة أميناً على دينه لا يُخل بواجب من واجبات الإسلام فتوبوا عباد الله توبةً نصوحاً لتستنير قلوبكم وأبدانكم بدل ظلمات كانت مُخيمة عليها تُثقلكم عن طاعة مولاكم وستجدون بإذن الله انشراحاً في صدوركم بدل انقباضها وضيقها فإن الذنوب تؤثر على القلوب والأبدان انقباضاً يشتد على المُصِرِّ على الذنوب حتى يضيق به فسيح الأرجاء ولك أيها التائب العامل بالطاعات الأمل القوي بتوالي الطاعات لأن الخيرات تُنتج بإذن الله بعضها بعضاً ولك الأمل القوي بأن تنقاد لك الأرزاق بعد أن كانت مُمتنعة فتُصبح في يُسر بعد أن كنت في إعسار ولك الأمل في أن العداوات التي كانت بينك وبين الخلق تُصبح بإذن الله حباً يلفت الأنظار ذلك أن الذنوب والمعاصي هي أسباب الشرور والعقوبات المؤلمات وأن المرء بالتوبة منها يُرضي بديع الأرض والسموات فتأكد أيها الأخ أن التوبة هي الينبوع الفياض لكل خير في الدنيا والآخرة فلا تشك في أن الله تعالى يُفيض من فضله وجوده ما يُفيض على من أخلص العمل لجلاله فتُب أيها الأخ واصدق في التوبة واسأله أن يُبلغك بها رضوانه وأن يجعلك من حزبه المُفلحين الذين: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ، فتعيش وتموت وتُبعث في رعاية ربك ولُطفه وغيرك ممن لم يتوبوا في إهانته البالغة يتقلبون فعليك بالاعتماد على الله والتوكل عليه واللجاء إليه دائماً مُتضرعاً مُتملقاً.

اللهم اعمر قلوبنا وألسنتنا بذكرك وشكرك ووفقنا للامتثال لأمرك وأمِّنا من سطوتك ومكرك واجعلنا من أوليائك المتقين وحزبك المفلحين واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 373

‌67- "موعظة

"

عباد الله تمر الحياة بأحدنا وهو منهمك في ملذاته وشهواته ومطامعه، لا يُفكر في مآله ولا في يوم حسابه وكأنه خالد في الدنيا لا يموت أبداً، أو كأن عنده يقين أنه لا يُحاسب على ما جناه.

ومن العجيب أنه لا يمر يوم بل ولا ساعة إلا وفي ذلك نذير لابن آدم بالرحيل عن هذه الدار، يُشاهد الموت يتخطف الناس من حوله فلا يزدجر، تقوم الحوادث الجسام من حروبٍ تفني آلافاً من البشر وتُهدد الأحياء بالالتحاق بمن مات، وبالمجاعات والخراب، فلا يتعظ ولا يعتبر. ويرى الحرائق ما بين آونة وآونة تتلف النفوس والأموال والمساكن، وكيف تكون حالة الناس ومطافيهم، فلا يذكر جهنم وأهوالها وأنكالها وما فيها من أنواع العذاب الذي لا تصمد له الجبال الصم الصلاب، قست القلوب، وتحجرت الضمائر، {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} ، {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} .

أيها الغافلون، دنياكم دار غرور وهموم وأحزان، وهي بلا شك فانية، أخراكم دار قرار باقية، وأجهل الناس من باع آخرته بدنياه والتقوى مفتاح السعادتين الدنيوية والأخروية، ضمان ضمنه الله لعباده، ووعدٌ لا يتخلفُ، قال تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

أما المعاصي والغفلة والنسيان والطغيان، فليس من ورائها إلا ضنك المعيشة في الدنيا بالهموم المبرحة والأحزان المُجرحة مع العذاب الأليم في الآخرة، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا

ص: 374

وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} الآيات.

أيها العاقلون كلكم تعلمون أن الغفلة تُنسي العبد ربه وآخرته، ومن نسي ربه أنساه الله نفسه، قال تعالى:{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} ، فلا تتعرضوا بذلك لسخطه وكونوا دائماً ذاكرين للآخرة، فإن ذلك يبعث على الخوف من الله، ومن خاف ربه استقام بإذن الله، قال الله تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} ، والله أعلم وصلى الله على مُحمدٍ وآله.

‌68- موعظة

رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل ويؤخر التوبة لطول الأمل ويقول في الدنيا بقول الزاهدين ويعمل فيها عمل الراغبين إن أُعطي من الدنيا لم يشبع وإن مُنع منها لم يقنع ويأمر الناس بما لا يأتيه يُحب الصالحين ولا يعمل أعمالهم ويُبغض المُسيئين وهو منهم يكره الموت لكثرة ذنوبه ويُقيم على ما يكره له الموت إن سقم ظل نادماً وإن صح أمِنَ لاهياً يَعجَبُ من نفسه إذا عوفي ويقنط إذا تغلبه نفسه على ما يظن ولا يغلبها على ما يستقين ولا يثق من الرزق بما ضُمِنَ له ولا يعمل من العمل بما فُرض عليه إن استغنى بَطِرَ وإن افتقر قَنِطَ وحَزنَ فهو من الذنب في حال النعمة والمحنة موقرٌ، يطلب الزيادة ولا يشكر ويتكلف من الناس مالا يؤمر ويضيع الموت ولا يُبادر الفوت يستكبر من معصية غيره ما يسهل أكثره من نفسه. مزاهر اللهو مع الأغنياء أحبُّ إليه من الذكر مع الفقراء يحكم على غيره لنفسه ولا يحكم عليها.

اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبت محبتك فيها وقوها وألهمنا ذكرك

ص: 375

وشكرك وارزقنا حُب أوليائك وبُغض أعدائك وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌69- موعظة

عباد الله إن من أعجب العجب أن يعصي الرجل مولاه وإنما كان ذلك عجباً لأن المؤمن يتيقن يقيناً لا شك فيه أن مولاه جل وعلا يراه، ويعلم سره ونجواه، ومعلوم أن الإنسان يستحيي أن يفعل ما يُغضب أخاه وهو يراه، مع أنه لا يملك له ضراً ولا نفعاً في هذه الدار، ولا في دار القرار، وإذا كان هذا حاله مع هذا المخلوق فعجيبٌ جداً أن لا يكون أشد احتراماً وحياءً مع فاطر الأرض والسموات، مع أنه تعالى هو الذي أوجد الجميع من العدم وهو الذي يحفظ عليك الحياة وهو الذي أسبغ عليك النعم ظاهرةً وباطنة، وأدام ذلك عليك ووالاه، ولو شاء لسلبك كل نعمة، وأحل بك كل نقمة، وجعلك في هذا الوجود عبرة لأولى الأبصار، أضف إلى ذلك أنه تعالى هو الذي يُميتك، ويُعاملك في قبرك بما يناسب ما لك من أعمال، وهو الذي يبعثك بعد موتك، ويسوقك إلى ذلك الموقف الذي هوله يُشيب الأطفال، وهو الذي يُحاسبك على ما كان منك في حياتك الأولى من الأفعال، وهو الذي يأمر بك إما إلى الجنة وإما إلى النار، نعم إنه من أعجب العجب أن يُجاهر المؤمن ربه بالمعصية، وهو يعلم أنه مالك دنياه وأُخراه، إن البرهان الذي لا مغمز فيه على أنك تستحيي من ربك أيها المؤمن، أن تكون بعيداً كل البعد دائماً عن معاصي الله، فتحبس لسانك عن القذف والكذب والنميمة والغيبة، والخلف في الوعد، وعن المراء والجدال والاستهزاء، والسخرية بالناس، واللعن

ص: 376

والفحش، ونحو ذلك مما هو مُحرم شرعاً أو مكروه، لأن اللسان إنما خلق لتلاوة كتاب الله وذكره، ولترشد به خلق الله، وتُظهر به ما في ضميرك من حاجات دينك ودنياك، وتُدافع به عن دينك ونفسك وأهلك، فإذا استعملته في غير ما خُلق له كان وبالاً عليك، وتحبس عينك، لأنها إنما خُلقت لك لتهتدي في الظلمات، وتستعين بها على قضاء الحاجات، وتنظر بها بعين الاعتبار إلى عجائب ملكوت السموات والأرض فتعتبِر بما فيها من الآيات الباهرات؛ فاحفظها عن النظر إلى المحرمات، من نظر إلى غير محرم من النساء، أو إلى مسلم بعين الاحتقار والازدراء، أو إلى تلفزيون أو إلى سينماء، أو إلى صورة مليحة بشهوة، أو تطلع بها على عيب مسلم، أو إلى بيت جارٍ أو غير جارٍ ممن لا يرضى بذلك، أو نحو ذلك من المحرمات.

وأما الأذن فاحفظها عن أن تُصغي بها إلى استماع الملاهي والمنكرات، أو إلى بدعة أو إلى غيبة أو فُحش، أو قذف مُسلم أو حديث قومٍ وهم لاستماعك كارهون، أو إلى الخوض بالباطل، أو ذكر مساويء الناس، لأنها خلقت لك لتسمع بها كلام الله وسُنة رسوله، وما ينفعك في دنياك وأخراك ولتتوصل بها إلى الاستفادة من العلوم الشرعية، الموصلة إلى مرضاة الله والنعيم المقيم، الدائم في جوار رب العالمين، فإذا أصغيت بها إلى شيءٍ من المحرمات أو المكروهات، صار ما كان لك عليك، وانقلب ما كان سبب فوزك سبب هلاكك، وهذا غاية الخسران، ولا تظن أن الإثم يختص به القائل دون المستمع إلا إن أنكر بلسانه، أو بقلبه إن خاف، وإن قدر على القيام والابتعاد عنهم، أو قدر على قطع الكلام بكلام آخر فلم يفعل فهو آثم، وكذلك يكف البطن والفرج عن المُحرمات، واليدين والرجلين وحاسة الشم.

ص: 377

‌70 - في موعظة جليلة

قال بعض العلماء على قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .

كشفت لنا هذه الآية الشريفة عن سُنةٍ من سُنن الله تعالى: وهي أن من غفل عن تذكر الله فنسيه وألهته دنياه عن العمل للدار الآخرة أنساه الله نفسه التي بين جنبيه فلا يسعى لما فيه نفعها ولا يأخذ في أسباب سعادتها وإصلاحها وما يكملها ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول بها إلى الفساد والدمار والهلاك وهذا من أعظم العقوبة للعامة والخاصة فأي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نفسه وضيعها ونسي مصالحها وداءها ودواءها وأسباب سعادتها وصلاحها وحياتها الأبدية في النعيم المقيم.

ومن تأمل هذا الموضع تبين له أن أكثر هذا الخلق قد نسوا أنفسهم وضيعوها وأضاعوا حظها من الله وباعوها رخيصة بثمنٍ بخس بيع المغبون ويظهر ذلك عند الموت ويتجلى ذلك يوم التغابن يوم لا ينفع نفساً إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، إنها لحسرةٌ على كل ذي غفلة دونها كل حسرة هؤلاء هم الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مُهتدين.

وأما الرابحون فهم الذين أنار الله قلوبهم للحق فعرفوا الدنيا وقيمتها وقالوا ما مقدار هذه الدنيا من أولها إلى آخرها حتى نبيع حظنا من الله تعالى والدار الآخرة بها فكيف بما ينال العبد منها في هذا الزمن القصير الذي هو في الحقيقة كغفوةِ حلم لا نِسبة له إلى دار القرار ألبتة.

قال الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} ، وقال: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ

ص: 378

ضُحَاهَا} ، هؤلاء هم الكيسون الذين علموا حقيقة الدنيا كما علموا قلة لُبثهم فيها وأن لهم داراً غير هذه الدار دار الحيوان ودار البقاء اتجروا تجارة الأكياس، ولم يغتروا بتجارة السفهاء من الناس فظهر لهم يوم التغابن ربح تجارتهم ومقدار ما اشتروا قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنَفْسُكَمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} .

وفي هذا المعنى يقول عمر رضي الله عنه: إنما الدنيا أمل مُخترم أي مُنتقض وبلاغٌ إلى دار غيرها وسير إلى الموت ليس فيه تعريج فرحم الله امرءاً أفكَرَ في أمره ونصح لنفسه وراقب ربه واستقال ذنبه وتاب إلى ربه إلى أن قال إياكم والبطُنة فإنها مَكسلة عن الصلاة ومَفسدة للجسم ومؤدية للسقم وعليكم بالقصد في قوتكم فهو أبعد عن السرف وأصح للبدن وأقوى على العبادة إن العبد لن يَهلَك حتى يُؤثر شهوته على دينه.

ومن العجب العُجاب أن العبد يسعى بنفسه في هوان نفسه وهو يزعم أنه لها مُكرم ويجتهد في حرمانها من حظوظها وشرفها وهو يزعم أنه يسعى في حفظها ويبذل جهده في تحقيرها وتصغيرها وتدنيسها وهو يزعم أنه يسعى في صلاحها وكان بعض السلف يقول في خطبته ألا رُبَّ مُهين لنفسه وهو يزعم أنه مُكرِمٌ لها ومُذل لنفسه وهو يزعم أنه مُراعٍ لحقها وكفى بالمرء جهلاً أن يكون مع عدوه لنفسه يبلغ منها بفعله ما لا يبلغه منها عدوه.

مَا يَبْلُغُ الأَعْدَاءُ مِن جَاهِلٍ

مَا يَبْلُغُ الجَاهلُ مِن نَفْسِهِ

فالعاقل هو الذي يعمل مُجداً لآخرته ولا يُنسيه نصيبه من الدنيا حظه من

ص: 379

الآخرة عاملاً بقوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} ، ولو أنه تأمل قليلاً لوجد أن لذائذ الدنيا متولدة من آلامها فمثلاً لذة الطعام لا تتحقق إلا بألم الجوع ولذة الشراب لا بد أن يسبقها حُرقة العطش ولذة النوم لا يجد الإنسان لها شوقاً إلا بعد أن يُضنيه التعب الشديد وهناك نوعٌ آخر من الحكمة غفل عنه الكثيرون من الناس وهو أنها بمثابة براطيل تحمل الإنسان على قوامه وبقاء حياته فلذة الطعام تدفعه إلى ألا يُهمل جسمه من الغذاء ولولا ما جعل الله من لذة النكاح لانقرض النوع الإنساني من الوجود ولما وجدنا دابة تدب على وجه الأرض ولا طائراً يطير في السماء وكذلك فرحة الأم بطفلها تُنسيها آلام الحمل والوحم والولادة والتعب والنصب والرضاع والسهر الطويل في التمريض مما يقض مضجعها ويُنسيها نفسها فسبحان الحكيم العليم الذي خلق كل شيءٍ فقدره تقديراً، انتهى بتصرفٍ يسير.

‌71 - موعظة

كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز في ذم الدنيا كتاباً طويلاً قال فيه: أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار مقام وإنما أنزل إليها آدم عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها والغِنى فيها فقرها تُذل من أعزها وتُفقر من جمعها كالسُّم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه فاحذر هذه الدار الغرارة الختالة الخداعة وكن أسر ما تكون فيها إحذر ما تكون لها، سرورها مشوب بالحزن وصفوها مشوب بالكدر فلو كان الخالق لم يُخبره عنها خبراً ولم يضرب لها مثلاً لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله عز وجل عنها زاجر وفيها واعظ فما لها عند الله سبحانه قدر ولا وزن، ما نظر إليها مُنذُ خلقها ولقد عُرضت على نبينا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها

ص: 380

وخزائنها لا ينقص عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها وكره أن يُحب ما أبغضه خالقه أو يرفع ما وضعه مليكه، زواها الله عن الصالحين اختياراً وبسطها لأعدائه اغتراراً أفيظن المغرور بها أنه أُكرم بها ونسي ما صنع الله بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم حين شد على بطنه الحجر، والله ما أحد من الناس بُسط له في الدنيا فلم يخف أن يكون مَكراً إلا كان قد نقص عقله وعجز رأيه وما أمسك عن عبدٍ فلم يظنه خيراً له فيها إلا نقص عقله وعجز رأيه.

اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك وارزقنا الاستقامة طوع أمرك وتفضل علينا بعافيتك وجزيل عفوك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌72 - موعظة

وقال الشيخ الواسطي في بعض رسائله: إذا أراد الله بعبدٍ خيراً أقام في قلبه شاهداً من ذكر الآخرة يُريدُ فناء الدنيا وزوالها وبقاء الآخرة ودوامها فيزهده في الفاني ويُرغبه في الباقي فيبدأ في السير والسلوك في طريق الآخرة وأول السير فيها تصحيح التوبة، والتوبة لا تتم إلا بالمحاسبة ورعاية الجوارح السبعة، العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل وكفها عن جميع المحارم والمكاره والفضول هذا أحد شطري الدين ويبقى الشطر الآخر وهو القيام بالأوامر فتحقيق الشطر الأول وهو ترك المناهي من قلبه وقالبه.

أما القالب فلا يعصي الله بجارحةٍ من جوارحه ومتى زل أو أخطأ تاب وأما القلب فتُنقي منه الموبقات المُهلكات مثل الرياء والعجب والكبر والحسد والبُغض لغير الله وحب الدنيا ورد الحق واستثقاله والازدراء بالخلق ومقتهم وغير ذلك من الكبائر القلبية التي هي في مقابلة الكبائر القالبية من شرب الخمر والزنا

ص: 381

والقذف وغير ذلك فهذه كبائر ظاهرة وتلك كبائر باطنة. وكلاهما ضرر.

قال: فمن انطوى على شيءٍ من الكبائر الباطنية ولم يتب حبط عمله بدليل «لا يدخل الجنة من كان في قبله مثقال ذرة من كبر» وجاء: «إن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب» ، وجاء بقول الله تعالى:«أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً فأشرك معي فيه غيري تركته وشركه» ، وقال تعالى:{فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} .

فمتى تنقى القلب من مثل هذه الخبائث والرذائل طهر وسكنت فيه الرحمة في مكان البغض والتواضع في مقابلة الكبر والنصيحة في مقابلة الغش والإخلاص في مقابلة الرياء ورؤية المنة في مقابلة العجب ورؤية النفس فعند ذلك تزكوا الأعمال وتصعد إلى الله تعالى ويطهر القلب ويبقى محلاً لنظر الحق بمشيئة الله ومعونته فهذا أحد شطري الدين وهو رعاية الجوارح السبعة عن المآثم والمحارم وإنما تصلح وتطهر برعاية القلب وطهارته من الموبقات والجرائم ومعنى الموبقات المُهلكات اهـ.

وقال ابن القيم رحمه الله: والقلوب ثلاثة، قلبٌ خالٍ من الإيمان وجميع الخير فذلك قلبٌ مظلم قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه لأنه قد اتخذه بيتاً ووطناً وتحكم فيه بما يريد وتمكن منه غاية التمكن، القلب الثاني: قلب استنار بنور الإيمان وأوقد فيه مصباحه لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية فللشيطان هناك إقبال وإدبار ومجالات ومطالع فالحرب دولٌ وسجال وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة فمنهم من أوقات غلبته لعدوه أكثر ومنهم من أوقات غلبة عدوه أكثر ومنهم من هو تارةٌ وتارة.

القلب الثالث: قلب محشو بالإيمان قد استنار بنور الإيمان وانقشعت عنه

ص: 382

حجب الشهوات وأقلعت عنه الظلمات فلنوره في صدره إشراق ولذلك الإشراق إيقاد لو دَنَا منه الوسواس احترق به فهو كالسماء التي حُرست بالنجوم فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رُجِمَ فاحترق.

وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة السماء والسماء مُتعبد الملائكة ومُستقر الوحي وفيها أنوار الطاعات وقلب المؤمن مُستقر التوحيد والمحبة والمعرفة والإيمان وفيه أنوارها فهو حقيق أن يُحرس ويُحفظ من كيد العدو فلا ينال منه إلا خطفة تحصل له على غرة وغفلة من العبد إذ هو بشر وأحكام البشرية جارية عليه من الغفلة والسهو والذهول وغلبة الطبع انتهى.

هذه قصيدة لبعضهم فيها غُلُو صلحنا ما فيها من الغلط الاعتقادي وجعلنا على ما فيه تصليح أقواساً:

تَيَقَّظْ لِنَفْس عَنْ هُدَاهَا تَوَلتِ

وَبَادِرْ فَفِي التَّأخِير أَعْظَمُ خَشْيَةِ

فَحَتَّامَ لا تَلْوِي لِرُشْدٍ عِنَانَهَا

وَقَدْ بَلَغَتْ مِنْ غَيِّهَا كُلُّ بُغْيَةِ

وَأَمَّارَةٌ بِالسُّوُءِ لَوَّامَةٌ لِمَن

نَهَاهَا فَلَيْسَتْ لِلْهُدَى مُطَمئِنَةِ

إِذَا أَزْمَعَتْ أَمْراً فَلَيْسَ يَرُدُّهَا

عَنِ الفِعْلِ إِخْوَانُ التُّقَى وَالمَبَرَّةِ

وَإِنْ مَرَّ فِعْلُ الخَيْرِ في بَالِهَا انْثَنَى

أَبُو مُرَّةٍ يَثْنِيهِ في كُلِّ مَرَّة

وَلي قَدَمٌ لَوْ قُدِّمَتْ لِظُلامَةٍ

ص: 383

لَطَارَتْ وَلَوْ أَنِّي دُعِيْتُ لِقَرْبَةِ

لَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجلٌ صحيحةٌ

ورِجلٌ رَمَى فِيْهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ

وَقَائِلَةٍ لِمَا رَأَتْ مَا أَصَابَنِي

وَمَا أنَا فِيْهِ مِن لَهِيبٍ وَزَفْرَتِي

رُوَيْدَك لا تَقْنُطْ وَإِنْ كَثُرَ الخَطََا

وَلا تَيْأسَنْ مِن نَيْلِ رَوْحٍ وَرَحْمَةِ

مَعَ العُسْرِ يُسْرٌ وَالتَّصَبُّرُ نُصْرَةٌ

وَلا فَرَجٌ إِلا بِشِدَّةِ أَزْمَةِ

"وَكَمْ عَامِلِ أَعْمَالَ أَهْلَ جَهَنَّمٍ

فَلَمَّا دَعَى المَوْلى أُعِيْدَ لِجَنَّةِ"

"فَقُلْتُ لَهَا جُوزِيتِ خَيْرًا على الذي

مَنَحْتِ مِنَ البُشْرَى وَحُسْنِ النَّصِيحَةِ"

"فَهَلْ مِنْ سَبِيلِ لِلْنَجَاةِ مِنَ الرَّدَى

وَمَا حِيْلَتِي في أنْ تُفَرَّجَ كُرْبَتِي"

"فَقَالَتْ فَطِبْ نَفْسًا وَقُمْ مُتَوَجِّهًا

لِربَّكَ تَسْلَمْ مِنْ بَوَارٍ وَخَيْبَةِ"

"فَكَمْ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ فالتْجَا

إليه فَحُطَّتْ عَنْهُ كُلُّ خَطِيئَةِ"

"فَدَيْتُكَ فَأقْصِدْهُ بِذُلٍّ فَإِنَّهُ

ص: 384

يُقيلَ بَنِي الزَّلاتِ مِنْ كُلِّ عَثْرَةِ"

"إِذَا مَا أَتوهُ تَائبِيَن مِن الذِي

جَنَوْهُ مِن الآثَامِ تَوْبَةَ مُخْبِتِ"

وصل إلهي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةِ

عَلَى أَحَمَدَ المُخَتار أَزْكَى البَرِيةِ

اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الذين أهلتهم لخدمتك وجعلتهم ممن قبلت أعماله يا رب العالمين وصلى الله على مُحمدٍ وآله وصحبه أجمعين.

‌73 - موعظة

عباد الله أخلصوا في أعمالكم كلها لا فرق بين عملٍ وعملٍ سواء أكنتم تعملون لله عز وجل أم كنتم تعملون لخلق الله وسواءٌ أكنتم بين الخلق وأنتم تعملون أم كنتم في محلٍ خفي لا يراكم إلا الله والكرام الكاتبون وسواء أكنتم في سراءَ وقت العمل أم في ضراء.

ذلك الإخلاص هو أن تعمل العمل الصالح لا تريد جزاء عليه إلا من الله يكون ذلك قصدك قبل العمل وحين مباشرته وبعد الفراغ منه لا تذكره بلسانك إلا من باب التحدث بنعم الله أو ليقتدي بك غافل مُتبع لهواه، بهذا يكون العمل عبادة حقاً وتكون أنت من العابدين وبهذا يُثمر عملك القبول عند ربك وعند الناس، وبهذا تكون أقوى الناس لأن وليك حينئذٍ يكون مولاك القوي المتين وبهذا تكون من أهل الكرامة في هذه الدار وفي دار الجزاء.

ص: 385

أما إذا عملت العمل الصالح ليُقبل عليك الناس ويقولوا إنك من الصالحين فأنت إذًا تكون مُرائياً لا تُخلص العمل بل تشرك معه الناظرين فتكون في دعوى تمحيص العمل لله تعالى لست بصادق بل من الكاذبين.

وانظر كيف تكون حال من يكذب على من لا تخفى عليه خافية، لا في الأرض ولا في السماء، إن المُرائي مهما أخفى رياءه يُظهر الله تعالى ما في قلبه للعالمين، روى الإمام أحمد عن أبي سعيد مرفوعًا "لو أن أحدكم يعمل في صخرة ليس لها باب ولا منفذ لأخرج الله عمله للناس كائناً ما كان".

ولذلك يكون لأعمال المرائي من السماجة في نفوس الناس ما لا يحكيه اللسان ولهذا يكون مرذولاً ثقيلاً عند الناس، ومن هذا تراه يتودد إلى الناس ويضحك إليهم ونفورهم عنه عبرة عند العقلاء ثم هو عند الله أسوأ حالاً خصوصاً في اليوم الذي يشيب فيه الأطفال فقد يُؤمر به إلى النار وله من الأعمال أمثال الجبال، لكنها لما لم يُرد بها وجه الله خالصة صارت وبالاً عليه نعوذ بالله من الرياء.

اللهم افتح لدعائنا باب القبول والإجابة ووفقنا للتوبة النصوح والإنابة وثبت محبتك في قلوبنا تثبيت الجبال الراسيات وألهمنا ذكرك وشكرك آناء الليل والنهار وثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

‌74- "موعظة

"

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليعبدوه، ويعرفوه ويخشوه ويخافوه، ونصب لهم الأدلة الدالة على عظمته

ص: 386

وكبريائه ليهابوه، ويخافوه خوف إجلال، ووصف لهم شدة عذابه، ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه، ليتقوه بصالح الأعمال، ولهذا كرر سبحانه وتعالى في كتابه ذكر النار وما أعده فيها لأعدائه من العذاب والنكال والأغلال، وما احتوت عليه من الضريع والزقوم والحميم والسلاسل والغساق والغسلين، وغير ذلك مما فيها من الأهوال والفظائع والعظائم، ودعا عباده بذلك إلى خشيته وتقواه، والمسارعة إلى امتثال ما يأمر به ويحبه ويرضاه، واجتناب ما ينهى عنه ويكرهه ويأباه، وأخبر جل وعلا بأن الخلق واردوها قال تعالى:{وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} ، فأنت من الورود على يقين، ومن النجاة في شك، فيا أيها الغافل الساهي عن نفسه، المغرور بما هو فيه من الاشتغال بعمائره وأراضيه وسياراته، وشركاته ومقاولاته وزوجاته وأولاده، وكل ما يُلهيه عن ذكر الله وطاعته، والالتفات إلى دار القرار، دع التفكر وقتل الوقت فيما أنت مُرتحل عنه، وجادٌ في السير عنه، واصرف فكرك فيما أمامك فاستشعر في قلبك هول ذلك المورد، لعلك تستعد للنجاة منه وتأمل في حال الخلق وقد خرجوا من قبورهم حفاة عراة غُرلاً:{مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} ، تفكر في ازدحام الخلائق وقد صهرتهم الشمس، إلا من أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، واشتد الكرب والغم من الوهج، وتدافعت الخلائق لشدة الزحام، واختلاف الأقدام، وانضاف إلى ذلك شدة الخجل والحياء، والخوف من الفضائح والاختزاء عند العرض على الجبار، وقُرب الشمس من الخلق فيبلغ عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، كما في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً» .

ص: 387

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين أنه لم يؤثر عن أحدٍ من السلف الصالح من الصحابة وتابعيهم بإحسانٍ تعظيم أحدٍ من أهل البدع والموالين لأهل البدع والمُنادين بموالاتهم، لأن أهل البدع مرضى قلوب، ويُخشى على من خالطهم أو اتصل بهم أن يصل إليه من ما بهم من هذا الداء العُضال، لأن المريض يُعدي الصحيح ولا عكس، فالحذر الحذر من جميع أهل البدع ومن أهل البدع الذين يجب البُعد عنهم وهجرانهم، الجهمية، والرافضة، والمعتزلة، والماتريدية، والخوارج، والصوفية، والأشاعرة ومَن على طريقتهم من الطوائف المنحرفة عن طريقة السلف، فينبغي للمسلم أن يحذرهم ويُحذر منهم، وصلى الله على مُحمدٍ وآله وسلم.

ص: 388

بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعز الإسلام والمسلمين وأن تذل الشرك والمشركين وأن تدمر أعداء الدين اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.

اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت.

اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. اللهم صل على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه.

اللهم إني أسألك علماً نافعاً ورزقاً طيباً وعملاً مُتقبلاً يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم ارحم في الدنيا غربتي وارحم في القبر وحشتي وارحم في الآخرة وقوفي بين يديك.

اللهم اعتق رقبتي من النار وأوسع لي من الرزق الحلال واصرف عني فسقة الجن والإنس.

اللهم إني أسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وظاهره وباطنه وأوله وآخره وعلانيته وسره اللهم صل على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه.

اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والعزيمة على الرشد والغنيمة من كل بر والسلامة من كل إثم والفوز بالجنة والنجاة من النار يا

ص: 389

حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم إني أسألك الهُدى والتُقى والعفاف والغنى اللهم صل على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.

ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.

ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار.

ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا.

ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً.

اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء.

اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك.

اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وغلبة الدين وشماتة الأعداء.

اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال.

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.

اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

ص: 390

اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير والموت راحة لي من كل شر. اللهم صل على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.

اللهم إني أسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها أمري وتلهمني بها رشدي وتعصمني بها من كل سوء.

اللهم طهر قلبي من النفاق ولساني من الكذب وعملي من الرياء وعيني من الخيانة إنك تعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.

اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم صل على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه.

اللهم إني أسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون وأعوذ بك من شر ما استعاذ بك منه عبدك ورسولك مُحمدٍ صلى الله عليه وسلم وعبادك الصالحون.

رب قني عذابك يوم تبعث عبادك.

اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعملٍ وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قولٍ وعمل.

اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عنا. رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري رب اغفر خطيئتي يوم الدين.

اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي

ص: 391

ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.

رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين. وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين.

ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين.

آمين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

ص: 392

(خاتمة، وصية، نصيحة)

اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يُحبه الله ويرضاه أن مما يجب الاعتناء به حفظاً وعملاً كلام الله جل وعلا وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

وأنه ينبغي لمن وفقه الله تعالى أن يحث أولاده على حفظ القرآن وما تيسر من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المتفق على صحتها كالبخاري ومسلم.

ومن الفقه مختصر المقنع ليتيسر له استخراج المسائل ويجعل لأولاده ما يحثهم على ذلك.

فمثلاً يجعل لمن يحفظ القرآن على صدره حفظاً صحيحاً عشرة آلاف أو أزيد أو أقل حسب حالهِ في الغنى.

ومن الأحاديث عُقود اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الإمامان البخاري ومسلم، يجعل لمن يحفظ ذلك ستة آلاف من الريالات.

فإن عجزوا عن حفظها فالعمدة في الحديث يجعل لمن حفظها ثلاثة آلاف أو الأربعين النووية ويجعل لمن يحفظها ألفاً من الريالات.

ويجعل لمن يحفظ مختصر المقنع في الفقه ألفين من الريالات فالغيب سبب لحفظ المسائل وسبب لسرعة استخراج ما أريد من ذلك وما أشكل معناه أو يُدخلهم في مدارس تحفيظ القرآن فمدارس تعليم القرآن والسُنة هي مدارس التعليم العالي الممتاز الباقي النافع في الدنيا والآخرة.

فمن وفقه الله لذلك وعمل أولاده بذلك كان سبباً لحصول الأجر من الله وسبباً لبرهم به ودعائهم له إذا ذكروا ذلك منه ولعله أن يكون سبباً مباركاً يعمل به أولاده مع أولادهم فيزيد الأجر له ولهم نسأل الله أن يوفق الجميع لحسن النية إنه القادر على ذلك وصلى الله على مُحمدٍ وآله وصحبه وسلم.

ص: 393

تم هذا الجزء الأول بعون الله وتوفيقه ونسأل الله الحي القيوم العلي العظيم ذا الجلال والإكرام الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أن يُعز الإسلام والمسلمين وأن يخذل الكفرة والمشركين وأعوانهم وأن يُصلح من في صلاحه صلاحٌ للإسلام والمسلمين ويُهلك من في هلاكه عز وصلاح للإسلام والمسلمين وأن يلم شعث المسلمين ويجمع شملهم ويوحد كلمتهم وأن يحفظ بلادهم ويُصلح أولادهم ويشف مرضاهم ويُعافي مبتلاهم ويرحم موتاهم ويأخذ بأيدينا إلى كل خيرٍ ويعصمنا وإياهم من كل شر ويحفظنا وإياهم من كل ضُرٍ وأن يغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

والله المسئول أن يجعل عملنا هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن ينفع به نفعاً عاماً إنه سميعٌ قريبٌ مُجيبٌ على كل شيءٍ قدير.

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا مُحمدٍ خاتم الأنبياء والمرسلين المبعوث رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين. ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.

عبد العزيز المحمد السلمان

المدرس في معهد إمام الدعوة بالرياض سابقاً

ص: 394