المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فأمَّا قولهم: «إنَّ الموجودات في العالم السُّفليِّ مركَّبةٌ على تأثير - مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة - ط عطاءات العلم - جـ ٣

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

فأمَّا قولهم: «إنَّ الموجودات في العالم السُّفليِّ مركَّبةٌ على تأثير الكواكب والرُّوحانيات، وفي اتصالها سُعودٌ ونُحوسٌ يوجبُ أن يكون في آثارها حُسْنٌ وقُبحٌ في الأخلاق والأعمال يدركه كلُّ ذي عقلٍ سليم، فلا حاجة لنا إلى من يعرِّفنا حُسْنَها وقُبحَها

» إلى آخر كلامهم

(1)

؛ فكلامُ من هو أجهلُ النَّاس وأضلُّهم وأبعدُهم عن الإنسانيَّة

(2)

.

وقائلُ هذه المقالة منادٍ على نفسه أنه لم يعرف فاطرَه فاطرَ السموات والأرض، ولا صفاته ولا أفعالَه، بل ولا عرَف نفسَه التي بين جنبَيْه، ولا ما يُسْعِدُها ويُشْقِيها، ولا غايتَها، ولا لماذا خُلِقَت؟ ولا بماذا تكمُل وتصلُح؟ وبماذا تفسُد وتهلَك؟ بل هو أجهلُ الناس بنفسه وبفاطرها وبارئها.

وهل يتمكَّنُ العقلُ بعد معرفة النَّفس ومعرفة فاطرها ومبدعِها أن يجحَد النبوَّة، أو يجوِّز على الله وعلى حكمته أن يترك النَّوعَ البشريَّ ــ الذي هو خلاصةُ المخلوقات ــ سُدى ويدعَهم هملًا معطَّلًا، ويخلقهم عبثًا باطلًا؟!

ومن جوَّز ذلك على الله سبحانه فما قدَرَه حقَّ قَدْرِه، بل ولا عرَفه، ولا آمن به؛ قال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67]، وقال تعالى:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، فأخبَر تعالى أنَّ من جحَد رسالاته فما قَدَرَه حقَّ قَدْرِه ولا عرَفه، ولا عظَّمه، ولا نزَّهه عمَّا لا يليقُ به، تعالى الله عما يقولُ الظَّالمون علوًّا كبيرًا.

(1)

انظر ما تقدم (ص: 1002).

(2)

يعني: حقيقة الإنسان. انظر: «زاد المعاد» (4/ 12).

ص: 1173

ثمَّ يقالُ لهذه الطَّائفة: بماذا عرفتم أنَّ الموجودات في العالم السُّفليِّ كلها مركَّبةٌ على تأثير الكواكب والرُّوحانيات؟! وهل هذا إلا كذبٌ بَحْتٌ

(1)

وبَهْت؟!

فهَبْ أنَّ بعض الآثار المشاهَدة مُسَبَّبٌ عن تأثير بعض الكواكب والعُلْويَّات، كما يُشاهَدُ مِن تأثير الشَّمس والقمر في الحيوان والنبات وغيرهما، فمِن أين لكم أنَّ جميعَ أجزاء العالم السُّفليِّ صادرٌ عن تأثير الكواكب والروحانيات؟! وهل هذا إلا كذبٌ وجهل؟!

فهذا العالَم فيه من التغيُّر والاستحالة والكَوْن والفساد ما لا يمكنُ إضافتُه إلى كوكب، ولا يُتَصَوَّرُ وقوعُه إلا بمشيئةِ فاعلٍ مختارٍ قادرٍ قاهرٍ مؤثِّرٍ في الكواكبِ والرُّوحانيات، مسخِّرٍ لها بقدرته، مدبِّرٍ لها

(2)

بمشيئته، كما تشهدُ عليها أحوالُها وهيآتها وتسخيرُها وانقيادُها أنها مدبَّرةٌ مربوبةٌ مسخَّرةٌ بأمرِ قاهرٍ قادر، يصرِّفها كيف يشاء، ويدبِّرها كما يريد، ليس لها من الأمر شيء، ولا يمكنُ أن تتصرَّف بأنفسها بذَرَّة، فضلًا أن تعطي العالَمَ وجودَه، فلو أرادت حركةً غيرَ حركتها أو مكانًا غيرَ مكانها أو هيئةً أو حالًا غيرَ ما هي عليه لم تجد إلى ذلك سبيلًا.

فكيف تكونُ ربًّا لكلِّ ما تحتها مع كونها عاجزةً مُصَرَّفةً مقهورةً مسخَّرة، آثارُ الفقر مسطورةٌ في صفحاتها

(3)

، وآياتُ العبوديَّة والتَّسخير باديةٌ عليها، فبأيِّ اعتبارٍ نظَر إليها العاقلُ رأى آثارَ الفقر وشواهدَ الحدوث وأدلَّة التَّسخير

(1)

(ت): «كذب وحنث» .

(2)

(ت، ق): «بها» . وهو تحريف.

(3)

(ت): «آثار القهر مسطرة في صفحاتها» .

ص: 1174

والتصريف فيها، فهي خلقُ مَن ليس كمثله شيء، وآياتُ مَن آياتُه عبيدٌ مسخَّراتٌ بأمره، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} .

وأمَّا قولهم: «إنَّ في اتصالات الكواكب نَظَرَ سُعودٍ ونُحوس» ، فممَّا أضحكوا به العقلاء عليهم من جميع الأمم، ونادَوا به على جهلهم وضلالهم، وصاروا به مركزًا لكلِّ كذاب، وكلِّ أفَّاك، وكلِّ زنديق، وكلِّ مُفْرِطٍ في الجهل بالنبوَّات وما جاءت به الرُّسل، بل بالحقائق

(1)

العقليَّة والبراهين اليقينيَّة.

وسنُريك طرفًا من جهالاتهم وكذبهم وتناقضهم وبطلان مقالتهم؛ ليعرفَ اللبيبُ نعمةَ الله عليه في عقله ودينه.

فيقال لهم

(2)

: المؤثِّرُ في هذه السُّعود والنُّحوس، هل هو الكوكبُ وحده، أو البرجُ وحده، أو الكوكبُ بشرط حصوله في البرج؟

والكلُّ محال:

* أمَّا الأوَّل والثاني، فإنهما يوجبان دوامَ الأثر؛ لكون المؤثِّر دائمَ الثبوت.

* والثالثُ أيضًا محال؛ لأنه لما اختلف أثرُ الكوكب بسبب اختلاف البُرجَيْن لَزِم أن تكون طبيعةُ كلِّ برجٍ مخالفةً

(3)

بالماهيَّة لطبيعة البرج

(1)

سقطت «بل» من (ق، ت)، فاختلَّ المعنى.

(2)

وهذا هو الوجه الأول من وجوه الرد عليهم وإبطال علم أحكام النجوم. وانظر له: «شرح نهج البلاغة» (6/ 203).

(3)

في الأصول: «مخالف» . والمثبت من (ط).

ص: 1175

الثاني، إذ لو لم يكن كذلك كانت طبائعُ جميع البروج متساويةً في تمام الماهيَّة، فوجبَ أن يكون أثرُ الكوكب في جميع البروج أثرًا واحدًا؛ لأنَّ الأشياء المتساوية في تمام الماهيَّة يمتنعُ أن تَلْزَمها لوازمُ مختلفة.

ولمَّا كانت آثارُ كلِّ كوكبٍ واجبةَ الاختلاف بسبب اختلاف البروج لَزِمَ القطعُ بكون البروج مختلفةً في الطبيعة والماهيَّة، وهذا يقتضي كونَ الفلَك مركَّبًا لا بسيطًا، وقد قلتم أنتم وجميع الفلاسفة: إنَّ الفلَك بسيطٌ لا تركيبَ فيه

(1)

.

ومن العجَب جوابُ بعض الأحكاميِّين

(2)

عن هذا بأنَّ الكواكبَ حيواناتٌ ناطقةٌ فاعلةٌ بالقصد والاختيار، فلذلك تَصْدُر عنها الأفعالُ المختلفة!

وهذا مكابرةٌ من هؤلاء ظاهرة؛ فإنَّ دلائل التَّسخير والاضطرار عليها مِنْ لزومها حركةً لا سبيلَ لها إلى الخروج عنها، ولزومها موضعًا من الفلَك لا تتمكنُ من الانتقال عنه، واطِّراد سَيْرِها على وجهٍ مخصوصٍ لا تفارقُه البتَّة= أبينُ دليلٍ على أنها مسخَّرة مقهورةٌ على حركاتها، محرَّكةٌ بتحريكِ قاهرٍ لها، لا متحركةٌ بإرادتها واختيارها، كما قال تعالى:{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].

ثم يقال: لا ينفعكم هذا الجوابُ شيئًا؛ فإنَّ طبائعَ البروج إن كانت متساويةً في تمام الماهيَّة كان اختصاصُ كلِّ برجٍ بأثره الخاصِّ ترجيحًا

(1)

انظر: «نكت الهميان» (65).

(2)

نسبة إلى علم أحكام النُّجوم الذي استطرد المصنفُ ببيان بطلانه وتهافته.

ص: 1176

لأحد طرفي الممكِن على الآخر بلا مرجِّح، وإن لم تكن متساويةً لَزِم تركيبُ الفلَك.

ومما أضحكتم به العقلاءَ منكم أنكم جعلتموها أحياءً

(1)

ناطقةً فاعلةً بالاختيار، ونفيتم أن يكون فاطرُها ومبدعُها حيًّا قيومًا فاعلًا بالاختيار، وهذه الحوادثُ مستندةٌ إلى مشيئته

(2)

واختياره، جاريةٌ على وَفْقِ حكمته وعلمه، مع كون هذه الكواكب عبيدَه وخلقًا مسخَّرًا بأمره، ولا تملكُ لأنفسها ولا لما تحتها ضرًّا ولا نفعًا، ولا سَعْدًا ولا نَحْسًا، كما قاله العقلاءُ من بني آدم، واتفقت عليه الرسلُ وأتباعهم.

فإن قيل: لا نسلِّم أنَّ الفلَك بسيط، بل هو مركَّبٌ من هذه البروج، وطبيعةُ كلِّ برجٍ مخالفةٌ لطبيعة البرج الآخر، بل طبيعةُ كلِّ دقيقةٍ وثانية مخالفةٌ لطبيعة الدَّقيقة الأخرى والثانية الأخرى، ولا يتمُّ علمُ الأحكام إلا بهذا.

قيل: قولكم بأنه قديمٌ أبديٌّ

(3)

غيرُ قابلٍ للكَوْن والفساد، ولا يقبلُ الانحلالَ ولا الخَرْق ولا الالتئام، مع كون كلِّ جزءٍ منه صغُر أو كبُر

(4)

طبيعتُه مخالفةٌ لطبيعة الجزء الآخر، كما صرَّح به أبو معشر

(5)

= جمعٌ بين النقيضين؛ فإنه إذا كان مركبًا من أجزاءٍ مختلفة الماهيَّة لم يمتنع انحلالُه

(1)

(ق): «أجساما» . (ت، د): «احيانا» ، وصحِّحت في طرة (د) إلى «أجساما» . وهو تحريفٌ عن المثبت، كأن المصنف رسمها:«أحيائا» . وقد سلف قبل قليل قوله: «حيوانات ناطقة» . وانظر: «الروح» (542)، و «الصفدية» (1/ 193).

(2)

(ت): «مشيئته وفعله» .

(3)

(ت): «أزلي» .

(4)

(ت): «صغيرا أو لا كبيرا» .

(5)

من رؤوس هذه الصناعة، وسيأتي التعريف به (ص: 1224).

ص: 1177

وانقطاعه

(1)

وانشقاقُه، فكيف جمعتم بين تكذيب الرسل في الإخبار عن انقطاعه وانشقاقه وانحلاله، وبين دعواكم تركُّبه من ماهيَّاتٍ مختلفةٍ في أنفسها غير ممتنعٍ على المركَّب منها الانحلالُ والانفطار؟!

فلا للرسل صدَّقتم، ولا مع وجوب العقل وقفتم، بل أنتم من أهل هذه الآية:{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10].

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنَّ كلَّ برجٍ من البروج الاثني عشر قد ارتسَمَت فيه كواكبُ صغيرةٌ بلغت في الصِّغر إلى حيث لا يمكننا أن نُحِسَّ بهم، ثم إنَّ الكوكبَ إذا وقعَ في مُسَامَتة برجٍ خاصٍّ امتزج نورُ ذلك الكوكب بأنوار تلك الكواكب الصِّغار المُرْتَسِمَة في تلك القطعة من الفلَك، فيحصُل بهذا السبب آثارٌ مخصوصة؟ وإذا كان هذا محتملًا ــ ولم يبطُل بالدليل ثبوتُه ــ تعيَّن المصيرُ إليه.

قيل: طبائعُ تلك الكواكب إن كانت مختلفةً بالماهيَّة عاد المحذورُ المذكور، وإن كانت واحدةً لم يكن ذلك الامتزاجُ إلا متشابهًا

(2)

، فلا يُتَصَوَّرُ صدورُ الآثار المتضادَّة المختلفة عنه.

الوجه الثاني من الكلام على بطلان علم الأحكام: أنَّ معرفة جميع المؤثِّرات

(3)

الفلَكيَّة ممتنعة، وإذا كان كذلك امتنعَ الاستدلالُ بالأحوال الفلَكيَّة على حدوث الحوادث السُّفليَّة.

(1)

(ق، د): «وانفطاره» .

(2)

سقطت «إلا» من (ق)، فأفسدت المعنى.

(3)

(ت): «المدبرات» .

ص: 1178

وإنما قلنا: إنَّ معرفة جميع المؤثِّرات الفلَكيَّة ممتنعة، لوجوه

(1)

:

أحدها: أنه لا سبيل إلى معرفة الكواكب إلا بواسطة القُوى

(2)

الباصِرة، والمرئيُّ إذا كان صغيرًا أو في غاية البُعْدِ من الرَّائي فإنه يتعذَّرُ رؤيتُه لذلك؛ فإن أصغر الكواكب التي في فلَك الثَّوابت ــ وهو الذي تُمْتَحَنُ به قوَّةُ البصر ــ مثلُ كرة الأرض بضعةَ عشر مرَّة

(3)

، وكرةُ الأرض أعظمُ من كرة عُطارِد كذا مرَّة

(4)

.

فلو قدَّرنا أنه حَصَل في الفلَك الأعظم كواكبُ كثيرةٌ يكونُ حجمُ كلِّ واحدٍ منها مساويًا لحجم عُطارِد، فإنه لا شك أنَّ البصرَ لا يقوى على إدراكه؛ فثبت أنه لا يلزمُ مِنْ عدم إبصارنا شيئًا من الكواكب في الفلَك الأعظم عدمُ تلك الكواكب.

وإذا كان كذلك، فاحتمالُ أنَّ في الفلَك الأعظم وفي فلك الثَّوابت وفي سائر الأفلاك كواكبَ صغيرةً ــ وإن كنَّا لا نحسُّ بها ولا نراها ــ يُوجِبُ امتناع معرفة جميع المؤثِّرات الفلَكيَّة

(5)

.

(1)

من «السر المكتوم» للرازي (9 - 10)، ومطبوعته الحجرية عامرة بالتحريف.

(2)

«السر المكتوم» : «القوة» .

(3)

لعل المقصود: السُّها. وبه جرى المثل في قولهم: «أريه السُّها ويريني القمر» . وهو كويكبٌ صغيرٌ جدًّا يكاد يلزق بالكوكب الأوسط من بنات نعش. قال المرزوقي في «الأزمنة والأمكنة» (2/ 373): «والنَّاس يمتحنون به أبصارهم، فمن ضعُف بصره لم يره» .

(4)

(ت): «هذا ألف مرَّة» . «السر المكتوم» : «كذا ألف مرة» . وليسا بشيء. والأرض أكبر من عطارد سبع عشرة مرة تقريبًا عند القدماء. انظر: «الزيج الصابي» للبتاني (182).

(5)

انظر: «القانون المسعودي» للبيروني (3/ 1010)، و «صور الكواكب الثمانية والأربعين» للصوفي (19، 20).

ص: 1179

فإن قلتم: إنها لمَّا كانت صغيرةً وآثارُها ضعيفةً لم تَصِل آثارُها وقُواها إلى هذا العالم.

قيل لكم: صِغَرُ الجُثَّة لا يوجبُ ضعفَ الأثر؛ فإنَّ عُطارِد أصغرُ الأجرام الفلَكيَّة جِرمًا عندكم، مع أنَّ آثاره قويَّة.

وأيضًا؛ فالرَّأسُ والذَّنَبُ نقطتان وهميَّتان

(1)

، وأنتم فقد أثبتُّم لهما آثارًا.

وأيضًا؛ السِّهام ــ مثل: سهم السَّعادة، وسهم الغيب

(2)

ــ نُقَطٌ وهميَّة، ولها عندكم آثارٌ قويَّة

(3)

.

الوجه الثاني مما يدلُّ على أنَّ معرفة جميع المؤثِّرات الفلَكيَّة غيرُ معلوم: أنَّ الكواكبَ المرئيَّة

(4)

غيرُ مرصودةٍ بأسْرِها، فإنكم أنتم وغيركم قد قلتم: إنَّ المَجَرَّة عبارةٌ عن أجرامٍ كوكبيَّة صغيرةٍ جدًّا مرتكزةٍ في فلَك الثَّوابت على هذا السَّمْت المخصوص. ولا ريب أنَّ الوقوفَ على طبائعها متعذِّر.

وثالثها: أن جميعَ الكواكب الثابتة المحسوسة لم يحصل الوقوفُ التامُّ

(1)

تكونان عند تقاطع طريق الكواكب لطريق الشمس بممرِّها في البروج. انظر: «رسائل إخوان الصفا» (1/ 120).

(2)

وهما من سهام الكواكب السبعة، ويسمَّى الأول: سهم القمر، والثاني: سهم الشمس. انظر: «التفهيم لأوائل صناعة التنجيم» للبيروني (283).

(3)

انظر: «المطالب العالية» للرازي (8/ 153، 154).

(4)

(د): «المريية» بياءين، بتسهيل الهمز. (ت):«المرتبة» . (ق): «المريبة» . وكلاهما خطأ. وعلى الصواب في «السر المكتوم» .

ص: 1180

على طبائعها؛ لأن كلام الأحكاميِّين قليلُ الحاصل، لا سيَّما في طبائع الثَّوابت. نعم؛ غاية ما عندهم أنهم ادَّعوا أنهم كشَفوا

(1)

بعض الثَّوابت التي في القَدْر

(2)

الأول والثاني، فأما البقيَّة فقلَّما تكلَّموا في معرفة طبائعها

(3)

.

ورابعها: أنَّ بتقدير أنهم عرفوا طبائعَ هذه الكواكب حالَ بساطتها، لكنْ لا شبهةَ أنه لا يمكِنُ الوقوفُ على طبائعها حالَ امتزاج بعضها بالبعض؛ لأنَّ الامتزاجات الحاصلةَ من طبائع ألف كوكبٍ أو أكثر بحسب الأجزاء الفلَكيَّة يبلغُ في الكثرة إلى حيث لا يَقْدِرُ العقلُ على ضبطها.

وخامسها: آلاتُ الرَّصَد لا تفي بضبط الثَّواني والثَّوالث

(4)

، ولاشكَّ أنَّ الثانية الواحدة

(5)

مثلُ الأرض كذا كذا ألف مرَّةٍ أو أقلُّ أو أكثر

(6)

، ومع هذا التفاوت العظيم كيف يمكنُ الوصولُ إلى الغرض، حتى قيل: إنَّ الإنسانَ الشَّديدَ الجَرْي بين رَفْعِه رجلَه ووَضعِه الأخرى يتحركُ جِرمُ الفلَك الأقصى

(1)

«السر المكتوم» : «جربوا» .

(2)

غيَّرها ناشر (ط) إلى: «الفلك» . فأخطأ. وقد قسم القدماء الكواكب الثابتة على ستِّ مراتب في العِظَم، سمَّوها: أقدارًا، فجعلوا أعظمها في القَدْر الأول، والتي دونها في القَدْر الثاني، وهكذا. انظر:«الزيج الصابي» (185)، و «صور الكواكب الثمانية والأربعين» (3، 4، 19)، وما سيأتي (ص: 1184).

(3)

«السر المكتوم» : «فقد اتفقوا على أنهم ما عرفوا طبائعها» .

(4)

جمع ثانية وثالثة. فالفلك عندهم اثنا عشر برجًا، والبرج ثلاثون درجة، والدرجة ستون دقيقة، والدقيقة ستون ثانية، والثانية ستون ثالثة. انظر:«رسائل الإخوان الصفا» (1/ 115).

(5)

«السر المكتوم» : «الثانية الواحدة من الفلك» .

(6)

«السر المكتوم» : «مثل الأرض ألف ألف مرة أو أكثر» .

ص: 1181

ثلاثة آلاف ميل

(1)

، وإذا كان الأمرُ كذلك فكيف يمكنُ

(2)

ضبطُ هذه المؤثِّرات؟!

وسادسها: هَبْ أنَّا عرفنا تلك الامتزاجات الحاصلة في ذلك الوقت

(3)

فلا ريب أنه لا يُمْكِننا معرفةُ الامتزاجات التي كانت حاصلةً قبلَه، مع أنَّا نعلمُ قطعًا أنَّ الأشكال السَّالفة ربما كانت عائقةً ومانعةً عن مقتضيات الأشكال الحاصلة في الحال.

ولا ريب أنَّا نشاهدُ أشخاصًا كثيرةً من النبات والحيوان والإنسان تحدُث مقارِنةً لطالعٍ واحد، مع أنَّ كلَّ واحدٍ منها مخالفٌ للآخر في أكثر الأمور، وذلك أنَّ الأحوال السَّالفة في حقِّ كلِّ واحدٍ تكونُ مخالفةً للأحوال السَّالفة في حقِّ الآخر.

وذلك يدلُّ أنه لا اعتمادَ على مقتضى الوقت، بل لا بدَّ من الإحاطة بالطوالع السَّالفة، وذلك مما لا وقوفَ عليه أصلًا؛ فإنه ربَّما كانت الطوالعُ السَّالفة دافعةً مقتضياتِ هذا الطالع الحاضر.

وعلى هذا الوجه عوَّل ابنُ سينا في كتابيه اللذين سمَّاهما: «الشفا» ، و «النجاة»

(4)

في إبطال هذا العلم.

(1)

انظر: «المطالب العالية» (8/ 155).

(2)

ليست في (ق).

(3)

«السر المكتوم» : «قبل هذا الوقت» .

(4)

«الشفاء» (485 - الإلهيات)، و «النجاة» (707). وله رسالةٌ مفردة مطبوعة في الردِّ على المنجمين.

ص: 1182

فثبت بهذا أن الوقوف التامَّ على المؤثِّرات جميعها ممتنعٌ مستحيل، وإذا كان الأمرُ كذلك كان الاستدلالُ بالأشخاص الفلَكيَّة على الأحوال السُّفليَّة باطلًا قطعًا.

الوجه الثالث

(1)

: أنَّ تأثيرَ الكوكب فيما ذكرتم من السَّعْد والنَّحْس إمَّا بالنظر إلى مفرده، وإمَّا بالنظر إلى انضمامه إلى غيره، فمتى لم يُحِط المنجِّمُ بهاتين الحالتين لم يصحَّ منه أن يحكُم له بتأثير

(2)

، ولم يحصُل إلا على تعارض التقدير.

ومن المعلوم أنَّ في فلَك البروج كواكبَ شذَّت عن الرَّصَد معرفةُ أقدارها وأعدادها، ولم يعرف الأحكاميُّون ما يوجبُه خواصُّ مجموعاتها وأفرادها؛ فخرج الفريقان: أصحابُ الرَّصَد، والأحكام، عن الإحاطة بما في طِباعها، وما عسى أن تؤثِّره مع السيَّارة

(3)

عند انفرادها واجتماعها.

فما الذي يؤمِّنكم عند ذلكم

(4)

وقوعَ نجمٍ من تلك النجوم المجهولة

(1)

من وجوه بطلان علم أحكام النجوم.

(2)

(د): «يحكم بتأثير» ، وكتب ابن بردس فوق الكلمة الثانية بخطٍّ دقيق: ينظر.

(3)

الكواكب قسمان: ثابتة، وسيَّارة. والسيَّارة إذا خرج منها النيِّران (الشمس والقمر) تسمى: متحيَّرة، وهي عطارد وزحل والزهرة والمشتري والمريخ، وسميت بذلك لأنها توجد في بعض الأحايين مرتدةً عن وجهتها، راجعةً في سيرها إلى خلاف التوالي، وفي بعضها مقيمةً في أمكنتها واقفةً غير سائرة، ووقفُ السائر ورجوعُه من لوازم التحيُّر والدهش. انظر:«القانون المسعودي» (3/ 987)، وما سيأتي (ص: 1360).

(4)

في الأصول: «كلكم» . وهو خطأ. وربما كانت: حكمكم. والأشبه ما أثبت. وفي (ط): «كلكم عند

الطالع أن يكون». وهو من تصرف الناشر.

ص: 1183

على درجة الطالع، يكونُ مُوجِبًا من الحكم ما لا يُوجِبُه النظرُ بدونه؟!

الوجه الرابع: أنَّ تأثيرَ الكواكب الثَّوابت

(1)

يختلفُ باختلاف أقدارها، فما كان من القَدْر الأوَّل أثَّر بوقوعه على الدَّرجة، وإن لم تُضْبَط الدَّقيقة، وما كان من القَدْر الأخير لم يؤثِّر إلا بضبط الدَّقيقة.

ولا ريب أنَّ الجهالةَ بتلك الكواكب ومقاديرها يوجبُ كذبَ الأحكام النجوميَّة وبطلانَها.

الوجه الخامس: أنها لو كان لها تأثيرٌ كما يزعمون لم يَخْلُ: إمَّا أن تكون فيه مختارةً مريدة، أو غير مختارةٍ ولا مريدة. وكلاهما محال.

أمَّا الأول، فلأنه يوجبُ جَرْيَ الأحكام على وَفْقِ اختيارها وإرادتها، ولم يتوقَّف على اتصالاتها، وانفصالاتها، ومفارقتها، ومقارنتها، وهبوطها بها في حضيضها، وارتفاعها في أوْجِها، كما هو المعروفُ من الفاعل بالاختيار، ولا سيَّما الأجرامُ العُلويَّة المؤثِّرة في سائر السُّفليات. ولاختلفَت آثارُها أيضًا عند هذه الأمور بحسب الدَّواعي والإرادات. ولأمكنَها أن تُسْعِدَ من أراد

(2)

أن يَنْحَسَه، وتَنْحَس من أراد أن يُسْعِدَه، كما هو شأنُ الفاعل المختار

(3)

.

(1)

ليست في (ق).

(2)

أي: الطالع.

(3)

وأمرٌ رابع، وهو أنها لو كانت مختارةً مريدة لما بقيت حركتُها أبدًا على رتبةٍ واحدةٍ لا تتبدَّل عنها، إذ هذه صفة الجماد المدبَّر الذي لا اختيار له. انظر:«التمهيد» للباقلاني (71)، و «الفِصَل» (5/ 147)، و «شرح الأصول الخمسة» (121)، و «فرج المهموم في علم النجوم» لابن طاووس (23، 30، 32)، وما سبق (ص: 1176).

ص: 1184

وإن لم تكن مختارةً مريدةً، فتأثيرُها بحسب الذَّات والطبع، وما كان هكذا لم يختلف أثرُه إلا باختلاف القَوابِل والمُعِدَّات

(1)

، وعندكم أنَّ في اختلاف

(2)

تلك القَوابِل والمُعِدَّات مستندٌ إلى تأثيرها. فأيُّ محالٍ أبلغُ من هذا؟! وهل هذا إلا دَورٌ ممتنعٌ في بدائه العقول؟!

الوجه السادس: أنَّ هذا العلمَ مشتملٌ على أصولٍ يشهدُ صريحُ العقل بفسادها، وهي وإن كانت في الكثرة إلى حيث لا يمكنُ ذِكْرُها، فنحن نَعُدُّ بعضها:

فالأوَّل: أنَّ من المعلوم بالضرورة أنه ليس في السماء حَمَلٌ ولا ثورٌ ولا حيَّة ولا عقربٌ ولا دُبٌّ ولا كلبٌ ولا ثعلب، إلا أنَّ المتقدمين لما قسَّموا الفلَك إلى اثني عشر قِسمًا وأرادوا أن يميِّزوا كلَّ قسمٍ منها بعلاماتٍ مخصوصةٍ شبَّهوا الكواكبَ المركوزة في تلك القطعة المعيَّنة بصورة حيوانٍ مخصوص، تشبيهًا بعيدًا جدًّا.

ثمَّ إنَّ هؤلاء الأحكاميِّين فرَّعوا على هذه الأسماء تفريعاتٍ طويلة؛ فزعموا أن الصُّور السُّفليَّة مطيعةٌ للصُّور العُلويَّة، فالعقارب مطيعةٌ لصورة العقرب، والأفاعي مطيعةٌ لصورة التنِّين، وكذا القولُ في الأسد والسُّنبلة.

ومن عرفَ كيف وُضِعَت هذه الأسماء، ثم سمع قول هؤلاء الأحكاميِّين، ضحكَ منهم، وتبيَّن له فرطُ جهلهم وكذبهم

(3)

.

(1)

وهي عبارةٌ عما يتوقَّف عليه الشيء ولا يجامعه في الوجود، كالخطوات الموصلة إلى المقاصد. «التعريفات» (282).

(2)

كذا في الأصول. ولعلَّ الصواب: أن اختلاف.

(3)

انظر: «صور الكواكب» (21)، و «التفهيم» (263)، و «التذكرة في علم الهيئة» للطوسي (132، 142)، و «فرج المهموم» (25)، و «الأنواء» لابن قتيبة (121).

ص: 1185

الثاني: أنَّ هؤلاء لما عجَزوا عن معرفة طالع القِران

(1)

أقاموا طالعَ سَنَة القِران مقامَ القِران! ومعلومٌ أنَّ هذا في غاية الفساد.

الثَّالث: أنهم اختلفوا اختلافًا شديدًا في المسألة الواحدة من مسائل هذا العلم؛ فإنَّ أقوالهم في حدود الكواكب كثيرةٌ مختلفة

(2)

، وليس مع أحدٍ منهم شبهةٌ ولا خيال، فضلًا عن حجَّةٍ واستدلال.

ثم إنَّ كثيرًا منهم من غير حجَّةٍ ولا دليل ربَّما أخذوا واحدًا من تلك الأقوال من غير بصيرة، بل بمجرَّد التشهِّي، مثل أخذِهم في ذلك بحدود المصريِّين

(3)

، وذلك من أدلِّ الدَّلائل على فساد هذا العلم.

(1)

وهو مسامتةُ أحد الكوكبين الآخر، لأنَّ أحدهما أعلى من صاحبه، وفلكُه خلاف ذلك الآخر، فيسامِتُ أحدهما صاحبه، فيحاذيان موضعًا واحدًا من ذلك البرج، ويتحركان على سمتٍ واحد، فيراهما الناظر مقترنَيْن لبُعْدِهما من الأرض، وبين أحدهما وصاحبه في العلوِّ بعدٌ كثير. انظر:«الأزمنة والأمكنة» (2/ 322)، و «القانون المسعودي» (3/ 1350)، و «رسائل إخوان الصفا» (1/ 136).

(2)

الحدود: أقسامٌ في البروج مختلفة، ينسَب كلُّ قسمٍ من كلِّ برجٍ إلى كوكبٍ من الكواكب المتحيِّرة، فتختلف الأحكام في البرج بحسب اختلاف الأقسام. انظر:«المطالب العالية» (8/ 175)، و «التفهيم» (256).

(3)

في الأصول: «الضربين» . وهو تحريفٌ عن المثبت. انظر المصدرين السابقين، وما سيأتي (ص: 1291). وقال كوشيار في «المجمل» (ق: 7/ب): «الحدود من الأشياء المختلف فيها، فلكل أمة حدود،

وكل واحدٍ من أهل هذه الصناعة تمسك بحدود أمةٍ على شهوةٍ منه، وهي حدود بطليموس وحدود المصريين وحدود الهند وحدود الكلدانيين،

وأما حدود المصريين فاجتمعت عليها أهل الصناعة على غير ثقةٍ بها، وليس لها قياسٌ ولا نظام»!

ص: 1186

الرابع: أنَّ أقوالهم متناقضة؛ فإنَّ منهم من يقول: كونُ زحَل في بيت المال دليلُ الفقر، ومنهم من يقول: يدلُّ على وِجْدان الكنز

(1)

.

الخامس: أنَّ هذا العلمَ مع أنه تقليدٌ محض، فليس أيضًا تقليدًا منتظمًا؛ لأنَّ لكلِّ قوم فيه مذهبًا، ولكلِّ طائفةٍ فيه مقالة، فللبابليِّين فيه مذهب، وللفرس مذهبٌ آخر، وللهند مذهب، وللصِّين مذهبٌ رابع. والأقوالُ إذا تعارضت وتعذَّر الترجيحُ كان دليلًا على فسادها وبطلانها.

وسيأتي إن شاء الله بسطُ الكلام على هذه الوجوه أكثر من هذا.

الوجه السابع مما يدلُّ على بطلان القول بالأحكام: أنَّ الطالعَ عندهم هو الشَّكل المخصوصُ الحاصلُ للفلَك عند انفصال الولد من رَحِم أمِّه.

وإذا ثبت هذا، فنقول: الاستدلالُ بحصول ذلك الشَّكل على جميع الأحوال الكليَّة التي تحصلُ لهذا الولد إلى آخر عُمره استدلالٌ باطلٌ قطعًا، ويدلُّ عليه وجوه:

أحدها: أنَّ ذلك الشَّكل كما حَدَث في تلك اللحظة فإنه يفنى ويزول، ويحدُث شكلٌ آخر، فذلك الشَّكل المعيَّنُ معدومٌ في جميع أجزاء عُمر هذا الإنسان، والمعدومُ لا يكونُ علةً للموجود، ولا جزءً من أجزاء العلَّة

(2)

.

وإذا كان كذلك امتنع الاستدلالُ بذلك الشَّكل على الأحوال التي تحدُث في جميع أجزاء العمر.

الثاني: أنه لا مشابهةَ بين ذلك الشَّكل المخصوص وبين هذا الإنسان

(1)

(ت): «الكثرة» .

(2)

(ت): «ولا جزء للعلة» .

ص: 1187

الذي انفصل من بطن الأمِّ إلا في أمرٍ واحد، وهو أنَّ كلَّ واحدٍ منهما ظهر بعد الخفاء، ومجرَّدُ ذلك لا يوجبُ ارتباطَ ذلك الشَّكل المخصوص للفلَك بسائر أحوال هذا الإنسان البتَّة؛ فمدَّعي ذلك فاسدُ العقل.

والنظر الثالث: أنه عند حدوث ذلك الطالع حدثت أنواعٌ من الحيوانات، وأنواعٌ من النبات، وأنواعٌ من الجمادات، فلو كان ذلك الطالعُ يوجبُ آثارًا مخصوصةً لوجب اشتراكُ كلِّ الأشياء التي حدثت في عالمنا هذا في ذلك الوقت في تلك الآثار، وحيث لم يكن الأمرُ كذلك علمنا أنَّ القولَ بتأثير الطالع باطل.

الرابع: هَبْ أنَّ الطالعَ له أثر، إلا أنَّ الواجبَ أن يقال: الطالعُ المعتبر هو طالعُ مَسْقَط النطفة، لا طالعُ الولادة، وذلك لأنَّ عند مَسْقَط النطفة يأخذُ ذلك الشخصُ في التكوُّن والتولُّد، فأما عند الولادة فالشخصُ قد تمَّ تكوُّنه وحدوثُه، ولا حادثَ في هذا الوقت إلا انتقالُه من مكانٍ إلى مكانٍ آخر.

فثبت أنه لو كان للطَّالع اعتبارٌ لوجب أن يكون المعتبر هو طالعُ مَسْقَط النطفة لا طالع الولادة.

الوجه الثامن: أنَّ الأرصادَ لا تنفكُّ عن نوع الخلل والزَّلل

(1)

، وقد صنَّف أبوعلي ابنُ الهيثم

(2)

رسالةً بليغةً في أقسام الخلل الواقع في آلات

(1)

انظر: «العمل بالاسطرلاب» للصوفي (314)، و «زيج» البتاني (191)، و «المطالب العالية» (8/ 155).

(2)

الحسن (وقيل: محمد) بن الحسن، صاحب التصانيف المشهورة في الهندسة، (ت: 430 تقريبًا). انظر: «أخبار الحكماء» للقفطي (218)، و «طبقات الأطباء» لابن أبي أصيبعة (2/ 90).

ص: 1188

الرَّصَد

(1)

، وبيَّن أنَّ ذلك الخلل ليس في وُسْع الإنسان دفعُه وإزالتُه.

وإذا عُرِفَ هذا فنقول: إذا بَعُدَ العهدُ بتجديد الرَّصَد اجتمعت تلك المُسامَحَاتُ القليلة، ويحصلُ بسببها تفاوتٌ عظيمٌ في مواضع الكواكب، وكذلك فإذا وُجِد موضعُ الكوكب بحسب بعض الزِّيجات

(2)

درجةً معينة

(3)

، ووُجِدَ بحسب زِيجٍ آخر غير تلك الدَّرجة؛ ربَّما حصل التفاوتُ بالبروج.

ولمَّا كان علمُ الأحكام مبنيًّا على مواضع الكواكب

(4)

ومناسباتها، ثمَّ قد تبيَّن أنَّ التفاوتَ الكثير وقع في قَطْع الكواكب

(5)

= عُلِمَ بطلانُ هذا العلم وفسادُه

(6)

.

الوجه التاسع: أنَّ المعقول من تأثير هذه الكواكب في العالم السُّفلي هو أنها بحسب مَسَاقِط شُعاعاتها تسخِّنُ هذا العالَم أنواعًا من السُّخونة.

(1)

عَدَّ منها قريبًا من ثلاثين وجهًا من الوجوه التي لا يمكنُ الاحتراز عنها. انظر: «المطالب العالية» (8/ 155).

(2)

جمع «زيج» ، فارسية معربة، وهو كتابٌ فيه جداول يعرَف بها مواضعُ الكواكب وسيرها، بطريقةٍ حسابية، ومنه يستخرج التقويم. انظر:«قصد السبيل» (1/ 101)، و «مفاتيح العلوم» (197)، و «أبجد العلوم» (2/ 314).

(3)

في طرة (د، ق): «لعله: حين» . ولا وجه له، فالعبارة كذلك في «السر المكتوم» (27).

(4)

من قوله: «وكذلك فإذا وجد» إلى هنا ساقط من (ت)؛ لانتقال النظر.

(5)

أي: في سيرها وقطعها للمسافات. انظر: «روح المعاني» (9/ 135، 23/ 24).

(6)

انظر: «أبكار الأفكار» للآمدي (2/ 272).

ص: 1189

فأمَّا تأثيراتُها في حصول الأحوال النفسانيَّة، من الذَّكاء والبلادة، والسَّعادة والشَّقاوة، وحُسْنِ الخلق وقُبحِه، والغِنى [والفقر]، والهمِّ والسرور، واللذَّة والألم= فلو كان معلومًا لكان طريق علمه إمَّا الخبرُ الذي لا يجوزُ عليه الكذب، أو الحسُّ الذي يشتركُ فيه الناس، أو ضرورةُ العقل، أو نظرُه، وشيءٌ من هذا كلِّه غيرُ موجودٍ البتَّة؛ فالقولُ به باطل.

ولا يمكنُ الأحكاميِّين أن يدَّعوا واحدًا من الثلاثة الأُوَل

(1)

، وغايتُهم أن يدَّعوا أن النظر والتجربة قادهم إلى ذلك، وأوقعهم عليه. ونحن نبيِّن فساد هذا النظر والتَّجربة بما لا يمكنُ دفعُه من الوجوه التي ذكرناها، ونذكرُ غيرها ممَّا هو مثلُها وأقوى منها.

وكلُّ علمٍ صحيح فله براهينُ يستند إليها تنتهي إلى الحِسِّ أو ضرورة العقل، وهذا العلمُ فلا ينتهي إلا إلى حَدْسٍ وتخمينٍ لا تغني من الحقِّ شيئًا، وغاية أهله تقليدُ من لم يَقُمْ دليلٌ على صِدْقه.

الوجه العاشر: أنَّا إذا فَرضنا أنَّ رجلين سألا منجِّمَين في وقتٍ واحدٍ في بلدٍ واحدٍ عن خصمَين، أيُّهما الظَّافر بصاحبه؟ فهاهنا يكونُ ذلك الطَّالعُ مشتركًا بين كلِّ واحدٍ من ذَينِك الخصمَين، فإن دلَّ ذلك الطَّالع على حال الغالب أو المغلوب، مع كونه مشتركًا بين الخصمين

(2)

، لَزِمَ كونُ كلٍّ منهما غالبًا لخصمه ومغلوبًا من جانبه. وذلك محال.

فإن قالوا: بُيِّن حالُ كلِّ واحدٍ منهما بسبب طالع الأصل، أو طالع التحويل، أو برج الانتهاء.

(1)

وهي: الخبر المقطوع بصدقه، والحِسُّ المشترك، وضرورة العقل.

(2)

من قوله: «فإن دلَّ ذلك» إلى هنا ساقط من (ت)؛ لانتقال النظر.

ص: 1190

قلنا: هذا تسليمٌ لقول من يقول: إنَّ طالعَ الوقت لا يدلُّ على شيءٍ أصلًا، بل لا بدَّ من رعاية الأحوال الماضية، لكنَّ الأحوال الماضية كثيرةٌ غيرُ مضبوطة؛ فتوقُّفُ دلالة طالع الوقت على اعتبار تلك الأحوال الماضية يقتضي التوقُّفَ على شرائطَ لا يمكن اعتبارُها البتَّة.

وقد ساعدَ أصحابُ الأحكام على الاعتراف بأنَّ الاعتمادَ على طالع الوقت غيرُ مفيد، بل لا يتمُّ الأمرُ إلا عند معرفة طالع الأصل، فطالعِ التحويل، وبرج الانتهاء، ومعرفة التَّسييرات، فعند اعتبار جملة هذه الأمور يتمُّ الاستدلال، ومع اعتبار جملتها وتحريرها بحيث يُؤْمَنُ الغلطُ فيها يكونُ الاستدلالُ على سبيل الظَّنِّ، لا على سبيل القطع.

الوجه الحادي عشر: أنَّا لو فَرضنا جادَّةً مسلوكة، وطريقًا يمشي فيه النَّاس ليلًا ونهارًا، ثم حصل في تلك الجادَّة آبارٌ

(1)

متقاربة، بحيثُ لا يقدرُ سالكُ ذلك الطريق على سلوكه إلا بتأمُّلٍ كثيرٍ وتفكُّرٍ شديدٍ حتى يتخلَّص من الوقوع في تلك الآبار؛ فإن من المعلوم بالضرورة أنَّ سلامةَ من يمشي في هذه الطريق من العُمْيان لا يكونُ كسلامة من يمشي من البُصَراء، بل ولا بدَّ أن يكون عَطَبُ العُمْيان في ذلك الطريق كثيرًا جدًّا، وأن تكون سلامةُ البُصَراء غالبةً جدًّا.

إذا عرفتَ هذا، فنقول: مثالُ العميان عند الأحكاميِّين: الذين لا يَعْرِفون

(1)

مهملة في (د). وفي (ق، ت): «آثار» . وهكذا في المواضع التالية. وهو تحريف. انظر: «مسألة في الردِّ على المنجمين» للشريف المرتضى (2/ 307 - رسائله)، و «شرح نهج البلاغة» (6/ 202). ولا أدري أنقل المصنف هذا المثل من كتاب الشريف المرتضى مباشرةً أم بواسطة؟

ص: 1191

أحكام النجوم، وهم الأكثرون من الخلائق. ومثالُ البصراء عندهم: هم أهل هذا العلم

(1)

، وهم الأقلُّون. ومثالُ الطريق الذي حصلت فيه الآبارُ العميقةُ المُهْلِكة: الزمان الذي يمضي على الخلق أجمعين

(2)

. ومثالُ تلك الآبار: المصائب الزمانيَّة والمِحَن والبلايا.

فلو كان هذا العلمُ صحيحًا لوجَب أن يكون فوزُ المنجِّمين بالغِنى والسلامة والنِّعم أتمَّ فوز، وسلامتُهم فوق كلِّ سلامة. ومعلومٌ أنَّ الأمر بالعكس، والغالبُ كونُ المنجِّمين ومَنْ سَمِعَ منهم وعَمِلَ بقولهم في الإدبار والنَّحْس والحرمان، والواقعُ أبينُ شاهدٍ بذلك، ولو ذهبنا نذكُر الوقائعَ التي شُوهِدَت من ذلك واشتملت عليها التواريخُ لزادت على ألوفٍ عديدة.

فلا تجدُ أحدًا راعى هذا العلمَ وتقيَّد به في حركاته واختياراته إلا وكانت عاقبتُه قريبًا إلى إدبارٍ ونِكايةٍ وبلايا لا يصابُ بها سواه، ومَنْ كَثُرَ خُبْرُه بأحوال الناس فإنه يعرفُ من ذلك مالا يعرفُه غيرُه.

الوجه الثاني عشر: أنَّا نشاهدُ عالَمًا كثيرًا يُقْتَلون في ساعةٍ واحدةٍ في حرب، وخلقًا يَغْرَقُون في ساعةٍ واحدة، مع القطع باختلاف طوالعهم، واقتضائها عندكم أحوالًا مختلفة! ولو كان للطوالع تأثيرٌ في هذا لامتنع عند اختلافها الاشتراكُ في ذلك

(3)

.

ولا ينفعكم جوابُ من انتصر لكم بأنَّ الطوالعَ قد يكون بعضُها أقوى من بعض، ولعل طالعَ الوقت أقوى من طالع الأصل، وكان الحكمُ له، فإنَّ

(1)

(ق): «العمل» .

(2)

في «رسائل الشريف المرتضى» : «يمضي عليه الخلق أجمعون» .

(3)

انظر: «الفِصَل» (5/ 150)، و «تفسير القرطبي» (19/ 28).

ص: 1192

طالعَ الوقت لعلَّه اقتضى هلاكًا أو غرقًا عامًّا، وهو أقوى من طالع الأصل، فكان التأثيرُ له= لأنَّا نقول: هذا بعينه يُبْطِلُ عليكم طالعَ المولود والأصل، ويُحِيلُ القولَ بتأثيره واعتباره جملة؛ فإنَّ الطوالعَ بعده مختلفةٌ كثيرة، ولعلَّ بعضها

(1)

أو أكثرها أقوى منه، فيكون الحكمُ بمُوجَبه باطلًا، إذ لا أمانَ لكم من اقتضاء الطوالع بعده ضدَّ ما اقتضاه، وحينئذٍ فلا يفيدُ اعتبارُه شيئًا.

الوجه الثالث عشر: أنَّا نرى الجيشَين العظيمَين والحِزْبَين المتغالبَيْن

(2)

يقتتلان ويختصمان، وقد أُخِذَ طالعُ الوقت لكلٍّ منهما، ومع هذا فالمنصورُ والغالبُ أحدُهما، مع أنَّ الطالعَ واحد!

ولا ينفعُكم في هذا جوابُ من انتصر لكم بأنه لا مانعَ من القول بخطأ الآخِذ للطالع في الحساب والحُكم؛ فإنه لو أُخِذَ لهما أيُّ طالعٍ كان لم يكن الغالبُ إلا أحدَهما، حتى لو كان الطالعُ قطعًا

(3)

لا يُتَصَوَّرُ فيه الغلطُ لم يكن بدٌّ من كون أحدهما غالبًا والآخر مغلوبًا، وهذا يُبْطِلُ مذهبَ الأحكام بلا ريب

(4)

.

الوجه الرابع عشر: أنَّ الأجزاء المفترَضة في الفلَك إمَّا أن تكون متشابهةً في الطبيعة والماهيَّة، أو مختلفةً فيها؛ فإن كانت متشابهةً

(5)

كان الجزءُ الذي

(1)

في الأصول: «واصل بعضها» . والمثبت أشبه بالصواب. وانظر: «الفلاكة والمفلوكون» (25)، ففي سياقه اختلاف.

(2)

(ق): «المتعاليين» . (ت): «المتقابلين» .

(3)

(ت): «قطعيا» . وطمست الياء في (د، ق).

(4)

انظر: «غاية المرام» (212)، و «أبكار الأفكار» (2/ 272).

(5)

(ق، د): «متساوية» .

ص: 1193

هو الطالعُ مساويًا لسائر الأجزاء، وحُكمُ سائر الأجزاء واحدًا

(1)

، وإن كانت الأجزاءُ مختلفةً في الماهيَّة والطبيعة فلا ريب أنَّ الفلَك جِرْمٌ في غاية العظمة، حتى قالوا: إنَّ الرجلَ الشَّديد العَدْو إذا رَفَع رجلَه ووَضعَها يكون الفلَك قد تحرَّك ثلاثةَ آلاف ميل

(2)

.

وإذا كان كذلك، فمِن الوقت الذي ينفصلُ الولدُ من بطن أمِّه إلى أن يأخذَ المنجِّمُ الأصطرلاب

(3)

ويأخذَ الارتفاعَ يكون الفلَكُ قد تحرَّك مثلَ كلِّ الأرض كذا ألف مرَّة.

وإذا كان الأمرُ كذلك، فالجزءُ الذي يأخذُه المنجِّمُ بالأصطرلاب ليس الجزءَ الطالعَ في الحقيقة

(4)

، وإذا كانت الأجزاءُ الفلَكيَّة مختلفةً في الطبيعة والماهيَّة عَلِمْنَا أنَّ أخذَ الطوالع محال.

وقد اعترف فضلاؤكم بهذا، وقالوا: إنَّ الأمر وإن كان كذلك إلا أنَّ التجربةَ قد دلَّت على أنَّ هذا الطالعَ الذي تعذَّر على الإنسان تحصيلُه يدلُّ على كثيرٍ من تَقْدِمة

(5)

المعرفة، مع ما فيه من الخلل الكثير الذي ذكرتم، فوجبَ أن لا يُهْمَل.

(1)

(ت): «كان الجزء الذي هو الطالع وحكم سائر الأجزاء واحد» .

(2)

انظر: «المطالب العالية» (8/ 156).

(3)

بالصَّاد وبالسين، يونانيةٌ معربة، آلة استعملها الفلكيون القدماء في تعيين مواضع الكواكب، وقياس ارتفاعها، ومعرفة الوقت والجهات الأصلية. انظر:«قصد السبيل» (1/ 194)، و «المعجم الوسيط» (17).

(4)

انظر: «أبكار الأفكار» (2/ 272).

(5)

في الأصول: «مقدمة» . وهو تحريف. وسيأتي بيانها (ص: 1310).

ص: 1194

وهذا خطأٌ بيِّن؛ فإنَّ التَّجارب التي دلَّت على كذب ذلك وبطلانه ووقوع الأمر بخلافه أضعافُ أضعاف التجربة التي دلَّت على صدقه، كما سنذكرُ قطرةً مِنْ بحره عن قريبٍ إن شاء الله.

ولهذا قال أبو نصر الفارابي

(1)

: واعْلم أنك لو قَلَبْتَ

(2)

أوضاعَ المنجِّمين، فجعلتَ الحارَّ باردًا، والباردَ حارًّا، والسَّعْدَ نحْسًا، والنَّحْسَ سعدًا، والذكرَ أنثى، والأنثى ذكرًا، ثمَّ حَكَمْتَ؛ لكانت أحكامُك مِن جنس أحكامهم، تصيبُ تارةً وتخطاء تارات

(3)

.

وهل معكم إلا الحَدْسُ والتخمينُ والظُّنون الكاذبة؟!

ولقد حُكِيَ

(4)

أنَّ امرأةً أتت منجِّمًا فأعطته درهمًا، فأخَذ طالعَها، وحَكَمَ وقال: الطالعُ يُخْبِرُ بكذا، فقالت: لم يكن شيءٌ من ذلك! ثم أخَذ الطالعَ وقال: يُخْبِرُ بكذا. فأنكرَتْه! حتى قال: إنه ليدلُّ على قَطْعٍ في بيت المال

(5)

، فقالت: الآن صدقتَ، وهو الدِّرهم الذي دفعتُه إليك!!

(1)

محمد بن محمد بن طرخان، الفيلسوف، صاحب التصانيف (ت: 339). انظر: «أخبار الحكماء» (382)، و «السير» (15/ 416).

(2)

في الأصول: «قبلت» . وستأتي على الصواب (ص: 1313).

(3)

العبارة بالمعنى في رسالته «ما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم» (1/ 300 - رسائله). وانظر: «السر المكتوم» (86)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 182).

(4)

انظر: «الرسالة المصرية» لأبي الصلت أمية بن عبد العزيز (1/ 45 - نوادر المخطوطات)، و «أخبار الحكماء» للقفطي (252)، ففيهما أنَّ المنجم هو رزق الله النحاس.

(5)

في المصدرين السابقين: بيت مالك. وسيأتي تفسير القَطْع (ص: 1455).

ص: 1195

الوجه الخامس عشر: أنَّ الأجسامَ لا تنفعلُ في غيرها إلا بواسطة المُماسَّة، وهذه الكواكبُ لا مُماسَّة لها بأعضائنا وأبداننا وأرواحنا، فيمتنعُ كونُها فاعلةً فينا

(1)

.

أقصى ما في الباب أن يقال: إنها وإن لم تكن مُماسَّةً لأعضائنا إلا أنَّ شُعاعها يَصِلُ إلى أجسامنا.

فيقال: لا ريب أن تأثيرَ الشُّعاع إنما يكونُ بالتَّسخين عند المُسامَتة

(2)

أو بالتَّبريد عند الانحراف عن المُسامَتة؛ فهذا ــ بعد تصحيحه ــ يقتضي أن لا يكون لهذه الكواكب تأثيرٌ في هذا العالَم إلا على سبيل التَّسخين والتَّبريد.

فأمَّا أن تُعْطِي العلومَ والأخلاق، والمحبة والبغضاء، والموالاة والمعاداة، والعِفَّة والحريَّة

(3)

، والنَّذالة والخُبْث، والمكر والخديعة، فذلك خارجٌ عن معقول العقلاء، وهو مِنْ حماقات الأحكاميِّين وجهالاتهم.

فإن قيل: التأثيرُ بالتَّسخين والتَّبريد يوجبُ اختلافَ أمزجة الأبدان، واختلافُ أمزجة الأبدان يوجبُ اختلافَ أفعال النفس.

قيل: فنحن نرى التَّسخينَ يقتضي حرارةً وحِدَّةً في المزاج، يفعلُ بها هذا

(1)

انظر: «رسائل الشريف المرتضى» (2/ 303)، و «شرح نهج البلاغة» (6/ 200).

(2)

الموازاة والمقابلة. «التاج» (سمت). وفي (ق): «المشامتة» بالمعجمة. وفي (ت): «المماسة» . في الموضعين.

(3)

مهملة في (د، ق). والحرية تطلق عرفًا على العفَّة، فيقال: غلام حر، أي: عفيف. انظر: «زاد المعاد» (3/ 584)، و «بدائع الفوائد» (1373)، و «إعلام الموقعين» (4/ 228). وربما كانت تحريفًا عن:«والجود» ، والمصنف يذكرهما كثيرًا في خصال الكمال.

ص: 1196

غايةَ الخير والأفعال الحميدة، وهذا غايةَ الشرِّ والأفعال الخبيثة، والشُّعاعُ قد سَخَّنَ مراكبها

(1)

، فما المُوجِبُ لانفعال نفسَيْهما عن هذا التَّسخين هذا الانفعالَ المتباعِدَ المتناقض

(2)

؟!

وأيضًا؛ فما المُوجِبُ لاختلاف القَوابِل، وتأثيرُ الكواكب فيها بطَبْعِه وتسخينه وتبريده؟! فكيف اختلفت القَوابِلُ هذا الاختلافَ العظيم وهي مستندةٌ إلى تأثيرٍ واحد؟!

الوجه السادس عشر: أنَّ رجلًا لو جلس في دارٍ لها بابان، شرقيٌّ وغربيٌّ، فسأل المنجِّمَ وقال: مِنْ أيِّهما يقتضي الطالعُ خروجي؟ فإذا قال له المنجِّم: من الشرقيِّ، أمكَنَه تكذيبُه والخروجُ من الغربي، وبالعكس، وكذلك السَّفرُ في يومٍ واحد، وابتداءُ البناء وغيره في يومٍ يعيِّنه له المنجِّم ويحكمُ باقتضاء الطالع له من غير تقُّدمٍ عنه ولا تأخُّر، فإنه يُمْكِنُه تكذيبُه في ذلك أجمَع

(3)

.

فإن قلتم: إنَّ المنجِّم إذا أخبره بما يفعلُه ويختارُه يصيرُ ذلك داعيًا له إلى أن يخالِفَه في قوله ويكذِّبه، فالطريقُ إلى علَّة تصديقه

(4)

أن يحكُم ذلك المنجِّم على معيَّنٍ، ويكتبه في كتابٍ ويخفيه، أو يذكرَه لإنسانٍ آخر ويخفيه عن صاحب الواقعة، فهاهنا يظهرُ صدقُ المنجِّم!

(1)

(د، ق): «مراكبهما» . والبدن مَرْكَبٌ للنفس. انظر: «الروح» (499، 325)، و «روضة المحبين» (115)، و «مجموع الفتاوى» (5/ 457).

(2)

(ت): «المتنافر» .

(3)

انظر: «الفِصَل» (5/ 150)، و «رسائل الشريف المرتضى» (2/ 305)، و «شرح نهج البلاغة» (6/ 202).

(4)

(ط): «علم صدقه» .

ص: 1197

قلت: هذا العذرُ من أسقط الأعذار؛ لأنَّ النجوم لو كانت كما تزعمون دالَّةً على جميع الكائنات الواقعة في هذا العالَم لعرفَ المنجِّمُ ذلك الذي يستقرُّ عليه اختيارُه على كلِّ حال، شاء تكذيبَه أو لم يشأه، فلمَّا لم يكن الأمرُ كذلك سقطَ القولُ بصحَّة هذا العذر.

فإن قيل: الأشخاصُ الفلَكيَّة مؤثِّرات، والسُّفليَّة قَوابِل، ويجوزُ أن تختلف الأحوالُ الصَّادرةُ عن الفاعل بسبب اختلاف القَوابِل، وإذا كان كذلك فهَبْ أنَّ الدلائل الفلَكيَّة دلَّت على أنه إنما يختارُ الخروجَ من الباب الفُلاني، إلا أنَّ كونَ ذلك الإنسان مشغوفًا بتكذيب المنجِّم حالةٌ حاصلةٌ في النفس، مانعةٌ من ظهور ذلك الأثر الذي تقتضيه المُوجِباتُ الفلَكيَّة، فلهذا الأمر لم يحصُل الأمرُ على وَفْقِ حُكم المنجِّم.

قيل: إذا اقتضت المُوجِباتُ الفلَكيَّة أثرًا امتنعَ أن يحصُل في النفس ما يضادُّه؛ لأنَّ تلك الإرادات والمُيول والعُزومَ الواقعة في النفس هي عندكم من مُوجَبات الآثار الفلَكيَّة، فيمتنعُ أن تكون مضادَّةً لمُوجِبها، لا سيَّما والمنجِّم يحكمُ بأنه إنما تقتضي النجومُ أن يريد الإنسانُ كذا وكذا، وليس حكمُه أنَّ الطالعَ يقتضي كذا وكذا إلا أن يريدَ الإنسانُ خلافَه، هذا ما لا يقولُه أحدٌ منكم؛ فعُلِمَ بطلانُ هذا الاعتذار.

الوجه السابع عشر: أنه لا سبيلَ إلى معرفة طبائع البروج وطبائع الكواكب وامتزاجاتها إلا بالتَّجربة، وأقلُّ ما لا بدَّ منه في التَّجربة أن يحصُل ذلك الشيءُ على حالةٍ واحدةٍ مرَّتين، إلا أنَّ الكواكبَ

(1)

لا يُمكِنُ تحصيلُ ذلك فيها؛ لأنه إذا حصَل كوكبٌ معيَّنٌ في موضعٍ معيَّنٍ في الفلَك وكانت

ص: 1198

سائرُ الكواكب متصلةً به على وضعٍ مخصوصٍ وشكلٍ مخصوص فإنَّ ذلك الموضعَ المعيَّن بحسب الدرجة والدَّقيقة لا يعودُ إلا بعد ألوفِ ألوفٍ من السِّنين، وعمرُ الإنسان الواحد لا يفي بذلك، بل عمرُ البشر لا يفي به، والتَّواريخُ التي تضبِطُ هذه المدَّة مما لا يمكنُ وصولُها إلى الإنسان؛ فثبت أنه لا سبيل إلى الوصول إلى هذه الأحوال من جهة التَّجربة البتَّة

(1)

.

ولا ينفعكم اعتذارُ من اعتذرَ عنكم بأنه لا حاجةَ في التَّجربة إلى ما ذكرتم، لأنَّا إذا شاهَدنا حادثًا معينًا في وقتٍ مخصوص، فلا شكَّ أنه قد تحصُل في الفلَك اتصالاتٌ للكواكب المختلفة في ذلك الوقت، فلو قدَّرنا عَوْدَ ذلك الوضع الفلَكيِّ بتمامه على تلك الحال ألفَ مرَّةٍ لم يُعْلَمْ أنَّ المؤثِّر في ذلك الحادث هل هو مجموعُ الاتصالات أو اتصالٌ معيَّنٌ منها؟ فإذا علمنا أنَّ ذلك الوضعَ بجملته فاتَ وما عاد، ولكنه عاد اتصالٌ واحدٌ من تلك الاتصالات، وكلَّما عاد ذلك الاتصالُ المعيَّنُ فإنه يعودُ ذلك الأثرُ بعينه، لا لأجل

(2)

سائر الاتصالات؛ فثبت أنَّ الرجوعَ في هذا الباب إلى التَّجربة غيرُ متعذِّر.

وهذا الاعتذارُ في غاية الفساد والمكابرة؛ لأنَّ تخلُّف ذلك الأثر عن ذلك الاتصال العائد أكثرُ من اقترانه به، والتجربةُ شاهدةٌ بذلك، كما قد اشتهرَ بين العقلاء أنَّ المنجِّمين إذا أجمعوا على شيءٍ

(3)

من الأحكام لم يكد يقَع، ونحنُ نذكرُ طرفًا من ذلك، فنقول في:

(1)

انظر: «السر المكتوم» (10)، و «الفِصَل» (5/ 149)، و «أبكار الأفكار» (2/ 270)، و «رسائل الشريف المرتضى» (2/ 303)، و «شرح نهج البلاغة» (6/ 201، 204).

(2)

«لا» ليست في (ت).

(3)

(ص): «على حكم» .

ص: 1199

الوجه الثامن عشر: لمَّا نظر حُذَّاقكم وفضلاؤكم سنة سبعٍ وثلاثين عام صِفِّين في مَخْرَج عليٍّ رضي الله عنه من الكوفة إلى محاربة أهل الشَّام، اتفقوا على أنه يُقْتَلُ ويُقْهَرُ به جيشُه.

فظهر كذبُهم، وانتصر جيشُه على أهل الشام، ولم يَقْدِروا على التخلُّص منهم إلا بالحيلة التي وَضعُوها مِنْ نَشْرِ المصاحف على الرِّماح والدُّعاء إلى ما فيها.

وقد قيل: إنَّ هذا الاتفاق منهم إنما كان في حرب أمير المؤمنين رضي الله عنه للخوارج

(1)

؛ فإنهم اتفقوا على أنه إن خرَج في ذلك الطالع قُتِلَ وهُزِمَ جيشُه، فإنَّ القمرَ كان إذ ذاك في العقرب، فخالفَهم عليٌّ رضي الله عنه، وقال: بل نخرُج ثقةً بالله، وتوكُّلًا عليه، وتكذيبًا لقول المنجِّم

(2)

، فما غزا غَزاةً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أتمَّ منها، قتَل عدوَّه، وأيَّده الله عليهم بالنصر والظَّفر بهم، ورجع مؤيَّدًا منصورًا مأجورًا، والقصةُ معروفةٌ في السير والتواريخ

(3)

.

ومِن ذلك: اتفاقُ مَلئِكم

(4)

في سنة ستٍّ وستين على غلبة عبيد الله بن زياد للمختار بن أبي عُبيد، وأنه لا بدَّ أن يقتلَه أو يأسِرَه، فسار إليه في نحوٍ من ثمانين ألف مقاتل، فلقيه إبراهيمُ بن الأشتَر صاحبُ المختار بأرضِ نَصِيبِين

(5)

وهو

(1)

(ق): «حرب المؤمنين للخوارج» .

(2)

(ت، ص): «للمنجمين» .

(3)

انظر: «تاريخ الطبري» (5/ 83)، و «البداية والنهاية» (10/ 585)، و «شرح نهج البلاغة» (6/ 199)، وما سيأتي (ص: 1427).

(4)

(ت، ص): «ملائهم» .

(5)

من مدن الجزيرة الفراتية. انظر: «معجم البلدان» (5/ 288)، و «بلدان الخلافة الشرقية» (124). لكن الوقعة لم تكن بها، بل بخازر (نهر بأرض الموصل)، وقد كان المختار ذكر للناس أن أصحابه سيظهرون على ابن زياد بنصيبين، تفاؤلًا منه أو كهانة، فأخطأ في تحديد الموضع. انظر:«تاريخ الطبري» (6/ 92)، و «البداية والنهاية» (12/ 47).

ص: 1200

فيما دون سبعة آلاف مقاتل، فانهزَم أصحابُ ابن زيادٍ بعد أن قُتِلَ منهم خلقٌ لا يحصيهم إلا الله، حتى قيل: إنهم

(1)

ثلاثةٌ وسبعون ألفًا، ولم يُقْتَلْ من أصحاب ابن الأشتَر سوى عددٍ لا يبلغون مئة، وفيهم يقولُ الشَّاعر:

برزُوا نحوَهم بسبعةِ آلا

فٍ أرَتهُم عجائبًا في اللقاءِ

فتَعشَّوا منهم بسبعين ألفًا

أو يزيدونَ قبل وقتِ العشاءِ

فجزاكَ ابنَ مالكٍ وأبا إسـ

ـحاقَ عنَّا الإلهُ خيرَ جزاءِ

(2)

يريدُ بابن مالكٍ إبراهيمَ بن مالك الأشتَر، وأبو إسحاق كنية المختار.

وقتلَ ابنُ الأشتَر عبيدَ الله بن زياد في المعركة، ولم يَعْلَمْ به، حتى إذا هدأ الليلُ قال لأصحابه: لقد ضربتُ على شاطاء هذا النَّهر رجلًا فرجَع إليَّ سيفي وفيه رائحةُ المسك، ورأيتُ إقدامًا وجُرأة، فصرعتُه فذهبَت رجلاه قِبَل المشرق ويداه قِبَل المغرب، فانظُروه، فأتوه بالنِّيران، فإذا هو عبيدُ الله بن زياد. ذكر ذلك المبرِّد في «الكامل»

(3)

.

فانظُر حكمةَ الله في انعكاس ما قال الكذَّابون المنجِّمون!

وقيل: لما علم عبيدُ الله بن زياد أنَّ أمر القتال قد تيسَّر، وسأل

(4)

منجِّمَه عن

(1)

(ت، ص): «حتى قتل منهم» . وكذا في (د)، لكن صحِّحت في الطرة. (ق):«حتى قيل إنهم قتل منهم» ، لم يحسن التصحيح.

(2)

الثاني في «التذكرة» للقرطبي (1124) عن «مرج البحرين» لابن دحية.

(3)

(3/ 196). ورائحة المسك لا من دمه، بل من طيبٍ وضعَه!

(4)

كذا في الأصول. والأشبه حذف الواو.

ص: 1201

قوَّة نجمِه ونجمِ ابن الأشتَر، وقال: والله إني لأعلمُ أنه ليس بشيء، إلا أني كنتُ أنا وهو صغيران

(1)

وقعَت بيني وبينه خصومةٌ بسبب حَمَام كنَّا نلعبُ به، فضربني إلى الأرض، وقعَد على صدري، وقال: والله إني قاتلُك، ولا يقتلُك أحدٌ غيري إن شاء الله، وأنا من استثنائه بالمشيئة خائف! فذهبَ به منجِّمه إلى ما قرَّره المنجِّمون له مِن قوَّة نجمِه وأنَّ هذا وهمٌ منه، وحكمُ النجوم يقضي على وهمه، فحقَّق الله سبحانه ذلك الوهم، وأبطلَ حكمَ الطالع والنجم!

ومِن ذلك: اتفاقُهم عندما تمَّ بناءُ بغداد سنة ستٍّ وأربعين ومائة أنَّ طالعَها يقضي بأنه لا يموتُ فيها خليفة

(2)

، وشاع ذلك، حتى هنَّأ الشعراءُ به المنصور

(3)

، حتى قال بعض شعرائه:

يَهْنيكَ منها بلدةً يُقضى لنا

أنَّ المماتَ بها عليك حرامُ

لمَّا قَضَت أحكامُ طالع وقتِها

أن لا يُرى فيها يموتُ إمامُ

وأكَّد هذا الهذيانَ في نفوس العوامِّ موتُ المنصور بطريق مكة، ثم المهدي بماسَبَذان

(4)

، ثم الهادي بعِيسَاباذ

(5)

، ثم الرَّشيد بطُوس

(6)

، فلمَّا

(1)

كذا في الأصول. والصواب: «صغيرين» .

(2)

انظر: «تاريخ بغداد» (1/ 68)، و «البداية والنهاية» (12/ 391)، و «معجم البلدان» (1/ 460).

(3)

انظر: «تاريخ بغداد» (1/ 68)، و «ثمار القلوب» (741).

(4)

موضع في بلاد فارس. «معجم البلدان» (5/ 41).

(5)

محلةٌ بشرقي بغداد، منسوبة لعيسى بن المهدي، ومعنى «باذ» بالفارسية: عمارة. «معجم البلدان» (4/ 172).

(6)

من مدن نيسابور بإقليم خراسان، وتقع أطلالها اليوم على بضعة أميال من شمال مدينة مشهد بإيران. انظر:«معجم البلدان» (4/ 49)، و «بلدان الخلافة الشرقية» (430)، و «دائرة المعارف الإسلامية» (15/ 358). وفي (ص):«بطرسوس» ، وهو خطأ، هذه من ثغور الشام، وهي اليوم ضمن حدود تركيا، وبها دفن المأمون. «معجم البلدان» (4/ 28).

ص: 1202

قُتِل بها الأمينُ بشارع باب الأنبار

(1)

انخرَم الأصلُ الباطلُ الذي أصَّلُوه، وظهر الزُّورُ الذي لفَّقوه

(2)

، حتى رجعَ القائلُ الأول

(3)

فقال:

كذَبَ المنجِّمُ في مقالته التي

نَطَقَتْ به كذبًا على بَغْدانِ

(4)

قَتْلُ الأمين بها لعمري يقتضي

تكذيبَهم في سائر الحُسْبان

ثمَّ مات ببغداد جماعةٌ من الخلفاء، مثل: الواثق، والمتوكِّل، والمعتضِد، والمكتفِي، والناصر، وغير هؤلاء.

ومِنْ ذلك: اتفاقُهم في سنة ثلاثٍ وعشرين ومئتين في قصَّة عَمُّوريَّة على أنَّ المعتصم إن خرجَ لفتحِها كانت عليه الدَّائرة، وأنَّ النصرَ لعدوِّه،

(1)

من أبواب مدينة بغداد، مدخل القادمين من الشام، أنشأ عنده الأمين أحد مجالس لهوه. انظر:«تاريخ الطبري» (8/ 509)، و «معجم البلدان» (1/ 459)، و «بغداد مدينة السلام، الجانب الغربي» لصالح العلي (2/ 138).

(2)

وخرَّج بعضهم ما وقع للأمين على وجهين، الأول: أن الأمين لم يقتَل داخل بغداد. والثاني: أن الأمين قُتِل، والكلام في الموت لا في القتل!. انظر:«تاريخ بغداد» (1/ 69)، و «ثمار القلوب» (742)، و «نشوار المحاضرة» (5/ 43).

(3)

(ق): «حتى رجع الحق قائل الأول» . ولعلها: راجَع الحقَّ.

(4)

الشطر الثاني في «روح المعاني» (12/ 102):

* كان ادعاها في بِنا بغدان *

وفي «الفلاكة والمفلوكون» للدلجي (26) ــ وقد نقل كالآلوسي كثيرًا من هذا المبحث دون تصريح ــ:

* نطقت على بغداد بالهذيان *

ص: 1203

فرزقَه الله التوفيقَ في مخالفتهم، ففتَح اللهُ على يديه ما كان مُغْلَقًا، وأصبح كذبُهم وخَرْصُهم بعد أن كان موهومًا عند العامَّة

(1)

محقَّقًا، ففتَح عَمُّوريَّة وما والاها من كلِّ حصنٍ وقلعة، وكان ذلك من أعظم الفتوحات المعدودة.

وفي ذلك الفتح قام أبو تمَّام الطَّائيُّ منشدًا له على رؤوس الأشهاد:

السَّيْفُ أصدقُ أنباءً من الكتبِ

في حَدِّهِ الحَدُّ بين الجِدِّ واللَّعبِ

بِيضُ الصَّفائحِ لا سُودُ الصَّحائفِ في

مُتونهنَّ جلاءُ الشكِّ والرِّيَبِ

والعِلمُ في شُهُبِ الأرماح لامِعةً

بينَ الخَمِيسَين لا في السَّبعةِ الشُّهُبِ

(2)

أين الرِّواية أم أين النجومُ وما

صاغُوه مِن زُخْرفٍ فيها ومِنْ كذب

تخرُّصًا وأحاديثًا مُلفَّقَةً

ليست بِنَبْعٍ إذا عُدَّتْ ولا غَرَبِ

(3)

عجائبًا زعموا الأيامَ مُجْفِلةً

(4)

عنهنَّ في صَفَرِ الأصفارِ أو رَجَبِ

وخوَّفوا النَّاسَ مِنْ دهياءَ مُظْلِمةٍ

إذا بدا الكوكبُ الغربيُّ ذو الذَّنَبِ

وصيَّروا الأبرُجَ العُليا مرتِّبةً

ما كانَ منقلِبًا أو غيرَ منقلِبِ

يقضونَ بالأمر عنها وهي غافلةٌ

ما دارَ في فَلَكٍ منها وفي قُطُبِ

لو بَيَّنَتْ قطُّ أمرًا قبلَ مَوْقِعه

لم يَخْفَ ما حلَّ بالأوثانِ والصُّلُب

(1)

(ص): «عند الناس» .

(2)

الخميسين: الجيشين. والشهب السبعة: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر.

(3)

النَّبع: شجرٌ صلب. والغَرَب: شجرٌ ينبت على الأنهار ليست له قوة. يقول: هذه الأحاديث ليست بقويةٍ ولا ضعيفة، أي هي غيرُ شيء.

(4)

مجفلة: أحسَّت بأمرٍ يَذْعَرها فهربت منه بعجلةٍ ورعب.

ص: 1204

وهي نحوٌ من سبعين بيتًا

(1)

، أُجِيزَ على كلِّ بيتٍ منها بألف درهم.

ومِن ذلك: اتفاقُهم سنة اثنتين وتسعين ومئتين في قصَّة القرامطة على أنَّ المكتفي بالله إن خرَج لمقاتَلتهم كان هو المغلوبَ المهزوم

(2)

، وكان المسلمون قد لَقُوا منهم على توالي الأيام شرًّا عظيمًا وخَطبًا جسيمًا، فإنهم قتلوا النساءَ والأطفال، واستباحوا الحَرِيمَ والأموال، وهدموا المساجد، وربطوا فيها خيولَهم ودوابَّهم، وقصَدوا وفدَ الله وزوَّار بيته فأوقعوا فيهم القتلَ الذَّريع والفعلَ الشَّنيع، وأباحوا محارمَ الله، وعطَّلوا شرائعَه.

فعزمَ المكتفي على قتالهم والخروج إليهم بنفسه، فجمعَ وزيرُه القاسمُ بن عبيد الله

(3)

مَن قَدِرَ عليه من المنجِّمين، وفيهم زعيمُهم أبو الحسن العاصمي

(4)

، وكلُّهم أوجَب عليه بأن يشيرَ على الخليفة أن لا يخرُج، فإنه إن خرَج لم يرجع، وبخروجه تزولُ دولتُه، وبهذا تشهدُ النجومُ التي يقضي بها طالعُ مولده، وأخافوا الوزيرَ من الهلاك إن خرَج معه.

وقد كان المكتفي أمَر الوزيرَ بالخروج معه، فلم يَجِد بُدًّا من متابعته، فخرَج وفي قلبه ما فيه، وأقام المكتفي بالرَّقَّة حتى أُخِذ أعداءُ الله جميعًا، وسُقِيَت جموعُهم بكأس السيف نَجِيعًا.

ثمَّ جاء الخبرُ مِن مِصر بموت خُمَارويه بن أحمد بن طُولون، وكانوا به

(1)

ديوانه، بشرح التبريزي (1/ 40 - 74).

(2)

في الأصول: «الملزوم» . وهو تحريف.

(3)

الحارثي (ت: 291)، ظلومٌ سفَّاك للدماء، متهمٌ بالزندقة. انظر:«السير» (14/ 18).

(4)

له خبرٌ في «مختصر تاريخ الدول» لابن العبري (137). وسيأتي له ذكر (ص: 1212، 1234).

ص: 1205

يستطيلون، فأرسل المكتفي من تسلَّمها، واستحضر القُوَّادَ المصريَّة إلى حضرته.

ثمَّ لمَّا عادَ أمَر القاسم بن عبيد الله الوزير بإحضار رئيس المنجِّمين إلى حضرته، وصَفَعَه الصَّفعَ الكثير، بعد أن وَقَفَه ووبَّخه على عظيم كذبه وافترائه، وتبرَّأ منه ومن كلِّ من يقولُ برأيه.

قال أبو حيان التَّوحيدي في كتاب «الإمتاع والمؤانسة» وقد ذكر هذه القصَّة: «فهذا وما أشبهه من الافتراء والكذب لو ظَهَرَ ونُشِر، وعُيِّر أهلُه به، ووُقِفُوا عليه، وزُجِروا عن الدَّعوى المُشْرِفَة على الغيب؛ لكان مَقْمَعَةً لمن يُطْلِقُ لسانَه بالاطِّلاع على ما يكونُ في غدٍ، وقَطعًا لألسنتهم، وكفًّا لدعاويهم

(1)

، وتأديبًا لصغيرهم وكبيرهم»

(2)

.

ومِن ذلك: اتفاقُهم سنة ثلاثٍ وخمسين وثلاث مئة عندما أراد القائدُ جَوْهَرُ العزيزُ بناءَ مدينة القاهرة، وقد كان سَبَق مولاه الملقَّب بالمُعِزِّ إلى

(1)

(ت، ص): «لدواعيهم» .

(2)

لم أقف عليه في «الإمتاع والمؤانسة» ، وقد طُبع عن نسختين سقيمتين إحداهما ناقصة. ونقله الدلجي في «الفلاكة والمفلوكون» (26) من هنا.

وأخبار المكتفي ووزيره القاسم مع القرامطة في «تجارب الأمم» لمسكويه (شيخ أبي حيان)(5/ 29 - 50)، وغيره (انظر: الجامع في أخبار القرامطة لسهيل زكار)، وليس فيها خبر المنجِّمين، فهل صنَعه أبو حيان نكايةً فيهم؟.

وانظر لرأي أبي حيان في التنجيم: رسالته في العلوم (25)، و «الإمتاع والمؤانسة» (1/ 39)، و «البصائر والذخائر» (6/ 101). وسيأتي نقلٌ طويلٌ من كتابه «المقابسات» (ص: 1314).

ص: 1206

الدخول إلى الدِّيار المصريَّة لمَّا أمره بالغَرْب

(1)

بدخولها بالدَّعوة، وأمَره إذا دخلها أن يبني بها مدينةً عظيمةً تكونُ

(2)

نجومُ طالعِها في غاية الاستقامة، وتكونُ بطالع الكوكب القاهر، وهو زُحَل أو المرِّيخ على اختلاف جَلْوِه

(3)

.

فجمَع القائدُ جوهرُ المنجِّمين بها، وأمر كلَّ واحدٍ منهم أن يحقِّق الرَّصَدَ ويُحْكِمَه، وأمر البنَّائين أن لا يضعوا الأساسَ حتى يقال لهم: ضَعُوه، وأن يكونوا على أُهْبةٍ

(4)

من التيقُّظ والإسراع، حتى يوافقوا تلك الساعةَ التي اتفقت عليها أرصادُ أولئك الجماعة، فوُضِعَت الأساساتُ على ذلك في الوقت الحاضر، وسمَّوها بالقاهرة، إشارةً بزعمهم الكاذب إلى الكوكب القاهر.

واتَّفقوا كلُّهم على أنَّ الوقتَ الذي بُنِيَت فيه يقضي بدوام جَدِّهم وسعادتهم ودولتهم، وأنَّ الدعوةَ فيها لا تخرُج عن الفاطميَّة وإن تداولتها الألسنُ العربيَّة والعجميَّة.

(1)

أي: بالمغرب. وكان المُعِزُّ هناك. وفي (ط): «لما أمره المعز» .

(2)

مهملة في (د). (ق): «يكون» ، بالياء، في الموضعين.

(3)

مهملة في الأصول. وفي (ط): «حاله» . وهم يزعمون أن المريخ حارٌّ وزحل بارد، فإذا بدأ المريخ في الارتفاع انحطَّ زحل، حتى ينتهي المريخ في الارتفاع، فيجلو؛ فلذلك يشتدُّ الحر. ثم يبدأ زحل في الارتفاع والمريخ في الهبوط، حتى ينتهي زحل في الارتفاع، فيجلو؛ وذلك أول الشتاء.

(4)

(ق، د): «هيئة» . (ت): «هبة» . «الفلاكة والمفلوكون» (26): «نهاية» . والمثبت من (ص).

ص: 1207

فلما مَلَكَها أسدُ الدِّين شِيرَكُوه بن شاذي، ثمَّ ابنُ أخيه الملك الناصرُ صلاحُ الدين يوسفُ بن أيوب، ومع ذلك المصريُّون قائمون بدعوة العاضد عبد الله بن يوسف= توهَّم الجهَّالُ أنَّ ما قال المنجِّمون من قبلُ حقًّا؛ لتبدُّل اللسان وحالُ الدعوة مُسْتَبقى.

فلمَّا ردَّ صلاحُ الدين الدعوةَ إلى بني العباس، انكشفَ الأمر، وزال الالتباس، وظهر كذبُ المنجِّمين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

وكانت المدةُ بين وضع الأساس وانقراض دولة الملاحدة منها نحوًا من مئةٍ وثلاثةٍ وتسعين عامًا.

فنقَض انقطاعُ دولتهم على المنجِّمين أحكامَهم، وخَرَّبَ ديارَهم، وهتَك أستارَهم، وكشَف أسرارَهم، وأجرى الله سبحانه تكذيبَهم والطَّعنَ عليهم على لسان الخاصِّ والعامِّ، حتى اعتَذر من اعتَذر منهم بأنَّ البنَّائين كانوا قد سبقوا الرَّصَّادين إلى وضع الأساس

(1)

.

وليس هذا مِنْ بَهْتِ القوم ووقاحتِهم

(2)

ببعيد؛ فإنه لو كان كذلك لرأى الحاضرون تبديلَ البناء وتغييرَه، فإنهم لو دخلهم شكٌّ في تقديمٍ أو تأخيرٍ أو سَبْقٍ بما دون الدَّقيقة في التقدير لما سامَحوا بذلك، مع المقتضي التَّامِّ والطاعة الظاهرة والاحتياط الذي لا مزيدَ فوقه، وليس في تبديل حجرٍ أو تحويله برفعِه ووضعِه كبيرُ أمرٍ على البنَّائين ولا مشقَّة، وقرائنُ الأحوال في

(1)

انظر: «اتعاظ الحنفا» للمقريزي (1/ 247)، و «الخطط» (1/ 377). وفي سياق القصة اختلاف.

(2)

(ص): «وقحتهم» . وهي بمعنى المثبت.

ص: 1208

إقامة دولةٍ بتقريرها، وإنشاء قاعدةٍ بتحريرها، شاهدةٌ بأنَّ الغفلة عن مثل هذا الخَطْب الجسيم مما لا يُتسَامحُ بها البتَّة.

ويا لله العجب! كيف لم يظهر سبقُ البنَّائين للرَّصَّادين إلا بعد انقراض دولة الملاحدة، وأمَّا مدَّة بقاء دولتهم فكان البِناءُ مقارنًا للطالع المرصود، فهل في البَهْتِ فوق هذا؟!

ومِن ذلك: اتفاقُهم سنة خمس وتسعين وثلاث مئة في أيام الحاكم

(1)

على أنها السَّنةُ التي تنقضي فيها بمصر دولةُ العُبيديِّين، هذا مع اتفاق أولئك على أن دعوتهم لا تنقطعُ من القاهرة، وذلك عند خروج الوليد بن هشام المعروف بأبي رَكْوَة الأمويِّ، وحَكَم الطالعُ له بأنه هو القاطعُ لدعوة العُبيديِّين، وأنه لا بدَّ أن يستولي على الدِّيار المصريَّة ويأخذ الحاكمَ أسيرًا، ولم يَبْقَ بمصر منجِّمٌ إلا حكَم بذلك، وأكبرُهم المعروفُ بالفكري

(2)

منجِّم الحاكم.

(1)

الحاكم بأمر الله، العبيدي الزنديق، حاكم مصر (ت: 411). انظر: «السير» (15/ 173).

(2)

كذا في الأصول هنا، وفي سائر المواضع الآتية. وفي «البيان المغرب» لابن عذاري (1/ 256):«البكري» ، ولعلها في مخطوطته بالفاء، على طريقة المغاربة في نقط الفاء نقطةً واحدةً من أسفل، فظنَّها المحققُ باءً موحَّدة، وفي «اتعاظ الحنفا» (2/ 47):«العسكري» ، وفي «نهاية الأرب» (28/ 178):«العكبري» .

ولعله: أبو الحسن علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى الصَّدفي المصري؛ فإن الصدفيَّ هو منجِّمُ الحاكم المشهور، وله صنَع الزيجَ الحاكمي، وزيجُه معروفٌ منسوبٌ إليه، كما أن صفة المذكور عند ابن عذاري هي صفة الصدفي المذكورة في ترجمته من الغفلة وضعف العقل (انظر:«وفيات الأعيان» 3/ 430)، ويبعد أن يكون «الفكري» شخصًا آخر له تلك المنزلة ثم لا يذكر اسمُه وأخباره في كتب التراجم والتواريخ المشهورة العامِّ منها والخاصِّ بتلك الحقبة، وقد فتَّشتُها.

ولا يشكل على هذا إلا أني لم أرهم ذكروا تلك النسبة الغريبة في ترجمة الصدفي، وأنهم ذكروا وفاة الصدفي في شوَّال سنة 399 فجأة، ووفاة «الفكري» مقتولًا عند المقريزي وابن عذاري والنويري سنة 394. فعسى أن تكون تلك نسبةً له لم تشتهر، وكونه مات فجأةً لا يناقض قتل الحاكم له، بل لعله يفسِّر سبب الفجأة، وربما أمر بسمِّه سرًّا فلم يشتهر ذلك حينئذ، أما الاختلاف في تاريخ وفاته فقريب، ولعل وجهه أن الحاكم أمر في سنة 394 بقتل المنجمين، فتوهَّم مَن ذكر وفاته تلك السنة أنه كان فيمن قُتِل يومئذ، لشهرته بالتنجيم.

ص: 1209

وكان أبو رَكْوَة قد مَلَكَ بَرْقَة وأعمالَها، وكثُرت جموعُه، وقَوِيَت شوكتُه، وخرجت إليه جيوشُ الحاكم من مصر فعادت مفلولة

(1)

، فلم يَشُكَّ النَّاسُ في حِذْقِ المنجِّمين.

وكان مِنْ تدبير الحاكم أنْ دعا خواصَّ رجاله وأمرهم أن يعملوا بما رآه من احتياله، وهو أن يكاتِبوا أبا رَكْوةَ بأنهم على مذهبه، وأنهم مائلون عن الدَّعوة الحاكميَّة، وراغبون في الدَّعوة الوليديَّة الأمويَّة، وأطمَعُوه بكلِّ ما أوهموه به أنهم صادقون، وله مناصحون، فلمَّا وَثِقَ بما قالوه، وخَفِيَ عليه ما احتالوه، زحَف بعساكره حتَّى نَزل بِوَسِيم

(2)

على ثلاثة فراسخ من مصر، فخرجت إليه العساكرُ الحاكميَّة، فهزمتْه، فتحقَّق أنها كانت خديعة، فهربَ وقُتِلَ خلقٌ كثيرٌ من عسكره، وطُلِبَ فأُخِذ أسيرًا، ودُخِل به القاهرةَ على

(1)

مهزومة. وفي (ص): «مغلولة» .

(2)

(ق): «برسيم» . تحريف؛ برسيم زقاقٌ بمصر، وليس المقصود. انظر:«معجم البلدان» (5/ 377، 384)، و «الخطط» للمقريزي (1/ 208)، و «تاج العروس» (وسم).

ص: 1210

جَمَلٍ مشهورًا، ثمَّ أمر الحاكمُ بقتله بعد ما أُحضِرَ بين يديه مغلولًا بِغُلٍّ من حديد، وذلك في رجب سنة سبع وتسعين وثلاث مئة، وكان مبدأ خروجه في رجب سنة خمس وتسعين.

فظهرَ كذبُ المنجِّمين.

وكان هذا الفكريُّ قد استولى على الحاكم، فإنه اتفقت له معه قضيَّتان

(1)

أمالتاه إليه:

إحداهما: أنَّ الحاكمَ عزم على إرسال أسطولٍ إلى مدينة صُور لمحاربتهم، فسأله الفكريُّ أن يكون تدبيرُه إليه ليُخْرِجَه في طالعٍ يختارُه، وتكون العهدةُ إن لم يظفر عليه

(2)

، واتَّفقَ ظهورُ الأسطول.

الثانية: أنه ذَكَرَ أنَّ بساحل بِرْكة رُمَيْس

(3)

مسجدًا قديمًا، وأن تحته كنزًا عظيمًا، وسأله أن يتولى هو هدمَه، فإن ظهرَ الكنزُ وإلا بنَاه هو مِن ماله وأودعَه السِّجن، فاتَّفقَ إصابةُ الكنز؛ فطاشَ المغرورُ بذلك.

فلمَّا حكمَ عليه الفكريُّ بتغيير دولته، وقضى المنجِّمون بمثل قضائه، فوقَع للحاكم أن يغيِّر أوضاعَ المملكة والدَّولة، ليكونَ ذلك هو مقتضى الحكم النُّجوميِّ، فصار يأمرُ في يومه بخلاف كلِّ ما أمَر به في أمسِه؛ فأمَر بسبِّ الصَّحابة رضوانُ الله عليهم على رؤوس المنابر والمساجد، ثمَّ أمَر

(1)

(ت): «قصتان» .

(2)

(ص): «يظهر عليه» .

(3)

بمصر. وفي (ت): «رمسيس» . «الفلاكة والمفلوكون» (27): «موريس» . والمثبت من (ق) وهو الصواب. انظر: «تاج العروس» (برك).

ص: 1211

بقطع سبِّهم وعقوبة من سبَّهم، وأمَر بقطع شجرة الزَّرَجُون

(1)

من الأرض وأوجَب القتلَ على من شربَ الخمر، ثمَّ أمَر بغرس هذه الشجرة، وأباحَ شُربَ الخمر، وأهمَل الناس، حتى نُهِبَ الجانبُ الغربيُّ من القاهرة، وقُتِلَت فيه جماعة، ثمَّ ضبَط الأمرَ حتى أمَر أن لا تُغْلَق الحوانيتُ ليلًا ولا نهارًا، وأمَر مناديه ينادي: من عُدِمَ له

(2)

ما يساوي درهمًا أخَذ من بيت المال عنه درهمين، بعد أن يحلِفَ على ما عَدِمَه أو يعضدَه بشهادة رجلين، حتى تحيَّل الناسُ في سَتْر حوانيتهم بالجَرِيد لئلَّا تدخُلها الكلاب، ثمَّ عَمَدَ إلى كلِّ مُتَولٍّ في دولته ولايةً فعزَله، وقتَل وزيرَه الحسن بن عمَّار

(3)

؛ كلُّ ذلك ليكون قولُ أهل التَّنجيم أنَّ دولتَه تتغيَّر واقعًا على هذا الضرب من التَّغيير.

فلمَّا كان مِنْ أمر أبي رَكْوَة ما تقدَّم ذِكرُه، ساء ظنُّه بعلم النِّجامة، فأمَر بقتل منجِّمه الفكريِّ، وأطلقَ في المنجِّمين العيبَ والذَّمَّ.

وكان قد جمَع بين المنجِّمين بالدِّيار المصريَّة، واستدعى غيرَهم، وأمَرهم أن يرصُدوا له رَصَدًا يعتمدُ عليه، فصارت الطَّوائفُ النُّجوميَّة إلى هذا الرَّصَد يتحاكمون، وإن تضمَّن بعض خلاف الرَّصَد المأمونيِّ، ووضعوا له الزِّيجَ المسمَّى بالحاكميِّ

(4)

.

وكان هذا الفكريُّ قد أخَذ علمَ النِّجامة عمَّن أخَذه عن العاصميِّ، فسيَّر

(1)

وهي شجرة العنب. «اللسان» (زرجن).

(2)

(ت): «من أخذ له» .

(3)

في الأصول: «عماد» . وهو تحريف. انظر: «الكامل» لابن الأثير (7/ 477، 481)، و «البداية والنهاية» (15/ 466)، و «اتعاظ الحنفا» (2/ 36).

(4)

انظر ما سيأتي (ص: 1234).

ص: 1212

أوقاتَ الحاكم وساعاته، ووافقه على ذلك المنجِّمون، فلما قتَله لم يَزُل أثرُ التَّنجيم عن نفسه؛ لتشوُّف النفس على التطلُّع إلى الحوادث قبل وقوعها.

وكان بعدُ يتولَّعُ

(1)

بهذا العلم، ويجمعُ أصحابَه، فحكموا له في جملة أحكامهم بركوب الحمار على كلِّ حال، وألزموه

(2)

أن يتعاهدَ الجبلَ المقطَّمَ في أكثر الأيام، وينفردَ وحده بخطاب زُحَل بما علَّموه إياه من الكلام، ويتعاهَد فعلَ ما وضعوه له من البُخورات والأعزام

(3)

، وحكموا بأنه ما دام على ذلك وهو يركبُ الحمار، فهو سالمُ النفس من كلِّ إنذار

(4)

.

فلَزِمَ ما أشاروا به عليه، وأذِنَ الله العزيزُ العليم، ربُّ الكواكب ومسخِّرها ومدبِّرها، أنَّ هلاكَه كان في ذلك الجبل على الحمار

(5)

، فإنه خرجَ يومًا بحماره إلى ذلك الجبل على عادته، وانفردَ بنفسه منقطعًا عن موكبه، وقد استعدَّ له قومٌ بسكاكين تقطُر منها المنايا، فقطَّعوه هنالك للوقت والحِين، ثمَّ أعدموا جثَّته، فلم يُعْلَم لها خبر؛ فمِنْ هنا يقولُ أتباعُه الملاحدة: إنه غائبٌ مُنتَظر.

وأظهرت قدرةُ الربِّ القاهر ــ تبارك اسمُه وتعالى جدُّه ــ تكذيبَ قول تلك الطائفة المُفْتَرين، ووقوعَ الأمر بضدِّ ما حكموا به، {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ

(1)

(ت، ص): «يبالغ» .

(2)

(ت): «وأمروه» .

(3)

جمع عزيمة، الرُّقى التي يعزم بها على الجن، وهي عامية، والصواب: عزائم. وفي (ق، د، ص): «والاعتزام» .

(4)

مهملة في (د). (ق): «ابدار» . وفي (ط): «إيذاء» . والوجه ما أثبت.

(5)

(ق): «على ذلك الحمار» .

ص: 1213

عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]، فظهَر مِنْ كذبهم وجهلهم بدولته

(1)

في خروج أبي رَكْوَة وفي هذا الحِين، فهذا في مبدئها، وهذا في ختامها.

فهل بعد ذلك وثوقٌ لعاقلٍ بالنجوم وأحكامها؟! كلَّا لعمرُ الله، ليس بها وثوق، وإنما غاية أهلها الاعتمادُ على رازقٍ ومرزوق!

فأمَّا إصابةُ الفِكريِّ بظفَر الأسطول فإنما كان بتَحَيُّلٍ دبَّره على أهل صُور، لا بالطالع، فكانت الغلبةُ له عليهم بالتحيُّل الذي دبَّره ساعةَ القتال، لا بما ذكره من حكم الطَّالع قبلَ تلك الحال.

وأمَّا إصابةُ الكنز فليس من النُّجوم في شيء، ومعرفةُ مواضع الكنوز علمٌ متداولٌ بين الناس، وفيه كتبٌ مصنَّفةٌ معروفةٌ بأيدي أرباب هذا الفنِّ، وفيها خطأٌ كثير، وصوابٌ قد دلَّ الواقعُ عليه

(2)

.

ومِن ذلك: اتفاقُهم سنة اثنتين وثمانين وخمس مئة على خروج ريحٍ سوداء تكونُ في سائر أقطار الأرض عامَّة، فتُهلِكُ كلَّ من على ظهرها إلا من اتخَذ لنفسه مغارةً في الجبال، بسبب أنَّ الكواكبَ كانت بزعمهم اجتمعَت في برج الميزان، وهو برجٌ هوائيٌّ لا يختلفُ فيه منهم اثنان، كما اجتمعَت في برج الحُوت زمن نوحٍ عليه السلام، وهو عندهم برجٌ مائيٌّ، فحصَل الطُّوفانُ المائيُّ

(3)

. قالوا: وكذا اجتماعُها في البرج الميزانيِّ

(4)

يوجبُ

(1)

في الأصول: «دولته» . وفي (ط): «بتغيير دولته» .

(2)

انظر: «زاد المعاد» (4/ 348)، و «الفهرست» (380)، و «مقدمة ابن خلدون» (913 - 919)، و «الفلاكة والمفلوكون» (30).

(3)

انظر: «المنتظم» (9/ 97).

(4)

غير محررة في (د). وفي (ت، ص): «الترابي» .

ص: 1214

طوفانًا هوائيًّا.

ودخَل ذلك في عقول

(1)

الرَّعاع من الناس، فاتَّخذوا المغارات استدفاعًا لما أنذرهم به الكذَّابون من الناس، فأذِنَ الله ربُّ العالمين مسخِّرُ الرِّياح ومُدبِّر الكواكب أنه لمَّا حان

(2)

ذلك الوقتُ الذي حَدُّوه، والأجلُ الذي عَدُّوه؛ قلَّ هبوبُ الرِّياح عن عادتها، حتى أهَمَّ النَّاسَ ذلك، ورأوا من الكَرب بقلَّة هبوب الرِّياح ما هو خلافُ المعتاد، فظهَر كذبُهم للخاصِّ والعامِّ

(3)

.

وكانوا قد دبَّروا في قصَّة هذه الرِّيح التي ذكروها بأنْ عَزَوْها إلى عليٍّ رضي الله عنه، وضمَّنوها جزءًا بمضمون هذه الرِّيح، وذكروا قصَّةً طويلةً في آخرها أنَّ الراوي عن علي رضي الله عنه قال له: لقد صدَّقني المنجِّمون فيما حكيتُ عنك، وقالوا: إنه تجتمعُ الكواكبُ في برج الميزان كما اجتمعَت في برج الحُوت على عهد نوح وأحدثَت الغَرَق، فقلتُ له: يا أميرَ المؤمنين، كم تقيمُ هذه الرِّيح على وجه الأرض؟ قال: ثلاثة أيامٍ ولياليها، وتكونُ قوَّتها من نصف الليل إلى نصف النهار من اليوم الثاني.

(1)

(ت): «قلوب» . وصحِّحت في طرة (ق).

(2)

(ق): «كان» .

(3)

انظر: «أخبار الحكماء» (564)، و «تاريخ الإسلام» (12/ 669، 671)، و «السلوك» (1/ 211)، و «النجوم الزاهرة» (6/ 102)، و «شذرات الذهب» (6/ 449). قال ابن تغري بردي:«وهذا الكذب متداولٌ بين القوم إلى زماننا هذا، حتَّى إنه لا يمضي شهر إلا وقد أوعدوا الناس بشيءٍ لا حقيقة له، والعجبُ أن الشخص من العامة إذا كذَب مرةً على رجلٍ يستحي ولا يعودُ إلى مثلها، وهؤلاء القوم لا عِرْض لهم ولا دين ولا مروءة» .

ص: 1215

وانظُر إلى اتفاقهم على أنَّ الكواكب إذا اجتمعَت في برج الميزان حصَل هذا الطُّوفانُ الهوائيُّ، واتفاقُهم على اجتماعها فيه في ذلك الوقت، ولم يقَع ذلك الطُّوفان!

ومِن ذلك: اتفاقُهم في الدولة الصَّلاحيَّة

(1)

بحكم زُحَل والدالي

(2)

، أنَّ مدينةَ الإسكندريَّة لا يموتُ فيها من الغُزِّ

(3)

والي، فلمَّا مات بها الملكُ المعظَّمُ شمسُ الدولة تورانشاه بن أيوب بن شاذي سنة خمس وسبعين وخمس مئة، ثمَّ واليها فخرُ الدِّين قَرَاجَا بن عبد الله سنة تسع وثمانين وخمس مئة، ثمَّ واليها سعدُ الدِّين سودكين

(4)

بن عبد الله سنة خمس وستِّ مئة= انخرمت هذه القاعدةُ أصلًا، وبطَل قولُهم فرعًا وأصلًا، حتى قال بعضُ شعراء ذلك العصر عند موت الأمير فخر الدِّين:

وقضى كُلُوحُ الثَّغر عند مماته

أنَّ المنجِّمَ كاذبٌ لا يَصْدُقُ

لو كان فيهِ لا يموتُ مُؤَمَّرٌ

أودى

(5)

وفخرُ الدِّين حيٌّ يُرْزَقُ

ومِن ذلك: اجتماعُهم في سنة خمس عشرة وستِّ مئة لما نزل الفِرنْجُ على دمياط، على أنهم لا بدَّ أن يغلبوا على البلاد، فيتملَّكوا ما بأرض مصر مِن رقاب العباد، وأنهم لا تدورُ عليهم الدَّائرةُ إلا إذا قام قائمُ الزَّمان

(6)

،

(1)

صلاح الدين الأيوبي.

(2)

الدَّالي: الدلو. وهو بيت زحل. انظر: «صفة جزيرة العرب» للهمداني (46)، و «روح المعاني» (19/ 40)، و «كفاية الطالب» للموسوي (15، 18).

(3)

جنسٌ من الترك. «اللسان» (غزز).

(4)

(ت) و «الفلاكة والمفلوكون» (28): «بن سودكين» .

(5)

أي: هَلَك المنجِّم.

(6)

وهو مهدي الشيعة. انظر: «فرج المهموم» لابن طاووس (258).

ص: 1216

وظهَر براياته الخافقة ذلك الأوان؛ فكذَّبَ اللهُ ظنونَهم وأتى من لُطفِه الخفيِّ ما لم يكن في حساب، ورَدَّ الفرنجَ بعد القتل الذَّريع فيهم والأسْرِ على العِقاب

(1)

.

وكان المنجِّمون قد أجمعوا في أمر هذه الواقعة على نحو ما أجْمَعَ عليه مَنْ قبلَهم في شأن عمُّورية، واتفقَ أن كان مبدأ هذا الفتح في سابع رجب سنة ثمان عشرة وست مئة، ومبدأ ذلك الفتح في سابع رجب أيضًا سنة ثلاث وعشرين ومئتين.

قال الفاضلُ العلَّامة محمدُ بن عبد الله بن محمود الحسيني

(2)

: ولما كذَّب اللهُ هؤلاء القوم فيما ادَّعوه نسجتُ على منوال أبي تمَّام في قصيدته البائيَّة المكسورة، فعملتُ بائيَّةً مفتوحة، وهي:

الحمدُ للهِ حمدًا يبلغُ الأربا

نقضي به مِن حقوقِ اللهِ ما وَجَبا

حمدًا يزيدُ إذ النُّعمى تزيدُ به

أُخراه أُولاه تُعطي ضعفَ ما وَهَبا

لا ييأسُ المرءُ مِنْ رَوْحِ الإله فكم

مَنْ راحَ في مُسْتهَلٍّ كان قد صَعُبا

فكم مشى بك مكروهٌ رَكَضْتَ به

من غيرِ علمٍ إلى ما تشتهي خَبَبا

وكم تقطَّعَ دونَ المشتهى سببٌ

(3)

وكان منك لأعلى المنتهى سببا

لا ينبغي لك في مكروهِ حادثةٍ

أن تبتغي لك في غيرِ الرِّضا طلَبا

(1)

(ص): «الأعقاب» .

(2)

الفقيه المالكي، توفي بالإسكندرية سنة 631. قال المنذري:«وكان له شعرٌ حسن، وتصرُّف في التجنيس وغيره» . «التكملة لوفيات النقلة» (3/ 367).

(3)

(ت): «وكم يقع دون ما قد تشتهي سبب» .

ص: 1217

للهِ في الخلقِ تدبيرٌ يفوتُ مدى

(1)

أسرارِ حكمته أحكامَ مَنْ حَسَبا

ابغِ النَّجاءَ إذا ما ذو النِّجامة في

زُورٍ من القول يقضي كلَّ ما قَرُبا

وذو الأراجيز فيما قد يقولُ فَدَعْ

فما أرى جِيزَ شيءٌ

(2)

كان قد كُتِبَا

ما كانَ لله في ديوانِ قدرته

من كاتبٍ بِحُدُوسِ الظَّنِّ إذ كتبا

(3)

لا يعلمُ الغيبَ إلا اللهُ خالقُنا

لا عالمٌ غيره عُجْمًا ولا عَرَبا

لا شيءَ أجهلُ ممَّن يدَّعي ثقةً

بحَدْسِه وترى

(4)

فيما يَرى رِيَبا

قد يجهلُ المرءُ ما في بيته نظرًا

فكيف عنه بما في غيبِه احتجبا

قد كذَّبَ اللهُ قولَ القائلينَ غدًا

إذا أتى رجبٌ لم تَحْمَدُوا رَجَبا

قالوا يُرى عجبٌ فيه فقلتُ لهم

بالنَّصرِ من بعد يأسٍ

(5)

تُبْصِروا عَجَبا

في منقضى

(6)

السَّبعةِ الأيام منه أتى

ما فات

(7)

في مقتضاه السَّبعة الشُّهُبا

وأعتَمَتْ فيه عَوَّاءُ النجوم

(8)

على

عُواءِ ذئبٍ من الكفَّارِ قد حَرِبا

والشِّعْرَيانِ

(9)

فكلٌّ منهما شَعَرت

بأن للحقِّ فيهم سيفَ من غَلَبا

(1)

(ت، ص): «لله في كل تدبير يفوت رضى» .

(2)

(ت): «فما أرى خير شيء» .

(3)

(ت، ص): «من كاتب وبسوء الظن قد كتبا» .

(4)

(د): «ويرى» .

(5)

(ق): «بالنصر بعد يأس» . (ت، ص): «بالضر من بعد يأس» .

(6)

(ق): «مقتضى» .

(7)

(د، ق، ت): «ما بات» . والمثبت من (ص).

(8)

العوَّاء (بالمدِّ والقصر): كواكبُ معروفة. «اللسان» (عوي).

(9)

كوكبان، هما: العبور والغميصاء. «اللسان» (شعر).

ص: 1218

وصَحَّ عن قمر الأفلاك

(1)

أنهمُ

ما فيهمُ غيرُ مقهورٍ

(2)

وقد نَشِبا

عطاؤهم ردَّ في وجهَيْ عُطاردِهم

إلى الذي منهمُ ما شاءَ قد سَلَبا

وقد بَدَت زهرةُ الإسلام زاهرةً

قد أظلمَت فوقَهم مِن دونها سُحُبا

وأجمَلت حُمْرةُ المرِّيخ حكمَهم

(3)

ففُسِّرَت بدمٍ فيهم لمن خَضَبا

ولم يكُ المشتري تقضى

(4)

سعادتُه

إلا إلى المشتري نفسًا بما طَلَبا

وقيل

(5)

منقلبُ الأبراج ذو ضررٍ

(6)

فعادَ منه فبات النَّفع

(7)

منقلِبا

كم حاملٍ ثائرٍ في الثَّور أو حَمَلٍ

أجازَ فيهم على جَوزائهم حَرَبا

ولم يَدُر فَلَكٌ إلا لذي ملكٍ

يُدِيرُ جيشًا عليهم عَسْكرًا لَجِبا

حتى غدا ثغرُ دِمياطٍ وقد حَكَموا

أن لا يُرى باسمًا مُسْتَجْمِعًا شَنِبا

يَفْتَرُّ عن صُبْحِ إيمانٍ به جَذِلًا

وكان في ليلِ كُفرٍ باتَ مكتئبا

ومدَّ كفًّا له التوحيدُ فانقبضتْ

رِجْلٌ من الشِّركِ في تأخيره هَرَبا

وتلك حربٌ صَلِيبٌ عودُها فقَضَت

أن لا يعودَ صليبٌ بعدُ منتصبًا

(1)

(ت): «من قهر الأفلاك» .

(2)

(ت): «غير مغلوب» .

(3)

إجمال حُمرة المريخ لحكمهم فُسِّر بالدم الذي سال منهم.

(4)

(ت، ص): «يقضي» .

(5)

(ق): «وقبل» . وهي مهملة في (ت).

(6)

(ق): «قدر» . (ص): «صور» . وهو تحريف.

(7)

(ت): «مناف النفع» (ق، ص): «مبات النفع» . والحرفان الأولان مهملان في (د). والمثبت أشبه.

ص: 1219

وأطلقَ القول بالتَّأذين إذ خَرِسَت

له نواقيسُ جرجيسٍ فما احتسبا

(1)

ومما اتفق عليه المنجِّمون: أنَّ الإنسانَ إذا أراد أن يستجيب الله دعاءه جعَل الرَّأسَ في وسط السماء مع المشتري أو بنظرٍ منه

(2)

مقبول، والقمرَ متصلًا به أو منصرفًا عنه يتصلُ بصاحب الطالع، أو صاحب الطالع متصلًا بالمشتري ناظرًا إلى الرَّأس نظر مودَّة

(3)

؛ فهنالك لا يَشُكُّون أنَّ الإجابةَ حاصلة

(4)

.

قالوا: وكانت ملوكُ اليونان يَلْزَمون ذلك، فيَحْمَدُون عُقباه.

والعاقلُ إذا تأمَّل هذا الهذَيان لم يَحْتَجْ في علمه ببطلانه ومُحاله إلى فكرٍ ونظر، فإنَّ ربَّ السموات والأرض سبحانه لا يتأثرُ بحركات النجوم، بل يتقدَّسُ ويتعالى عن ذلك.

فيا للعقول التي أضحكَت عليها العقلاء من المؤمنين والكفَّار! ما في هذه الاتصالات حتى تكون على وجوب إجابة الله من أقوى الدَّلالات؟!

ومما عليه المنجِّمون متفقون أو كالمتفقين: أنَّ الخبرَ إذا ورَد في وقت

(1)

(د، ق، ص): «له النواقيس اجر قيس فاحتسبا» . (ت): «له النواقيس اخرس فاحتسبا» . والمثبت من (ط) ولعله من تصرف الناشر. وفي القصيدة مواضع لم تتحرر كما ينبغي في الأصول، ولم أجدها في مصدرٍ آخر.

(2)

(ت): «أو ينظر منه» . وهي مهملة في (ق).

(3)

في «الفلاكة والمفلوكون» (28): «والقمر متصل به أو منصرف عنه

متصل بالمشتري ناظر

».

(4)

ليعقوب بن إسحاق الكندي (ت: 260) رسالةٌ في تحرِّي وقت يجري فيه إجابة الدعاء والتضرع إلى الله تعالى من جهة التنجيم. انظر: «استدراكات على تاريخ التراث العربي» (8/ 111).

ص: 1220

أوتادٍ ثابتة

(1)

الوجود، والقمرُ وعطاردُ في بروجٍ ثوابت، والقمرُ منصرفٌ عن السُّعود؛ فالخبر ليس بباطل!

والباطلُ مثلُ هذا؛ فإنه يلزمُهم أنَّ من وضعَ خبرًا باطلًا في ذلك الوقت أنَّ الطالعَ المذكور يصحِّحُه، أو يقولوا: لا يُمْكِنُ أحدًا أن يكذبَ في ذلك الوقت!

وقد أورَد أبو معشر المنجِّم هذا السُّؤالَ في كتاب «الأسرار»

(2)

له، وأجابَ عنه: أنَّ الأخبارَ تختلف، فإن ورَد خبرٌ مكروهٌ من أسباب الشرِّ والجَوْر والأفعال المنسوبة إلى طبائع النُّحوس

(3)

، وفي الطالع [نحسٌ]

(4)

، والقمر منصرفٌ عن سَعْد؛ فالخبرُ باطل. وإن ورَد خبرٌ محبوبٌ من أسباب الخير والعدل والأفعال المنسوبة إلى طبائع السُّعود، وفي الطالع سَعْد، والقمرُ [غير] منصرفٍ عن سعد؛ فالخبرُ حقٌّ.

قال: وزُحَل لا يدلُّ في كلِّ حالٍ على الكذب، بل يدلُّ على وجود العوائق عمَّا يُوقِعُ ذلك الخبر، لكنَّ البلاءَ المريخُ أو الذَّنَبُ إذا استوليا

(5)

على الأوتاد وعلى القمر أو عُطارد؛ فإنهما يدلَّان على الكذب والبطلان.

ثمَّ قال: وعلى كلِّ حال، فالقمرُ في العقرب والبروج الكاذبة يُنْذِرُ

(1)

(د): «اوتاد ـامنه» . (ق، ت): «او ـا د ـا منه» . وهو مشكلٌ كما ترى، ولستُ فيما أثبتُّ على ثقة.

(2)

«أسرار النجوم» ، نسخه كثيرة، وفيها اختلافٌ كبير، ولم يطبع بعد. وهو غير كتاب «المذاكرات» ، ذاك أسئلة وجهها له شاذان بن بحر، فأجابه عنها. انظر:«تاريخ الأدب العربي» (4/ 208)، و «استدراكات على تاريخ التراث العربي» (8/ 114، 124).

(3)

في الأصول: «طبائع المنجمين» . والمثبت من (ط). وهو الصواب.

(4)

ساقطة من الأصول.

(5)

(ت): «استويا» .

ص: 1221

بكذبٍ في نفس الخبر أو زيادةٍ أو نقصان، وفي الحَمَل والبروج الصَّادقة يدلُّ على صدقٍ فيه واستواء، وفي السَّرطان والبروج المنقلبة لا يدلُّ على انقلاب الخبر إلى باطل، ولكنه قد ينقلبُ فيصيرُ أقوى مما هو عليه الآن، إلا أن ينظُر إليه نَحْسٌ فيفسده ويُبْطِله.

ثمَّ قال: واعرِف صدقَ الخبر مِنْ سهم الغيب إذا شككتَ فيه؛ فإن كان سليمًا من المرِّيخ والذَّنَب، وينظرُ إليه صاحبُه أو القمرُ أو الشَّمس نظرَ صلاحٍ، فهو حقٌّ.

هذا منتهى كلامه في الجواب، وهو كما تراه متضمِّنٌ أن عند هذه الاتصالات التي ذكرها يكونُ الخبرُ صحيحًا صدقًا وعند تلك الاتصالات الأُخَر تكون منذرةً بالكذب.

فيقالُ لهؤلاء الكذَّابين المفترين الملبِّسين: أيستحيلُ عندكم معاشرَ المنجِّمين أن يضعَ أحدُكم خبرًا كاذبًا عند تلك الاتصالات، أم ذلك واقعٌ في دائرة الإمكان

(1)

، بل هو موجودٌ في الخارج؟! وكذلك يستحيلُ أن يصدُق مُخْبِرٌ عند الاتصالات الأُخَر، أو يبعُد صدقُ العالَم عندها ويكونُ كذبُهم إذ ذاك أكثرَ منه في غير ذلك الوقت؟!

وهل في الهَوَس أبلغُ

(2)

من هذا؟!

ولو تتبَّعنا أحكامَهم وقضاياهم الكاذبة التي وقعَ الأمرُ بخلافها لقام منها عدَّةُ أسفار.

وأمَّا نكباتُ مَن تقيَّد بعلم أحكام النجوم في أفعاله وسفره، ودخوله

(1)

(ت): «في جائز الإمكان» .

(2)

(ت): «أكثر» .

ص: 1222

البلدَ وخروجه منه، واختياره الطالعَ لعمارة الدَّار والبناء بالأهل وغير ذلك؛ فعند الخاصَّة والعامَّة منهم عِبَرٌ يكفي العاقلَ بعضُها في تكذيب هؤلاء القوم ومعرفته لافترائهم على الله تعالى وأقضيته وأقداره، بل لا يكادُ يُعْرَفُ أحدٌ تقيَّد بالنجوم في ما يأتيه ويَذَرُه إلا نُكِبَ

(1)

أقبحَ نكبةٍ وأشنعَها؛ مقابلةً له بنقيض قصده، وموافاة النُّحوس له من حيثُ ظنَّ أنه يفوزُ بسَعْدِه.

فهذه سنةُ الله في عباده التي لا تُبدَّل، وعادتُه التي لا تُحَوَّل: أنَّ من اطمأنَّ إلى غيره، أو وَثِقَ بسواه، أو رَكَنَ إلى مخلوقٍ يدبِّره؛ أجرى اللهُ له بسببه أو من جهته خلافَ ما عَلَّق به آمالَه.

وانظُر ما كان أقوى تعلُّق بني بَرْمَك بالنُّجوم، حتى في ساعات أكلهم وركوبهم وعامَّة أفعالهم، وكيف كانت نكبتُهم الشَّنيعة

(2)

.

وانظُر حالَ أبي علي ابن مُقلة الوزير، وتعظيمَه لعلم أحكام النجوم، ومراعاته لها أشدَّ المراعاة، ودخولَه داره التي بناها بطالعٍ زعَم الكذَّابون المفترون أنه طالعُ سعدٍ لا يرى به في الدَّار مكروهًا، فقُطِعَت يدُه، ونُكِبَ في داره أقبحَ نكبةٍ نُكِبَها وزيرٌ قبله

(3)

.

وقتلى المنجِّمين أكثرُ من أن يحصيهم إلا الله عز وجل.

الوجه التاسع عشر: أنَّ هؤلاء القوم قد أقرُّوا على أنفسهم وشهادة بعضهم على بعضٍ بفسادِ أصول هذا العلم وأساسه.

(1)

(د): «إلا ونكب» .

(2)

انظر: «التذكرة الحمدونية» (9/ 321)، و «تاريخ الطبري» (8/ 287)، و «المنتظم» (9/ 130)، و «البداية والنهاية» (13/ 639).

(3)

انظر: «السير» (15/ 224)، و «البداية والنهاية» (15/ 123).

ص: 1223

فقد كان أوائلُهم من الأقدمين وكبارُ رُصَّادهم من عهد بَطْليموس وطيموخارس ومانالاوس قد حكموا في الكواكب الثابتة بمقدار، واتفقوا أنه صحيحُ الاعتبار، وأقام الأمرُ على ذلك فوق سبع مئة عام، والناسُ ليس بأيديهم سوى تقليدهم، حتى كان في عهد المأمون، فاتفق مِنْ رُصَّادهم وحُكَّامهم علماءُ الفريقين، مثلُ خالد بن عبد الملك المروزي

(1)

، وحبَش

(2)

صاحب الزِّيج المأمونيِّ، ومحمد بن الجهم

(3)

، ويحيى بن أبي منصور

(4)

= على أنهم امتحنوا رصدَ الأوائل فوجدوهم غالطين فيما رصدُوه، فرصدوا هم رصدًا لأنفسهم، وحرَّروه، وسمَّوه: الرَّصَدَ المُمْتَحَن، وجعلوه مبدأً ثانيًا بعد ذلك الزمن.

وكان لأوائلهم إجماعٌ على صحَّة رصدِهم، ولهؤلاء إجماعٌ على خطئهم فيه؛ فتضمَّن ذلك شهادة الأواخر على الأوائل أنهم كانوا غالطين، وإقرار الأواخر على أنفسهم أنهم كانوا بالعمل به مخطئين.

ثمَّ حدَثت طائفةٌ أخرى، منهم كبيرُهم وزعيمُهم أبو معشر محمد بن جعفر

(5)

، وكان بعد أصحاب الرَّصَدِ المُمْتَحَن بنحوٍ من ستين عامًا، فردَّ

(1)

انظر: «طبقات الأمم» لصاعد (50، 56)، و «مروج الذهب» (1/ 100)، و «أخبار الحكماء» (301، 326). ونسبته في بعضها: المروروذي. نسبة إلى مرو الروذ، وتعرف بمرو الصغرى. والمروزي نسبة إلى مرو. وهي من مدن خراسان.

(2)

في الأصول: «حسن» . وهو تحريف. انظر: «الفهرست» (334)، و «طبقات الأمم» (54)، و «أخبار الحكماء» (223)، و «كشف الظنون» (2/ 968).

(3)

البرمكي. انظر: «طبقات الأمم» (60).

(4)

انظر: «طبقات الأمم» (50، 57، 60)، و «أخبار الحكماء» (484).

(5)

كذا في الأصول. والصواب: جعفر بن محمد. كان في أوَّل أمره من أهل الحديث، ثمَّ دخل في علم أحكام النجوم، وصار من الصابئين، وعبَد القمرَ مدَّةً كما أخبر عن نفسه (ت: 272). انظر: «الفهرست» (335)، «طبقات الأمم» (57)، و «أخبار الحكماء» (201)، و «السير» (13/ 161)، و «نقض التأسيس» لابن تيمية (1/ 123، 447).

ص: 1224

عليهم، وبيَّن خطأهم، كما ذكر أبو سعيد شاذان بن بحر المنجِّم في كتاب «أسرار النجوم»

(1)

، قال: قال أبو معشر: أخبرني محمد بن موسى المنجِّم الجليس

(2)

ــ وليس بالخوارزمي ــ قال: حدَّثني يحيى بن أبي منصور، أو قال: حدَّثني محمد بن محمد الجليس قال: دخلتُ على المأمون وعنده جماعةُ المنجِّمين، وعنده رجلٌ قد تنبَّأ، وقد دعا القضاةَ والفقهاء ولم يحضروا بعد، ونحن لا نعلم، فقال لي ولمن حضرَ من المنجِّمين: اذهبوا فخذوا الطالعَ لدعوى رجلٍ في شيءٍ يدَّعيه، وعرِّفوني بما يدلُّ عليه الفلكُ مِنْ صِدْقِه وكذبِه، ولم يُعْلِمنا المأمونُ أنه متنبِّاء، فجئنا إلى ناحيةٍ من القصر، وأحكمْنا أمرَ الطالع، وصوَّرناه، فوقع

(3)

الشَّمس والقمرُ في دقيقةٍ [واحدة، وسهمُ السعادة وسهمُ الغيب في دقيقةٍ واحدةٍ مع دقيقة]

(4)

الطالع، والطالعُ الجَدي، والمشتري في السنبلة ينظرُ إليه، والزُّهَرة وعطاردُ في العقرب ينظران إليه، فقال كلُّ من حضر من المنجِّمين: هذا الرجلُ صحيحٌ

(1)

هو كتاب «المذاكرات» (ق: 2/ب - نسخة كيمبردج). انظر حاشية «البصائر والذخائر» (3/ 64).

(2)

مهملة في (د). وفي (ق): «الحليس» . وهو تحريف. انظر: «أخبار الحكماء» (390، 484) والمصادر التالية.

(3)

«مختصر تاريخ الدول» لابن العبري (137)، و «أخبار الحكماء» (485):«فصورنا موضع» . وفي «سرور النفس» للتيفاشي (194): «وأحكمنا موقع» .

(4)

من «البصائر والذخائر» (3/ 65)، و «مختصر تاريخ الدول» ، و «أخبار الحكماء» . وكأنه سقط لانتقال النظر ..

ص: 1225

ما يدَّعيه لا كذبَ فيه. قال يحيى: وأنا ساكت، فقال لي المأمون: قُل. فقلت: هو في طلب تصحيحه، وله حجةٌ زُهَريَّة وعُطارديَّة، وتصحيحُ ما يدَّعيه لا يتمُّ له. فقال: من أين قلتَ؟ فقلت: لأنَّ صحةَ الدعاوى من المشتري، [ومن تثليث الشمس وتسديسها إذا كانت الشمس غير منحوسة، وهذا الطالع يخالفه؛ لأنه هبوط المشتري]

(1)

، وهو ينظرُ إليه نظرَ

(2)

موافقة، إلا أنه كارهٌ لهذا البرج، فلا يتمُّ له التصديقُ ولا التصحيح، والذي قاله

(3)

إنما هو مِنْ حجةٍ عُطارديَّة وزُهَريَّة، وذلك يكونُ من جنس التَّحسين والتَّزويق والخِداع عن غير حقيقة. فقال: لله درُّك. ثمَّ قال: تدرون ما يدَّعي هذا الرجل؟ قلنا: لا. قال: هذا يدَّعي النبوة. فقلت: يا أمير المؤمنين، ومعه شيءٌ يحتجُّ به؟ فسأله، فقال: نعم؛ معي خاتمٌ ذو فصَّين، ألبسُه فلا يتغيَّر منِّي شيء، ويلبسه غيري فلا يتمالكُ من الضَّحك حتى ينزعَه، ومعي قلمٌ شاميٌّ أكتبُ به، ويأخذُه غيري فلا تنطلقُ أصبعُه. فقلت: يا سيدي، هذا عُطاردُ والزُّهَرةُ قد عَمِلا عملَهما. فأمَره المأمونُ فأظهَر ما ادَّعاه منهما، وكان ذلك ضربٌ من الطِّلَّسْمات

(4)

،

فما زال به المأمونُ أيامًا كثيرةً حتى أقرَّ وتبرَّأ من دعوى النُّبوة، ووَصَف الحيلةَ

(1)

من «مختصر تاريخ الدول» (137)، و «أخبار الحكماء» (485)، و «فرج المهموم» (66)، وكأنها سقطت لانتقال النظر أيضًا.

(2)

في الأصول: «زحل» . وهو تحريف. والتصويب من المصادر السابقة.

(3)

(ت) و «فرج المهموم» : «قالوا» . (ق): «قالوه» . «مختصر تاريخ الدول» و «أخبار الحكماء» : «قال» . والمثبت أشبه.

(4)

جمع طلَّسم، من السِّحر، خطوطٌ وأعدادٌ يزعم كاتبها أنه يربط بها روحانيات الكواكب العلوية بالطبائع السفلية، لجلب محبوبٍ أو دفع أذى. انظر:«المعجم الوسيط» ، و «أبجد العلوم» (2/ 327) ..

ص: 1226

التي احتالها في الخاتم والقلم، فوَهَبَ له المأمونُ ألفَ دينارٍ وصَرَفَه، فلقيناه بعد ذلك فإذا هو أعلمُ النَّاس بعلم النجوم، ومِنْ أكبر أصحاب عبد الله القشيري

(1)

، وهو الذي عَمِلَ طِلَّسْمَ الخنافس في دُور بغداد

(2)

.

قال أبو معشر: لو كنتُ في القوم لذكرتُ أشياءَ خَفِيَت عليهم؛ كنتُ أقول: الدعوى باطلةٌ من أصلها، لأنَّ البرجَ منقلبٌ وهو الجَدي، والمشتري في الوبال، والقمرُ في المَحاق، والكوكبان الناظران إلى الطالع في برجٍ كذَّابٍ وهو العقرب.

فتأمَّلْ كيف اختلفَت أحوالُهم وأحكامُهم مع اتحاد الطالع، وكلٌّ منهم يُمْكِنُه تصحيحُ حُكمه بشبهةٍ من جنس شبهة الآخر، فلو اتفق أن ادعى رجلٌ صادقٌ في ذلك الوقت والطالع دعوى، ألم يكن ادعاؤه ممكنًا غير مستحيل، ودعواه صحيحةً في نفسها؟ أم تقولون: إنه لا يمكنُ أن يدَّعي أحدٌ في ذلك الوقت والطالع دعوى صحيحةً البتة؟! ومن المعلوم لجميع العقلاء أنه يمكنُ إذ ذاك [وقوعُ]

(3)

دعويَيْن مِنْ رجلٍ مُحِقٍّ ومُبْطِلٍ بذلك الطالع بعينه.

فما أسخفَ عقلَ من ارتبط بهذا الهذَيان، وبنى عليه جميعَ حوادث الزمان! وليس بيد القوم إلا ما اعترفَ به فاضلُهم وزعيمُهم أبو معشر.

قال شاذان في الكتاب المذكور أيضًا: قلتُ لأبي معشر: الذَّنَبُ باردٌ يابس، فلم قلتم: إنه يدلُّ على التأنيث؟ فقال: هكذا قالوا!. قلت: فقد قالوا:

(1)

في «أخبار الحكماء» و «سرور النفس» : عبد الله ابن السري.

(2)

انظر: «الديارات» للشابشتي (300)، و «الخزل والدأل» (2/ 26)، و «معجم البلدان» (2/ 508).

(3)

ليست في الأصول، والسياق يقتضيها.

ص: 1227

إنه ليس بصادقٍ في اليُبس، لكنه باردٌ عفنٌ ملتوي

(1)

، فقال: كلُّ الأعراض الغائبة توهُّم، لا يكونُ شيءٌ منها يقينًا، وإنما يكونُ توهُّمٌ أقوى من توهُّم.

ومن تأمَّل أحوالَ القوم علمَ أنَّ ما معهم زَرْقٌ

(2)

وتفرُّسٌ يصيبون معها ويخطئون

(3)

.

قال شاذان في كتابه المذكور: كان الداري

(4)

الثنويُّ

(5)

الذي بالهند يُكاتِبُ أبا معشر ويُهادِيه، فأنفَذ لأبي معشر مولدًا لابن مالكِ سرنديب، طالعُه الجوزاء، والشَّمس والقمر في الجَدي، والقمرُ خارجٌ عن الشُّعاع، وعُطارد في الدَّلو، والمشتري في الحَمَل، وزُحَل في السَّرطان راجعٌ في بُحْران الرجوع، فحكمَ له أبو معشر بأنه يعيشُ دورَ زُحَل الأوسط، فقلت: سبحان الله! زُحَل

(6)

راجعٌ في بُحْران الرجوع، في بيتٍ

(7)

ساقطٍ عن الأوتاد، لا يعطيه إلا دوره الأصغر، ويحتاجُ أن يسقط منه الخمسين! وجعلتُ أُنكِرُ عليه ذلك وأخوِّفه أن تسقط منزلتُه عند أهل تلك البلاد، إلى

(1)

(ط): «لكنه بارد فنظر لي» .

(2)

أي: حِيَلٌ وخِدَاع. رجلٌ زرَّاق: خدَّاع. والزرَّاق - بلغة الساسانيين -: الذي يقعد على الطريق فيحتال وينظر بزعمه في النجوم. انظر: «الأنساب» للسمعاني (6/ 267)، و «اللسان» «زرق» ، و «قصد السبيل» (2/ 84)، و «تكملة المعاجم» لدوزي (5/ 311).

(3)

انظر: «نشوار المحاضرة» (2/ 324).

(4)

كذا في الأصول. لعله نسبة إلى: دار، قرية على خمسة فراسخ من هراة. انظر:«الأنساب» (5/ 252). وفي (ط): «الرازي» .

(5)

(ق، د): «المثنوي» . وهي مهملة في (ت).

(6)

في الأصول: «جاه» . وفي (ط): «جاءه» . وهو تحريف.

(7)

(ت): «فحكم له أبو معشر في بيت» .

ص: 1228

أن ذكَر محاورةً طويلةً انتهت بهما إلى أنَّ أبا معشرٍ أخَذ ذلك من عادات أهل الهند في طول الأعمار.

وقال له شاذان في مسألةٍ سئل عنها: ما أنتم إلا زَرَّاقين!

ثمَّ حدثت بعد هؤلاء جماعة، منهم: أبو الحسين عبد الرحمن بن عمر بن عبدٍ

(1)

، المعروفُ بالصُّوفيِّ، وكان بعد أبي معشر بنحوٍ من سبعين عامًا، فذكَر أنه قد عَثَرَ مِنْ غلط الأواخر بعد الأوائل على أشياء كثيرة، وصنَّف كتابًا في معرفة الثوابت، وحمله إلى عضد الدولة بن بُوَيه، فاستحسنه، وأجزلَ ثوابَه، وبيَّن في هذا الكتاب من أغاليط أتباع الرَّصَد الثاني أمورًا كثيرة لعُطارد المنجِّم، ومحمد بن جابر البتَّاني، وعلي بن عيسى الحرَّاني.

فقال في مقدمة كتابه: «ولمَّا رأيتُ هؤلاء القوم مع ذِكْرهم في الآفاق وتقدُّمهم في الصِّناعة، واقتداء الناس بهم، واشتغالهم بمؤلفاتهم

(2)

، قد تبعَ كلُّ واحدٍ منهم مَن تقدَّمه مِنْ غير تأمُّلٍ لخطئه وصوابه بالعيان والنظر، وأوهموا الناسَ الرَّصد، حتى ظنَّ كلُّ من نظر في مؤلَّفاتهم أن ذلك عن معرفةٍ بالكواكب ومواضعها».

إلى أن قال: «ومُعَوَّلُهم على كُراتٍ

(3)

مُصَوَّرةٍ مِنْ عمل من لا يعرفُ

(4)

(1)

كذا في الأصول. والضبط من (د). وفي «أخبار الحكماء» (309): عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سهل. توفي سنة 375.

(2)

«صور الكواكب الثمانية والأربعين» (ق: 3/أ): «واستعمالهم مؤلفاتهم» .

(3)

في الأصول: «آلات» . وهو تحريف. والتصويب من «صور الكواكب الثمانية والأربعين» للصوفي (ق: 1/ب).

(4)

«صور الكواكب» : «من لم يعرف» .

ص: 1229

الكواكبَ بأعيانها، وإنما عوَّلوا على ما وجدوه في الكتب من أطوالها وعُروضها، فرسَموها في الكُرة من غير معرفةٍ خطئها وصوابها».

ثمَّ قال: «وزادوا أيضًا على أطوال كواكبَ كثيرةٍ وعُروضِها

(1)

دقائقَ يسيرة، ونقصُوا منها، وأوهموا بذلك أنهم رصَدوا الكلَّ، وأنهم وجدوا بين أرصادهم وأوضاع بَطْليموس من الخلاف في أطوالها وعروضها القَدْرَ الذي خالفوا به سوى الزِّيادة التي وجدوها من حركاتها في المدَّة التي بينهم وبينه من السِّنين، مِنْ غير أنْ عَرفوا الكواكبَ بأعيانها».

وله تواليفُ أُخَر مشحونةٌ ببيان أغاليطهم، وإيضاح أكاذيبهم وتخاليطهم

(2)

.

وشَهِد عليهم بأنهم تارةً قلَّدوا في الأقوال النجومية

(3)

، وتارةً قلَّدوا فيما وجدوه من الصُّوَر الكوكبية، فهم مقلِّدون في القول والعمل، ليس مع القوم بصيرة.

وشَهِدَ عليهم بأنهم مُوهِمون

(4)

مدلِّسون، بل كاذبون مفترون، مِن جهة أنهم زادوا دقائقَ مابين زمانهم وزمان بَطْليموس، وأوهموا بها أنهم رصَدوا ما رصَده مَن قبلهم، فعثَروا على ما لم يعثُروا عليه.

(1)

(ت، د): «الكواكب كثرة وعروضها» . (ق): «الكواكب كثرة عروضها» . والمثبت من «صور الكواكب الثمانية والأربعين» .

(2)

انظر: «تاريخ الأدب العربي» (4/ 217).

(3)

في الأصول: «النحوسية» . وهو تحريف. والمثبت من (ط).

(4)

(ت): «موهومون» . (ط): «مموهون» .

ص: 1230

ثمَّ حدثت جماعةٌ أخرى، منهم: الكوشْيار بن باشهري

(1)

الديلمي، ومن تواليفه:«الزِّيج الجامع»

(2)

، و «المجمل في الأحكام»

(3)

، وهو عندهم نهايةٌ في الفنِّ، وكان بعد الصُّوفي بنحو ثلاثين عامًا.

وذكر في مقدمة كتابه «المجمل» : «إني جمعتُ في هذا الكتاب من أصول صناعة النجوم

(4)

، والطريق إلى التصرُّف فيها

(5)

، ما ظننتُه كافيًا في معناه، مغنيًا

(6)

في أكثر الأمر عمَّا سواه، فأخذتُ فيه

(7)

أقربَ طريقٍ

(1)

مهملة في (د). وفي (ق، ت): «ياسر بن» . تحريف.

وهو أبو الحسن كوشيار بن لبان الجِيلي (ت: 350)، وقيل: بل كان حيًّا سنة 459، وما ذكره المصنف يشهد للأول. انظر:«تاريخ حكماء الإسلام» (91)، و «أخبار الحكماء» (130)، و «كشف الظنون» (2/ 971، 1453، 1604، 1643)، و «هدية العارفين» (1/ 445)، و «الأعلام» (5/ 236).

ووقع في مواضع من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية: كوشيار الديلمي. انظر: «الرد على المنطقيين» (265)، و «مجموع الفتاوى» (9/ 216، 25/ 184، 207). والجيلي: نسبة إلى جيل، بلاد متفرقة وراء طبرستان. وتلك بلاد الديلم.

وخلط في «الذريعة» (11/ 72) بينه وبين أبي علي كوشيار بن لياليروز الجيلي، المحدِّث، المترجم في «الأنساب» (3/ 414) و «تاريخ بغداد» (12/ 492) وغيرهما.

(2)

في الأصول: «الزيجات والجامع» . وهو خطأ.

(3)

انظر: «كشف الظنون» (2/ 968)، و «تاريخ الأدب العربي» (4/ 215)، و «استدراكات على تاريخ التراث العربي» (8/ 130).

(4)

«المجمل» (ق: 1/ب): «صناعة الأحكام وجُمَلها» .

(5)

«المجمل» : «التصرف فيها واستعمالها» .

(6)

«المجمل» : «مستغنيا» .

(7)

في الأصول: «مغنيا عما سواه وأكثر الأمر فيما اخذ به» . والمثبت من «المجمل» ، وبه يستقيم الكلام. ولعل المصنف استدرك قوله:«أكثر الأمر» في الطرة، فلم يفطن الناسخ إلى موضعها الصحيح في المتن.

ص: 1231

عرفته

(1)

إلى القياس، وأوضحَ سبيلٍ سلكته

(2)

إلى الصواب؛ إذ هي صناعةٌ غيرُ مُبَرْهَنة، وللخواطر والظُّنون [فيها] مجال، بلا نهاية

(3)

صوابٍ ومحال».

إلى أن ذكَر علمَ الأحكام، فقال فيه

(4)

: «ولا سبيل للبرهان عليه، ولا هو مُدْرَكٌ بكلِّيته، نَعَم ولا بأكثره؛ لأنَّ الشيء الذي يُسْتَعملُ فيه هذا العلم فأشخاصُ الناس

(5)

، وجميعُ مادون الفلَك القمريِّ مطبوعٌ على الانتقال والتغيُّر، ولا يثبتُ على حالٍ واحدةٍ في أكثر الأمر، ولا الإنسانُ بكامل

(6)

(1)

(د): «عزوته» . ومهملة في (ق). (ت): «عزوابه» . والمثبت من «المجمل» .

(2)

«المجمل» : «مسلك علمته» .

(3)

«المجمل» : «وكلام الحشوية فيها بلا نهاية» . وفي طرة النسخة: «الحشوية من أهل الأحكام، وهم الذين يحكمون في الصناعة أحكامًا خارجة عن القياس» . وأظن المصنف حذفها عمدًا، استثقالًا للفظة «الحشوية» .

(4)

لا بأس أن أنقل ما أغفله المصنف، لتكتمل الفكرة، قال في «المجمل»: «السبيل إلى علم أحكام النجوم بشيئين: أحدهما، وهو الأقدم: علم أفلاك الكواكب وحركاتها وحساب تقاويمها وأحوالها، وهو علمٌ أُدرِك بالآلات والرصد، وعليه براهين هندسية، ومن تفرَّد به كان عالمًا بأشرف العلوم وأصدقها (وفي نسخة: وأدقها) بعد العلوم الدينية، وقد تقدم لنا في ذلك كتابان سميناهما: الزيج الجامع، وكتاب البالغ. والثاني: علم الأفعال الصادرة عن الكواكب وقواها وتأثيراتها فيما دون فلك القمر. وهو علمٌ يدرَك بالتجربة والقياس، ومضطرٌّ إلى العلم الأول، ولا سبيل للبرهان إليه

».

(5)

«المجمل» : «هذا العلم أعني الهيئات (كذا قرأتها، ولم تحرر في النسخة) والأشخاص الإنسان» .

(6)

(ق، ت): «للانسان بكامل» . (د): «للانسان تكامل» . والمثبت من «المجمل» ، وليس في النسخة كلمة «القوة» .

ص: 1232

القوَّة في الحَدْس بخواصِّ الأحوال

(1)

التي تكونُ من امتزاجات الكواكب؛ فبلغَ من الصُّعوبة وتعسُّر الوقوف عليه إلى أن دَفَعَه بعض الناس، وظنُّوا أنه شيءٌ لا يُدْرِكه أحدٌ البتة، وأكثرُ المتفرِّدين

(2)

بالعلم الأول ــ يعني علمَ الهيئة ــ ينكرونَ هذا العلم، ويجحدون منفعتَه، ويقولون: هو شيءٌ يقعُ بالاتفاق، وليس عليه برهان»

(3)

.

إلى أن قال: «ومن المتفرِّدين بالعلم الثاني ــ يعني علمَ الأحكام ــ من يأتي على جزئيَّاته

(4)

بحُجَجٍ على سبيل النظر والجدل، ويظُنُّ

(5)

أنها برهانٌ؛ لجهله بطريق البرهان وطبيعته».

فحصَل من كلام هذا تجهيلُ أصحاب الأحكام

(6)

، كما حصَل من كلام الصُّوفي تكذيبُ أصحاب الأرصاد، وهذان الرجلان من عظمائهم وزعمائهم.

(1)

(ت): «الأفعال» .

(2)

في الأصول: «المنفردين» ، في الموضعين. تحريف. والمثبت من «المجمل» ..

(3)

ثم أجاب عن ذلك بقوله: «فنقول: أما الاتفاق فإذا دام أو وقع في أكثر الأحوال فهو أحد البراهين، وأما البرهان فليس كل ما لا يكون عليه برهانٌ يُهجَر فيترَك الانتفاع به، فليس من الحكم بل ليس من العقل أن يترك الانتفاع بالسكنجبين في تسكين الصفراء حتى يقوم البرهان على فعله! لكن يستعمَل وينتفَع به ويقتصَر من برهانه على ما ترى من فعله دائمًا أو في الأكثر» . وهو جوابٌ عليل، وفيه مصادرةٌ على المطلوب، فإن اتفاق إصابة أحكام النجوم لم يدم ولم يكثر!

(4)

(د): «جزوياته» .

(5)

(د): «يظن» . (ق، ت): «فظن» . والمثبت من «المجمل» .

(6)

وإن كان رأيه أن هذا علمٌ يدرَك بالتجربة والقياس، وما اتفقت عليه الأمم منه ليس لنا أن نرى رأيا بخلافه، وما اختلفت فيه اتبعنا الأقرب للقياس، أما اختلاف الآحاد فلا يلتفت إليه، وكتابه «المجمل» هو في تقرير هذا العلم وتفصيل أبوابه ومسائله.

ص: 1233

ثمَّ حدثت جماعةٌ أخرى، منهم المنجِّم المعروفُ بالفكريِّ

(1)

منجِّم الحاكم بالدِّيار المصرية، وكان قد انتهت إليه رياسةُ هذا العلم، وكان قد قرأ على من قرأ على العاصميِّ، فوضعَ هو وأصحابُه رصَدًا آخر، وهو الرَّصدُ الحاكمي، وخالف فيه أصحابَ الرَّصَد المُمْتَحَن في أشياء، وعلى ذلك التفاوت بنَوا الزِّيجَ الحاكمي.

وكان الحاكمُ قد أراد أن يحذُو على فعل المأمون، فأمر أن يجتمع عنده من أهل عصره

(2)

المنجِّمون ورئيسُهم الفكري، فوضعوا الزِّيجَ الحاكمي، وخالفوا أصحابَ الرَّصَد المأموني، ومالوا بأتباعهم

(3)

إلى الرَّصَد الحاكمي.

ولو اتفق بعد ذلك رَصَدٌ آخر لسلكَ أصحابُه في خلاف من تقدَّمهم مسلك أوائلهم.

هذا ومستندُهم ومعوَّلهم الحِسُّ والحساب، وهما لا يقبلان التَّغليط، فما الظنُّ بما يدَّعونه من علم الأحكام، الذي مبناه على هواجِس الظُّنون وخيالات الأوهام؟!

ثمَّ حدثت جماعةٌ أخرى، منهم: أبو الرَّيحان البِيرُوني، مؤلِّف كتاب «التفهيم إلى صناعة التنجيم» ، جمَع فيه بين الهندسة والحساب والهيئة والأحكام، وكان بعد كوشيار بنحوٍ من أربعين سنة

(4)

، فخالفَ من تقدَّمه

(1)

راجع ما تقدم تعليقًا (ص: 1209).

(2)

غير محرَّرة في (د، ق). ويمكن أن تقرأ: عهده. وسقط من (ت) من قوله: «وكان الحاكم» إلى: «فوضعوا الزيج الحاكمي» .

(3)

في الأصول: «أتباعهم» ، ويصح لغةً، لكن المثبت أشبه.

(4)

(ت: 440). انظر: «إرشاد الأريب» (2330)، و «الأعلام» (5/ 314).

ص: 1234

وأتى مِن مُناقضتهم والردِّ عليهم بما هو دالٌّ على فساد الصِّناعة في نفسها.

وختَم كتابَه بقوله في الخبيء والضمير

(1)

: «ما أكثر افتضاحَ المنجِّمين فيه! وما أكثر إصابةَ الزَّاجرين

(2)

فيه بما يستعملونه من كلامه وقتَ السؤال ويرونه باديًا من آثارٍ وأفعالٍ على السائل»

(3)

.

وقال: «وعند البلوغ إلى هذا الموضع من صناعة التنجيم كفاية، ومن تعدَّاه فقد عرَّض نفسَه وصناعتَه لما بلغت إليه الآن من السُّخرية والاستهزاء، فقد جَهِلَها المتفقِّهون فيها، فضلًا عن المنتسبين إليها»

(4)

. انتهى كلامه.

ثمَّ حدثت جماعةٌ أخرى، منهم: أبو الصَّلت أميَّة بن عبد العزيز بن أميَّة الأندلسي، الشاعر المنجِّم الطبيب الأديب، وكان بعد البِيرُوني بنحوٍ من ثمانين عامًا

(5)

، ودخل مصر، وأقام بها نحو عامين

(6)

، ولما كان بالغَرب

(1)

الخبيء: ما عُمِّي من شيءٍ ثم سُئل عنه. والضمير: ما يُضْمَر في النفس. «المعجم الوسيط» . وانظر: «أخبار الحكماء» (446 - 447).

(2)

من زَجْرِ الطير، وهو إثارتها والتيمُّن بسُنوحها والتشاؤم ببروحها. «اللسان» (زجر). وفي (ط):«الراصدين» .

(3)

«التفهيم» (263). وانظر كتابه: «تحقيق ما للهند» (515)[وكتابه "تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن" (290)].

(4)

«التفهيم» (279).

(5)

(ت: 529، وقيل: 546). انظر: «أخبار الحكماء» (106)، و «وفيات الأعيان» (1/ 243)، و «إرشاد الأريب» (740)، و «نفح الطيب» (1/ 105).

(6)

كذا في الأصول. والذي عند مترجميه أنه عاش فيها أكثر من ذلك، قيل: عشرين سنة، وسُجِنَ بها ثلاث سنين، وصنَّف بعد ما خرج منها:«الرسالة المصرية» ، وصف فيها ما عاناه بمصر وعاينه، ومما ذكر: حال المنجِّمين بها، وقلة بصرهم بصناعتهم، وتقليدهم فيها، وتعلُّقهم منها بالقشور، وولوع المصريين بالنجوم، وشغفهم بها، وتصديقهم لأحكامها. وهي منشورة ضمن «نوادر المخطوطات» (1/ 17 - 62).

ص: 1235

تُوفِّيت والدة الأمير علي بن تميم صاحب المهديَّة

(1)

، وكان قد وافقَ موتُها إخبارَ بعض المنجِّمين بذلك قبل وقوعه، فعَمِل أميَّةُ قصيدةً يرثيها بها، وهي من مستحسَن شعره

(2)

، فقال فيها:

وراعَك قولٌ للمنجِّم مُوهِمٌ

ومن يعتَمِدْ

(3)

زَرْقَ المنجِّمِ يُوهَمِ

فواعجبًا يَهْذِي المنجِّم دهرَه

ويكذبُ إلا فيكِ قولُ المنجِّم

وكان المذكورُ رأسًا في الصِّناعة، وقد اعترفَ بأنَّ المنجِّمَ كذَّابٌ صاحبُ زَرْقٍ وهذَيان.

ثمَّ حدثت طائفةٌ أخرى بالمغرب، منهم: أبو إسحاق الزَّرقال

(4)

، وأصحابُه، وهو بعد أبي الصَّلت بنحوٍ من مئة عام

(5)

، وقد خالفَ الأوائلَ والأواخرَ في الصِّناعتين: الرَّصَديَّة والأحكاميَّة، فأسقَط من الرَّصَد المُمْتَحن المأمونيِّ في البروج درجات، ومن الرَّصَد الحاكميِّ دقائق، وسلكَ في الأحكام طرقًا غير الطُّرق المعهودة عند القوم، وزعَم أنَّ عليها

(1)

مدينة ساحلية، جنوب تونس العاصمة، انتقل إليها المعزُّ بن باديس (جد علي بن تميم) سنة 449.

(2)

انتخب منها العماد الكاتب في «الخريدة» (1/ 371 - قسم المغرب) أبياتًا، ليس منها هذان. وذكر العماد أنَّ القصيدة في رثاء والدة أمية، وهو كما قال [والبيتان في ديوانه (59 - تحقيق عبد الله الهوني)].

(3)

مهملة في (د، ق، ت). (ص): «يعتني» .

(4)

كذا في الأصول. وفي «تكملة الصلة» (169 - طبعة الجزائر)، و «تاريخ الإسلام» (10/ 735):«ابن الزرقالة» . وفي «طبقات الأمم» (75)، و «أخبار الحكماء» (76):«ولد الزرقيال» . وبعضهم ينسبه: «الزرقالي» [ولابن الزرقالة رسالة "الشكازية" في الفلك، طبعت بأسبانيا. مجلة دراسات أندلسية (العدد 7، ص: 49)].

(5)

كذا في الأصول. ووفاته عند مترجميه سنة 493، أي قبل وفاة أبي الصلت.

ص: 1236

المعوَّل، وأنَّ طُرق من تقدَّمه ليست بشيء.

ولو حدَث في هذا العصر من يُشْبِه من تقدَّمه لرأينا اختلافًا آخر، ولكنَّ هذه الصِّناعة قد ماتت، ولم يبقَ بأيدي المنتسبين إليها إلا تقليدُ هؤلاء الضُّلَّال فيما فهموه من كلامهم الباطل، وما لم يفهموه منه فقد يظنُّون أنه صحيحٌ ولكنَّ أفهامهم نَبَتْ عنه!

وهذا شأنُ جميع أهل الضلال مع رؤسائهم ومتبوعيهم.

فجهَّالُ النصارى إذا ناظرهم الموحِّدُ في تثليثهم وتناقُضه وتكاذُبه، قالوا: الجوابُ على القسِّيس، والقسِّيسُ يقول: الجوابُ على المِطْران، والمِطْرانُ يحيلُ الجوابَ على البَتْرك، والبَتْركُ على الأُسْقُف، والأُسْقُف على الباب

(1)

، والبابُ على الثلاث مئة والثمانية عشر أصحاب المجمَع الذين اجتمعوا في عهد قُسطنطين ووضعوا للنصارى هذا التثليثَ والشِّركَ المناقِض للعقول والأديان، ولعلهم عند الله أحسنُ حالًا من أكثر القائلين بأحكام النجوم، الكافرين بربِّ العالمين وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.

فصل

ورأيتُ لبعض فضلائهم، وهو أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى

(2)

رسالةً بليغةً في الردِّ عليهم، وإبداء تناقضهم، كتبها لمَّا بصَّره اللهُ رشدَه،

(1)

كذا ذكر المصنف هذه المراتب. وفي «المعجم الوسيط» (61، 436، 875) أن الأسقف فوق القسيس ودون المطران، وأن البطرك رئيس الأساقفة.

(2)

العالم الجليل المسند، كان أوحد زمانه في المنطق، حجةً في النقل والترجمة (ت: 391). انظر: «الفهرست» (186)، و «الإمتاع والمؤانسة» (1/ 36)، و «المقابسات» (348)، و «تاريخ بغداد» (11/ 179)، و «السير» (16/ 549).

ص: 1237

وأراه بطلانَ ما عليه هؤلاء الضلَّال الجهَّال، كتبها نصيحةً لبعض إخوانه، فأحببتُ أن أوردها بلفظها، وإن تضمَّنت بعض الطُّول والتكرار

(1)

، وأتعقَّب بعض كلامه بتقرير ما يحتاجُ إلى تقرير، وبسؤالٍ يُورَدُ عليه ويُطْعَنُ به على كلامه، ثمَّ بالجواب عنه؛ ليكون قوَّةً للمسترشد، وبيانًا للمتحيِّر، وتبصرةً للمهتدي، ونصيحةً لإخواني المسلمين

(2)

.

وهذا أوَّلها

(3)

:

«بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

عصمَك الله من قبول المُحالات، واعتقاد ما لم تَقُم عليه الدلالات، وضاعَف لك الحسنات، وكفاك المهمَّات بمنِّه ورحمته

(4)

.

كنتَ ــ أدام الله توفيقَك وتسديدك ــ ذكرتَ لي اهتمامَك بما قد لهجَ به وجوهُ أهل زماننا من النظر في أحكام النجوم، وتصديق كلِّ ما يأتي به من ادعى أنه عارفٌ بها مِن علم الغيب الذي تفرَّد الله سبحانه وتعالى به، ولم يجعله لأحدٍ من الأنبياء والمرسلين، ولا ملائكته المقربين، ولا عباده الصَّالحين، مِن معرفة طويل الأعمار وقصيرها، وحميد العواقب وذميمها،

(1)

وقد أحسن المصنف بذلك، فإن في إدراج مثل هذه المصنفات اللِّطاف في مثاني الكتب حفظًا لها، فمثلها يخشى عليه الضياع إذا تمادى الزمان، لا سيما ما يغيظ أهل الباطل، فإنهم يبادرون إلى إعمال الحيلة في إعدامه، كما يقول السبكي في «طبقات الشافعية» (3/ 399).

(2)

اخترتُ تحبير نصِّ الرِّسالة، ليتميَّز عن تعليقات المصنف، وليسهل تتبعه لمن رام قراءته على الوجه.

(3)

[لأبي الصقر عبد العزيز بن عثمان القبيصي نقضٌ على هذه الرسالة. انظر: "تتمة صوان الحكمة" للبيهقي (92)]

(4)

(ت): «بمنه وكرمه» .

ص: 1238

وسائر ما يتجدَّدُ ويحدثُ ويُتَخوَّفُ ويُتمَنَّى.

وسألتني أن أعملَ كتابًا أذكرُ فيه بعضَ ما وقع إليَّ من اختلافهم في أصول الأحكام الدَّالة على وهمهم وقُبح اعتقادهم، وما يُستَدلُّ به من طريق النظر والقياس على ضعف مذهبهم، وألخِّصُ ذلك وأختصرُه وأقرِّبه بحسب الوُسع والطاقة، فوعدتُك بذلك، وقد ضمَّنتُه كتابي هذا، واللهَ أسألُ عونًا على ما قرَّبَ منه

(1)

، وتوفيقًا لما أزلَفَ لديه، إنه قريبٌ مجيب فعَّالٌ لما يريد.

لستُ مستعملًا للتَّحامل على من أثبتَ تأثيرَ الكواكب في هذا العالم وتَركِ إنصافهم، كما فعل قومٌ ردُّوا عليهم، فإنهم دفعوهم عن أن يكون لها تأثيرٌ البتَّة غيرَ وجود الضِّياء في المواضع التي تطلعُ عليها الشَّمس والقمر، وعدمِه فيما غابا عنه، وما جرى هذا المجرى.

بل أسلِّمُ لهم أنها تؤثِّر تأثيرًا ما يجري على الأمر الطبيعي:

مثل: أن يكون البلدُ القليلُ العَرْض مزاجُه يميلُ عن الاعتدال إلى الحرِّ واليُبس، وكذلك مِزاجُ أهله، وأجسامُهم ضعيفة، وألوانُهم سودٌ وصُفر، كالنُّوبة والحبشة، وأن يكون البلدُ الكثيرُ العَرْض مزاجُه يميلُ عن الاعتدال إلى البرد والرطوبة

(2)

، وكذلك مزاجُ أهله، وأجسامُهم عَبْلة

(3)

، وألوانهم بيضٌ وشُعورُهم شُقر، مثلُ التُّرك والصَّقالبة.

ومثل: أن يكون النباتُ يَنْمِي ويقوى ويشتدُّ ويتكاملُ وينضجُ ثمرُه

(1)

في الأصول: «قررت منه» . والمثبت من (ط) أشبه.

(2)

من قوله: «وكذلك مزاج أهله» إلى هنا ساقط من (ت).

(3)

العَبْل: الضخم من كلِّ شيء. «اللسان» (عبل).

ص: 1239

بالشَّمس والقمر، فإن أهلَ الصحراء ومن يُعانِيها

(1)

مجمعون على أن القِثَّاء تطولُ وتغلُظ بالقمر، وقد شاهدتُ غير شجرةٍ كبيرةٍ حاملةٍ من التِّين والتُّوت وغيرهما، فما قابلَ الشَّمس منها أسرعَ نضجُ الثَّمر الكائن فيه، وما خَفِي منها عنها بقي ثمرُه فِجًّا

(2)

وتأخَّر إدراكُه.

ومثال ذلك: ما يشاهَدُ من حال الرَّيحان الذي يقال له: اللَّينَوفَر، وحال الخُبَّازى، وورق الخِطْمِيِّ، والآذَرْيُون

(3)

، وأشياء كثيرةٍ من النبات، فإنَّا نراه يتحركُ ويتفتَّحُ مع طلوع الشَّمس، ويضعُف إذا غابت؛ لأن هذه أمورٌ محسوسة

(4)

.

وليس الكلامُ في هذا التأثير كيف هو؟ وعلى أيِّ سبيلٍ يقع؟ فما يليقُ بغرضنا هاهنا؛ فلذلك أدعُه.

فأمَّا ما يزعمونه فيما عدا هذا مِن أنَّ النجوم توجبُ أن يعيش فلانٌ كذا وكذا سنة، وكذا وكذا شهرًا، وينتهونَ في التحديد إلى جزءٍ من ساعة، وأن

(1)

وتحتمل قراءتها: يعاينها.

(2)

الفِجُّ من كلِّ شيء: ما لم ينضج. «اللسان» (فجج).

(3)

نباتات معروفة. انظر: «القاموس المحيط» (625، 1516)، و «نهاية الأرب» (11/ 219)، و «المعجم الوسيط» (381، 215، 245)، و «معجم الألفاظ الزراعية» للأمير الشهابي (449، 416، 29، 24، 114). والأول: هو زهر اللوتس، ويقال له: سوسنة الماء، والأخير: هو دوَّار الشمس، ويسميه بعضهم: عبَّاد الشمس، والعبودية لا تكون إلا لله.

وذكر البيروني في كتاب «الصيدنة» أن النيلوفر يسمى: «وردة المجوس» و «وردة الشمس» و «خُرپرست» (ومعناه بالفارسية: عباد الشمس).

(4)

انظر: «مروج الذهب» (2/ 354)، وما سيأتي (ص: 1282، 1286).

ص: 1240

تَدُلَّ على تقلُّد رجلٍ بعينه المُلك، وتقلُّد آخرَ بعينه الوزارة، وطول مدَّة كلِّ واحدٍ منهما في الولاية وقِصَرها، وما فعله الإنسانُ وما يفعلُه في منزله، وما يُضمِرُه في قلبه، وما هو متوجِّهٌ فيه من حاجاته، وما هو في بطن الحامل، والسَّارق ومن هو، والمسروق وما هو، وأين هو، وكميَّته، وكيفيَّته، وما يجبُ بالكسوف، وما يحدثُ معه، والمختار من الأعمال في كلِّ يومٍ بحسب اتصال القمر بالكواكب؛ مِن أن يكون هذا اليومُ صالحًا للقاء الملوك والرؤساء وأصحاب السُّيوف، وهذا اليومُ محمودًا للقاء الكتَّاب والوزراء، وهذا اليومُ محمودًا للقاء القضاة، وهذا اليومُ محمودًا لأمور النساء، وهذا اليومُ محمودًا لشرب الدواء والفَصْد والحجامة، وهذا اليومُ محمودًا للعب الشِّطرنج والنَّرد، وغير ذلك= فمحالٌ أن يكون معلومًا من طريق الحسِّ.

وليس عليه نصٌّ من كتاب الله، بل قد نصَّ الله سبحانه فيه على بطلانه بقوله تبارك وتعالى:{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل قد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من أتى عرَّافًا أو كاهنًا أو منجِّمًا فصدَّقه بما يقولُ فقد كفر بما أُنزِل على محمد»

(1)

.

(1)

أخرجه الحاكم (1/ 8)، ومن طريقه البيهقي في «الكبرى» (8/ 135) من حديث أبي هريرة، دون قوله:«أو منجمًا» . وصححه الحاكم، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه في تهذيبه لسنن البيهقي (6/ 3229).

وروي من وجهين آخرين مرسلاً ومنقطعًا، وله شواهد من رواية جماعة من الصحابة ابن مسعود، وجابر، وعلي، وعمران بن حصين، وواثلة بن الأسقع.

ولم أجد لفظة: «أو منجمًا» في شيءٍ من كتب الحديث المسندة، وهي داخلةٌ في معنى الكهانة والعرافة. انظر:«شرح السنة» (12/ 182)، و «إكمال المعلم» (7/ 153)، و «مجموع الفتاوى» (35/ 173).

ص: 1241

ولا هاهنا ضرورةٌ تدعو إلى القول به.

ولا هو أوَّلٌ في العقول

(1)

.

ولا يأتون عليه ببرهانٍ ولا دليلٍ مقنع.

وهذه هي الطُّرقُ التي تثبتُ بها الموجودات، ويُعْلَمُ بها حقائقُ الأشياء، لا طريقَ هاهنا غيرها، ولا شيءَ لأحكام النجوم منها.

وأنا أبتداءُ الآن بوصف جملةٍ من اختلافهم في الأصول التي يبنونَ عليها أمرَهم، ويفرِّعون عنها أحكامَهم

(2)

، وأذكرُ المستبشَع من أقاويلهم وقضاياهم وظاهر مناقضاتهم، ثمَّ آتي بطرفٍ من احتجاجهم والاحتجاج عليهم، والله الموفِّق للصواب بفضله.

ذِكرُ اختلافهم في الأصول

زعموا جميعًا: أنَّ الخيرَ والشرَّ والإعطاء والمنعَ وما أشبه ذلك يكونُ في العالَم بالكواكب، وبحسب السُّعود منها والنُّحوس، وعلى حسب كونها في البروج الموافقة والمنافرة لها، وعلى حسب نظرها بعضِها إلى بعض من التسديس والتربيع والتثليث والمقابلة، وعلى حسب مُجَاسدة

(3)

بعضها بعضًا

(4)

، وعلى حسب كونها في شَرفها وهبوطه ووَبالها.

(1)

وهو ما لا يفتقر بعد توجُّه العقل إليه إلى حدسٍ أو تجربة، كقولنا: الواحد نصف الاثنين. «التعريفات» (58).

(2)

(ت): «وينزعون بها أحكامهم» .

(3)

(ق): «محاشدة» . تحريف. انظر: «الزيج الصابي» للبتاني (194، 196)، و «رسائل إخوان الصفا» (4/ 335).

(4)

قوله: «وعلى حسب مجاسدة بعضها بعضًا» ليس في (ت).

ص: 1242

ثمَّ اختلفوا على أيِّ وجهٍ يكونُ ذلك؟

فزعم قومٌ منهم أنَّ فعلَها بطبائعها، وزعمَ آخرون أنَّ ذلك ليس فعلًا لها لكنَّه يدلُّ عليه بطبائعها».

قلت: وزعمَ آخرون أنها تفعلُ في البعض بالعَرَض، وفي البعض بالذَّات.

قال: «وزعمَ آخرون أنها تفعلُ بالاختيار لا بالطبع، إلا أنَّ السَّعدَ منها لا يختارُ إلا الخير، والنَّحسَ منها لا يختارُ إلا الشرَّ. وهذا بعينه نفيٌ للاختيار؛ فإنَّ حقيقةَ القادر والمختار القدرةُ على فعل أيِّ الضدَّين شاء، وتركِ أيهما شاء» .

قلت: ليس هذا بشيء؛ فإنه لا يلزمُ من كون المختار مقصورَ الاختيار على نوع واحدٍ سَلْبُ اختياره، ولكنَّ الذي يُبْطِلُ هذا أنهم يقولون: إنَّ الكوكبَ النَّحسَ سَعدٌ في برج كذا، وفي بيت كذا، وإذا كان الناظرُ إليه من النجوم كذا وكذا، وكذلك الكوكبُ السَّعْد.

ويقولون: إنها تفعلُ بالذَّات خيرًا، وبالعَرَض شرًّا، وبالعكس.

وقد يقولون: إنها تختارُ في زمانٍ بعد زمانٍ خلافَ ما تختارُ في زمانٍ آخر، وقد تتفق كلُّها أو أكثرُها على إيثار الخير

(1)

، فيكونُ في العالم في ذلك الوقت على الأكثر الخيرُ والنفعُ والحُسْن. قالوا: كما كان في زمن هُرمز

(2)

وفي أيام أنوشِروان. وبضدِّ ذلك أيضًا.

(1)

(ت): «إكثار الخير» .

(2)

(ق، ت): «تهمز» . والمثبت من (ط). وهرمز هو ابن أنوشروان. من ملوك الفرس.

ص: 1243

فيقال: إذا كانت مختارةً، وقد تتفقُ على إرادة الخير وعلى إرادة الخير والشرِّ، بطلَ دلالةُ حصولها في البروج المعيَّنة، ودلالةُ نظر بعضها إلى بعض بتسديسٍ أو تربيعٍ أو تثليثٍ أو مقابلة؛ لأنَّ هذا شأنُ من لا يقعُ فعلُه إلا على وجهٍ واحدٍ في وقتٍ معيَّن على شروطٍ معيَّنة. ولا ريب أنَّ هذا ينفي الاختيار.

فكيف يصحُّ قولكم بذلك وجمعُكم بين هاتين القضيتين ــ أعني جواز اختيارها في زمانٍ خلافَ ما تختاره في زمانٍ آخر، وجواز اتفاقها على الخير واتفاقها على الشرِّ ــ من غير ضابطٍ ولا دليلٍ يدلُّكم عليه، ثم تحكمون بتلك الأحكام مستندين فيها إلى حركاتها المخصوصة، وأوضاعها، ونسبة بعضها إلى بعض؟!

قال: «وزعمَ آخرون أنها لا تفعلُ باختيار، بل تدلُّ باختيار. وهذا كلامٌ لا يُعْقَلُ معناه، إلا أني ذكرتُه لمَّا كان مَقُولًا.

واختلفوا؛ فقالت فرقة: من الكواكب ما هو سَعدٌ، ومنها ما هو نَحس، وهي تُسْعِدُ غيرَها وتَنْحَسُه.

وقالت فرقة: هي في أنفسها طبيعةٌ واحدة، وإنما تختلفُ دلالتُها على السُّعود والنُّحوس، وإن لم تكن في أنفسها مختلفة.

واختلفوا؛ فقال قوم: إنها تؤثِّر في الأبدان والأنفس جميعًا.

وقال الباقون: بل في الأبدان دون الأنفس».

قلت: أكثرُ المنجِّمين على القول بأنها تُسْعِدُ وتَنْحَسُ غيرَها.

وأمَّا الفرقةُ التي قالت: هي دالَّةٌ

(1)

على السَّعدِ والنَّحس، فقولُهم وإن

(1)

(ق): «دلالة» .

ص: 1244

كان أقربَ إلى التوحيد من قول الأكثرين منهم فهو أيضًا قولٌ مضطربٌ متناقض؛ فإنَّ الدلالةَ الحسِّية

(1)

لا تختلفُ ولا تتناقض.

وهذا قولُ من يقول منهم: إنَّ للفلك طبيعةً مخالفةً لطبيعة الأُسْتُقُصَّات

(2)

الكائنة الفاسدة، وأنها لا حارَّةٌ ولا باردة، ولا يابسةٌ ولا رطبة، ولا سَعْدَ ولا نَحْسَ فيها، وإنما يدلُّ بعضُ أجرامها وبعضُ أجزائها على الخير، وبعضُها على الشر، وارتباطُ الخير والشرِّ والسَّعد والنَّحس [بها]

(3)

ارتباط المدلولات بأدلَّتها، لا ارتباط المعلولات بعِلَلها.

ولا ريب أنَّ قائلَ هذا أعقلُ وأقربُ من أصحاب القول بالاقتضاء الطبيعيِّ والعلِّيَّة.

وأمَّا القولُ بتأثيرها في الأبدان والأنفس، فهو قولُ بَطْليموس وشِيعَته وأكثر الأوائل من المنجِّمين.

وهؤلاء لهم قولان:

أحدهما: أنها تفعلُ في الأنفس بالذَّات، وفي الأبدان بالعَرَض؛ لأنَّ الأبدانَ تنفعلُ عن الأنفس.

والثاني: أنها هي سببُ جميع ما في عالَم الكَوْن

(4)

والفساد، وفعلُها

(1)

(ق): «الحسنة» . وهو تحريف.

(2)

العناصر الأربعة عند القدماء، وهي: الماء والهواء والنار والتراب. والأسطقس: الأصل البسيط يتكون منه المركَّب. «المعجم الوسيط» (17).

(3)

زيادة من (ط). وليست في الأصول.

(4)

الكون: استحالة جوهر المادة إلى ما هو أشرف منه. ويقابله الفساد، وهو استحالة جوهر المادة إلى ما هو دونه. «المعجم الوسيط» (كان). ويردُ هذا المصطلح هنا باشتقاقاتٍ مختلفة.

ص: 1245

في ذلك كلِّه بالذَّات.

وكأنه لا خلافَ بين الطائفتين؛ فإنَّ الذين قالوا: «فعلُها في النفوس» لا يُضِيفون انفعالَ الأبدان إلى غيرها بذاتها، بل إليها بوسائط

(1)

.

قال: «واختلفَ رؤساؤهم بَطْليموس ودورسوس

(2)

وأنطيقوس

(3)

ورِيمُس

(4)

وغيرُهم من علماء الروم والهند وبابل في الحُدود وغيرها، وتضادُّوا في المواضع التي يأخذون منها دليلَهم؛ فبعضهم يُغَلِّبُ ربَّ بيت الطَّالع، وبعضهم يقول بالدليل المستولي على الحظوظ.

واختلفوا؛ فزعَم بَطْليموس أنه

(5)

يعلمُ سهمَ السعادة، بأن يأخذَ أبدًا العددَ الذي يحصلُ من موضع الشَّمس إلى موضع القمر، ويبتداء من الطَّالع فيرصدَ منه مثل ذلك العدد، ويأخذَ إلى الجهة التي تتلو من البروج؛ فيكون قد عرفَ موضعَ السَّهم.

وزعَم غيرُه أنه يَعُدُّ من الشَّمس، ثمَّ يبتداء من الطَّالع فيَعُدُّ مثلَ ذلك إلى الجهة المتقدِّمة من البروج».

قلت: وزعم آخرون أن بَطْليموس يرى أنَّ جميعَ ما يكونُ ويفسُد إنما

(1)

قال الآلوسي في «روح المعاني» (23/ 103): «ولعل الخلاف لفظيٌّ» .

(2)

مهملة في الأصول. وانظر: «الفهرست» (300).

(3)

«الفهرست» (327): «انطينوس» . وانظر: «أخبار الحكماء» (96، 132).

(4)

انظر: «الفهرست» (420)، و «علم الفلك» لنلِّينو (219).

(5)

(ق): «أنهم» . وهو خطأ.

ص: 1246

يُعْرَفُ دليلُه من موضع التقاء النيرِّين، إمَّا الاجتماعُ وإمَّا الامتلاء

(1)

؛ لأنَّ هذين الكوكبين عنده مثلُ الرئيسين العظيمين، أحدُهما يأتمرُ لصاحبه

(2)

وهو القمر، وهما سببا جميع ما يحدثُ في عالم الكَوْن والفساد، وأنَّ الكواكبَ الجاريةَ والثابتةَ منهما بمنزلة الجُند والعسكر من السُّلطان.

فإذا أراد النظرَ في أمرٍ من الأمور؛ إن كان بعد الاجتماع أو عنده فإنه يأخذُ الدليلَ عليه من الكوكب المستولي على جزء الاجتماع وجزئَي الشَّمس والقمر في الحال، ويشاركُه مع الشَّمس بالنسبة إلى الطالع.

وإذا كان بعد الامتلاء أو عنده فإنه ينظرُ أيُّ النيرِّين كان فوق الأرض عند الامتلاء، وينظرُ إلى الكوكب المستولي على ذلك الجزء وجزءِ النيِّر الذي كان بُعْدُ الشَّمس من الطالع كبُعْدِ القمر من سهم السعادة؛ فلذلك يجبُ عنده أن يؤخذ العددُ أبدًا من الشَّمس إلى القمر؛ لتبقى

(3)

تلك النسبة وهي البُعْدُ

(4)

بين كلِّ واحدٍ من النيِّرين طالعه محفوظ

(5)

.

(1)

للقمر من أوَّل الشهر إلى آخره خمس حالات، منها: الاستقبال، ويسمَّى: الامتلاء؛ لامتلاء القمر فيه نورًا، وذلك في الليلة الرَّابعة عشرة، ويكون في البرج السابع من بروج الشمس. ومنها: الاجتماع، وهو اجتماعه مع الشمس آخر الشهر، وهو تحاذيهما الكائن قبل الهلال. انظر:«نهاية الأرب» (1/ 50)، و «مجموع الفتاوى» (25/ 136).

(2)

(ت): «مأتم لصاحبه» .

(3)

(ق): «ليبقى» .

(4)

(ت): «وفي البعد» .

(5)

كذا في الأصول.

ص: 1247

فهذا قولٌ آخر غيرُ أولئك

(1)

.

وللفُرسِ مذهبٌ آخر، وهو أنهم قالوا: لما كانت الشَّمس لها نوبةُ النهار، والقمر له نوبةُ الليل، وكان سهمُ السعادة بالنهار يؤخذُ من الشَّمس إلى القمر، وجبَ أن يُعكسَ ذلك بالليل؛ لأنَّ نسبة النهار إلى الشَّمس مثلُ نسبة الليل إلى القمر، وكلُّ واحدٍ من النيِّرين ينوبُ واحدًا من الزَّمانين، فيأخذون سهمَ السعادة ــ بزعمهم ــ بالليل من القمر إلى الشَّمس، وبالنهار بالعكس.

وزعموا أنَّ كلام بَطْليموس إنما يدلُّ على هذا؛ لأنه قال: وإنْ أخَذْنا من الشَّمس إلى القمر إلى خلاف تأليف البروج وألقيناه بالعكس كان موافقًا للأوَّل. فقالوا: يجبُ أن يُعكس الأمر بالليل.

فهذا اختلافُ المنجِّمين على بَطْليموس ينقُض بعضُه بعضًا، وليس بأيدي الطائفة برهانٌ يرجِّحون به قولًا على قول، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 28 - 30].

قال: «واختلفوا؛ فرتَّبت طائفةٌ منهم البروجَ المذكَّرة والمؤنَّثة من البرج الطالع، فعدُّوا واحدًا مذكَّرًا وآخر مؤنَّثًا، وصيَّروا الابتداءَ بالمذكَّر.

وقسَّمَت طائفةٌ أخرى البروجَ أربعةَ أجزاء، وجعلوا البروجَ المذكَّرة هي التي من الطالع إلى وسط السماء، والتي تقابلها من الغَرب إلى وَتد الأرض، وجعلوا الرُّبعين الباقيين مؤنَّثين».

ص: 1248

قلت: ومِنْ هذَيانهم في هذا الذي أضحكوا به عليهم العقلاء أنهم جعلوا البروج قسمين: حارَّ المزاج، وباردَ المزاج، وجعلوا الحارَّ

(1)

منها ذكرًا والباردَ أنثى، وابتدؤوا بالحَمَل وصيَّروه ذكرًا حارًّا، ثمَّ الذي بعده مؤنَّثًا باردًا، ثم هكذا إلى آخرها، فصارت ستَّةً ذكورًا وستَّةً إناثًا، وليست على الولاء، بل واحدٌ ذكر، وثلاثةٌ أخَر

(2)

أنثى مخالفةٌ له

(3)

في الطبيعة والذكوريَّة والأنوثيَّة، مع أن قسمة الفلك إلى البروج قسمةٌ فرضيَّةٌ وضعيَّة، فهل في أنواع هذَيان الهاذِين أعجبُ من هذا؟!

ولمَّا رأى من به رَمَقٌ مِن عقلٍ منهم تهافُتَ هذا الكلام، وسخريةَ العقلاء منه، رام تقريبَه بغاية جهده وحِذْقه، فقال: إنما ابتداء بالذَّكر دون الأنثى لأنَّ الذَّكر أشرفُ من الأنثى؛ لأنه فاعلٌ والأنثى منفعِلة!

فاعجبوا يا معشر العقلاء ــ واسألوا اللهَ أن لا يخسِفَ بعقولكم كما خسَف بعقول هؤلاء ــ لهذا الهذَيان، أفترى في البروج ناكحًا ومنكوحًا يكونُ المنكوحُ منها منفعِلًا لناكحه بالذكوريَّة، والأنوثيَّةُ تابعةٌ لهذا الفعل والانفعال فيها؟!

قال

(4)

: وأيضًا، فالذكوريَّة والأنوثيَّة سببُ الانفراد والازدواج فيها؛ فإنَّ الأفرادَ ذكورٌ والأزواجَ إناث

(5)

.

(1)

(ت): «المزاج الحار» .

(2)

(ت): «وثلاثة أجزاء» .

(3)

(ق): «مخالف له» .

(4)

أي المنتصر لهم ممن به رمقٌ من عقل.

(5)

انظر: «السر المكتوم» (35).

ص: 1249

وهذا أعجبُ من الأول، أنَّ الذكرَ ينضمُّ إلى الذكر فيصيرُ المضمومُ إليه أنثى! فتبًّا للمصغي إليكم والمُجَوِّزِ عقلُه صِدقَكم وإصابتَكم، وأمَّا أنتم فقد أشهد اللهُ سبحانه عقلاءَ عباده وألبَّاءهم

(1)

مقدارَ عقولكم وسخافتَها، فلله الحمدُ والمنة.

قال هذا المنتصرُ لهم: وإنما جعلوا الأفراد للذَّكر، والأزواجَ للأنثى؛ لأنَّ الفردَ يحفظُ طبيعتَه ــ أعني ينقسم دائمًا إلى فرد ــ، والزَّوجَ لا يحفظُ طبيعتَه ــ أعني ينقسم مرَّةً إلى الأفراد ومرَّة إلى الأزواج ــ، كما يعرضُ ذلك للأنثى، فإنها تلدُ مرَّةً مثلَها

(2)

، ومرَّةً ذكرًا مخالفًا لها، ومرَّةً ذكرين، ومرَّةً أنثيين، ومرَّةً ذكرًا وأنثى.

وفسادُ هذا والعلمُ بفساد عقل صاحبه ونظره مُغْنٍ لذي اللُّبِّ عن تطلُّب دليل فساده.

قال المنتصر: وأمَّا لم جعلوا

(3)

البرجَ الأنثى يلي

(4)

برجَ الذَّكر؟ فلأنَّ الطبيعةَ هكذا ألَّفَتْ الأعدادَ واحدًا فردًا وآخر زوجًا، هكذا بالغًا ما بلَغ. وهذه القسمةُ عندهم هي قسمةٌ ذاتيَّةٌ للبروج.

ولها قسمةٌ ثانيةٌ بالعَرَض، وهي أنهم يبدؤونَ من الطالع إلى الثاني عشر، فيأخذون واحدًا ذكرًا وهو الأول، وآخرَ أنثى وهو ما يليه

(5)

. وهذه

(1)

(ت): «وألبابهم» .

(2)

(ت، ق): «تلد من مثلها» .

(3)

(د، ق): «وإنما جعلوا» .

(4)

(ت، ق): «بل» . وهو تحريف.

(5)

(ت): «وهو الثاني وهي ما يليه» .

ص: 1250

تختلفُ بحسب اختلاف الطالع.

والقسمةُ الأولى إنما كانت ذاتيَّة لأنَّ الابتداءَ لها برأس الحَمَل، وهو موضعُ تقاطع الدائرتين اللتين هما فلكُ البروج ومعدَّلُ النهار. وأمَّا المَيْل

(1)

للقسمة الثانية فإنه لا يبقى على حالٍ واحدة؛ لأنه مأخوذٌ من الجزء المماسِّ لأفق البلد، وهو دائمًا يتغيَّر بحركته مع الكلِّ، وحصول الأجزاء كلِّها واحدًا بعد آخر على الأفق في دورةٍ واحدة.

وأمَّا قسمةُ الفلك أرباعًا؛ فإنهم قالوا: إذا خرج خطٌّ من أفق المشرق إلى أفق المغرب، وخطٌّ من وتد الأرض إلى وسط السماء، انقسمت البروجُ أربعة أقسام، كلُّ قسمٍ ثلاثة بروجٍ على طبيعةٍ واحدة، ابتداءُ كلِّ قسمٍ من طرف قُطرٍ إلى طرف القُطر الذي يليه، وأطرافُ هذين القُطرين تسمَّى أوتادَ العالم، فالقسمُ الأول من وتد المشرق إلى وتد العاشر ذكرٌ شرقيٌّ مجفِّفٌ

(2)

سريع، ومن وتد العاشر إلى وتد الغارب مؤنثٌ جنوبيٌّ محرِقٌ

(3)

وسط، ومن وتد

(4)

الغارب إلى وتد الرابع ذكرٌ مُقْبِلٌ رطبٌ غربيٌّ بطيء، ومن وتد الرابع إلى وتد الطالع مؤنثٌ مُدْبِرٌ

(5)

مبرِّدٌ شماليٌّ وسط.

وهذه القسمة مخالفةٌ لتلك القسمتين؛ لأنَّ هذه قسمةُ البروج بأربعة

(1)

مَيْل فلك البروج عن فلك معدل النهار. انظر: «الزيج الصابي» (17).

(2)

الحرف الثاني مهمل في (د). (ق): «مخفف» . (ت): «مخفق» . وهو تحريف. انظر: «روح المعاني» (23/ 104).

(3)

(ت): «محرن» .

(4)

في الأصول: «ذيل» . وهو تحريف.

(5)

(د، ق): «ذليل» . (ت): «دليل» . تحريف. انظر: «السر المكتوم» (87).

ص: 1251

أقسامٍ متساوية، كلُّ ثلاثة بروجٍ منها تسعين

(1)

درجة لها طبيعةٌ تخصُّها، مع أنَّ الفلك شيءٌ واحدٌ وطبيعةٌ واحدة، وقِسمتُه إلى الدَّرَج والبروج قسمةٌ وهميةٌ بحسب الوضع، فكيف اختلفت طبائعُها وأحكامُها وتأثيراتُها واختلفت بالذُّكوريَّة والأنوثيَّة؟!

ثم إنَّ بعض الأوائل منهم لم يقتصر على ذلك، بل ابتدأ بالدرجة الأولى من الحَمَل فنسبها إلى الذكوريَّة، والثانية إلى الأنوثيَّة، وهكذا إلى آخر الحُوت.

ولا ريبَ أنَّ هذا الهذَيان لازمٌ لمن قال بقسمة البروج إلى ذكرٍ وأنثى، وقال: الذكرُ طبيعةُ الفرد، والأنثى طبيعةُ الزَّوج؛ فإنَّ هذا بعينه لازمٌ لهم في درجات البُرج الواحد، وكأنَّ هذا القائلَ تصوَّر لزومَه لأولئك، فالتزَمَه.

وأمَّا بَطْليموس فله هذيانٌ آخر؛ فإنه ابتدأ بأول درجة كلِّ برجٍ ذكر، فنسَب منها إلى تمام اثني عشر

(2)

درجةً ونصفًا إلى الذكوريَّة، ومنه إلى تمام خمسٍ وعشرين درجةً إلى الأنوثيَّة، ثمَّ قسم باقي البروج بنصفين، فنسَب النصفَ الأول إلى الذكر والنصفَ الآخر إلى الأنثى، وعلى هذه القسمة ابتدأ بالبرج الأنثى فنسَب الثُّلثَ ونصف السُّدس إلى الأنوثيَّة، ومثلها بعده إلى الذكوريَّة، وبقي سُدْسٌ قسَمه بنصفين، فنسَب النصفَ الأولَ إلى الأنثى والآخرَ إلى الذكر، كما عملَ بالبرج الذكر، حتى أتى على البروج كلِّها.

وأمَّا دوروسوس

(3)

فله هذيانٌ آخر؛ فإنه يقسِّم البروجَ كلَّها، كلَّ برجٍ

(1)

كذا في الأصول. والجادة: تسعون. بالرفع.

(2)

كذا في الأصول. والجادة: اثنتي عشرة.

(3)

كذا. وتقدَّم (ص: 1246) برسم: دورسوس.

ص: 1252

ثمانيةً وخمسين دقيقةً ومئة وخمسين دقيقة

(1)

، ثمَّ ينظر؛ فإن كان البرج ذكرًا أعطى القسمةَ الأولى للذكر ثمَّ الثانية للأنثى، إلى أن يأتي على الأقسام كلِّها، وإن كان البرجُ أنثى أعطى القسمةَ الأولى للأنثى ثمَّ الثانية للذكر، إلى أن يأتي على الأقسام كلِّها.

ولو قُدِّرَ أنَّ جاهلاً آخر قَفَزَ

(2)

هذه الأوضاع وقَلَبها وتكلَّم عليها لكان مِن جنس كلامهم، ولم يكن عندهم من البرهان ما يردُّون به قولَه، بل إنْ رأوه قد أصاب في بعض أحكامه ــ لا في أكثرها ــ أحسنُوا به الظنَّ، وتقلَّدوا قولَه، وجعلوه قدوةً لهم! وهذا شأنُ الباطل!

عُدنا إلى كلام عيسى في رسالته، قال: «واختلفوا في الحدود؛ فزعم أهلُ مصر أنها تؤخذُ من أرباب البيوت، وزعم الكلدانيُّون أنها تؤخذُ من مدبِّري المثلَّثات

(3)

.

وإذا كان اختلافُ الذين يقتدون

(4)

بهم في أصولهم هذا الاختلاف، وليس هم ممَّن يطالِبُ بالبرهان ولا يعتقدُ الشيءَ حتى يصحَّ على البحث والقياس، فيعرفونَ مع من الحقُّ من رؤسائهم، وفي أيِّ قولٍ هو من أقوالهم فيعملون به، وإنما طريقتُهم التسليمُ لما وجدوه في الكتب المنقولة من لسانٍ

(1)

في الأصول: «ثمانية وخمسين دقيقة مئة وخمسين دقيقة» . وفي (ط): «ثمانية وخمسون دقيقة ومئة وخمسون ثانية» . والمثبت من «روح المعاني» (23/ 104).

(2)

(ت): «مر» . (ط): «تفنن في» .

(3)

(ق، د): «المثليات» . وهو تحريف. انظر: «صفة جزيرة العرب» للهمداني (39)، و «رسائل إخوان الصفا» (1/ 123)، و «روح المعاني» (23/ 103).

(4)

(د، ق): «يعتدون» .

ص: 1253

إلى لسان= فكيف يجوزُ لهم أن ينفردوا باعتقاد قولٍ من هذه الأقوال وينصرفوا عمَّا سواهُ إلا على طريق الشَّهوة والتخمين؟! والله المستعان.

ذِكرُ بعض ما يُستبشَعُ من أقوالهم ويُستَدلُّ به على مناقَضتهم

مِن ذلك: زعمهُم أنَّ الفلكَ جسمٌ واحد، وطبيعةٌ واحدة، وأنه شيءٌ واحد، وليس بأشياء مختلفة، ثم زعموا بعد ذلك أنَّ بعضَه ذكرٌ وبعضَه أنثى، ولا دلالة لهم على ذلك ولا برهان، ولا وجدنا جسمًا واحدًا في الشَّاهد بعضُه ذكرٌ وبعضُه أنثى».

قلت: قد رامَ بعضُ الملبِّسين من فضلائهم تصحيحَ هذا الهذَيان، بأن قال: ليس يستحيلُ أن يكون جسمٌ واحدٌ بعضُه أنثى وبعضه ذكر، كالرَّجل مثلًا، فإنَّ العينَ والأذنَ واليد والرِّجلَ منه مؤنثة، والرأسَ والصُّلبَ والصدرَ والظهرَ منه ذكر.

وأيضًا؛ فإنَّ الجسم مركَّبٌ من الهَيُولى والصورة

(1)

، والهَيُولى مذكرةٌ والصورةُ مؤنثة.

وأيضًا؛ لمَّا وجدَ المنجِّمون الشَّمسَ تدلُّ على الآباء والأبُ ذكرٌ، والقمرَ يدلُّ على الأمِّ وهي أنثى، قالوا: إنَّ الشَّمس ذكرٌ والقمرَ أنثى.

قالوا: وقد قال أرسطو في كتاب «الحيوان» : طَمْثُ المرأة يدرُّ في نقصان الشهر، ولذلك

(2)

قال بعض الناس: إنَّ القمر أنثى.

(1)

الهيولى: لفظ يوناني، بمعنى الأصل والمادة. والصورة: ما به يحصُل الشيء بالفعل، كالهيئة الحاصلة للكرسي بسبب اجتماع الخشب. «المعجم الفلسفي» (536، 741).

(2)

(ق، ت): «وكذلك» .

ص: 1254

قالوا: وأيضًا؛ فالشَّمس إذا كانت قريبًا من سَمْت الرؤوس كان الحرُّ واليُبس، وهما من طبيعة الذكوريَّة، والقمرُ إذا كان يقرُب من سَمْت الرؤوس بالليل كان البردُ والرطوبة، وهما من طبيعة الأنثى.

فليَعجَب العاقلُ اللبيبُ من هذه الخرافات!

فأمَّا أعضاءُ الإنسان الذكرُ والأنثى، فذلك أمرٌ راجعٌ إلى مجرد اللفظ وإلحاق علامة التأنيث في تصغيره ووصفه وخبره وعَوْد الضمير عليه بلفظ التأنيث وجَمْعه جمعَ المؤنَّث، وليس ذلك عائدٌ إلى طبيعة العُضو ومِزاجه.

فنظيرُ هذا قولُ النحاة: الشَّمس مؤنثة؛ للَحاق العلامة لها في تصغيرها فتقول: شُمَيْسة، وفي الخبر عنها نحو: الشَّمس طالعة. والقمرُ مذكر؛ لعدم لحاق العلامة له في شيءٍ من ذلك.

فعلى هذا الوجه وقعَ التذكيرُ والتأنيثُ في أعضاء الحيوان.

وأمَّا قِسمتُكم البروجَ وأجزاءَ الفلك إلى مذكرٍ ومؤنث، فليست بهذا الاعتبار، بل باعتبار الفعل والانفعال والحرارة والرطوبة، فتشبيهُ أحد البابين بالآخر تلبيسٌ وجهل.

وأمَّا تركيبُ الجسم من الهَيُولى والصورة فأكثرُ العقلاء نفَوْه

(1)

، وقالوا: هو شيءٌ واحدٌ متصلٌ متواردٌ عليه الاتصال والانفصال، كما يتواردُ عليه غيرُها من الأعراض فيقبلُها، ولا يلزمُه من قبوله الاتصالَ

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (17/ 328)، و «درء التعارض» (3/ 398)، و «الرد على المنطقيين» (67).

ص: 1255

والانفصال

(1)

أن يكون هناك شيءٌ آخرُ غير الجسميَّة يقبلُ به ذلك، والذين قالوا بتركيبه منهما لم يقل أحدٌ منهم أصلًا: إنه مركَّبٌ من ذكرٍ وأنثى. والصورةُ مؤنثةٌ في اللفظ لا في الطبيعة.

واضحاك لهم على

(2)

عقولهم السخيفة!

وأمَّا دلالةُ الشَّمس على الأب وهو مذكَّر، ودلالةُ القمر على الأمِّ وهي أنثى، فلو سلِّمت لكم هذه الدَّلالة، كيف يلزمُ منها تذكيرُ ما دلَّ على الذَّكر وتأنيثُ ما يدلُّ على الأنثى؟! وأين الارتباطُ العقليُّ بين الدليل والمدلول في ذلك؟ كيف، ودلالةُ الشَّمس على الأب والقمر على الأمِّ مبنيٌّ على تلك الدعاوى الباطلة التي ليس لها مستندٌ [تستندُ]

(3)

إليه إلا خيالاتٌ وأوهامٌ لا يرضاها العقلاء؟!

وأمَّا ما حكوه عن أرسطو فنقلٌ محرَّف، ونحن نذكرُ نصَّه في الكتاب المذكور، فإنَّ لنا به نسخةً مصحَّحةً قد اعتُني بها

(4)

.

قال في المقالة الثامنة عشرة ــ بعد أن تكلَّم في علَّة الإذكار والإيناث وذَكَر قولَ من قال: إنَّ سببَ الإذكار حرارةُ الرَّحِم وسببَ الإيناث برودتُه، وأبطَل هذا بأنَّ الرَّحِمَ مشتملٌ على الذكر والأنثى معًا في الإنسان وفي كلِّ حيوان يلد ــ، قال: فقد كان ينبغي على قول هذا القائل أن يكونَ التوأمان إمَّا

(1)

من قوله: «كما يتوارد عليه» إلى هنا ساقط من (ت).

(2)

كذا في (د، ق). (ت): «واضحاك بهم» . ولم أتبينها. وأصلحها ناشر (ط) إلى: «وا ضحكاه على» .

(3)

زيادة من (ط).

(4)

انظر: «أبجد العلوم» (2/ 260)، و «كشف الظنون» (1/ 659).

ص: 1256

ذكرين وإمَّا أنثيَين، ــ وأبطله بوجوهٍ أخر ــ، وهذا رأيُ إنبدُقليس

(1)

.

وذَكَرَ قولَ دِيمُقراطِيس أنَّ ذلك ليس لأجل حرارة الرَّحِم وبرودته، بل بحسب الماء الذي يخرُج من الذَّكر وطبيعته في الحرارة والبرودة، وجَعَل قوَّة الإذكار والإيناث تابعةً لماء الذَّكر.

وذَكَر قولَ طائفةٍ أخرى أنَّ خروجَ الماء من الناحية اليمنى من البدن هي علةُ الإذكار، وخروجَه من الناحية اليسرى هي علةُ الإيناث، قال: إنَّ الناحيةَ اليمنى من الجسد أسخنُ من الناحية اليسرى وأنضجُ وأدفأُ من غيرها.

ورجَّحَ قولَ دِيمُقراطِيس بالنسبة إلى هذه الآراء، ثم قال: فقد بينَّا العلَّة التي من أجلها يُخْلَقُ في الرَّحِم ذكرٌ وأنثى، والأعراض التي تَعرِضُ تشهدُ لما بينَّا، فإنَّ

(2)

الأحداثَ يلدون الإناثَ أكثر من الشَّباب، والمتشيِّبين

(3)

يلدون إناثًا أيضًا أكثر من الشباب؛ إذ

(4)

الحرارةَ التي في الأحداث ليست بتامَّةٍ بعد، والحرارةَ التي في الشُّيوخ ناقصة، والأجسامُ الرطبةُ التي خِلْقتُها

(5)

شبيهةٌ بخِلقة بعض النساء تلدُ إناثًا أكثر.

ثمَّ قال: فإذا كانت الريحُ شَمالًا كان الولدُ ذكرًا، وإذا كانت جَنوبًا كان المولودُ أنثى؛ لأنَّ الأجسادَ إذا هبَّت الجَنوبُ كانت رطبة، وكذلك يكونُ

(1)

Empedocles. «عيون الأنباء» (1/ 36): أنباذقليس. ورسم في الأصول: ابندقليس. ونحوه في «طبقات الأمم» (21). وتحرَّف في «تاريخ الحكماء» (249، 270).

(2)

في الأصول: «ان» . ولعل الأشبه ما أثبت.

(3)

كذا في الأصول. وهو استعمالٌ نادر.

(4)

في الأصول: «ان» . تحريف.

(5)

في الأصول: «خلقها» . والمثبت من (ط).

ص: 1257

الزرعُ

(1)

أكثر، وكلَّما كَثُرَ الزرعُ يكونُ الطَّبخُ غيرَ نضيج، ولحالِ هذه العلة يكونُ زرعُ الذُّكور أرطب، ويكونُ دمُ طَمْثِ النساء من قِبَل الطِّباع عند خروجه أرطبَ أيضًا.

قلت: ومراده بالزرع الماءُ الذي يكونُ من الرجل.

قال: ولحالِ هذه العلة يكونُ طمثُ النساء من قِبَل الطِّباع في نقص الأهلَّة أكثر؛ لأنَّ تلك الأيامَ أبردُ من سائر أيام الشَّهر، وهي أرطبُ أيضًا؛ لنقص الأهلَّة وقلة الحرارة، والشَّمس تصير

(2)

الصيفَ والشتاء في كلِّ سنة، فأمَّا القمرُ فيفعل ذلك في كلِّ شهر.

فتأمَّل كلامَ الرجل، فإنه لم يتعرَّض لكون القمر ذكرًا ولا أنثى، ولا أحال على ذلك، وإنما أحال على الأمور الطبيعية في الكائنات الفاسدات، وبيَّن تأثيرَ النيِّرين في الرُّطوبة واليُبوسة والحرارة والبرودة، وجعَل لذلك تأثيرًا في الإذكار والإيناث، لا للنجوم والطوالع.

ومع أنَّ كلامه أقرب إلى العقول من كلام المنجِّمين، فهو باطلٌ من وجوهٍ كثيرةٍ معلومةٍ بالحسِّ والعقل وأخبار الأنبياء

(3)

؛ فإنَّ الإذكارَ والإيناثَ لا يقومُ عليه دليل، ولا يستندُ إلى أمرٍ طبيعي، وإنما هو مجرَّدُ مشيئة الخالق الباراء المصوِّر الذي {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49 - 50]، {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].

(1)

(ت): «النزع» . وهكذا في المواضع التالية.

(2)

(ت): «نظير» . وهي مهملة في (د، ق). المثبت من (ط).

(3)

انظر ما تقدم (ص: 737، 738).

ص: 1258

ولهذا هو قرينُ الأجل والرِّزق والسَّعادة والشَّقاوة، حيث يستأذنُ المَلَكُ الموكَّل بالمولود ربَّه وخالقَه، فيقول: يا ربِّ، أذكرٌ أم أنثى؟ سعيدٌ أم شقيٌّ؟ فما الرِّزق؟ فما الأجل؟ فيقضي الله ما يشاء، ويكتبُ المَلَك.

ولاستقصاء الكلام في هذه المسألة موضعٌ هو أليقُ بها من هذا، وقد أشبعنا الكلامَ فيها في كتاب «الرُّوح والنفس وأحوالها وشقاوتها وسعادتها ومقرِّها بعد الموت»

(1)

.

والمقصودُ الكلامُ على أقوال الأحكاميِّين من أصحاب النجوم، وبيانُ تهافُتِها، وأنها إلى المُحالات والتخيُّلات أقربُ منها إلى العلوم والحقائق.

وأمَّا قولُ المنتصر لكم: إنَّ الشَّمس إذا كانت مسامتةً للرؤوس كان الحرُّ واليُبس، وهما من طبيعة الذُّكور، وإذا كان القمرُ مسامتًا للرؤوس كان البردُ والرطوبة، وهما من طبيعة الإناث.

فيقال: هذا لا يدلُّ على تأنيث القمر وتذكير الشَّمس بوجهٍ من الوجوه؛ فإنَّ البردَ والرُّطوبةَ يكونان أيضًا بسبب بُعْدِ الشَّمس من المسامتة ومَيْلها عن الرؤوس، وحصولها في البروج الشمالية، سواءٌ كان القمرُ مسامتًا أو غير مسامت، فينبغي على قولكم أن يكون سببُ هذا البرد أنثى، وهذا لا يقولُه عاقل، بل الأسبابُ طبيعيةٌ مِن بَردِ الهواء وتكاثُفه وضعفِ

(2)

تأثير الشَّمس في تحليل الأبخرة التي تكونُ منها الحرارةُ بسبب بعدها عن الرؤوس،

(1)

وهو كتابٌ كبير أحال عليه المصنف في بعض كتبه. انظر: «جلاء الأفهام» (298، 371). وليس هو كتاب «الروح» المطبوع، فإنه أحال فيه على كتابه الكبير هذا (ص: 202). وانظر: «ابن قيم الجوزية» للشيخ بكر أبو زيد (258).

(2)

مهملة في (د). وفي (ق): «وصعب» .

ص: 1259

وليس سببُ ذلك أنثى اقتضته وفعلَته.

فقد جمعتم إلى جهلكم بالطبيعة، والكذب على الخِلقة، القولَ الباطلَ على الله وعلى خلقه.

وليس العجبُ إلا ممَّن يدَّعي شيئًا من العقل والمعرفة، كيف ينقادُ له عقلُه بالإصغاءِ إلى مُحالاتكم وهذياناتكم؟! ولكنْ كلُّ مجهولٍ مَهِيب!

ولمَّا تكايَسَ مَن تكايسَ منكم في أمر الهَيُولى وزعَم أنها أنثى، وأنَّ الصُّورةَ ذكر، وأنَّ الجسمَ الواحدَ مشتملٌ على الذكر والأنثى، أضحَك عقلاءَ الفلاسفة عليه، فإنَّ زعيمَهم ومعلِّمهم الأول

(1)

قد نصَّ في كتاب «الحيوان» له على أنَّ الهَيُولى في الجسم

(2)

كالذَّكر.

وإن قلتم: فهذا يشهدُ لقولنا أيضًا؛ لأنها إن كانت عنده كالذَّكر فالصورةُ أنثى، فصار الجسمُ الواحدُ بعضُه ذكرٌ وبعضه أنثى.

قلنا: القائلون بتركُّب الأجسام

(3)

من الهَيُولى والصورة لم يقولوا: إنَّ أحدهما متميِّزٌ عن الآخر، كما زعمتم ذلك في أجزاء الفلك، بل عندهم الهَيُولى والصورة قد اتحدا وصارا شيئًا واحدًا، فالإشارةُ الحِسِّيةُ إلى أحدهما هي بعينها إشارةٌ إلى الآخر، وأنتم جعلتم الجزء المذكَّر من الفلك

(4)

مباينًا للجزء الأنثى منه بالوضع والحقيقة، والإشارةَ إلى أحدهما غيرَ الإشارة إلى الآخر.

(1)

وهو أرسطو. والفارابي معلمهم الثاني.

(2)

(ت): «الهيولى كالذكر» .

(3)

(ق): «بتركيب الأجسام» .

(4)

في الأصول: «من القلب» . وهو تحريف.

ص: 1260

وللكلام مع أصحاب الهَيُولى مقامٌ آخرُ ليس هذا موضعه

(1)

؛ فإنَّ دعوى تركُّب الجسم منهما دعوى فاسدةٌ من وجوهٍ كثيرة، وليس يصحُّ شيءٌ هنا غيرُ الهَيُولى الصِّناعية؛ كالخشب للسَّرير، والطبيعيَّة؛ كالمنيِّ للمولود، وهي المادةُ الصِّناعيةُ والطبيعيَّة، وما سوى ذلك فخيالٌ ومحال، والله المستعان.

عُدنا إلى كلام صاحب الرسالة، قال:

«ومن ذلك

(2)

: زعمُهم أنه إن اتفقَ مولودٌ ابنُ ملكٍ وابنُ حجَّامٍ في البلد والوقت والطالع والدرجة، وكانت سائرُ دلالات السعادة موجودةً في مَولِدَيهما، وَجَبَ أن يكون من ابن الملك مَلِكٌ جليلٌ سائسٌ مدبِّر، ومن ابن الحجَّام حجَّامٌ حاذق.

وهذا يُخرِجُ النجومَ عن أن تكونَ تدلُّ على ما يتجدَّدُ من حال الإنسان، ويجعلُها تدلُّ على حِذقه في صناعة أبيه

(3)

وتقصيره فيها».

قلت: وممَّا يوضِّحُ فسادَ قولهم في ذلك أنَّ بَطْليموس جعَل الكواكبَ الدَّالة على الصِّناعات ثلاثة: المرِّيخ والزُّهَرة وعطارد، وقال: لأنَّ الصناعات العملية تحتاجُ إلى ثلاثة أشياء ضرورةً، أحدها: المعرفة، والثاني: الآلة، والثالث: لطافةٌ

(4)

في الكفِّ؛ ليخرُج المعمولُ المصنوعُ حسنًا.

(1)

راجع ما تقدم (ص: 1255) والتعليق عليه.

(2)

مما يستبشَع من أقوالهم ويستَدلُّ به على مناقضتهم.

(3)

في الأصول: «حذقه وصناعة أبيه» . وهو تحريف.

(4)

(ق): «الطاقة» . وهو تحريف.

ص: 1261

فالآلةُ للمرِّيخ، وتكونُ ــ على الأكثر ــ إمَّا حديدًا وإمَّا مصاحبةً للحديد

(1)

، ولذلك يقولون: صورتُه صورةُ شابٍّ بيمناه سيفٌ مسلول، وبيسراه رأسُ إنسان

(2)

، وهو راكبٌ أسدًا، وثيابه حُمْرٌ تَلْهَب. وآخرون منهم يقولون: على رأسه بيضةٌ، وبيسراه طَبَرْزِين

(3)

، وعليه خرقةٌ حمراء، وهو راكبٌ فرسًا أشهَب.

والمعرفةُ لعطارد، ولذلك يقولون: صورتُه صورةُ شابٍّ بيمناه حيَّة، وبيسراه لوحٌ يقرؤه، وهو راكبٌ على طاووس. ومنهم من يقول: صورتُه صورةُ رجلٍ جالسٍ على كرسيٍّ، بيده مصحفٌ يقرؤه، وهو راكبٌ على طاووس

(4)

، وعلى رأسه تاج، وثيابه ملوَّنة

(5)

.

والتزاويقُ والنقوشُ وما شاكلَ ذلك للزُّهَرة، ولذلك يقولون: صورتُها صورةُ امرأةٍ حسناء، بين يديها مِزْهَرٌ تضربُ به

(6)

، وهي راكبةٌ على جمل.

(1)

العبارة غير محررة في الأصول. ولعلَّ فيها سقطًا. ففي (ق، د): «والآلة للمريخ إليها تكون على الأكثر إما حديد وإمَّا مصاحبة للحد» . (ت): «فالآلة المريخ البنا تكون على الأكثر إمَّا حديدا وإمَّا مصاحبة للحد» . (ط): «والآلة للمريخ التي يشير إليها يكون على الأكثر إمَّا حديدا وإمَّا مصاحبة للحديد» ، ولعله من تصرف الناشر. وبما أثبتُّ يستقيم السياق.

(2)

في الأصول: «سنان» . والمثبت من «السر المكتوم» (57) أشبه.

(3)

وهو فأسٌ يعلِّقه الفارسُ في سرج جواده. فارسيَّةٌ معرَّبة. انظر: «المعرب» للجواليقي (276)، و «قصد السبيل» (2/ 252).

(4)

من قوله: «وهو راكب على طاووس» في الموضع الأول إلى هنا سقط من (ق)؛ لانتقال النظر.

(5)

«السر المكتوم» (58): «وعليه ثيابٌ خضرٌ وصفر» .

(6)

المِزْهَر: العُود، من آلات الطرب. «المعجم الوسيط» (زهر). وفي «السر المكتوم»:«بَرْبَط» . وهو المزهر.

ص: 1262

ومنهم من يقول: امرأةٌ جالسةٌ مُرخاةُ الشَّعر، ذوائبُها بيسراها وباليمنى مرآةٌ تنظرُ فيها

(1)

، مُصبغةُ الثوب

(2)

، وعليها طوقٌ وأسْوِرةٌ وخلاخِل.

وأمَّا الشَّمس والقمرُ، فهما الدَّالَّان على المُلْك، فالشَّمسُ صورتُها صورةُ رجلٍ بيده اليمنى عصا يتوكَّأ عليها، وباليسرى مِرْزبَّة

(3)

، راكبٌ عجلةً تجرُّها أربعةُ نمور. ومنهم من يقول: صورتُها صورةُ رجلٍ جالسٍ قابضٍ على أربعةِ أعِنَّة أفراس، ووجهه كالطَّبق يلتهبُ نارًا

(4)

.

قالوا: ودلائلُ المُلْك ليست بأعيانها هي دلائل الصِّناعات، ولا دلائل

(5)

الصِّناعات هي دلائل المُلك، بل قد يجوزُ أن تدلَّ على رياسةٍ ما إلا أن المُلكَ أخصُّ من الرياسة، ولكلِّ واحدٍ من الكواكب على الإطلاق دلالةٌ على رياسةٍ ما في معنى من المعاني.

فيقال: أرأيتم إن حصلت أدلَّةُ المُلك

(6)

في طالع مولودٍ ليس من المُلك في شيء، بل أكثرُ المولودين لا ينالون المُلكَ البتة، وإنما ينالُه واحدٌ

(1)

«السر المكتوم» : «امرأة أخرى تنظر إليها» . وهو خطأ. وفي «أسرار الطلسمات» لبطليموس (ق: 4/ب): «وبيدها اليمنى تفاحة» .

(2)

«السر المكتوم» : «وفي ثيابها خضرةٌ أو صفرة» .

(3)

في الأصول: «حرز» . وهو تحريف. والمثبت من «السر المكتوم» . وفي «أسرار الطلسمات» : «مقرعة، نرجس، ترس» في ثلاث صور.

(4)

لم يذكر القمر. وصورته عندهم: صورة إنسانٍ ممسكٍ بيمناه محبرته، وبيسراه مثلَّثين، كأنه يحسُب، وعلى رأسه كالتاج، وهو على عجلةٍ تجرها أربعةٌ من الأفراس. «السر المكتوم» (58). وذكر في «أسرار الطلسمات» له أربع صورٍ أخرى.

(5)

(ت، ق): «ودلائل» .

(6)

(ت): «دلالة الملك» .

ص: 1263

من الناس، ولا يلزمُ أن يكون في آبائه مَلِكٌ ولا يكون ابنَ مَلِك، فما بال طالع المُلك المشتَرك بين عدَّة أولادٍ خَصَّ هذا وحدَه؟!

حتى إنَّ أكثركم ينظرُ بنصِّ بَطْليموس إلى جنس المولود وما يصلحُ له، فيحكمُ على ابن المَلكِ بالمُلك، وعلى ابن الحجَّام بالحِجامة، فإن كان طالعُهما واحدًا حكم بتقدُّم ابن الحجَّام في رياسةِ صناعتِه وكونِه كمَلكِهم.

ومعلومٌ أنَّ الحِسَّ والوجودَ أكبرُ المكذِّبين لكم في هذه الأحكام، فما أكثرَ من نال المُلكَ وليس هو من أبناء الملوك البتة، ولا كان طالعُه يقتضي ذلك، وحُرِمَه من يقتضيه طالعُه بزعمكم ممَّن أبوه مَلِك!

وكذلك الكلامُ في غير المُلك من الطالع الذي يقتضي كونَ المولود حكيمًا عالمًا، أو حاذقًا في صناعته، كم قد أخلَف وحصَل العلمُ والحكمةُ والتقدُّمُ في الصِّناعة لغير أرباب ذلك الطالع!

وفي ذلك أبينُ تكذيبٍ لكم وإبطالٍ لقولكم، والله المستعان.

قال صاحبُ الرِّسالة:

«ومن ذلك

(1)

: قولهم: إنَّ الكواكبَ المتحيِّرةَ أجلُّ من الثوابت، وأبينُ تأثيرًا في العالَم، وإنَّ كلَّ واحدٍ من الكواكبِ الثابتة يفعلُ فعلًا واحدًا لا يزولُ عنه من غير أن يَنْحَسَ أو يُسْعِد، وإنَّ عطارد ــ وهو

(2)

من الكواكب المتحيِّرة ــ ليس له طبْعٌ يُعْرَف، وأنه نحسٌ إذا قارن النُّحوس، وسعدٌ إذا قارن السُّعود.

(1)

مما يستبشَع من أقوالهم ويستَدلُّ به على مناقضتهم. وفي (ت، ق): «ومن بعد ذلك» . (ط): «وأبعد من ذلك» . والمثبت أشبه.

(2)

في الأصول: «هو» .

ص: 1264

ومن ذلك قولهم: إنَّ قوةَ القمر الترطيب، وإنَّ العلةَ في ذلك قربُ فلكِه من الأرض، وقبولُه للبخارات الرَّطبة التي ترتفعُ إليه منها، وإنَّ قوة زُحل أن يُبرِّد ويجفِّف تجفيفًا يسيرًا، وإنَّ علَّة ذلك بعدُه عن حرارة الشَّمس وعن البخارات الرَّطبة التي ترتفعُ من الأرض، وإنَّ قوةَ المرِّيخ مجفِّفةٌ مُحرِقة، لمشاكلة لونه للون النار، ولقربه من الشَّمس؛ لأنَّ الكرةَ التي فيها الشَّمس موضوعةٌ تحته».

قلت: فليتأمَّل العاقلُ ما في هذا الكلام

(1)

من ضروب المحال. وما للفلَك ووصول البخارات الأرضية إليه! وهل في قوَّة البخارات تصاعدُها إلى سطح الفلك مع البُعد المُفْرِط؟! والبخارُ إذا ارتفعَ فغايةُ ارتفاعه كارتفاع السَّحاب، لا يتعدَّاه، وهل تتأثَّر العُلويَّات بطبائع السُّفليَّات وتتكيَّف بكيفيَّاتها وتنفعِل عنها؟!

ومما يدلُّ على فساد ذلك أيضًا: أنَّ القمرَ لو كان يترطَّبُ من البخارات وجبَ أن تزدادَ رطوبتُه في كلِّ يوم؛ لأنه دائمُ القبول للبخارات. ولا يقولون ذلك.

وإن التزمه منهم مكابرٌ، وقال: كلُّ يومٍ يزدادُ رطوبةً، قيل له: فما تُنكِرُ أن تكون دلالةُ زُحَل والمريِّخ على النُّحوس تتزايدُ وتكونُ دلالته على النُّحوس في اليوم أكثر من دلالته في الأمس؟!

ولو فُتِحَ عليكم هذا البابُ فلعل السَّعْدَ ينقلبُ نحسًا، وبالعكس، وهذا يرفعُ الأمانَ عن أصول هذا العلم.

ص: 1265

وأيضًا؛ فإذا جوَّزتم انفعالَ الفلكيَّات عن أجزاء هذا العالم السُّفليِّ لَزِمَكم تجويزُ فساد هذه الكواكب من هذه الأجزاء

(1)

العنصريَّة، ولزمكم تجويزُ أن يرتفعَ إلى القمر من الأدخِنة ما يوجبُ جفافَه وبلوغَه في اليُبس الغاية.

وأيضًا؛ فإذا جوَّزتم ذلك فَلِمَ لا تجوِّزون نفوذَ تلك البُخَارات إلى ما وراء فلَك القمر، حتى يترطَّب فلَكُ الأفلاك؟!

فإن قلتم: فلكُ القمر عائقٌ عن ذلك.

قلنا: وكرةُ الأثير

(2)

حائلةٌ بين عالمنا هذا وبين فلك القمر، فكيف جوَّزتم وصولَ البُخارات الأرضيَّة إلى فلَك القمر؟!

[وأما زعمهم أنَّ في]

(3)

مشابهة لون المرِّيخ للون النَّار ما يقتضي

(4)

تأثيره الإحراقَ والتجفيف، فهل في الهذَيان أعجبُ من هذا؟! فإن أرادوا النارَ البسيطة فإنها لا لونَ لها، وإن أرادوا النارَ الحادثةَ فهي بحسب مادَّتها التي توجبُ حُمْرتَها وصُفْرتها وبياضها.

(1)

(د، ق): «الأجرام» .

(2)

في الأصول: «الأثر» . ويقال له: الفلك الأثير، والكرة الثانية، وكان يعتقَد أنه يملأ الفضاء، والأرض والأفلاك تتحرك خلاله، وزعموا أنه مؤثر في العالم الأرضي بحرارته ويبسه، ولذا سمِّي أثيرًا. انظر:«التوقيف على مهمات التعاريف» (564)، و «الموسوعة العربية العالمية» (الأثير).

(3)

في الأصول بدل ما بين المعكوفين: «وفي» . وكأن ثمة سقطًا. وأثبتُّ ما يفهَم به السياق.

(4)

في الأصول: «مما يقتضي» . وأثبت الأنسب للسياق.

ص: 1266

وأمَّا كونُ الشَّمس تحته فهذا لا يقتضي تأثيرَها فيه، وإعطاءه قوَّة التَّجفيف والإحراق؛ فإنَّ الشَّمس لو أثَّرت فيه ذلك وأعطته إيَّاه لكانت بهذا التأثير والإعطاء للزُّهَرة أولى؛ لأنَّ كُرتَها

(1)

فوق كرة الزُّهَرة، ونسبتها إلى كرة الزُّهَرة كنسبتها إلى كرة المرِّيخ، فهلَّا كانت قوَّةُ الزُّهَرة التجفيفَ والإحراق؟! بل تأثيرُ الشَّمس فيما تحتها أولى من تأثيرها فيما فوقها.

قال صاحبُ الرسالة: «وإنَّ الكواكبَ الثَّابتةَ

(2)

التي في الدُّبِّ الأكبر

(3)

قوَّتُها كقوة المرِّيخ. وهذا غلطٌ عظيم؛ لأنَّ لونَ هذه الكواكب غيرُ مُشْبِهٍ للون النار، وليست الكرةُ التي فيها الشَّمس موضوعةً تحتها، بل الكرةُ التي فيها زُحَل موضوعةٌ تحتها، فهي بأن يكون حالُها مُشْبِهًا لحال زُحَل أولى؛ لأنها فوقه، وبُعْدُها عن الشَّمس وعن حرارات الأرض أكثرُ مِن بُعْدِه».

قلت: والعجبُ من هؤلاء، يعلَمون قولَ مُقَدَّمهم بَطْليموس: إنَّ طبائعَ الأجرام السَّماوية واحدة؛ ثمَّ يحكمون على بعضها بالحرارة، وعلى بعضها بالبرودة، وكذلك بالرُّطوبة واليُبوسة!

قال: «وزعموا أنَّ عطاردَ معتدلٌ في التجفيف والترطيب؛ لأنه لا يَبْعُدُ في وقتٍ من الأوقات عن حَرِّ الشَّمس بُعْدًا كثيرًا، ولا وَضْعُه فوق كرة القمر، وأنَّ الكواكبَ الثابتةَ التي في الجاثي

(4)

حالُها شبيهةٌ بحاله، وليس يوجَدُ لها

(1)

في الأصول: «كونها» . وهو تحريف.

(2)

أي: ومما يستبشَع من أقوالهم ويستَدلُّ به على مناقضتهم قولهم:

.

(3)

وهي سبعة أنجم ظاهرة. واسمها عند العرب: بنات نعش الكبرى. انظر: «الأنواء» لابن قتيبة (147، 148)، و «المرصع» لابن الأثير (330).

(4)

(ق): «الجاني» . (ت): «الحاتي» . وهو تحريف. انظر: «صور الكواكب الثمانية والأربعين» (59)، و «مفاتيح العلوم» (194).

ص: 1267

من السَّببين

(1)

اللذَيْن دلَّا على طبيعة عطارد شيئًا، بل الذي

(2)

يوجَدُ لها ضدُّ ذلك، وهو أنها بعيدةٌ من الشَّمس في أكثر الأوقات، وأن فلكها أبعدُ أفلاك الكواكب من كرة القمر.

وقالوا: إنَّ الكواكبَ التي في العواء

(3)

تشبهُ حالَ عطارد وزُحَل في بعض الأوقات، وتشبهُ حالَ المشتري والمرِّيخ في بعضها».

قلت: وقد استدلَّ فضلاؤكم

(4)

على اختلاف طبائع الكواكب باختلاف ألوانها، فقالوا: زُحَل لونُه الغُبْرة والكُمُودة

(5)

، فحكمنا بأنه على طبع السَّوداء، وهو البردُ واليُبس، فإنَّ السوداء لها من الألوانِ الغُبْرةُ.

وأمَّا المرِّيخُ، فإنه يشبهُ لونُه لونَ النار، فلا جرَمَ قلنا: طبعُه حارٌّ يابس.

وأمَّا الشَّمس، فهي حارَّةٌ يابسة؛ لوجهين:

أحدهما: أنَّ لونها يشبهُ لونَ الحُمْرة.

الثاني: أنَّا نعلمُ بالبديهة

(6)

أنها مسخِّنةٌ للأجسام، منشِّفةٌ للرطوبات.

(1)

(ت): «الشيئين» .

(2)

في الأصول: «الدور» . وهو تحريف.

(3)

(ق): «النفاد» . ومهملة في (د). (ت): «المقاد» . وأقرب ما يحتمله الرسم من الصواب: العواء، والعقاب. وهما كوكبتان معروفتان، ككوكبة الجاثي المتقدمة. انظر المصدرين السابقين.

(4)

وهو الرازي، في «السر المكتوم» (34).

(5)

الكُمْدة: تغيُّر اللون وذهاب صفائه. «اللسان» (كمد). والكمودة (وهي محدثة): القُتمة القريبة من السَّواد. انظر: «المواقف» للإيجي (2/ 458)، و «سبل الهدى والرشاد» (2/ 261).

(6)

في الأصول: «بالتدبير» . ولعله محرفٌ عما أثبت. وفي «السر المكتوم» : «أن كونها مسخنة للأجسام، منشفة للرطوبات، أمرٌ ظاهر» .

ص: 1268

وأمَّا الزُّهَرة، فإنَّا نرى لونَها كالمركَّب من البياض والصُّفْرة، ثمَّ إنَّ البياض يدلُّ على طبيعة البلغم الذي هو البردُ والرطوبة، والصُّفرة تدلُّ على الحرارة. ولما كان بياضُ الزُّهَرة أكثر من صُفْرتها حكمنا عليها بأنَّ بردَها ورطوبتَها أكثر.

وأمَّا المشتري، فلمَّا كانت صُفْرتُه أكثر مما في الزُّهَرة كانت سخونتُه أكثر من سخونة الزُّهَرة، وكان في غاية الاعتدال

(1)

.

وأمَّا القمر، فهو أبيض، وفيه كُمُودة، فبياضُه يدلُّ على البرد

(2)

.

وأمَّا عطارد، فإنا نراه على ألوانٍ مختلفة

(3)

، فربما رأيناه أخضر، وربما رأيناه أغبَر، وربما رأيناه على خلاف هذين اللَّونين، وذلك في أوقاتٍ مختلفة، مع كونه في الأفق على ارتفاعٍ واحد، فلا جَرَمَ قلنا: إنه لكونه قابلًا للألوان المختلفة يجبُ أن يكونَ له طبائعُ مختلفة، إلا أنا لمَّا وجدنا في الغالب عليه الغُبرة الأرضية، قلنا: طبيعته أميَلُ إلى الأرض واليُبس.

وهذا التقريرُ باطلٌ من وجوهٍ عديدة

(4)

:

أحدها: أنَّ المشاركةَ في بعض الصِّفات لا تقتضي المشاركةَ في الماهيَّة

(1)

«السر المكتوم» : «كان معتدلًا مائلًا إلى الحرارة» .

(2)

«السر المكتوم» : «البرد والرطوبة» .

(3)

(ق): «نرى عليه الألوان مختلفة» . وفي «السر المكتوم» : «نراه على الألوان المختلفة» .

(4)

من «السر المكتوم» (34، 35)، قال: «واعلم أن العلماء طعنوا في هذا الوجه من وجوه

»، ثم ذكرها.

ص: 1269

والطبيعة ولا في صفةٍ أخرى.

الوجه الثاني: أنَّ الدَّلالةَ بمجرَّد اللَّون

(1)

على الطبيعة ضعيفةٌ جدًّا؛ فإنَّ النُّورة والنُّوشادِر

(2)

والزَّرنيخ والزِّئبق المصعَّدَين

(3)

والكبريت في غاية البياض مع أنَّ طبائعَها في غاية الحرارة.

الثالث: أنَّ ألوانَ الكواكب ليست كما ذكرتم.

فزُحَل رصاصيُّ اللون، وهذا مخالفٌ للغُبرة والسَّواد الخالص.

وأمَّا المشتري، فلا شكَّ

(4)

أنَّ بياضَه أكثرُ من صُفرته، فيلزمُ على قولكم أنَّ بردَه أكثرُ من حرِّه. وهم ينكرونَ ذلك.

وأمَّا الزُّهَرة، فلا صُفرةَ فيها البتة، بل الزُّرقةُ ظاهرةٌ في أمرها

(5)

، فيلزمُ أنْ تكونَ خالصةَ البرد.

وأمَّا المرِّيخ، فإن كان حرُّه

(6)

لشبهه بالنارِ في لونه، فهذه المشابهة بين الشَّمس

(7)

والنار أتمُّ، فيلزمُ أن تكونَ حرارةُ الشَّمس وسخونتُها أقوى من

(1)

(ت): «في مجرَّد دلالة اللون» .

(2)

(ق): «النوشاذر» . وانظر: «الحيوان» للجاحظ (5/ 349) وحاشيته.

(3)

في الأصول: «المصعد» . والمثبت من «السر المكتوم» . والتصعيد: تحويل السائل إلى بخار بتأثير الحرارة. «المعجم الوسيط» .

(4)

في الأصول: «فلا بد» . والمثبت من «السر المكتوم» .

(5)

«السر المكتوم» : «لونها» .

(6)

«السر المكتوم» : «حره ويبسه» .

(7)

(ق، د): «من الشمس» . تحريف.

ص: 1270

حرارة المرِّيخ

(1)

. وهم لا يقولون بذلك.

وأمَّا عُطارد، فإنَّا وإنْ رأيناه متخلفَ اللون في الأوقات المختلفة إلا أنَّ السببَ فيه أنَّا لا نراه إلا إذا كان قريبًا من الأفق، وحينئذٍ يكونُ بيننا وبينه بخاراتٌ مختلفة، فلا جَرَمَ اختلفَ لونه

(2)

لهذا السبب.

وأمَّا القمر، فقد قال زعيمُكم المؤخَّر أبو معشر: إنه لا يَنْسِبُ لونَه إلى البياض إلا من عَدِمَ الحِسَّ البصريَّ

(3)

.

فتبينَّ بطلانُ قولكم في طبائع الكواكب وتناقضُه واختلافُه.

ولما علم بعض فضلائكم فسادَ قولكم في طبائع الكواكب، وأنَّ العقلَ يشهدُ بتكذيبه، صدَفَ عنه وأنكره، وقال: إنما نشيرُ بهذه القوى والطبائع إلى ما يحدثُ عن كلِّ واحدٍ من الأجرام السماويَّة وينفعلُ بها من الكائنات الفاسدات، لا أنها بطبائعها تفعلُ ذلك، بل يحدثُ عنها ما يكونُ حارًّا أو باردًا أو رطبًا أو يابسًا، كما يقال: إنَّ الحركةَ تُسَخِّنُ والصَّومَ يجفِّف

(4)

، لا على أنها تفعلُ ذلك بطبائعها، بل بما يحدُث عنها، فبَطْليموس قال: إنَّ القمرَ يرطِّبُ والشَّمس تسخِّنُ بحسب ما يحدثُ عنهما، وتنفعلُ المنفعلاتُ بتلك القوى، لا بأنَّ طبائعَها مكيِّفات.

ص: 1271

فيقال: نحن لم ننازعكم في تأثير الشَّمس والقمر في هذا العالَم بالحرارة والرطوبة والبرودة واليُبوسة وتوابعها، وتأثيرها في أبدان الحيوان والنبات، ولكنْ هما جزءٌ من السبب المؤثِّر، وليسا بمؤثِّرٍ تامٍّ، فإنَّ تأثيرَ الشَّمس مثلًا إنما كان بواسطة الهواء وقبوله للسُّخونة والحرارة بانعكاس شعاع الشَّمس عليه عند مقابلتها لجِرْم الأرض، ويختلفُ هذا القبولُ عند قُرب الشَّمس من الأرض وبُعْدِها، فيختلفُ حالُ الهواء وأحوالُ الأبخرة في تكاثُفها وبرودتها وتلطُّفها وحرارتها، فتختلفُ التأثيراتُ باختلاف هذه الأسباب، والشَّمس جزءُ السبب

(1)

في ذلك، والأرضُ جزء، والهواءُ جزء، والمقابلةُ الموجِبةُ لانعكاس الأشعَّة جزء، والمحلُّ القابلُ للتأثير والانفعال جزء.

ونحن لا ننكرُ أنَّ قوةَ البرد بسبب بُعْدِ الشَّمس عن سَمْتِ رؤوسنا، وقوةَ الحرِّ بسبب قُرب الشَّمس من سَمْتِ رؤوسنا.

ولا ننكرُ أنَّ الشَّمس إذا طلعت فإنَّ الحيوانَ ناطقَه وبهيمَه يخرجُ من مكامنه وأكنَّته، وتظهرُ القوةُ والحركةُ فيهم، ثمَّ مادامت الشَّمس صاعدةً في الربع الشرقيِّ

(2)

فحركاتُ الحيوان في الازدياد والقوَّة والاستكمال، فإذا مالت الشَّمس عن وسط السماء أخذَت حركاتُ الحيوان وقُواهم في الضعف، وتستمرُّ هذه الحالُ إلى غروب الشَّمس، ثمَّ كلما ازدادَ نورُ الشَّمس عن هذا العالم بُعْدًا ازدادَ الضعفُ والفتورُ في حركة الحيوان، وهدأت الأجساد، ورجعت الحيواناتُ إلى مكامِنها، فإذا طلعت الشَّمس رجعوا إلى الحالة الأولى.

(1)

في الأصول: «والسبب جزء الشمس في ذلك» . سبق قلم.

(2)

«السر المكتوم» (21): «صاعدة إلى وسط سمائهم» .

ص: 1272

ولا ننكرُ أيضًا ارتباطَ فصول العالم الأربعة بحركات الشَّمس وحلولها في أبراجها.

ولا ننكرُ أنَّ السُّودان لما كان مسكنُهم خطَّ الاستواء إلى محاذاة ممرِّ رأس السَّرطان

(1)

، وكانت الشَّمسُ تمرُّ على [سَمْت]

(2)

رؤوسهم في السنة إمَّا مرَّةً وإمَّا مرتين؛ تسوَّدت أبدانُهم، وتجعَّدت شعورُهم، وقلَّت رطوباتهم، فساءت أخلاقُهم، وضعُفت عقولُهم.

وأمَّا الذين مساكنُهم أقربُ إلى محاذاة ممرِّ السرطان، فالسَّوادُ فيهم أقلُّ، وطبائعُهم أعدَل، وأخلاقُهم أحسن

(3)

، وأجسامُهم أنصَف

(4)

، كأهل الهند، واليمن، وبعض أهل الغَرب، [وكلِّ العرب]

(5)

.

وعكسُ هؤلاء الذين مساكنُهم على ممرِّ رأس السرطان إلى محاذاة بناتِ نَعْشٍ الكبرى، فهؤلاء لأجل أنَّ الشَّمس لا تُسَامِتُ رؤوسَهم، ولا تبعُد عنهم أيضًا بُعْدًا كثيرًا، لم يَعْرِض لهم حرٌّ شديدٌ ولا بردٌ شديد، فألوانهم متوسِّطة، وأجسامُهم معتدلة، وأخلاقُهم فاضلة

(6)

، كأهل الشَّام والعراق

(1)

«السر المكتوم» : «محاذاة من رأس السرطان» .

(2)

من «السر المكتوم» ، وكذا الزيادات التالية، فإن هذا المبحث ملخَّصٌ منه.

(3)

«السر المكتوم» : «آنس» .

(4)

أي: أعدل. أفعل تفضيل، مِن أنصَفَ، على غير قياس. وفي (ت):«أنظف» . (ق): «اتصف» . (ط): «ألطف» . وفي «الفلاكة والمفلوكون» (24): «أنصع» . والمثبت من (د) و «السر المكتوم» .

(5)

«السر المكتوم» : «وبعض المغاربة وكل العرب» .

(6)

«السر المكتوم» : «حسنة» .

ص: 1273

وخراسان وفارس والصِّين

(1)

.

ثمَّ من كان من هؤلاء أميَلُ إلى ناحية الجنوب كان أتمَّ في الذَّكاء والفهم، ومن كان منهم يميلُ إلى ناحية المشرق فهم أقوى نفوسًا وأشدُّ ذكورةً

(2)

، ومن كان يميلُ إلى ناحية المغرب غلبَ عليه اللِّينُ والرَّزانة

(3)

.

ــ ومن تأمَّل هذا حقَّ التأمُّل، وسافر بفكره في أقطار العالَم، عَلِمَ حكمةَ الله في نشر مذهب أهل العراق

(4)

وما فيه من اللِّين وما شاكله في أهل المشرق، ومذهب أهل المدينة

(5)

وما فيه من الشدَّة والقوَّة في أهل المغرب ــ.

وأمَّا من كانت مساكنُهم محاذيةً لبنات نَعْش، وهم الصَّقالبةُ والرُّوس

(6)

، فإنهم لكثرة بُعْدِهم عن مسامتة الشَّمس

(7)

صارَ البردُ غالبًا

(1)

ابتدأ الرازي بالصين وختم بالشام، فعكسه المصنِّف، وحقَّ له!.

(2)

«السر المكتوم» : «تذكيرا» .

(3)

«السر المكتوم» : «ألين نفسًا وأشد ثباتًا وأكثر كتمانًا للأمور» . وفي «صفة جزيرة العرب» للهمداني (36) عن بطليموس: «وأمَّا الذين يميلون إلى ناحية المغرب فهم أكثر تأنيثًا [لعلها: تأنِّيًا]، وأنفسهم ألين، ويخفُون أمورهم في أكثر الأمر ويسترونها» .

(4)

وهو مذهب أهل الرأي، أبي حنيفة وأصحابه.

(5)

وهو مذهب مالك بن أنس.

(6)

(د، ق): «والرومن» . (ت): «والروم» . وهو تحريف. والمثبت من «السر المكتوم» . قال ياقوت: «الروس: أمةٌ من الأمم، بلادهم متاخمةٌ للصقالبة والترك» . والصقالبة: شعوبٌ تسكن بين جبال الأورال والبحر الأدرياتي في أوروبا الشرقية والوسطى. «الموسوعة العربية الميسرة» (1126). وفي فاتحة تعليقات شكيب أرسلان على «تاريخ ابن خلدون» تعريفٌ جيدٌ بهم.

(7)

«السر المكتوم» : «لكثرة بعدهم عن ممرِّ البروج وحرارة الشمس» .

ص: 1274

عليهم، والرطوبةُ الفَضْليَّة فيهم؛ لأنه ليس من الحرارة هناك ما يُنَشِّفُها ويُنْضِجُها، فلذلك صارت ألوانُهم بيضاء، وشُعورهم سَبِطَةً

(1)

شقراء، وأبدانُهم رَخْصَة

(2)

، وطبائعُهم مائلةً إلى البرودة، وأذهانُهم جامدة

(3)

.

وكلُّ واحدٍ من هذين الطرفين

(4)

ــ وهما الإقليمُ الأولُ والسابع ــ يقلُّ فيه العمران، وينقطعُ بعضُه عن بعض؛ لأجل غلبة اليُبس

(5)

، ثمَّ لا تزالُ العمارةُ تزدادُ في الإقليم الثاني والسادس [والثالث] والخامس، ويقلُّ الخرابُ فيها.

وأمَّا الإقليمُ الرابعُ فإنه أكثرُ الأقاليم عِمارة، وأقلُّها خرابًا؛ لفضل

(6)

الوسط على الأطراف، بسبب اعتدال المزاج.

ــ وهو الذي انتشرت فيه دعوةُ الإسلام، وضَرَبَ الدِّينُ بجِرانِه فيه

(7)

وظهرَ فيه أعظمَ من ظهوره في سائر الأقاليم.

ولهذا قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «زُوِيَت لي الأرضُ، فرأيتُ مشارقَها ومغاربها، وسيبلغُ مُلكُ أمتي ما زُوِيَ لي منها»

(8)

، فمكان انتشار

(9)

دعوته صلى الله عليه وسلم

(1)

مسترسلةٌ غير جعدة. «اللسان» (سبط).

(2)

ناعمة لينة. «اللسان» (رخص).

(3)

«السر المكتوم» بدل الجملة الأخيرة: «وأخلاقهم وحشية» .

(4)

«السر المكتوم» : «الطريقين» .

(5)

«السر المكتوم» : «لغلبة الكيفيتين الفاعلتين» .

(6)

في الأصول: «بالفصل» . وهو تحريف. وعلى الصواب في «السر المكتوم» .

(7)

استقام وقرَّ قراره. «اللسان» (جرن).

(8)

أخرجه مسلم (2889) من حديث ثوبان.

(9)

(ط): «فكان انتشار» .

ص: 1275

في أعدل الأرض، ولذلك انتشرت شرقًا وغربًا أكثر من انتشارها جنوبًا وشمالًا، ولهذا لمَّا زُوِيَت له فأُرِيَ مشارقَها ومغاربها، وبشَّر أمَّته بانتشار مملكتها في هذين الرُّبعين، فإنهما أعدلُ الأرض، وأهلُها أكملُ الناس خَلْقًا وخُلُقًا، فظهرَ الكمالُ له في الكتاب، والدِّين، والأصحاب، والشَّريعة، والبلاد، والممالك، صلواتُ الله وسلامُه عليه.

فإن قيل: فقد فضَّلتم الإقليمَ الرابعَ على سائر الأقاليم

(1)

، مع أنَّ شيئًا من الأدوية لا يتولَّدُ فيه إلا دواءً ضعيفًا، وإنما تتكوَّنُ الأدويةُ في سائر الأقاليم.

قيل: هذا من أدلِّ الدَّلائل على فضله عليها؛ لأنَّ طبيعةَ الدَّواء لا تكونُ معتدلة، إذ لو حصَل فيها الاعتدالُ لكان غذاءً لا دواءً، والطبيعةُ الخارجةُ عن الاعتدال لا تحدُث إلا في المساكن الخارجة عن الاعتدال ــ.

وكذلك حالُ الشَّمس في المواضع التي تسامتُها، فموضعُ حضيضِها وغاية قُربها من الأرض في البراري الجنوبية تكونُ تلك الأماكنُ محترقةً ناريَّة لا يتكوَّنُ فيها حيوانٌ البتة.

ــ ولذلك، والله أعلم، كانت أكثرُ البحار

(2)

من الجانب الجنوبيِّ

(3)

دون الشماليِّ؛ لأنَّ الشَّمس إذا كانت في حضيضِها كانت أقربَ إلى الأرض، وإذا كانت في أوْجِها كانت أبعَد، وعند قُربها من الأرض يَعْظُمُ

(1)

انظر لتفضيله: «التنبيه والإشراف» للمسعودي (32 - 38).

(2)

(د، ق): «البخار» . وهو تحريف.

(3)

في الأصول: «الجوانب الجنوبي» . والمثبت من (ط).

ص: 1276

تسخينُها، والسُّخونةُ جاذبةٌ للرطوبات، وإذا انجذبت الرطوباتُ إلى الجانب الجنوبيِّ انكشف الجانبُ الشماليُّ ضرورةً، وصار مستقرًّا للحيوان الأرضي، والجنوبيُّ أعظم الجانبين رطوبةً وأكثرها مياهًا ومقرًّا للحيوان المائيِّ ــ.

وأمَّا المواضعُ المسامتةُ لأوج الشَّمس في الشمال فهي غيرُ محترقة، بل معتدلة لبُعْدِ الشَّمس من الأرض.

وبسبب التفاوت القليل الحاصل بين أقرب قُرب الشَّمس من الأرض وأبعدِ بُعْدِها منها صار [الجانب] الجنوبيُّ محترقًا والجانبُ الشماليُّ معتدلًا، فلو كانت الشَّمس حاصلةً في فلك الكواكب

(1)

لفسَد هذا العالَم

(2)

من شدَّة البرد، ولو فرضنا أنها انحدرَت إلى فلك القمر لاحترق هذا العالَم.

فاقتضت حكمةُ العزيز العليم الحكيم أنْ وَضَعَ الشَّمسَ وسط الكواكب السَّبعة، وجعَل حركتَها المعتدلةَ وقُربها المعتدل سببًا لاعتدال هذا العالَم، وجعَل قُربها وبعدَها وارتفاعَها وانخفاضها سببًا لفصوله التي هي نظامُ مصالحه، فتبارك الله ربُّ العالمين، وأحسنُ الخالقين.

وأهلُ الإقليم الأول لأجل قُربهم من الموضع المحاذي لحضيض الشَّمس كانت سخونةُ هوائهم شديدة، ولا جَرَمَ كانوا أشدَّ سوادًا من مكان خطِّ الاستواء

(3)

.

(1)

«السر المكتوم» : «لو صارت إلى فلك الثوابت» .

(2)

«السر المكتوم» : «لفسدت الطبائع» .

(3)

«السر المكتوم» : «فلا جرم هم أهل السواد، لأن تأثير الشمس فيهم أكثر» .

ص: 1277

وأهلُ الإقليم الثاني سخونةُ هوائهم ألطف، فكانوا سُمْرَ الألوان.

والإقليمُ الثالثُ والرابعُ أعدلُ الأقاليم مزاجًا، بسبب اعتدال الهواء. وسببُ تعديله

(1)

[أن غاية] ارتفاع الشَّمس إنما يكونُ

(2)

[عند كونها] في أبعد بُعْدِها عن الأرض

(3)

.

فهاهنا وإن حصلت المسامتةُ المُوجِبةُ

(4)

لمزيد السُّخونة، لكن حصَل أيضًا البعدُ المقلِّلُ للسُّخونة، فحصَل الاعتدالُ من بعض الوجوه. وفي الجانب الجنوبيِّ وإن حصَل مزيدُ القُرب من الأرض لكن لم تحصُل هناك مسامتةٌ [معتدلة]، [فلذا كانت أكثر]

(5)

المساكن المعمورة لخطِّ الاعتدال في الجانبين بهذه الطريق، وصار أهلُ الإقليم الثالث والرابع أفضلَ الناس صُورًا وأخلاقًا.

وأمَّا الإقليم الخامس، فإنَّ سخونة الهواء هناك أقلُّ من الاعتدال بمقدارٍ يسير، فلا جَرَمَ صار في حيِّز البرد

(6)

، وصارت طبائعُ أهله أقلَّ نضجًا من

(1)

مهملة في (د). (ق): «تعديه» . (ت): «بعديه» . (ط): «تعديل» . ولعل المثبت أشبه.

(2)

في الأصول: «لا يكون» .

(3)

«السر المكتوم» : «بسبب اعتدال الهواء. وأيضًا، فغاية ارتفاع الشمس إنما يكون عند كونها في أبعد بعدها عن الأرض» .

(4)

في الأصول: «مسامتة الوحيد» ، والكلمة الثانية مهملة في (د). وفي (ط):«مسامتة مفيدة» . والأشبه ما أثبت.

(5)

الزيادتان الأخيرتان مني، ليستقيم السياق. ومن قوله: «فهاهنا

» إلى: «بهذه الطريق» ليس في «السر المكتوم» .

(6)

(د، ق): «حز البرد» . ومهملة في (ت). وفي «السر المكتوم» : «حيز البرد والثلوج» .

ص: 1278

طبائع أهل الإقليم الرابع؛ لأنَّ بُعْدَهم

(1)

عن الاعتدال قليل.

وأمَّا أهلُ الإقليم السادس والسابع، فإنَّ أهلَها مَقْرُورون

(2)

، ولغلبة البرد والرطوبة عليهم يشتدُّ بياضُ ألوانهم وزُرْقةُ عيونهم.

وأمَّا المواضعُ التي تَقْرُب من أن يكون القطبُ

(3)

فيها فوق الرأس، فهناك لا يَصِلُ تسخينُ الشَّمس إليها، فلا جَرَمَ عَظُمَ البردُ فيها، ولم يتكوَّن هناك حيوانٌ البتة.

وهذا كلُّه يدلُّ على أنَّ الشَّمس جزءُ السَّبب، وأنَّ الهواءَ جزءُ السَّبب، والأرض جزء، وانعكاس الشُّعاع جزء، وقبول المنفعِلات جزء، ومجموعُ ذلك سببٌ واحدٌ قدَّره العزيزُ العليمُ القدير، وأجرى عليه نظامَ العالَم.

وقدَّر سبحانه أشياءَ أُخَر لا يعرفُها هؤلاء الجهَّال، ولا عندهم منها خبر، مِنْ تدبير الملائكة، وحركاتهم، وطاعة أستُقُصَّات العالم وموادِّه لهم، وتصريفهم تلك الموادَّ بحسب ما رُسِمَ لهم من التقدير الإلهيِّ والأمر الرباني.

ثمَّ قدَّر تعالى أشياءَ أُخَر تُمَانِعُ هذه الأسبابَ عند التصادم، وتُدافِعُها، وتقهرُ مُوجَبَها ومقتضاها، ليظهر عليها أثرُ القهر والتسخير والعبوديَّة، وأنها

(1)

(ق، د) و «السر المكتوم» : «إلا أن بعدهم» . والمثبت من (ت).

(2)

رجل مقرور: أصابه البرد. وفي الأصول: «محرورون» . محرفة. والمثبت أقرب ما يحتمل الرسم من الصواب، ولست منه على ثقة. وفي «السر المكتوم»:«نجونيون» . ولعلها: أسمنجونيون. الأسمنجون: اللون الأزرق الخفيف، والنسبة إليه: أسمنجوني. «المعجم الوسيط» (18).

(3)

(ق): «القط» . (ط): «الخط» . وكلاهما تحريف. والمثبت من (د، ت).

ص: 1279

مصرَّفةٌ مدبَّرةٌ بتصريفِ قاهرٍ قادرٍ كيف يشاء، ليدلَّ عبادَه على أنه هو وحده الفعَّالُ لما يريد، المدبِّر لخلقه كيف يشاء، وأنَّ كلَّ ما في المملكة الإلهيَّة طوعُ قدرته، وتحت مشيئته، وأنه ليس شيءٌ يستقلُّ وحده بالفعل إلا الله، وكلُّ ما سواه لا يفعلُ إلا بمشاركٍ ومُعاوِن، وله ما يُعاوِقُه ويُمانِعُه ويسلبه تأثيرَه.

فتارةً يسلبُ سبحانه النَّارَ إحراقَها ويجعلُها بردًا، كما جعَلها على خليله بردًا وسلامًا، وتارةً يمسكُ بين أجزاء الماء فلا يتلاقى، كما فعل بالبحر لموسى وقومه، وتارةً يشقُّ الأجرامَ السَّماوية، كما شقَّ القمرَ لخاتم أنبيائه ورسله، وفتحَ السماءَ لمَصْعَده وعُروجه، وتارةً يقلبُ الجمادَ حيوانًا، كما قلبَ عصا موسى ثعبانًا، وتارةً يغيِّر هذا النظامَ ويُطْلِعُ الشَّمس من مغربها، كما أخبر به أصدقُ خلقه عنه

(1)

.

فإذا أتى الوقتُ المعلوم، فشقَّ السَّموات

(2)

وفَطَرَها، ونَثَرَ الكواكبَ على وجه الأرض، ونَسَفَ جبالَ العالم ودكَّها مع الأرض، وكوَّر شمسَ العالم وقمرَه، ورأى ذلك الخلائقُ عيانًا= ظهَر للخلائق كلِّهم صدقُه وصدقُ رسله، وعمومُ قدرته وكمالها، وأنَّ العالَم بأسره منقادٌ لمشيئته، طوعُ قدرته، لا يستعصي عليه انفعالُه لما يشاء

(3)

ويريدُه منه، وَعَلِمَ الذين كفروا وكذَّبوا رسله من الفلاسفة والمنجِّمين والمشركين والسُّفهاء الذين سمَّوا أنفسهم الحكماء أنهم كانوا كاذبين.

(1)

أخرجه البخاري (4359) ومسلم (157).

(2)

(ت): «فتق السموات» .

(3)

(ت): «كما يشاء» .

ص: 1280

واجتمعَ جماعةٌ من الكبراء والفضلاء يومًا، فقرأ قاراء:{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} حتى بلغ: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 1 - 14]، وفي الجماعة أبو الوفاء ابن عقيل

(1)

، فقال له قائل: يا سيِّدي، هَبْ أنه أَنْشَرَ الموتى للبعث والحساب، وزَوَّجَ النفوسَ بقرنائها للثواب والعقاب، فما الحكمةُ في هَدْم

(2)

الأبنية، وتسيير الجبال، ودكِّ الأرض، وفَطْرِ السَّماء، ونَثْرِ النُّجوم، وتخريب هذا العالم وتكوير شمسه، وخَسْفِ قمره؟!

فقال ابنُ عقيل على البديهة: إنما بنى لهم هذه الدارَ للسُّكنى والتمتُّع، وجعلها وما فيها للاعتبار والتفكُّر، والاستدلال عليه بحسن التأمُّل والتذكُّر، فلمَّا انقضت مدةُ السُّكنى، وأجلاهم من الدار؛ خرَّبها، لانتقالِ السَّاكن منها، فأراد أن يُعلِمَهم بأنَّ في إحالة الأحوال، وإظهار تلك الأهوال، وإبداء ذلك الصُّنع العظيم، بيانًا لكمال قدرته، ونهاية حكمته، وعظمة ربوبيته

(3)

، وعِزِّ جلاله، وعِظَم شأنه

(4)

، وتكذيبًا لأهل الإلحاد وزنادقة المنجِّمين وعُبَّاد الكواكب والشَّمس والقمر والأوثان، ليعلمَ الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين، فإذا رأوا أنَّ منارَ آلهتهم قد انهدم، وأنَّ معبوداتهم قد انتثَرت، والأفلاكَ التي زعموا أنها وما حوَتْه هي الأربابُ المستوليةُ على هذا العالم قد تشقَّقت

(1)

الفقيه الأصولي الحنبلي. تقدمت الإشارة إلى ترجمته (ص: 963).

(2)

في الأصول: «هذه» . ولعلها: هدِّه. وفي (د) بخطٍّ دقيق بين السطرين: نقض. والمثبت من (ط)، وهو أشبه، وسيأتي على الصواب.

(3)

(ت): «وعظمته وربوبيته» .

(4)

(ت): «وعظيم سلطانه» .

ص: 1281

وانفطرَت؛ ظهرَت حينئذٍ فضائحُهم، وتبيَّن كذبُهم، وظهَر أنَّ العالَم مربوبٌ مُحْدَثٌ مدبَّر، له ربٌّ يصرِّفه كيف يشاء؛ تكذيبًا لملاحدة الفلاسفة القائلين بقدَمِه.

فكم لله من حكمةٍ في هَدْم هذه الدَّار! ودلالةٍ على عظيم قدرته وعزَّته وسلطانه، وانفراده بالربوبية، وانقياد المخلوقات بأسرها لقَهْره، وإذعانها لمشيئته، فتبارك الله ربُّ العالمين.

ونحن لا ننكرُ ولا ندفعُ أن الزرعَ والنباتَ

(1)

لا ينمو ولا ينشأ إلا في المواضع التي تطلعُ عليها الشَّمس

(2)

، ونحن نعلمُ أيضًا أنَّ وجود بعض النبات في بعض البلاد لا سببَ له إلا اختلافُ البلدان في الحرِّ والبرد الذي سببُه حركةُ الشَّمس وتقاربُها في قُربها وبُعْدِها من ذلك البلد.

وأيضًا، فإنَّ النخلَ ينبتُ في البلاد الحارَّة، ولا ينبتُ في البلاد الباردة، وشجرَ الموز

(3)

لا ينبتُ في البلاد الباردة. وكذلك ينبتُ في البلادِ الجنوبية أشجارٌ وفواكهُ وحشائشُ

(4)

لا يُعْرَف شيءٌ منها في جانب الشمال، وبالعكس.

وكذلك الحيواناتُ يختلفُ تكوُّنها

(5)

بحسب اختلاف حرارة البلاد

(1)

عاد النقل من «السر المكتوم» (23).

(2)

«السر المكتوم» : «أو يصل إليها قوة حرُّها» .

(3)

«السر المكتوم» : «شجر الأترج والليمو واللوز» .

(4)

(ت): «وأعشاب» .

(5)

في الأصول: «تختلف بكونها» ، والحرف الأول مهمل في (د). وفي «السر المكتوم»:«يختلف الحال في تولدها» .

ص: 1282

وبرودتها؛ فإنَّ البَبْر

(1)

والفيل يكونان بأرض الهند، ولا يكونان في سائر الأقاليم التي هي دونها في الحرارة، وكذلك غزالُ المِسْك

(2)

والكَركَنْد

(3)

وغير ذلك.

وكذلك لا ندفعُ تأثيرَ القمر في وقت امتلائه في الرطوبات، حتى في جَزْرِ البحار ومَدِّها، فإنَّ منها ما يأخذُ في الازدياد من حين يفارقُ القمرُ الشَّمس إلى وقت الامتلاء، ثمَّ إنه يأخذُ

(4)

في الانتقاص، ولا يزالُ نقصانُه يستمرُّ بحسب نقصان القمر حتى ينتهي إلى غاية نقصانه عند حصول المَحاق.

ومن البحار ما يحصُل فيه المَدُّ والجَزْرُ في كلِّ يومٍ وليلة مع طلوع

(1)

مهملة في (د، ق)، وكتب ابن بردس فوقها بخطٍّ دقيق: كذا. (ت): «البيز» . (ط): «النسر» . وهو تحريف. وعلى الصواب في «السر المكتوم» . والبَبْر: سبعٌ هنديٌّ يعادل الأسد في عِظَم الجثة والقوة، أبيض البطن والجانبين مع صفرة، ومخططٌ بخطوط سود. وهو المسمى بالانجليزية: Tiger. ويسميه الناس اليوم: النمر. والنمر مرقَّط وأصغر حجمًا ويكون في آسيا وأفريقيا وغيرها.

انظر: «الحيوان» للجاحظ (7/ 131، 170)، و «ثمار القلوب» (769)، و «حياة الحيوان» (1/ 379)، و «معجم الحيوان» (149، 248)، و «معجم الألفاظ الزراعية» للأمير الشهابي (483، 643)، و «الموسوعة العربية العالمية» (الببر).

(2)

انظر: «مروج الذهب» (1/ 188)، و «حياة الحيوان» (3/ 57).

(3)

«السر المكتوم» : «الكركدن» . وهو من أسمائه. ويسمَّى اليوم: وحيد القرن. انظر: «الحيوان» (7/ 123، 170، 6/ 27)، و «قصد السبيل» (1/ 393)، و «معجم الحيوان» (203)، و «المعجم الوسيط» (784).

(4)

ساقطة من (ت، ق).

ص: 1283

القمر وغروبه، وذلك موجودٌ في بحر فارس وبحر الهند وكذلك بحر الصِّين.

وكيفيَّته: أنه إذا بلغ القمرُ مشرقًا من مشارق البحر

(1)

ابتدأ البحرُ بالمَدِّ، ولا يزالُ كذلك إلى أن يصيرَ القمرُ إلى وسط سماء ذلك الموضع، فعند ذلك ينتهي [المدُّ] منتهاه

(2)

، فإذا زال القمرُ من مغرب ذلك الموضع ابتدأ المدُّ مرةً أخرى

(3)

، ولا يزالُ زائدًا إلى أن يصَل القمرُ إلى وتد الأرض، فحينئذٍ ينتهي المدُّ منتهاه، ثمَّ يبتداء الجَزْرُ ثانيًا، ويرجعُ الماءُ كما كان.

وسُكَّانُ البحر كلَّما رأوا في البحر انتفاخًا

(4)

وهيجانَ رياحٍ عاصفةٍ وأمواجٍ شديدة، علموا أنه [وقتُ] ابتداءِ المَدِّ، فإذا ذهبَ الانتفاخُ وقلَّت الأمواجُ والرياحُ علموا أنه وقتُ الجَزْر.

وأمَّا أصحابُ الشُّطوط

(5)

والسَّواحل فإنهم يجدونَ عندهم في وقت المَدِّ للماء حركةً من أسفله إلى أعلاه، فإذا رجعَ الماءُ ونزل فذلك وقتُ الجَزْر.

(1)

«السر المكتوم» : «مشرقا في مشارق» .

(2)

هنا زيادة في «السر المكتوم» أخشى أن تكون سقطت لانتقال النظر: «فإذا انحطَّ القمر من وسط سَمَاه جرَزَ الماءُ ورجع البحر، ولا يزال كذلك راجعًا إلى أن يبلغ القمر مغربه، فعند ذلك ينتهي الجزر إلى منتهاه» .

(3)

في الأصول: «من تحت الأرض» . وأحسبه تحرَّف عما أثبت. وفي «السر» : «ابتدأ المد هناك في المرة ثانية» .

(4)

ارتفاعًا وعلوًّا. وفي (ت): «انفتاحا» . وفي الموضع الثاني: «الانفتاح» . وهو تحريف. والمثبت من (د، ق) و «السر المكتوم» .

(5)

جمع: شطٍّ. وهو الشاطاء.

ص: 1284

وكذلك أيامُ بُحْرانات الأمراض

(1)

ــ بحسب زيادة القمر ونقصانه ــ منطبقةٌ عليها.

وكذلك الأخلاطُ التي في بدن الإنسان ما دام القمرُ آخذًا في الزيادة فإنها تكونُ أزيد، ويكونُ ظاهرُ البدن أكثر رطوبةً وحُسْنًا، فإذا نقصَ ضوءُ القمر صارت هذه الأخلاطُ في غَوْرِ البدن والعروق، وازدادَ ظاهرُ البدن يُبْسًا.

وكذلك ألبانُ الحيوانات تتزايدُ من أول الشهر إلى نصفه، فإذا أخَذ القمرُ في النقصان نقصَت غزارتُها.

وكذلك أدمغةُ الحيوانات في أول الشهر أزيدُ منها في نصفه الأخير.

وإن حدثَ في أجواف الطيور بيضٌ في النصف الأول من الشهر كان بياضُه أكثر من بياض الحادث في نصفه الثاني.

وكذلك الإنسانُ إذا نامَ أو قعد

(2)

في ضوء القمر حدثَ في بدنه الاسترخاءُ والكسل، وهاجَ عليه الزُّكامُ والصُّداع.

وإذا وُضِعَت لحومُ الحيوانات مكشوفةً تحت ضوء القمر تغيَّرت طعومُها وتعفَّنت.

وكذلك السَّمكُ في البحار والآجام [والمياه] الجارية توجدُ من أول الشهر

(1)

البُحران: التغيُّر الذي يحدُث للعليل فجأةً في الأمراض الحُمِّية الحادَّة، ويصحبه عرقٌ غزير وانخفاضٌ سريعٌ في الحرارة. انظر:«مفاتيح العلوم» (167)، و «قصد السبيل» (1/ 254)، و «المعجم الوسيط» (40).

(2)

«السر المكتوم» : «فقد» . تحريف.

ص: 1285

إلى وقت الامتلاء أكثر، وخروجُها من قُعور البحار والآجام أظهَر، ومِن بعد الامتلاء إلى الاجتماع فإنها تدخلُ قعورَ البحار والآجام، والذي يظهرُ من سَمِين السَّمك في النصف الأول من الشهر أكثرُ من الذي يظهرُ في الثاني منه.

وكذلك حُرُشُ الأرض

(1)

يكونُ خروجُها من أجحِرَتها في النصف الأول من الشهر أكثر من خروجها في النصف الثاني.

وأصحابُ الغِراس يزعمونَ أنَّ الأشجارَ والغُروسَ إذا غُرِسَت والقمرُ زائدُ الضوء كان نشوؤها وكمالها وإسراعُها في النبات أكملَ

(2)

من التي تُغْرَسُ في مَحَاقه وذهاب نُوره.

وكذلك تكونُ الرياحينُ والبقولُ والأعشابُ من الاجتماع إلى الامتلاء أزيدَ نشوءًا وأكثر نموًّا، وفي النصف الثاني بالضدِّ من ذلك.

وكذلك القثَّاءُ والقَرْعُ والخِيارُ والبطِّيخُ ينمو نموًّا بالغًا عند ازدياد الضوء، وأمَّا في وسط الشهر عند حصول الامتلاء فهناك يَعْظُمُ النموُّ حتى [إنه] يظهر التفاوتُ للحِسِّ في الليلة الواحدة.

وكذلك الينابيعُ

(3)

تزدادُ في النصف الأول من الشهر، وتنقصُ في النصف الثاني

(4)

.

(1)

جمع: حريش، دويبةٌ على قدر الإصبع، بأرجلٍ كثيرة، وتسميها العامة:«أم أربعة وأربعين» . «التاج» (حرش).

(2)

(ق): «أحمد» .

(3)

«السر المكتوم» : «المعادن والينابيع» .

(4)

«السر المكتوم» (23 - 25).

ص: 1286

إلى غير ذلك من الوجوه التي تؤثِّر فيها الشَّمس والقمرُ في هذا العالم.

فنحنُ لم ندفَعْكم عن هذه التَّأثيرات وأضعافها، إنما الذي أنكره عليكم العقلاءُ من أهل المِلل وغيرهم أنَّ جملةَ الحوادث في هذا العالم، خيرِها وشرِّها، وصلاحِها وفسادها، وجميع أشخاصه وأنواعه وصوره وقُواه، ومُدَدِ بقاء أشخاصه، وجميع أحوالها العارضة لها، وتكوُّن الجنين، ومدَّة لُبثه في بطن أمِّه وخروجه إلى الدُّنيا، وعمره ورزقه، وشقاوته وسعادته، وحُسْنه وقُبحه

(1)

، وحِذْقه وبلادته، وجهله وعلمه، بل ونزول الأمطار، واختلاف أنواع الشَّجر والنبات في الشكل واللون والطُّعوم والروائح والمقادير، بل انقسام الحيوان إلى الطير وأصنافه، والبحريِّ وأنواعه، والبريِّ وأقسامه، وأشكال هذه الحيوانات، واختلاف صورها وأنواعها وأفعالها وأخلاقها ومنافعها، بل وتكوُّن المعادن المنطبعة

(2)

، كالحديد والرصاص والنحاس والذهب والفضَّة، بل وغير المنطبعة، كالملح والقَارِ والزِّرنيخ والنِّفط والزِّئبق، بل العداوة الواقعة بين الذِّئاب والغنم، والحيَّات والسِّباع وبني آدم، والصَّداقة والعداوة بين أفراد النوع الواحد سيَّما بين ذكوره وإناثه.

وبالجملة؛ فالأرزاقُ والآجال، والعزُّ والذلُّ، والرِّفعةُ والخفض، والغَنَاءُ والفقر، والإحياءُ والإماتة، والمنعُ والإعطاء، والضرُّ والنفع، والهدى والضلال، والتوفيقُ والخذلان، وجميعُ ما في العالم، والأشخاصُ وأفعالها وقُواها وصفاتها وهيآتها= فالمعطي له هذه النجومُ

(3)

، واتصالاتُها

(1)

(ت): «وحسنه وقبحه وأخلاقه» .

(2)

التي تقبل الطبع، وهو الصنعة والصياغة. «اللسان» (طبع).

(3)

خبر: «أنَّ جملة الحوادث في هذا العالم

فالأرزاق والآجال

» وفي (ق): «والمعطى له هذه» . وهو خطأ. وكتب ابن بردس في (د) بخطٍّ دقيق بين السطرين تحت: «فالمعطي» : خبر أن.

ص: 1287

وانفصالاتُها

(1)

، واتصالاتُها بنُقَطٍ وانفصالاتُها عن نُقَطٍ، ومقارنتُها ومفارقتُها ومسامتتُها ومباينتُها، فهي المعطيةُ لهذا كلِّه المدبرةُ الفاعلة له، فهي الآلهةُ والأربابُ على الحقيقة، وما تحتها عبيدٌ خاضعون لها ناظرون إليها!

فهذا كما أنه الكفرُ الذي خرجوا به عن جميع الملل، وعن جملة شرائع الأنبياء، ولم يُمْكِنْهم أن يقيموا بين أرباب الملل إلا بالتستُّر بهم ومنافقَتهم والتزيِّي بزيِّهم ظاهرًا، وإلا فقتلُ هؤلاء من الأمر الضروريِّ في كلِّ ملَّة؛ لأنهم سُوسُها وأعداؤها= فهو من الهذيان الذي أضحكوا به العقلاء على عقولهم، حتى ردَّ عليهم من لا يؤمنُ بالله واليوم الآخر من الفلاسفة، كالفارابي وابن سينا

(2)

وغيرهما من عقلاء الفلاسفة، وسخروا منهم، واستضعفوا عقولَهم، ونسبوهم إلى الزَّرْق والزَّرْجَنَة

(3)

والتلبيس.

وقد ردَّ عليهم أفضلُ المتأخرين من فلاسفة الإسلام أبو البركات البغدادي

(4)

(1)

«واتصالاتها وانفصالاتها» ليست في (ت).

(2)

راجع ما تقدم (ص: 1182، 1195) والتعليق عليه.

(3)

(ق): «والزرنجة» . تحريف. والزرجنة: المكر والخديعة. «المحيط» للصاحب بن عباد (الجيم والزاي)، و «القاموس» (زرجن). والزَّرق تقدم تفسيره.

(4)

هبة الله بن علي بن ملكا، توفي سنة نيف وخمسين وخمس مئة، وقيل قبل ذلك. انظر:«السير» (20/ 419)، و «أخبار الحكماء» (460)، و «حكماء الإسلام» (346). وهو من مقتصدة الفلاسفة، وأقربهم إلى الحق، كما يقول ابن تيمية، وفيلسوف الإسلام، كما يصفه المصنِّف. انظر:«مجموع الفتاوى» (12/ 205، 16/ 383)، و «منهاج السنة» (1/ 348، 403)، و «نقض التأسيس» (1/ 304)، و «إغاثة اللهفان» (2/ 258).

ص: 1288

في كتاب «المعتبر»

(1)

له، فقال: «وأمَّا علمُ أحكام النجوم فإنه لا يتعلَّقُ به منه أكثر من قولهم بغير دليلٍ بحرِّ كواكبَ وبَرْدِها ورطوبتها ويبوستها واعتدالها، كما يقولون بأنَّ زُحَلَ منها باردٌ يابس، والمرِّيخَ حارٌّ يابس، والمشتري معتدل، والاعتدال خيرٌ والإفراط شر، ويُنْتِجُونَ من ذلك أنَّ الخيرَ يوجبُ سعادةً والشرَّ يوجبُ مَنْحَسَة، وما جانسَ ذلك مما لم يقُل به علماءُ الطَّبيعيين، ولم تُنْتِجْه مقدِّماتهم في أنظارهم، وإنما الذي أنتجَته هو أنَّ السماء والسماويَّات

(2)

فعَّالةٌ فيما تحويه وتشتملُ عليه وتتحركُ حوله فعلًا على الإطلاق، لم يحصل له

(3)

من العلم الطبيعي حدٌّ ولا تقدير

(4)

، والقائلون به ادَّعوا حصولَه من التوقيف والتجربة والقياس منهما كما ادَّعى أهلُ الكيمياء.

وإلا، فمِن [أين]

(5)

يقولُ صاحبُ العلم الطبيعي بحسب أنظاره التي سبقت

(6)

: إنَّ المشتري سعدٌ، والمرِّيخَ نحسٌ، أو المرِّيخَ حارٌّ يابس، وزُحل

(1)

في الأصول: «التعبير» . تحريف. والمثبت هو المعروف، ونصَّ عليه مؤلفه في مقدمته (1/ 4)، وعلَّل هذه التسمية.

(2)

في نسخة من «المعتبر» : «أن السماويات» . وفي «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد (6/ 206) وقد نقل كلام أبي البركات: «أن الأجرام السماوية» .

(3)

أي: صاحب العلم الطبيعي.

(4)

«المعتبر» : «حد ولا وقت ولا تقدير» .

(5)

زيادة من «المعتبر» ، وهكذا الزيادات الآتية، إلا ما نبهت على خلافه.

(6)

أي: سبق ذكرها في كتاب المعتبر.

ص: 1289

باردٌ يابس؟! والحارُّ والباردُ من الملموسات، وما دلَّه على هذا لمسٌ كما يُسْتَدلُّ بلمس الملموسات

(1)

؛ فإنَّ ذلك ما ظهرَ للحِسِّ في غير الشَّمس حيثُ تُسَخِّنُ الأرضَ بشعاعها. وإن كان في السمائيَّات شيءٌ من طبائع الأضداد فالأولى أن تكون كلُّها حارَّة؛ لأنَّ كواكبها كلَّها منيرة.

ومتى يقولُ الطبيعيُّ [المحقِّق] بتقطُّع الفلك وقسمته

(2)

[إلى أجزاء]، كما قسَّمه المنجِّمون قسمةً وهميَّة إلى بروجٍ ودَرَجٍ ودقائق؟! وذلك جائزٌ للمتوهِّم كجواز غيره، غيرُ واجبٍ في الوجود ولا حاصل، ونقلوا ذلك التوهُّم الجائزَ إلى الوجود الواجب في أحكامهم.

وكان الأصلُ فيه ــ على زعمهم ــ حركةَ الشَّمس في الأيام والشهور، فجعلوا

(3)

منها قسمةً وهميَّة، وجعلوها حيثُ حكموا كالحاصلة الوجودية المتميِّزة بحدودٍ وخطوط، كأنَّ الشَّمس بحركتها من وقتٍ إلى وقتٍ مثله خَطَّت في السماء خطوطًا، وأقامت فيها جدرانًا وحدودًا، وغيَّرت في أجزائها طباعًا تغييرًا

(4)

يبقى فتبقى به القسمةُ إلى تلك البروج والدَّرَج مع جواز الشَّمس عنها!

وليس في جوهر الفلك اختلافٌ يتميزُ به موضعٌ منه عن موضعٍ سوى الكواكب، والكواكبُ تتحركُ عن أمكنتها، فتبقى الأمكنةُ على التَّشابُه، فبماذا

(1)

«المعتبر» : «وما دله على هذا لمس، ولا ما استدل عليه بلمس كتأثيره فيما يلمسه» .

(2)

«المعتبر» : «بتقطيع الفلك وتقسيمه» .

(3)

«المعتبر» : «فحصلوا» .

(4)

(ق): «طباعا معتبرا» . وهو تحريف.

ص: 1290

تتميزُ درجةٌ عن درجةٍ

(1)

ويبقى اختلافُها بعد حركة المتحرِّك في سَمْتِها؟!

فكيف يقيسُ الطبيعيُّ على هذه الأصول ويُنْتِجُ منها نتائجَ ويحكمُ بحسبها

(2)

أحكامًا؟!

فكيف أن يقول بالحدود التي تجعلُ

(3)

خمسَ درجاتٍ من برج الكوكب

(4)

وستَّةً لآخَر وأربعةً لآخَر، ويختلفُ فيها المصريُّون والبابليُّون، ويصدُق الحكمُ مع الاختلاف؟!

[وجعلوا أربابَ البيوت كأنها مُلَّاك، والبيوتَ]

(5)

كأنها أملاكٌ تثبتُ بصكوكٍ وحُكام

(6)

؛ الأسدُ للشَّمس، والسَّرطانُ للقمر!

وإذا نظر الناظرُ وجَد الأسدَ أسدًا من جهة كواكبَ شكَّلوها بشكل الأسد، ثمَّ انتقلت عن موضعها [وبقي الموضعُ أسدًا، وجعلوا الأسدَ للشَّمس وقد ذهبَت عنه الكواكبُ] التي كان بها أسدًا، كأنَّ [ذلك] المُلْكَ يثبتُ

(7)

للشَّمس

(1)

«المعتبر» : «فبماذا تتميز بروجه ودرجه» .

(2)

(ق): «بحسنها» . وهو تحريف.

(3)

مهملة في (د). وفي «المعتبر» : «يجعل» . «شرح نهج البلاغة» : «ويجعل» . والمثبت من (ت، ق).

(4)

كذا في الأصول و «المعتبر» و «شرح النهج» . ولعله: «من برجٍ لكوكب» .

(5)

الزيادة من «شرح النهج» . وبدلها في مطبوعة «المعتبر» : «وأرباب البيوت» . وفي الأصول: «وأرباب البيوتات» (الكلمة الثانية مهملة في د، وتحرفت في ق وت إلى: اليبوسات).

(6)

«شرح النهج» : «وأحكام» .

(7)

«المعتبر» : «ثبت» . «شرح النهج» : «بيت» . وهي مهملة في (ق). والمثبت من (د، ت).

ص: 1291

مع انتقال السَّاكن، وكذلك السرطانُ للقمر! هذا مِن ظواهر الصِّناعة وما لا يُمارى فيه، ومَنْ طالعُه الأسدُ فالشَّمس كوكبُه وربَّةُ بيته.

ومن الدقائق في الحقائق النجومية: [الدرجاتُ] المذكَّرة والمؤنَّثة، والمظلمةُ والنيِّرة، والزائدةُ في السَّعادة

(1)

، ودَرَج الآثار، مِن جهة أنها أجزاءُ الفلك التي قطَّعوها وما انقطعت، مع انتقال ما ينتقلُ من الكواكب إليها وعنها!

ثمَّ يُنْتِجُون من ذلك نتائج الأنظار، من أعداد الدَّرَج وأقسام الفلَك، فيقولون

(2)

: إنَّ الكوكبَ ينظرُ إلى الكوكب من ستين درجةً نظرَ تسديس؛ لأنه سُدْسُ الفلك، ولا ينظرُ إليه من خمسين ولا سبعين، وقد كان قبل السِّتين بخمس دَرَجٍ وهو أقربُ من ستِّين وبعدها بخمس دَرَجٍ وهو أبعدُ من الستين لا يَنْظُر!

فليت شِعْري ما هو هذا النظر؟! أترى الكوكبَ يظهرُ للكوكب ثمَّ يحتجبُ عنه؟! أو شعاعُه يختلطُ بشعاعه عند حدٍّ لا يختلطُ به قبله ولا بعده؟!

وكذلك التربيع من الرُّبع الذي هو تسعون درجة، والتثليث من الثُّلث الذي هو مئةٌ وعشرون، فلم لا يكونُ التخميسُ من الخُمس، والتسبيع من السُّبع، والتعشيرُ من العُشر؟!

[ثم يقولون]

(3)

: الحَمَلُ حارٌّ يابسٌ من البروج الناريَّة، والثورُ باردٌ

(1)

«المعتبر» : «والزيادة في السعادة» . والمثبت من الأصول و «شرح النهج» .

(2)

من قوله: «ما ينتقل من الكواكب» إلى هنا ساقط من (ق).

(3)

من «شرح النهج» . وفي «المعتبر» والأصول: «والحمل» .

ص: 1292

يابسٌ من الأرضيَّة، والجوزاء حارٌّ رطبٌ من الهوائيَّة، والسرطان باردٌ رطبٌ من المائيَّة! ما قال الطبيعيُّ قطُّ هذا، ولا يقولُ به.

وإذا احتجُّوا وقاسوا كانت مباداءُ قياساتهم أنَّ الحَمَلَ برجٌ منقلب؛ لأنَّ الشَّمس إذا نزلت فيه ينقلبُ الزمانُ من الشِّتاء إلى الربيع، والثَّورَ ثابتٌ؛ لأنه إذا نزلت الشَّمس فيه يثبتُ الربيعُ على ربيعيَّته.

والحقُّ أنه لا انقلابَ في الحَمَل، ولا ثباتَ في الثَّور

(1)

، بل هو في كلِّ يومٍ غيرُ ما هو في الآخر.

ثمَّ [هَبْ] أنَّ الزمانَ انقلب بحلول الشَّمس فيه، وهو يبقى دهرَه منقلبًا مع خروج الشَّمس منه وحلولها فيه

(2)

، أتراها تُخلِفُ فيه أثرًا أو تُحِيلُ منه طباعًا، وتبقى تلك الاستحالةُ إلى ما تعود فتجدِّدها؟!

ولم لا يقولُ قائل: إنَّ السرطان حارٌّ يابس؛ لأنَّ الشَّمس إذا نزلت فيه يشتدُّ حرُّ الزمان، وما يُجانِسُ هذا مما لا يلزمُ لا هو ولا ضدُّه؟!

ما في الفلك اختلافٌ يعرفُه

(3)

الطبيعيُّ إلا بما فيه من الكواكب ومواضعها، وهو واحدٌ متشابهُ الجوهر والطَّبع.

وهذه أقوالٌ قالها قائل، فقَبِلَها قابل، ونقلها ناقل، فحَسُنَ بها ظنُّ السامع، واغترَّ بها من لا خبرةَ له ولا قدرةَ له على النظر، ثمَّ حكمَ بحسبها

ص: 1293

الحاكمون بجيِّدٍ ورديء، وسلبٍ وإيجاب، وبتٍّ وتجويز

(1)

؛ فصادفَ بعضُه موافقةَ الوجود فصَدَق، فاغترَّ به المغترُّون

(2)

، ولم يلتفتوا إلى ما كذَبَ منه فيكذِّبون

(3)

، بل عَذَروا، وقالوا: هو منجِّم، ما هو نبيٌّ حتى يصدُق في كلِّ ما يقول! واعتذروا له بأنَّ العلمَ أوسعُ من أن يحيط به، ولو أحاط به لصدَق في كلِّ شيء!

ولعمرُ الله إنه لو أحاط به علمًا صادقًا لصَدَق، والشأنُ أن يحيط به على الحقيقة، لا على أن يَفْرِض فرضًا ويتوهَّم وهمًا، فينقله إلى الوجود، ويُثْبِتَه في الموجود

(4)

، وينسبَ إليه، ويقيسَ عليه.

والذي يصحُّ منه

(5)

ويلتفتُ إليه العقلاء هي أشياءُ غير هذه الخُرافات التي لا أصل لها، مما حصَل بتوقيفٍ أو تجربةٍ حقيقيَّة؛ كالقِرانات، والانتقالات، والمقابلة

(6)

من جملة الاتصالات، فإنها كالمقارنة

(7)

مِن جهة أنَّ تلك غايةُ القُرب وهذه غايةُ البُعد، وممَرِّ كوكبٍ من المتحيِّرة تحت كوكبٍ من الثابتة، وما يَعْرِضُ

(8)

للمتحيِّرة من رجوعٍ واستقامة، وارتفاعٍ

(9)

(1)

مهملة في (د). وفي (ق، ت): «ونحوس» . وهو تحريف. والمثبت من «المعتبر» .

(2)

«المعتبر» : «فاعتبر به المعتبرون» . وفي «شرح النهج» : «فيعتبر به المعتبرون» .

(3)

«شرح النهج» : «فيكذبوه» .

(4)

(ت): «الوجود» .

(5)

أي: علم أحكام النجوم.

(6)

(ت): «والمقابلات» .

(7)

في الأصول: «المقارنة» . وفي «المعتبر» : «كالمقاربة» . والمثبت من «شرح النهج» .

(8)

في الأصول: «يفرض» . وهو تحريف. والمثبت من «المعتبر» .

(9)

في الأصول: «ورجوع» . وهو تحريف. والمثبت من «المعتبر» .

ص: 1294

في شمالٍ وانخفاضٍ في جنوب، وغير ذلك.

وكأني أريدُ أن أختصر الكلام هاهنا وأوافِقَ إشارتَك، وأعملَ بحسب اختيارك رسالةً في ذلك أذكرُ ما قيل فيها في علم أحكام النجوم من أصولٍ حقيقيَّةٍ أو مجازيَّةٍ أو وهميَّةٍ أو غلَطيَّةٍ وفروعٍ ونتائجَ

(1)

أُنتِجَت عن تلك الأصول، وأذكرُ الجائزَ من ذلك والممتنع، والقريبَ والبعيد، فلا أردُّ علمَ الأحكام من كلِّ وجهٍ كما ردَّه من جَهِلَه، ولا أقبلُ منه

(2)

كلَّ قولٍ كما قَبِلَه من لم يَعْقِلْه، بل أوضِّحُ موضعَ القبول والردِّ في المقبول [والمردود]، وموضعَ التَّوقيف والتَّجويز، والذي من المنجِّم

(3)

والذي من التنجيم، والذي منهما.

وأوضِّحُ لك أنه لو أمكَن الإنسانَ [الواحدَ] أن يحيط بشكل كلِّ ما في الفلك

(4)

علمًا لأحاط علمًا بكلِّ ما يحويه الفلك؛ لأنَّ منه مباداء الأسباب، لكنه لا يمكنُ ويَبْعُدُ عن الإمكان بعدًا عظيمًا؛ والبعضُ الممكنُ منه لا يهدي

(5)

إلى بعض الحُكم، لأنَّ البعض الآخر المجهولَ قد يناقِضُ المعلومَ في حُكمه، ويُبْطِلُ ما يُوجِبه، فنسبةُ المعلوم إلى المجهول من الأحكام كنسبة المعلوم إلى المجهول من الأسباب، وكفى بذلك بُعدًا». انتهى كلامه

(6)

.

(1)

في الأصول: «وفروع نتائج» . والمثبت من «المعتبر» .

(2)

في الأصول: «فيه» . والمثبت من «المعتبر» .

(3)

(ت): «والذي من المنهج والذي من المنجم» .

(4)

(ت): «بكل ما في الفلك» .

(5)

في الأصول: «يهتدي» . والمثبت من «المعتبر» .

(6)

«المعتبر» (2/ 232 - 236).

ص: 1295

ولو ذهبنا نذكرُ مَنْ ردَّ عليهم من عقلاء الفلاسفة والطبائعيِّين والرِّياضيِّين لطال ذلك جدًّا، هذا غير ردِّ المتكلِّمين عليهم، فإنَّا لا نقنعُ به ولا نرضى أكثرَه؛ فإنَّ فيه من المكابرات والمُنُوع الفاسدة والسُّؤالات الباردة والتطويل الذي ليس تحته تحصيلٌ ما يضيِّعُ الزمانَ في غير شيء

(1)

، وكان تركُهم لهذه المقابلة خيرًا لهم منها، فإنهم لا للتوحيد والإسلام نَصَرُوا، ولا لأعدائه كَسَرُوا. والله المستعان وعليه التكلان.

فصل

فلنرجع إلى كلام صاحب الرِّسالة.

قال: «وزعموا أنَّ القمر والزُّهَرة مؤنَّثان، وأنَّ الشَّمس وزُحَل والمشتري والمرِّيخ مذكَّرة، وأنَّ عطارد ذكرٌ أنثى مشاركٌ للجنسين جميعًا وأنَّ سائر الكواكب تُذكَّرُ وتُؤنَّثُ بسبب الأشكال التي تكونُ لها بالقياس إلى الشَّمس.

وذلك أنها إذا كانت مشرِّقةً متقدِّمةً للشمس فهي مذكَّرة، وإن كانت مغرِّبةً تابعةً كانت مؤنَّثة، وأنَّ ذلك أيضًا يكونُ بالقياس إلى أشكالها إلى الأفق، وذلك أنها إذا كانت في الأشكال التي من المشرق إلى وسط السماء أو من المغرب إلى ما يقابلُ وسطَ السماء

(2)

مما تحت الأرض فهي مذكَّرة؛ لأنها إذا كانت شرقيَّةً فهي من ناحية مَهَبِّ الصَّبا، وإذا كانت في الرُّبعَيْن

(1)

وشهد بهذا شاهدٌ من أهلهم! قال الآمدي في «غاية المرام» (210): «قد أكثر الأصحاب [أي: الأشاعرة] في الردِّ عليهم [أي: المنجِّمين] بأسئلةٍ باردة، واستفساراتٍ جامدة، وإلزاماتٍ لا ثبوت لها على محكِّ النظر، تليقُ بمناظرة العامة والصبيان، فسادُها يظهر ببديهة العقل لمن له أدنى تحصيل

»!.

(2)

«أو من المغرب إلى ما يقابل وسط السماء» ساقط من (ق).

ص: 1296

الباقيين فهي مؤنَّثة؛ لأنها في ناحية مَهَبِّ الدَّبور.

وإذا كان هذا هكذا صارت الكواكبُ التي يقال: «إنها مؤنَّثةٌ» مذكَّرةً، والتي يقال:«إنها مذكَّرةٌ» مؤنَّثةً، وصارت طباعُها تستحيل

(1)

، بل تصيرُ أعيانُها تنقلب؛ فإنَّ القمرَ

(2)

والزُّهَرة مؤنَّثان والكواكبَ الخمسة الباقية مذكَّرةٌ على الموضع

(3)

الأول، فإن تقدَّم القمرُ والزُّهَرة الشَّمس وكانا مُشرِّقَيْن صارا مذكَّرين، وإن تأخَّرت الكواكبُ الخمسةُ وكانت مُغرِّبةً تابعةً كانت مؤنَّثةً على الموضع

(4)

الثاني، ويصيرُ عطاردُ ذكرًا إذا شرَّق، أنثى إذا غرَّب، ذكرًا أنثى إذا لم يكن بأحد هاتين الصفتين».

قلت: وقد أجاب بعض فضلائهم عن هذا الإلزام، فقال: ليس ذلك

(5)

بممكن؛ لأنا قد نقول: إنَّ الأدكنَ أبيض إذا قِسناه إلى الأسود، ونقول: إنه أسودُ إذا قِسناه إلى الأبيض، وهو شيءٌ واحدٌ بعينه، مرَّةً يكونُ أسود، ومرَّةً يكونُ أبيض، وهو في نفسه لا أسودُ ولا أبيض، وكذلك الكواكب، يقال: إنها ذُكرانٌ وإناثٌ بالقياس إلى الأشكال ــ أعني: الجهات ــ، والجهات إلى الرياح، والرياح إلى الكيفيَّات، لا أنها ذكرانٌ وإناث

(6)

.

(1)

أي: تتغير. (ق): «مستحيل» . (ت): «يستحيل» . والحرف الأول مهملٌ في (د). والمثبت أشبه.

(2)

في الأصول: «ان القمر» . والمثبت أولى.

(3)

(د): «الموضوع» .

(4)

(د، ق): «الموضوع» .

(5)

أي: صيرورة الكواكب التي يقال: «إنها مؤنثة» مذكرة، والعكس، واستحالة طباعها، وانقلاب أعيانها.

(6)

أي: في أنفسها. وفي الأصول: «لأنها ذكران وإناث» . وهو تحريف. وعلى الصواب في «روح المعاني» (12/ 101).

ص: 1297

وهذا تلبيسٌ منه؛ فإن الأدكنَ فيه شائبةُ البياض والسَّواد، فلذلك صدَق عليه اسمُهما؛ لأن الكيفيَّتين محسوستان فيه، فتكيُّفه بهما أوجب أن يقال عليه الاسمان.

وأمَّا تقسيمُ الكواكب إلى الذُّكور والإناث، فهي قسمةٌ وضعتم فيها تمييز كلِّ نوعٍ عن الآخر بحقيقته وطبيعته وحدِّه

(1)

، وقلتم: البروجُ تنقسمُ إلى ذكورٍ وإناثٍ قسمةً تميَّز فيها عن قسمٍ غيرُ قسمِه

(2)

، لا أنَّ حقيقتها متركبةٌ من طبيعتين ذكوريَّةٍ وأنوثيَّة بحيث يصدُقان على كلِّ برجٍ برج. فنظيرُ ما ذكرتم من الأدكن أن يكون كلُّ برجٍ ذكرًا وأنثى. فأين أحد البابين من الآخر لولا التلبيسُ والمحال؟!

وأيضًا؛ فانقسامُها إلى الذُّكور والإناث انقسامٌ بحسب الطبيعة والتأثير والتأثُّر الذي هو الفعل والانفعال، وما كان كذلك لم تنقلب حقيقتُه وطبيعتُه بحسب الموضع والقُرب والبُعد.

قال صاحب الرِّسالة: «وزعموا أنَّ القمرَ منذ الوقت الذي يُهِلُّ فيه إلى وقت انتصافه الأول في الضوء يكونُ فاعلًا للرطوبة خاصَّة، ومنذ وقت انتصافه الأول في الضوء إلى وقت الامتلاء يكونُ فاعلًا للحرارة، ومنذ وقت الامتلاء إلى وقت الانتصاف الثاني في الضوء يكونُ فاعلًا لليُبس، ومنذ وقت الانتصاف إلى الوقت الذي يخفى فيه ويفارقُ الشَّمس يكونُ فاعلاً للبرودة.

(1)

«وحدِّه» ليست في (ق).

(2)

(ت): «عن قسم عن غير قسمة» . (ط): «تميز فيها قسم عن قسم» .

ص: 1298

وأيُّ شيءٍ أقبحُ من هذا؟! ولا سيَّما وقد أعطى قائلُه أن القمرَ رطبٌ، وأنه يفعلُ بطبعه لا باختياره، وكيف [يمكن] أن يفعلَ شيءٌ واحدٌ بطبعه الأشياءَ المتضادَّة مرةً في الدهر، فضلًا عن أن يفعلها في كلِّ شهر؟! وهل القولُ بأن شيئًا واحدًا يفعلُ بطبعه الترطيبَ في وقتٍ، ويفعلُ بطبعه التجفيفَ في آخر، ويفعلُ الإسخانَ في وقتٍ، ويفعلُ التبريدَ في آخر= إلا كالقول بأنَّ شيئًا واحدًا تنقلبُ عينُه وقتًا بعد وقت؟!».

قلت: قد قالوا: إنَّ الشَّمس لما كانت تفعلُ هذه الأفاعيل بحسب صُعودها وهبوطها في فلَكها، فإنها إذا كانت من خمسة عشر

(1)

درجةً من الحوت إلى خمسة عشر من الجوزاء فعلَت التَّرطيب، وهو زمانُ الرَّبيع، وكذلك من خمسة عشر درجةً من الجوزاء إلى خمسة عشر درجةً من السُّنبلة تفعلُ التَّسخين، وهو زمان القَيظ، ومن خمسة عشر درجةً من السُّنبلة إلى خمسة عشر درجةً من القوس تفعلُ التجفيف، وهو زمان الخريف

(2)

، وكذلك من خمسة عشر درجةً من القوس إلى خمسة عشر درجةً من الحوت تفعلُ التبريد، وهو زمانُ الشتاء، وهذا دورُها في الفلَك مرَّةً في العام، والقمرُ يدورُه

(3)

في شهرٍ واحد= صارت نسبةُ دور القمر في الفلَك كنسبة دور الشَّمس فيه، فكانت نسبةُ الشَّهر إلى القمر كنسبة السَّنة إلى الشَّمس، فالشَّهر يجمعُ الفصولَ الأربعة كما تجمعُه السَّنة، وما تفعلُه الشَّمس في كلِّ تسعين يومًا وكسرٍ يفعلُه القمرُ في سبعة أيَّامٍ وكَسْر.

(1)

كذا في الأصول. ولها نظائر في كتب المصنف. وأصلحها ناشر (ط).

(2)

من قوله: «وكذلك من خمسة عشر درجة من الجوزاء» إلى هنا ساقط من (ق).

(3)

(ق): «يدور» .

ص: 1299

قالوا: فآخرُ الشَّهر شبيهٌ بالشتاء، وأولُه شبيهٌ بالربيع، والرُّبع الثاني من الشَّهر شبيهٌ بالصَّيف، والرُّبع الثالث منه شبيهٌ بالخريف.

فهذا غايةُ ما قرَّروا به هذا الحكم.

قالوا: وأمَّا كونُ الشيء الواحد سببًا للضِّدَّين، فقد نصَّ

(1)

أرسطاطاليس في كتاب «السَّماع الطبيعي»

(2)

على جوازه.

والجوابُ عن هذا: أنَّ الشَّمس ليست هي السَّببَ الفاعل لهذه الطبائع المختلفة، وإنما قربُها وبعدُها وارتفاعُها وانخفاضُها أثَّر في سخونة الهواء وتبريده، وفي تحلُّل البُخارات وتكاثُفها، فيحدُث بذلك في الحيوان والنبات والهواء هذه الطبائعُ والكيفيَّات، والشَّمس جزءُ السَّبب كما قررناه.

وأمَّا القمر، فلا يؤثِّر قربُه ولا بعدُه وامتلاؤه ونقصانه في الهواء كما تؤثِّره الشَّمس، ولو كان ذلك كذلك لكانَ كلُّ شهرٍ من شهور العام يجمعُ الفصولَ الأربعة بطبائعها وتأثيراتها وأحكامها، وهذا شيءٌ يدفعه الحسُّ فضلًا عن النظر والمعقول.

وقياسُ القمر على الشَّمس في ذلك مِن أفسد القياس؛ فإنَّ الفارق بينهما في الصِّفة والحركة والتأثير أكثرُ من الجامع، فالحكمُ على القمر بأنه يُحْدِثُ الطبائعَ الأربعة قياسًا على الشَّمس، والجامعُ بينهما قطعُه للفلَك في كلِّ شهرٍ كما تقطعُه في سنة= لا يعتمدُ عليه من له خبرةٌ بطرق الأدلَّة وصنعة

(1)

في الأصول: «قضى» . وهو تحريف. وسيأتي على الصواب.

(2)

ويُعرف بـ «سمع الكيان» ، وهو ثمان مقالات، وشرَحه جماعة. انظر:«الفهرست» (350، 351، 356)، و «أخبار الحكماء» (41، 52، 53).

ص: 1300

البرهان

(1)

.

وأمَّا قولكم: إنَّ أرسطاطاليس نصَّ في كتابه على أنَّ الواحدَ قد يكونُ سببًا للضِّدَّين، فنحن نذكرُ كلامَه بعينه في كتابه ونبيِّن ما فيه.

قال في المقالة الثانية: «وأيضًا، فإنَّ الواحدَ بعينه

(2)

قد يكونُ سببًا للضِّدَّين، فإنَّ الشيء الذي بحضوره يكونُ أمرٌ من الأمور فغيبتُه قد تكونُ سببًا لضدِّه، فيقالُ [في] ذلك: إنَّ غيبةَ الرُّبَّان سببُ غرق السَّفينة، وهو الذي كان حضورُه سببَ سلامتها».

فتأمَّل هذا الكلام، وقابِل بينه وبين كلامهم في فِعل القمر الأمورَ المضادَّة يظهَرْ لك تلبيسُ القوم وجهلُهم؛ فإنَّ نظيرَ

(3)

ذلك بطلانُ هذه الطبائع والكيفيَّات عند انقطاع تعلُّق القمر بهذا العالَم، كما بطلَ عملُ السفينة وجَرْيُها عند غيبة الرُّبَّان عنها وانقطاع تعلُّقه بها، فلم يكن الرُّبَّانُ هو سببَ الغرق الذي هو ضدُّ السَّلامة، كما كان القمرُ سببًا لليُبس الذي هو ضدُّ الرطوبة وللحرارة التي هي ضدُّ البرودة، وإنما كانت أسبابُ الغرق غلبةَ

(4)

إحدى الأسباب التي كان الرُّبَّانُ يمنعُ فعلَها، فلمَّا غاب عنها عَمِلَ ذلك السَّببُ عملَه فغَرِقَت.

وهذا أوضحُ مِن أن يحتاج إلى تقرير

(5)

، ولكنَّ الأذهانَ التي قد

(1)

(ت): «وصيغة البرهان» . (ق): «وصفة البرهان» .

(2)

«بعينه» ليست في (ق).

(3)

مهملة في (د). (ق، ت): «انظر» . وهو تحريف.

(4)

(ت): «عليه» .

(5)

(ت): «دليل» .

ص: 1301

اعتادت قبولَ المُحالات قد تحتاجُ في علاجها إلى ما لا يحتاجُ إليه غيرُها، وبالله التوفيق.

قال صاحب الرسالة: «وقالوا في معرفة أحوال أمَّهات المدن: إنَّ ذلك يُعْلَمُ من المواضع التي فيها الشَّمس والقمرُ في أول ابتنائها

(1)

ومواضع الأوتاد منها، خاصةً وتدَ الطالع، كما يُفْعَلُ في المواليد، فإن لم يوقَف على الزَّمان الذي ابتُنِيَت

(2)

فيه فليُنْظَر إلى موضع وسط السماء في مواليد الولاة والملوك الذين كانوا في ذلك الزَّمان الذي بُنِيَت فيه تلك المدن».

قلت: ونظيرُ هذا من هذَيانهم قولهم: إنَّا نعرفُ أحوالَ الأب من مولد الابن إذا لم يُعْرَف مولدُ الأب!

قالوا: إنَّ هذا الموضع

(3)

تالٍ في المرتبة للطالع، وهو أخصُّ المواضع بالطالع، كما أنَّ الأبَ أخصُّ الأشياء بالابن، فكذلك أخصُّ الأشياء بالمَلِك مملكتُه، فموضعُ وسط سمائه يدلُّ على مدينته وأحوالها.

وكلُّ عاقلٍ يعلمُ بطلانَ هذه الدلالة وفسادَها، وأنه لا ارتباط بين طالع المدينة وطالع السُّلطان، كما لا ارتباط بين طالع ولادة الابن وطالع ولادة أبيه، وإنما هذه تشبيهاتٌ بعيدة

(4)

، ومناسباتٌ في غاية البُعد.

قال صاحبُ الرِّسالة: «وقالوا في معرفة حال الوالدين: إنَّ الشَّمس

(1)

(ت): «ابتدائها» .

(2)

(ت): «أثبتت» .

(3)

(ت)«المولد» .

(4)

«بعيدة» ليست في (ت).

ص: 1302

وزُحَل يشاكلان الآباءَ بالطبع

(1)

. ولستُ أدري كيف تُعْقَلُ

(2)

دلالةُ شيءٍ ليس مما يتوالدُ بطبعه على شيءٍ من طريق التوالد؛ لأنَّ الأبَ إنما يكونُ أبًا بإضافته إلى ابنه، والابنُ إنما يكونُ ابنًا بإضافته إلى أبيه.

وإنهم يستدلُّون

(3)

على حال الأولاد بالقمر والزُّهَرة والمشتري، وإنَّ أحوالَ الأب تُعْرَفُ من مولد ابنه

(4)

، بأن يقامَ موضعُ الكوكب الدَّالِّ عليه ــ وهو الشَّمس أو زُحَل ــ مقامَ الطالع، ويُستَدلُّ على حال الابن من مولد أبيه، بأن يقامَ موضعُ الكوكب الدَّالِّ عليه ــ وهو أحدُ الكواكب الثلاثة: القمر والمشتري والزُّهَرة ــ مقامَ الطالع.

وقد يكونُ الإنسانُ في أكثر الأوقات أبًا، فتكونُ الشَّمس أو زُحَل تدلُّ عليه من مولد ابنه، وله في نفسه مولدٌ لا محالة، ويمكنُ أن يكون ربُّ طالعِ مولدِه كوكبًا غير الكوكبين الدَّالَّة على حاله من مولد أبيه وابنه، فيكونُ حالُه يُعْرَفُ من ثلاثة كواكبَ وثلاثة بروجٍ مختلفة الأشكال والطبائع!

وتناقضُ هذا القول بيِّنٌ لمستعمِله فضلًا عن متوهِّمه».

قلت: قد قالوا في الجواب عن هذا: إنه لا تناقض فيه، بل هو حقٌّ واجب.

قالوا: إذا أردنا أن نعرف حالَ سقراطَ مثلًا من حيثُ هو إنسان، أليس

(1)

(ت): «متشاكلان بالطبع» .

(2)

مهملة في (د). (ق): «يفعل» . (ت): «تفعل» . والمثبت من (ط).

(3)

معطوف على ما قبله. أي: وقالوا: إنهم يستدلون.

(4)

(ق): «مواليد ابنه» . وهو خطأ.

ص: 1303

يُنْظَرُ إلى ما يخُصُّ الحيوانَ والإنسانَ الكلِّي، وإذا أردنا أن نعرف حالَه من حيث هو أبٌ أن يُنْظَرَ إلى المضاف وما يلحقُه، وإذا أردنا أن نعرف حالَه من حيث هو عَدْلٌ

(1)

يُنْظَرُ إلى الكيفية وما يخصُّها، والأولُ جوهر، والباقي أعراض، وسقراطُ واحد، ونعرفُ أحوالَه من مواضع مختلفة متباينة، مرَّةً يكونُ جوهرًا ومرَّةً يكونُ عَرَضًا؟

فكذلك إذا أردنا أن نعرف حالَه من مولده نظرنا إلى الطالع وربِّه، وإذا أردنا أن نعرف حالَه من مولد أبيه نظرنا إلى العاشر

(2)

والشَّمس، وكذلك إذا أردنا أن نعرف حالَه من مولد ابنه نظرنا إلى موضعٍ آخر، وليس ذلك متناقضًا كما أنَّ الأول ليس متناقضًا.

فيقال: هذا تشبيهٌ

(3)

فاسد، واعتبارٌ باطل؛ فإنَّ نظركم في طالع الأب لتستدلُّوا به

(4)

على حال الولد، ونظرَكم في الطالع

(5)

لتستدلُّوا به على حال الأب، هو استدلالٌ على شيءٍ واحد، وحكمٌ عليه بسببٍ لا يقتضيه ولا يقارنه

(6)

، فأين هذا مِن تعرُّف إنسانيَّة سقراط وأبوَّته وعدالته وعلمه مثلًا وطبيعته؟! فإنَّ هذه أحوالٌ مختلفة، لها أدلَّةٌ وأسبابٌ مختلفة، فنظيرُها: أن تُعْرَفَ حالُ الولد من جهة سعادته ونَحْسِه

(7)

وصحَّته وسقمه مِن طالعه،

(1)

(ط): «عالم» .

(2)

لعل المراد: البرج العاشر، وهو الجدي، وهو بيت زحل.

(3)

(ق): «تنبيه» . وهو تحريف.

(4)

في الأصول: «وان نظرنا في طالع الأب ليستدلوا به» . والمثبت أشبه.

(5)

أي: طالع الولد.

(6)

في الأصول: «يفارقه» . والمثبت أشبه.

(7)

في الأصول: «ومحبته» . وهو تحريف.

ص: 1304

وحالُه من جهة ما يناسبه من الأغذية والأدوية مِن مزاجه، وحالُه من جهة أفعاله ورئاسته مِن أخلاقه؛ كالحياء والصَّبر والبَذل، وحالُه من جهة اعتدال مزاجه مِن اعتدال أعضائه وتركيبه وصورته؛ فهذه أحوالٌ بحسب اختلاف أسبابها.

فأين هذا مِن أخذِ حال الولد وعمره وسعادته وشقاوته من طالع أبيه، وبالعكس؟!

فالله يُعِينُ العقلاءَ على تلبيسكم ومحالكم، ويثبِّتُ عليهم ما وَهَبهم من العقول التي رَغِبَ بها

(1)

ورَغِبوا بها عن مثل ما أنتم عليه.

قال: «وزعمَ بَطْليموس أنَّ الفلَك إذا كان على شكلٍ ما ذَكَره، في مولدٍ ما، وكانت الكواكبُ في مواضعَ ذَكَرها؛ وجبَ أن يكونَ الولدُ أبيضَ اللون سَبِطًا، وإن وُجِدَ مولودٌ في بلاد الحبشة والفلَك متشكِّلٌ على ذلك الشَّكل والكواكبُ في المواضع التي ذَكَرها لم يَمْضِ ذلك الحكمُ عليه، ومضى على المولود إن كان من الصَّقالبة أو مَن قَرُبَ مزاجُه من مزاجهم.

وزعمَ أنَّ الفلَك إذا كان على شكلٍ ما ذَكَره، في مولدٍ ما، وكانت الكواكبُ في مواضعَ ذَكَرها؛ فإنَّ صاحبَ المولد يتزوَّجُ أختَه إن كان مصريًّا، فإن لم يكن مصريًّا لم يتزوَّجها.

وزعمَ أنَّ الفلَك إذا كان على شكلٍ آخر ذَكَره، في مولدٍ من المواليد، وكانت الكواكبُ في مواضع بيَّنها

(2)

؛ تزوَّجَ الولدُ بأمِّه إن كان فارسيًّا، وإن

(1)

(ق، د): «رغبت» .

(2)

في الأصول: «موضع بينهما» . وهو تحريف. ومضت نظائره على الصواب.

ص: 1305

لم يكن فارسيًّا لم يتزوَّجها.

وهذه مناقضةٌ شنيعة؛ لأنه ذَكَر علَّةً ومعلولًا يوجدُ بوجودها، ويرتفعُ بارتفاعها، ثمَّ ذَكَر أنها توجدُ من غير أن يوجدَ معلولُها».

قلت: أربابُ هذا الفنِّ يقولون: لا بد من معرفة الأصول التي يحكمُ عليها؛ لئلَّا يغلَط الحاكمُ ويذهبَ كلامُه هدرًا إن لم يعرِف الأصول، وهي: الحِسُّ

(1)

، والشريعة، والأخلاق، والعادات، مما يحتاجُ المنجِّم إلى تحصيلها، ثمَّ يحكم عليها

(2)

.

وكذلك قال بَطْليموس: إنه يجبُ على المنجِّم النظرُ في صور الأبدان وخواصِّ حالات الأنفُس، واختلاف العادات والسُّنن.

قال: ويجبُ على من نظر في هذه الأشياء على المذهب الطبيعيِّ أن يتشبَّث أبدًا بالسَّبب الأول الصحيح؛ لئلَّا يغلَط بسبب اشتباه المواليد

(3)

، فيقول مثلًا: إنَّ المولودَ في بلاد الحَبَش يكونُ أبيض اللون سَبِطَ الشَّعر، وإنَّ المولودَ في بلاد الروم أسود اللون جَعْدُ الشَّعر، أو يغلَط أيضًا في السُّنن والعادات التي يُخَصُّ بها بعضُ الأمم في الباه

(4)

، فيقول مثلًا: إنَّ الرجلَ من أهل أنطاكيا يتزوَّجُ بأخته، وكان الواجبُ أن ينسبَ ذلك إلى الفارسيِّ.

(1)

(ق، د): «الجنس» . وهو تحريف.

(2)

انظر: «شرح نهج البلاغة» (6/ 211).

(3)

(ت): «المولد» .

(4)

النكاح. وفي الأصول: «الباهلي» . والمثبت من (ط). ووقع في «صفة جزيرة العرب» للهمداني (48) نقلًا عن بَطْليموس في سياقٍ آخر: «الباهية» . والباهيَّة نسبة إلى الباه، وتوصف بها بعض الأدوية والأغذية.

ص: 1306

وفي الجملة؛ ينبغي أن يأخُذ أوَّلًا

(1)

حالات القضاء الكلِّي، ثمَّ يأخُذ حالات القضاء الجزئي؛ ليعلمَ منها حالات الأمر

(2)

في الزِّيادة والنقصان.

وكذلك يجبُ ضرورةً أنْ يقدِّم في قسمة الأزمان أصنافَ الأسنان

(3)

الزمانية، وموافقتَها لكلِّ واحدٍ من الأحداث، وأن يتفقَّد أمرَها؛ لئلَّا يغلطَ في وقتٍ من الأوقات في الأعراض العامِّية البسيطة التي ينظرُ فيها في المواليد، فيقول: إنَّ الطفلَ يباشرُ الأعمالَ أو يتزوجُ أو يفعلُ شيئًا من الأشياء التي يفعلُها من هو أتمُّ سنًّا منه، وإنَّ الشيخَ الفاني يُولَدُ أو يفعلُ شيئًا من أفعال الأحداث.

وهذا ونحوه يدلُّ على أنَّ الأمورَ وغيرها إنما هي بحسب اختلاف العوائد والسُّنن والبلاد وخواصِّ الأنفس، واختلافُ الأسنان والأغذية وقُواها أيضًا فيها تأثيرٌ قوي، وكذا الهواءُ والتُّربةُ واللباسُ وغيرها، كلُّ هذه لها تأثيرٌ في الأخلاق والأعمال، وأكبرُها: العوائدُ، والمَرْبا، والمنشأ.

فإحالةُ هذه الأمور على الكواكب والطالع والمقارنة والمفارقة والمناظرة

(4)

من أبين الجهل، ولهذا اضطرَّ إمامُ المنجِّمين ومعلِّمهم

(5)

إلى

(1)

(ق): «أن أو لا» .

(2)

(د، ق): «ليعلم منها الأمر» .

(3)

(ت): «الإنسان» . (ق): «الأشنان» .

(4)

في الأصول: «والناظر» . والمثبت أشبه.

(5)

وهو بَطْليموس. قال القفطي في ترجمته من «أخبار الحكماء» (130): «وما أعلم أحدًا بعده تعرَّض لتأليف مثل كتابه المعروف بالمجسطي، ولا تعاطى معارضته، بل تناوله بعضهم بالشرح والتبيين

، وإنما غاية العلماء بعده التي يجرون إليها، وثمرة عنايتهم التي يتنافسون فيها: فهم كتابه على مرتبته، وإحكام جميع أجزائه على تدريجه

».

ص: 1307

مراعاة هذه الأمور، وأخبرَ أنَّ الحاكمَ بدون معرفتها والتشبُّث بها يكونُ مخطئًا.

وحينئذٍ، فالطالعُ المعتبر المؤثِّر إنما هو طالعُ العوائد والسُّنن والبلاد، وخواصِّ هيآت النفوس الإنسانية، وقُوى أغذية أبدانها وهوائها وتربتها، وغير ذلك مما هو مشاهدٌ بالعيان تأثيرُه في ذلك.

أفليس مِن أبين الجهل الإعراضُ عن هذه الأسباب، والحَوالةُ على حركات النجوم واجتماعها وافتراقها ومقابلتها في تربيعٍ أو تثليثٍ أو تسديسٍ مما لو صحَّ لكان غايتُه أن يكون جزءَ سببٍ من الأسباب التي تقتضي هذه الآثار؟!

ثمَّ إنَّ لها من المقارنات والمفارقات والصَّوارف والعوارض ما لا يحصِي المنجِّمُ القليلَ من عُشر معشاره، أفليس الحكمُ بمجرَّد معرفة جزءٍ من أجزاء السَّبب بالظَّنِّ والحَدْس أو التقليد لمن حَسُنَ ظنُّه به حكمٌ كاذب؟!

ولهذا كذِبُ المنجِّم أضعافُ أضعاف صدقِه بكثير، حتى إنَّ [صِدْق] بعض الزَّرَّاقين، وأصحاب الكشف، وأرباب الفراسة، والحَزَّائين

(1)

، أكثرُ من صدق هؤلاء بكثير

(2)

، وما ذاك إلا لأنَّ المجهول مِن جُمَل

(3)

الأسباب

(1)

هم الكهَّان الناظرون في النجوم. وأصل الحزو: الخرص والتقدير. «اللسان» .

(2)

انظر: «رسائل الشريف المرتضى (2/ 308، 309)، و «البصائر والذخائر» (6/ 101).

(3)

في الأصول: «حمل» . بالمهملة. والمثبت من (ط).

ص: 1308

وما يعارضُها ويمنعُ تأثيرَها أكثرُ من المعلوم منها، فكيف لايقعُ الكذبُ والخطأ؟! بل لا يكادُ يقعُ الصِّدقُ والصوابُ إلا على سبيل التصادف

(1)

.

ونحن لا ننكرُ ارتباطَ المسبَّبات بأسبابها، كما ارتكبه كثيرٌ من المتكلِّمين، وكابروا العِيان، وجحَدوا الحقائق، كما أنَّا لا نرضى بهذَيانات الأحكاميِّين ومحالاتهم، بل نُثْبِتُ الأسبابَ والمسبَّبات والعِللَ والمعلولات، ونبيِّنُ مع ذلك بطلانَ ما يدَّعونه من علم أحكام النجوم وأنها هي المدبِّرةُ لهذا العالم، المُسْعِدةُ المُشْقِية، المُحْيِيةُ المُمِيتة، المعطيةُ للعلوم والأعمال والأخلاق والأرزاق والآجال، وأنَّ نظرَكم

(2)

في هذا العلم موجبٌ لكم

(3)

من علم الغيب ما انفردتم به عن سائر الناس، وليس في طوائف الناس أقلُّ علمًا بالغيب منكم، بل أنتم أجهلُ الناس بالغيب على الإطلاق!

ومن اعتبرَ حال حُذَّاقكم وعلمائكم واعتمادَهم على ملاحمَ

(4)

مُركَّبةٍ من إخبارات بعض الكهَّان، ومناماتٍ وفراساتٍ وقصصٍ متوارثةٍ عن أهل الكتاب وغيرهم، ومَزْج ذلك بتجاربَ حصلت، مع اقتراناتٍ نجوميةٍ

(1)

في الأصول: «التصاديف» . والمثبت من (ط).

(2)

التفات.

(3)

(ت): «يوجب لكم» .

(4)

جمع: ملحمة. وهي تأليفٌ قصصيٌّ منظومٌ - في الغالب - أو نثريٌّ، طويل، في وصف الحروب والوقائع والفتن الماضية والمستقبلة. وفيه كتبٌ كثيرة، والغالب عليها الكذب والخرافة. انظر:«الجامع» للخطيب (2/ 162)، و «مجموع الفتاوى» (4/ 79)، و «زاد المعاد» (3/ 237، 5/ 788)، و «أبجد العلوم» (2/ 518، 519).

ص: 1309

واتصالاتٍ كوكبيَّةٍ يُعْلَمُ بالحساب حصولُها في وقتٍ معيَّن، فقضيتُم بحصول تلك الآثار أو نظيرها عندها، إلى أمثال ذلك من أسباب علم تَقْدِمَة المعرفة

(1)

التي جَرَّبت الناسُ

(2)

منها مثل ما جرَّبتم، فصدقَت تارةً وكذبَت تارة

(3)

.

فغايةُ الحركات النجوميَّة والاتصالات الكوكبيَّة أن تكون كالعِلَل والأسباب المشاهَدة التي تأثيراتُها موقوفةٌ على انضمام أمورٍ أخرى إليها، وارتفاع موانعَ تمنعُها تأثيرَها؛ فهي أجزاءُ أسبابٍ غيرُ مستقلَّةٍ ولا مُوجِبة.

هذا لو أقمتم على تأثيرها [دليلًا]، فكيف وليس معكم إلا الدعاوى وتقليدُ بعضكم بعضًا، واعترافُ حذَّاقكم بأنَّ الذي يُجْهَلُ من بقيَّة الأسباب المؤثِّرة، ومن الموانع الصَّارفة، أعظمُ من المعلوم منها بأضعافٍ مضاعفةٍ لا تدخلُ تحت الوَهْم؟!

فكيف يستقيمُ لعاقلٍ الحكمُ بعد هذا؟! وهل يكونُ في العالم أكذبُ منه؟!

(1)

تقدمة المعرفة بالحوداث قبل وقوعها، بدلائل تدلُّ عليها، منها ما هو صحيحٌ مُفْضٍ إلى المعرفة، وتختلف قوى النَّاس في إدراكه وتحصيله، ومنها ما هو بخلاف ذلك. انظر:«مجموع الفتاوى» (35/ 172، 173)، و «منهاج السنة» (4/ 54)، و «الفهرست» (362، 364، 436)، و «أبجد العلوم» (2/ 14، 29)، وما سيأتي (ص: 1434 - 1437، 1454). ولابن قاضي بعلبك (ت: 675): «شرح تقدمة المعرفة لأبقراط» منه نسخة خطية في جامعة الملك سعود.

(2)

(ق، د): «جرت بين الناس» . وهو تحريف.

(3)

خبر «ومن اعتبر حال حذاقكم

» محذوفٌ، تقديره: عرف ذلك.

ص: 1310

قال صاحب الرِّسالة: «وإذا كان الفلَك متى تشكَّل شكلًا ما، دلَّ إن كان في مولد مصريٍّ على أنه يتزوَّجُ أختَه، فذلك سُنَّةٌ كانت لهم وعادة، وإن كان في مولد غيره لم يدلَّ على ذلك.

ونحن نجدُ أهلَ مصرَ في وقتنا هذا قد زالوا عن تلك العادة، وتركوا تلك السُّنَّة بدخولهم في الإسلام والنصرانيَّة واستعمالهم أحكامَهما.

فيجبُ أن تسقط هذه الدَّلالةُ من مواليدهم لزوالهم عن تلك العادة، أو تكون الدَّلالةُ توجبُ ذلك في مولد كلِّ أحدٍ منهم ومن غيرهم، أو تسقط الدَّلالةُ وتبطُل بزوال أهل مصر عما كانوا عليه، وكذلك جمهورُ أهل فارس. وأيُّ ذلك كان، فهو دالٌّ على قُبْح المناقَضة وشدَّة المغالطة.

وقد رأيتُ وجهَهم بَطْليموس يقول في كتابه المعروف بـ «الأربعة»

(1)

: فيَحْدُسُ على أنه يكون كذا وكذا، ويقول: فإذا كان كذا وكذا توهَّمنا أنه يكونُ كذا وكذا».

قلت: الذي صرَّحَ به بَطْليموس أنَّ علمَ أحكام النجوم بعد استقصاء معرفة ما ينبغي معرفتُه

(2)

إنما هو على جهة الحَدْس لا العلم واليقين.

فمِن ذلك قولُه: «هذا، وبالجملة، فإنَّ جميعَ علم حال هذا العنصر إنما يستقيمُ أن يُلْحَقَ على جهة الظَّنِّ والحَدْس لا على جهة اليقين، وخاصَّةً ما كان منه مركَّبًا من أشياء كثيرةٍ غير متشابهة» .

(1)

ويسمى أيضًا: «المقالات الأربع» . انظر: «تاريخ الأدب العربي» (4/ 95)، و «استدراكات على تاريخ التراث العربي» (8/ 87).

(2)

(ت): «بعد استقصاء معرفته» .

ص: 1311

قال شارحُ كلامه

(1)

: «وإنما ذهبَ إلى ذلك لأنَّ الأفعالَ التي تصدُر عن الكواكب إنما هي بطريق العَرَض، وأنها لا تفعلُ بذواتها شيئًا.

والدليلُ على ذلك قولُه في الباب الثاني من كتاب «الأربعة» : وإذا كان الإنسانُ قد استقصى معرفةَ حركة جميع الكواكب والشَّمس والقمر، حتى إنه لا يذهبُ عليه شيءٌ من المواضع والأوقات التي تحدثُ لها فيها الأشكال، وكانت عنده معرفةٌ بطبائعها قد أخذها من الأخبار المتواترة التي تقدَّمته، وإن لم يعلم طبائعَها في نفس جواهرها، لكن يعلمُ قُواها التي تفعلُ بها، كالعلم بقوَّة الشَّمس أنها تُسَخِّن، وكالعلم بقوة القمر أنها تُرَطِّب، وكذلك يعلمُ أمرَ قُوى سائر الكواكب، وكان قويًّا على معرفة أمثال سائر هذه الأشياء لا على المذهب الطبيعيِّ فقط، لكن يُمْكِنُه أيضًا أن يعلمَ بجودة الحَدْس خواصَّ الحال التي تكون من امتزاج جميع ذلك».

قال الشارح: «وبَطْليموس يرى أنَّ علمَ الأحكام إنما يُلْحَقُ على جهة الحَدْس لا على جهة اليقين» .

قلت: وكذلك صرَّحَ أرسطاطاليس في أوَّل كتابه «السَّماع الطبيعي» أنه لا سبيل إلى اليقين بمعرفة تأثير الكواكب، فقال: «لمَّا كانت حالُ العلم واليقين في جميع السُّبل التي لها مباداءُ أو أسبابٌ أو اسْتُقُصَّات إنما يلزمُ مِن قِبَل المعرفة بهذه

(2)

، فإذا لم تُعرف الكواكبُ على أيِّ جهةٍ تفعلُ هذه

(1)

شرح كتابه هذا جماعة. منهم: ثابت بن قرة الحراني (الآتي ذكره). ومحمد بن جابر البتاني (ت: 317). وعلي بن رضوان الطبيب (ت: 453). انظر: تاريخ الحكماء» (132، 164، 589)، و «أبجد العلوم» (3/ 163)، و «هدية العارفين» (1/ 132)، والمصدرين السابقين.

(2)

«بهذه» ليست في (ت).

ص: 1312

الأفاعيل ــ أعني بذاتها أو بطريق العَرَض ــ، ولم تُعرف ما هيآتُها وذواتها؛ لم تكن معرفتُنا بالشيء [أنه] ينفعل

(1)

على جهة اليقين».

وهذا ثابتُ بن قُرَّة

(2)

ــ وهو ما هو عندهم ــ يقول في كتاب «ترتيب العلم»

(3)

: «وأمَّا علمُ القضاء من النجوم فقد اختلفَ فيه أهلُه اختلافًا شديدًا، وخرج فيه قومٌ إلى ادِّعاء ما لا يصحُّ

(4)

ولا يصدُق، بما لا اتصال له بالأمور الطبيعية، حتى ادَّعوا في ذلك ما هو مِن علم الغيب، ومع هذا فلم يوجد منه إلى زماننا هذا قريبٌ من التمام كما وُجِدَ غيرُه».

هذا لفظُه، مع حُسْن ظنِّه به، وعَدِّه له في العلوم.

وهذا أبو نصر الفارابيُّ يقول: «واعلَم أنك لو قلبتَ أوضاعَ المنجِّمين فجعلتَ السَّعدَ نَحْسًا، والنَّحْسَ سعدًا، والحارَّ باردًا، والباردَ حارًّا، والذَّكرَ أنثى، والأنثى ذكرًا، ثمَّ حكَمْتَ؛ لكانت أحكامُك من جنس أحكامهم، تصيبُ تارةً وتخطاءُ تارة»

(5)

.

وهذا أبو عليِّ ابنُ سينا قد أتى في آخر كتابه «الشفاء» في ردِّ هذا العلم وإبطاله بما هو موجودٌ فيه

(6)

.

(1)

(ت): «تفعل» . وهي مهملة في (ق).

(2)

الحرَّاني، الصاباء، المنجِّم، لم يكن في زمانه من يماثله في الطب والفلسفة (ت: 288). انظر: «الفهرست» (380)، و «السير» (13/ 485).

(3)

لعله كتاب «مراتب العلوم» أو «مراتب قراءة العلوم» . انظر: «أخبار الحكماء» (164)، و «هدية العارفين» (1/ 132).

(4)

في الأصول: «يصلح» . والمثبت من (ط).

(5)

تقدم (ص: 1195).

(6)

راجع ما تقدم (ص: 1182).

ص: 1313

وقرأتُ بخطِّ رِزْق الله المنجِّم

(1)

ــ وكان من زعمائهم ــ في كتاب «المقابسات»

(2)

لأبي حيَّان التوحيديِّ مناظرةً دارت بين جماعةٍ من فضلائهم جمَع جَمْعَهم

(3)

بعضُ المجالس، فذكرتُها ملخَّصةً مما لا يتعلَّقُ بها، بل ذكرتُ مقاصدَها.

قال أبو حيَّان: «هذه مُقَابَسَةٌ دارت في مجلس أبي سليمان محمد ابن طاهر بن بَهْرام السِّجستاني

(4)

، وعنده أبو زكريا الصَّيْمري

(5)

،

(1)

النحاس، المصري، أكبر المنجِّمين بها لعهده، ذكره أبو الصلت أمية بن عبد العزيز في «الرسالة المصرية» (1/ 44 - نوادر المخطوطات)، وعنه القفطي في «أخبار الحكماء» (251). وتقدمت له قصةٌ طريفة (ص: 1195).

(2)

«المقابسات» (4 - 11) عناية ميرزا محمد الشيرازي (وهي النشرة الأولى للكتاب سنة 1306، بالهند)، (120 - 138) تحقيق السندوبي (أعاد نشر الطبعة الهندية مع تصحيح وتعليق)، (57 - 80) تحقيق محمد توفيق حسين (اعتمد على نسخة ليدن، وقطعة من الظاهرية، والطبعة الهندية)، وقد اعتمدتُ على النشرة الأخيرة (الطبعة الثانية 1989، دار الآداب ببيروت)، وانتفعتُ بالأوليين، ورمزتُ للهندية بـ (ز)، ولطبعة السندوبي بـ (س).

وتحرفت «المقابسات» في (ت) إلى: «المقايسات» بالمثناة التحتية.

(3)

«جمع» ليست في (ت).

(4)

المنطقي، عالم بالحكمة والفلسفة والمنطق، أستاذ أبي حيان (في المقابسات: 253 ما يفيد أنه كان حيًّا سنة 371، وفي الطبعة الهندية: سنة 391). انظر: «الفهرست» (369)، و «أخبار الحكماء» (388)، و «الإمتاع والمؤانسة» (1/ 33).

(5)

فيلسوف، له أخبارٌ في كتب أبي حيان، وذكره الشهرستاني في «الملل والنحل» (3/ 34) ضمن المتأخرين من فلاسفة الإسلام (ووقع في بعض طبعاته:«أبا زكريا يحيى بن عدي الصَّيمري» بإسقاط حرف العطف قبل الصيمري، وهو خطأ، ويحيى بن عدي طبيبٌ فيلسوفٌ نصراني، ترجمته في «الفهرست»: 322، و «أخبار الحكماء»: 488، وانظر:«طبقات الشافعية» : 4/ 67).

ص: 1314

والنُّوشْجاني

(1)

أبو الفتح، وأبو محمد العَروضي

(2)

، وأبو محمد المقدسي

(3)

،

والقُومِسي

(4)

، وغلام زُحَل

(5)

، وكلُّ واحدٍ من هؤلاء إمامٌ في شأنه، فردٌ في صناعته.

(1)

في الأصول: «الوسنجاني» . وفي (ط)، و «المقابسات» (نسخة ليدن):«البوشنجاني» . وكلاهما تحريف. وعلى الصواب في «المقابسات» (ز)، و «أخبار الحكماء» (307). وانظر:«الإمتاع والمؤانسة» (2/ 14)، وذيل «تجارب الأمم» للروذراوري (7/ 96، 97). وهي نسبة إلى نُوشْجان، بلدة بفارس. انظر:«الأنساب» (12/ 159)، و «وفيات الأعيان» (5/ 243).

(2)

فيلسوف، لزم يحيى بن عدي المنطقي. انظر:«المقابسات» (131).

(3)

«المقابسات» و «أخبار الحكماء» (307): «وأبو محمد العروضي والمقدسي» . وفي «المقابسات» (ز): «والعروضي أبو محمد المقدسي» ، فجعلهما واحدًا، وهو خطأ. وأحسب «المقدسي» محرَّفًا عن «الأندلسي» ، وأبو محمد الأندلسي من أصحاب أبي سليمان المنطقي وجلسائه، وله ذكرٌ كثير في كتب أبي حيان (ت: 375). انظر: «المقابسات» (88، 112)، و «البصائر والذخائر» (6/ 127، 206، 8/ 200)، و «أخلاق الوزيرين» (370، 397، 401)، و «الصداقة والصديق» (48، 88) ..

(4)

(ق، د): «القوطسي» . (ت): «القوسطي» . وكلاهما تحريف. وعلى الصواب في «المقابسات» ، و «أخبار الحكماء» (307). نسبةً إلى قُومِس، على طريق خراسان. انظر:«الأنساب» (10/ 261)، و «معجم البلدان» . وهو أبو بكر، فيلسوفٌ كبير الطبقة في الفلسفة وعلم الأوائل، حسن البلاغة. انظر:«المقابسات» (84، 85)، و «الإمتاع والمؤانسة» (1/ 32).

(5)

أبو القاسم عبيد الله بن الحسن، منجمٌ حاسب (ت: 376). انظر: «الفهرست» (359)، و «أخبار الحكماء» (306)، و «البصائر والذخائر» (6/ 101).

ص: 1315

فقيل في المجلس: لِمَ خلا علمُ النجوم من الفائدة والثمرة، وليس علمٌ من العلوم كذلك، فإنَّ الطِّبَّ ليس على هذه الحال ــ ثمَّ ذُكِرت فائدتُه والمنفعةُ به، وكذلك الحسابُ والنحوُ والهندسةُ والصَّنائعُ ذُكِرَت وذُكِرَت منافعُها وثمراتُها ــ؟

ثمَّ قال السائل: وليس علمُ النجوم كذلك؛ فإنَّ صاحبه إذا استقصى

(1)

، وبلغَ الحدَّ الأقصى في معرفة الكواكب، وتحصيل سَيرها واقترانها ورجوعِها ومقابلتها، وتربيعِها وتثليثها وتسديسها، وضُروب مزاجِها في مواضعها من بروجها وأشكالها، ومطالعِها ومقاطِعها

(2)

ومغاربها ومشارقِها ومذاهبها، حتى إذا حَكَمَ أصاب، وإذا أصابَ حَقَّق، وإذا حقَّقَ جَزَم، وإذا جَزَم حَتَم= فإنه لا يستطيعُ البتة قَلْبَ شيءٍ عن شيء، ولا صرفَ شيءٍ عن شيء

(3)

، ولا تبعيدَ حالٍ قد دَنَتْ، ولا نفيَ مُلِمَّةٍ

(4)

قد اكتُتِبَت

(5)

، ولا رفعَ سعادةٍ قد أجَمَّت وأطَلَّت

(6)

، أعني: أنه

(7)

لا يقدرُ على أن يجعل الإقامةَ سفرًا، ولا الهزيمةَ ظفرًا، ولا العقدَ حلًّا

(8)

، ولا الإبرامَ نقضًا، ولا اليأسَ رجاءً، ولا الإخفاقَ دَرَكًا، ولا العدوَّ صديقًا، ولا الوليَّ عدوًّا، ولا البعيدَ قريبًا، ولا القريبَ بعيدًا.

(1)

«المقابسات» : «إن استقصى» .

(2)

في الأصول: ومعاطفها». والمثبت من «المقابسات» .

(3)

«المقابسات» : «صرف أمر إلى أمر» .

(4)

في الأصول: «ملة» . وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات» .

(5)

«المقابسات» : «ألمَّت» . وفي (ز): «كتبت» .

(6)

«المقابسات» : «وأظلت» . بالمعجمة.

(7)

في الأصول: «امر» . وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات» .

(8)

في الأصول: «فلا» . وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات» .

ص: 1316

فكأنَّ العالِمَ به، الحاذق المتناهي في خفيَّاته

(1)

، بعد هذا التَّعب والنَّصَب، وبعد هذا الكدِّ والدَّأب، وبعد هذه الكُلفة الشَّديدة والمُؤنة الغليظة

(2)

، هو مستسلمٌ

(3)

للمقدار، مُسْتَجْدٍ

(4)

لما يأتي به الليلُ والنهار، وعادت حالُه مع علمه الكثير

(5)

إلى حال الجاهل بهذا العلم الذي انقيادُه كانقياده، واعتبارُه كاعتباره

(6)

، ولعلَّ توكُّل الجاهل أحسنُ من توكُّل العالم به، ورجاءه

(7)

في الخير المشتهى

(8)

ونجاته من الشرِّ المتوقَّى أقوى وأصحُّ

(9)

من رجاء هذا المُدِلِّ بزِيجِه وحسابه وتقويمه وأسطُرلابه.

ولهذا لما لقي أبو الحسين النُّوري

(10)

ما شاء الله

(11)

المنجِّم قال له:

(1)

«المقابسات» (ز): «في حقائقه» .

(2)

في الأصول: «والمعرفة الغليظة» . والمثبت من «المقابسات» .

(3)

في الأصول: «مستلزم» . تحريف. والمثبت من «المقابسات» .

(4)

«المقابسات» : «مستحذ» . والمثبت من الأصول و (ز).

(5)

«المقابسات» : «الكبير» .

(6)

«المقابسات» : «واعتياده كاعتياده» . والمثبت من الأصول و (ز).

(7)

في الأصول: «ورضاه» . وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات» .

(8)

«المقابسات» : «المتمنى» . (ز، س): «المتوقع» .

(9)

«المقابسات» : «وأفسح» . (ز، س): «وأرسخ» .

(10)

كذا في الأصول. وهو خطأ. وفي «المقابسات» و «البصائر والذخائر» (5/ 30): «الثوري» بلا كنية. وهو الصواب. وفي «أخبار الحكماء» (437): «سفيان الثوري» . وانظر: «البيان والتبين» (4/ 13). وأظن المصنف ظنَّه «النوري» فزاد كنيته من عنده. وأبو الحسين النوري شيخ الصوفية بالعراق لعصره، متأخر (ت: 295). انظر: «السير» (14/ 70).

(11)

في الأصول: «ماشا» . والمثبت من «المقابسات» ، و «البصائر والذخائر» ، و «أخبار الحكماء» . وهذا لقبه، واسمه ميشا، وهو منجمٌ يهودي، كان في زمن المنصور، وعاش إلى أيام المأمون.

ص: 1317

أنت تخاف زُحَل وأنا أخافُ ربَّ زُحَل، وأنت ترجو المشتري وأنا أعبدُ

(1)

ربَّ المشتري، وأنت تغدو بالاستشارة

(2)

وأنا أغدو بالاستخارة، فكم بيننا؟!

وهذا أنوشروان ــ وكان من الملوك

(3)

الأفاضل ــ كان لا يَرْفَعُ بالنجوم رأسًا، فقيل له في ذلك، فقال: صوابُه يُشْبِهُ الحَدْس، وخطؤه شديدٌ على النفس.

فمتى أفضى هذا الفاضلُ النِّحريرُ، والحاذقُ البصير، إلى هذا الحدِّ والغاية؛ كان علمُه عاريًا من الثمرة، خاليًا من الفائدة، حائلًا عن النتيجة، بلا عائدةٍ ولا مَرْجُوع.

وإنَّ أمرًا أوَّلُه على ما قرَّرنا، وآخرُه على ما ذكرنا، لحريٌّ أن لا يُشْغَلَ الزمانُ به، ولا يُوهَبَ العمرُ له، ولا يُعَارَ

(4)

الهمَّ والكدَّ

(5)

، ولا يُعاجَ عليه

(6)

بوجهٍ ولا سبب.

(1)

«المقابسات» و «البصائر والذخائر» ، و «أخبار الحكماء»:«أرجو» .

(2)

استشارة النجوم. وفي (ت): «تعدو بالإشارة» . وهو تحريف.

(3)

«المقابسات» (ز، س): «من المغفلين» !. وهو تحريفٌ طريف، والصواب:«المعقَّلين» أي: الأذكياء. انظر: «تكملة المعاجم» لدوزي (7/ 269)، ومقدمة تحقيق «الهفوات النادرة» (31). ولعل ابن القيم استشكلها فغيَّرها.

(4)

«المقابسات» : «يقارَّ» . والمثبت من الأصول و (ز، س).

(5)

«المقابسات» (ز، س): «والكدر» .

(6)

أي: ولا يلتفَت إليه. وفي «المقابسات» (ز، س): «يعاد عليه» .

ص: 1318

هذا إن كانت الأحكامُ صحيحةً مُدْرَكَةً محقَّقَة، ومصابةً مُلْحَقةً معروفةً محصَّلة

(1)

، ولم يكن المذهبُ على ما زعمَ أربابُ الكلام والذين

(2)

يأبونَ تأثيرَ هذه الأجرام العالية في الأجسام السافلة، وينفُون الوسائطَ بينهما والوصائل، ويدفعون الفواعِل والقوابِل.

تمَّ السؤال.

فأجاب كلٌّ من هؤلاء بما سَنَحَ له:

* فقال قائلٌ منهم: عن هذا السُّؤال المَهُول

(3)

جوابان:

أحدهما: هو زجرٌ عن النظر فيه؛ لئلَّا يكون هذا الإنسانُ مع ضَعْف نَحِيزَته

(4)

، واضطراب غريزته، وضَعْف مُنَّته

(5)

، عَدَّاءً على ربِّه، شريكًا

(6)

له في غَيْبِه، متكبِّرًا على عباده، ظانًّا بأنه فيما يأتي

(7)

من شأنه قائمٌ بجَدِّه وقدرته، وحوله وقوته، وتشميره وتَقْلِيصه، وتَهْجِيره وتَعْرِيسه، فإنَّ هذا النَّمَط يحجُز الإنسانَ عن الخشوع لخالقه، والإذعان لربِّه، ويُبْعِدُه عن

(1)

«المقابسات» (ز، س): «أو مصانة ملحقة ومعروفة محضة» .

(2)

«المقابسات» (ز، س): «وأرباب الكلام والدين» . وهي قراءةٌ محتملة.

(3)

«المقابسات» : «عن هذه المسألة على التهويل» ، (ز، س): «عن هذه المسألة لا على هذا التهويل» .

(4)

أي: طبعه. وفي (ق، د): «تجربة» . (ت): «تحريه» . وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات» . وفي (ز، س): «مخيلته» .

(5)

أي: قوَّته. وفي (ت): «منه» . وأهملت في (د). (ق): «منية» . وهو تحريف. وفي «المقابسات» : «وانفتات طينته، وانبتات مريرته» .

(6)

«المقابسات» : «بحَّاثًا» .

(7)

«المقابسات» : «مأتي» .

ص: 1319

التسليم لمدبِّره، ويحولُ بينه وبين طرح الكاهِل

(1)

بين يدي من هو أملكُ له وأولى به.

وأمَّا الجوابُ الآخر: فهو بشرى عظيمةٌ على نعمةٍ جسيمةٍ لمن حصل له هذا العلم، وذلك سرٌّ لو اطُّلِع عليه، وغيبٌ لو وُصِلَ إليه، لكان ما يجدُه الإنسانُ فيه من الرَّوْح والرَّاحة والخير في العاجلة والآجلة يكفيه مُؤنةَ هذا الخطب الفادح، ويغنيه عن

(2)

تجشُّم هذا الكدِّ الكادح.

فاجعَل أيها المنكِرُ لشرف هذا العلم بدلَ عَيْبِك

(3)

ما يخفى عليك خفيُّه ومكنونُه تذلُّلًا لله ــ تقدَّس اسمُه ــ فيما استبان لك معلومُه ووَضَحَ عندك مظنونُه.

ثمَّ قال: اعلم أنَّ العلمَ به حقٌّ، ولكنَّ الإصابةَ بعيدة، وليس كلُّ بعيدٍ محالًا، ولا كلُّ قريبٍ صوابًا، ولا كلُّ صوابٍ معروفًا، ولا كلُّ محالٍ موصوفًا، وإنما كان العلمُ حقًّا، والاجتهادُ فيه مبلِّغًا

(4)

، والقياسُ فيه صوابًا، وبذلُ السعي دونه محمودًا؛ لاشتباك

(5)

هذا العالَم السفليِّ بذلك العالَم العُلويِّ، واتصالِ هذه الأجسام القابلة بتلك الأجسام

(6)

الفاعلة، واستحالةِ

(1)

أي الحِمْل الذي عليه. على المجاز. وغُيِّرت في «المقابسات» (س) إلى «الكل» .

(2)

(ت): «ويعينه على» . «المقابسات» (س): «وينهيه عن» . (ز): «ويهينه عن» .

(3)

(ق): «قبل عينك» . (ت): «يدل عليك» . والمثبت من (د) و «المقابسات» . وفي (ز، س): «بدل غيبك» .

(4)

«المقابسات» : «في طلبه مخلِّصًا» .

(5)

«المقابسات» (ز، س): «لامتثال» .

(6)

«المقابسات» : «الأجرام» .

ص: 1320

هذه الصُّور بحركات تلك المتحرِّكات المُتشاكِلَة

(1)

بالوحدة.

وإذا صحَّ هذا الاتصالُ والتَّشابُك، وهذه الحبائلُ

(2)

والرُّبُط، صحَّ التأثيرُ من العُلويِّ، وقبولُ التأثير من السفليِّ، بالمواصلات

(3)

الشُّعاعيَّة، والمناسبات

(4)

الشَّكليَّة، والأحوال الخَفِيَّة والجَلِيَّة.

وإذا صحَّ التأثيرُ من المؤثِّر، وقبولُه من القابل، صحَّ الاعتبار، واستنَّ

(5)

القياس، وصَدَق الرَّصَد، وثبتَ الإلف، واستحكمَت العادة، وانكشفَت الحدود، وانْثَالَت العِلَل

(6)

، وتعاضدَت الشَّواهد، وصار الصوابُ غامرًا، والخطأ مغمورًا، والعلمُ جوهرًا راسخًا، والظنُّ عَرَضًا زائلًا.

فقيل: هل تصحُّ الأحكام أم لا؟

* فقال [قائل]

(7)

: الأحكامُ لا تصحُّ بأسرها، ولا تبطلُ من أصلها، وذلك بسببٍ يتبيَّنُ

(8)

إذا أُنعِمَ النظر، ونُشِطَ للإصغاء

(9)

، وصُمِدَ نحو

(1)

في الأصول: «المحركات المشاكلة» . والمثبت من «المقابسات» .

(2)

(ق، ت): «الحبال» . والمثبت من (د) و «المقابسات» . وفي (ز، س): «الحبائك» .

(3)

في الأصول: «والمواضع» . والمثبت من «المقابسات» .

(4)

(ق، د): «وبالمنسلبات» . (ت): «والمثلثات» . والمثبت من «المقابسات» . وفي (ز، س): «والمداءبات» .

(5)

أي: مضى على سَنَنه في جهةٍ واحدة. وفي «المقابسات» (س): «واتسق» .

(6)

انصبَّت وتتابعت.

(7)

من «المقابسات» .

(8)

«المقابسات» : «لسبب بين بالهوينا» . (ز، س): «وتلك ليست بالهوينا» .

(9)

في الأصول: «وبسط الإصغاء» ، والكلمة الأولى مهملة في (د). والمثبت من «المقابسات» .

ص: 1321

الفائدة، بغير متابعة الهوى وإيثار التعصُّب.

ثمَّ قال: الأمورُ الموجودةُ على ضربين: ضربٍ له الوجودُ الحقُّ، وضربٍ له الوجود، ولكنْ ليس الوجودَ الحقَّ

(1)

.

فأمَّا الأمورُ الموجودةُ بالحقِّ، فقد أعطت الأخرى نسبةً من جهة الوجود

(2)

، وارتجعَت منها حقيقةَ ذلك.

فالحاكمُ

(3)

بالاعتبار الفاحص عن هذه الأسرار؛ إن أصابَ فبنسبةِ الوجود الذي لهذا العالم

(4)

السفليِّ من ذلك العُلويِّ، وإن أخطأ فبما فات

(5)

هذا العالَم السفليَّ من ذلك العالم العُلويِّ.

والإصابةُ في هذه الأمور السيَّالة المتبدِّلة عَرَض، والإصابةُ في أمور الفلَك جوهر، وقد يكونُ هناك ما هو كالخطأ، ولكن بالعَرَض لا بالذَّات، كما يكون هاهنا ما هو كالصواب

(6)

والحقِّ، ولكن بالعَرَض لا بالذَّات؛ فلهذا صحَّ بعضُ الأحكام وبَطَل بعضُها.

ومما يكونُ شاهدًا لهذا: أنَّ العالَم السفليَّ مع تبدُّله في كلِّ حالة،

(1)

«وضرب له الوجود ولكن ليس الوجود الحق» ساقط من (ز، س).

(2)

(د، ق): «فأما الأمور الموجودة بالحق فقد أعطت الأخرى نسبة من جهة الوجود الحق فأما الأمور الموجودة بالحق فقد أعطت الأخرى نسبة من جهة الوجود» . وهو خطأ وتكرار لا معنى له. والمثبت من (ت) و «المقابسات» .

(3)

(ق، ت): «فالحكم» . والمثبت من (د) و «المقابسات» .

(4)

في الأصول: «الذي هو هذا العالم» . والمثبت من «المقابسات» .

(5)

في الأصول: «فبافات» . وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات» .

(6)

في الأصول: «لا هو بالصواب» . تحريف. والمثبت من «المقابسات» .

ص: 1322

واستحالته في كلِّ طَرْفٍ ولَمْح، متقيِّلٌ

(1)

لذلك العالَم العُلويِّ، يتحرَّكُ شوقًا إلى كماله، وعشقًا لجماله، وطلبًا للتشبُّه به، وتحقُّقًا بكلِّ ما أمكن من شَكْله، فهو بحقِّ التقيُّل يُعطِي هذا العالَم السفليَّ ما يكونُ به مشابهًا للعالَم العُلويِّ، وبهذا التقيُّل

(2)

تقيَّلَ الإنسانُ الناقصُ الكاملَ، وتقيَّلَ الكاملُ من البشر المَلَكَ، وتقيَّلَ المَلَكُ الباري جلَّ وعزَّ.

* قال آخر: إنما وجب هذا التقيُّل والتشبُّه لأنَّ وجودَ هذا العالَم وجودٌ متهافتٌ مستحيل، لا صورة له ثابتة، ولا شكلٌ دائم، ولا هيئةٌ معروفة، وكان من هذا الوجه فقيرًا إلى ما يمدُّه ويشدُّه. فأمَّا سِنْخُه

(3)

فهو موجودٌ وثابتٌ

(1)

في الأصول وطبعات «المقابسات» : «متقبل» بالباء الموحدة. وكذا في المواضع التالية. وهو تحريف. والتقيُّل: التشبُّه، تقيَّل فلانٌ أباه: اتَّبعه وأشبهَه وعمل عمله. انظر: «اللسان» و «التاج» (قيل)، و «اللآلي» للبكري (774).

والفلاسفة ترى أن كمال الإنسان هو بالتشبُّه بالإله على قدر الطاقة، وأن الفلك والمتحرِّكات العُلويَّة إنما تتحرَّك للتشبُّه بمن فوقها. ولذا قيل في حدِّ الفلسفة: هي تقيُّل الإله ما أمكن.

انظر: «درء التعارض» (9/ 324)، و «الرد على الشاذلي» (20، 58، 96، 139)، و «الصفدية» (2/ 233، 234)، و «جامع المسائل» (6/ 123، 124)، و «بغية المرتاد» (229)، و «الرد على المنطقيين» (220)، و «منهاج السنة» (3/ 285)، و «جامع الرسائل» (2/ 187)، و «مجموع الفتاوى» (5/ 465، 12/ 145، 17/ 329)، و «تحقيق ما للهند» للبيروني (22).

ولم يتفطن العلامة محمد بن تاويت الطنجي لمدلول هذا اللفظ في تحقيقه لكتاب أبي حيان «أخلاق الوزيرين» (376).

(2)

«المقابسات» : «ومن هذا الباب» .

(3)

أي: أصله. وأهملت في (د) وكتب ابن بردس فوقها بخطٍّ دقيق: «كذا» . وفي (ق): «مسحه» . (ت): «سبحه» . وهو تحريف. وفي «المقابسات» : «سنخه وسوسه» . والسُّوس بمعنى السِّنخ.

ص: 1323

مقابِلٌ لذلك العالَم الموجود الثابت، وإنما عرَضَ ما عَرَضَ لأنَّ أحدهما مؤثِّر، والآخَر قابِل، فبحقِّ هذه المرتبة ما وُجِدَ [التبايُن، وبحقِّ تلك المرتبة ما وُجِدَ]

(1)

التواصُل.

* وقال آخر: قد يُغْفِلُ مع هذا كلِّه المنجِّمُ اعتبارَ حركاتٍ كثيرة من أجرامٍ مختلفة؛ لأنه يعجزُ عن نظمِها وتقويمها، ومَزْجِها وتسييرها، وتفصيل أحوالها وتحصيل خواصِّها، مع بُعْد حركة بعضها وقُرب حركة بعضها، وبُطئها وسرعتها، وتوسُّطها والتفاف

(2)

صُورها، والتباس تقاطعها

(3)

، وتداخُل أشكالها.

ومن الحكمة في هذا الإغفال أنَّ الله تقدَّس اسمُه يُتِمُّ بذلك القَدْر المُغْفَل، والقليل الذي لا يؤبَه له، والكثير الذي لا يُحاوَلُ البحثُ عنه= أمرًا لم يكن في حُسبان الخلق، ولا فيما أعمَلوا فيه القياسَ والتقديرَ والتوهُّم

(4)

.

ولهذا يُحْكِمُ هذا الحاذقُ في صناعته لهذا المَلِك، وهذا الماهرُ في عمله

(5)

لهذا المَلِك، ثمَّ يلتقيان، فتكونُ الدَّائرةُ على أحدهما، مع شدَّة الوِقاع

(6)

، وصِدْق المِصاع، هذا وقد حُكِمَ له بالظَّفر والغلب.

(1)

مستدرك من «المقابسات» ، وأظنه سقط لانتقال النظر.

(2)

(ق، د): «والتفاق» . (ت): «واتفاق» . والمثبت من «المقابسات» .

(3)

«المقابسات» (ز، س): «مقاطعها» .

(4)

«المقابسات» : «عملوا فيه القياس واختلط بالتقدير والتوهم» .

(5)

«المقابسات» : «علمه» .

(6)

«المقابسات» : «الدفاع» . والوقاع: المواقعة في الحرب. والمِصاع: الجِلاد.

ص: 1324

* وقال آخر ــ وهو النُّوشْجاني ــ: إنما يؤتى أحدُ الحاكمَيْن لأحد المَلِكين

(1)

لا من جهة غلطٍ يكونُ في الحساب، ولا من قلَّة مهارةٍ في العمل، ولكنْ يكونُ في طالعه أن لا يصيبَ

(2)

في ذلك الحكم، ويكونُ في طالع الملك أن لا يصيبَ منجِّمُه في تلك الحرب، فمقتضى حاله وحال صاحبه يحولُ بينه وبين الصواب، ويكونُ الآخرُ مع صحة حسابه وحُسْن إدراكه قد وجبَ في طالع نفسه وطالع صاحبه ضدُّ ذلك، فيقعُ الأمرُ الواجب، ويبطلُ الآخرُ الذي ليس بواجب.

وقد كان المنجِّمان من جهة العلم والحساب أعطيا للصِّناعة حقَّها، ووفَّيا ما عليهما، ووقفا موقفًا واحدًا على غير مزيَّةٍ بيِّنة ولا علَّةٍ قائمة.

* قال آخر: ولولا هذه البقيةُ

(3)

المندفنة والغايةُ المستترةُ التي استأثر اللهُ بها لكان لا يَعْرِضُ هذا الخطأُ مع صحَّة الحساب، ودقَّة النظر، وشدَّة الغَوْص، وتوخِّي المطلوب، ومع غَلَبة الهوى والميل إلى المحكوم له.

وهذه البقيةُ دائرةٌ في أمور هذا الخَلق فاضلِهم وناقصِهم ومتوسِّطهم، في دقيقها وجليلها، وصعبها وذلولها

(4)

، ومن كان له في نفسه باعثٌ على التصفُّح والنظر والتخبُّر

(5)

والاعتبار وقفَ على ما أومأتُ إليه وسلَّم.

(1)

في الأصول: «المايلين» . والمثبت من «المقابسات» .

(2)

(ت) و «المقابسات» : «أن يصيب» . وهو خطأ.

(3)

«المقابسات» : «الحسنة» . (ز، س): «المشيئة» .

(4)

(ق) و (ت): «وذكرها» . والمثبت من «المقابسات» .

(5)

مهملة في (د). (ت): «والتحر» . (ق): «والبحر» . وفي «المقابسات» : «والتخير» . وكله تحريف. والتخبُّر (بالباء الموحدة): الاستخبار. وانظر لاستعمال أبي حيان له: «البصائر والذخائر» (8/ 122)، و «الإمتاع والمؤانسة» (3/ 194).

ص: 1325

ولحكمةٍ جليلةٍ ضربَ اللهُ دون هذا العلم

(1)

بالأسداد، وطوى حقائقَه عن أكثر العباد، وذلك أنَّ العلمَ بما سيكونُ ويحدثُ ويُسْتَقْبَلُ علمٌ حُلوٌ عند النفس

(2)

، وله موقعٌ عند العقل، فلا أحدَ إلا وهو يتمنَّى أن يعلمَ الغيب، ويطَّلع عليه، ويدركَ ما سوفَ يكونُ في غدٍ، ويجدَ سبيلًا إليه.

ولو ذُلِّلَ السَّبيلُ

(3)

إلى هذا الفنِّ لرأيتَ الناسَ يُهْرَعونَ إليه، ولا يُؤْثِرون شيئًا آخر عليه؛ لحلاوة هذا العلم عند الرُّوح، ولُصوقه بالنفس، وغرام كلِّ أحدٍ به، وفتنة كلِّ إنسانٍ فيه.

فبنعمةٍ من الله لم يُفْتَح

(4)

هذا الباب، ولم يُكشَف دونه الغطاء، حتى يرتعي

(5)

كلُّ أحدٍ روضَه، ويلزمَ حدَّه، ويرغبَ فيما هو أجدى عليه وأنفعُ له إمَّا عاجلاً وإمَّا آجلًا، فطوى اللهُ عن الخلق حقائقَ الغيب، ونَشَرَ لهم نُبَذًا منه وشيئًا يسيرًا يتعلَّلون به؛ ليكونَ هذا العلمُ محروصًا عليه كسائر العلوم، ولا يكون مانعًا من غيره.

قال: ولولا هذه البقيةُ التي فضحَت الكاملين، وأعجزَت القادرين، لكان تعجُّبُ الخلق من غرائب الأحداث وعجائب الصُّروف

(6)

وطرائف الأحوال عبثًا وسفهًا، وتوكُّلهم على الله لهوًا ولعبًا.

(1)

«المقابسات» (ز، س): «هذه العلل» .

(2)

«المقابسات» (ز، س): «خلق للنفس» .

(3)

(ت): «ولولا ذلك السبيل» .

(4)

في الأصول: «لم يصح» . والمثبت من «المقابسات» .

(5)

(ق، د): «يرتقي» . (ت): «يلتقي» . تحريف. والمثبت من «المقابسات» .

(6)

«المقابسات» (ز، س): «الضروب» .

ص: 1326

* فقال آخر: وهذا يتَّضحُ بمثال، وليكن المثالُ أنَّ مَلِكًا في زمانك وبلادك، واسعَ المُلك، عظيمَ الشَّأن، بعيدَ الصِّيت، سابغَ الهيبة

(1)

، معروفًا بالحكمة، مشهورًا بالحزم، يضعُ الخيرَ في مواضعه، ويوقِعُ الشرَّ في مواقعه، عنده جزاءُ كلِّ سيئةٍ وثوابُ كلِّ حسنة، قد رتَّب لبريده أصلحَ الأولياء له، وكذلك نَصَبَ لجباية أمواله أقوَمَ الناس بها، وكذلك ولَّى عمارةَ أرضه أنهَض الناس بها، وشرَّفَ آخر بكتابته، وآخر بوزارته، وآخر بنيابته.

فإذا نظرتَ إلى مُلكه وجدتَه مؤزَّرًا

(2)

بسَداد الرأي ومحمود التدبير، وأولياؤه حواليه، وحاشيتُه بين يديه، وكلٌّ يَخِفُّ إلى ما هو مَنُوطٌ به، ويستقصي طاقتَه ويبذلُ فيه

(3)

، والملكُ يأمرُ وينهى، ويُصْدِرُ ويُورِد، ويثيبُ ويعاقِب.

وقد عَلِمَ صغيرُ أوليائه وكبيرُهم، ووضيعُ رعاياه وشريفُهم، ونَبِيهُ الناس وخاملُهم: أنَّ الأمرَ الذي تعلَّق بكذا وكذا

(4)

صدَرَ من الملك إلى كاتبه؛ لأنه من جنس الكتابة وعلائقها وما يدخلُ في شرائطها ووثائقها، والأمرَ الآخر صدَرَ إلى صاحب بريده؛ لأنه من أحكام البريد وفُنونه، والأمرَ الآخر أُلقِي إلى صاحب المعونة؛ لأنه من جنس ما هو مرتَّبٌ له منصوبٌ من أجله، والحديثَ الآخر صَدَرَ إلى القاضي؛ لأنه من باب الدِّين والحُكم

(1)

«المقابسات» : «شائع الهيبة» . (ز، س): «شائع الذكر» .

(2)

«المقابسات» : «موزونا» .

(3)

«المقابسات» : «ويستقصي طاقته فيه ويبذل وسعه دونه» .

(4)

«المقابسات» : «الرأي الذي تعلق بأمر كذا» . (ز، س): «الرأي الذي يطلق بأمره كذا وكذا» .

ص: 1327

والفصل

(1)

.

وكلُّ هذا مُسَلَّمٌ إلى المَلِك لا يُفْتَاتُ عليه في شيءٍ منه، ولا يُسْتَبدُّ بشيءٍ دونَه، فالأحوالُ على هذا كلُّها جاريةٌ على أذلالها

(2)

وقواعدها في مجاريها، لا يُرَدُّ شيءٌ منها

(3)

إلى غير شكله، ولا يرتقي إلى غير طبقته.

فلو وقفَ رجلٌ له من الحزم نصيبٌ ومن اليقظة

(4)

قِسطٌ على هذا المُلك الجسيم، وتصفَّحَ أبوابَه بابًا بابًا، وحالًا حالًا، وتخلَّل بيتًا بيتًا

(5)

ورفعَ سَجْفًا سَجْفًا، لأمكنه أن يعلمَ ــ بما يُثْمِرُه

(6)

له هذا النظر، ويميِّزه له

(7)

هذا القياس، وأوقعَه عليه

(8)

هذا الحَدْسُ ــ ما سيفعلُه هذا المَلِكُ غدًا، وما يتقدَّمُ به إلى شهر، وما يكادُ يكونُ منه إلى سنةٍ وسنتين؛ لأنه يَفْلِي الأحوالَ فَلْيًا

(9)

، ويقايِسُ بينها، ويلتقطُ ألفاظَ المَلِك ولحَظاته وإشاراته

(1)

«المقابسات» (ز، س): «والقضاء» .

(2)

مهملة في (د، ق، ز). وفي (ت): «أدلتها» . وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات» . والأذلال جمع: ذِلٍّ، وهو الطريق الممهَّد بكثرة الوطء.

(3)

«المقابسات» : «لا يزل منها شيء» .

(4)

«المقابسات» (ز، س): «الفطنة» .

(5)

«المقابسات» (ز، س): «شيئًا فشيئًا» .

(6)

(ت): «بما يتميز» . «المقابسات» (ز، س): «ما يتم» .

(7)

(ق، د): «وميزه له» . «المقابسات» : «ويثيره» . (ز، س): «ويسره» .

(8)

«المقابسات» : «ويصيده» . (ز): «ويصده» . (س): «ويصدره» .

(9)

مهملة في (د). (ق، ت): «يعلى الأحوال قلنا» . والمثبت من «المقابسات» . وفي (ز، س): «على الأحوال مليا» .

ص: 1328

وحركاته، ويقول في بعضها: رأيتُ الملك يقولُ

(1)

كذا وكذا

(2)

ويفعلُ كذا وكذا، وهذا يدلُّ على كذا وكذا، وإنما جرَّأه هذه الجرأة على هذا الحُكم والبتِّ أنه قد مَلَكَ لَحْظَ المَلِك ولفظَه، وحركتَه وسكونَه، وتعريضَه وتصريحَه، وجدَّه وهزلَه، وشكلَه وسَجِيَّته

(3)

، وتجعُّدَه واسترسالَه، ووُجومَه ونشاطَه، وانقباضَه وانبساطَه، وغضبه ورضاه.

ثمَّ هَجَسَ في نفس هذا المَلِك هاجس، وخطر بباله خاطر، فقال: أريدُ أن أعمَل عملًا، وأُوثِر أثرًا، وأُحدِثَ حالًا، لا يقفُ عليها أوليائي، ولا المطيفون بي

(4)

، ولا المختصُّون بقُربي

(5)

، ولا المتعلِّقون بحِبالي، ولا أحدٌ من أعدائي والمتتبِّعين لأمري والمُحْصِين لأنفاسي، ولا أدري كيف أفتتحُه ولا أقترحه؛ لأنِّي متى تقدَّمتُ في ذلك إلى كلِّ من يلوذُ بي ويطيفُ بناحيتي، كان الأمرُ في ذلك نظيرَ جميع أموري، وهذا هو الفسادُ الذي يلزمني تجنُّبه، ويجبُ عليَّ التيقظُ فيه.

فيقدحُ له الفكرُ الثاقبُ أنه ينبغي أن يتأهَّب للصَّيد ذاتَ يوم، فيتقدَّمُ بذلك، ويذيعُه، فيأخذُ أصحابُه وخاصَّتُه في أُهْبَة ذلك وإعداد الآلة، فإذا تكامَل ذلك له أصْحَر للصَّيد، وتقلَّب

(6)

في البيداء، وصمَّم على ما يلوحُ له،

(1)

في الأصول: «يفعل» . والمثبت من «المقابسات» .

(2)

«المقابسات» (ز، س): «ويقول في بعضها: يترك كذا وكذا» .

(3)

«المقابسات» : «وسحنته» . وهي محتملة. والمثبت من الأصول و (ز، س).

(4)

في الأصول: «المطيعون لي» . والمثبت من «المقابسات» أشبه.

(5)

(ت): «بقولي» . (ق، د): «بقوله» . والمثبت من «المقابسات» .

(6)

«المقابسات» (ز، س): «وتطلب» .

ص: 1329

وأمعَن وراءه، وركضَ خلفَه جوادَه، ونهى من معه أن يتبعَه، حتى إذا أوغَل في تلك الفِجَاج الخاوية، والمدارج المتنائية، وتباعدَ عن مَتْنِ الجادَّة وَوَضَح المحجَّة، صادفَ إنسانًا، فوقفَ وحاورَه وفاوضَه، فوجده حصيفًا محصِّلًا يتَّقِدُ فهمًا وإفهامًا، فقال له: أفيك خير؟

فقال: نعم، وهل الخيرُ إلا فيَّ وعندي وإلا معي؟! أَلْقِ إليَّ ما بدا لك، وخلِّني وذلك.

فقال له: إنَّ الواقفَ عليك المكلِّمَ لك ملكُ هذا الإقليم، فلا تُرَعْ واهدَأ.

فقال: السعادةُ قيَّضتني لك، والجَدُّ أطلعكَ عليَّ.

فيقول له المَلِك: إني أريدُ أن أصطنعك

(1)

لأربٍ في نفسي، وأبلُغَ بك إن بلَغْتَ لي ذلك، أريدُ أن تكون عينًا لي وصاحبًا لي نصوحًا، واطْوِ سرِّي عن سانِح فؤادك فضلًا عن غيره.

فإذا بلغ منه التَّوثِقة والتَّوكيد ألقى إليه ما يأمره به ويحثُّه على السعي فيه، وأزاحَ علَّتَه في جميع ما يتعلَّقُ المرادُ به، ثمَّ ثنى عنانَ دابته إلى وجه عسكره وأوليائه ولحقَ بهم، فقضى وَطَرَه، ثمَّ عادَ إلى سريره، وليس عند أحدٍ من رهطه وبطانته وغاشيته وخاصَّته وعامَّته علمٌ بما قد أسرَّه إلى ذلك الإنسان.

فبينما الناسُ على مَكِناتهم

(2)

وغَفَلاتهم إذ أصبحوا ذات يومٍ عن حادثٍ

(1)

مهملة في (ق). «المقابسات» : «أصطفيك» . والمثبت من (د، ت).

(2)

أمكنتهم. وفي «المقابسات» : «سكناتهم» .

ص: 1330

عظيم، وخَطْبٍ جسيم، وشأنٍ هائل، فكلٌّ يقولُ عند ذلك

(1)

: ما أعجبَ هذا! من فعل هذا؟! متى تهيَّأ هذا؟! هذا صاحبُ البريد ليس عنده منه أثر، هذا صاحبُ المعونة وهو عن الخبر بمَعْزِل، وهذا الوزيرُ الأكبر وهو متحيِّر، وهذا القاضي وهو متفكِّر، وهذا حاجبُه وهو ذاهل. وكلُّهم عن الأمر الذي دَهَمَ غافل. وقد قضى الملكُ مأربتَه، وأدرك حاجتَه، وطلب بغيتَه، ونال غَرَضَه.

فكذلك ينظرُ المنجِّمُ إلى زُحَل والمشتري والمرِّيخ والشَّمس والقمر وعطارد والزُّهَرة، وإلى البروج وطبائعها، والرأس والذَّنب وتقاطعهما، والهِيلاج والكَدْخُداه

(2)

، وإلى جميع ما دانى هذا وقارَبه

(3)

وكان له فيه نتيجةٌ وثمرة، فيحسبُ ويمزجُ ويرسُم، وتنقلبُ عليه أشياء كثيرةٌ من سائر الكواكب التي لها حركاتٌ بطيئةٌ وآثارٌ مَطْويَّة، فينبعثُ مما

(4)

أهملَه وأغفلَه وأضرَبَ عنه ولم يتَّسع له= ما يملكُ عليه حِسَّه وعقلَه وفِكرَه ورويَّته، حتى لا يدري مِن أين أُتِي؟ ومِن أين دُهِي؟ وكيف انفرَج

(5)

عليه الأمر، وانسدَّ

(1)

في الأصول: «فكل يقول ذلك عند ذلك» .

(2)

(ق، د): «الكامداه» . (ت): «الكاملان» . وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات» . والهيلاج والكدخداه: كوكبا المولود. فالأول لرزقه والثاني لعمره؛ فإن ولد في صعوده كان زائدًا فيه، وإن كان في هبوطه كان بعكسه، في زعم المنجمين. انظر:«قصد السبيل» (2/ 386)، و «مفاتيح العلوم» (203)، و «شرح المختار من لزوميات أبي العلاء» للبطليوسي (1/ 142)، و «الفهرست» (375، 383، 386)، و «ديوان ابن الرومي» (2/ 490).

(3)

(ق، د): «وقارنه» . وفي (ت): «وفاته» . والمثبت من «المقابسات» .

(4)

في الأصول: «فيما» . والمثبت من «المقابسات» . وفي (ز، س): «بما» .

(5)

«المقابسات» (ز، س): «امتزج» .

ص: 1331

دونه المطلب

(1)

، وفاتَ المطلوب، وعزبَ عنه الرأي؟

هذا، ولا خطأ له في الحساب، ولا نقصَ في قصد الحقِّ

(2)

.

وهذا كي يُلاذَ بالله وحده في الأمور كلِّها، ويُعْلَمَ أنه مالكُ الدُّهور، ومدبِّر الخلائق، وصاحبُ الدواعي والعلائق، والقائمُ على كلِّ نَفْس، والحاضرُ عند كلِّ نَفَس، وأنه إذا شاء نفَع، وإذا شاء ضَرَّ، وإذا شاء عافى، وإذا شاء أسقَم، وإذا شاء أغنى، وإذا شاء أفقر، وإذا شاء أحيا، وإذا شاء أمات، وأنه كاشفُ الكربات، مغيثُ ذوي اللَّهَفات، قاضي الحاجات، مجيبُ الدعوات، ليس فوق يده يد، وهو الأحدُ الصمد، على الأبد والسَّرمد.

* وقال آخر

(3)

: هذه الأمورُ وإن كانت مَنُوطةً بهذه العُلويَّات، مربوطةً بالفلَكيَّات، عنها تَحْدُث، ومن جهتها تنبعث، فإنَّ في عرضها ما لا يستحقُّ أن يُنسَبَ إلى شيءٍ منها إلا على وجه التقريب.

ومثالُ ذلك: ملكٌ له سلطانٌ واسع، ونعمةٌ جمَّة، فهو يُفْرِدُ كلَّ أحدٍ بما هو لائقٌ به، وبما هو ناهضٌ فيه، فيولِّي بيتَ المال مثلًا خازنًا أمينًا كافيًا شهمًا يفرِّقُ على يده، ويجمعُ

(4)

على يده، ثمَّ إنَّ هذا الملك قد يضعُ في هذه الخزانة شيئًا لا علمَ للخازن به، وقد يُخْرِجُ منها شيئًا لا يقفُ الخازنُ

(1)

«المقابسات» (ز، س): «الطلب» .

(2)

«المقابسات» : «ولا تقصير في الحق» .

(3)

وهو الحرَّاني الصوفي، وكان قد شام شيئًا من الحكمة، ولم يكن حاضرًا بالمجلس إنما سمع أبو حيان منه هذا بمكة قديمًا، كما قال.

(4)

في الأصول: «ويخرج» . والمثبت من «المقابسات» .

ص: 1332

عليه، ويكونُ هذا منه دليلًا على مُلكه واستبداده، وعلى تصرُّفه وقدرته.

* وقال آخر: لمَّا كان صاحبُ علم النجوم يريدُ أن يقفَ على أحداث الزمان ومستقبل الوقت، من خيرٍ وشرٍّ، وخِصْبٍ وجَدْب، وسعادةٍ ونَحْس، وولايةٍ وعزل، ومقامٍ وسفر، وغمٍّ وفرح، وفقرٍ ويسار، ومحبةٍ وبغض، وجِدَةٍ وعُدْم

(1)

، وعافيةٍ وسقم، وأُلفةٍ وشتات، وكسادٍ ونَفَاق، وإصابةٍ وإخفاق، وحياةٍ وممات، وهو إنسانٌ ناقصٌ في الأصل؛ لأنَّ نقصانَه بالطبع، وكمالَه بالعَرَض، ومع هذه الحال المحطوطة بالسِّنخ

(2)

، المَؤوفة بالطين

(3)

، قد بارى بارئَه، ونازعَ ربَّه، وتتبَّع غيبه، وتخلَّل حكمَه، وعارضَ مالكَه= حَرَمَه الله فائدةَ هذا العلم، وصرَفَه عن الانتفاع به، والاستثمار

(4)

من شجرته، وأضافَه إلى من لا يحيطُ بشيءٍ منه ولا يتحلى بشيءٍ فيه

(5)

، ونظَمَه في باب القسر والقهر

(6)

، وجعلَ غايةَ سعيه فيه الخيبة، ونهايةَ علمه به الحيرة، وسلَّطَ عليه في صناعته الظَّنَّ والحَدْس، والحيلةَ والزَّرْق، والكذبَ والخَتْل

(7)

.

(1)

في الأصول: «وجدة وعدم ووجدان» . والمثبت من «المقابسات» .

(2)

أي: بالأصل.

(3)

يشبه رسمها في الأصول: «المعروفة بالظن» . وفي «المقابسات» : «المؤفة بالطين» . (ز، س): «المزوقة بالطين» . ولعل الصواب ما أثبت. يعني: الفاسدة بتركيبها الطيني. وأبو حيان كثير الحمل على الطين في كتبه!

(4)

«المقابسات» : «والاستمتاع» .

(5)

مهملة في (د). (ت): «يتجلى» . (ق): «يخل» . والمثبت أشبه.

(6)

«المقابسات» : «لا يحيط بشيء منه ونظمه في باب القسر والقهر» . (ز، س): «لا يحيط بشيء منه ولا تجلى بشيء في باب القهر والقسر» .

(7)

«المقابسات» : «والحيل» . والمثبت من (ز، س) والأصول.

ص: 1333

ولو شئتُ لذكرتُ لك من ذلك صَدْرًا، وهو مثبوتٌ

(1)

في الكتب، ومنثورٌ

(2)

في المجالس، ومتداولٌ بين الناس.

فلذلك وأشباهه حَطَّ رتبتَه، وردَّه على عقبيه؛ ليعلمَ أنه لا يعلمُ إلا ما عُلِّم، وأنه ليس له أن يتمطَّى بما عَلِمَ على ما جَهِل؛ فإنَّ الله سبحانه لا شريك له في غيبه، ولا وزير له في ربوبيَّته، وأنه يُؤنِسُ بالعلم ليطاعَ ويُعْبَد، ويُوحِشُ بالجهل ليُفْزَعَ إليه ويُقْصَد، عزَّ ربًّا، وجلَّ إلهًا، وتقدَّس مشارًا إليه، وتعالى معتمَدًا عليه.

* وقال آخر ــ وهو العروضي ــ: قد يقوى هذا العلمُ في بعض الدَّهر حتى يُشْغَفَ به، ويُدانَ بتعلُّمه، بقوَّةٍ سماوية، وشكلٍ فلَكيّ، فيكثرُ الاستنباطُ والبحث، وتشتدُّ العنايةُ والفكر، فتغلبُ الإصابةُ حتى يزول الخطأ.

وقد يضعفُ هذا العلمُ في بعض الدَّهر، فيكثرُ الخطأُ فيه بشكلٍ آخر

(3)

يقتضي ذلك، حتى يسقُط النظرُ فيه، ويحرُم البحثُ عنه، ويكون الدينُ حاظرًا للطلب والحكم به.

وقد يعتدلُ الأمرُ في دهرٍ آخر حتى يكون الخطأُ في قَدْر

(4)

ذلك الصواب والصوابُ في قَدْر الخطأ، وتكون الدواعي والصوارفُ متكافئة، ويكون الدينُ لا يحثُّ عليه كلَّ الحثِّ، ولا يحظُر على طالبه كلَّ الحظر.

(1)

«المقابسات» : «مبثوث» .

(2)

«المقابسات» (ز، س): «ومنشور» .

(3)

«المقابسات» : «لشكل آخر» .

(4)

«المقابسات» : «في وزن» .

ص: 1334

قال: وهذا إذا صحَّ تعلَّق الأمرُ كلُّه بما يتصلُ بهذا العالم السفليِّ من ذلك العالم العُلوي؛ فإذًا الصوابُ والخطأ محمولان على القوى المنبثَّة

(1)

، والأنوار الشائعة، والآثار الذَّائعة

(2)

، والعلل الموجِبة، والأسباب المتوافية

(3)

.

* وقال آخر ــ وهو النُّوشْجاني ــ: أيها القوم، اختصروا الكلام، وقرِّبوا البُغْية؛ فإنَّ الإطالةَ مَصِدَّةٌ عن الفائدة، مَضِلَّةٌ للفهم والفطنة، هل تصحُّ الأحكام؟

* فقال غلام زُحَل: ليس عن هذا جوابٌ يستتِبُّ

(4)

على كلِّ وجه.

فقيل: ولم؟ بيِّن ذلك.

قال: لأنَّ صحَّتها وبطلانها يتعلَّقان بآثار الفلَك، وقد يقتضي شكلُ الفلَك في زمانٍ أن لا يصحَّ منها شيء، وإن غِيصَ على دقائقها، وبُلِغَ إلى أعماقها. وقد يزولُ ذلك الشكلُ [فيجيء زمانٌ لا يبطلُ منها شيءٌ فيه، وإن قُورب في الاستدلال. وقد يتحولُ هذا الشكلُ]

(5)

في وقتٍ آخر إلى أن

(1)

(ق، ت): «المثبتة» .

(2)

«المقابسات» (ز، س): «الرائعة» .

(3)

«المقابسات» (ز، س): «الموافقة» .

(4)

مهملة في (د). (ت): «بسبب» . (ق): «سبب» . (ز، س): «يتسبب» . وفي «مختصر تاريخ الدول» لابن العبري (175): «يستثبت» . والمثبت من «المقابسات» و «تاريخ الحكماء» (307).

(5)

من «المقابسات» و «تاريخ الحكماء» و «مختصر تاريخ الدول» . وأحسبه سقط لانتقال النظر.

ص: 1335

يكثُر الصوابُ فيها والخطأ، ويتقاربان، ومتى وقفَ الأمرُ على هذا الحدِّ لم يثبت على قضاءٍ

(1)

ولم يُوثق بجواب

(2)

.

* وقال آخر: إنَّ الله تعالى وتقدَّس اخترعَ هذا العالَم وزيَّنه، ورتَّبه وحسَّنه، ووشَّحه ونظَّمه، وهذَّبه وقوَّمه، وأظهرَ عليه البهجةَ وأبطنَ في أثنائه

(3)

الحكمة، وحفَّه بكلِّ ما طَبَا العقولَ

(4)

إلى تصفُّحه ومعرفته، وحشَاه بكلِّ ما حاشَ النفوسَ

(5)

إلى علمه وتقليبه والتعجُّب من أعاجيبه، وأمتَع الأرواحَ بمحاسنه، وأودعه أمورًا، واستخزنه

(6)

أسرارًا، ثمَّ حرَّك الألبابَ عليها حتى استثارتها ولَقَطَتها، وأحبَّتها

(7)

وعَشِقَتها ووَلِهَت

(8)

عليها؛ لأنها عرفَت بها ربَّها وخالقَها وإلاهَها وواضعَها وصانعَها وحافظَها وكافلَها.

ثمَّ إنه تعالى مَزَجَ بعضَ ما فيه ببعض، وركَّب بعضَه على بعض، ونسجَ بعضَه في بعض، وأمدَّ بعضَه من بعض، وأحالَ بعضَه إلى بعض، بوسائط من أشخاصٍ وأجناسٍ وطبائع وأنفسٍ وعلومٍ وعقول، وتصرَّف في ملكه بقدرته

(1)

«المقابسات» و «أخبار الحكماء» : «على قول قضاء» .

(2)

في «المقابسات» : «فقال أبو سليمان [المنطقي السجستاني]: هذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الباب» .

(3)

في الأصول: «اثباته» . (ز، س): «أفنائه» . والمثبت من «المقابسات» .

(4)

أي: دعاها واستمالها. «التاج» (طبو). ولم تحرر في الأصول.

(5)

(ت) و «المقابسات» : «جاش» . (س): «حث» .

(6)

(ت): «واستخرج به» . «المقابسات» (س): «واستجن به» .

(7)

«المقابسات» : «واجتلبتها» . (ز، س): «واجتلتها» .

(8)

في الأصول: «ودارت» . وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات» .

ص: 1336

وجُوده وحكمته، لا مَعِيبَ الفضل، ولا معدومَ الاختيار

(1)

، ولا مردودَ الحكمة

(2)

، ولا مجحودَ الذَّات، ولا محدود

(3)

الصفات، سبحانه.

وهو مع هذا كلِّه لم يستفد شيئًا، ولم ينتفع بشيء، بل استفاد منه كلُّ شيء، وانتفع به كلُّ شيء، وبلغَ غايتَه كلُّ شيء، بحسب مادَّته المنقادة، وصورته المعتادة، ولم يثبُت بشيء، وثبت به كلُّ شيء، فهو الفاعلُ القادرُ الجوادُ الواهب، والمُنِيلُ المُفْضِل

(4)

، والأولُ السابق.

فلمَّا كان الباحثُ عن العالَم العُلويِّ بتصفُّح سكَّانه

(5)

، ومعرفة آثاره ومواقعه وأسراره، متعرِّضًا لأن يكون مشابهًا

(6)

لبارئه، مناسبًا لربِّه بهذا الوجه المعروف= استحال أن يستفيد بعلمه، كما استحال أن يستفيد خالقُه بفعله؛ لأنَّ نعتَه لَصِقَ به

(7)

، وحكمَه لَزِمَه، وحِلْيتَه

(8)

بدت منه، وصفتَه عادت عليه.

وهذه حالٌ إذا فَطِنَ لها، وأشرفَ ببصيرةٍ ثاقبةٍ عليها، وتحقَّق بحقيقتها، وترقَّى

(9)

للخبرة بسَنيِّ ما فيها، علم اضطرارًا عقليًّا أنها أجلُّ وأعلى وأنفس

(1)

«المقابسات» : «مقلي الاختيار» . ولعلها: مذموم الاختيار.

(2)

«المقابسات» : «الحكم» .

(3)

«المقابسات» : «مجحود» .

(4)

(ت): «المتفضل» .

(5)

(ت): «أشكاله» .

(6)

في الأصول: «مثبتا بها» . وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات» .

(7)

العبارة غير محررة في الأصول. وأثبتها من «المقابسات» .

(8)

(ق، ت): «وكليته» . وهو تحريف. والمثبت من (د) و «المقابسات» .

(9)

«المقابسات» : «وتؤتي» . (ز، س): «وتولى» .

ص: 1337

وأسمى وأدومُ وأبقى من جميع فوائد سائر العلوم

(1)

التي حازها أولئك العالِمون؛ لأنَّ أولئك أعمَلوا فوائدَ علومهم فيما حَفِظ عليهم حدَّ الإنسان وخَلْقَه وعادته وشهوتَه

(2)

وراحتَه في اجتلاب نفعٍ ودفع ضرر، ونقصَت رتبتُهم عن مشابهته ومناسبته، والتشبُّه بخاصَّته، والتحلِّي بحِلْيته، ولذلك جَبَر اللهُ نقصَهم في علمهم بفوائدَ نالوها، ومنافعَ أحرزوها

(3)

.

فأمَّا من أرادَ معرفةَ هذه الخفايا والأسرار من هذه الأجرام والأنوار على ما هُيِّئت له ونُظِمَت عليه، فهو حريٌّ جديرٌ أن يعرى من جميع ما وجده صاحبُ كلِّ علمٍ في علمه من المرافق والمنافع، ويفردَ بالحكم

(4)

من رتبها على ما هي عليه، غيرَ مستفيدٍ بذلك فائدةً ولا جدوى.

وهذه لطيفةٌ شريفة، متى وُقِفَ عليها حقَّ الوقوف، وتُقبِّلت حقَّ التقبُّل، كان المدركُ لها أجلَّ من كلِّ فائتٍ وإن عزَّ؛ لأنها بشريَّةٌ صارت إلهيَّة، وجسميَّةٌ استحالت رُوحانيَّة، وطينيَّةٌ انقلبت نُوريَّة، ومركَّبٌ عاد بسيطًا، وجزءٌ استحال كُلًّا، وهذا أمرٌ قلَّما يهتدى إليه ويتنبَّه عليه.

* وقال آخر ــ وهو أبو سليمان المنطقي، وقد سأله أبو حيَّان تلميذُه عن هذه الأجوبة وما فيها من حقٍّ وباطل ــ: إنَّ هاهنا أنفسًا خبيثة، وعقولًا رديَّة، ومعارفَ خسيسة، لا يجوزُ لأربابها أن يَنْشَقُوا ريحَ الحكمة، أو يتطاولوا إلى

(1)

في الأصول: «سابق العلوم» . وهو تحريف. والمثبت من «المقابسات» .

(2)

(ق، د): «وخلقه وعادته وخلقه وشهوته» .

(3)

في الأصول: «خبروها» . (ز): «أخبروها» . (س): «حازوها» . والمثبت من «المقابسات» .

(4)

(د): «وتفرد بالحكم» . (ت): «وتفرد بالحلم» . وفي «المقابسات» : «وينفرد بحكم» .

ص: 1338

غرائب الفلسفة، والنهيُ ورَد من أجلهم، وهو حقٌّ.

فأمَّا النفوسُ التي قوتُها الحكمة، وبُلْغَتُها العلم، وعُدَّتها الفضائل، وعقدتُها

(1)

الحقائق، وذُخْرُها الخيرات، وعادتُها المكارم، وهِمَّتُها المعالي، فإن النهي لم يوجَّه إليها، والعتبَ

(2)

لم يوقَع عليها. كيف يكونُ ذلك، وقد بان بما تكرر من القول أنَّ فائدةَ هذا العلم أجلُّ فائدة، وثمرته أحلى ثمرة

(3)

، ونتيجته أشرفُ نتيجة؟!

فليكن هذا كلُّه كافًّا عن سوء الظنِّ، وكافيًا لك فيما وقع فيه القول وطالَ بين هؤلاء السَّادة الجَحاجِحَة

(4)

في العلم والفهم والبيان والنصح

(5)

». انتهت الحكاية

(6)

.

فليتأمَّل من أنعمَ اللهُ عليه بالعقل والعلم والإيمان، وصانَه عن تقليد هؤلاء وأمثالهم من أهل الحَيرة والضلال= ما في هذه المحاورة، وما انطوت عليه من اعترافهم بغاية علمهم ومستقرِّ أقدامهم فيه، وما حكموا به على أنفسهم من مقتضى حكمة الله فيهم أن يَسْلُبَهم ثمرات علوم الناس وفوائدَها، وأن يكسُوهم لباسَ الخَيبة وقَهْر الناس لهم وإذلالهم إيَّاهم، وأن يجعَل نصيبَ كلِّ أحدٍ من العلم والسعادة فوق نصيبهم

(7)

، وأن يجعَل

(1)

«المقابسات» : «وعقيدتها» . والمثبت من الأصول و (ز، س).

(2)

«المقابسات» (ز، س): «والعيب» .

(3)

(ق، ت): «أجل ثمرة» . والمثبت من (د) و «المقابسات» .

(4)

جمع: جَحجاح. وهو السيد الكريم.

(5)

«المقابسات» (ز، س): «والتصفح» .

(6)

وانظر لرأي أبي حيان في التنجيم ما مضى (ص: 1206) والتعليق عليه.

(7)

من قوله: «وأن يجعل نصيب» إلى هنا ليس في (ت).

ص: 1339

رزقَهم من أبواب الكذب والظنِّ والزَّرْق، وهو أخبثُ مكاسب العالَم، ومكسبُ البغايا وأرباب المواخير خيرٌ من مكاسب هؤلاء؛ لأنهم كسبوها بذنوبٍ وشهوات، وهؤلاء اكتسبوا ما اكتسبوه بالكذب على الله وادِّعاء ما يعلمون هم كَذِبَ أنفسهم فيه.

والعجبُ شهادتُهم على أنفسهم أنَّ حكمة الله سبحانه اقتضت ذلك فيهم لتعاطيهم مشاركتَه في غيبه، والاطلاعَ على أسرار مملكته، وتعدِّيهم طورَ العبوديَّة التي هي سِمَتُهم إلى طور الربوبيَّة الذي لم يجعل لأحدٍ سبيلًا إليه!

فاقتضت حكمةُ العزيز الحكيم أنْ عامَلهم بنقيض قُصودهم

(1)

وعكس مُراداتهم، وجعلِ كلَّ واحدٍ فوقهم في كلِّ ملَّة، ورميِ الناس باللسان العامِّ والخاصِّ لهم بأنهم أكذبُ النَّاس، فإنهم هم الزنادقةُ الدَّهريةُ أعداء الرسل

(2)

وسوسُ المُلك

(3)

، وأنَّ طالعَهم على من حَسَّنَ الظنَّ بهم وتقيَّد بأحكامهم في حركاته وسكناته وتدبيره شرُّ طالع، والمُلكُ والولايةُ المَسُوسُ بهم أذلُّ ملكٍ وأقلُّه، ومن له شيءٌ من تجارب الأمم وأخبار الدُّول والوزراء وغيرهم فعنده من العلم بهذا ما ليس عند غيره.

ولهذا الملوكُ والخلفاءُ والوزراءُ الذين لهم قبولٌ في العالم وصِيتٌ ولسانُ صدقٍ هم أعداءُ هؤلاء الزنادقة، كالمنصور

(4)

، والرشيد، والمهدي،

(1)

(ت، ص): «مقصودهم» .

(2)

(ت، ص): «هم الزنادقة والدهرية وأعداء الرسل» .

(3)

(د، ق): «الملل» .

(4)

كذا ذكر المصنف رحمه الله. وفيه نظر. فقد تقدم (ص: 1202) خبر إحضاره المنجمين عند بناء بغداد، بل ذُكِر أنه أوَّل خليفةٍ قرَّب المنجمين وعمل بأحكام النجوم، وأنه كان كلفًا بها محبًّا لأهلها. انظر:«مروج الذهب» (5/ 211)، و «طبقات الأمم» (213، 216)، و «أخبار الحكماء» (374، 375، 542)، و «تاريخ الخلفاء» (24)، و «فرج المهموم» (86).

ص: 1340

وكخُلفاء بني أمية، وكالملوك المؤيدين في الإسلام قديمًا وحديثًا، كانوا أشدَّ الناس إبعادًا لهؤلاء عن أبوابهم، ولم يَقُمْ لهم سوقٌ في عهدهم إلا عند أشباههم ونظرائهم من كلِّ منافقٍ متستِّرٍ بالإسلام، أو جاهلٍ مُفْرِطٍ في الجهل، أو ناقص العقل والدِّين.

وهؤلاء المذكورون في هذه المحاورة لمَّا صَحَوا وخلا بعضُهم ببعض ولم يُمْكِنهم أن يعتمدوا من التلبيس والكذب والزَّرْق مع بعضهم بعضًا

(1)

ما يعتمدونه مع غيرهم تكلَّموا بما عندهم في ذلك من الاعتراف بالجهل، وأنَّ الأمرَ إنما هو حَدْسٌ وظنٌّ وزَرْق، وأنَّ أحوالَ العالم العُلويِّ أجلُّ وأعظمُ من أن تدخلَ تحت معارفهم وتُكالَ بقُفْزان عقولهم

(2)

، وأنَّ جهلَهم بذلك يوجبُ ولا بدَّ جهلَهم بالأحكام، وأنهم لا وثوقَ لهم بشيءٍ مما فيه؛ لجواز تشكُّل الفلَك بشكلٍ يقتضي بطلانَ جميع الأحكام، وتشكُّله بشكلٍ يكونُ بطلانُها وصحَّتُها بالنسبة إليه على السَّواء، وليس لهم علمٌ بانتفاء هذا الشَّكل ولا بوقت حصوله، فإنه ليس جاريًا على قانونٍ مضبوط، ولا على حسابٍ معروف.

ومع هذا فكيف يبقى لعاقلٍ الوثوقُ بشيءٍ من علم أحكامهم، وهذه

(1)

قال شيخنا الإصلاحي: هذا أسلوب العامة اليوم، وغريبٌ وقوعه في كلام المؤلف! والصواب: بعضهم مع بعض.

(2)

جمع: قَفِيز. مكيالٌ قديم معروف. «المعجم الوسيط» .

ص: 1341

شهادةُ فضلائهم وأئمَّتهم؟! ولو أنَّ خصومهم الذين لا يشاركونهم في صناعتهم قالوا هذا القولَ لم يكن مقبولًا كقبوله منهم.

والحمدُ لله الذي أشهَد أهلَ العلم والإيمان جهلَ هؤلاء وحيرتَهم وضلالَهم وكذبَهم وافتراءَهم بشهادتهم على نفوسهم وعلى صناعتهم، وأنَّ استفادةَ كلِّ ذي علمٍ بعلمه وكلِّ ذي صناعةٍ بصناعته أعظمُ من استفادتهم بعلمهم، وأنَّ أحدًا منهم لا يمكنه أن يعيشَ إلا في كَنَفِ من لم يُحِط من هذا العلم بشيء، وتحت ظلِّ من هو أجهلُ الناس.

ومن العجب قولهم: إنَّ طالعَ أحد المَلِكَين المتغالبَين قد يكونُ مقتضيًا أن لا يصيب منجِّمُه في تلك الحرب، وطالعُ المنجِّم يقتضي خطأه في ذلك الحكم، وطالعُ خصمه ومنجِّمه بالضِّدِّ!

فليعجَب ذو اللُّبِّ من هذا الهذَيان وتهافُته؛ فإذا كان الطالعُ مقتضيًا أن لا يصيبَ المنجِّمُ في تلك الحرب وقد أعطى الحسابَ والحُكمَ حقَّه عند أرباب الفنِّ، بحيث يشهدُ كلُّ واحدٍ منهم أنَّ الحكمَ ما حكم به، أفليس هذا مِن أبين الدَّلائل على بطلان الوثوق بالطالع، وأنَّ الحكمَ به حكمٌ بغير علم، وحكمٌ بما يجوزُ كذبُه؟!

فما في الوجود أعجبُ من هذا الطالع الصَّادق الكاذب، المصيب المخطاء! وأعجبُ من هذا أنَّ هذا الطالعَ بعينه يكونُ قد حَكَمَ به لظفر عدوِّ هذا عليه منجِّمُه، فوافق القضاءُ والقدرُ ذلك الطالعَ وذلك الحُكم، فيكونُ أحدُ المنجِّمَين قد أصاب لمَلِكه طالعًا وحُكمًا، والآخرُ قد أخطأ لمَلِكه، وقد خرجا بطالعٍ واحد!

ص: 1342

وأعجبُ من هذا كلِّه تشكُّلُ الفلَك بشكلٍ وحصولُ طالعِ سعدٍ فيه باتفاق ملئكم، فيحدُث معه مِن علوِّ كلمة مَن لا تعبؤون به

(1)

ولا تعدُّونه، وظهورِ أمرهم، واستيلائهم على المملكة والرياسة والعزِّ والجاه

(2)

، ولَهَجِهم بذمِّكم

(3)

وعَيبكم وإبداء جهلكم وزندقتكم وإلحادكم، فتحتاجون

(4)

أن تَنْضَوُوا إليهم، وتعتصموا بحبلهم، وتترَّسوا بهم، وتقولون لهم بألسنتكم ما تنطوي قلوبُكم على خلافه، مما لو أظهرتموه لكنتم حصائدَ سيوفهم كما صرتُم حصائدَ ألسنتهم.

فأيُّ سعدٍ في هذا الطالع لعمري، أم أيُّ خيرٍ فيه؟!

وليت شعري، كيف لم يوجب لكم هذا الطالعُ بارقةً من سعادة، أو لائحًا من عزٍّ وقبول؟!

ولكن هذه حكمةُ ربِّ الطالع

(5)

، ومدبِّر الفلَك وما حواه، ومسخِّر الكواكب ومجريها على ما يشاءُ سبحانه، أنْ جعَلكم كالذِّمَّة

(6)

، بل أذلَّ منهم، تحت قهر عبيده، وجعل سهامَ سعادتهم من كلِّ خيرٍ وعلمٍ ورياسةٍ وجاهٍ أوفرَ من سِهامكم، وبيوتَ شرَفهم في هذا العالم أعمرَ من بيوتكم، بل خرَّبَ بيوتكم بأيديهم، فلا ينعمرُ منها بيتٌ إلا بالانضمام إليهم والانتماء إلى

(1)

(ت): «يعبأ به» . (ق): «يعبأون به» .

(2)

(ق): «الحياة» . وهو تحريف.

(3)

(ق، د): «ولهجكم بذمكم» . (ت): «ولجهلكم بذنبكم» . والمثبت من (ط).

(4)

(د): «محتاجون» .

(5)

(ت): «رب العالمين» .

(6)

أي: كأهل الذِّمة. وكانوا أذلَّاء!

ص: 1343

شريعتهم وملَّتهم.

وهذا شأنُ العزيز الحكيم في الكذَّابين عليه؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]. قال أبو قلابة: «هي لكلِّ مفترٍ من هذه الأمة إلى يوم القيامة»

(1)

.

وهذه المحاورةُ التي جرت بين أصحاب هذا المَجْمَع

(2)

هي غايةُ ما يمكنُ النجوميَّ أن يقولَه، ولا يَصِلُ إلى ذلك إلا المبرِّزون منهم، ومع هذا فقد رأيتَ حاصلَها ومضمونَها، ولعلهم أن لو عَلِمُوا أنَّ هذه الكلمات تُنقَل

(3)

من جماعتهم، وتتصلُ بأهل الإيمان، لم ينطقوا منها ببنتِ شَفَة، ويأبى اللهُ إلا أن يفضحَ المفتري الكذَّاب ويُنْطِقَه بما يبيِّن باطلَه.

فصل

قال صاحبُ الرِّسالة:

«ذِكْرُ جُمَلٍ من احتجاجهم والاحتجاج عليهم

مِن أوكد ما يستدلُّون به على أنَّ الكواكبَ تفعلُ في هذا العالَم، أو لها دلالةٌ على ما يحدثُ فيه: أنهم امتحنوا عدةَ مواليد صحَّحوا طوالَعها،

(1)

أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» (2/ 236)، والطبري (13/ 135).

وأخرجه أبو القاسم البغوي في «الجعديات» (1/ 358)، واللالكائي في «السنة» (289) عن أيوب. وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» (7/ 280) عن سفيان بن عيينة.

(2)

(ت): «الجمع» .

(3)

(ق): «تعتد» . (ت): «تتعد» .

ص: 1344

وجملةَ مسائلَ راعوها، فوجدوا القضيةَ في جميع ذلك صادقة، فدلَّهم ذلك على أنَّ الأصول التي عملوا عليها صحيحة.

فيقال لهم: إذا كان ما تدَّعونه من هذا دليلًا على صحة الأحكام، فما الفصلُ بينكم وبين من قال: الدليلُ على بطلان الأحكام أنَّا امتحنَّا مواليدَ صحَّحنا طوالعَها، ومسائل تفقَّدنا أحوالَها، فوجدنا جميعها باطلًا ولم يصحَّ الحكمُ في شيءٍ منها؟!

فإن قالوا: إنما يكونُ هذا لجواز الغلط على المنجِّم الذي عملها.

قيل لكم: فما تُنكِرون من أن يكون صِدْقُ المنجِّم في حكمه باتِّفاقٍ وتخمين، كإخراج الزَّوج والفرد

(1)

، وصِدْقِ الحَزْر في الوزن والكيل والذَّرْع والعدد؟!

وإذا كانت الدلالةُ على صحَّة مقالتكم صِدْقُكم في بعض أحكامكم، فالدلالةُ على بطلانها كذبُكم في بعضها

(2)

.

فإن قالوا: ليس ما قلناه بتخمين

(3)

؛ لأنَّا إنما نحكمُ على أصولٍ موضوعةٍ في كتب القدماء.

قيل لهم: لسنا نشكُّ في أنكم تتبعونَ ما في الكتب، وتقلِّدون من

(1)

نحو معرفة ما في اليد من زوجٍ وفرد. وهي من الألعاب. انظر: «روضة الطالبين» للنووي (10/ 351).

(2)

انظر: مختصر «القول في علم النجوم» للخطيب البغدادي (219)، و «رسائل الشريف المرتضى» (2/ 305).

(3)

(ت): «بتحكم منجمين» .

ص: 1345

تقدَّمكم، وما يقعُ من الصِّدق فإنما يقعُ بحسب الاتِّفاق، والذي حصلتم عليه هو الحَدْسُ والتخمينُ بحسب ما في الكتب.

ومما يستدلُّ به من ينتسبُ إلى الإسلام منهم على تصحيح دلالة النجوم: قولُه تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88 - 89]، ولا حجَّة في هذا البتَّة؛ لأنَّ إبراهيم ــ عليه الصلاة والسلام ــ إنما قال هذا ليدفعَ به قومَه عن نفسه، ألا ترى أنه عز وجل قال بعدُ:{فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الصافات: 90 - 91]، فبيَّن تبارك وتعالى أنه إنما قال ذلك ليدفَعهم به، لِمَا كان عَزَمَ عليه من أمر الأصنام

(1)

، وليس يحتاجُ أحدٌ إلى معرفة أصحيحٌ هو أم سقيمٌ من النجوم؛ لأنَّ ذلك يُوجَدُ حِسًّا ويُعْلَمُ ضرورةً، ولا يُحتاجُ فيه إلى استدلالٍ وبحث»

(2)

.

قلت: قد احتُجَّ لهم بغير هذه الحُجَج، فنذكرُها ونبيِّن بطلانَ استدلالهم بها، وبيانَ الباطل منها.

قال أبو عبدالله الرازي

(3)

: «اعلم أنَّ المثبتينَ لهذا العلم احتجُّوا من كتاب الله بآيات.

(1)

انظر ما سيأتي (ص: 1384) والتعليق عليه.

(2)

هذا آخر ما نقله المصنف من رسالة أبي القاسم عيسى بن علي.

(3)

فخر الدِّين، محمد بن عمر، صاحب التصانيف (ت: 606). ولم أجد هذا النصَّ فيما رأيت من كتبه، ومنها:«السر المكتوم» . وبعض هذه الاستدلالات في تفسيره الكبير «مفاتيح الغيب» (7/ 26، 9/ 145، 26/ 147، 31/ 31)، و «السر المكتوم» (109، 110)، والنبوات من «المطالب العالية» (8/ 152).

ص: 1346

إحداها: الآياتُ الدالةُ على تعظيم هذه الكواكب.

فمنها: قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16]، وأكثرُ المفسرين على أنَّ المراد هو الكواكبُ التي تَسِيرُ

(1)

راجعةً تارةً ومستقيمةً أخرى

(2)

.

ومنها: قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 75 - 76]، وقد صرَّح تعالى بتعظيم هذا القَسَم، وذلك يدلُّ على غاية جلالة مَواقِع النجوم ونهاية شرفها

(3)

.

ومنها: قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 1 - 3]، قال ابنُ عباس:«الثَّاقب هو زُحَل؛ لأنه يثقُبُ بنوره سَمْكَ السموات السَّبع»

(4)

.

ومنها: أنه تعالى بيَّن إلهيَّته بكَونِ هذه الكواكب تحت تدبيره وتسخيره فقال: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54].

النوع الثاني: الآياتُ الدالة على أنَّ لها تأثيرًا في هذا العالم؛ كقوله

(1)

غير محررة في (د). وفي (ق، ت): «تصير» . وستأتي على الصواب.

(2)

انظر ما سيأتي (ص: 1360).

(3)

انظر: «فرج المهموم» (44).

(4)

ذكره ابن الجوزي في «زاد المسير» (9/ 81) دون التعليل. وأخرج الطبري (24/ 352) والحربي في «غريب الحديث» (2/ 739) عنه من وجهين أن الثاقب: المضيء. وفي وجهٍ ثالث: الكواكب المضيئة.

ص: 1347

تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]، وقوله:{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات: 4]، قال بعضهم: المرادُ هذه الكواكب

(1)

.

النوع الثالث: الآياتُ الدالةُ على أن في الأيام ما يكون نحسًا، كقوله تعالى:{فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16]، وقوله تعالى:{فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19]

(2)

.

النوع الرابع: الآياتُ الدالةُ على أنه تعالى وضعَ حركات هذه الأجرام على وجهٍ يُنتَفَعُ بها في مصالح هذا العالَم؛ فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5]، وقال:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61].

النوع الخامس: أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام أنه تمسَّك بعلوم النجوم، فقال:{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88 - 89].

النوع السادس: أنه قال: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57]، ولا يكونُ المرادُ من هذا كِبَرَ الجُثَّة؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ يعلمُ ذلك، فوجبَ أن يكون المرادُ كِبَرَ القَدْرِ والشَّرف.

(1)

يحكى عن معاذ بن جبل. ولا يصح. انظر: «النكت والعيون» (6/ 194)، و «تفسير السمعاني» (6/ 146)، و «البحر المحيط» (8/ 412).

(2)

النوع الثالث سقط من (ق).

ص: 1348

وقال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191]، ولا يجوزُ أن يكون المرادُ أنه تعالى خلقها ليُستَدلَّ بتركيبها وتأليفها على وجود الصَّانع؛ لأنَّ هذا القَدْرَ حاصلٌ في تركيب البَقَّة والبعوضة، ودلالةُ حصول الحياة

(1)

في بِنْية الحيوانات على وجود الصَّانع أقوى من دلالة تركيب الأجرام الفلَكيَّة على وجود الصَّانع؛ لأنَّ الحياةَ لا يَقْدِرُ عليها أحدٌ إلا الله، أما تركيبُ الأجسام وتأليفُها فقد يقدرُ على جنسه غيرُ الله.

فلمَّا كان هذا النوعُ من الحكمة حاصلًا في غير الأفلاك، ثم إنه تعالى خصَّها بهذا التشريف، وهو قولُه:{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} = عَلِمنا أنَّ له تعالى في تخليقها أسرارًا عالية، وحِكَمًا بالغة، تتقاصرُ عقولُ البشر عن إدراكها.

ويَقْرُبُ من هذه الآية قولُه تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]؛ ولا يمكنُ أن يكونَ المرادُ أنه تعالى خلقها على وجهٍ يمكنُ الاستدلالُ بها على وجود الصَّانع الحكيم؛ لأنَّ كونها دالةً على الافتقار إلى الصَّانع أمرٌ ثابتٌ لها لذاتها؛ لأنَّ كلَّ متحيِّزٍ فإنه مُحْدَث، وكلَّ مُحْدَثٍ فإنه مفتقرٌ إلى الفاعل، فثبت أنَّ دلالةَ المتحيِّزات على وجود الفاعل أمرٌ ثابتٌ لها لذواتها وأعيانها، وما كان كذلك لم يكن سببَ الفعل والجَعْل، فلم يمكن

(2)

حملُ قوله: {وَمَا خَلَقْنَا

(1)

في الأصول: «وفي حصول الحياة» . والمثبت من «روح المعاني» (12/ 103).

(2)

في الأصول: «يكن» . والمثبت من (ط).

ص: 1349

السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} على هذا الوجه، فوجب حملُه على الوجه الذي ذكرناه.

النوع السابع: رُوِي أنَّ عمر بن الخيَّام

(1)

كان يقرأ كتابَ «المِجَسْطي»

(2)

على أستاذه، فدخلَ عليهم واحدٌ من أجلاف المتفقِّهة، فقال لهم: ماذا تقرؤون؟ فقال عمرُ بن الخيَّام: نحن في تفسير آيةٍ من كتاب الله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6]، فنحن ننظرُ كيف خلقَ السماء، وكيف بناها، وكيف صانها عن الفُروج.

النوع الثامن: أنَّ إبراهيم عليه السلام لما استدلَّ على إثبات الصَّانع تعالى بقوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]، قال له نمرود: أتدَّعي أنه يحيي ويميتُ بواسطة الطبائع والعناصر، أو لا بواسطة هذه الأشياء؟ فإن ادعيتَ الأول فذلك مما لا تجده البتَّة؛ لأنَّ كلَّ ما يحدُث في هذا العالم فإنما يحدُث بواسطة أحوال العناصر الأربعة والحركات الفلَكيَّة. وإذا ادعيتَ الثاني فمثلُ هذا الإحياء والإماتة حاصلٌ مني ومن كلِّ أحد؛ فإنَّ الرجلَ قد يكونُ سببًا

(3)

لحدوث الولد لكن بواسطة تمزيج الطبائع

(1)

(ق): «الختام» . (ت): «الحسامي» . شاعرٌ فارسي، فيلسوف، عالم بالرياضيات والفلك، قدح أهلُ زمانه في دينه (ت: 515). انظر: «أخبار الحكماء» (327)، و «الأعلام» (5/ 38).

(2)

لبَطْليموس، في علم الهيئة وحركات النجوم، ثلاث عشرة مقالة، تناوله من بعده بالشرح والاختصار والتقريب. انظر:«أخبار الحكماء» (130)، و «كشف الظنون» (2/ 1594).

(3)

في الأصول: «مسندا» . والمثبت من (ط). وفي «مفاتيح الغيب» للرازي (7/ 17): «فإن الجماع قد يفضي إلى الولد الحي» .

ص: 1350

وتحريك الأجرام الفلَكيَّة، وكذلك قد يميتُ

(1)

بهذه الوسائط. وهذا هو المرادُ من قوله تعالى حكايةً عن الخصم: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} .

ثمَّ إنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام أجاب عن هذا السؤال بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ، يعني: هَبْ أنه سبحانه إنما يُحْدِثُ حوادثَ العالم بواسطة الحركات الفلَكيَّة، لكنَّه تعالى هو المبداء

(2)

للحركات الفلَكيَّة؛ لأنَّ تلك الحركات لا بدَّ لها من سبب، ولا سببَ لها سوى قدرة الله تعالى، فثبتَ أنَّ حوادثَ هذا العالم وإن سلَّمنا أنها إنما حصلت بواسطة الحركات الفلَكيَّة لكنَّه لمَّا كان المدبِّر لتلك الحركات الفلَكيَّة هو الله تعالى كان الكلُّ منه، بخلاف الواحد منَّا، فإنَّا وإن قَدَرْنا على الإحياء والإماتة بواسطة الطبائع وحركات الأفلاك، إلا أنَّ حركات الأفلاك ليست منَّا، بدليل أنَّا لا نقدرُ على تحريكها على خلاف التَّحريك الإلهي، وظَهَر الفَرق.

وهذا هو المرادُ من قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ، يعني: هَبْ أنَّ هذه الحوادثَ في هذا العالم حصلت بحركة الشَّمس من المشرق، إلا أنَّ هذه الحركة من الله؛ لأنَّ كلَّ جسمٍ متحرِّكٍ فلا بدَّ له من محرِّك، وذلك المحرِّكُ لست أنتَ ولا أنا، فلِمَ لا تحرِّكها من المغرب؟!

فثبتَ أنَّ اعتمادَ إبراهيم الخليل في معرفة ثبوت الصَّانع على الدلائل

(1)

(ق): «ولذلك قد نميت» . وهو تحريف.

(2)

(ق): «المبدأ» .

ص: 1351

الفلَكيَّة، وأنه ما نازع الخصمَ في كون هذه الحوادث السفليَّة مرتبطةً بالحركات الفلَكيَّة.

واعلم أنكَ إذا عرفتَ نهجَ الكلام في هذا الباب علمتَ أنَّ القرآنَ مملوءٌ من تعظيم الأجرام الفلَكيَّة وتشريف الكُرات الكوكبيَّة.

* وأمَّا الأخبار، فكثيرة.

منها: ما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عند قضاء الحاجة عن استقبال الشَّمس والقمر واستدبارهما

(1)

.

ومنها: أنه لمَّا مات ولدُه إبراهيم انكسفت الشَّمس، ثمَّ إنَّ الناسَ قالوا: إنما انكسفت لموت إبراهيم، فقال:«إنَّ الشَّمس والقمرَ آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة»

(2)

.

ومنها: ما روى ابنُ مسعود رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ذُكِرَ

(1)

جزءٌ من حديثٍ طويلٍ باطلٍ لا أصل له، أخرجه الحكيم الترمذي في «المناهي» (33)، من مفاريد عباد بن كثير الثقفي، وهو متروك، والحديث من منكراته، ودلائل الوضع لائحةٌ عليه. انظر:«أحوال الرجال» للجوزجاني (177)، و «الكامل» لابن عدي (4/ 334)، و «التهذيب» (5/ 101)، و «شرح مشكل الوسيط» لابن الصلاح (1/ 295)، و «المجموع» (2/ 110)، و «البدر المنير» (2/ 304)، و «التلخيص الحبير» (1/ 113)، و «تنزيه الشريعة المرفوعة» (2/ 397). وانظر ما يأتي (ص: 1402).

(2)

من حديثي المغيرة بن شعبة وعائشة، أخرجهما البخاري (1043، 1046)، ومسلم (901، 915).

ص: 1352

القَدَرُ فأمسكوا، وإذا ذُكِرَ أصحابي فأمسكوا، وإذا ذُكِرَ النجومُ فأمسكوا»

(1)

.

ومن الناس من يروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسافروا والقمرُ في العقرب»

(2)

، ومنهم من يروي ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه

(3)

، وإن كان المحدِّثون

(1)

روي من حديث ابن مسعود، وأبي ذر، وثوبان، وابن عمر، وأبي هريرة، وعبيد بن عبد الغافر مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وطاووس مرسلًا.

قال ابن رجب في «فضل علم السلف» (51): «روي من وجوهٍ متعددةٍ في أسانيدها مقال» . وجلُّها شديد الضعف.

وحسَّن حديث ابن مسعود الذي أخرجه الطبراني في «الكبير» (10/ 198) العراقيُّ في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 25) وابن حجر في «الفتح» (11/ 477)، ولا يصح، فإن فيه مسهر بن عبد الملك، وليس بالقوي، وقد تفرَّد به عن الأعمش، وهذا لا يحتمل منه. وضعفه السخاوي في «فتح المغيث» (3/ 270). وانظر:«المداوي» (1/ 364).

وحديث أبي ذر أخرجه ابن بطة في «الإبانة» (1275، 1982 - القدر)، وحديث أبي هريرة أخرجه أبو الشيخ في «طبقات المحدثين بأصبهان» (4/ 133)، وأحدهما خطأ والآخر منكر. وحديث عبيد بن عبد الغافر عند أبي نعيم في «معرفة الصحابة» (4784) وإسناده ضعيفٌ جدًّا. انظر:«الإصابة» (4/ 160).

وانظر لباقي طرق الحديث: «السلسلة الصحيحة» (34).

(2)

أخرجه الصُّولي في «الأوراق» - نقله السيوطي في «تاريخ الخلفاء» (321)، وليس في القسم المطبوع - بإسنادٍ شديد الضعف مسلسل بالعلل؛ شيخ الصولي متهمٌ بالكذب، ومن دونه فيهم من لا يحتجُّ به، وليس كما قال في «الدرر المنتثرة» .

وقال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (35/ 179): «كذبٌ مختلقٌ باتفاق أهل الحديث» . وذكره الصغاني في «الموضوعات» (99). وانظر كلام المصنف الآتي (ص: 1426).

(3)

أخرج ابن الجنيد في «سؤالاته» ليحيى بن معين (60) عن علي رضي الله عنه كراهته للزواج أو السفر في المحاق أو إذا نزل القمر العقرب، وإسناده ضعيفٌ جدًّا، وحكم عليه ابن حجر في «اللسان» (4/ 324) بالنكارة؛ لأنَّ المعروف عن علي الإنكار على من يعتقد ذلك، أمَّا ابن معين فحكى ابن الجنيد عنه أنه لم ينكره، ولعلَّه إنما لم ينكره على راويه عمر بن مجاشع ورأى العهدة فيه على من دونه.

وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (7/ 297) من وجهٍ آخر فيه من لم أعرفه، كأنه مسروقٌ من الأوَّل. وانظر كلام المصنف الآتي (ص: 1427) والتعليق عليه.

ص: 1353

لا يقبلونه.

* وأمَّا الآثار، فكثيرة.

منها: عن عليٍّ أنَّ رجلًا أتاه، فقال له: إني أريدُ الخروج في تجارة، وكان ذلك في مَحَاقِ الشَّهر، فقال: تريدُ أن يمحقَ اللهُ تجارتك؟! استقبِل هلالَ الشَّهر بالخروج

(1)

.

وعن عكرمة أنَّ يهوديًّا منجِّمًا قال له ابنُ عباس: ويحك، تُخْبِرُ الناسَ بما لا تدري؟! فقال اليهودي: إنَّ لك ابنًا وهو في المَكْتَب، ويجيءُ غدًا محمومًا، ويموتُ في اليوم العاشر منه. قال ابنُ عباس: ومتى تموتُ أنت؟ قال: في رأس السَّنة. ثمَّ قال لابن عباس: لا تموتُ أنت حتى تعمى. ثمَّ جاء ابنُ ابن عباس وهو محموم، ومات في العاشر، ومات اليهوديُّ في رأس السَّنة، ولم يمت ابن عباسٍ رضي الله عنه حتى ذهبَ بصرُه

(2)

.

(1)

«ربيع الأبرار» (1/ 101) دون إسناد. وانظر كلام المصنف الآتي (ص: 1432).

(2)

أخرجه ابن النجار في «التاريخ المجدد لمدينة السلام» ــ في ترجمة علي بن طراد، كما في «فرج المهموم» لابن طاووس (110)، ولم ينقل إسناده ــ. وانظر كلام المصنف الآتي (ص: 1433).

ص: 1354

وعن الشعبي قال: قال أبوالدرداء: «والله لقد فارق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتركنا ولا طائرٌ يطيرُ بجناحيه إلا ونحن ندَّعي فيه علمًا»

(1)

.

وليست الكواكبُ موكَّلةً بالفساد والصَّلاح، ولكنَّ فيها دليلَ بعض الحوادث، عُرِف ذلكَ بالتجربة.

وجاء في الآثار أنَّ أول من أُعطِيَ هذا العلمَ آدم؛ وذلك أنه عاش حتى أدركَ من ذرِّيته أربعينَ ألف أهل بيت، وتفرَّقوا عنه في الأرض، وكان يغتمُّ لخفاء خبرهم عليه، فأكرمه الله تعالى بهذا العلم، وكان إذا أراد أن يعرفَ حال أحدهم حَسَبَ له بهذا الحساب، فيقفُ على حالته

(2)

.

وعن ميمون بن مهران، أنه قال:«إيَّاكم والتكذيبَ بالنجوم، فإنه علمٌ من علم النُّبوة»

(3)

.

وعنه أيضًا أنه قال: «ثلاثٌ ارفُضوهنَّ؛ لا تنازعوا أهلَ القَدَر، ولا تذكروا أصحابَ نبيِّكم إلا بخير، وإيَّاكم والتكذيبَ بالنجوم؛ فإنه مِن علم

(1)

أخرجه أبو يعلى (5109)، وابن منيع (3849 - المطالب العالية، 237 - إتحاف الخيرة» من حديث أبي الدرداء. وروي من مسند أبي ذر، عند أحمد (5/ 153، 162)، والطيالسي (481)، وابن حبان (65)، وغيرهم.

وهو حديث واحدٌ وقع فيه اختلافٌ في وصله وانقطاعه وتسمية صحابيِّه. والأشبه أنه منقطعٌ من مسند أبي ذر. انظر: «مسند البزار» (3897)، و «علل الدارقطني» (6/ 290)، و «أطراف الغرائب والأفراد» لابن طاهر (4629، 4653)، و «المطالب العالية» لابن حجر (4/ 214).

(2)

هذا من الافتراء والبهت، كما سيذكر المصنف (ص: 1440).

(3)

«ربيع الأبرار» (1/ 100) دون إسناد.

ص: 1355

النُّبوة»

(1)

.

ورُوِي أنَّ الشافعيَّ كان عالمًا بالنجوم، وجاء لبعض جيرانه ولد، فحكمَ الشافعيُّ أنَّ هذا الولدَ ينبغي أن يكون على العضو الفُلانيِّ منه خالٌ صفتُه كذا وكذا، فوُجِدَ الأمرُ كما قال

(2)

.

* وأيضًا: أنه تعالى حكى عن فرعون أنه كان يذبحُ أبناء بني إسرائيل ويستحيي نساءهم، والمفسرون قالوا: إنَّ ذلك إنما كان لأنَّ المنجِّمين أخبروه بأنه سيجيءُ ولدٌ من بني إسرائيل، ويكونُ هلاكُه على يده. وهذه الروايةُ ذكرها محمد بن إسحاق وغيره

(3)

.

وهذا يدلُّ على اعتراف النَّاس قديمًا وحديثًا بعلم النجوم.

* وأمَّا المعقول؛ فهو أنَّ هذا علمٌ ما خَلَتْ عنه ملَّةٌ من الملل، ولا أمَّةٌ من الأمم، ولا يُعرَفُ تاريخٌ من التواريخ القديمة والحديثة إلا وكان أهلُ ذلك الزمان مشتغلين بهذا العلم، ومعوِّلين عليه في معرفة المصالح، ولو كان هذا العلمُ فاسدًا بالكليَّة لاستحال إطباقُ أهل المشرق والمغرب من

(1)

أخرج الإمام أحمد في «فضائل الصحابة» (19، 1739)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 149) عنه قال:«ثلاث ارفضوهن، سب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والنظر في النجوم، والنظر في القدر» . وإسناده صحيح. فهذا هو اللفظ المعروف للأثر.

(2)

انظر: «مناقب الشافعي» للرازي (328)، وما سيأتي (ص: 1445).

(3)

أخرجه الطبريُّ في «التفسير» (2/ 45) من رواية ابن إسحاق. وأخرج عبدالرزاق (2/ 87)، والطبري (19/ 518) عن قتادة نحوه. وانظر:«معاني القرآن» للنحاس (5/ 157)، و «تفسير القرطبي» (13/ 223)، وكلام المصنف الآتي (ص: 1453) والتعليق عليه.

ص: 1356

أوَّل بناء العالم إلى آخره عليه

(1)

.

وقال بَطْليموس في بعض كتبه: «بعض الناس يعيبونَ هذا العلم، وذلك العيبُ إنما حصلَ من وجوه:

الأول: عجزُهم عن معرفة حقيقة مواضع الكواكب بدقائقها وثوانيها

(2)

، وذلك أنَّ الآلات الرَّصديَّة لا تنفكُّ عن مُسامحاتٍ لا يفي بضبطها الحِسُّ؛ لأجل قلَّتها في الآلات الرَّصدية، لكنَّها وإن قلَّت في هذه الآلات إلا أنها في الأجرام الفلَكيَّة كثيرة، فإذا تباعَدت الأرصادُ حصلَ بسبب تلك المسامحات تفاوتٌ عظيمٌ في مواضع الكواكب

(3)

.

الثاني: أنَّ هذا العلمَ علمٌ مبنيٌّ على معرفة الدلائل الفلَكيَّة، وتلك الدلائلُ لا تحصلُ إلا بتمزيجاتِ أحوال الكواكب، وهي كثيرةٌ جدًّا، ثمَّ إنها مع كثرتها قد تكونُ متعارضةً ولا بدَّ فيها من الترجيح، وحينئذٍ يصعبُ على أكثر الأفهام الإحاطةُ بتلك التَّمزيجات الكثيرة، وبعد الإحاطة بها فإنه يصعبُ الترجيحاتُ الجيِّدة، فلهذا السَّبب لا يتفقُ من يحيطُ بهذا العلم كما ينبغي إلا الفردُ بعد الفرد، ثمَّ إنَّ الجهَّالَ يُظهِرُونَ من أنفسهم كونَهم عارفين بهذا العلم، فإذا حَكَمُوا وأخطؤوا ظنَّ الناسُ أنَّ ذلك بسبب أنَّ هذا العلمَ ضعيف.

الثالث: أنَّ هذا العلمَ لا يفي بإدراك الجزئيَّات على وجه التفصيل الباهر، فمن حَكَمَ على هذا الوجه فقد يقعُ في الخطأ.

(1)

انظر: «المطالب العالية» للرازي (8/ 152).

(2)

(ت، د): «وثوابتها» . (ق): «ومواتيها» . (ط): «ومراتبها» . وكله تحريف.

(3)

انظر ما تقدم (ص: 1189).

ص: 1357

فلهذه الأسباب الثلاثة توجَّهت المطاعنُ إلى هذا العلم».

وحُكِيَ أنَّ الأكاسرة كان إذا أراد أحدُهم طَلَبَ الولدِ أمر بإحضار المنجِّم، ثمَّ كان ذلك الملكُ يخلو بامرأته، فساعةَ ما يقعُ الماءُ في الرَّحِم يأمرُ خادمًا على الباب يضربُ طستًا يكونُ في يده، فإذا سمع المنجِّمُ طنينَ الطَّست أخذ الطالعَ وحكمَ عليه

(1)

، حتى يُخْبِر بعدد السَّاعات التي يمكثُ الولدُ في بطن أمه، ثمَّ إنه كان يأخذُ الطالعَ ــ أيضًا ــ عند الولادة مرةً أخرى ويحكمُ عليه.

فلا جَرَمَ كانت أحكامُهم كاملةً قويَّة؛ لأنَّ الطالعَ الحقيقيَّ هو طالعُ مسقَط النطفة، فإنَّ حدوثَ الولد إنما يكونُ في ذلك الوقت، فأما طالعُ الولادة فهو طالعٌ مستعار؛ لأنَّ الولدَ لا يحدثُ في ذلك الوقت وإنما ينتقلُ من مكانٍ إلى مكانٍ آخر.

ورُوِي أنَّ في عهد أَرْدْشِير بن بابَك

(2)

أنه قال في العهد الذي كتبه لولده: لولا اليقينُ بالبَوارِ الذي على رأس ألف سنةٍ لكنتُ أكتبُ لكم كتابًا إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا أبدًا!

وعَنى بالبَوار ما أخبره المنجِّمون من أنه يزول مُلكهم عند رأس ألف سنةٍ من مُلك گُشْتاسْپ

(3)

، والمرادُ منه: زوالُ دولتهم وظهورُ دولة

(1)

«ربيع الأبرار» (1/ 102).

(2)

من ملوك الفرس.

(3)

أحد ملوكهم الكبار المتقدمين. وفي الأصول: «كستاست» . وهو تحريف. انظر: «الفهرست» (15، 307)، و «مختصر تاريخ الدول» (47)، و «الملل والنحل» (1/ 136، 253)، و «طبقات الشافعية» (5/ 324)، و «لقطة العجلان» (90).

ص: 1358

الإسلام.

ورُوِي أنه دخلَ الفضلُ بن سهلٍ على المأمون في اليوم الذي قُتِلَ فيه، وأخبره أنه يُقْتَلُ في هذا اليوم بين الماء والنار، فأنكرَ المأمونُ ذلك عليه، وقوَّى قلبَه، ثمَّ اتفقَ أنه دخلَ الحمَّام فقُتِلَ في الحمَّام

(1)

، وكان الأمرُ كما أخبر».

ثمَّ قال

(2)

: «واعلم أنَّ التجاربَ في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرنا كفاية»

(3)

.

قلت: فهذا أقصى ما قرَّر به الرازيُّ كلامَ هؤلاء ومذهبَهم، ولقد نثَر الكنانة، ونَفَضَ الجَعْبة، واستفرغَ الوُسْع، وبذلَ الجهد، ورَوَّجَ وبَهْرَج، وقَعْقَعَ وفَرْقَع، وجَعْجَعَ ولا ترى طِحْنًا، وجمَع بين ما يُعْلَمُ بالاضطرار أنه كذبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه، وبين ما يُعْلَمُ بالاضطرار أنه خطأٌ في تأويل كلام الله ومعرفة مراده.

ولا يروجُ ما ذكره إلا على مُفْرِطٍ في الجهل بدين الرسل وما جاؤوا به، أو مقلِّدٍ لأهل الباطل والمُحال من المنجِّمين وأقاويلهم، فإن جمَع بين الأمرين شَرِبَ كلامه شُربًا!

ونحن بحمد الله ومعونته وتأييده نبيِّنُ بطلانَ استدلاله واحتجاجه، فنقول:

(1)

انظر: «وفيات الأعيان» (4/ 42)، و «محاضرات الأدباء» (1/ 300).

(2)

أي: الرازي.

(3)

هذا آخر ما نقله المصنف من احتجاج الرازي لصناعة التنجيم.

ص: 1359

* أمَّا الاستدلالُ بقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} ؛ فإنَّ أكثر المفسِّرينَ على أنَّ المراد هو الكواكبُ التي تسيرُ راجعةً تارةً ومستقيمةً أخرى، فهذا القولُ قد قاله جماعةٌ من المفسِّرين

(1)

، وأنها الكواكبُ الخمسة: زُحَل وعطارد والمشتري والمرِّيخ والزُّهَرة، ويروى عن عليٍّ

(2)

، واختاره مقاتل

(3)

وابن قتيبة

(4)

.

قالوا: وسمَّاها خُنَّسًا لأنها في سيرها تتقدَّمُ إلى جهة المشرق، ثم تَخْنُس، أي: تتأخَّر، وكنوسُها استتارُها في مغربها، كما تَكْنِسُ الظِّباءُ وبقرُ الوحش، أي: تأوي إلى كِناسها، وهي أكنَّتها.

وتسمَّى هذه الكواكب: المتحيِّرة؛ لأنها تسيرُ مستقيمةً وتسيرُ راجعة.

وقيل: كُنوسُها بالنسبة إلى الناظر وهو استتارُها تحت شعاع الشَّمس.

وقيل: هي النجوم كلُّها. وهو اختيارُ أبي عبيدة

(5)

، وقاله الحسنُ وقتادة

(6)

.

وعلى هذا القول، فيكون القسَمُ بها باعتبار أحوالها الثلاثة: مِن طلوعها،

(1)

انظر: «زاد المسير» (9/ 42)، و «تفسير الطبري» (24/ 251). وقال المصنف في «أيمان القرآن» (184):«وهو الصواب» .

(2)

أخرجه الطبري (24/ 251)، وغيره. انظر:«الدر المنثور» (8/ 431).

(3)

في «تفسيره» (3/ 456). وفي (ق): «ابن مقاتل» . وهو خطأ.

(4)

في «غريب القرآن» (517)، و «الأنواء» (126).

(5)

في «مجاز القرآن» (2/ 287). وفي الأصول: «أبي عبيد» . وهو تحريف. وعلى الصواب في «زاد المسير» ، وهو مصدر المصنف.

(6)

أخرجه عنهما الطبري (24/ 251، 252).

ص: 1360

وغروبها، وما بينهما. فهي خُنَّسٌ عند أول الطلوع؛ لأنَّ النجمَ منها يُرى كأنه يبدو ويَخْنُس، وكنَّسٌ عند غروبها؛ تشبيهًا بالظِّباء التي تأوي إلى كِناسها، وهي جَوَارٍ مابين طلوعها وغروبها. خُنَّسٌ عند الطلوع جوارٍ بعده، كُنَّسٌ عند الغروب. وهذا كلُّه بالنسبة إلى أفق كلِّ بلدٍ يكونُ لها فيه الأحوالُ الثلاثة.

وقال عبدالله بن مسعود: هي بقرُ الوحش

(1)

. وهي روايةٌ عن ابن عباس

(2)

، واختاره سعيد بن جبير

(3)

.

وقيل ــ وهو أضعفُ الأقوال ــ: إنها الملائكة. حكاه الماورديُّ في «تفسيره»

(4)

.

فإن كان المرادُ بعضَ هذه الأقوال غيرَ ما حكاه الرازيُّ فلا حجَّة له.

وإن كان المرادُ ما حكاه، فغايتُه أن يكونَ اللهُ سبحانه قد أقسمَ بها كما أقسمَ بالليل والنهار، والضحى، ومكة، والوالد وولده، والفجر وليالٍ عشر، والشَّفع والوتر، والسماء والأرض، واليوم الموعود، وشاهدٍ ومشهود، والنَّفس، والمرسلات، والعاصفات، والنَّاشرات، والفارقات، والنَّازعات، والنَّاشطات، والسَّابحات، والسَّابقات، وما نُبْصِرُه ومالا نُبْصِرُه من كلِّ

(1)

أخرجه الطبري (24/ 252)، وعبد الرزاق (2/ 351)، والطبراني في «الكبير» (9/ 219)، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 142)، وصححه الحاكم (2/ 516) ولم يتعقبه الذهبي.

(2)

أخرجها الطبري (24/ 253).

(3)

أخرجه الطبري (24/ 254). وهذا القول ليس بالظاهر، لوجوهٍ كثيرةٍ بسطها المصنف في «أيمان القرآن» (186 - 189).

(4)

«النكت والعيون» (6/ 216)، حكاه احتمالًا.

ص: 1361

غائبٍ عنَّا وحاضر، مما فيه التنبيهُ على كمال ربوبيته وعزَّته وحكمته وقدرته وتدبيره وتنوُّع مخلوقاته الدَّالَّة عليه، والمرشدة إليه، بما تضمَّنته من عجائب الصَّنعة وبديع الخِلْقَة، وتشهدُ لفاطرها وبارئها بأنه الواحدُ الأحدُ الذي لا شريكَ له، وأنه الكاملُ في علمه وقدرته ومشيئته ووحدانيته وحكمته وربوبيته ومُلكه، وأنها مسخَّرةٌ مذلَّلةٌ منقادةٌ لأمره مطيعةٌ لمراده منها.

ففي الإقسام بها تعظيمٌ لخالقها تبارك وتعالى، وتنزيهٌ له عمَّا نسبه إليه أعداؤه الجاحدون المعطِّلون لربوبيته وقدرته ومشيئته ووحدانيته، وأنَّ مَن هذه عبيدُه

(1)

ومماليكُه وخلقُه وصنعُه وإبداعُه فكيف تُجْحَدُ ربوبيتُه وإلهيتُه؟! وكيف تُنْكَرُ صفاتُ كماله

(2)

ونعوتُ جلاله؟! وكيف يسوغُ لذي حِسٍّ سليمٍ وفطرةٍ مستقيمةٍ تعطيلُها عن صانعها، أو تعطيلُ صانعها عن نعوت جلاله وأوصاف كماله وعن أفعاله؟!

فإقسامُه بها أكبرُ دليلٍ على فساد قول نوعي المعطِّلة والمشركين الذين جعلوها آلهةً تُعْبَد، مع دلائل الحُدوث والعبوديَّة والتَّسخير والافتقار عليها، وأنها أدلةٌ على بارئها

(3)

وفاطرها وعلى وحدانيته، وأنه لا تنبغي الربوبيةُ والإلهيةُ لها بوجهٍ ما، بل لا تنبغي إلا لمن فطرها وبرأها، كما قال القائل:

تأمَّلْ سطورَ الكائناتِ فإنها

من الملأ الأعلى

(4)

إليك رسائلُ

وقد خُطَّ فيها لو تأمَّلتَ خَطَّها

ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ

(1)

(ت): «هذه الأمور» .

(2)

(ت): «صفات كماله وعن أفعاله» .

(3)

في الأصول: «على أربابها» . والمثبت من (ط).

(4)

(ق): «الملك الأعلى» . والبيتان سلف تخريجهما (ص: 1025).

ص: 1362

وقال آخر:

فواعجبَا كيف يُعصَى الإله

أم كيف يجحدُه جاحدُ

(1)

ولله في كلِّ تحريكةٍ

وتسكينةٍ أبدًا شاهدُ

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ

تدلُّ على أنه واحدُ

فلم يكن إقسامُه بها سبحانه مقرِّرًا بذلك

(2)

علمَ الأحكام النجوميَّة كما يقولُه الكاذبون المفترون، بل مقرِّرًا لكمال ربوبيته ووحدانيته، وتفرُّده بالخلق والإبداع، وكمال حكمته وعلمه وعظمته.

وهذا نظيرُ إخباره سبحانه عن خَلقِها وعن حكمة خالقها

(3)

بقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، وقوله:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33]، وقوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]، وقوله:{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، وقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ

(1)

(ت): «الجاحد» . ومضى تخريج الأبيات (ص: 642).

(2)

(ت): «مقررًا أحكام» .

(3)

(ت، د): «حكمة خلقها» .

ص: 1363

يَعْقِلُونَ} [النحل: 12].

وهؤلاء المشركون يعظِّمون الشَّمس والقمرَ والكواكبَ تعظيمًا يسجدون لها به، ويتذلَّلون لها، ويسبِّحونها تسابيحَ معروفةً في كتبهم، ودعواتٍ لا ينبغي أن يُدعى بها إلا خالقُها وفاطرُها وحده.

ويقولُ بعضهم في كتابه: مصحف الشَّمس، مصحف القمر، مصحف زُحل، مصحف عطارد

(1)

.

وبعضهم يقول: تسبيحة الشَّمس، تسبيحة القمر، تسبيحة عطارد، تسبيحة زُحَل، ولا يتحاشى من ذلك

(2)

.

وبعضهم يقول: دعوة الشَّمس، دعوة القمر، دعوة عطارد، دعوة زُحَل.

وبعضهم يقول: هيكل الشَّمس والقمر وعطارد

(3)

.

وأصله: أنَّ الهيكلَ هو البيتُ المبنيُّ للعبادة، وكان الصَّابئون يبنون لكلِّ كوكبٍ من هذه هيكلًا، ويُصَوِّرون فيه ذلك الكوكب ويتخذُونه لعبادته وتعظيمه ودعائه، ويزعمون أنَّ روحانيَّة ذلك الكوكب تتنزَّلُ عليهم فتخاطبُهم وتقضي حوائجَهم

(4)

، وشاهدوا ذلك منها وعاينوه، وتلك

(1)

ومن هؤلاء أبو معشر البلخي (المتقدم ذكره). انظر: «مجموع الفتاوى» (17/ 507، 535)، و «الرد على المنطقيين» (287). ونسبوا إلى هرمس (وهو عندهم إدريس عليه السلام مثل ذلك. انظر:«السر المكتوم» (88)، و «كشف الظنون» (2/ 1711).

(2)

انظر: «السر المكتوم» (123 - 129).

(3)

انظر: «درء التعارض» (1/ 313)، و «منهاج السنة» (2/ 192)، و «الرد على المنطقيين» (287)، و «بغية المرتاد» (369)، و «الرد على البكري» (2/ 567).

(4)

انظر ما تقدم (ص: 1002) والتعليق عليه.

ص: 1364

الروحانيَّةُ هي الشياطينُ تنزَّلتْ عليهم، وخاطبتْهم، وقَضَتْ حوائجَهم

(1)

.

ثمَّ لمَّا رامَ هذا الفعلَ من تستَّر منهم بالإسلام، ولم يُمْكِنه أن يبني بيتًا

(2)

يعبدُها فيه، كتبَ لها دعواتٍ وتسبيحاتٍ وأذكارًا سمَّاها: هياكل، ثمَّ من اشتدَّ تستُّره وخوفُه أخرجَها في قالب حروفٍ وكلماتٍ لا تُفْهَم، لئلَّا يُبادَر إلى إنكارها وردِّها!

ومن لم يَخَفْ منهم خرَّج

(3)

تلك الدَّعوات والتسبيحات والأذكار بلسان من يخاطبُه بالفارسية والعربية وغيرها، فلمَّا أنكرَ عليه أهلُ الإيمان، قال: إنما ذكرتُ هذه معرفةً لهذا العلم وإحاطةً به، لا اعتقادًا له، ولا ترغيبًا فيه.

وقد وَصَفَ

(4)

ذلك العلمَ وقرَّره على أتمِّ تقرير، وحَمَله هديَّةً إلى مَلِكه فأثابه عليه جملةً من الذهب، يقال: إنه ألفُ دينار

(5)

، وصار ذلك الكتابُ

(6)

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (1/ 173، 10/ 451، 11/ 292)، و «الصفدية» (1/ 241)، و «النبوات» (1058)، و «الرد على المنطقيين» (286، 535)، و «الرد على البكري» (1/ 170).

(2)

(ق، د): «يبني لها بيوتا» .

(3)

(د، ق، ص): «خرج بتلك» . (ط): «صرح بتلك» .

(4)

أي: الرازي. وهو المقصود في هذا السياق.

(5)

ذكر شيخ الإسلام في «نقض التأسيس» (1/ 447) أنه صنَّفه لأم الملك علاء الدين، وأنها أعطته عليه ألف دينار، وكان مقصودها ما فيه من السحر والعجائب.

(6)

وهو «السر المكتوم في مخاطبة الشمس والقمر والنجوم» ، وفي نسبته إلى الرازي خلافٌ ضعيف، وهو له بلا ريب، ومن طالعه وله أنسٌ بأسلوب الرازي لم يتردد في ذلك. طبع في الهند طبعة حجرية. انظر:«فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية» للزركان (111).

ص: 1365

إمامًا لأهل هذا الفنِّ، إليه يلجؤون، وعليه يعوِّلون، وبه يحتجُّون، ويقولون: شهرةُ مصنِّفه وجلالتُه وعلمُه وفضلُه لا تُنكَرُ ولا تُجْحَد.

وفي هذا الكتاب من مخاطبة الشَّمس والقمر والكواكب بالخطاب الذي لا يليقُ إلا بالله عز وجل ولا ينبغي لأحدٍ سواه، ومن الخضوع والذُّلِّ والعبادة التي لم يكن عُبَّادُ الأصنام يبلغونها من آلهتهم

(1)

.

فيا لله! أتجعلُ

(2)

قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} دليلًا على هذا ومقدمةً له في أول الكتاب؟!

فإن كان الإقسامُ بها دليلًا على تأثيراتها في العالم ــ كما يقولون ــ فينبغي أن يكون سائرُ ما أُقسِمَ به كذلك، وإن لم يكن القسمُ دليلًا بطلَ الاستدلالُ به.

* وأمَّا قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75]، ففيها قولان:

أحدهما: أنها النجومُ المعروفة.

وعلى هذا ففي مواقِعها أقوال:

أحدها: أنه انكدارُها وانتثارُها يومَ القيامة. وهذا قولُ الحسن

(3)

. والمنجِّمون يكذِّبون بهذا ولا يقرُّون به.

(1)

انظر: «السر المكتوم» (18، 19، 115، 122 - 131).

(2)

(ت): «فيا لله العجب» .

(3)

أخرجه الطبري (23/ 148).

ص: 1366

والثاني: أنَّ مواقعَها منازلُها. قاله عطاء وقتادة

(1)

.

والثالث: أنه مغاربُها.

والرَّابع: أنه مواقعُها عند طلوعها وغروبها. حكاه ابنُ عطية عن مجاهد وأبي عبيدة

(2)

.

والخامس: أنَّ مواقعَها مواضعُها من السماء. وهذا الذي حكاه ابنُ الجوزي عن قتادة حكاه ابنُ عطية عنه

(3)

، فيحتملُ أن يكونا واحدًا وأن يكونا قولين.

السادس: أنَّ مواقعَها انقضاضُها إثر العفريت وقت الرجوم. حكاه ابنُ عطية أيضًا.

ولم يذكر أبو الفرج ابن الجوزي

(4)

سوى الثلاثة الأُول.

والقول الثاني: أنَّ مواقعَ النجوم هي منازلُ القرآن ونجومُه التي نزلت على النبيِّ صلى الله عليه وسلم في مدَّة ثلاثٍ وعشرين سنة.

قال ابنُ عطية: «ويؤيِّدُ هذا القول عَوْدُ الضمير على القرآن في قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77]، وذلك أنَّ ذِكرَه لم يتقدَّم إلا على هذا التأويل،

(1)

أخرجه الطبري (23/ 148).

(2)

«المحرر الوجيز» (14/ 268). وانظر: «تفسير مجاهد» (2/ 652)، و «مجاز القرآن» (2/ 252).

(3)

كذا في الأصول. أراد أنَّ هذا القول الخامس حكاه ابن عطية عن قتادة، وهو يشبه القول الثاني الذي حكاه ابن الجوزي عنه.

(4)

في «زاد المسير» (8/ 151).

ص: 1367

ومن لا يتأوَّلُ هذا التأويلَ يقول: إنَّ الضميرَ يعودُ على القرآن وإن لم يتقدَّم ذكرُه؛ لشهرة الأمر ووضوح المعنى، كقوله تعالى:{حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]، و {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]، وغير ذلك»

(1)

.

قلت: ويؤيِّدُ القولَ الأول أنه أعاد الضميرَ بلفظ الإفراد والتذكير، ومواقعُ النجوم جمعٌ، فلو كان الضميرُ عائدًا عليها لقال: إنها لقرآنٌ كريم، إلا أن يقال: مواقعُ النجوم دلَّ على القرآن، فأعاد الضميرَ عليه؛ لأنَّ مُفسِّرَ الضمير يُكتفى فيه بذلك، وهو من أنواع البلاغة والإيجاز.

فإن كان المرادُ من القسم نجومَ القرآن بطلَ استدلالُه بالآية، وإن كان المرادُ الكواكب ــ وهو قولُ الأكثرين ــ فلِمَا فيها من الآيات الدَّالَّة على ربوبية الله تعالى وانفراده بالخلق والإبداع، فإنه لا ينبغي أن تكونَ الإلهيةُ إلا له وحده، كما أنه وحده المنفردُ بخلقها وإبداعها وما تضمَّنته من الآيات والعجائب، فالإقسامُ بها أوضحُ دليلٍ

(2)

على تكذيب المشركين والمنجِّمين والدَّهريَّة ونوعَي المعطِّلة، كما تقدم.

* وكذلك قولُه: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 3]، على أنَّ فيه قولين آخرين غير القول الذي ذكره

(3)

.

أحدهما: أنه الثُّريَّا. وهذا قولُ ابن زيد. حكاه عنه أبو الفرج ابن الجوزي

(4)

.

(1)

«المحرر الوجيز» (14/ 267).

(2)

(ت): «أعظم دليل» .

(3)

أي: الرازي، فيما سبق (ص: 1347).

(4)

«زاد المسير» (9/ 81).

ص: 1368

وعنه روايةٌ ثانية: أنه زُحَل، حكاها عنه ابنُ عطية

(1)

.

الثاني: أنه الجدي. حكاه ابن عطية عن ابن عباس.

وقولٌ آخر حكاه أبو الفرج ابن الجوزي عن عليِّ بن أحمد النيسابوري

(2)

أنه جنسُ النجوم.

* وأمَّا قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5]، فلم يقل أحدٌ من الصحابة ولا التابعين ولا العلماء بالتفسير أنها النجوم. وهذه الرواياتُ عنهم

(3)

:

فقال ابنُ عباس: هي الملائكة.

قال عطاء: وُكِّلت بأمورٍ عرَّفهم اللهُ العملَ بها.

وقال عبد الرحمن بن سابط: يدبِّرُ أمورَ الدنيا أربعة: جبريل وهو موكَّلٌ بالرِّيح

(4)

والجنود، وميكائيل وهو موكَّلٌ بالقَطر والنبات، وملكُ الموت وهو موكَّلٌ بقبض الأنفس، وإسرافيل وهو ينزلُ الأمر عليهم.

وقيل: جبريلُ للوحي، وإسرافيلُ للصُّور.

(1)

«المحرر الوجيز» (15/ 397).

(2)

الواحدي (ت: 468). انظر: «البسيط» (23/ 404)، و «الوسيط» (4/ 464)، و «الوجيز» (1192).

(3)

من «زاد المسير» (9/ 17).

(4)

في الأصول: «بالوحي» . تحريف. وعلى الصواب في «أيمان القرآن» (214). وانظر: «زاد المسير» ، و «شعب الإيمان» للبيهقي (1/ 433)، و «مصنف ابن أبي شيبة» (13/ 430)، و «الدر المنثور» (8/ 405)، وغيرها.

ص: 1369

وقال ابن قتيبة: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} الملائكة تنزلُ بالحلال والحرام

(1)

.

ولم يذكر المتوسِّعون في نقل أقوال المفسِّرين، كابن الجوزي والماوردي وابن عطية غير الملائكة

(2)

، حتى قال ابنُ عطية:«ولا أحفظُ خلافًا أنها الملائكة»

(3)

، هذا مع توسُّعه في النقل، وزيادته فيه على أبي الفرج ابن الجوزي وغيره، حتى إنه لينفردُ بأقوالٍ لا يحكيها غيره.

فتفسيرُ المدبِّرات بالنجوم كذبٌ على الله وعلى المفسِّرين

(4)

.

* وكذلك المقسِّمات أمرًا؛ لم يقل أحدٌ من أهل التفسير العالِمين به: إنها النجوم، بل قالوا: هي الملائكة التي تُقَسِّمُ أمرَ الملكوت بإذن ربِّها من الأرزاق والآجال والخَلق في الأرحام، وأمرِ الرِّياح والجبال.

قال ابنُ عطية: «لأنَّ كلَّ هذا إنما هو بملائكةٍ تخدمُه، فالآيةُ تتضمَّنُ جميعَ الملائكة؛ لأنهم كلَّهم في أمورٍ مختلفة.

قال أبو الطفيل عامرُ بن واثلة: كان عليٌّ رضي الله عنه على المنبر، فقال: لا تسألوني عن آيةٍ من كتاب الله أو سنَّةٍ ماضيةٍ إلا قلتُ لكم، فقام إليه ابنُ الكَوَّاء، فسأله عن:{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} ، فقال: الذاريات: الرياح، والحاملات: السَّحاب، والجاريات: السُّفن، والمقسِّمات: الملائكة. ثمَّ قال: سَل سؤالَ تعلُّم، ولا

(1)

«غريب القرآن» (512).

(2)

تقدم تعليقًا (ص: 1348) ما حكي عن معاذ أنها النجوم.

(3)

«المحرر الوجيز» (15/ 300).

(4)

انظر: «التبيان في أيمان القرآن» (216).

ص: 1370

تسأل سؤال تعنُّت»

(1)

.

وكذلك قال أبو الفرج، ولم يذكر فيه خلافًا

(2)

في المقسِّمات أمرًا: «يعني: الملائكة تقسِّمُ الأمورَ على أمر الله به.

قال ابنُ السائب: المقسِّماتُ أربعة: جبريل وهو صاحبُ الوحي والغلظة ــ يعني: العقوبة على أعداء الرسل ــ، وميكائيل وهو صاحبُ الرِّزق والرحمة، وإسرافيل وهو صاحبُ الصُّور واللوح، وعزرائيل

(3)

وهو قابضُ الأرواح»

(4)

.

فتفسيرُ الآية بأنها النجومُ تفسيرُ المنجِّمين ومن سلك سبيلَهم.

* وأمَّا وصفُه تعالى بعضَ الأيام بأنها أيامُ نَحْس؛ كقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ

(1)

«المحرر الوجيز» (14/ 3).

والأثر أخرجه عبد الرزاق (2/ 241)، والطبري (22/ 390)، والشاشي (620) وغيرهم. وصححه الحاكم (2/ 466) ولم يتعقبه الذهبي. وخرَّجه الضياء في «المختارة» (566)، وعلَّق البخاري موضع الشاهد منه. انظر:«تغليق التعليق» (4/ 318).

وابن الكوَّاء، واسمه عبد الله، من رؤوس الخوارج، وله أخبارٌ كثيرةٌ مع علي رضي الله عنه، وكان يلزمه ويعنته في الأسئلة، وقيل: إنه رجع عن رأي الخوارج. انظر: «اللسان» (3/ 329)، و «تاريخ دمشق» (27/ 96).

(2)

«ولم يذكر» ليست في (ت، ص).

(3)

ورد في تسميته بهذا آثارٌ كثيرة عن السلف، ولم يصحَّ فيه شيءٌ مرفوع. انظر:«تفسير ابن كثير» (6/ 2766)، و «أجوبة الحافظ ابن حجر على أسئلة بعض تلاميذه» (83 - 94، 109)، و «معجم المناهي اللفظية» (390).

(4)

«زاد المسير» (8/ 28).

ص: 1371

رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16]، فلا ريب أنَّ الأيامَ التي أوقعَ اللهُ سبحانه فيها العقوبةَ بأعدائه وأعداء رسله كانت أيامًا نَحِسَاتٍ عليهم؛ لأنَّ النَّحْسَ أصابهم فيها، وإن كانت أيامَ خيرٍ لأوليائه المؤمنين، فهي نَحْسٌ على المكذِّبين سَعْدٌ للمؤمنين، وهذا كيوم القيامة، فإنه عسيرٌ على الكافرين يومُ نَحْسٍ لهم، يسيرٌ على المؤمنين يومُ سَعْدٍ لهم.

قال مجاهد: {أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} : مَشَائيم.

وقال الضحَّاك: معناه: شديدة

(1)

. أي: شديدةُ البرد. حتى كان البردُ عذابًا لهم.

قال أبو علي

(2)

: وأنشدَ الأصمعيُّ في النَّحْس بمعنى البرد:

كأنَّ سُلافَةً عُرِضَتْ لِنَحْسٍ

يُحِيلُ شَفِيفُها الماءَ الزُّلالا

(3)

وقال ابن عباس: {نَحِسَاتٍ} : متتابعات

(4)

.

* وكذلك قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19]،

(1)

في الأصول: «شديد» في الموضعين. والمثبت من «المحرر الوجيز» (13/ 93)، وهو مصدر المصنف.

(2)

الفارسي. انظر: «اللسان» و «التاج» (نحس).

(3)

البيت لعمرو بن أحمر الباهلي، في شعره المجموع (126). والسلافة: الخمر. وعُرِضت لنحسٍ: أي وُضِعت في ريح فبرَدت. وشفيفها: بَرْدُها. ويحيل: يَصُبّ. يقول: بردُها يَصُبُّ الماء في الحلق، ولولا بردُها لم يُشْرَب الماء. فسَّره الأصمعي. انظر:«تهذيب اللغة» (4/ 320).

(4)

أخرج الطبريُّ قول ابن عباس ومجاهد والضحاك (21/ 446، 447).

ص: 1372

فكان اليومُ نَحْسًا عليهم لإرسال العذاب عليهم، [{مُسْتَمِرٌّ}]

(1)

، أي: لا يُقْلِعُ عنهم كما تُقْلِعُ مصائبُ الدُّنيا عن أهلها، بل هذا النَّحْسُ دائمٌ على هؤلاء المكذِّبين للرسل، و {مُسْتَمِرٌّ} صفةٌ للنَّحْس، لا لليوم، ومن ظنَّ أنه صفةٌ لليوم وأنه كان يومَ أربعاء آخرَ الشَّهر، وأنَّ هذا اليومَ نحسٌ أبدًا

(2)

، فقد غَلِطَ وأخطأ فهمَ القرآن، فإنَّ اليومَ المذكور بحسب ما يقعُ فيه، وكم لله من نعمةٍ على أوليائه في هذا اليوم، وإن كان له فيه بلايا ونِقَمٌ على أعدائه، كما يقعُ ذلك في غيره من الأيام

(3)

.

فسُعودُ الأيام ونحوسُها إنما هو بسُعود الأعمال وموافقتها لمرضاة الربِّ، ونُحوس الأعمال ومخالفتها لما جاءت به الرسل. واليومُ الواحدُ يكونُ يوم سَعْدٍ لطائفة، ونحسٍ لطائفة، كما كان يومُ بدرٍ يومَ سعدٍ للمؤمنين، ويومَ نحسٍ على الكافرين.

فما للكوكب والطالع والقِرانات وهذا السَّعْد والنَّحْس؟! وكيف يُستنبَطُ علمُ أحكام النجوم من ذلك؟! ولو كان المؤثِّر في هذا النَّحْس هو نفسَ الكوكب والطالع لكان نحسًا على العالم، فأمَّا أن يقتضي الكوكبُ كونَه نحسًا لطائفةٍ سعدًا لطائفةٍ فهذا هو المُحال.

(1)

ليست في الأصول. ويقتضيها السياق.

(2)

كما وقع في حديثٍ موضوع. انظر: «الموضوعات» لابن الجوزي (917)، و «لطائف المعارف» لابن رجب (148)، و «السلسلة الضعيفة» (1581).

(3)

انظر: «المحرر الوجيز» (14/ 155)، و «التحرير والتنوير» (24/ 260)، و «روح المعاني» (14/ 84، 86)، و «معجم المناهي اللفظية» (346).

ص: 1373

فصل

* وأما استدلالُه بالآيات الدَّالَّة على أنَّ الله سبحانه وضعَ حركات هذه الأجرام على وجهٍ يُنتفَعُ بها في مصالح هذا العالم، بقوله:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5]، وقوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61] = فمِن أطرف

(1)

الاستدلال. فأين في هذه الآيات ما يدلُّ على ما يدَّعيه المنجِّمون من كذبهم وبهتانهم وافترائهم؟!

ولو كان الأمرُ كما يدَّعيه هؤلاء الكذَّابون لكانت الدَّلالةُ والعبرةُ فيه أعظمَ من مجرد الضِّياء والنور والحساب، ولكان الأليقُ ذِكرَ ما تقتضيه من السَّعد والنَّحس، وتعطيه من السَّعادة والشَّقاوة، وتهبُه من الأعمار والأرزاق والآجال والصَّنائع والعلوم والمعارف والصُّور الحيوانيَّة والنباتيَّة والمعدنيَّة وسائر ما في هذا العالم من الخير والشرِّ.

وأمَّا قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} ، فهو تعظيمٌ وثناءٌ منه تعالى على نفسه، بجَعْلِ هذه البروج والشمس والقمر في السماء.

وقد اختُلِفَ في البروج المذكورة في هذه الآية؛ فأكثرُ السَّلف على أنها القصورُ أو الكواكبُ العِظام

(2)

.

(1)

(ص): «أظرف» . بالمعجمة.

(2)

انظر: «الدر المنثور» (5/ 69، 6/ 269، 8/ 462).

ص: 1374

قال ابن المنذر في «تفسيره»

(1)

: حدثنا موسى: حدثنا شجاع: حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية:{جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} قال: قصورًا فيها حَرَس.

حدثنا موسى: حدثنا أبو بكر: حدثنا أبو معاوية ووكيع، عن إسماعيل، عن يحيى بن رافع، قال: قصورًا في السماء.

حدثنا موسى: حدثنا أبو بكر: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد، قال: النجوم. يعني: {بُرُوجًا} . وكذلك قال عكرمة.

حدثنا أبو أحمد: حدثنا يعلى: حدثنا إسماعيل، عن أبي صالح:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} قال: النجوم الكبار.

وهذا موافقٌ لمعنى اللفظة في اللغة؛ فإنَّ العربَ تسمِّي البناءَ المرتفع: برجًا، قال تعالى:{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساءُ: 78].

وقال الأخطل

(2)

:

كأنها برجُ روميٍّ يشيِّده

لُزَّ

(3)

بجِصٍّ وآجُرٍّ وأحجار

(1)

أخرج هذه الآثار الطبري (17/ 77، 19/ 288، 289).

(2)

ديوانه، صنعة السكري (124)، يصف ناقته.

(3)

أي: ألصق. وتحرَّفت في (ت، ص) وسقطت من (ق). والمثبت من (د) وهي رواية الديوان وكتب اللغة و «المحرر الوجيز» (12/ 35 - المغربية) مصدر المصنف. وفي (ط) و (11/ 62 - القطرية) وبعض المصادر: «بانٍ» .

ص: 1375

قال الأعمش: كان أصحابُ عبد الله يقرؤونها: (تباركَ الذي جعَل في السَّماء قُصُورًا).

وأمَّا المتأخِّرون من المفسِّرين فكثيرٌ منهم يذهبُ إلى أنها البروجُ الاثني عشر

(1)

التي تنقسمُ عليها المنازل، كلُّ برجٍ منزلتان وثُلث

(2)

.

وهذه المنازلُ الثمانيةُ والعشرون يبدو منها للناظر أربعة عشر منزلًا أبدًا، ويخفى منها أربعة عشر منزلًا، كما أنَّ البروجَ يظهرُ منها أبدًا ستة، ويخفى ستة.

والعربُ تسمِّي أربعة عشر منزلًا منها: شاميَّة، وأربعة عشر: يمانيَّة؛ فأول الشاميَّة: الشَّرْطان، وآخرها: السِّماكُ الأعزل، وأول اليمانيَّة: الغَفْرُ، وآخرها: الرِّشاء، إذا طلعَ منها منزلٌ من المشرق غاب رقيبُه من المغرب، وهو الخامس عشر

(3)

.

وبها تنقسمُ فصولُ السَّنة الأربع

(4)

:

فللربيع منها: الحَمَلُ، والثورُ والجوزاء. ومنازلها: الشَّرْطان، والبُطَين، والثريَّا، والدَّبَران، والهَقْعة، والهَنْعة، والذِّراع.

(1)

كذا في الأصول. والصواب: الاثنا عشر.

(2)

انظر: «المحرر الوجيز» (11/ 61)، و «زاد المسير» (4/ 387)، و «الأنواء» لابن قتيبة (120). وورد هذا عن ابن عباس، أخرجه الخطيب في «القول في علم النجوم» ، وهو في مختصره (140) دون إسناد.

(3)

انظر: «الأنواء» للثقفي (27).

(4)

كذا في الأصول. والجادة: الأربعة. وفي الكتاب من نحو هذا مواضع نبهت على بعضها.

ص: 1376

وللصيف منها: السَّرطان، والأسد، والسُّنبلة. ومنازلها: النَّثْرة، والطَّرْف، والجَبْهة، والزُّبْرة، والصَّرْفة، والعَوَّاء، والسِّماك.

وللخريف منها: الميزان، والعقرب، والقَوس. ومنازلها: الغَفْر، والزُّبانى، والإكليل، والقَلْب، والشَّوْلة، والنَّعائم، والبَلْدة.

وللشتاء منها: الجَدي، والدَّلو، والحوت. ومنازلها: سعد الذَّابح، وسعد بُلَع، وسعد السُّعود، وسعد الأخبية، والفَرْغ المقدَّم ــ ويسمَّى: الأول ــ، والفَرْغ المؤخَّر ــ ويسمَّى: الثاني ــ، والرِّشاء.

ولما كان نزولُ القمر في هذه المنازل معلومًا بالعِيان والمشاهدة، ونزولُ الشمس فيها إنما هو بالحساب لا بالرؤية، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} [يونس: 5]، وقال تعالى:{وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 38 - 39]، فخصَّ القمرَ بذكر تقدير المنازل دون الشمس، وإن كانت مقدَّرةَ المنازل؛ لظهور ذلك للحِسِّ في القمر، وظهور تفاوت نوره بالزِّيادة والنقصان في كلِّ منزلٍ منزل

(1)

.

ولذلك كان الحسابُ القمريُّ أشهرَ وأعرفَ عند الأمم، وأبعدَ من الغلط، وأصحَّ للضبط من الحساب الشمسيِّ، ويشتركُ فيه الناسُ دون الحساب الشمسيِّ، ولهذا قال تعالى في القمر:{وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5] ولم يقُل ذلك في الشمس.

(1)

«منزل» الثانية ليست في (ت، ص).

ص: 1377

ولهذا كانت أشهرُ الحجِّ والصَّوم والأعياد ومواسم الإسلام إنما هي على حساب القمر وسَيْره ونزوله في منازله، لا على حساب الشمس وسَيْرها؛ حكمةً من الله ورحمةً وحفظًا لدينه؛ لاشتراك الناس في هذا الحساب، وتعذُّر الغلط والخطأ فيه، فلا يدخلُ في الدِّين من الاختلاف والتخليط ما دخلَ في دين أهل الكتاب

(1)

.

فهذا الذي أخبرنا تعالى به مِن شأن المنازل وسَيْر القمر فيها، وجَعْل الشَّمس سراجًا وضياءً يُبْصِرُ به الحيوان

(2)

، ولولا ذلك لم يُبْصِر الحيوان، فأين هذا مما يدَّعيه الكذَّابون من علم الأحكام التي كذبُها أضعافُ صدقها؟!

فصل

* وأمَّا ما ذكره عن إبراهيم خليل الرحمن أنه تمسَّك بعلم النجوم حين قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} ، فمن الكذب والافتراء على خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس في الآية أكثر من أنه نظَر نظرةً في النجوم، ثم قال لهم:{إِنِّي سَقِيمٌ} ، فمن ظنَّ مِن هذا أنَّ علمَ أحكام النجوم مِن علم الأنبياء، وأنهم كانوا يُراعونه ويُعانُونه، فقد كذَب على الأنبياء، ونسَبَهم إلى ما لا يليقُ بهم، وهو مِن جنس من نسَبَهم إلى الكهانة والسِّحر، وزعَم أن تلقِّيهم الغيبَ من جنس تلقِّي غيرهم، وإن كانوا فوقهم في ذلك، لكمال نفوسهم وقوَّة استعدادها وقبولها لفيض العُلويَّات عليها.

(1)

انظر: «أيمان القرآن» (252).

(2)

(ت، ص): «يبصره الحيوان» .

ص: 1378

وهؤلاء لم يعرفوا الأنبياءَ ولا آمنوا بهم، وإنما هم عندهم بمنزلة أصحاب الرِّياضات الذين خُصُّوا بقوة الإدراك وزكاة النفوس وطهارة الأخلاق

(1)

، ونَصَبوا أنفسَهم لإصلاح الناس

(2)

وضبط أمورهم.

ولا ريب أنَّ هؤلاء أبعدُ الخلق عن الأنبياء واتباعهم ومعرفتهم ومعرفة مُرسِلهم وما أرسلهم به، هؤلاء في شأنٍ والرسلُ في شأنٍ آخر، بل هم ضدُّهم في علومهم وأعمالهم وهَديهم وإرادتهم وطرائقهم ومَعَادهم، وفي شأنهم كلِّه، ولهذا تجدُ أتباعَ هؤلاء ضدَّ أتباع الرسل في العلوم والأعمال والهَدي والإرادات.

ومتى بعَث اللهُ رسولًا يُعاني التنجيم، والتمزيجات، والطِّلَّسمات، والأوفاق، والتَّداخين، والبَخُورات، ومعرفة القِرانات، والحكم على الكواكب بالسُّعود والنُّحوس والحرارة والبرودة والذُّكورة والأنوثة؟! وهل هذه إلا صنائعُ المشركين وعلومُهم؟!

وهل بُعِثَت الرسلُ إلا بالإنكار على هؤلاء ومَحْقِهم ومَحْقِ علومهم وأعمالهم من الأرض؟! وهل للرسل أعداءٌ بالذَّات إلا هؤلاء ومن سلك سبيلَهم؟!

وهذا معلومٌ بالاضطرار لكلِّ من آمن بالرسل صلواتُ الله وسلامه عليهم، وصدَّقهم فيما جاؤوا به، وعرَف مسمَّى رسول الله وعرَف مُرسِلَه.

وهل كان لإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام عدوٌّ مثل هؤلاء

(1)

(ق): «وزكاة الأخلاق» .

(2)

(ت، ص): «لإصلاح حالهم» .

ص: 1379

المنجِّمين الصَّابئين؟! وحَرَّانُ

(1)

كانت دار مملكتهم، والخليلُ أعدى عدوٍّ لهم، وهم المشركون حقًّا، والأصنام التي كانوا يعبدونها كانت صُورًا وتماثيل للكواكب، وكانوا يتَّخذون لها هياكل ــ وهي بيوتُ العبادات ــ، لكلِّ كوكبٍ منهم هيكلٌ فيه أصنامٌ تناسبُه، فكانت عبادتُهم للأصنام وتعظيمُهم لها تعظيمًا منهم للكواكب التي وضعوا الأصنامَ عليها وعبادةً لها.

وهذا أقوى السَّببَين في الشرك الواقع في العالَم، وهو الشركُ بالنجوم وتعظيمُها، واعتقادُ أنها أحياءٌ ناطقة، ولها روحانيَّاتٌ تتنزَّلُ على عابديها ومُخاطِبيها، فصوَّروا لها الصُّورَ الأرضية، ثم جعلوا عبادتها وتعظيمها ذريعةً إلى عبادة تلك الكواكب واستنزال روحانيَّاتها، وكانت الشياطينُ تتنزَّلُ عليهم وتخاطبُهم وتكلِّمهم وتُرِيهم من العجائب ما يدعوهم إلى بَذْل نفوسهم وأولادهم وأموالهم لتلك الأجسام

(2)

والتقرُّب إليها

(3)

.

وكان مبدأُ هذا الشرك تعظيمَ الكواكب وظنَّ السُّعود والنُّحوس وحصولَ الخير والشرِّ في العالم منها، وهذا هو شركُ خواصِّ المشركين وأرباب النظر منهم، وهو شركُ قوم إبراهيم.

والسببُ الثاني: عبادةُ القبور، والإشراكُ بالأموات، وهو شركُ قوم

(1)

من مدن الجزيرة الفراتية، ظلَّت عامرةً حتى المئة السابعة، وهي اليوم أطلال. انظر:«معجم البلدان» (2/ 235)، و «بلدان الخلافة الشرقية» (134).

(2)

(ط): «الأصنام» .

(3)

انظر ما تقدم (ص: 1364).

ص: 1380

نوح، وهو أولُ الشِّركين

(1)

طَرَق العالم، وفتنتُه أعمُّ، وأهلُ الابتلاء به أكثر، وهم جمهورُ أهل الإشراك.

وكثيرًا ما يجتمعُ السَّببان في حقِّ المشرك، يكونُ مَقابِريًّا نُجوميًّا.

قال تعالى عن قوم نوح: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23].

قال البخاري في «صحيحه»

(2)

: قال ابن عباس رضي الله عنهما: «كان هؤلاء رجالًا صالحين من قوم نوح، فلمَّا هلَكوا أوحى الشياطينُ إلى قومهم أن انصِبُوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففَعلوا، فلم تُعْبَد، حتى إذا هلَك أولئك ونُسِخَ العلمُ عُبِدَت» .

ولهذا لعن النبيُّ صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد

(3)

.

ونهى عن الصَّلاة إلى القبور

(4)

.

وقال: «اللهمَّ لا تجعَل قبري وثنًا يُعْبَد»

(5)

.

(1)

(ت، ص): «شرك» .

(2)

(4920).

(3)

أخرجه البخاري (435، 1330، 1390) ومسلم (529، 530) من حديث عائشة وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم.

(4)

أخرجه مسلم (972) من حديث أبي مرثد الغنوي.

(5)

أخرجه مالك في «الموطأ» (475) عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار مرسلًا. ورواه معمر وابن عجلان عن زيد بن أسلم مرسلًا.

أخرجهما عبد الرزاق (1/ 406) وابن أبي شيبة (2/ 375، 3/ 345).

وخالفهم عمر بن محمد بن صهبان (وهو ضعيف)، فرواه عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد مرفوعًا، أخرجه البزار ــ كما في «التمهيد» (5/ 43) ــ. وهو منكرٌ بلا ريب، والمحفوظ من هذا الوجه الإرسال، بل قال البزار: إنه لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه مرسلًا.

وانظر: «فتح الباري» لابن رجب (3/ 246).

وروي موصولا من حديث أبي هريرة. أخرجه أحمد (2/ 46)، وأبو يعلى (6681)، والبخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 47) وغيرهم بإسنادٍ ظاهرُه الحُسن، إلا أن البزار وأبا نعيم في «الحلية» (7/ 317) ارتابا في تفرُّده.

وانظر: «تاريخ عثمان بن سعيد الدارمي» (271).

وروي موصولًا من حديث عمر. والصواب أنه موقوف. انظر: «علل الدارقطني» (2/ 220).

ص: 1381

وقال: «اشتدَّ غضبُ الله على قومٍ اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجد»

(1)

.

وقال: «إنَّ مَن كان قبلكم كانوا يتَّخذون قبورَ أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك»

(2)

.

وأخبَر أنَّ هؤلاء شِرارُ الخلق عند الله يوم القيامة

(3)

.

وهؤلاء هم أعداءُ نوح، كما أنَّ المشركين بالنجوم أعداءُ إبراهيم؛ فنوحٌ عاداه المشركون بالقبور، وإبراهيمُ عاداه المشركون بالنجوم، والطائفتان صوَّروا الأصنامَ على صُوَر معبودِيهم، ثمَّ عبَدوها.

وإنما بُعِثَت الرسلُ بمَحْقِ الشرك من الأرض، ومَحْقِ أهله، وقَطْع

(1)

هو جزء من الحديث الذي قبله.

(2)

أخرجه مسلم (532) من حديث جندب بن عبد الله.

(3)

أخرجه البخاري (427) ومسلم (528) من حديث عائشة.

ص: 1382

أسبابه، وهَدْم بيوته، ومحاربة أهله، فكيف يُظَنُّ بإمام الحنفاء، وشيخ الأنبياء، وخليل ربِّ الأرض والسماء، أنه كان يتعاطى علمَ النجوم، ويأخذُ منه أحكامَ الحوادث؟! سبحانك هذا بهتانٌ عظيم.

وإنما كانت النظرةُ التي نَظَرها في النجوم

(1)

مِن معاريض الأفعال، كما كان قولُه:{فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وقولُه: {إِنِّي سَقِيمٌ} ، وقولُه عن امرأته سارة:«هذه أختي» مِن معاريض المقال، ليتوصَّل بها إلى غرَضه مِن كَسْر الأصنام، كما توصَّل بتعريضه بقوله:«هذه أختي» إلى خَلاصِها من يد الفاجر

(2)

.

ولما غَلُظ فهمُ هذا عن كثيرٍ من الناس، وكَثُفَت طباعُهم عن إدراكه، ظنُّوا أنَّ نظره في النجوم ليستنبطَ منها علمَ الأحكام

(3)

، وعَلِمَ أنَّ نجمَه وطالعَه يقضي عليه بالسَّقم، وحاشَ لله أن يُظَنَّ ذلك بخليله صلى الله عليه وسلم أو بأحدٍ من أتباعه.

وهذا مِن جنس معاريض يوسف الصِّديِّق صلى الله عليه وسلم حين تفتيش أوعية أخيه عن الصَّاع، فإنَّ المفتِّش بدأ بأوعيهتم مع علمه أنه ليس فيها، وأخَّر وعاء أخيه مع علمه أنه فيها، تعريضًا بأنه لا يَعْرِفُ في أيِّ وعاءٍ هي، ونفيًا للتُّهمة عنه بأنه لو كان عالمًا في أيِّ الأوعية هي لبادَر إليها، ولم يكلِّف نفسَه تعبَ التفتيش لغيرها.

(1)

(ت، ق، د): «في علم النجوم» . وهو خطأ. وعلى الصواب في (ص).

(2)

انظر ما تقدم (ص: 948).

(3)

انظر: «فرج المهموم» لابن طاووس (44).

ص: 1383

فلهذا نظرُ الخليلِ صلى الله عليه وسلم في النجوم توريةٌ وتعريضٌ محض، ينفي به عنه تهمةَ قومه ويتوصَّلُ به إلى كيد أصنامهم

(1)

.

فصل

* وأمَّا الاستدلالُ بقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57]، وأنَّ المرادَ به كِبَرُ القَدْرِ والشَّرف، لا كبرُ الجُثَّة= ففي غاية الفساد؛ فإنَّ المراد من الخَلق هاهنا الفعل، لا نفسُ المفعول، وهذا من أبلغ الأدلَّة على المَعاد، أي: أنَّ الذي خلق السموات والأرض ــ وخَلْقُها أكبرُ من خلقكم ــ كيف يُعْجِزُه خلقُكم بعدما تموتون خلقًا جديدًا؟!

ونظيرُ هذا قوله تعالى في سورة يس: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} ، أي: مثل هؤلاء المنكرين

(2)

. فهذا استدلالٌ بشمول القدرة للنَّوعين، وأنها صالحةٌ لهما، فلا يجوزُ أن يثبت تعلُّقها بأحد المقدورَين دون الآخر.

فكذلك قولُه: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} ، أي: من لم تَعْجَز قدرتُه عن خلق العالم العُلويِّ والسُّفلي، كيف يعجزُ عن

(1)

وإلى هذا ذهب جمهور المفسرين. انظر: «معاني القرآن» للزجاج (4/ 309)، و «المحرر الوجيز» (12/ 374)، و «الوسيط» للواحدي (3/ 528).

وأجيب عن نظر إبراهيم عليه السلام بأجوبةٍ أخرى. انظر: «تنزيه الأنبياء» للشريف المرتضى (45 - 48)، و «معاني القرآن» للنحاس (6/ 40).

(2)

(ت): «المتكبرين» .

ص: 1384

خلق الناس خلقًا جديدًا بعد ما أماتهم؟!

ولا تعرُّض في هذا لأحكام النجوم بوجهٍ قطُّ، ولا لتأثير الكواكب.

* وأمَّا قوله تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} [آل عمران: 191]، فلا ريب أنَّ خلقَ السموات والأرض مِن أعظم الأدلَّة على وجود فاطرهما وكمال قدرته وعلمه وحكمته وانفراده بالربوبيَّة والوحدانيَّة، ومن سوَّى بين ذلك وبين البَقَّة، وجعَل العبرةَ والدلالةَ والعلمَ بوجود الربِّ الخالق الباراء المصوِّر منهما سواءً، فقد كابَر.

والله سبحانه إنما يدعو عبادَه إلى النَّظر والفِكر في مخلوقاته العِظام؛ لظهور أثر الدَّلالة فيها، وبديع

(1)

عجائب الصَّنعة والحكمة فيها، واتِّساع مجال الفِكر والنَّظر في أرجائها، وإلا:

ففي كلِّ شيءٍ له آيةٌ

تدلُّ على أنه واحدُ

(2)

ولكن؛ أين الآيةُ والدَّلالةُ في خَلْق العالم العُلويِّ والسُّفلي إلى خَلْق القَمْلة والبرغوث والبَقَّة؟! فكيف يسمحُ لعاقلٍ عقلُه أن يسوِّي بينهما، ويجعَل الدَّلالةَ مِن هذا كالدَّلالة من الآخر؟!

والله سبحانه إنما يذكُر من مخلوقاته للدَّلالة عليه أشرفَها وأعظمَها وأظهرَها للحسِّ والعقل، وأبينَها دلالةً

(3)

، وأعجبَها صَنْعَة؛ كالسماء

(1)

(ت، د): «وبدُوِّ» . وهي قراءة جيدة. وفي طرة (د): «لعله: وبديع» .

(2)

من أبياتٍ مضى تخريجها (ص: 642).

(3)

(ت): «وأثبتها دلالة» .

ص: 1385

والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والنجوم والجبال والسَّحاب

(1)

والمطر، وغير ذلك من آياته، ولا يدعو عبادَه إلى التفكُّر في القمل والبراغيث والبعوض والبقِّ والكلاب والحشرات ونحوها، وإنما يذكُر ما يذكُر من ذلك في سياق ضرب الأمثال، مبالغةً في الاحتقار والضَّعف؛ كقوله:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73]، فهنا لم يذكُر الذُّباب في سياق الدَّلالة على إثبات الصَّانع تعالى

(2)

، وكذلك قوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]، وكذلك قوله:{مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} [العنكبوت: 41].

فتأمَّل ذِكرَ هذه المخلوقات الحقيرة في أيِّ سياق، وذِكرَ المخلوقات العظيمة في أيِّ سياق.

وأمَّا قولُ من قال من المتكلِّمين المتكلِّفين: إنَّ دلالةَ حصول الحياة في الأبدان الحيوانيَّة أقوى من دلالة السموات والأرض على وجود الصَّانع تعالى= فبناءٌ من هذا القائل على الأصل الفاسد، وهو إثباتُ الجوهر الفَرد

(3)

، وأنَّ تأثيرَ الصَّانع تعالى في خَلْق العالم العُلويِّ والسُّفليِّ هو

(1)

(ق): «والشجر» .

(2)

في طرة (ت) هنا تعليقٌ لم يظهر جيدًا، بسبب التصوير، وفحواه أن في الآية إشارة إلى إثبات الصانع.

(3)

وهو الجزء الذي لا يتجزأ، والمتحيِّز الذي يقبل العَرض. انظر:«لمع الأدلة» للجويني (87)، و «الحدود الأنيقة» (71)، و «فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية» (419).

ص: 1386

تركيبُ تلك الجواهر وتأليفُها هذا التأليفَ الخاصَّ، والتركيبُ جنسُه مقدورٌ للبشر وغيرهم، وأمَّا الإحداثُ والاختراع فلا يقدرُ عليه إلا الله

(1)

.

والقولُ بالجوهر الفَرد وبناءُ المبدأ والمعاد عليه مما هو من أصول المتكلِّمين الفاسدة التي نازعهم فيها جمهورُ العقلاء، قالوا: وخَلقُ الله تعالى وإحداثُه لما يُحْدِثُه من أجسام العالم هو إحداثٌ لأجزائها وذواتها، لا مجرَّد تركيبٍ لجواهر منفردةٍ قد فرَغ من خلقها، وصنعُه وإبداعُه الآن إنما هو في تأليفها وتركيبها.

وهذا من أقوال أهل البدع التي ابتدعوها في الإسلام

(2)

، وبنوا عليها المَعادَ وحدوثَ العالم، فسلَّطوا عليهم أعداء الإسلام ولم يُمْكِنْهم كَسْرُهم، لمَّا بنوا المبدأ والمَعادَ على أمرٍ وهميٍّ خياليٍّ، وظنُّوا أنه لا يتمُّ لهم القولُ بحدوث العالم وإعادة الأجسام إلا به، وأقام مُنازِعوهم حججًا كثيرةً جدًّا على بطلان القول بالجوهر، واعترفوا هم بقوة كثيرٍ منها وصحَّته، فأوقعَ ذلك شكًّا لكثيرٍ منهم في أمر المبدأ والمَعاد؛ لبنائه على شفا جُرفٍ هار

(3)

.

(1)

انظر: «شرح الأصول الخمسة» للقاضي عبدالجبار (96)، و «التمهيد» للباقلاني (41)، و «الشامل» للجويني (68)، و «الاقتصاد» للغزالي (19)، ومقدمات سائر كتب المتكلمين.

(2)

انظر: «التمهيد» لابن عبد البر (7/ 152)، و «الكشف عن مناهج الأدلة» لابن رشد (135)، و «منهاج السنة» (1/ 315)، و «درء التعارض» (1/ 283، 7/ 288، 311).

(3)

انظر: «الفِصَل» (5/ 230 - 236)، و «الصفدية» (2/ 160)، و «منهاج السنة» (3/ 361)، و «نقض التأسيس» (1/ 130، 223)، و «مجموع الفتاوى» (5/ 33، 545، 13/ 157).

ص: 1387

وأمَّا أئمةُ الإسلام وفحولُ النظَّار، فلم يعتمدوا على هذه الطريقة، وهي عندهم أضعفُ وأوهى من أن يبنوا عليها شيئًا من الدين، فضلًا عن حدوث العالم وإعادة الأجسام، وإنما اعتمدوا على الطرق التي أرشدَ اللهُ سبحانه إليها في كتابه، وهي حدوثُ ذاتِ الحيوان والنبات، وخَلْقُ نفس العالم العُلويِّ والسُّفلي، وحدوثُ السَّحاب والمطر والرياح وغيرها من الأجسام التي يُشَاهَدُ حدوثُها بذواتها لا مجرَّدُ حدوث تأليفها وتركيبها

(1)

.

فعند القائلين بالجوهر لا يُشْهَدُ أنَّ الله أحدثَ في هذا العالم شيئًا من الجواهر، وإنما أحدثَ تأليفَها وتركيبَها فقط، وإن كان إحداثُه لجواهره سابقًا متقدِّمًا قبل ذلك، وأمَّا الآن فإنما تحدُث الأعراض من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون فقط وهي الأكوانُ عندهم، وكذلك المَعاد؛ فإنه سبحانه يفرِّقُ أجزاءَ العالم، وهو إعدامُه، ثمَّ يؤلِّفها ويجمعُها، وهو المَعاد.

وهؤلاء احتاجوا إلى أن يستدلُّوا على كون عَينِ الإنسان وجواهره مخلوقة، إذ المُشاهَدُ عندهم بالحِسِّ دائمًا

(2)

هو حدوثُ أعراضٍ في تلك الجواهر من التأليف الخاصِّ

(3)

، وزعموا أنَّ كلَّ ما يُحْدِثُه الله من السَّحاب والمطر والزُّروع والثمار والحيوان فإنما يُحْدِثُ فيه أعراضًا، وهي جمعُ الجواهر التي كانت موجودةً وتفريقُها، وزعموا أنَّ أحدًا لا يعلمُ حدوثَ عينٍ من الأعيان بالمشاهَدة ولا بضرورة العقل، وإنما يُعْلَمُ ذلك

(1)

انظر: «نقض التأسيس» (1/ 176)، و «درء التعارض» (7/ 302 - 311).

(2)

في الأصول: «وانما» . والمثبت من (ط).

(3)

في الأصول: «الخالص» . والمثبت أشبه.

ص: 1388

بالاستدلال.

وجمهورُ العقلاء من الطوائف يخالفون هؤلاء، ويقولون: الربُّ لا يزالُ يُحْدِثُ الأعيان، كما دلَّ على ذلك الحِسُّ والعقلُ والقرآن؛ فإنَّ الأجسامَ الحادثة بالمشاهدة ذواتُها وأجزاؤُها حادثةٌ بعد أن لم تكن جواهر مفرقةً فاجتمعَت، ومن قال غير ذلك فقد كابر الحِسَّ والعقل، فإنَّ كونَ الإنسان والحيوان مخلوقًا مُحْدَثًا كائنًا بعد أن لم يكن أمرٌ معلومٌ بالضرورة لجميع الناس، وكلُّ أحدٍ يعلمُ أنه حَدَثَ في بطن أمِّه بعد أن لم يكن، وأن عينَه حدَثت، كما قال الله تعالى:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9]، وليس هذا عندهم مما يُستَدلُّ عليه بل يُستَدلُّ به، كما هي طريقةُ القرآن؛ فإنه جعَل حدوثَ الإنسان وخلقَه دليلًا، لا مدلولًا عليه.

وقولهم: «إنَّ الحادثَ أعراضٌ فقط، وأنه مركبٌ من الجواهر المفردة» ؛ قولان باطلان، بل يُعْلَمُ

(1)

حدوثُ عين الإنسان وذاته وبطلانُ الجوهر الفرد، ولو كان القولُ بالجوهر صحيحًا لم يكن معلومًا إلا بأدلةٍ خفيةٍ دقيقة، فلا يكونُ [من] أصول الدِّين، بل ولا مقدِّمةً فيها

(2)

.

فطريقتُهم تتضمَّنُ جَحْدَ المعلوم، وهو حدوثُ الأعيان الحادثة وذواتها، وإثباتَ ما ليس بمعلوم ــ بل هو باطل ــ، وهو إثباتُ الجوهر الفرد. وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة

(3)

.

(1)

(ت): «نعم» .

(2)

انظر: «درء التعارض» (1/ 124، 2/ 224، 3/ 339).

(3)

انظر: «الصواعق المرسلة» (985 - 988، 1187 - 1206).

ص: 1389

والمقصودُ الكلام على قوله: «إنَّ الاستدلال بحصول الحياة في بِنْية الحيوان على وجود الصَّانع أقوى من دلالة تركيب الأجرام الفلَكيَّة» ، وهو مبنيٌّ على هذا الأصل الفاسد.

* وأمَّا استدلاله بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص: 27]، فعجبٌ من العجب! فإنَّ هذا من أقوى الأدلة وأبينها على بطلان قول المنجِّمين والدَّهرية الذين يُسْنِدُون جميعَ ما في العالم من الخير والشرِّ إلى النجوم وحركاتها واتصالاتها، ويزعمون أنَّ ما تأتي به من الخير والشرِّ مُغْنٍ عن تعريف

(1)

الرسل والأنبياء، وكذلك ما تُعطيه من السُّعود والنُّحوس.

وهذا هو السَّببُ الذي سُقْنا الكلام لأجله معهم لمَّا حكينا قولَهم

(2)

: إنه لمَّا كانت الموجوداتُ في العالم السُّفليِّ مترتِّبةً

(3)

على تأثير الكواكب والرُّوحانيَّات التي هي مدبِّراتُ الكواكب، وكان

(4)

في اتصالاتها نَظَرُ سعدٍ ونحس، وَجَبَ أن يكون في آثارها حُسْنٌ وقُبحٌ في الخَلق والأخلاق، والعقولُ الإنسانيةُ متساويةٌ في النوع، فوجبَ أن يدركها كلُّ عقلٍ سليم، ولا يتوقَّفُ إدراكُها على من هو مثلُ ذاك العاقل في النوع، {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} .

(1)

(ق، ت): «والشر فعن تعريف» . وهو تحريفٌ قبيح.

(2)

فيما تقدم (ص: 1002، 1173).

(3)

في الموضعين المتقدمين: «مركبة» . وفي «نهاية الأقدام» : «مرتبة» .

(4)

في الأصول: «وإن كان» . والمثبت من الموضع المتقدم (ص: 1002).

ص: 1390

إلى آخر كلامكم المتضمِّن خلقَ السموات الأرض بغير أمرٍ ولا نهيٍ ولا ثوابٍ ولا عقاب.

وهذا هو الباطلُ الذي نفاهُ الله سبحانه عن نفسه، وأخبر أنه ظَنُّ أعدائه الكافرين، ولهذا اتفقَ المفسِّرون على أنَّ الحقَّ الذي خُلِقَت به السمواتُ والأرض هو الأمرُ والنهيُ وما يترتَّبُ عليهما من الثواب والعقاب

(1)

، فمن جحَد ذلك، وجحَد رسالةَ الرسل، وكفَر بالمعاد، وأحالَ حوادثَ العالم على حركات الكواكب، فقد زعَم أنَّ خلقَ السموات والأرض أبطلُ الباطل

(2)

، وأنَّ العالم خُلِقَ عبثًا، وتُرِكَ سُدى، وخُلِّي هملًا، وغايةُ ما خُلِقَ له أن يكون متمتعًا باللذَّات الحِسِّيَّة ــ كالبهائم ــ في هذه المدَّة القصيرة جدًّا، ثمَّ يفارقُ الوجودَ وتُحْدِثُ حركاتُ الكواكب أشخاصًا مثلَه هكذا أبدًا.

فأيُّ باطلٍ أبطلُ من هذا؟! وأيُّ عبثٍ فوق هذا؟! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115 - 116].

والحقُّ الذي خُلِقَت به السمواتُ والأرضُ وما بينهما هو إلهيَّةُ الربِّ المتضمِّنةُ لكمال حكمته وملكه، وأمرُه ونهيُه المتضمِّنُ لشرعه، وثوابُه وعقابُه المتضمِّنُ لعدله وفضله ولقائه.

فالحقُّ الذي وُجِدَ به العالم كونُ الله سبحانه هو الإله الحقَّ المعبود، والآمرَ الناهي المتصرِّف في الممالك بالأمر والنهي، وذلك يستلزمُ إرسال

(1)

انظر ما تقدم (ص: 1072) والتعليق عليه.

(2)

(ت): «من أبطل الباطل» .

ص: 1391

الرسل وإكرامَ من استجابَ لهم وتمامَ الإنعام عليه، وإهانةَ من كفرَ بهم وكذَّبهم واختصاصَه بالشَّقاء والهلاك، وذلك معقودٌ بكمال حكمة الربِّ تعالى وقدرته وعلمه وعدله، وتمام ربوبيته وتصرُّفه وانفراده بالإلهية، وجَرَيان المخلوقات على مُوجَب حكمته وإلهيته وملكه التَّامِّ، وأنه أهلٌ أن يُعْبَدَ ويُطاع، وأنه أولى مَن أكرمَ أحبابَه وأولياءه بالإكرام الذي يليقُ بعظمته وغِناه وجُوده، وأهانَ أعداءه المُعرِضين عنه الجاحدين له المشركين به المسوِّين بينه وبين الكواكب والأوثان والأصنام في العبادة بالإهانة التي تليقُ بعظمته وجلاله وشدَّة بأسه.

فهو الله العزيزُ العليم، غافرُ الذَّنب وقابلُ التَّوب شديدُ العقاب ذو الطَّول، لا إله إلا هو إليه المصير

(1)

، وهو ذو الرحمة الواسعة الذي لا يُرَدُّ بأسُه عن القوم المجرمين

(2)

، ألا له الخلقُ والأمرُ تباركَ الله ربُّ العالمين

(3)

.

وهو سبحانه خلقَ العالم العُلويَّ والسُّفليَّ بسبب الحقِّ، ولأجل الحقِّ، وضمَّنه الحقَّ، فبالحقِّ كان، وللحقِّ كان، وعلى الحقِّ اشتمل، والحقُّ هو توحيدُه، وعبادتُه وحده لا شريك له هو مُوجَب ذلك

(4)

ومقتضاه، وقام

(5)

بعدله الذي هو الحقُّ، وعلى الحقِّ اشتمل، فما خلقَ اللهُ شيئًا إلا بالحقِّ

(1)

كما أخبر سبحانه في فاتحة سورة غافر.

(2)

كما أخبر في سورة الأنعام: 147.

(3)

كما في سورة الأعراف: 54.

(4)

(ق): «وموجب ذلك» . وهو خطأ.

(5)

أي: العالم العلوي والسفلي.

ص: 1392

وللحقِّ، ونفسُ خلقه له حقٌّ، وهو شاهدٌ من شواهد الحقِّ، فإنَّ أحقَّ الحقِّ هو التوحيد، كما أنَّ أظلمَ الظُّلم هو الشرك.

ومخلوقاتُ الربِّ تعالى كلُّها شاهدةٌ له بأنه الله الذي لا إله إلا هو، وأنَّ كلَّ معبودٍ باطلٌ سواه، وكلُّ مخلوقٍ شاهدٌ بهذا الحقِّ؛ إمَّا شهادةَ نُطْقٍ، وإمَّا شهادةَ حال، وإنْ ظَهَرَ بفعله وقوله خلافُها، كالمشرك الذي يشهدُ حالُ خلقِه وإبداعِه وصُنعِه لخالقه وفاطره أنه الله الذي لا إله إلا هو، وإنْ عبد غيرَه وزعَم أنَّ له شريكًا، فشاهدُ حاله مكذِّبٌ له مُبْطِلٌ لشهادة فعله وقالِه.

وأمَّا قوله

(1)

: «إنه لا يمكن أن يقال: المرادُ أنه خَلَقها على وجهٍ يمكنُ الاستدلالُ بها على الصانع الحكيم

» إلى آخر كلامه.

فيقال له: إذا كانت دلالتُها على صانعها أمرًا ثابتًا لها لذواتها، وذواتُها إنما وُجِدَتْ بإيجاده وتكوينه، كانت دلالتُها بسبب فعل الفاعل المختار لها، ولكنَّ هذا بناءٌ منه على أصلٍ فاسدٍ يكرِّره في كتبه، وهو أنَّ الذوات ليست بمجعولة، ولا تتعلَّقُ بفعل الفاعل

(2)

، وهذا مما أنكره عليه أهلُ العلم والإيمان، وقالوا: إنَّ كونها ذواتٍ، وإنَّ وجودَها وأوصافَها وكلَّ ما ينسبُ إليها هو بفعل الفاعل، فكونُها ذواتٍ وما يتبعُ ذلك من دلالتها على الصانع كلُّه بجَعْل الجاعل، فهو الذي جعَل الذوات والصِّفات، وثبوتُ دلالتها لذاتها لا ينفي أن تكون بجَعْل الجاعل، فإنه لمَّا جعَلها على هذه الصفة مستلزمةً لدلالتها عليه كانت دلالتُها عليه بجَعْلِه.

(1)

أي: الرازي، فيما تقدم من احتجاجه.

(2)

انظر: «فخر الدين الرازي وآراؤه الكلامية» (170، 365).

ص: 1393

فإن قيل: لو قُدِّر عدمُ الجاعل لها لم يرتفع كونُها ذواتٍ، ولو كانت ذواتٍ بجَعْلِه لارتفع كونُها ذواتٍ بتقدير ارتفاعه.

قيل: ما تعني بكونها ذواتٍ وماهيَّات؟ أتعني به تحقُّقَ ذلك في الخارج؟ أو في الذِّهن؟ أو أعمَّ منها؟

فإن عنيتَ الأول، فلا ريب في بطلان كونها ذواتٍ وماهيَّات، وعلى تقدير

(1)

ارتفاع الجاعل.

وإن عنيتَ الثَّاني، فالصُّورُ الذِّهنيةُ مجعولةٌ له أيضًا؛ لأنه هو الذي علَّم فأوجَد الحقائق الذِّهنية في العلم، كما أنه الذي خلقَ فأوجَد الحقائقَ الذهنية في العَيْن، فهو الأكرمُ الذي خلق وعلَّم، فما في الذهن بتعليمه، وما في الخارج بخلقه.

وإن عنيتَ القَدْرَ المشتركَ بين الخارج والذِّهن، وهو مسمَّى كونها ذواتٍ وماهيَّاتٍ بقطع النظر عن تقييدٍ بالذِّهن أو الخارج، قيل لك: هذه ليست بشيءٍ البتة، فإنَّ الشيء إنما يكون شيئًا في الخارج أو في الذِّهن والعلم، وما ليس له حقيقةٌ خارجيةٌ ولا ذهنيةٌ فليس بشيء، بل هو عدمٌ صِرْف، ولا ريب أنَّ العدمَ ليس بفعلِ فاعلٍ ولا جَعْلِ جاعل.

فإن قيل: هي لا تنفكُّ عن أحد الوجودَين، إمَّا الذِّهني ، وإمَّا الخارجي، ولكن نحن أخذناها مجرَّدةً عن الوجودَين، ونظرنا إليها من هذه الحيثيَّة وهذا الاعتبار، ثمَّ حَكمنا عليها بقطع النظر عن تقييدها بذهنٍ أو خارج.

(1)

(ط): «على تقدير» .

ص: 1394

قيل: الحكمُ عليها بشيءٍ ما

(1)

يستلزمُ تصوُّرَها ليمكنَ الحكمُ عليها، وتصوُّرُها مع أخذها مجرَّدةً عن الوجود الذِّهنِيِّ

(2)

مُحال.

فإن قيل: مسلَّمٌ أنَّ ذلك مُحال، ولكن إذا أخذناها مع وجودها الذِّهنيِّ أو الخارجيِّ فهنا أمران: حقيقتُها وماهيتها، والثاني: وجودُها الذِّهنيُّ أو الخارجي، فنحن أخذناها موجودةً، وحكمنا عليها مجردةً، فالحكمُ على جزء هذا المأخوذ المتصوَّر.

قيل: هذا القدرُ المأخوذُ عدمٌ محضٌ ــ كما تقدم ــ، والعدمُ لا يكونُ بجَعْلِ جاعل.

ونكتةُ المسألة: أنَّ الذَّوات من حيث هي ذواتٌ إمَّا أن تكون وجودًا أو عدمًا، فإن كانت وجودًا فهي بجَعْلِ الجاعل، وإن كانت عدمًا فالعدمُ كاسمه، ولا يتعلَّقُ بجَعْلِ الجاعل

(3)

.

فصل

* وأمَّا قولُه: إنَّ إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان اعتمادُه في إثبات الصَّانع على الدلائل الفلَكيَّة، كما قرَّره؛ فيقال: من العجب ذِكرُكم لخليل الرحمن في هذا المقام، وهو أعظمُ عدوٍّ لعبَّاد الكواكب والأصنام التي اتخِذَت على صُورِها، وهم أعداؤه الذين ألقوه في النار، حتى جعلها الله عليه بردًا وسلامًا، وهو صلى الله عليه وسلم أعظمُ الخلق براءةً منهم.

(1)

(ت): «الحكم عليها مبني على ما» .

(2)

(ق): «الوجود والذهن» . وهو تحريف.

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 144 ، 8/ 182، 16/ 265).

ص: 1395

وأمَّا ذلك التقريرُ

(1)

الذي قرره الرازيُّ في المناظرة بينه وبين المَلِك المعطِّل؛ فمما لم يخطُر بقلب إبراهيم، ولا بقلب المشرك، ولا يدلُّ اللفظُ عليها البتَّة، وتلك المناظرةُ التي ذكرها الرازيُّ تشبه أن تكون مناظرةً بين فيلسوفٍ ومتكلِّم! فكيف يسوغُ أن يقال: إنها هي المرادةُ من كلام الله تعالى؟! فيُكْذَبَ على الله، وعلى خليله، وعلى المشرك المعطِّل! وإبراهيمُ أعلمُ بالله ووحدانيته وصفاته من أن يرضى

(2)

بهذه المناظرة.

ونحن نذكرُ كلامَ أئمَّة التفسير في ذلك ليُفْهَم معنى المناظرة، وما دلَّ عليه القرآنُ من تقريرها.

قال ابن جرير

(3)

: معنى الآية: ألم تر يا محمَّد إلى الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربِّه حين قال له إبراهيم: ربِّي الذي يحيي ويميت، يعني بذلك: ربِّي الذي بيده الحياة والموت، يحيي من يشاءُ ويميتُ من أرادَ بعد الإحياء، قال: أنا أفعلُ ذلك، فأحيي وأميت، أستحيي من أردتُ قتله فلا أقتله، فيكون ذلك منِّي إحياءً له ــ وذلك عند العرب يسمَّى: إحياءً، كما قال تعالى:{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]ــ، وأقتلُ آخَر، فيكونُ ذلك منِّي إماتةً له. قال إبراهيمُ له: فإنَّ الله هو الذي يأتي بالشمس من مشرقها، فإن كنتَ صادقًا أنك إلهٌ فأتِ بها من مغربها. قال الله عز وجل:{فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} ، يعني: انقطَع وبطلَت حجَّته.

(1)

في الأصول: «التدبير» . والمثبت من (ط).

(2)

غير محررة في الأصول ، ورسمها يشبه:«يوصى» . وفي (ط): «يوحي إليه» . ولعل الصواب ما أثبت.

(3)

(5/ 432 - 437).

ص: 1396

ثمَّ ذَكر من قال ذلك من السَّلف.

فروى عن قتادة: ذُكِرَ لنا أنه دعا برجلين، فقتَل أحدَهما واستحيا الآخَر، وقال: أنا أحيي هذا وأميتُ هذا، قال إبراهيمُ عند ذلك: فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب.

وعن مجاهد: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} أقتلُ من شئتُ، وأستحيي من شئتُ أدعُه حيًّا فلا أقتلُه.

وقال ابن وهب: حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنَّ الجبَّار قال لإبراهيم: أنا أحيي وأميت، وإن شئتُ قتلتُك وإن شئتُ استحييتُك، فقال إبراهيم: إنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب. فبُهِتَ الذي كفر.

وقال الربيع: لما قال إبراهيم: ربِّي الذي يحيى ويميت، قال هو ــ يعني نمرود ــ: فأنا أحيي وأميت، فدعا برجلين فاستحيا أحدَهما وقتَل الآخر، وقال: أنا أحيي وأميت، أي: أستحيي من شئتُ، فقال إبراهيم: فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب.

وقال السُّدِّي: لما خرجَ إبراهيمُ من النار أدخلوه على المَلِك، ولم يكن قبل ذلك دخَل عليه، فكلَّمه وقال له: من ربُّك؟ قال: ربِّي الذي يحيي ويميت، قال نمرود: أنا أحيي وأميت، أنا آخذُ أربعةَ نفرٍ فأُدخِلهم بيتًا فلا يُطْعَمون ولا يُسْقَون، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمتُ اثنين وسقيتُهما فعاشا، وتركتُ الاثنين فماتا، فعَرف إبراهيمُ أنَّ له قدرةً بسلطانه ومُلكه على أن يفعَل ذلك، قال إبراهيم: فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من

ص: 1397

المغرب. فبُهِتَ الذي كفر

(1)

، وقال: إنَّ هذا إنسانٌ مجنون، فأخرِجُوه، ألا ترون أنه من جنونه اجتَرأ على آلهتكم فكسَرها، وأنَّ النارَ لم تأكله. وخشي أن يفتضحَ في قومه، وكان يزعمُ أنه ربٌّ، فأمَر بإبراهيم فأُخرِج.

وقال مجاهد: أحيي فلا أقتُل، وأميتُ من قتلتُ.

وقال ابن جريج: أُتِيَ برجلين، فقتَل أحدَهما وترَك الآخر، فقال: أنا أحيي وأميت، أقتلُ

(2)

فأميتُ من قتلتُ، وأحيي فلا أقتُل.

وقال ابن إسحاق: ذُكِرَ لنا ــ والله أعلم ــ أنَّ نمرودَ قال لإبراهيم: أرأيتَ إلهك هذا الذي تعبدُ وتدعو إلى عبادته وتذكرُ من قدرته التي تعظِّمه بها على غيره، ما هو؟ قال إبراهيم: ربِّي الذي يحيي ويميت، قال نمرود: أنا أحيي وأميت، فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ قال: آخذُ الرجلين قد استوجبا القتلَ في حكمي، فأقتلُ أحدَهما فأكونُ قد أمتُّه، وأعفو عن الآخر فأتركُه، فأكونُ قد أحييتُه، فقال له إبراهيم عند ذلك: فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب، أَعرِفْ أنه كما تقول، فبُهِتَ عند ذلك نمرود، ولم يرجِع إليه شيئًا، وعرَف أنه لا يطيقُ ذلك.

فهذا كلامُ السَّلف في هذه المناظرة، وكذلك سائرُ المفسِّرين بعدهم، لم يقل أحدٌ منهم قطُّ: إن معنى الآية أنَّ هذا الإحياءَ والإماتةَ حاصلٌ منِّي ومن كلِّ أحد، فإنَّ الرجلَ قد يكون منه الحدوثُ بواسطة تمزيجِ الطبائع وتحريك الأجرام الفلَكيَّة.

(1)

(ت): «فبهت الذي كفر عند ذلك» .

(2)

ساقطة من (ق). وهي في (د ، ت) و «التفسير» .

ص: 1398

بل نقطعُ بأنَّ هذا لم يخطُر

(1)

بقلب المشرك المناظِر البتَّة، ولا كان هذا مرادَه، فلا يحلُّ تفسيرُ كلام الله بمثل هذه الأباطيل، ونسأل الله أن يُعِيذنا من القول عليه ما لم نعلم، فإنه أعظمُ المحرَّمات على الإطلاق وأشدُّها إثمًا.

وقد ظنَّ جماعةٌ من الأصوليِّين وأرباب الجدل أنَّ إبراهيمَ انتقل مع المشرك من حجَّةٍ إلى حجَّة، ولم يُجِبه عن قوله: أنا أحيي وأميت

(2)

.

قالوا: وكان يمكنُه أن يُتَمَّم

(3)

معه الحجَّةَ الأولى، بأن يقول: مرادي بالإحياء إحياءُ الميت وإيجادُ الحياة فيه، لا استبقاؤه على حياته، وكان يمكنُه تتميمُها بمعارضةٍ

(4)

في نفسها، بأن يقول: فأحْيِ مَن أمتَّ وقتلتَ إن كنتَ صادقًا، ولكن انتقَل إلى حجَّةٍ أوضحَ من الأولى، فقال: إنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب، فانقطَع المشركُ المعطِّل.

وليس الأمرُ كما ذكروه، ولا هذا انتقال

(5)

، بل هذا مطالبةٌ له بمُوجَب دعواه الإلهية، والدليلُ الذي استدلَّ به إبراهيمُ قد تمَّ وثبَت مُوجَبه، فلمَّا ادعى الكافرُ أنه يفعلُ كما يفعلُ الله فيكونُ إلهًا مع الله طالَبه إبراهيمُ بمُوجَب

(1)

(ت): «لا يدخل ويخطر» .

(2)

انظر: «الكافية في الجدل» (552)، و «عَلَم الجذل» (105)، و «الواضح» (1/ 504)، و «البحر المحيط» (5/ 354)، و «الإتقان» للسيوطي (1956).

(3)

(ت): «يتم» .

(4)

(ط): «بمعارضته» .

(5)

انظر: «الصواعق المرسلة» (491)، و «الداء والدواء» (301)، و «أصول السرخسي» (2/ 288) و «أحكام القرآن» للجصاص (2/ 171)، و «تفسير ابن كثير» (2/ 631)، و «البداية والنهاية» (1/ 344).

ص: 1399

دعواه مطالبةً تتضمَّنُ بطلانَها، فقال: إن كنتَ ربًّا كما تزعمُ فتحيي وتميتُ كما يحيي ربِّي ويميت، فإنَّ الله يأتي بالشمس من المشرق فتنطاعُ

(1)

لقدرته وتسخيره ومشيئته، فإن كنتَ أنت ربًّا فأتِ بها من المغرب.

وتأمَّل قولَ الكافر: أنا أحيي وأميت، ولم يقل: أنا الذي أحيي وأميت، يعني: أنا أفعلُ كما يفعلُ الله، فأكونُ ربًّا مثلَه، فقال له إبراهيم: فإن كنتَ صادقًا فافعَل مثلَ فعله في طلوع الشمس، فإذا أطلَعها مِن جهةٍ فأَطْلِعها أنت من جهةٍ أخرى.

ثمَّ تأمَّل ما في ضمن هذه المناظرة من حُسْنِ الاستدلال بأفعال الربِّ المشهودة المحسوسة، التي تستلزمُ وجودَه وكمال قدرته ومشيئته وعلمه ووحدانيته، من الإحياء والإماتة المشهودَين اللذَين لا يقدرُ عليهما إلا الله وحده، وإتيانه تعالى بالشمس من المشرق، ولا يقدرُ أحدٌ سواه على ذلك.

وهذا برهانٌ لا يقبلُ المعارضةَ بوجه، وإنما لبَّس عدوُّ الله، وأوهمَ الحاضرين أنه قادرٌ من الإحياء والإماتة على ما هو مماثلٌ لمقدور الربِّ تعالى، فقال له إبراهيم: فإن كان الأمرُ كما زعمتَ فأرِني قدرتَك على الإتيان بالشمس من المغرب، لتكون مماثلةً

(2)

لقدرة الله على الإتيان بها من المشرق.

فأين الانتقالُ في هذا الاستدلال والمناظرة؟! بل هذا مِن أحسن ما يكونُ من المناظرة، والدليلُ الثاني مكمِّلٌ لمعنى الدليل الأول، ومبيِّنٌ له

(1)

(ت): «فتنصاع» . انطاع له: انقاد. «اللسان» (طوع).

(2)

(ت): «مماثلا» .

ص: 1400

ومقرِّر، لتضمُّن الدليلين

(1)

أفعالَ الربِّ الدالَّة عليه وعلى وحدانيته وانفراده بالربوبية

(2)

والإلهية، لا تقدرُ

(3)

أنت ولا غيرُ الله على مثلها.

ولمَّا عَلِمَ عدوُّ الله صحةَ ذلك، وأنَّ من هذا شأنُه على كلِّ شيءٍ قدير، لا يُعجِزُه شيء، ولا يستصعبُ عليه مراد، خافَ أن يقول لإبراهيم: فسَل ربَّك أن يأتي بها من مغربها، فيفعَل ذلك، فيظهرَ لأتباعه بطلانُ دعواه وكذبُه، وأنه لا يصلحُ للربوبية، فبُهِتَ وأمسَك.

وفي هذه المناظرة نكتةٌ لطيفةٌ جدًّا، وهي أنَّ شركَ العالَم إنما هو مستندٌ إلى عبادة الكواكب والقبور، ثمَّ صُوِّرت الأصنامُ على صُوَرها ــ كما تقدَّم ــ.

فتضمَّن الدليلان اللذان استدلَّ بهما إبراهيمُ إبطالَ إلهيَّة تلك جملةً بأنَّ الله وحده هو الذي يحيي ويميت، ولا يصلحُ الحيُّ الذي يموت للإلهية، لا في حال حياته ولا بعد موته؛ فإنَّ له ربًّا قادرًا قاهرًا متصرِّفًا فيه أحياهُ وأماته، ومَن كان كذلك فكيف يكونُ إلهًا حتى يتَّخذ الصَّنمُ على صُورته ويُعْبَد من دونه؟!

وكذلك الكواكبُ أظهرُها وأكبرُها للحِسِّ هذه الشمس، وهي مربوبةٌ مدبَّرةٌ مسخَّرةٌ لا تصرُّفَ لها في نفسها بوجهٍ ما، بل ربُّها وخالقُها سبحانه يأتي بها من مشرقها، فتنقادُ لأمره ومشيئته، فهي مربوبةٌ مسخَّرةٌ مدبَّرةٌ، لا إلهًا يُعْبَدُ من دون الله.

(1)

(ت): «الدليل» .

(2)

(ت): «بالربوبية والوحدانية» .

(3)

(ط): «كما لا تقدر» .

ص: 1401

فصل

* وأمَّا استدلالُه بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى عند قضاء الحاجة عن استقبال

(1)

الشَّمس والقمر واستدبارهما؛ فكأنه ــ والله أعلم ــ لمَّا رأى بعضَ الفقهاء قد قالوا ذلك في كتبهم في آداب التخلِّي: «ولا يَسْتَقبِلُ الشمسَ والقمر»

(2)

، ظنَّ أنهم إنما قالوا ذلك لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فاحتجَّ بالحديث!

وهذا مِن أبطل الباطل؛ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُنْقَل عنه ذلك

(3)

في كلمةٍ واحدة، لا بإسنادٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ ولا مرسلٍ ولا متصل

(4)

، وليس لهذه المسألة أصلٌ في الشرع، والذين ذكروها من الفقهاء منهم من قال: العلَّةُ في ذلك أنَّ اسمَ الله مكتوبٌ عليهما، ومنهم من قال: لأنَّ نُورَهما مِن نور الله، ومنهم من قال: إن التنكُّبَ عن استقبالهما واستدبارهما أبلغُ في التستُّر وعدم ظهور الفرجَيْن

(5)

.

وبكلِّ حالٍ، فما لهذا ولأحكام النجوم؟! فإن كان هذا دالًّا على دعواكم فدلالةُ النَّهي عن استقبال الكعبة بذلك أقوى وأولى.

* وأمَّا استدلالُه بأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال يوم موت ولده إبراهيم: «إنَّ الشَّمس

(1)

(ق) و (ت): «باستقبال» . والمثبت من (ط).

(2)

انظر: «البناية شرح الهداية» (2/ 468)، و «التاج والإكليل» (1/ 281) ، و «المجموع» (2/ 94) ، و «الإنصاف» (1/ 81).

(3)

(ت): «لم يقل ذلك» .

(4)

راجع ما تقدم (ص: 1352) تعليقًا.

(5)

انظر: «المغني» (1/ 122)، و «شرح العمدة» لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 148 - الطهارة).

ص: 1402

والقمر آيتان من آيات الله ، لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزَعوا إلى الصلاة»

(1)

، وهذا الحديثُ صحيح، وهو من أعظم الحُجَج على بطلان قولكم؛ فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنهما آيتان من آيات الله، وآياتُ الله لا يحصيها إلا الله، فالمطرُ والنباتُ والحيوانُ والليلُ والنهارُ والبرُّ والبحرُ والجبالُ والشجرُ وسائرُ المخلوقات آياتُه تعالى الدَّالةُ عليه، وهي في القرآن أكثر من أن نذكُرها هاهنا، فهما آيتان، لا ربَّان ولا إلهان، ولا ينفعان ولا يضرَّان، ولا لهما تصرُّفٌ في أنفُسِهما وذواتهما

(2)

البتَّة، فضلًا عن إعطائهما كلَّ ما في العالم من خيرٍ وشرٍّ وصلاحٍ وفساد، بل كلَّ ما فيه من ذرَّاته وأجزائه وكلِّياته وجزئياته

(3)

، تعالى الله عن قول المفترين المشركين علوًّا كبيرًا.

وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته» قولان:

أحدهما: أنَّ موتَ الميِّت وحياتَه لا يكونُ سببًا في انكسافهما، كما كان يقولُه كثيرٌ من جُهَّال العرب

(4)

وغيرهم عند الانكساف، أن ذلك لموتِ عظيمٍ أو ولادةِ عظيم، فأبطَل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذلك، وأخبَر أن موتَ الميِّت وحياتَه لا يؤثِّر في كسوفهما البتَّة.

والثاني: أنه لا يحصُل عن انكسافهما موتٌ ولا حياة، فلا يكونُ انكسافُهما سببًا لموت ميتٍ ولا لحياة حيٍّ، وإنما ذلك تخويفٌ من الله

(1)

تقدم تخريجه (ص: 1352).

(2)

(ت): «تصرف في دورانهما» .

(3)

(ق): «وجزئياته له» .

(4)

(ت): «من المشركين ومن جهال العرب» .

ص: 1403

لعباده، أجرى العادةَ بحصوله في أوقاتٍ معلومةٍ بالحساب، كطلوع الهلال وإبداره وسِراره

(1)

.

فأمَّا سببُ كسوف الشمس فهو توسُّطُ القمر بين جِرْم الشمس وبين أبصارنا، فإنَّ القمرَ عندهم جسمٌ كثيفٌ مُظلِم، وفلكُه دون فلَك الشمس، فإذا كان على مسامتة إحدى نقطتي الرأس أو الذَّنَب أو قريبًا منهما حالةَ الاجتماع من تحت الشمس حالَ بيننا وبين نور الشمس، كسحابةٍ تمرُّ تحتها إلى أن تُجَاوزَها من الجانب الآخر، فإن لم يكن للقمر عرضٌ سَتَر عنَّا نورَ كلِّ الشمس، وإن كان له عرضٌ فبقَدْرِ ما يُوجِبه عرضُه.

وذلك أنَّ الخطوطَ الشُّعاعية تخرجُ من بصر الناظر إلى المرئيِّ على شكلِ مخروطٍ رأسُه [عند] نقطة البصر، وقاعدتُه عند جِرْم المرئيِّ، فإذا وجَّهنا أبصارَنا إلى جِرْم الشمس حالةَ كسوفها فإنه ينتهي إلى القمر أولًا مخروطُ الشُّعاع، فإذا توهَّمنا نفوذَه منه إلى الشمس وقع

(2)

جِرْمُ الشمس في وسط المخروط، وإن لم يكن للقمر عرضٌ انكسف كلُّ الشمس ، وإن كان للقمر عرضٌ فبقَدْرِ ما يوجبُه عرضُه ينحرفُ جِرْمُ الشمس عن مخروط الشُّعاع، ولا يقعُ كلُّه فيه، فينكسفُ بعضُه ويبقى الباقي على ضيائه، وذلك إذا كان العرضُ المرئيُّ أقلَّ من نصف مجموع قُطْرِ الشمس والقمر، حتى إذا ساوى العرضُ المرئيُّ نصف مجموع القُطْرين كان صفحةُ القمر تماسُّ

(3)

مخروطَ الشُّعاع، فلا ينكسفُ ولا يكونُ لكسوف الشمس لُبْثٌ؛ لأنَّ قاعدةَ

(1)

وهو آخر الشهر عندما يستسرُّ الهلال.

(2)

في الأصول: «ومع» . والمثبت من (ط).

(3)

(ت): «رأس» .

ص: 1404

المخروط المتَّصل بالشمس مساوٍ لِقُطْرَيها، فكلما

(1)

ابتدأ القمرُ بالحركة بعد تمام الموازاة بينه وبين الشمس تحرَّك المخروطُ وابتدأت الشمسُ بالإسفار.

إلا أنَّ كسوفَ الشمس يختلفُ باختلاف أوضاع المَساكِن، حتى إنه يُرى في بعضها ولا يُرى في بعضها، ويُرى في بعضها أقلَّ وفي بعضها أكثر بسبب اختلاف المنظر، إذ الكاسفُ ليس عارضًا في جِرْم الشمس ليستوي فيه النُّظَّارُ من جميع الأماكن، بل الكاسفُ شيءٌ متوسطٌ بينها وبين الأبصار وهو قريبٌ منَّا، والمحجوبُ عنَّا بعيد، فيختلفُ التوسُّطُ باختلاف مواضع الناظرين.

وكذلك يختلفُ كسوفُ الشمس في مَباديها وعند انجلائها في كمِّية ما ينكسفُ منها، وفي زمان كسوفها الذي هو من أول البُدُوِّ إلى وسطِ الكسوف، ومن وسط الكسوف إلى آخر الانجلاء.

فإن قيل: فجِرْمُ القمر أصغرُ من جِرْم الشمس بكثير، فكيف يحجُب عنَّا كلَّ الشمس؟!

(2)

قيل: إنما يحجُب عنَّا جِرْمَ الشمس لقربه منَّا وبُعْدِها عنَّا؛ لأنَّ الشيئين

(3)

المختلفَين في الصِّغَر والكِبَر إذا قَرُبَ الصغيرُ من الكبير يُرى من

(1)

في الأصول: «فكما» . والمثبت أشبه.

(2)

انظر: «عارضة الأحوذي» (3/ 37)، و «فتح الباري» (2/ 537)، و «عمدة القاري» (7/ 67).

(3)

(ق): «السببين» .

ص: 1405

أطراف الكبير أكثرَ

(1)

ما يُرى منها مع بُعْدِ الأصغر عنه، وكلَّما بَعُدَ الأصغر عنه وازداد قربُه من النَّاظر تناقصَ ما يُرى من أطراف الأكبر، إلى أن ينتهي إلى حدٍّ لا يُرى من الأكبر شيء، والحِسُّ شاهدٌ بذلك.

وأمَّا سببُ خسوف القمر؛ فهو توسطُ الأرض بينه وبين الشمس، حتى يصير القمرُ ممنوعًا من اكتساب النُّور من الشمس، ويبقى ظلامُ ظلِّ الأرض في مَمرِّه؛ لأنَّ القمرَ لا ضوءَ له أبدًا، وإنما يكتسبُ الضوءَ من الشمس.

وهل هذا الاكتسابُ خاصٌّ بالقمر أم يشاركه فيه سائرُ الكواكب؟ ففيه قولان لأرباب الهيئة:

أحدُهما: أنَّ الشمسَ وحدَها هي المضيئةُ بذاتها ، وغيرُها من الكواكب مستضيئةٌ بضيائها على سبيل العَرَض، كما عُرِفَ ذلك في القمر.

والقولُ الثاني: أنَّ القمرَ مخصوصٌ بالكُمُودة

(2)

دون سائر الكواكب وغيرُه من الكواكب مضيئةٌ بذاتها ، كالشمس.

وردَّ هؤلاء على أرباب القول الأول بأنَّ الكواكب لو استفادت أضواءها من الشمس لاختَلف مقاديرُ تلك الأضواء فيما كان تحت فلَك الشمس منها بسبب القُرب والبُعد من الشمس، كما في القمر ، فإنه يختلفُ

(3)

ضوؤه بحسب قُربه وبُعده من الشمس.

والذي حملَ أربابَ القول عليه ما وجدوه مِن تعلُّق حركات الكواكب

(1)

(ق): «أكبر» .

(2)

وهي القتمة القريبة من السَّواد ، كما تقدم تفسيره (ص: 1268).

(3)

في الأصول: «لا يختلف» . وهو خطأ.

ص: 1406

بحركات الشمس، وظنُّوا أنَّ أضواءها مِن ضيائها.

وليس الغرضُ استيفاءَ الحِجَاج من الجانبين، وما لكلِّ قولٍ وعليه، والمقصودُ ذكرُ سبب الخسوف القمريِّ.

ولمَّا كانت الأرض جسمًا كثيفًا، فإذا أشرقت الشمسُ على جانبٍ منها فإنه يقعُ لها ظلٌّ في الجهة الأخرى؛ لأنَّ كلَّ ذي ظلٍّ يقعُ في الجهة المقابلة للجِرْم المضيء، فمتى أشرقَت عليها من ناحية المشرق وقعت أظلالُها في ناحية المغرب، وإذا وقعَت عليها من ناحية المغرب مالت أظلالُها إلى ناحية المشرق.

والأرضُ أصغرُ من جِرْم الشمس بكثير، فينبعثُ ظلُّها ويرتفعُ في الهواء على شكلِ

(1)

مخروطٍ قاعدتُه قريبةٌ من تدوير الأرض، ثمَّ لا يزالُ ينخرطُ تدويرًا حتى يَدِقَّ ويتلاشى؛ لأنَّ قُطر الشمس لمَّا كان أعظمَ من قُطر الأرض ، فالخطوطُ الشُّعاعيةُ المارَّة من جوانب الشمس إلى جوانب الأرض تكونُ متلاقيةً لا متوازية، فإذا مرَّت على الاستقامة إلى الأرض انقذفت

(2)

على جوانبها ، فتلتقي

(3)

لا محالة إلى نقطة، فينحصر ظلُّ الأرض في سطحٍ مخروط ، فيكون مخروطًا لا محالة، قاعدتُه حيثُ ينبعثُ من الأرض، ورأسُه عند نقطة تلاقي الخطوط.

ولو كان قُطر الأرض مساويًا لقُطر الشمس لكانت الخطوط الشُّعاعيةُ

(1)

(د): «شطر» . (ق): «سطر» . (ت): «شرط» . والمثبت من (ط).

(2)

في الأصول: «انقذف» . والمثبت من (ط).

(3)

(ق): «فيلتقي» .

ص: 1407

تخرجُ إليها على التوازي، فيكون الظلُّ متساوي الغِلَظ إلى أن ينتهي إلى محيط العالم.

ولو كان قُطر الشمس أصغرَ من قُطر الأرض لكانت الخطوطُ تخرجُ على التلاقي في جهة الشمس وأوسعُها عند قُطر الأرض، ولكان الظلُّ يزدادُ غِلَظًا كلَّما بَعُدَ عن الأرض إلى أن ينتهي إلى محيط العالم، ويلزمُ من ذلك أن ينخسفَ القمرُ في كلِّ استقبال، والوجودُ بخلافه.

ولمَّا ثبتَ أنَّ ظلَّ الأرض مخروطيُّ الشكل، وقد وقعَ في الجهة المقابلة لجهة الشمس، فيكونُ نقطةُ رأسه في سطح فلك البروج لا محالة ويدورُ بدوران الشمس مسامتًا للنقطة المقابلة لموضع الشمس.

وهذا الظلُّ الذي يكون فوق الأرض هو الليل، فإن كانت الشمسُ فوق الأرض كان الظلُّ تحت الأرض بالنسبة إلينا، ونحن في ضياء الشمس، وذلك النهارُ والزمانُ الذي يوازي دوامَ الظلِّ فوق الأرض هو زمانُ الليل.

فإذا اتفقَ مرورُ القمر على محاذاة نقطتي الرَّأس والذَّنَب حالة الاستقبال يقعُ في مخروط الظلِّ لا محالة؛ لأن الخطَّ الخارج عن مركز العالم المارَّ بمركز الشمس ثم بمركز القمر من الجانب الآخر ينطبقُ

(1)

على سهم مخروطِ الظلِّ، فيقعُ القمرُ في وسط المخروط، فينخسفُ كلُّه ضرورةً؛ لأنَّ الأرضَ تمنعُه من قبول ضياء الشمس، فيبقى القمرُ على جوهره الأصليِّ.

فإن كان للقمر عرضٌ

(2)

ينحرفُ عن سهم المخروطِ بقي الضوءُ فيه

(1)

(ق) و (ت): «وينطبق» . والمثبت من (ط).

(2)

(ت): «فإن كان القمر عرضا» .

ص: 1408

بقدره وطبعه، وقد يقعُ كلُّه في المخروط ولكن يمرُّ في جانبٍ منه، وقد يقعُ بعضُه في المخروط ويبقى بعضُه خارجًا، وربَّما يماسُّ مخروطَ الظلِّ ولا يقعُ من جِرْمه شيء.

وإنما

(1)

يختلفُ هذا باختلاف بُعده من الخطِّ الخارج من مركز العالم المارِّ بمركز الشمس المطابق لسهم المخروط، حتى إذا عَظُمَ عرضُه بأن كان

(2)

بينه وبين إحدى نقطتي الرأس والذَّنَب أكثر من ثلاثة عشر

(3)

دقيقةً لا يماسُّ المخروطَ أصلًا، وإذا وقع في جانبٍ منه قلَّ مُكثُه، وربما لم يكن له مكثٌ أصلًا.

وإنما يُعرَفُ ذلك بتقديم معرفة قُطر الظِّل.

وقُطر القمر يختلفُ باختلاف أبعاده عن الأرض، وكذلك

(4)

قُطر الظلِّ أيضًا يختلفُ باختلاف أبعاد الشمس عن الأرض، فإنَّ الشمس متى قَرُبَت من الأرض كان ظلُّ الأرض دقيقًا قصيرًا، وإذا بَعُدَت عنها كان ظلُّ الأرض طويلاً غليظًا؛ لأنها متى بَعُدَت عن الأرض يُرى قُطرُها أصغر وأقربَ تلاقيًا منها، وكلما كان أعظمَ مقدارًا في رأي العين فالخطوطُ الشُّعاعية أقصرُ وأقربُ تلاقيًا، فلذلك يختلفُ قَطْعُ القمر غِلَظَ الظلِّ في أوقات الكسوفات. والموضعُ الذي يقطعه القمرُ من الظلِّ يسمُّونه فلَكَ الجوهر.

وإذا عُرِفَ قُطر الظلِّ ، وعُرِفَ مقدارُ قُطر نصف القمر ، وجُمِعَ بينهما

(1)

(ت): «وربما» .

(2)

في الأصول: «بأن لان» . وهو تحريف. وفي (ط): «بأن لا يبقى» .

(3)

كذا في الأصول. ومرَّت له نظائر.

(4)

(ق): «ولذلك» .

ص: 1409

ونُصِّفَ ذلك، وعُرِفَ عرضُ القمر إن كان له عرض، فإن كان العرضُ مساويًا لنصف مجموع القُطرين فإنَّ القمرَ يُماسُّ دائرةَ الظلِّ ولا ينكسف، وإن كان العرضُ أقلَّ من نصف مجموعهما فإنه ينكسف، فيُنظرُ إن كان مساويًا لنصف قُطر الظلِّ انكسف من القمر مثلُ نصف صفحته، وإن كان العرضُ أقلَّ من نصف قُطر الظلِّ فينتقصُ العرضُ من نصف قُطر الظلِّ، فإن كان الباقي مثل قُطر القمر انكسف كلُّه ولا يكونُ له مكث، حتى إذا لم يكن له عرضٌ انكسف كلُّه ويمكثُ زمانًا أكثر.

وأطولُ ما يمتدُّ زمانُ الكسوف القمريِّ أربع ساعات، وأمَّا زمانُ الكسوف الشمسيِّ فلا يزيدُ على ساعتين.

وكسوفُ القمر يختلفُ باختلاف أوضاع المَساكِن، إذ الكسوفُ عارضٌ في جهةٍ ، وهو عبورُه في ظلام ظلِّ الأرض، بخلاف كسوف الشمس، وإنما يختلفُ الوقتُ فقط بأن يكون في بعض المَساكِن على مُضِيِّ ساعةٍ من الليل، وفي بعضها على مُضِيِّ نصف ساعة، وقد يطلعُ منكسفًا في بعض المساكن، وينكسفُ بعد الطُّلوع في بعضها، وقد لا يُرى منكسفًا أصلًا إذا كانت الشمسُ فوق الأرض حالة الاستقبال.

وبدءُ الخسوف

(1)

في القمر أبدًا يكونُ من طرفه الشرقيِّ، إذ هو الذاهبُ إلى الاستقبال نحو المشرق والدخول في الظلِّ بحركته، ثمَّ ينحرفُ قليلًا قليلًا إلى الشمال أو الجنوب في بدء انجلائه أيضًا من طرفه الشرقي، وأمَّا في الشمس فبدءُ الكسوف من طرفها الغربيِّ، إذ الكاسفُ لها يأتي إليها من ناحية الغرب، وكذلك الانجلاءُ أيضًا من الطَّرف الغربيِّ لكن بانحرافٍ منه

(1)

في الأصول: «ويرى الخسوف» . وهو تحريف.

ص: 1410

إلى الشمال والجنوب.

وإنما ذكَرنا هذا الفصل، ولم يكن من غرَضنا؛ لأنَّ كثيرًا من هؤلاء الأحكاميِّين يموِّهون على الجُهَّال بأمر الكسوف، ويوهمونهم أنَّ قضاياهم وأحكامهم النجوميَّة من السَّعد والنَّحس والظَّفر والغلبة وغيرها هي من جنس الحكم بالكسوف، فيصدِّقُ بذلك الأغمارُ والرَّعاع

(1)

، ولا يعلمون أنَّ الكسوفَ يُعْلَمُ بحساب سَيْر النيِّرَين في منازلهما، وذلك أمرٌ قد أجرى اللهُ العادةَ المطَّردة به ، كما أجراها في الأبدار والسِّرار والهلال.

نعم؛ لا ننكِرُ أنَّ الله سبحانه يُحْدِثُ عند الكسوفَين من أقضيته وأقداره ما يكونُ بلاءً لقومٍ ومصيبةً لهم، ويجعلُ الكسوفَ سببًا لذلك

(2)

، ولهذا أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند الكسوف بالفزَع إلى ذكر الله والصَّلاة والعِتاقة والصَّدقة والصِّيام

(3)

؛ لأنَّ هذه الأشياء تدفعُ مُوجَبَ الكَسْف الذي جعله الله سببًا لما جعله، فلولا انعقادُ سبب التخويف لما أمرَ بدفع مُوجَبه بهذه العبادات.

ولله تعالى في أيام دهره أوقاتٌ يُحْدِثُ فيها ما يشاءُ من البلاء والنَّعماء ويقضي من الأسباب ما يدفعُ مُوجَبَ تلك الأسباب لمن قام به، أو يقلِّله أو يخفِّفه، فمن فَزِعَ إلى تلك الأسباب أو بعضها اندفَع عنه الشرُّ الذي جعل اللهُ

(1)

انظر: «مجموع الفتاوى» (35/ 175)، و «رسائل الشريف المرتضى» (2/ 311).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (17/ 534، 35/ 169)، و «منهاج السنة» (5/ 444)، و «الرد على المنطقيين» (271)، و «زاد المعاد» (5/ 788).

(3)

الأمر بالذكر والصلاة والعِتاقة والصدقة في «صحيح البخاري» (1044، 2519) وغيره. أما الأمر بالصيام، فلعل من ذلك الترغيب في صيام الأيام البيض، فإن الكسوف غالبًا يقع فيها. انظر:«شرح معاني الآثار» (3/ 37)، و «الفتح» (6/ 255).

ص: 1411

الكسوفَ سببًا له أو بعضه، ولهذا قلَّ ما تسلَمُ أطرافُ الأرض ــ حيث يخفى الإيمانُ وما جاءت به الرسل فيها ــ من شرٍّ عظيمٍ يحصلُ فيها بسبب الكسوف، وتسلَمُ منه الأماكنُ التي يظهرُ فيها نورُ النبوَّة والقيامُ بما جاءت به الرسل، أو يقلُّ فيها جدًّا.

ولمَّا كُسِفَت الشمسُ على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم قام فَزِعًا مسرعًا يجرُّ رداءه، ونادى في الناس: الصَّلاةَ جامعة، وخَطَبهم بتلك الخطبة البليغة، وأخبرَ أنه لم يَر كيومه ذلك في الخير والشرِّ، وأمَرهم عند حصول مثل تلك الحالة بالعِتاقة والصَّدقة والصلاة والتوبة.

فصلواتُ الله وسلامه على أعلم الخلق بالله وبأمره وشأنه وتصريفه أمورَ مخلوقاته وتدبيره، وأنصحِهم للأمة، ومَن دعاهم إلى ما فيه سعادتُهم في معاشهم ومَعادهم، ونهاهم عمَّا فيه هلاكُهم في معاشهم ومعادهم.

ولقد جنى

(1)

على ما جاءت به الرسلُ طائفتان

(2)

، هلَك بسببهما من شاء الله، ونجا مِن شركهما من سبقت له العنايةُ من الله

(3)

:

* إحدى الطائفتين

(4)

وقفَت مع ما شاهَدَته وعَلِمَته من أمور هذه الأسباب والمسبَّبات، وأحالت الأمرَ عليها، وظنَّت أنه ليس بعدها شيء، فكفَرت بما جاءت به الرسل وجحَدت المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوَّات، وغرَّها

(5)

ما انتهى إليه علومُها ووقفَت عنده أقدامُها من العلم بظاهرٍ من

(1)

(ت): «حي» . ومهملة في (ق).

(2)

(ط): «ولقد خفي ما جاءت به الرسل على طائفتين» .

(3)

تضاف حاشية: انظر ذكر هاتين الطائفتين في: "المنقذ من الضلال" للغزالي (79 - 81).

(4)

وهم الفلاسفة.

(5)

في الأصول: «وغيرها» . وهو تحريف.

ص: 1412

المخلوقات وأحوالها.

وجاء ناسٌ جُهَّالٌ رأوهم قد أصابوا في بعضها أو كثيرٍ منها، فقالوا: كلُّ ما قاله هؤلاء فهو صواب؛ لِمَا ظهر لنا من صوابهم.

وانضافَ إلى ذلك أنَّ أولئك لمَّا وقفوا على الصواب فيما أدَّتهم إليه أفكارُهم من الرياضيات

(1)

وبعض الطبيعيات وَثِقُوا بعقولهم، وفرحوا بما عندهم من العلم، وظنُّوا أنَّ سائر ما أحْكَمَتْه

(2)

أفكارُهم من العلم بالله وشأنه وعظمته هو كما أوقعهم عليه فكرُهم، وحكمُه حكمُ ما شهد به الحِسُّ من الطبيعيات والرياضيات؛ فتفاقمَ الشرُّ، وعَظُمَت المصيبة، وجُحِدَ اللهُ وصفاتُه وخلقُه للعالَم وإعادتُه له، وجُحِدَ كلامُه ورسلُه ودينُه.

ورأى كثيرٌ من هؤلاء أنهم هم خواصُّ النوع الإنسانيِّ وأهلُ الألباب، وأنَّ ما عداهم هم القُشور، وأنَّ الرسلَ إنما قاموا بسياستهم لئلَّا يكونوا كالبهائم، فهم بمنزلة قيِّم المارِستان

(3)

، وأمَّا أهلُ العقول والرياضات

(4)

والأفكار فلا يحتاجون إلى الرسل، بل هم يعلِّمون الرسلَ ما يصنعونه

(5)

للدَّعوة الإنسانية، كما تجدُ في كتبهم: وينبغي للرسول أن يفعلَ كذا وكذا!

(1)

في الأصول: «الرياضات» .

(2)

(ت): «اخذ منه» . (د، ق): «خدمته» . وهو تحريف. وستأتي على الصواب.

(3)

(ت): «البيمارستان» . فارسيةٌ معربة، بمعنى: دار المرضى، «المستشفى». انظر:«الصحاح» (مرس)، و «قصد السبيل» (1/ 320).

(4)

(ق): «والرياضيات» .

(5)

(ت): «يقولونه» .

ص: 1413

والمقصودُ أنَّ هؤلاء لمَّا أوقعَتهم

(1)

أفكارُهم على العلم بما خفي على كثيرٍ من الناس من أسرار المخلوقات وطبائعها وأسبابها، ذهبوا بأفكارهم وعقولهم، وتجاوزَت ماجاءت به الرسل، وظنُّوا أنَّ إصابتهم في الجميع سواء، وصار المقلِّدُ لهم في كُفرهم إذا خطرَ له إشكالٌ على مذهبهم أو دَهَمَه مالا حيلةَ له في دفعه مِن تناقُضهم وفساد أصولهم يحسِّنُ الظَّنَّ بهم، ويقول: لا شكَّ أن علومهم مشتملةٌ على حلِّه

(2)

والجواب عنه، وإنما يَعْسُرُ عليَّ إدراكُه لأني لم أحصِّل الرياضيات ولم أُحْكِم المنطقيَّات وعدةَ علومٍ قد صقَلَتها أذهانُ الأوَّلين وأحكمَتها أفكارُ المتقدِّمين!

فالفاضلُ كلُّ الفاضل من يفهمُ كلامهم، وأمَّا الاعتراضُ عليهم وإبطالُ فاسد أصولهم فعندهم من المُحال الذي لا يُصَدَّق به.

وهذا مِن خداع الشيطان وتلبيسه بغروره لهؤلاء الجُهَّال مقلِّدو

(3)

أهل الضلال، كما لبَّسَ على أئمَّتهم وسَلفِهم بأنْ أوهمَهم أنَّ كلَّ ما نالوه بأفكارهم فهو صواب، كما ظهرت إصابتُهم في الرياضيات وبعض الطبيعيات، فركَّب مِن ضلالِ هؤلاء وجهلِ أتباعهم ما اشتدَّت به البليَّة، وعَظُمَت لأجله الرزيَّة، وخربَ لأجله العالَم، وجُحِدَ ما جاءت به الرسل وكُفِرَ بالله وصفاته وأفعاله.

ولم يعلم هؤلاء أنَّ الرجلَ يكونُ إمامًا في الحساب وهو أجهلُ خلق الله

(1)

(ق): «أوقفتهم» .

(2)

في الأصول: «حكمه» . وهو تحريف. والمثبت من «تهافت الفلاسفة» للغزالي (84)، وهو مصدر المصنف.

(3)

كذا في الأصول. والجادة: مقلدي. ولعل المصنف كتب: «مقلدة» ، فأخطأ النساخ.

ص: 1414

بالطِّبِّ والهيئة والمنطق، ويكونُ رأسًا في الطبِّ ويكونُ من أجهل الخلق بالحساب والهيئة، ويكون مقدَّمًا في الهندسة وليس له علمٌ بشيءٍ من قضايا الطِّبِّ، وهذه علومٌ متقاربة، والبعدُ بينها وبين علوم الرسل التي جاءت بها عن الله أعظمُ من البعد بين بعضها وبعض.

فإذا كان الرجلُ إمامًا في هذه العلوم ولم يعلم بأيِّ شيءٍ جاءت به الرسلُ ولا تحلَّى بعلوم الإسلام فهو كالعامِّيِّ بالنسبة إلى علومهم، بل أبعدُ منه، وهل يلزمُ من معرفة الرجل هيئةَ الأفلاك والطِّبَّ والهندسةَ والحسابَ أن يكون عارفًا بالإلهيَّات وأحوال النفوس البشرية وصفاتها ومعادها وسعادتها وشقاوتها؟!

وهل هذا إلا بمنزلة من يظنُّ أنَّ الرجلَ إذا كان عالمًا بأحوال الأبنية وأوضاعها، ووزن الأنهار والقُنِيِّ

(1)

، والقنبطة

(2)

، كان عالمًا بالله وأسمائه وصفاته وما ينبغي له وما يستحيلُ عليه؟!

فعلومُ هؤلاء بمنزلة هذه العلوم التي هي نتائجُ الأفكار والتجارب، فما لها ولعلوم الأنبياء التي يتلقَّونها عن الله بوسائط الملائكة؟!

(1)

جمع قناة.

(2)

وهي صناعة شد ألواح السفن بالقنب والقار والزيت. انظر: «جواهر العقود» للأسيوطي (1/ 95). وفي الأصول: «والقنيطة» بالياء. وفي مطبوعة «الصواعق المرسلة» (447): «الفنيطة» بالفاء. وانظر: «هداية الحيارى» (276). وأصلحها ناشر (ط) إلى: «القنطرة» ، وهي ما يبنى بالآجرِّ أو الحجارة على الماء، وتطلق على قناة الماء. انظر:«قصد السبيل» (2/ 367).

ص: 1415

هذا، وأين

(1)

تعلُّق الرياضيات التي هي نظرٌ في نوعي الكمِّ المتصل والمنفصل

(2)

، والمنطقيات التي هي نظرٌ في المعقولات الثانية

(3)

ونسبة بعضها إلى بعض بالكلِّية والجزئيَّة والسَّلب والإيجاب وغير ذلك= بمعرفة ربِّ العالمين وأسمائه وصفاته وأفعاله، وأمره ونهيه، وما جاءت به رسلُه، وثوابه وعقابه؟!

ومن الخدع الإبليسيَّة قولُ الجُهَّال: إنَّ فهمَ هذه الأمور موقوفٌ على فهم هذه القضايا العقلية.

وهذا هو عينُ الجهل والحُمْق، وهو بمنزلة قول القائل: لا يَعرفُ حدوثَ الرُّمانة من لم يعرف عددَ حبَّاتها وكيفيةَ تركيبها وطبعَها! ولا يعرفُ حدوثَ العَيْن من لم يعرف عدد طبقاتها وتشريحها وما فيها من التركيب! ولا يعرفُ حدوثَ هذا البيت من لم يعرف عددَ لَبِنَاته وأخشابه وطبائعها ومقاديرها! وغير ذلك من الكلام الذي يضحكُ منه كلُّ عاقل، وينادي على جهل قائله وحُمْقِه

(4)

.

(1)

في الأصول: «وإن» . تحريف.

(2)

الرياضيات نظرٌ في الكمِّ المنفصل، وهو الحساب. والهندسيَّات نظرٌ في الكمِّ المتصل، وحاصله بيان كرِّية السماوات، وعدد طبقاتها، وعدد الأكر المتحركة في الأفلاك، ومقادير حركاتها. انظر:«تهافت الفلاسفة» (84).

(3)

مهملة في (ق، د). وفي (ت): «التالي» . وهو تحريف. والمعقولات الأولى هي البديهيات، والثانية هي المكتسبة. انظر:«الإشارات والتنبيهات» لابن سينا (1/ 113، 118، 130، 190)، و «الرد على المنطقيين» (130، 179).

(4)

انظر: «تهافت الفلاسفة» (84، 85).

ص: 1416

بل العلمُ بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ودينه لا يحتاجُ إلى شيءٍ من ذلك، ولا يتوقَّفُ عليه، وآياتُ الله التي دعا عبادَه إلى النظر فيها دالَّةٌ عليه بأوَّلِ النظر

(1)

دلالةً يشتركُ فيها كلُّ سليم العقل والحاسَّة.

وأمَّا أدلةُ هؤلاء، فخيالاتٌ وهميَّة، وشُبَهٌ عَسِرَةُ المُدْرَك، بعيدةُ التحصيل، متناقضةُ الأصول، غيرُ مؤدِّيةٍ إلى معرفة الله ورسله والتصديق بها، مستلزمةٌ للكفر بالله وجَحْدِ ما جاءت به رسلُه.

وهذا لا يصدِّق به إلا من عرفَ ما عند هؤلاء، وعرفَ ما جاءت به الرسل، ووازَن بين الأمرين، فحينئذٍ يظهرُ له التفاوت، وأمَّا من قلَّدهم وأحسنَ ظنَّه بهم ولم يعرف حقيقةَ ما جاءت به الرسلُ فليس هذا عُشَّه، بل هو في أوديةٍ هائمٌ حيران، ينقادُ لكلِّ حيران.

يَغْدُو من العلم في ثوبين مِنْ طَمَعٍ

مُعَلَّمَيْن بحِرْمانٍ وخِذلانِ

(2)

والطائفةُ الثانية

(3)

: رأت مقابلةَ هؤلاء بردِّ كلِّ ما قالوه من حقٍّ وباطل وظنُّوا أنَّ مِن ضرورة تصديق الرسل ردَّ ما عَلِمَه هؤلاء بالعقل الضروريِّ، وعلموا مقدِّماته بالحِسِّ، فنازعوهم فيه، وتعرَّضوا لإبطاله بمقدِّماتٍ جدليَّةٍ لا تغني من الحقِّ شيئًا، وليتهم مع هذه الجِناية العظيمة لم يُضِيفوا ذلك إلى الرسل، بل زعموا أنَّ الرسلَ جاؤوا بما يقولونه، فساء ظنُّ أولئك الملاحدة بالرسل، وظنُّوا أنهم هم أعلمُ وأعرفُ منهم، ومن حَسُنَ ظنُّه منهم بالرسل

(1)

تقدم بيان المراد به (ص: 1242).

(2)

لم أجد البيت في مصدرٍ آخر.

(3)

وهم المتكلمون. انظر: «الرد على المنطقيين» (260، 273 - 274)، و «شفاء العليل» (574).

ص: 1417

قال: إنهم لم يَخْفَ عليهم ما نقولُه، ولكنْ خاطَبوهم بما تحتملُه عقولُهم من الخطاب الجمهوريِّ النافع للجمهور، وأمَّا الحقائقُ فكتموها عنهم.

والذي سلَّطهم على ذلك جحدُ هؤلاء لحقِّهم، ومكابرتُهم إيَّاهم على ما لا تمكنُ المكابرةُ عليه مما هو معلومٌ لهم بالضرورة؛ كمكابرتهم إيَّاهم في كون الأفلاك كُرِيَّةَ الشَّكل، والأرض كذلك، وأنَّ نورَ القمر مستفادٌ من نور الشمس، وأنَّ الكسوفَ القمريَّ عبارةٌ عن انمحاء ضوء القمر بتوسُّط الأرض بينه وبين الشمس من حيثُ إنه يقتبسُ نورَه منها، والأرضُ كرةٌ والسماءُ محيطةٌ بها من الجوانب، فإذا وقعَ القمرُ في ظلِّ الأرض انقطعَ عنه نورُ الشمس، كما قدَّمنا.

وكقولهم: إنَّ الكسوفَ الشمسيَّ معناه وقوعُ جِرْم القمر بين الناظر وبين الشمس عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقةٍ واحدة

(1)

.

وكقولهم بتأثير الأسباب المحسوسة في مسبَّباتها، وإثباتِ القُوى والطبائع والأفعال والانفعالات، مما تقوم عليه الأدلةُ العقلية

(2)

والبراهينُ اليقينية.

فيخوضُ هؤلاء معهم في إبطاله، فيُغرِيهم ذلك بكُفرهم وإلحادهم والوصيَّة لأصحابهم بالتمسُّك بما هم عليه، فإذا قال لهم هؤلاء: هذا الذي تذكرونه على خلاف الشرع، والمصيرُ إليه كفرٌ وتكذيبٌ بالرسل، لم يستريبوا في ذلك، ولم يلحقهم فيه شكٌّ، ولكنَّهم يستريبون بالشرع، وتنقُص

(1)

انظر: «تهافت الفلاسفة» (80).

(2)

(ت): «العامة» . ولم تحرر في (د، ق). والمثبت من (ط).

ص: 1418

مرتبةُ الرسل من قلوبهم.

وضررُ الدِّين وما جاءت به الرسل بهؤلاء مِن أعظم الضرر، وهو كضرره بأولئك الملاحدة، فهما ضرران عظيمان على الدِّين: ضررُ من يطعنُ فيه، وضررُ من ينصرُه بغير طريقه.

وقد قيل: إنَّ العدوَّ العاقلَ أقلُّ ضررًا من الصديق الجاهل

(1)

، فإنَّ الصَّديقَ الجاهلَ يضرُّك من حيثُ يقدِّر أنه ينفعك، والشأنُ كلُّ الشأن أن تجعلَ العاقل صديقَك، ولا تجعلَه عدوَّك، وتُغْرِيَه بمحاربة الدِّين وأهله.

فإن قلت: قد أطلتَ في شأن الكسوف وأسبابه، وجئتَ بما شفيتَ به من البيان الذي لم يشهد له الشرعُ بالصحة ولم يشهد له بالبطلان، بل جاء الشرعُ بما هو أهمُّ منه وأجلُّ فائدةً من الأمر عند الكسوفَين بما يكونُ سببًا لصلاح الأمة في معاشها ومعادها.

وأمَّا أسبابُ الكسوف وحسابُه والنظرُ في ذلك، فإنه من العلم الذي لا يضرُّ الجهلُ به

(2)

، ولا ينفعُ نفعَ العلم بما جاءت به الرسل، وإن كان لا يخلو عن منفعةٍ ولذَّة.

وهذا هو الفرقُ بين العلوم التي جاءت بها الرسل

(3)

، وبين علوم هؤلاء.

فكيف تصنعُ بالحديث الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الشمسَ والقمرَ

(1)

انظر: «روضة العقلاء» (21، 95، 121)، و «المستقصى» (2/ 346).

(2)

انظر: «القول في علم النجوم» للخطيب (168).

(3)

من قوله: «وإن كان لا يخلو» إلى هنا ساقط من (ق).

ص: 1419

آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة»

(1)

، فكيف يلائمُ هذا ما قاله هؤلاء في الكسوف؟

قيل: وأيُّ مناقضةٍ بينهما؟ وليس فيه إلا نفيُ تأثير الكسوف في الموت والحياة على أحد القولين، أو نفيُ تأثُّر النيِّرَين بموت أحدٍ أو حياته على القول الآخر، وليس فيه تعرُّضٌ لإبطال حساب الكسوف، ولا الإخبارُ بأنه من الغيب الذي لا يعلمُه إلا الله

(2)

.

وأمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم عنده بما أمر به من العِتاقة والصلاة والدُّعاء والصدقة، كأمره بالصلوات عند الفجر والغروب والزَّوال، مع تضمُّن ذلك دفعَ مُوجَب الكسوف الذي جعله الله سبحانه سببًا له.

فشرعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم للأمة عند انعقاد هذا السَّبب ما هو أنفعُ لهم وأجدى عليهم في دنياهم وأخراهم من اشتغالهم بعلم الهيئة وشأنِ الكسوف وأسبابه.

فإن قيل: فما تصنعون بالحديث الذي رواه ابنُ ماجه في «سننه» والإمام أحمد والنسائي من حديث النعمان بن بشير قال: انكسفَت الشمسُ على عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فخرجَ فَزِعًا يجرُّ ثوبه، حتى أتى المسجد، فلم يزل يصلِّي حتى انجلت، ثمَّ قال: «إنَّ ناسًا يزعمون أنَّ الشمسَ والقمرَ لا ينكسفان

إلا لموت عظيمٍ من العظماء، وليس كذلك، إنَّ الشمسَ والقمرَ لا ينكسفان

(1)

تقدم تخريجه (ص: 1352).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (35/ 175).

ص: 1420

لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا تجلَّى اللهُ لشيءٍ من خلقه خشَع له»

(1)

.

قيل: قد قال أبو حامد الغزالي: هذه الزيادة لم يصحَّ نقلُها، فيجبُ تكذيبُ قائلها

(2)

، وإنما المرويُّ ما ذكرنا ــ يعني: الحديثَ الذي ليست هذه الزيادة فيه ــ.

قال: ولو كان صحيحًا لكان تأويلُه أهونَ من مكابرة أمورٍ قطعية، فكم من ظواهرَ أُوِّلَت بالأدلَّة العقليَّة التي لا تتبيَّنُ في الوضوح إلى هذا الحدِّ، وأعظمُ ما تفرحُ

(3)

به المُلحِدةُ أن يصرِّح ناصرُ الشرع بأنَّ هذا وأمثاله

(4)

على خلاف

(1)

أخرجه أحمد (4/ 267، 269)، والنسائي (1484)، وابن ماجه (1262)، والبيهقي (3/ 332)، وابن خزيمة في «الصحيح» (1403)، و «التوحيد» (598)، وغيرهم من طريق أبي قلابة عن النعمان بن بشير.

وأعله البيهقي وابن خزيمة بالانقطاع بين أبي قلابة والنعمان؛ فإنه لم يسمع منه. وإلى ذلك ذهب ابن معين ومال أبو حاتم. انظر: «تاريخ يحيى بن معين» رواية الدوري (2/ 309)، و «المراسيل» لابن أبي حاتم (110).

ورواه البيهقي (3/ 334) من طريق الحسن عن النعمان بن بشير، دون لفظ التجلي، وقال: هذا أشبه أن يكون محفوظًا.

إلا أن الحسن لم يسمع كذلك من النعمان، كما قال ابن المديني، ومال إليه البزار. انظر:«جامع التحصيل» (163)، و «نصب الراية» (1/ 90).

وقد اختلف على أبي قلابة في هذا الحديث على أوجه، فروي تارة عنه عن النعمان، وتارة عن رجل عن النعمان، وتارة عن قبيصة الهلالي، وتارة عن هلال بن عامر عن قبيصة. انظر: جزء الشيخ الألباني في صلاة الكسوف (79).

(2)

«تهافت الفلاسفة» : «ناقلها» .

(3)

(ق، د): «فانفرج» . وهو تحريف.

(4)

يعني القضايا المعلومة لهم بالضرورة، كسبب الكسوف، ونحوه مما سبق.

ص: 1421

الشرع، فيسهلُ عليه طريق إبطال الشرع، إن كان شرطُه أمثال ذلك

(1)

.

وليس الأمرُ في هذه الزيادة كما قاله أبو حامد؛ فإنَّ إسنادها لا مطعنَ فيه

(2)

.

قال ابنُ ماجه: حدثنا محمَّد بن المثنى، وأحمد بن ثابت، وجميل

(3)

ابن الحسن، قالوا: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا خالدٌ الحذَّاء، عن أبي قِلابة، عن النعمان بن بشير

فذكره. وهؤلاء كلُّهم ثقاتٌ حفَّاظ.

ولكن لعلَّ هذه اللفظة مدرجةٌ في الحديث من كلام بعض الرواة، ولهذا لا توجدُ في سائر أحاديث الكسوف، فقد رواها عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بضعة عشر صحابيًّا: عائشة أمُّ المؤمنين

(4)

، وأسماء بنت أبي بكر

(5)

، وعليُّ بن أبي طالب

(6)

، وأبيُّ بن كعب

(7)

، وأبو هريرة، وعبد الله بن عباس

(8)

، وعبد الله بن عمر

(9)

، وجابر بن عبد الله

(10)

، وسمرة بن جندب

(11)

،

(1)

«تهافت الفلاسفة» (81).

(2)

تقدم قبل قليل بيان ما فيه من الانقطاع.

(3)

في الأصول: «حميد» . والمثبت من المصادر.

(4)

أخرجه البخاري (1044)، ومسلم (901).

(5)

أخرجه البخاري (1053)

(6)

أخرجه أحمد (1/ 143)، وابن خزيمة (1388).

(7)

أخرجه أبو داود (1182)، وأحمد (5/ 134).

(8)

أخرجه مسلم (907). وحديث أبي هريرة أخرجه النسائي (1483).

(9)

أخرجه البخاري (1043).

(10)

أخرجه مسلم (904).

(11)

أخرجه النسائي (1501)، وأحمد (5/ 16).

ص: 1422

وقبيصة الهلالي

(1)

، وعبد الرحمن بن سمرة

(2)

، رضي الله عنهم

(3)

،

فلم يذكر أحدٌ منهم في حديثه هذه اللفظةَ التي ذُكِرَت في حديث النعمان بن بشير

(4)

، فمِن هاهنا نخافُ أن تكون أُدرِجَت في الحديث إدراجًا، وليست من لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

على أنَّ هاهنا مسلكًا بديعَ المأخذ

(5)

، لطيفَ المَنْزِع، يتقبَّلُه العقلُ

(1)

أخرجه أبو داود (1185)، والنسائي (1486، 1487)، وابن خزيمة (1402). وانظر:«الإصابة» لابن حجر (5/ 411).

(2)

أخرجه مسلم (911).

(3)

وممن لم يذكرهم المصنف: عبد الله بن عمرو، أخرج حديثه أحمد (2/ 188)، وأصله في البخاري (145) مختصرًا.

والمغيرة بن شعبة، أخرج حديثه البخاري (1043) ومسلم (915).

وأبو موسى الأشعري، أخرج حديثه البخاري (1059).

وأبو مسعود، أخرج حديثه البخاري (1041)، ومسلم (911).

وأبو بكرة، أخرج حديثه البخاري (1040، 1048، 1062، 1063، 5785).

وابن مسعود، أخرج حديثه ابن خزيمة (1372).

وبلال، أخرج حديثه البزار (1371).

ومحمود بن لبيد، أخرج حديثه أحمد (5/ 428).

(4)

إلا ما وقع في حديث قبيصة الهلالي، وقد تقدمت الإشارة إلى الاختلاف فيه عند تخريج حديث النعمان. كما وردت هذه اللفظة في حديث أبي بكرة، أخرجه الدارقطني في «السنن» (2/ 64)، ولا تصح، وأصل الحديث في «صحيح البخاري» بدونها.

(5)

(ق): «بعيد المأخذ» . وهو تحريف. والمثبت من (د، ت) و «زهر الربى على المجتبى» للسيوطي (3/ 143)، وقد نقل كلام المصنف.

ص: 1423

المستقيم

(1)

والفطرةُ السليمة، وهو أنَّ كسوفَ الشمس والقمر يوجِبُ لهما

(2)

من الخشوع والخضوع بانمحاء نُورهما وانقطاعه عن هذا العالَم ما يكونُ فيه [ذهابُ]

(3)

سلطانهما وبهائهما، وذلك يوجبُ لا محالةَ لهما من الخشوع والخضوع لربِّ العالمين وعظمته وجلاله ما يكونُ سببًا لتجلِّي الربِّ تبارك وتعالى لهما.

ولا يُستنكَر

(4)

أن يكون تجلِّي الله سبحانه لهما في وقتٍ معيَّن، كما يدنو من أهل الموقف عشيَّة عرفة، وكما ينزلُ كلَّ ليلةٍ إلى سماء الدنيا عند مضيِّ نصف الليل، فيُحدِثُ لهما ذلك التجلِّي خشوعًا آخرَ ليس هو الكسوف.

ولم يقل النبيُّ صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله إذا تجلَّى لهما انكسفا. ولكنَّ اللفظة: «فإذا تجلَّى اللهُ لشيءٍ من خلقه خَشَعَ له» ، ولفظُ الإمام أحمد في الحديث:«إذا بدا اللهُ لشيءٍ من خلقه خَشَعَ له»

(5)

.

(1)

(ط) و «زهر الربى» : «العقل السليم» .

(2)

في الأصول: «وجب لهما» . والمثبت من «زهر الربى» .

(3)

ليست في الأصول، واستدركتها من «زهر الربى». وجعلها الآلوسي في «روح المعاني» (13/ 112):«ضعف» .

(4)

(ت): «يستكثر» . وفي «زهر الربى» : «يستلزم» .

(5)

كذا في الأصول. وفي «زهر الربى» : «ولكن اللفظة عند أحمد والنسائي: إن الله تعالى إذا بدا لشيءٍ من خلقه خشع له. ولفظ ابن ماجه: فإذا تجلى الله تعالى لشيءٍ من خلقه خشع له» .

والذي في مطبوعتي «المسند» و «سنن ابن ماجه» : «تجلى» . وفي مطبوعة «سنن النسائي» في حديث النعمان: «بدا» ، وفي حديث قبيصة:«تجلى» .

ص: 1424

فهاهنا خشوعان:

* خشوعٌ أوجبه كسوفُهما بذهاب ضوئهما وانمحائه.

* فتجلَّى الله سبحانه لهما، فحدَث لهما عند تجلِّيه تعالى خشوعٌ آخرُ بسبب التجلِّي، كما حدَث للجبل إذ تجلَّى تبارك وتعالى له أن صار دكًّا

(1)

، وساخَ في الأرض. وهذا غايةُ الخشوع.

لكنَّ الربَّ تبارك وتعالى ثبَّتهما لتجلِّيه؛ عنايةً بخلقه، لانتظام مصالحهم بهما، ولو شاء سبحانه لثبَّت الجبلَ لتجلِّيه كما ثبَّتهما، ولكن أرى كليمَه موسى أنَّ الجبلَ العظيمَ لم يُطِق الثباتَ [لتجلِّيه]

(2)

له، فكيف تُطِيقُ أنت الثبات للرؤية التي سألتَها

(3)

؟!

فصل

* وأمَّا استدلالُه بحديث ابن مسعود عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إذا ذُكِرَ القدرُ فأمسِكوا، وإذا ذُكِرَ أصحابي فأمسِكوا، وإذا ذُكِرَ النجومُ فأمسِكوا»

(4)

؛ فهذا الحديثُ لو ثبتَ لكان حجةً عليه لا له، إذ لو كان علمُ الأحكام النجومية حقًّا لا باطلًا، لم يَنْهَ عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولا أمرَ بالإمساك عنه؛ فإنه لا ينهى عن الكلام في الحقِّ، بل هذا يدلُّ على أنَّ الخائض فيه خائضٌ فيما لا علم له به، وأنه لا

(1)

«زهر الربى» : «كما حدث للجبل إذا تجلى له تعالى خشوع أن صار دكا» .

(2)

من «زهر الربى» .

(3)

انظر: «مجموع الفتاوى» (35/ 177)، وحاشية السندي على «سنن النسائي» (3/ 144).

(4)

تقدم تخريجه (ص: 1353).

ص: 1425

ينبغي

(1)

له أن يخوض فيه ويقول على الله مالا يعلم، فأين في هذا الحديث ما يدلُّ على صحة علم أحكام النجوم؟!

* وأمَّا حديثُ النهي عن السَّفر والقمرُ في العقرب

(2)

، فصحيحٌ من كلام المنجِّمين، وأمَّا رسولُ ربِّ العالمين فمَن نسَب إليه هذا الحديثَ وأمثالَه فإنه من أبعد الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما جاء به علمًا وعملًا، بل ليس عنده من الرسول إلا اسمُه، وهل يسوغُ لمنتسبٍ إلى الإسلام أن يظُنَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا الحديثَ وأمثاله؟!

(3)

ولكن إذا بَعُدَ الإنسانُ عن نور النبوَّة، واشتدَّت غربتُه عمَّا جاء به الرسول، جوَّز عقلُه مثلَ هذا، كما يجوِّزُ عقلُ المشرك أن يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لو حَسَّنَ أحدُكم ظنَّه بحجرٍ نفعَه»

(4)

، وهذا ونحوُه من كلام عُبَّاد الأصنام الذين حسَّنوا ظنَّهم بالأحجار، فساقهم حُسْنُ ظنِّهم إلى دار البوار.

* وأمَّا الروايةُ عن عليٍّ رضي الله عنه أنه نهى عن السَّفر والقمرُ في العقرب، فمِن الكذب على عليٍّ رضي الله عنه

(5)

، والمشهورُ عنه خلافُ

(1)

(ت): «لأنه ينبغي» .

(2)

تقدم تخريجه (ص: 1353).

(3)

من قوله: «فإنه من أبعد النَّاس» إلى هنا ساقط من (ق) لانتقال النظر.

(4)

باطلٌ لا أصل له. انظر: «مجموع الفتاوى» (11/ 513، 19/ 146، 24/ 335)، و «منهاج السنَّة» (1/ 483)، و «إغاثة اللهفان» (1/ 215)، و «المنار المنيف» (106)، و «المقاصد الحسنة» (402).

(5)

انظر ما تقدم (ص: 1353 - 1354).

ص: 1426

ذلك وعكسُه

(1)

، وأنه لما أرادَ الخروجَ لحرب الخوارج اعترضه منجِّمٌ، فقال: يا أمير المؤمنين، لا تخرج، فقال: لأيِّ شيء؟ قال: إنَّ القمرَ في العقرب، فإن خرجتَ أُصِبتَ

(2)

وهُزِمَ عسكرُك، فقال عليٌّ رضي الله عنه: ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأبي بكرٍ ولا لعمرَ منجِّم

(3)

، بل أخرجُ ثقةً بالله، وتوكُّلًا على الله، وتكذيبًا لقولك

(4)

.

فما سافر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرةً أبركَ منها؛ قتَل الخوارج، وكفى المسلمين شرَّهم، ورجعَ مؤيَّدًا منصورًا، فائزًا ببشارة النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمن قتلهم حيث يقول:«شرُّ قتلى تحت أديم السَّماء، خيرُ قتيلٍ من قتلوه»

(5)

، وفي لفظٍ:«طوبى لمن قتلهم»

(6)

،

وفي

(1)

ولو صحَّ فيحمل على ما قال ابن نجيم في «البحر الرائق» (3/ 387): «هذا إن صحَّ عنه فإنما نهي عنه لئلَّا يتفق اتفاقٌ فينسب إلى كون القمر في العقرب، فيكون إيمانًا بالنجوم وتكذيبًا للأخبار المروية في النهي في هذا الباب» . فيكون من باب الأمر بالفرار من المجذوم على قول بعض أهل العلم.

(2)

(ت): «عطبت أو أصبت» .

(3)

ليست في (ت، ق، د). وفي (ص): «منجما» .

(4)

أخرجه الحارث بن أبي أسامة في «مسنده» (564 - زوائده)، وأبو الشيخ في «العظمة» (707). والقصة معروفة في كتب التواريخ، كما تقدم (ص: 1200).

(5)

أخرجه أحمد (5/ 253)، والترمذي (3000)، وابن ماجه (176) وغيرهم من حديث أبي أمامة.

وحسَّنه الترمذي، وصححه الحاكم (2/ 150) ولم يتعقبه الذهبي.

(6)

أخرجه البيهقي (8/ 188)، والطبراني في «الكبير» (8/ 121، 267، 269)، وغيرهما، ولفظه عندهم:«طوبى لمن قتلهم وقتلوه» .

وروي من حديث علي، وأنس، وأبي سعيد الخدري، وابن أبي أوفى.

ص: 1427

لفظٍ: «تقتلُهم أَولى الطائفتين بالحقِّ»

(1)

، وفي لفظٍ:«لئن أدركتُهم لأقتلنَّهم قتلَ عاد»

(2)

، وقال عليٌّ لأصحابه: «لولا أن تَبْطَروا

(3)

لحدَّثتكم بما لكم عند الله في قتلهم»

(4)

.

فكان هذا الظَّفرُ ببركة خلاف ذلك المنجِّم وتكذيبه والثِّقة بالله ربِّ النجوم والاعتماد عليه، وهذه سنَّة الله فيمن لم يلتفت إلى النجوم ولا بنى عليها حركاته وسكَناته وأسفارَه وإقامته، كما أن سُنَّتَه نكبةُ من بنى عليها وكان منقادًا لأربابها عاملًا بما يحكمون له به، وفي التجارب من هذا ما يكفي اللبيبَ المؤمن

(5)

، والله الموفِّق.

فصل

والذي أوجبَ للمنجِّمين كراهيةَ السَّفر والقمرُ في العقرب أنهم قالوا: السَّفر أمرٌ يرادُ لخيرٍ من الخيرات، فإذا كان الوصولُ إلى ذلك الأمر أسرع

(6)

كان أجود، فينبغي على هذا أن يكون القمرُ في برجٍ منقلب، والعقربُ برجٌ ثابت، والثوابتُ عندهم تدلُّ على الأمور البطيئة.

قالوا: وأيضًا، البرجُ

(7)

للمرِّيخ، والمرِّيخُ عندهم نحسٌ أكبر، والنحسُ

(1)

أخرجه مسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري.

(2)

أخرجه البخاري (3343) ومسلم (1064).

(3)

من البَطَر، وهو الطغيان في النعمة وقلَّة احتمالها. وفي (ق، ت): «تنظروا» . وهو تحريف. وأهملت في (د). والمثبت من مصادر الرواية.

(4)

أخرجه مسلم (1066)، وأبو داود (4763)، وابن ماجه (167) وغيرهم.

(5)

وقد تقدم ذكر بعضها (ص: 1223).

(6)

(ت): «إلى ذلك على هذا الأمر أسرع» .

(7)

أي: برج العقرب.

ص: 1428

يَنْحَسُ الحظوظَ على أصحابها، فينبغي أن يكون القمرُ في برج سَعْدٍ؛ لأنَّ السعدَ ينفعُ والنحسَ يضرُّ.

وأيضًا، فإنَّ هذا البرجَ هو برجُ هبوط القمر، وإذا كان الكوكبُ في هبوطه لا يلتئمُ لصاحبه ما يريدُه ويقصدُه، بل يكون وبالًا عليه؛ لأنَّ الكوكبَ الهابطَ عندهم كالمنكَّس

(1)

.

وأيضًا، فإنَّ القمرَ عندهم ربُّ تاسع العقرب، وإذا كان ربُّ التاسع منحوسًا فالسَّفر مكروه؛ لأنَّ التاسعَ منسوبٌ إلى السَّفر.

وبالجملة، فإنَّ العقربَ عندهم شرُّ البروج وللقمر

(2)

على الإطلاق.

قالوا: فلذلك ينبغي الحذرُ من السَّفر والقمرُ في العقرب.

قالوا: فمَن كره السَّفر إذ ذاك فإنما يكرهُه بعلمه وعقله، وأميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب أعقلُ أهل الأرض في زمانه

(3)

وأعلمُهم، فهو أولى بكراهته.

وليس ذلك مخصوصًا عندهم بالسَّفر وحده، بل يكرهون جميعَ الابتداآت والاختيارات والقمرُ في العقرب، ولما كان القمرُ أسرعَ الكواكب حركةً، فهو أولى أن يكون دليلًا على الأمور المنقلبة، والسَّفر أمرٌ منقلب، والعقربُ فبرجٌ ثابتٌ غير منقلب

(4)

.

(1)

الضبط من (ق).

(2)

(ت): «والقمر» . ولعل الصواب: للقمر.

(3)

(د، ق): «أعقل أهل زمانه» .

(4)

(ت، ق): «منقلب غير ثابت» . والمثبت من (ط).

ص: 1429

والتجربةُ والواقع من أكبر شاهدٍ على تكذيبهم في هذا الحكم، فكم ممَّن سافر وتزوَّج وابتدأ واختار والقمرُ في العقرب، وتمَّ له مرادُه على أكمل ما كان يؤمِّله، ولا يزالُ الناسُ يُنْشِؤون الأسفارَ والابتداآت والاختيارات في كلِّ وقتٍ والقمرُ في العقرب وغيره، ويَحْمَدُون عواقبَ أسفارهم، كما أنشأ أميرُ المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه سفرَ جهاده للخوارج والقمرُ في العقرب، وأنشأ المعتصمُ سفرَ فتح عمورية وجهاد أعداء الله والقمرُ في العقرب، وقد أجمعَ الكذَّابون أنه إن خرجَ كُسِرَ عسكرُه وقُتِلَ أو أُسِرَ، فبيَّن الله للمسلمين كذبَهم بذلك الفتح الجليل، ولو استقصينا أمثالَ هذه الوقائع لطال الأمرُ جدًّا.

ومن أراد أن يعلمَ كذبَهم قطعًا فليبتداء سفرًا أو اختيارًا أو بناءً أو غيره والقمرُ في العقرب، وليتوكَّل على الله وليسافر، فإنه يرى ما يغبطُه ويسرُّه.

ومِنْ أبين الكذب والبَهْت الكذبُ على الحسِّ والواقع

(1)

، وهذا الذي كرهوه وحذَّروا منه لو كان الواقع شاهدًا به لكان الناسُ لا يختارون ولا يسافرون ولا يبتدئون شيئًا البتة والقمرُ في العقرب، وكان علمُهم بهذا وتجربتُهم له معلومًا بالضرورة، فكيف والأمرُ بالعكس؟!

وأيضًا، فيقال لهم: قد يكونُ القمرُ في العقرب ويجامعُه السُّعود، وهما المشتري والزُّهَرة مثلًا، ويكون ربُّ بيت السَّفر وبيتُ الطالع وبيتُ السَّفر أيضًا سُعودات.

فهلَّا قلتم: إنَّ السَّفر حينئذٍ يكونُ صالحًا؛ لاجتماع هذه السُّعودات في

(1)

(ت): «والوقائع» .

ص: 1430

البرج المنقلب، واجتماعُها يُكسِبُها قوَّةً؟!

بل قال فضلاؤكم: لا يكونُ

(1)

القمرُ في العقرب مسعودًا وإن جامعَ السُّعود.

بل قالوا: إنَّ السُّعودَ أيضًا تنتحسُ فيه، فإذا حلَّ السُّعودُ العقربَ انتحست فيه. ولذلك قلتم: إنَّ الشمسَ إذا حلَّت فيه انتحَسَت أيضًا وضَعُفَت جدًّا

(2)

، وإن كان معه السَّعدان، أعني المشتري والزُّهَرة.

فلو قُلِبَ عليكم هذا الاستدلال، وقيل: إذا حلَّت السُّعودُ في هذا البرج قَوِيَ فعلُها وتضافر بعضُها مع بعض، فقويَ السَّعدُ باجتماعها، ولم يَقْوَ البرجُ على إنحاسها، وقوةُ زُحَل والمرِّيخ النَّحسَيْن على هذا البرج

(3)

لا تستلزمُ إنحاسَ هذه السُّعود، بل لو قال القائل: إنَّ سعادتَها تؤثِّرُ في نحسِها= كان مِن جنس قولكم.

ومِن هنا قال أبو نصر الفارابيِّ: واعلم أنك لو قلبتَ أوضاعَ المنجِّمين فجعلتَ السَّعدَ نحسًا، والنحسَ سعدًا، والحارَّ باردًا، وعكسَه، ثم حكمتَ، لكانت أحكامُك من جنس أحكامهم، تصيبُ وتخطاء

(4)

.

فصل

* وأمَّا ما احتجَّ به من الأثر عن عليٍّ رضي الله عنه أنَّ رجلًا أتاه، فقال:

ص: 1431

إني أريدُ السَّفر، وكان ذلك في مَحَاق الشَّهر، فقال: أتريدُ أن يمحَق اللهُ تجارتَك؟! استقبِل هلالَ الشَّهر بالخروج

(1)

= فهذا لا يُعْلَمُ ثبوتُه عن علي، والكذَّابون كثيرًا ما يُنَفِّقُون سِلَعَهم الباطلة بنسبتها إلى عليٍّ وأهل بيته، كأصحاب القُرْعَة والجَفْرِ والبطاقة والهَفْتِ والكيمياء والمَلاحِم وغيرها

(2)

، فلا يدري ما كُذِبَ على أهل البيت إلا الله سبحانه.

ثمَّ لو صحَّ هذا عن عليٍّ رضي الله عنه لم يكن فيه تعريضٌ لثبوت أحكام النجوم بوجه.

ولا ريب أنَّ استقبالَ الأسفار والأفعال في أوائل النهار والشَّهر والعام لها مَزِيَّة، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قد قال:«اللهمَّ بارك لأمَّتي في بُكورها»

(3)

، وكان صخر

(1)

تقدم (ص: 1432).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (2/ 217، 4/ 78، 79، 11/ 55، 582، 35/ 183)، و «منهاج السنة» (2/ 464، 4/ 54، 7/ 534، 8/ 10، 11، 136)، و «بغية المرتاد» (321، 328)، و «أبجد العلوم» (2/ 214، 215، 433).

(3)

أخرجه الترمذي (1212)، وأبو داود (2606)، وابن ماجه (2236)، وغيرهم من حديث يعلى بن عطاء عن عمارة بن حديد عن صخر الغامدي.

حسَّنه الترمذي، وعبد الحق في «الأحكام الوسطى» (3/ 28)، وصححه ابن حبان (4754)، وجوَّده العقيلي في «الضعفاء» (1/ 236، 124، 2/ 20، 322، 3/ 192، 244، 319، 4/ 10، 177).

وأعله أبو حاتم في «العلل» (2/ 268)، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 326)، وابن عبد البر في «الاستيعاب» (716)، والذهبي في «الميزان» (3/ 175)، وابن القطان في «بيان الوهم والإيهام» (3/ 486) بأنَّ صخرًا لا يُعْرَفُ إلا في هذا الحديث الواحد، ولا قيل إنه صحابيٌّ إلا به، ولا نقَل ذلك إلا عمارة، وعمارة مجهول.

وروي من أوجه كثيرة غير هذا، لا يثبت منها شيء. وقال أبو حاتم: لا أعلم فيه حديثًا صحيحًا. وقد اعتنى به ابن عدي، فأورده في «الكامل (1/ 269، 363، 364، 2/ 220، 329، 3/ 64، 324، 4/ 92، 255، 305، 5/ 5، 60، 61، 75، 189، 6/ 165، 188، 284، 7/ 29، 106، 137، 145، 241، 280) من طرقٍ كثيرةٍ مبينًا عللها، وكذا ابن الجوزي في «العلل المتناهية» . وصنَّف فيه المنذري جزءًا مال فيه إلى ثبوته من بعض طرقه.

ص: 1432

الغامديُّ راوي الحديث إذا بعَث تجارةً له بعَثها في أول النهار، فأثرى وكثُر مالُه.

ونسبةُ أول النهار إليه كنسبة أول الشَّهر إليه وأول العام إليه، فللأوائل مزيَّةُ القُوَّة، وأولُ النهار والشَّهر

(1)

والعام

(2)

بمنزلة شبابه، وآخرُه بمنزلة شيخوخته، وهذا أمرٌ معلومٌ بالتجربة، وحكمةُ الله تقتضيه

(3)

.

* وأمَّا ما ذكره عن اليهوديِّ الذي أخبرَ ابنَ عباسٍ بما أخبره مِن موت ابنه، إلى تمام ذكر القصة؛ فهذه الحكايةُ إن صحَّت فهي من جنس إخبار الكهَّان بشيءٍ من المغيَّبات، وقد أخبرَ ابنُ صيَّادٍ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بما خَبَّأ له في ضميره، فقال له:«إنما أنت من إخوان الكهَّان»

(4)

.

(1)

(ق): «والشمس» . وهو تحريف.

(2)

«والعام» من (ص).

(3)

بوَّب البخاري في «الصحيح» : «باب الخروج آخر الشهر» . قال الحافظ في «الفتح» (6/ 114): «أي ردًّا على من كره ذلك من طريق الطِّيرة، وقد نقل ابن بطال أن أهل الجاهلية كانوا يتحرَّون أوائل الشهور للأعمال، ويكرهون التصرُّف في محاق القمر» .

(4)

خبر ابن صياد مخرَّج في الصحيحين وغيرهما، قال له النَّبي صلى الله عليه وسلم:«اخسأ فلن تعدو قدرَك» ، وليس فيه العبارة التي ذكرها المصنف، وأوردها ابن تيمية في «الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان» (162) تفسيرًا، فقال:«يعني: إنما أنت من إخوان الكهَّان» ، وهو أشبه، إذ لم أجدها في شيءٍ من كتب الحديث، وإنما وردت في حديث دية الجنين. وقد نُسِبَت إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما وقع هنا في «النبوات» (1045)، و «مدارج السالكين» (3/ 227).

ص: 1433

وعلمُ تَقْدِمة المعرفة لا يختصُّ بما ذكره المنجِّمون، بل له عدَّة أسبابٍ تصيبُ وتخطاء، ويَصْدُقُ الحكمُ معها ويكذِب؛ منها: الكِهَانة، ومنها: المنامات، ومنها: الفألُ والزَّجر، ومنها: السَّانحُ والبارحُ

(1)

، ومنها: الكَتِف

(2)

، ومنها: ضربُ الحصى، ومنها: الخطُّ في الأرض، ومنها: الكُشوفُ المستندة إلى الرِّياضة، ومنها: الفِرَاسة، ومنها: الحِزَاية

(3)

، ومنها: علمُ الحروف وخواصِّها، إلى غير ذلك [من الأمور] التي يُنالُ بها جزءٌ يسيرٌ من علم الكُهَّان.

(1)

سيأتي تفسيره في كلام المصنف (ص: 1469).

(2)

(ت، ص): «الكيف» . وهي مهملة في (ق، د). وفي (ط): «الكف» ، وهي محتملة. والمثبت من «روح المعاني» (13/ 113)، وهو أقربُ إلى رسم الكلمة في الأصول. وهو علمٌ باحثٌ عن الخطوط والأشكال التي ترى في أكتاف الضأن والمعز إذا قوبلت بشعاع الشمس، من حيث دلالتها على أحوال العالم، من الحروب وأحوال الخصب والجدب. انظر:«أبجد العلوم» (2/ 91).

(3)

مهملة في (ق، د، ص) إلا الياء فمعجمة. (ت): «الحرانه» . حزا يحزو ويحزي حزوًا وحزيًا، وتحزَّى: تكهَّن، وتخرَّص، وزجَر الطير. «اللسان» (حزا). فهي كالعيافة والكهانة وزنًا ومعنى، ولم تذكرها المعاجم.

ويحتمل أن تكون: «الحِزارة» ، من الحزر، وهو التقدير والخرص والتخمين. وتأتي بمعنى القيافة. انظر:«المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» (12/ 350). والأول أشبه وأقربُ إلى رسم الكلمة في الأصول.

ص: 1434

وهذا نظيرُ الأسباب التي يستدلُّ بها الطبيبُ والفلَّاح والطبائعيُّ على أمورٍ غيبيَّةٍ بما تقتضيه تلك الأدلة.

مثالُه: الطبيبُ إذا رأى الجرحَ مستديرًا حكمَ بأنه عَسِرُ البرء، وإذا رآه مستطيلًا حكمَ بأنه أسرعُ برءًا.

وكذلك علاماتُ البَحَارِين

(1)

، وغيرها.

ومن تأمَّل ما ذكره بقراطُ في علائم الموت رأى العجائب

(2)

، وهي علاماتٌ صحيحةٌ مجرَّبة.

وكذلك ما يحكُم

(3)

به الرُّبَّانُ في أمورٍ تحدثُ في البحر والرِّيح بعلاماتٍ تدلُّ على ذلك، من طُلوع كوكبٍ أو غروبه أو علاماتٍ أخرى، فيقول: يقعُ مطرٌ، أو يحدثُ ريحُ كذا وكذا، أو يضطربُ البحرُ في مكان كذا ووقت كذا، فيقعُ ما يحكمُ به.

وكذلك الفلَّاحُ يرى علاماتٍ فيقول: هذه الشجرةُ يصيبها كذا، وتيبسُ في وقت كذا، وهذه الشجرةُ لا تحمِلُ العام، وهذه تحمِل، وهذا النباتُ يصيبه كذا وكذا؛ لِمَا يرى من علاماتٍ يختصُّ هو بمعرفتها.

(1)

جمع «بُحْران» ، وهو التغيُّر الذي يحدث للعليل فجأة. وسبق تفسيره. ويجمع أيضًا على «بُحرانات». انظر:«الفهرست» (361)، و «زاد المعاد» (4/ 100)، و «تحفة المودود» (210).

(2)

ذكر في «معجم المطبوعات العربية» (23، 801) أنَّ رسالة «دلائل قرب الموت» لبقراط طبعت في لكناو سنة 1284. وأورد ابن سينا والرازي في «القانون» و «الحاوي» جملةً كثيرة من تلك الدلائل.

(3)

في الأصول: «علم» . وهو تحريف.

ص: 1435

بل هذا أمرٌ لا يختصُّ بالإنسان، بل كثيرٌ من الحيوان يعرفُ أوقاتَ المطر والصَّحو والبرد وغيره، كما ذكره الناسُ في كتب الحيوان.

والفرسُ الرديءُ الخُلُق إذا رأى اللِّجام من بعيدٍ نَفَرَ وجزعَ وعضَّ من يريدُ أن يُلْجِمَه، علمًا منه بما يكونُ بعد اللِّجام.

وهذه النملةُ إذا خزَنت الحَبَّ في بيوتها كَسَرَتْه نصفَين، علمًا منها بأنه ينبتُ إذا كان صِحاحًا، وأنه إذا تكسَّر لا ينبت، فإذا خزَنت الكُسْفُرة

(1)

كسرَتها بأربعة أرباع، علمًا منها بأنها تنبتُ إذا كُسِرَت بنصفين.

وهذا السِّنَّور يدفنُ أذاهُ ويغطِّيه بالتراب، علمًا منه بأنَّ الفأرَ يهربُ من رائحته، فيفوتُه الصَّيد، ويشمُّه أوَّلًا فإن وجَد رائحتَه شديدةً غطَّاه بحيث يواري الرَّائحةَ والجِرْم، وإلا اكتفى بأيسر التغطية.

وهذا الأسدُ إذا مشى في لِينٍ

(2)

سَحَبَ ذنبَه على آثارِ رجليه ليغطِّيها، علمًا منه بأنَّ المارَّ يرى مواطاءَ رجليه ويديه.

وإذا ألِفَ السِّنَّورُ المنزلَ منَع غيرَه من السَّنانير الدخولَ إلى ذلك المنزل، وحاربهم أشدَّ محاربة، وهم مِن جنسه؛ علمًا منه بأنَّ أربابَه ربما استحسنوه وقدَّموه عليه، أو شاركوا بينه وبينه في المطعم، وإن أخَذ شيئًا مما يخزُنه أصحابُ المنزل عنه هرَب، علمًا منه بما يكونُ إليه منهم من الضَّرب، فإذا ضربوه تملَّقهم أشدَّ التملُّق، وتمسَّح بهم، ولَطَعَ أقدامهم

(3)

، علمًا منه

(1)

هي الكزبرة. قال البعلي في «المطلع» (129): «لم أرها تقال بالفاء، مع شدَّة بحثي عنها، وكشفي من كتب اللغة، وسؤالي كثيرًا من مشايخي» .

(2)

أي: أرضٍ لينة.

(3)

أي: لحَسَها.

ص: 1436

بما يحصِّلُه له المَلَقُ

(1)

من العفو والإحسان.

وهذا في الحيوان البهيم أكثرُ من أن نذكره، فله من تَقْدِمة المعرفة ما يليقُ به، وللخيل والحمَام من ذلك عجائب، وكذلك الثَّعلب وغيره.

فعُلِمَ أنَّ هذا أمرٌ عامٌّ للإنسان والحيوان، أُعطِيَ من تَقْدِمة المعرفة بحسبه، وأسبابُ هذه التَّقْدِمة تختلف.

والأممُ الذين لم يتقيَّدوا بالشرائع لهم اعتبارٌ عظيمٌ بهذا، وكذلك من قلَّ التفاتُه واعتناؤه بما جاءت به الرسل فإنه يشتدُّ التفاتُه ويكثرُ نظرُه واعتناؤه بذلك.

وأمَّا أتباعُ الرسل، فقد أغناهم الله بما جاءت به الرسلُ من العلوم النَّافعة والأعمال الصالحة عن هذا كلِّه، فلا يعتنون به ولا يجعلونه من مطالبهم المهمَّة؛ لأنَّ ما يطلبونه أعلى وأجلُّ من هذا، ومع هذا فلهم منه أوفرُ نصيبٍ بحسب متابعتهم الرسل، من الفراسة الصادقة، والمنامات الصحيحة، والكُشوفات المطابِقة، وغيرها، وهِمَمُهم لا تقفُ عند شيءٍ من ذلك، بل هي طامحةٌ نحو كشف ما جاء به الرسولُ من الهدى ودين الحقِّ في كلِّ مسألة، وهذا أعظمُ الكُشوفِ وأجلُّه وأنفعُه في الدَّارين، مع كشف عيوب النفس وآفات الأعمال.

وأمَّا الكشفُ الجزئيُّ

(2)

عمَّا أكلَ فلانٌ، وعمَّا أحدثه في داره، وعمَّا يجري له في غدِه، ونحو ذلك؛ فهذا مما لا يعبأ به من علَت هِمَّتُه، ولا

(1)

(ت، ص): «بما يحصل له من الملق» .

(2)

(د): «الجزوي» . بتسهيل الهمز.

ص: 1437

يتلفتُ إليه ولا يَعُدُّه شيئًا، على أنه مشتركٌ

(1)

بين المؤمن والكافر، فلِعُبَّاد الأصنام والمجوس والصابئة والفلاسفة والنصارى من ذلك شيءٌ كثير، وذلك لا ينفعُهم عند الله ولا يخلِّصُهم من عذابه.

وهؤلاء الكُهَّانُ وعبيدُ الجنِّ والسَّحرةُ لهم من ذلك أمورٌ معروفة، وهم أكفرُ الخلق

(2)

، فغايةُ هذا المنجِّم اليهوديِّ الذي أخبَر ابنَ عباسٍ بما أخبره أن يكونَ واحدًا من هؤلاء، فكان ماذا؟!

وهل يقفُ عند هذا إلا الهِمَمُ الدنيئة السُّفلية التي لا نهضةَ لها إلى الله والدار الآخرة، لِمَا يُرى

(3)

لها بذلك من التمييز عن الهَمَج الرَّعاع من بني آدم؟!

فصل

* وأمَّا احتجاجُه بحديث أبي الدرداء: «لقد توفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وتركنا وما طائرٌ يقلِّبُ جناحيه إلا وقد ذكَّرنا منه علمًا»

(4)

؛ فهذا حقٌّ وصدق، وهو من أعظم الأدلَّة على إبطال قولكم وتكذيبكم فيما تدَّعونه من علم أحكام النجوم، فإنه صلى الله عليه وسلم ذكَّرهم علمَ كلِّ شيءٍ حتى الخِراءة، وذكَّرهم من علم كلِّ طائرٍ

(5)

وكلِّ حيوان، وكلِّ ما في هذا العالم، ولم يذكِّرهم من علم أحكام النجوم شيئًا البتَّة،

(1)

(ت، ق، ص): «يشترك» .

(2)

(ص): «من أكفر الخلق» .

(3)

الضبط من (ص). وفي (ت، ق): «يري» .

(4)

تقدم تخريجه (ص: 1355).

(5)

(ت، ص): «وذكرهم من كلِّ طائر» .

ص: 1438

وهو صلى الله عليه وسلم أجلُّ من هذا وأعظم، وقد صانه الله سبحانه عن ذلك.

وإنما الذي ذكَّركم بهذه الأحكام المشركون عُبَّادُ الأصنام والكواكب، مثلُ بَطْليموس، وتنكلوسا

(1)

، وطمطم

(2)

صاحب الدَّرَج، وهؤلاء مشركون عبَّادُ أصنام، وكذلك أتباعهم.

أفلا يستحي رجلٌ أن يذكرَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في هذا المقام؟!

نعم؛ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذكَّر أمَّتَه مِن تكذيبكم، وكفركم، ومعاداتكم، والبراءة منكم، والإخبار بأنكم وما تعبُدون من دون الله حصبُ جهنَّم أنتم لها واردون= ما يعرفُه من عرَف ما جاء به من أمَّته، والبَهْت

(3)

والفرية والكذب على الله ورسوله.

هل كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أو أحدٌ من أهل بيته مثبتًا لأحكام النجوم، عاملًا بها في حركاته وسكناته وأسفاره، كما هو المعروفُ من المشركين وأتباعهم؟! سبحانك هذا بهتانٌ عظيم.

* وأمَّا قولُه: إنه جاء في الآثار أنَّ أوَّل من أعطي هذا العلمَ آدم؛ لأنه

(1)

البابلي. له كتاب: «الوجوه والحدود» ، و «درجات الفلك». انظر:«الفهرست» (2/ 220 ــ نشرة أيمن فؤاد)، و «أخبار الحكماء» (143)، و «الرد على المنطقيين» (286)، و «علم الفلك» لنلِّينو (198، 209). وتحرف في (ت): «بيكلوسا» . (ص): «بيكلوشا» . (ط): «بنكلوسا» . وأهمل في (د، ق).

(2)

منجمٌ هندي، له كتاب في صور الدَّرج والكواكب. فيه شركٌ وسحر. انظر:«الرد على المنطقيين» (287)، و «مقدمة ابن خلدون» (554)، و «أبجد العلوم» (2/ 319)، و «كشف الظنون» (1/ 404، 650، 2/ 1435).

(3)

(ت، د): «وبالبهت» .

ص: 1439

عاش حتى أدرك من ذرِّيته أربعين ألف أهل بيت، وتفرَّقوا عنه في الأرض، فكان يغتمُّ لخفاء خبرهم عليه، فأكرمه الله تعالى بهذا العلم، فكان إذا أراد أن يعرفَ حال أحدهم حسَبَ له بهذا الحساب فيقفُ على حالته= فليس هذا بِبِدْعٍ من بَهْتِ المنجِّمين والملاحدة وإفكهم وافترائهم على آدم، وقد عملوا بالمثل السَّائر هنا: إذا كَذَبْتَ فأَبعِدْ شاهدَك

(1)

.

فصل

* وأمَّا ما نسَبه إلى الشافعيِّ من حكمه بالنجوم

(2)

على عمر ذلك المولود؛ فلقد نسَب الشافعيَّ إلى هذا العلم وحكمه فيه بأحكامٍ ليعجَزُ عن مثلها أئمَّةُ المنجِّمين.

وأظنُّ الذي غرَّه في ذلك أبو عبد الله الحاكم، فإنه صنَّف في «مناقب الشافعي» كتابًا كبيرًا

(3)

، وذكر علومَه في أبواب، وقال: البابُ الرابع والعشرون في معرفته تسييرَ الكواكب من علم النجوم. وذكر فيه حكاياتٍ عن الشافعي تدلُّ على تصحيحه لأحكام النجوم.

وكان هذا الكتابُ وقعَ للرازي، فتصرَّفَ فيه وزاد ونقص، وصنَّف «مناقب الشافعي» من هذا الكتاب، على أنَّ في كتاب الحاكم من الفوائد والآثار ما لم يُلِمَّ به الرازي.

والذي غرَّ الحاكمَ من هذه الحكايات تساهلُه في إسنادها، ونحن نبيِّنها

(1)

انظر: «النوادر» لأبي مسحل (489)، و «الأمثال المولدة» للخوارزمي (313).

(2)

في الأصول: «على النجوم» . والمثبت من (ط).

(3)

وصفه السبكي في «الطبقات» (1/ 334) بأنه مصنفٌ جامع. وروى البيهقي من طريقه كثيرًا في كتابه «مناقب الشافعي» ، والنقل عنه مستفيض، ولم يُعْثَر عليه بعد.

ص: 1440

ونبيِّنُ حالَها، ليتبيَّن أنَّ نسبةَ ذلك إلى الشافعيِّ كذبٌ عليه، وأنَّ الصحيحَ عنه من ذلك ما كانت العربُ تعرفُه من علم المنازل والاهتداء بالنجوم في الطُّرقات، وهذا هو الثابتُ الصَّحيحُ عنه بأصحِّ إسنادٍ إليه.

قال الحاكم: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب: حدثنا الربيع بن سليمان، قال: قال الشافعي: «قال الله عز وجل: {هُوَ

(1)

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97]، وقال:{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16]، وكانت العلاماتُ جبالًا يعرفونَ مواضعها من الأرض، وشمسًا وقمرًا ونجمًا مما يعرفون من الفلَك، ورياحًا يعرفونَ صفاتها

(2)

في الهواء تدلُّ على قصدِ البيت الحرام»

(3)

.

وأمَّا الحكاياتُ التي ذُكِرَتْ عنه في أحكام النجوم، فثلاثُ حكايات:

إحداها: قال الحاكم: قُرِاء على أبي يعلى حمزة بن محمد العلوي

(1)

كذا في الأصول، بدون الواو. والتلاوة:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ} . والاكتفاء بموضع الشاهد في مقام الاستدلال والاستشهاد لا التلاوة، وتركُ حرف العطف ونحوه، جادةٌ سلكها جماعةٌ من أهل العلم، منهم الشافعي والبخاري، ووقع مثله في بعض الأحاديث. انظر:«الرسالة» (643، 974، 975)، و «شرح مسلم» للنووي (3/ 9)، و «فتح الباري» (2/ 458، 5/ 68، 7/ 168، 8/ 242، 272، 10/ 479، 11/ 98)، و «عمدة القاري» (12/ 246)، و «شرح المسند» لأحمد شاكر (4/ 131)، و «الحيوان» (3/ 15، 4/ 57، 276)، و «شرح الحماسة» للمرزوقي (1/ 17)، و «تحقيق النصوص» لعبد السلام هارون (51، 52).

(2)

«إبطال الاستحسان» : «مهابَّها» . وهي أجود.

(3)

«إبطال الاستحسان» (9/ 71 - الأم). وأخرج البيهقي في «مناقب الشافعي» (2/ 125) من طريق شيخه الحاكم نحوه، وهو في «الرسالة» (66، 67).

ص: 1441

ــ وأكثرُ ظنِّي أني حضرتُه ــ: حدَّثنا أبو إسحاق إبراهيمُ بن محمد بن العباس الأزدي ــ في آخرين ــ، قالوا: حدثنا محمد بن أبي يعقوب الجوَّال الدِّينوري: حدثنا عبد الله بن محمد البلَوي: حدَّثني خالي عمارةُ بن زيد، قال: كنتُ صديقًا لمحمد بن الحسن، فدخلتُ معه يومًا على هارون الرشيد، فساءله

(1)

، ثمَّ إني سمعتُ محمد بن الحسن، وهو يقول: إنَّ محمد بن إدريس يزعمُ أنه للخلافة أهلٌ.

قال: فاستشاطَ هارونُ من قوله غضبًا، ثمَّ قال: عَليَّ به. فلمَّا مثَل بين يديه أطرقَ ساعةً، ثمَّ رفعَ رأسَه إليه. فقال: إيهًا! قال الشافعي: ما إيهًا يا أمير المؤمنين؟ أنت الداعي وأنا المدعُوُّ، وأنت السَّائلُ وأنا المجيب.

فذكر حكايةً طويلةً سأله فيها عن العلوم ومعرفته بها، إلى أن قال: كيف علمُك بالنجوم؟ قال: أعرفُ الفلَكَ الدَّائر، والنجمَ السَّائر، والقطبَ الثابت، والمائيَّ، والناريَّ، وما كانت العربُ تسمِّيه الأنواء، ومنازلَ النيِّرَين: الشمس والقمر، والاستقامةَ والرجوع، والنُّحوسَ والسُّعود، وهيآتها وطبائعها، وما أستدلُّ به في برِّي وبحري، وأستدلُّ به في أوقات

(2)

صلاتي، وأعرفُ ما مضى من الأوقات في كلِّ مَمْسَى ومَصْبَح، وظعني في أسفاري.

قال: فكيف علمك بالطِّب؟ قال: أعرفُ ما قالت الرومُ، مثل: أرسطاطاليس، ومهراريس

(3)

، وفرفوريُس

(4)

، وجالينوس، وبقراط،

(1)

«مناقب الشافعي» للبيهقي (1/ 131): «فسأله» .

(2)

«مناقب الشافعي» (1/ 133): «على أوقات» .

(3)

انظر: «أخبار الحكماء» (23). وفي «مناقب الشافعي» : «منهواريس» .

(4)

انظر: «الفهرست» (309، 311، 312، 313، 315)، و «أخبار الحكماء» (347). وفي «مناقب الشافعي»:«وقرقويس» .

ص: 1442

وإنبدُقليس

(1)

، بلُغاتها، وما نُقِلَ

(2)

عن أطبَّاء العرب

(3)

، وفتَّقَته

(4)

فلاسفةُ الهند، ونمَّقَته علماءُ الفرس، مثلُ: حاماسف

(5)

، وشاهمرد، وبهمرد

(6)

، وبُزُرْجُمِهْر.

ثمَّ ساق العلومَ على هذا النحو، في حكايةٍ طويلةٍ يعلمُ من له علمٌ بالمنقولات أنها كذبٌ مختلق، وإفكٌ مفترى على الشافعي، والبلاءُ فيها من عند عبد الله بن محمد

(7)

البلويِّ هذا، فإنه كذَّابٌ وضَّاع

(8)

، وهو الذي وضع رحلةَ الشافعي، وذكَر فيها مناظرته لأبي يوسف بحضرة الرشيد

(9)

، ولم ير الشافعيُّ أبا يوسف ولا اجتمع به قطُّ، وإنما دخَل بغدادَ بعد موته.

ثمَّ إنَّ في سياق الحكاية ما يدلُّ من له عقلٌ على أنها كذبٌ مفترى؛ فإنَّ

(1)

في الأصول: «واسدفليس» . وفي «مناقب الشافعي» : «وأنبدقيليس» . وانظر ما تقدم (ص:1257).

(2)

في الأصول: «نقلت» . والمثبت من (ط).

(3)

«مناقب الشافعي» : «وما نقلت أطباء العرب» .

(4)

غير محررة في الأصول، وأثبتها عن «مناقب الشافعي» .

(5)

«مناقب الشافعي» : «خاماشف» .

(6)

«مناقب الشافعي» : «وشاهم دويهم» .

(7)

في الأصول: «محمد بن عبد الله» . ومضى على الصواب.

(8)

انظر: «الميزان» (2/ 491)، و «الكشف الحثيث» (403).

(9)

أخرجها البيهقي في «مناقب الشافعي» (1/ 130)، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 58). وهي مكذوبةٌ مختلقة. انظر:«مجموع الفتاوى» (20/ 331)، و «الميزان» (1/ 315)، و «السير» (10/ 50)، و «البداية والنهاية» (13/ 620)، و «اللسان» (3/ 338)، و «توالي التأنيس» (131)، و «المقاصد الحسنة» (560).

ص: 1443

الشافعيَّ لم يعرف لغةَ هؤلاء اليونان البتَّة حتى يقول: إني أعرفُ ما قالوه بلغاتهم.

وأيضًا، فإنَّ في هذه الحكاية أنَّ محمد بن الحسن وشَى بالشافعيِّ إلى الرشيد وأراد قتلَه، وتعظيمُ محمدٍ للشافعيِّ ومحبتُه له وتعظيمُ الشافعيِّ له وثناؤه عليه هو المعروف، وهو يدفعُ هذا الكذب.

وأيضًا، فإنَّ الشافعيَّ رحمه الله لم يكن يعرف علمَ الطبِّ اليوناني، بل كان عنده من طبِّ العرب طَرفٌ حُفِظَ عنه في منثور كلامه بعضُه؛ كنهيه عن أكل الباذنجان بالليل، وأكل البيض المصلوق

(1)

بالليل، وكان يقول: عجبًا لمن يتعشى ببيضٍ وينام، كيف يعيش؟!

(2)

.

وكان يقول: عجبًا لمن يخرجُ من الحمَّام ولا يأكل، كيف يعيش؟! وعجبًا لمن يحتجم ثمَّ يأكل، كيف يعيش؟! يعني عقب الحجامة

(3)

.

وكان يقول: احذر أن تشربَ لهؤلاء الأطباء دواءً لا تعرفُه

(4)

.

(1)

كذا في الأصول. وقال الخليل في «العين» (1/ 129): «كلُّ صادٍ قبل القاف إن شئتَ جعلتها سينًا، لا تبالي متصلةً كانت بالقاف أو منفصلة، بعد أن تكونا في كلمة واحدة، إلا أنَّ الصاد في بعض الأحيان أحسن، والسِّين في مواطن أخرى أجود» . وانظر: «الكتاب» (4/ 117)، و «الأصول» لابن السراج (3/ 431)، و «شرح الشافية» (3/ 230)، و «القلب والإبدال» لابن السكيت (42)، و «رسالة الملائكة» لأبي العلاء (22)، و «شرح أدب الكاتب» للجواليقي (177)، و «الفرق بين الحروف الخمسة» للبطليوسي (706، 709).

(2)

«مناقب الشافعي» (2/ 118).

(3)

«مناقب الشافعي» (2/ 119).

(4)

«آداب الشافعي ومناقبه» لابن أبي حاتم (323).

ص: 1444

وكان يقول: لا تسكُن ببلدةٍ ليس فيها عالمٌ ينبئك عن دينك، ولا طبيبٌ ينبئك عن أمر بدنك

(1)

.

وكان يقول: لم أر شيئًا أنفع للوباء من البَنَفْسَج يُدَّهَنُ به ويُشْرَب

(2)

.

إلى أمثال هذه الكلمات التي حُفِظَت عنه، فأمَّا أنه كان يعلمُ طبَّ اليونان والروم والهند والفُرس بلغاتها؛ فهذا بَهْتٌ وكذبٌ عليه قد أعاذه اللهُ من دعواه.

وبالجملة، فمن له علمٌ بالمنقولات لا يستريبُ في كذب هذه الحكاية عليه، ولولا طولها لسُقناها ليتبيَّن أثرُ الصَّنعة والوضع عليها.

أمَّا الحكايةُ الثانية، فقال الحاكم: أخبرنا أبو الوليد الفقيه، قال: وحُدِّثتُ عن الحسن بن سفيان، عن حرملة، قال: كان الشافعيُّ يُدِيمُ النظرَ في كتب النجوم، وكان له صديقٌ وعنده جاريةٌ قد حَبِلت، فقال: إنها تلدُ إلى سبعةٍ وعشرين يومًا، ويكونُ في فخذ الولد الأيسر خالٌ أسود ويعيشُ أربعةً وعشرين يومًا، ثمَّ يموت، فجاءت به على النَّعت الذي وَصَف، وانقضت مدَّتُه فمات، فأحرَق الشافعيُّ بعد ذلك تلك الكتب، وما عاودَ النظرَ في شيءٍ منها

(3)

.

وهذا الإسنادُ رجاله ثقات، لكنَّ الشأنَ فيمن حدَّثَ أبا الوليد بهذه الحكاية عن الحسن بن سفيان، أو فيمن حدَّثَ بها الحسن عن حرملة.

(1)

«آداب الشافعي ومناقبه» (322).

(2)

«آداب الشافعي ومناقبه» (324).

(3)

أخرجها البيهقي في «مناقب الشافعي» (2/ 126) من طريق الحاكم.

ص: 1445

وهذه الحكايةُ لو صحَّت لوجبَ أن تُثنى الخناصرُ على هذا العلم، وتُشَدَّ به الأيدي، لا أن تُحْرَق كتبُه، وتُهَان غايةَ الإهانة، وتُجْعَل طُعْمَةً للنار، وهذا لا يُفْعَلُ إلا بكتب المُحال والباطل

(1)

.

ثمَّ إنه ليس في طالع الولادة

(2)

ما يقتضي هذا كلَّه، كما سنذكُره عن قريبٍ إن شاء الله تعالى.

والطالعُ عند المنجِّمين طالعان:

طالعُ مسقَط النطفة؛ وهو الطالعُ الأصلي، وهذا لا سبيل إلى العلم به إلا في أندر النَّادر الذي لا يقتضيه الوجود.

الثاني: طالعُ الولادة، وهم معترفون أنه لا يدلُّ على أحوال الولد وجزئيَّات أمره؛ لأنه انتقالُ الولد من مكانٍ إلى مكان، وإنما أخذوه بدلًا من طالع الأصل لمَّا تعذَّر عليهم اعتبارُه.

وهذه الحكايةُ ليس فيها أخذُ واحدٍ من الطالعَيْن؛ لأنَّ فيها الحكمَ على المولود قبل خروجه من غير اعتبار طالعه الأصلي، والمنجِّمُ يقطعُ بأنَّ الحكمَ على هذا الولد لا سبيل إليه، وليس في صناعة النجوم ما يوجبُ الحكمَ عليه والحالة هذه، وهذا يدلُّ على أنَّ هذه الحكايةَ كذبٌ مختلقٌ على الشافعي على هذا الوجه.

وكذلك الحكاية الثالثة، وهي ما رواه الحاكمُ أيضًا: أنبأني عبد الرحمن بن الحسن القاضي: أنَّ زكريا بن يحيى السَّاجي حدثهم:

(1)

انظر: «الطرق الحكمية» (710)، و «زاد المعاد» (3/ 581).

(2)

(د، ت): «عالم طالع الولادة» . (ق): «العالم طالع الولادة» . والمثبت من (ص).

ص: 1446

أخبرني أحمد بن محمد ابن بنت الشافعي، قال: سمعتُ أبي يقول: كان الشافعيُّ وهو حَدَثٌ ينظرُ في النجوم، وما نظر في شيءٍ إلا فاقَ فيه، فجلس يومًا وامرأةٌ تَلِد، فحسَبَ، فقال: تلدُ جاريةً عوراءَ على فرجها خالٌ أسود، وتموتُ إلى كذا وكذا، فولدت، فكان كما قال، فجعل على نفسه ألا ينظُر فيه أبدًا

(1)

.

وأمرُ هذه الحكاية كالتي قبلها، فإنَّ ابن بنت الشافعيِّ لم يلقَ الشافعيَّ ولا رآه، والشأنُ فيمن حدَّثه بهذا عنه

(2)

.

والذي عندي في هذا أنَّ الناقل إن أُحسِنَ به الظَّنُّ فإنه غَلِط على الشافعي، والشافعيُّ كان مِن أفرَس الناس، وكان قد قرأ كتبَ الفراسة، وكانت له فيها اليدُ الطُّولى، فحكمَ في هذه القضية وأمثالها بالفراسة، فأصابَ الحكم، فظنَّ الناقلُ أنَّ الحكمَ كان يستندُ إلى قضايا النجوم وأحكامها، وقد برَّأ الله مَن هو دون الشافعيِّ من ذلك الهذيان، فكيف بمثل الشافعيِّ رحمه الله في عقله وعلمه ومعرفته حتى يَرُوجَ عليه هذيانُ

(1)

أخرجها البيهقي (2/ 125، 126) من طريق الحاكم. وعبد الرحمن بن الحسن بن أحمد الأسدي، الهمذاني، أبو القاسم (ت: 352)، متهمٌ بالكذب. انظر:«تاريخ بغداد» (10/ 292)، و «تاريخ الإسلام» (8/ 46)، و «اللسان» (3/ 411).

وأخرجها البيهقي من وجهٍ آخر عن الساجي. وفيه من لم أعرفه.

وأخرجها أبو نعيم في «الحلية» (9/ 77) من طريق عمرو بن عثمان المكي عن ابن بنت الشافعي عن أبيه بالقصة. ورواته ثقات.

(2)

قد صرَّح بأنه يرويه عن أبيه كما ترى، وأبوه محمد بن عبد الله بن محمد بن العباس، صحب الشافعيَّ، وروى عنه، وتزوَّج ابنته. وأظنُّ المصنف رحمه الله ذهب وهمُه إلى أن ابن بنت الشافعي هو محمد. وإنما هو أحمد بن محمد.

ص: 1447

المنجِّمين الذي لا يروجُ إلا على جاهلٍ ضعيف العقل؟!

وتنزُّه الشافعيِّ

(1)

رحمه الله عن هذا هو الذي ينبغي أن يكونَ من مناقبه، فأمَّا أن يُذْكَر في مناقبه أنه كان منجِّمًا يرى القول بأحكام النجوم ويصحِّحها

(2)

، فهذا فعلُ من يَذُمُّ بما يظنُّه مدحًا!

وإذا كان الشافعيُّ شديدَ الإنكار على المتكلِّمين، مُزْريًا بهم، حكمُه فيهم أن يُضرَبوا بالجَرِيد، ويُطافَ بهم في القبائل

(3)

، فماذا رأيه في المنجِّمين؟! وهو أجلُّ وأعلمُ من أن يحكُمَ بهذا الحكم على أهل الحقِّ ومَن قضاياهم في الصِّدق تنتهي إلى الحدِّ الذي ذُكِر في هذه الحكايات

(4)

.

فذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم والحاكمُ وغيرهما عن الحُميدي، قال: قال الشافعي: خرجتُ إلى اليمن في طلب كتب الفراسة، حتى كتبتُها وجمعتُها، ثمَّ لما كان انصرافي مررتُ في طريقي برجلٍ وهو مُحْتَبٍ بفناء داره، أزرقِ العين، ناتاء الجبهة، سِنَاط

(5)

، فقلتُ له: هل من منزل؟ قال: نعم. قال الشافعي: وهذا النَّعتُ أخبثُ ما يكونُ في الفراسة. فأنزلَني، فرأيتُ أكرمَ رجل؛ بعَث إليَّ بعشاءٍ وطِيبٍ وعَلَفٍ لدوابِّي وفراشٍ ولِحَاف، فجعلتُ أتقلَّبُ الليلَ أجمَع، ما أصنعُ بهذه الكتب؟! فلمَّا أصبحتُ قلتُ

(1)

(د، ق): «وتنزيه الشافعي» .

(2)

(ق): «وتصحيحها» .

(3)

أخرجه البيهقي في «مناقب الشافعي» (1/ 426)، والهروي في «ذم الكلام» (1142)، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 116).

(4)

أي: لو كانت صحيحة. فهذا يدلُّ على بطلانها.

(5)

لا لحية له. «اللسان» (سنط).

ص: 1448

للغلام: أَسْرِجْ، فأَسْرَجَ، فركبتُ ومررتُ عليه، وقلتُ له: إذا قَدِمْتَ مكة ومررتَ بذي طُوى فاسأل عن منزل محمد بن إدريس الشافعي، فقال لي الرجل: أمولى لأبيك أنا؟ قلتُ: لا، قال: فهل كانت لك عندي نعمة؟ قلتُ: لا، قال: فأين ما تكلَّفتُ لك البارحة؟! قلتُ: وما هو؟ قال: اشتريتُ لك طعامًا بدرهمين، وأُدْمًا بكذا، وعطرًا بثلاثة دراهم، وعلفًا لدوابِّك بدرهمين، وكِرى الفراش واللِّحاف درهمان. قال: قلتُ: يا غلام، فهل بقي شيء؟ قال: كِرى المنزل، فإني وسَّعتُ عليك وضيَّقتُ على نفسي. فغَبِطتُ نفسي بتلك الكتب، فقلتُ له بعد ذلك: هل بقي شيء؟ قال: امضِ أخزاك الله، فما رأيتُ أشرَّ منك!

(1)

.

وقال الربيع: اشتريتُ للشافعي طِيبًا بدينار، فقال لي: ممَّن اشتريتَه؟ فقلت: من ذلك الأشقَر الأزرق، فقال: أشقرُ أزرق! اذهبْ فردَّه

(2)

.

وقال الربيع: مرَّ أخي في صَحْن الجامع، فدعاني الشافعيُّ فقال لي: يا ربيع، انظُر إلى الذي يمشي هذا أخوك؟ قلت: نعم، أصلحك الله، قال: اذهب. ولم يكن رآه قبل ذلك

(3)

.

قال قتيبة بن سعيد: رأيتُ محمد بن الحسن والشافعيَّ قاعدَين بفناء الكعبة، فمرَّ رجل، فقال أحدهما لصاحبه: تعال نَزْكَنْ

(4)

على هذا المارِّ أيَّ

(1)

أخرجه ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (129)، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 144)، والبيهقي في «مناقب الشافعي» (2/ 134).

(2)

«آداب الشافعي ومناقبه» (131)، و «الحلية» (9/ 140).

(3)

«مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 131).

(4)

نتفرَّس. وفي (ت، ق): «نركز» . والمثبت من (د) و «المناقب» .

ص: 1449

حرفةٍ معه؟ فقال أحدهما: هذا خيَّاط، وقال الآخر: هذا نجَّار. فبعثا إليه فسألاه، فقال: كنت خيَّاطًا واليوم أنجُر، أو: كنتُ نجَّارًا واليوم أَخِيط

(1)

.

وقال الربيع: سمعتُ الشافعيَّ وقَدِمَ عليه رجلٌ من أهل صنعاء، فلمَّا رآه قال له: من أهل صنعاء؟ قال: نعم، قال: فحدَّادٌ أنت؟ قال: نعم

(2)

.

وقال: كنتُ عند الشافعيِّ، إذ أتاه رجل، فقال له الشافعي: أنسَّاجٌ أنت؟ قال: عندي أُجَراء

(3)

.

وقال: كنَّا عند الشافعي إذ مرَّ به رجل، فقال الشافعي: لا يخلو هذا أن يكون حائكًا أو نجَّارًا. قال: فدعوناه، فقال: ما صنعتُك؟ فقال: نجَّار، فقلنا: أو غيرَ ذلك؟ قال: عندي غلمانٌ يعملون

(4)

.

وقال حرملة: سمعتُ الشافعيَّ يقول: احذروا من كلِّ ذي عاهةٍ في بدنه؛ فإنه شيطان. قال حرملة: قلت: مَن أولئك؟ قال الأعرجُ والأحولُ والأشلُّ وغيره.

وقال: اشتهى الشافعيُّ يومًا عنبًا أبيض، فأمرني، فاشتريتُ له منه بدرهم، فلمَّا رآه استجاده، فقال لي: يا أبا محمد ممَّن اشتريتَ هذا؟ فسمَّيتُ له البائع، فنحَّى الطَّبق من بين يديه، وقال لي: اردُده عليه، واشتر لي من غيره. فقلت له: وما شأنه؟ فقال: ألم أنهكَ أن تصحبَ الأزرقَ الأشقر،

(1)

«مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 131).

(2)

«مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 131).

(3)

«حلية الأولياء» (9/ 139).

(4)

يعني في الحياكة. «مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 131).

ص: 1450

فإنه لا يَنْجُب؟! فكيف آكلُ من شيءٍ اشتُرِي لي ممَّن أنهى عن صحبته؟! قال الربيع: فرددتُ العنبَ على البائع، واعتذرتُ إليه بكلامٍ حسن، واشتريتُ له عنبًا من غيره

(1)

.

وقال حرملة: سمعتُ الشافعيَّ يقول: احذروا الأعورَ والأحولَ والأعرجَ والأحدبَ والأشقرَ والكوسجَ

(2)

وكلَّ من به عاهةٌ في بدنه، وكلَّ ناقص الخَلقِ فاحذروه، فإنه صاحبُ التواءٍ ومعاملتُه عَسِرَة

(3)

.

وقال مرَّةً أخرى: فإنهم أصحابُ خِبٍّ

(4)

.

وقال الربيع: دخلنا على الشافعيِّ عند وفاته، أنا والبُوَيطيُّ والمُزَني ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: فنظر إلينا الشافعيُّ ساعةً، فأطال، ثمَّ التفتَ، فقال: أمَّا أنت يا أبا يعقوب فستموتُ في حديدك ــ يعني: البويطي ــ، وأمَّا أنت يا مُزَني فستكونُ لك بمصرَ هَنَاتٌ وهَنَات، ولتدركنَّ زمانًا تكونُ أقيسَ أهل ذلك الزمان، وأمَّا أنت يا محمد فسترجعُ إلى مذهب أبيك

(5)

، وأمَّا أنت يا ربيع فأنت أنفعُهم لي في نشر الكتب، قُم يا أبا يعقوب فتسلَّم الحَلْقَة.

(1)

«مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 131)، و «كشف الخفا» (1/ 321).

(2)

من لا لحية له. كالسِّناط.

(3)

قال ابن أبي حاتم في «آداب الشافعي ومناقبه» (132): «إنما يعني: إذا كان وِلادُهم بهذه الحالة، فأما من حدث فيه شيءٌ من هذه العلل، وكان في الأصل صحيح التركيب، لم تضرَّ مخالطته» .

(4)

مكر وخداع. وفي (ت) و «الحلية» (9/ 144): «خبث» . والمثبت من (د، ق) و «آداب الشافعي» و «مناقب الشافعي» (2/ 132).

(5)

مذهب الإمام مالك.

ص: 1451

قال الربيع: فكان كما قال

(1)

.

وقال الربيع: ما رأيتُ أفطنَ من الشافعي، لقد سمَّى رجالًا ممَّن يصحبُه، فوصف كلَّ واحدٍ منهم بصفةٍ ما أخطأ فيها، فذكر المزنيَّ والبويطيَّ وفلانًا وفلانًا، فقال: ليفعلنَّ فلانٌ كذا، وفلانٌ كذا، وليصحبنَّ فلانٌ السلطان وليقلَّدنَّ القضاء.

وقال لهم يومًا وقد اجتمعوا: ما فيكم أنفعُ [لي] من هذا ــ وأومأ إليَّ ــ؛ لأنه أمثلُكم ناحية

(2)

. وذكر صفاتٍ غير هذه. قال: فلمَّا مات الشافعيُّ صار كلٌّ منهم إلى ما ذَكَر فيه، ما أخطأ في شيءٍ من ذلك.

وقال حرملة: لمَّا وقع الشافعيُّ في الموت خرجنا من عنده، فقلت لأبي: يا أبت، كلُّ فراسةٍ كانت للشافعيِّ أخذناها يدًا بيد، إلا قولَه: يقتلُني أشقر، وها هو في السِّياق. فوافَينا عبد الله بن عبد الحكم ويوسف بن عمرو، فقلنا: إلى أين؟ قالا: إلى الشافعي، فما بلغنا المنزلَ حتى أدركنا الصُّراخ عليه، قلنا: مَه! ما لكم؟! قالوا: مات الشافعي، فقال أبي: من غمَّضه؟ قالوا: يوسفُ بن عمرو

(3)

، وكان أزرق!

وهذه الآثارُ وغيرها ذكرها ابنُ أبي حاتم والحاكم في مصنَّفيهما في «مناقب الشافعي» ، وهي اللائقةُ بجلالته ومنصبه، لا ما باعدَه الله منه من

(1)

«مناقب الشافعي» للبيهقي (2/ 136).

(2)

مهملة في (د). (ق): «بأخيه» . والمثبت من (ت) و «مناقب الشافعي» (2/ 137)، إلا أن في «المناقب»:«أسلمكم» بدل «أمثلكم» .

(3)

يوسف بن عمرو بن يزيد الفارسي. فقيهٌ صدوق. انظر: «مناقب الشافعي» (1/ 455)، و «تهذيب الكمال» (32/ 448).

ص: 1452

أكاذيب المنجِّمين وهذياناتهم، والله أعلم

(1)

.

* وأمَّا ما احتَجَّ به

(2)

من أنَّ فرعون كان يذبحُ أبناءَ بني إسرائيل ويستحيي نساءهم؛ لأنَّ المفسِّرين قالوا: كان ذلك بأنَّ المنجِّمين أخبروه بأنه سيجيء في بني إسرائيل مولودٌ يكونُ هلاكُه على يديه.

فأكثرُ المفسِّرين إنما أحالوا ذلك على خبر الكهَّان.

وروى بعضهم أنَّ قومَه أخبروه بأنَّ بني إسرائيل يزعمون أنه يولدُ منهم مولودٌ يكونُ هلاكُه على يديه.

وهاتان الرِّوايتان هما الدَّائرتان في كتب المفسِّرين

(3)

، وأمَّا هذه الرواية: أنَّ المنجِّمين قالوا له ذلك؛ فغايتُها أنها من أخبار أهل الكتاب

(4)

(1)

جماهير الشافعية على تحريم التنجيم، تعلمًا وتعليمًا وعملًا وبيعًا لكتبه. انظر:«المجموع» (1/ 27، 9/ 253)، و «روضة الطالبين» (9/ 346)، و «مغني المحتاج» (2/ 12، 4/ 120، 210)، وغيرها.

واغترَّ بعضهم بما نُسِب إلى الشافعي من هذه الحكايات، فذهب إلى أن المحرَّم هو اعتقاد تأثير النجوم، فحسب. انظر:«طبقات الشافعية» لتاج الدِّين السبكي (2/ 101، 102).

(2)

أي الرازي.

(3)

انظر: «تفسير الطبري» (2/ 45)، «الدر المنثور» (1/ 166).

(4)

تقدم (ص: 1356) أنها وردت عن قتادة وابن إسحاق. ولا أرى وجهًا لدفعها وإقامة الخلاف بينها وبين الروايات الأخرى، فالكل واردٌ من تفاسير السلف، ولو ثبت أنَّ من أشار على فرعون هم المنجمون، وأنَّ التنجيم كان معروفًا لعهده، وأنهم أصابوا في نجامتهم، فيكون ماذا؟! والمنجِّم قد يصيبُ على جهة التخمين والتخرُّص. والظاهر أنهم كانوا كهانًا ينظرون في النجوم، كما ورد في بعض الروايات أنهم حزَّاؤون، والمنجِّم منهم من يسمِّيه كاهنًا. انظر:«شرح السنة» (12/ 182).

ص: 1453

وقد خالفها غيرُها من الروايات، فكيف يسوغُ التمسُّكُ بها في الأمر العظيم؟!

وفي أخبار الكهَّان ما هو أعجبُ

(1)

من ذلك، فقد أخبروا بظهور خاتم الرسل محمَّد صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وذلك موجودٌ في دلائل النبوَّة

(2)

.

ونحن لا ننكرُ علمَ تَقْدِمة المعرفة بأسبابٍ مفضيةٍ إليه تختلف قُوى الناس في إدراكها وتحصيلها، وإنما كلامنا معكم في أصول علم الأحكام وبيان فسادها وكذب أكثر الأحكام التي يُسْنِدُونها إليها، وبيان أنَّ ضررَ هذا العلم لو كان حقًّا أعظمُ

(3)

من نفعه في الدنيا والآخرة، وأنَّ أهلَه لهم أوفرُ نصيبٍ من قوله:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152].

وأهلُ هذا العلم أذلُّ الناس في الدنيا، لا يُمْكِنُ أحدًا منهم أن يأكلَ رزقَه بهذا العلم إلا بأعظم ذُلٍّ، وعزيزُهم لا بدَّ أن يتعبَّد وينضوي إلى مكَّاسٍ أو ديوانٍ أو والٍ يكونُ تحت ظلِّه وفي كنفِه، وسائرُهم على الطُّرقات وفي كِسَرِ الحوانيت مُدَسَّسين.

صيدُهم كلُّ ناقص العقل والإيمان والدِّين؛ مِن صبيٍّ أو امرأة، أو حمارٍ في مِسْلاخ آدميٍّ، أو ذُبابِ طمَعٍ

(4)

لو لاحَ لأحدهم طمعٌ في عبادة الأصنام

(1)

(ت): «أعظم» .

(2)

انظر: «دلائل النبوة» للبيهقي (2/ 243 - 254).

(3)

(ص): «أكثر» .

(4)

رأى طلحة رضي الله عنه قومًا يمشون معه، فقال: ذبابُ طمَعٍ وفَراشُ نار. أخرجه ابن أبي الدنيا في «التواضع والخمول» (50)، و «العزلة» (156). ورُوِيَت عن الحسن في حديثٍ أخرجه أحمد (4/ 272) وغيره. وتُذكَر في الأمثال. انظر:«الحيوان» (3/ 304)، و «غريب الحديث» لابن قتيبة (2/ 410)، و «ثمار القلوب» (730).

ص: 1454

والشمس والقمر والنجوم لكان أولَ العابدين.

ورأسُ مالهم الكذبُ والزَّرْقُ وأخذُ أحوال السائل منه ومن فَلَتات لسانه وهيأته وأغراضه

(1)

، فيخبرونه بما يناسبُ ذلك من أحواله، فينفعلُ عقلُه لهم، ويقول: لقد أُعطِي هؤلاء علمًا

(2)

لم يُعْطَهُ غيرُهم.

وتراهم في الغالب يقصدُ أحدُهم قريةً أو دكَّانًا منزويًا عن الطريق، ويَصْلِي فيه للصَّيد

(3)

، وينصبُ الشَّبكة، فإذا لاحَ له بدويٌّ أو حبشيٌّ

(4)

أو تركمانيٌّ فإنه يَسْتَبْرِك بطلعته، ويقول له: اجلِس حتى أبيِّن لك ما يقتضيه نجمُك وطالعُك، وبيتُ مالك، وبيتُ فراشك، وبيتُ أفراحك وهمومك، وكم بقي عليك من القَطْع

(5)

.

(1)

(ق، د، ص): «وأعراضه» . بالمهملة.

(2)

(ق): «عطاء» .

(3)

أي: ينصب شِرَاكه، ليوقعه. «اللسان» (صلا)، و «الأساس» (صلي).

(4)

(د، ق، ص): «خشني» . (ت): «خنثي» . والمثبت من (ط)، وهو أشبه؛ فإنه لا مزية للخشنيين في هذا السياق، والأحباش فالعبيدُ منهم كثير.

(5)

القطع عند المنجمين: اقترانٌ للنجوم يحدُث عنه مكروهٌ وشرٌّ بحسب الطالع، وقد ينقضي دون وقوع المكروه إن أمكن الاحترازُ منه. ويكنُّون به عن الموت، وأنه قطعٌ للحياة بحادثٍ يعرض للحيِّ. انظر:«فرج المهموم» (1، 3، 46، 51، 55، 67، 69، 70، 82)، و «تحسين القبيح وتقبيح الحسن» للثعالبي (35، 36)، و «نشوار المحاضرة» (2/ 330)، و «تكملة المعاجم» لدوزي (8/ 317).

ص: 1455

نعم؛ ما اسمك؟ واسمُ أمِّك وأبيك؟ فإذا قال له اسمَه واسمَ أبويه أخرج له الإصطرلابَ أو الكرةَ النحاس، وقال: كيف قلتَ اسمَك؟ فإذا أخبره ثانيةً قال: وكيف قلتَ اسمَ الوالدة طوَّل الله عمرها؟ فإذا قال: دَرَجَتْ إلى رحمة الله تعالى، قال: ما مات من خلَّف مثلك.

ثمَّ يحسبُ، ويقول: فلانةٌ تسعة، وتزيدُ عليها تسعة، تُسْقِطُ منها خمسة، تبقى منها أربعة.

اقعُد واسمع يا أخي، إني أرى عليك حُجَجًا مكتوبةً ووثائق

(1)

، ولا بدَّ لك من الوقوف بين يدي وليِّ أمر، إمَّا حاكمٍ وإمَّا والٍ، وأرى دمًا خارجًا عنك، ما أنتَ من أهله، وأرى ناسًا قد اجتمعوا حولك.

وإن كان شكلُ ذلك الرجل شكلَ من هو من أرباب التُّهم قال: وأرى خشبًا يُنْصَب، ومساميرَ تُضْرَب، وجناياتٍ تُؤْخَذ.

نعم يا أخي؛ برجُك بالأسد، وهو ناريٌّ مذكَّر، أخذتَ منه نِطاحَ

(2)

مقدامٍ بطل، نجمُك الزُّهَرة، أنت قليلُ البَخْت

(3)

عند الناس، مكفورُ الإحسان، مقصودٌ بالأذى، قلَّ أن صاحبتَ أحدًا فأثمرَت لك صحبتُه خيرًا.

نعم يا أخي؛ أسعدُ أيامك يومُ الجمعة، وخيرُ كسبك كدُّ يدك، اعلم أنه لا بدَّ لك من أسفار وغُربةٍ وركوبِ أهوالٍ واقتحام أخطارٍ وأمورٍ عِظامٍ أبيِّنها لك إن شاء الله، هات، لا تبخَل على نفسك، حُطَّ يدك في جيبك، حُلَّ

(1)

(ت، ص): «مكتوبة وثائق» .

(2)

أي: مناطحة. نطحه: ضربه بقرنه.

(3)

الحظ. فارسيةٌ معرَّبة. انظر: «قصد السبيل» (1/ 255).

ص: 1456

الكيس!

ولا يزالُ يلكزُه

(1)

ويجذبُه ويُطْمِعُه حتى يستخرجَ ما تسمحُ به نفسُه، فإن رأى منه تباطؤًا قال: عجِّل قبل خروج هذه السَّاعة السَّعيدة، فإنها ساعةٌ مباركة، والخَرْجُ فيها مخلوف

(2)

، أما سمعتَ قول نبيِّك:«يسِّروا ولا تعسِّروا» ؟!

فإذا حاز ما أخذَه منه قال له: زِدني

(3)

، فإنَّ أموركَ كثيرة، وتحتاجُ إلى تعبٍ وفكرٍ وحسابٍ طويل، فإذا تمَّ له ما يأخذُه منه بقيَ هو من جُوَّا

(4)

فكالَ له من جِراب الكذب ما أمكنَه، ولا يبالي أكذَّبه أم صدَّقه.

ثمَّ يقول له: يا أخي برجُك الأسد، وهو سهمُ العداوة والحسد، وما عاداك أحدٌ قطُّ وأفلح، بل يُظْفِركَ اللهُ به وينصرك عليه.

نعم؛ وهو برجٌ ناري، والنار من النُّور، والنُّور فيه البهجةُ والسُّرور، أبشِرْ فأنت طويلُ العمر، لا تموتُ في هذا الوقت، عمرك من السِّتين إلى السبعين إلى الثمانين إلى التسعين، بيتُ كسبِك كذا وكذا، وأرى حاجةً مهمَّةً قد

(1)

(ص): «يلزه» .

(2)

«والخرج فيها مخلوف» من (ص). والخرج: الخارج، المصروف.

(3)

(ت): «زودني» .

(4)

مضبوطة في الأصول بضم الجيم. أي: في مأمن. ضد «برَّا» . قال المقريزي في «الخطط» (2/ 14): «قول أهل مصر: جُوَّا، خطأ، والصواب فتح الجيم» . انظر: «معجم تيمور» (3/ 65). وجَوُّ كل شيءٍ بطنُه وداخلُه، كما في «اللسان» (جوا). و «برَّا» أصلها «برًّا» من البرِّ، وهو خلاف الكِنِّ وضد البحر. انظر:«تصحيح التصحيف» للصفدي (153).

ص: 1457

خرجت عن يدك، نعم؛ بغير مرادك، وأنت في غالب أحوالك الخارجُ عن يدك أكثرُ من الداخل فيها، بالله صدقتُ أم لا؟ فيقول: والله صحيح، والأمر كما قلتَ، فيقول: ولكن احمد الله، كلُّ ما بقيَ عليك من القَطْع أربعةُ أشهرٍ وعشرةُ أيام وتخرجُ من نحسك، وتدخلُ في برج سعادتك

(1)

، وتنجو ويُخْلِفُ الله عليك بالخيرات والبركات، ولا بدَّ لك الساعةَ من رزقٍ يأتيك الله به، وتُفْرِحُ به أهلَك وعَيْلتَك

(2)

، وتصلحُ حالك ويستقيمُ سَعْدُك.

الثالثُ

(3)

يا أخي من برجك

(4)

: برجُ الميزان، وهو بيتُ الإخوان، سَعْدُك يا أخي منهم منقوص، وحظُّك منهم مبخوس

(5)

، غالبُ من أوليتَه منهم خيرًا جازاك بالشرِّ، وغالبُ من قلتَ فيه الخيرَ منهم يقولُ فيك الشرَّ، بالله أما الأمرُ هكذا؟

وذلك يا أخي أنك خفيفُ الدَّم

(6)

، كلُّ من رآك مال إليك وأَنِسَ بك، وأنت محسود؛ تُحْسَد في مالك وفي عافيتك، وفي أهلك وأولادك، وفي

(1)

(ت): «في سعدك» .

(2)

أي: عيالك.

(3)

لم يتقدم إلا ذكر برج الأسد، في موضعين. لعل هذا من جملة الاحتيال!

(4)

كذا في الأصول. وهي: بروجك. كنظائرها.

(5)

(ت، ق): «منحوس» .

(6)

هذه كنايةٌ نادرة الوقوع في كلام السابقين، وإنما كانوا يصفون الروح بالخفَّة. وشاعت في هذا العصر عن المصريين، والبغاددة يقولون: خفيف الروح. انظر تعليق شاكر على «تفسير الطبري» (6/ 391)، و «الكنايات العامية البغدادية» للشالجي (1/ 697). ولعلها جاءت من قِبَل أن الروح والنفس تطلقان على الدم، فيقال: سالت نفسُه، أي: دمه.

ص: 1458

كل ما تعملُه بيدك، ولكنَّ العينَ لا تؤثِّر فيك؛ لأنَّ كلَّ من برجُه الأسد لا بدَّ أن يكون له في رأسه أو جسده علامةٌ مثلُ شَجَّةٍ أو ضربةٍ بين أكتافه أو في ساقه، وما هو بعيدٌ أنَّ في جسدك شامةً أو في جسمكَ ثُلْمَة، وهذا هو الذي يدفعُ عنك العين وأنت لا تدري.

الرابعُ من بروجك: العقرب، وهو بيتُ الآباء، أُراكَ كنت قليلَ السَّعد بين أبويك، ومع هذا فكان أكثرُ ميلهم وإشفاقهم مع غيرك عليك، وكان حظُّك منهم ناقصًا، ولهم تطلُّعٌ إلى كدِّك وكسبك.

الخامسُ من بروجك: القوس، وهو بيتُ البنين، أُراكَ قليلًا ما يعيشُ لك أولاد، تدفنُهم كلَّهم، ثمَّ تموتُ أنت بعدهم، بلى سوف يكونُ لك ولدٌ يشدُّ اللهُ به عَضُدَك، ويقوِّي أمرك، وتنالُ من جهته راحةً وخيرًا، وربما تكونُ سعادتك على يديه.

السادسُ من بروجك: الجَدْي، وهو برجُ أمراضِك وأعلالك

(1)

، يا أخي، أمراضُك وأسقامُك كثيرة، وأكثرُها في رأسك، وربَّما تكونُ في أجنابك، وهي أمراضٌ قويَّةٌ طِوال، اللهُ يعافينا وإيَّاك، وكنتَ في صغرك لا ترقدُ في السَّرير إلا بعد جهدٍ جهيد، وعهدي بك الآن لا ترقدُ في فراشك إلا بعد شدَّة. نعم؛ وأكثرُ أمراضِك في الصَّيف والخريف.

السابع من بروجك: الدَّلو، وهو بيتُ الفِراش، وأرى فراشَك خاليًا، أثمَّ زوجة؟ فإن قال: نعم، قال لا بدَّ لك مِن فراقها عن قريب، إمَّا بموتٍ وإمَّا بطلاق، فإنَّ المرِّيخَ منك في بيت الفراش، وإن قال: لا، قال: عجيبٌ والله،

(1)

مولَّدة. جمع: علة.

ص: 1459

لقد أبصرتُ في الطالع أنَّ فراشَك فارغ، وأرى روحًا ناظرةً إليك بعين الأُلفة والمحبة، خُطورُك عليه وخطورُه عليك

(1)

، وأرى لك من قِبَله منفعة، ولك به اتصالٌ وفرح.

أبيِّنُ لك على أيِّ سببٍ

(2)

يكونُ اجتماعكما؟ نعم؛ فإن قال له: نعم، قال: هات، فإنَّ الذي أعطيتني قليل، فإذا أخذَ منه قال: اعلم أنه لا بدَّ لك من الاتصال بهذا الشَّخص على كلِّ حال، إلا أني أرى قد عُمِلَ لك عملٌ، وعُقِدَ لك عُقَد، وأنت في همٍّ وغمٍّ من ذلك، فإن شئتَ عملتُ لك كتابًا نافعًا يكونُ لك حِرْزًا من كلِّ ما تخافه وتحذرُه، ولا يزالُ يَفْتِلُ له في الذِّروة والغارب

(3)

حتى يستكتبَه الحِرْز!

وكذبُ هذه الطائفة وجهلُها وزَرْقُها تغني شهرتُه عند الخاصَّة والعامة عن تكلُّف إيراده، وكلَّما كان المنجِّم أكذب، وبالزَّرْقِ أعرف، كان على الجُهَّال أرْوَج.

فصل

* وأمَّا قولُه: «إنَّ هذا علمٌ ما خلت عنه ملَّةٌ من الملل، ولا أمَّةٌ من الأمم، ولا يُعْرَفُ تاريخٌ من التواريخ القديمة والحديثة إلا وكان أهلُ ذلك

(1)

تركيبٌ مولد. وفي (ص): «حضوره عليك وحضورك عليه» .

(2)

(ت): «شيء» .

(3)

مثلٌ يقال للرجل لا يزال يخدع صاحبه حتى يظفر به. وذروة البعير أعلاه. والغارب مقدَّم السنام، وأصل فتل الذروة في البعير هو أن يخدعه صاحبه ويتلطف له بفتل أعالي سنامه حكًّا حتى يسكن ويستأنس، فيتسلق بالزمام عليه. انظر:«جمهرة الأمثال» (2/ 98)، و «مجمع الأمثال» (2/ 69).

ص: 1460

الزمان مشتغلين بهذا العلم ومعوِّلين عليه في معرفة المصالح، ولو كان هذا العلمُ فاسدًا بالكلِّية لاستحال إطباقُ أهل المشرق والمغرب عليه».

فانظُر ما في [هذا] الكلام من الكذب والبَهْت والافتراء على العالَم من أوَّل بنائه إلى آخره؛ فإنَّ آدمَ وأولادَه كانوا برآء من ذلك، وأئمَّتكم معترفون بأنَّ أوَّل من عُرِفَ عنه الكلامُ في هذا العلم وتُلُقِّيت عنه أصولُه وأوضاعُه هو إدريسُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم

(1)

، وكان بعد بناء هذا العالَم بزمنٍ طويل، هذا لو ثبتَ ذلك عن إدريس

(2)

، فكيف وهو من الكذب الذي ليس مع صاحبه إلا مجردُ القول بلا علمٍ والكذب على رسول الله؟!

أوليس من الفرية والبَهْت أن يُنسبَ هذا العلمُ إلى أمَّة موسى في زمنه وبعده، وأنهم كانوا معوَّلهم في مصالحهم على هذا العلم، وكذلك أمَّةُ عيسى وأمَّةُ يونس، والذين آمنوا مع نوحٍ ونجوا معه في السفينة؟!

وحسبك بهذا الكذب والافتراء على تلك الأمَّة المضبوطِ أمرُها المحفوظِ فعلُها، فهل كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه يعوِّلون على هذا العلم ويعتمدون عليه في مصالحهم، أو قرنُ التابعين بعدهم

(3)

، أو قرنُ تابعي التابعين؟!

وهذه هي خيارُ قرون العالم على الإطلاق، كما أنَّ هذه الأمَّة خيرُ أمَّةٍ أخرجت للناس، وهم أعلمُ الأمم وأعرفُها، وأكثرُها كتبًا وتصانيف، وأعلاها

(1)

انظر: «فرج المهموم» (9، 19، 21، 34، 38، 44).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (35/ 66، 179 - 181، 187).

(3)

(د، ق): «بعده» .

ص: 1461

شأنًا، وأكملُها في كلِّ خيرٍ ورشدٍ وصلاح، كما ثبت في المسند وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«أنتم تُوَفُّون سبعين أمَّة، أنتم خيرُها وأكرمُها على الله»

(1)

.

فهل رأيتَ خيارَ قرون هذه الأمَّة والموفَّقين من خلفائها وملوكها وساداتها وكبرائها معوِّلين على هذا العلم أو معتمدين عليه في مصالحهم؟! وهذه سِيَرُهم ما بِعَهْدِها

(2)

مِن قِدَم، ولا يتأتَّى الكذبُ عليهم.

هذا، وقد أُعطُوا من التأييد والنصر والظَّفر بعدوِّهم والاستيلاء على ممالك العالم ما لم يظفر به أحدٌ من المعوِّلين على أحكام النجوم، بل لا تجدُ المنجِّمين إلا ذِمَّةً

(3)

لهم لولا اعتصامُهم بحبلٍ منهم لقُطِّعت حبالُ أعناقهم، ولا تجدُ المعوِّلين على هذا العلم إلا مخصوصين بالخِذلان والحرمان، وهذا لأنهم حقَّ عليهم قولُه تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152]، قال أبو قِلابة:«هي لكلِّ مفترٍ من هذه الأمَّة إلى يوم القيامة»

(4)

.

(1)

أخرجه أحمد (5/ 3)، والترمذي (3001)، وابن ماجه (4288)، وغيرهم من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده.

وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم (4/ 84) ولم يتعقبه الذهبي.

(2)

(ق): «يعهدها» . وهي مهملة في (ت، د). وفي (ص): «وما نعهدها» . والصواب ما أثبت. وهي جملةٌ يكثر دورانها، وردت في شعر الأحوص والشريف الرضي وغيرهما. وانظر:«الصواعق المرسلة» (1551).

(3)

أي: كأهل الذمة.

(4)

تقدم (ص: 1422).

ص: 1462

نعم؛ لا نُنكِرُ أنَّ هذا العلمَ له طلبةٌ مشغولون به، معتنون بأمره، وهذا لا يدلُّ على صحَّته، فهذا السِّحرُ لم يزل في العالم من يشتغلُ به ويتطلَّبه أعظمَ من اشتغاله بالنجوم وطلبه لها بكثير، وتأثيرُه في الناس مما لا يُنْكَر، أفكان هذا دليلًا على صحَّته؟!

وهذه الأصنامُ لم تَزل تُعْبَدُ في الأرض من قبل نوحٍ وإلى الآن، ولها الهياكلُ المبنيَّةُ والسَّدنة، ولها الجيوشُ التي تُقاتِلُ عنها وتحارِبُ لها، وتختارُ القتلَ والسَّبيَ وعقوبةَ الله ولا تنتهي عنها، أفيدلُّ هذا على صحَّة عبادتها، وأنَّ عُبَّادَها على الحقِّ؟!

ومن العجب قولُه: «لو كان هذا العلمُ فاسدًا لاستحالَ إطباقُ أهل المشرق والمغرب من أوَّل بناء العالم إلى آخره عليه» !

وليس في الفرية أبلغُ من هذا، ولا في البهتان، أترى هذا الرجلَ ما وقف على تأليفٍ لأحدٍ من أهل المشرق والمغرب في إبطال هذا العلم والردِّ على أهله؟!

فقد رأينا نحن وغيرنا ما يزيدُ على مئة مصنَّفٍ في الردِّ على أهله وإبطال أقوالهم، وهذه كتبهم بأيدي الناس، وكثيرٌ منها للفلاسفة الذين يعظِّمهم هؤلاء ويرونَ أنهم خلاصةُ العالَم، كالفارابي وابن سينا وأبي البركات الأوحد وغيرهم، وقد حكينا كلامَهم

(1)

.

وأمَّا الردودُ في ضمن الكتب حينَ

(2)

يُرَدُّ على أهل المقالات، فأكثرُ

(1)

فيما تقدم (ص: 1195، 1182، 1289).

(2)

في الأصول: «حتى» . تحريف. والمثبت من (ط).

ص: 1463

من أن تُذْكَر، ولعلَّها أن تزيد على عِدَّة الألف

(1)

، تجدُ في كلِّ كتابٍ منها الردَّ على هؤلاء، وإبطالَ مذهبهم، ونسبتَهم إلى الكذب والزَّرْق.

ولو أنَّ مقابلًا قابَله، وقال: لو كان هذا العلمُ صحيحًا لاستحالَ إطباقُ أهل المشرق والمغرب على ردِّه وإبطاله، لكان قولُه من جنس قوله، ولكنَّ أهلَ المشرق

(2)

فيهم هذا وهذا، كما يشهدُ به الحِسُّ والتواريخُ القديمةُ والحديثة.

ولقد رأينا من الردود القديمة قبل قيام الإسلام على هؤلاء ما يدلُّ على أنَّ العقلاء لم يزالوا يشهدون عليهم بالجهل وفساد المذهب، وينسبُونهم إلى الدَّعاوى الكاذبة والآراء الباطلة التي ليس مع أصحابها إلا القولُ بلا علم.

فصل

* وأمَّا ما ذكره في أمر الطَّالع عن الفُرس، وأنهم كانوا يعتنون بطالع مَسْقَط النطفة، وهو طالعُ الأصل، ثمَّ يُحْكَم بموجَبه، حتى يُحْكَم بعدد السَّاعات التي يمكثُها الولدُ في بطن أمِّه= فهذا من الكذب والبَهْت، ومن أراد أن يختبرَ كذبَه فليجرِّبه، فإنَّ تجربةَ مثل هذا ليست ممتنعةً

(3)

ولا عَسِرَة.

ثمَّ إنَّ هذا الواطاء لا علمَ له ولا لأحدٍ أنَّ الولدَ إنما يُخْلَقُ من أوَّل وطئه الذي أنزَل فيه دون ما بعده، وإن فُرِض أنه أمسكَ عن وطئها بعد المرة

(1)

(ق): «عدَّة آلاف» . (ت): «على الاف» . (ص): «على الألف» .

(2)

كذا في الأصول، لم يذكر المغرب، واحتمال السهو والقصد قائمان.

(3)

(ق): «مشقة» . تحريف.

ص: 1464

الأولى وحَبَسها بحيث يتيقَّن أنَّ غيره لم يَقْرَبها ــ وهذا في غاية النُّدرة ــ لم يمكن المنجِّم أن يعلم أحوالَ ذلك المولود، ولا تفاصيل أمره البتَّة، ومدَّعي ذلك مجاهرٌ بالكذب والبَهْت.

وقد اعترف القومُ بأنَّ طالعَ الولادة مستعارٌ لا يفيدُ شيئًا؛ لأنَّ الولدَ لا يحدثُ في ذلك الوقت، وإنما ينتقلُ من مكانٍ إلى مكان.

وقد اعترفوا بأنَّ ضبطَه متعسِّرٌ جدًّا، بل متعذِّر، فإنَّ في اللحظة الواحدة من اللحظات تتغيَّرُ نَصْبةُ

(1)

الفلك تغيُّرًا لا يُضبَطُ ولا يحصيه إلا الله الذي هو بكل شيء عليم، ولا ريب أنَّ الطَّالعَ يتغيَّر بذلك تغيُّرًا عظيمًا لا يمكنُ ضبطُه.

وقد اعترفوا هم بهذا، وأنَّ سببَ هذا التفاوت يُحِيلُ أحكامَهم، واعترفوا بأنه لا سبيل إلى الاحتراز من ذلك.

فأيُّ وثوقٍ لعاقلٍ بهذا العلم بعد هذا كلِّه؟!

وقد بينَّا أنَّ غايةَ هذا لو صحَّ وسَلِمَ من الخلل جميعُه ــ ولا سبيل إليه ــ لكان جزءَ السَّبب والعلَّة، والحكمُ لا يضافُ إلى جزء سببه، ثمَّ لو كان سببًا تامًّا فصوارفُه وموانعه لا تدخلُ تحت الضبط البتَّة، والحكمُ إنما يضافُ إلى وجود سببه التامِّ وانتفاء مانعه، وهذه الأسبابُ والموانعُ مما لا تدخلُ تحت حصرٍ ولا ضبطٍ إلا لمن أحصى كلَّ شيءٍ عددًا، وأحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا، لا إله إلا هو علَّام الغيوب

(2)

.

(1)

(ت): «يتغير بضبط» .

(2)

انظر ما تقدم (ص: 748)، و «مجموع الفتاوى» (8/ 172، 25/ 198، 35/ 173، 178).

ص: 1465

فلو ساعدناهم على صحة أصول هذا العلم وقواعده لكانت أحكامُهم باطلة، وهي أحكامٌ بلا علم؛ لِمَا ذكرنا من تعذُّر الإحاطة بمجموع الأسباب وانتفاء الموانع، ولهذا كثيرًا ما يُجْمِعون على حكمٍ من أحكامهم الكاذبة فيقعُ الأمرُ بخلافه، كما تقدَّم

(1)

.

* وأمَّا تلك الحكاياتُ المتضمِّنةُ لإصابتهم في بعض الأحوال، فليست بأكثر من الحكايات عن أصحاب الكتف

(2)

، والفأل، والزَّجر، والطَّائر

(3)

، والضَّرب بالحصى، والطَّرْق

(4)

، والعِيافة، والكهانة، والخَطِّ، والحَدْس، وغيرها من علوم الجاهلية، وأعني بالجاهلية: كلَّ من ليس من أتباع الرسل، كالفلاسفة والمنجِّمين والكهَّان وجاهلية العرب الذين كانوا قبل النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ هذه كانت علومَ القوم، ليس لهم علمٌ بما جاءت به الرسل.

* ومِن هؤلاء من يزعمُ أنه يأخذُ من الحروف علمَ الكهَّان

(5)

، ولهم في ذلك تصانيفُ وكتب

(6)

.

(1)

(ص: 1199).

(2)

كذا رسمت في (د، ق) دون إعجام. وفي (ت، ص): «الكهف» . (ط): «الكشف» . ولعل المثبت هو الصواب. وانظر ما تقدم (ص: 1434).

(3)

كذا في الأصول. وهو السانح والبارح، كما مضى (ص: 1434)، وسيأتي تفسيره. وربما كان صوابه: والزجر للطائر.

(4)

وهو الضرب بالحصى، وقيل: الخط في الرمل. «النهاية» (طرق).

(5)

(ق): «المكان» . وهو تحريف. وانظر ما تقدم (ص: 1434).

(6)

انظر: «أبجد العلوم» (2/ 79، 152، 2/ 236، 238)، و «كشف الظنون» (650)، و «معجم المؤلفين» (2/ 26، 11/ 223، 258، 260، 13/ 255، 325).

ص: 1466

حتى يقولون: إذا أردتَ [معرفة] ما في رؤيا السَّائل من خيرٍ أو شرٍّ فخذ أوَّل حرفٍ من كلامه الذي يكلِّمك به، وقِسْ رؤياه على معنى ذلك الحرف.

فإن كان أوَّل ما نطق به باءٌ فرؤياه خير؛ لأنَّ الباءَ من البهاء والخير، ألا تراها في البرِّ والبركة وبلوغ الآمال والبقاء والبشارة والبيان والبَخْت؟! فإذا كان أوَّلُ حرفٍ من كلامه باءً فاعلم أنه قد عاينَ ما أبهاه وبشَّره من الخيرات، وإن كان أوَّلُ كلامه تاءً فقد بُشِّر بالتمام والكمال، وإن كان ثاءً فبشِّره بالأثاث والمتاع؛ لقوله تعالى:{هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم: 74]. ثمَّ قالوا: فعليك بهذه الأحرف الثلاثة، فليس شيءٌ يخلو منها ويجاوزُها.

وإذا تأمَّلتَ جهلَ هؤلاء رأيته شديدًا؛ فكيف حكموا على الباء بالبهاء والبركة، دون البأس والبغي والبَيْن والبلاء والبَوار والبُعد؟!، وكيف حكموا على التاء بالتمام والكمال، دون التَّعْس والتَّباب والتدمير والتَّلف ونحوه

(1)

؟!، وكيف حكموا على الثَّاء بالأثاث، دون الثُّفْل والثِّقَل والثَّلْب ونحوه؟!

* وكذلك استدلاله بأوَّل ما يقعُ بصرُه عليه، كما حُكِيَ عن أبي معشر أنه وقفَ هو وصاحبٌ له على واحدٍ من هؤلاء، وكانا مارَّين في خَلَاص محبوس، فسألاه؟ فقال: أنتما في طلب خَلَاص محبوس، فعَجِبا من ذلك، فقال له أبو معشر: هل يَخْلُصُ أم لا؟ فقالا: تذهبان فتلقيانه قد خَلَص. فوُجِد الأمرُ كما قال، فاستدعاه أبو معشر وأكرمَه وتلطَّفَ له في السؤال عن كيفية علم ذلك، فقال: نحن قومٌ نأخذُ الفألَ بالعَين والنظر، فينظر أحدُنا إلى

(1)

من قوله: «وكيف حكموا على التاء» إلى هنا ساقط من (ق)، لانتقال النظر.

ص: 1467

الأرض، ثمَّ يرفعُ رأسَه، فأوَّلُ شيءٍ يقعُ نظرُه عليه يكون الحكمُ به، فلمَّا سألتماني كان أوَّل ما رأيتُ ماءً في قِربة، فقلت: هذا محبوس، ثمَّ لما سألتماني في الثانية نظرتُ فإذا هو قد أُفرِغَ من القِربة، فقلت: يَخْلُص، ونصيبُ تارةً ونخطاءُ تارة

(1)

.

* ومِن هذا أخذُ بعضِهم الجوابَ عن التفاؤل بالأيام، فإذا رأى أحدٌ رؤيا ــ مثلًا ــ يوم أحدٍ أو ابتدأ فيه أمرًا قال: حِدَّةٌ وقوَّة، وإن كان يوم الجمعة قال: اجتماعٌ وأُلفة، وإن كان يوم سبتٍ قال: قَطْعٌ وفُرقة

(2)

.

* ومِن هذا استدلالُ المسؤول بالمكان الذي يضعُ السائلُ يدَه عليه من جسده وقت السؤال، فإن وضعَ يدَه على رأسه فهو رئيسُه وكبيرُه، والرِّجلَين قِوامُه، والأنف بناءٌ مرتفع أو تلٌّ أو نحوه، والفم بئرٌ عذبة، واللحية أشجارٌ وزروع، وعلى هذا النحو.

مِنْ ذلك: ما حُكِيَ عن المهدي أنه رأى رؤيا، وأُنْسِيَها

(3)

، فأصبح مغتمًّا بها، فدُلَّ على رجلٍ كان يعرفُ الزَّجر والفأل، وكان حاذقًا به، واسمه خويلد، فلما دخل عليه أخبره بالذي أراده له، فقال له: يا أمير المؤمنين، صاحبُ الزَّجر والفأل ينظرُ إلى الحركة وأخطار الناس

(4)

، فغضبَ المهديُّ وقال: سبحان الله، أحدُكم يُذْكَرُ بعلمٍ ولا يدري ما هو، ومَسَحَ يدَه على رأسه ووجهه وضربَ بها على فخذه، فقال له: أُخبرك برؤياك يا أمير المؤمنين،

(1)

انظر: «نشوار المحاضرة» (2/ 324).

(2)

(ق، د): «ومزقة» .

(3)

(ق): «وأيسها» .

(4)

وهي حركاتهم.

ص: 1468

قال: هات، قال: رأيتَ كأنك صَعَدْتَ جبلًا، فقال المهدي: لله أبوك يا سحَّار! صدقت، قال: ما أنا بسحَّارٍ يا أمير المؤمنين، غير أنك مسحتَ بيدك على رأسك، فزجرتُ

(1)

لك، وعلمتُ أنَّ الرأسَ ليس فوقه أحدٌ إلا السماء، فأوَّلتُه بالجبل، ثمَّ نزلتَ بيدك إلى جبهتك، فزجرتُ لك بنزولك إلى أرضٍ ملساءَ فيها عينان مالحتان، ثمَّ انحدرتَ إلى سفح الجبل فلقيتَ رجلًا من فخذك قريش؛ لأنَّ أميرَ المؤمنين مسح بعد ذلك بيده على فخذه، فعلمتُ أنَّ الرجلَ الذي لقيه من قرابته، قال: صدقت، وأمرَ له بمالٍ، وأمرَ أن لا يُحْجَبَ عنه.

* ومِنْ ذلك: هؤلاء، أصحابُ الطير السَّانح والبارح، والقَعِيد والناطح.

وأصلُ هذا أنهم كانوا يزجُرون الطيرَ والوحشَ ويُثِيرونها، فما تيامَن منها وأخذ ذات اليمين سمَّوه: سانحًا، وما تياسَر منها سمَّوه: بارحًا، وما استقبلهم منها فهو: الناطح، وما جاءهم من خلفهم سمَّوه: القَعِيد، فمن العرب من يتشاءمُ بالبارح

(2)

ويتبرَّكُ بالسانح، ومنهم من يرى خلاف ذلك

(3)

.

قال المدائني

(4)

: سألتُ رؤبةَ بن العجَّاج: ما السانح؟ فقال: ما ولَّاك

(1)

(ت): «فحزرت» .

(2)

في «بلوغ الأرب» للآلوسي (3/ 312)، هنا زيادة، وهي:«لأنه لا يمكن رميه إلا بأن ينحرف إليه» .

(3)

انظر: «الأمالي» للقالي (2/ 240)، و «العمدة» لابن رشيق (1035).

(4)

أبو الحسن علي بن محمد، الإخباري، العلامة، صاحب التصانيف (ت: 225، وقيل غير ذلك)، له كتاب:«القيافة والفأل والزجر» لم يعثر عليه بعد، ونقل المصنفُ وصاحبا «نثر الدر» و «التذكرة الحمدونية» عنه جملةً من الأخبار. انظر:«السير» (10/ 400)، و «إرشاد الأريب» (1852).

ص: 1469

ميامَنه. قال: قلت: فما البارح؟ قال: ما ولَّاك مياسِرَه. قال: والذي يجيء من قُدَّامك

(1)

فهو الناطح والنَّطيح، والذي يجيءُ من خلفك فهو القاعدُ والقَعِيد.

وقال المفضَّلُ الضبِّي: البارحُ ما يأتيك عن اليمين يريدُ يسارَك، والسانحُ ما يأتيك عن اليسار فيمرُّ على اليمين.

وإنما اختلفوا في مراتبها ومذاهبها؛ لأنها خواطرُ وحُدوسٌ وتخميناتٌ لا أصلَ لها، فمن تبرَّك بشيءٍ مَدَحَه، ومن تشاءم بشيءٍ ذمَّه، ومن اشتهرَ بإحسان الزَّجر عندهم ووجوهه حتى قصَده الناسُ بالسؤال عن حوادثهم وما أمَّلُوه من أعمالهم سمَّوه: عائفًا، وعرَّافًا.

وقد كان في العرب جماعةٌ يُعْرَفون بذلك، كعرَّاف اليمامة، والأبلق الأُسَيْدي

(2)

، والأجلح، وعُروة بن زيد

(3)

، وغيرهم

(4)

.

فكانوا يحكُمون بذلك، ويعملون به، ويتقدَّمون ويتأخَّرون في جميع ما يتقلَّبون فيه ويتصرفون، في حال الأمن والخوف، والسَّعة والضِّيق، والحرب والسِّلم، فإن أنجَحُوا فيما يتفاءلون به مدَحوه وداوموا عليه، وإن عَطِبوا فيه تركوه وذمُّوه، وإن أخفقوا فيه ذمُّوه وتركوه

(5)

.

(1)

(ت): «أمامك» .

(2)

انظر: «الاشتقاق» (206).

(3)

(ق): «يزيد» . تحريف.

(4)

انظر: «الحيوان» (6/ 204)، و «البرصان والعرجان» (58)، و «ثمار القلوب» (200)، و «مروج الذهب» (2/ 311).

(5)

كذا في الأصول، تكررت الجملة بمعناها.

ص: 1470

ومنهم من أنكرها بعقله، وأبطلَ تأثيرَها بنظره، وذمَّ من اغترَّ بها واعتمد عليها وتوهَّم تأثيرَها، فمنهم المرقش

(1)

، إذ يقول:

ولقد غدوتُ وكنتُ لا

أغدو على واقٍ وحاتِمْ

فإذا الأشائمُ كالأيا

مِنِ والأيامِنُ كالأشائمْ

وكذاك لا خيرٌ ولا

شرٌّ على أحدٍ بدائمْ

لا يمنعنَّك مِن بُغا

ءِ الخيرِ تَعْقَادُ التَّمائمْ

قد خُطَّ ذلك في السُّطو

رِ الأوَّلِيَّاتِ القدائمْ

(2)

وقال جهم الهذلي

(3)

:

ألم تر أنَّ العائفَيْن وإن جرت

(4)

لك الطَّيرُ عمَّا في غَدٍ عَمِيانِ

يظنَّان ظنًّا، مرَّةً يخطِئانه

وأخرى على بعض الذي يَصِفانِ

قضى اللهُ أن لا يعلمَ الغيبَ غيرُه

ففي أيِّ أمرِ اللهِ يمتريان

(1)

كذا في الأصول وكثير من المصادر. وهو تحريف. والصواب: «المرقم» ، وهو خُزَز بن لَوذان أحد بني عوف بن سدوس بن شيبان بن ذهل. انظر:«المؤتلف والمختلف» للآمدي (143)، و «الاختيارين» (171)، و «حماسة» البحتري (139)، و «الأزمنة والأمكنة» (2/ 233)، و «عيون الأخبار» (1/ 145)، وذيل «اللآلي» (49).

(2)

الأبيات في المصادر السابقة، و «الحيوان» (3/ 436، 449)، و «المعاني الكبير» (262، 1187)، و «الزهرة» (341)، و «الصاهل والشاحج» (273) وغيرها.

(3)

في «الزهرة» (341): «جهم بن عبد الرحمن الأسدي» .

(4)

«الزهرة» : «ولو حوت» .

ص: 1471

وقال آخر

(1)

:

وما أنا ممَّن يزجرُ الطَّيرَ همُّه

أطارَ غُرابٌ

(2)

أم تعرَّض ثعلبُ

ولا السَّانحاتُ البارحاتُ عشيَّةً

أمَرَّ سليمُ القَرنِ

(3)

أم مرَّ أعضَبُ

وقال آخرُ

(4)

يمدحُ منكِرها:

وليس بهيَّابٍ إذا شدَّ رحلَه

يقولُ: عَدَاني اليومَ واقٍ وحاتمُ

ولكنَّه يمضي على ذاك مُقْدِمًا

إذا صدَّ عن تلك الهَنَاتِ الخُثَارِم

يعني بالواقِ: الصُّرَد، وبالحاتم: الغُراب؛ سمَّوه حاتمًا كأنه عندهم

(5)

يَحتِمُ بالفراق. والخُثَارِم: العاجز، الضعيف الرَّأي، المتطيِّر.

وقد شفى النبيُّ صلى الله عليه وسلم أمَّته في الطِّيَرة حيث سئل عنها، فقال:«ذاك شيءٌ يجدُه أحدُكم فلا يَصُدَّنَّه»

(6)

.

وفي أثرٍ آخر: «إذا تطيَّرتَ فلا ترجِع»

(7)

، أي: امضِ لما قصَدتَ له ولا

(1)

وهو الكميت الأسدي، من هاشميَّةٍ هي من جيِّد شعره. انظر:«شرح هاشميات الكميت» (44)، و «الزهرة» (342)، وغيرهما.

(2)

في عامة المصادر: «أصاح غراب» . وهو أجود.

(3)

في الأصول: «سليم القلب» . وهو تحريف.

(4)

وهو خثيم بن عدي الكلبي، ولقبه: الرقاص، في «التكملة» (وقى)، و «شرح أدب الكاتب» للجواليقي (243)، و «الحيوان» (3/ 437)، وغيرها.

(5)

(ق): «لأنه كأنهم عندهم» .

(6)

أخرجه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم.

(7)

أخرجه معمر في «الجامع» (10/ 403)، ومن طريقه البيهقي في «الشعب» (3/ 371)، وابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» (83) ــ واللفظ له ــ من حديث إسماعيل بن أمية مرسلًا.

وللحديث شواهد. انظر: «التمهيد» (6/ 125)، و «فتح الباري» (10/ 213)، و «السلسلة الصحيحة» (3942)، و «الضعيفة» (4019).

ص: 1472

تَصُدَّنَّك عنه الطِّيَرة.

واعلم أنَّ التطيُّر إنما يضرُّ من أشفقَ منه وخاف، وأمَّا من لم يُبال به ولم يعبأ به شيئًا لم يضرَّه البتَّة، ولا سيَّما إن قال عند رؤية ما يتطيَّر به أو سماعه:«اللهمَّ لا طيرَ إلا طيرُك، ولا خيرَ إلا خيرُك، ولا إله غيرك»

(1)

، «اللهمَّ لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهبُ بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك»

(2)

.

فالطِّيَرة بابٌ من الشِّرك وإلقاءِ الشيطان وتخويفِه ووسوستِه، يكبُر ويعظُم شأنُها على من أتبعَها نفسَه، واشتغلَ بها، وأكثَر العنايةَ بها، وتذهبُ وتضمحلُّ عمَّن لم يلتفت إليها، ولا ألقى إليها بالَه، ولا شغَل بها نفسَه وفكرَه.

(1)

كما ورد في حديثٍ مرفوع سيأتي (ص: 1485). وورد من قول عبد الله بن عمرو، وكعب الأحبار، وسيأتيان (ص: 1489، 1518). ومن قول عبد الله بن عباس، أخرجه أحمد في «الزهد» (238)، وابن أبي شيبة (10/ 443).

(2)

كما ورد في حديث عروة بن عامر الجهني مرفوعًا. أخرجه أبو داود (3919)، والبيهقي في «الكبرى» (8/ 139)، و «الدعوات» (500) وغيرهما بإسناد فيه انقطاعٌ وإرسال.

انظر: «المراسيل» لابن أبي حاتم (149)، و «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 293)، و «مهذب سنن البيهقي» للذهبي (12822)، و «الإصابة» (4/ 490)، و «التهذيب» (7/ 167).

وروي من مرسل عبد الرحمن بن سابط الجمحي، أخرجه أبو داود في «المراسيل» (539) بسندٍ لا بأس به.

ص: 1473

واعلم أنَّ من كان معتنيًا بها قائلًا بها كانت إليه أسرعَ من السَّيل إلى منحدَره، وتفتَّحت له أبوابُ الوساوس فيما يسمعُه ويراه ويُعطاه، ويفتحُ له الشيطانُ فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يُفسِدُ عليه دينَه وينكِّدُ عليه عيشَه.

فإذا سمع: «سفرجلًا» أو أهديَ إليه تطيَّر به، وقال: سفرٌ وجلاء، وإذا رأى «ياسمينًا» أو سمع اسمَه تطيَّر به، وقال: يأسٌ ومَيْن

(1)

، وإذا رأى «سَوْسَنةً» أو سمعها قال: سوءٌ يبقى سنَةً

(2)

، وإذا خرج من داره فاستقبلَه أعورُ أو أشلُّ أو أعمى أو صاحبُ آفةٍ تطيَّر به وتشاءم بيومه.

ويحكى عن بعض الولاة أنه خرج في بعض الأيام لبعض مهمَّاته، فاستقبله رجلٌ أعور، فتطيَّر به، وأمرَ به إلى الحبس، فلمَّا رجع من مهمَّته ولم يَلْقَ شرًّا أمرَ بإطلاقه، فقال له: سألتُك بالله ما كان جُرْمي الذي حبستني لأجله؟ فقال له الوالي: لم يكن لك عندنا جُرم، ولكن تطيَّرتُ بك لما رأيتُك، فقال: فما أصبتَ في يومك برؤيتي؟ فقال: لم ألقَ إلا خيرًا، فقال: أيها الأمير، أنا خرجتُ من منزلي فرأيتُك فلقيتُ في يومي الشرَّ والحبس، وأنت رأيتني فلقيتَ في يومك الخيرَ والسُّرور، فمن الأشأمُ منَّا؟! والطِّيَرة بمن

(3)

كانت؟! فاستحيا منه الوالي ووصَله

(4)

.

(1)

المَيْن: الكذب.

(2)

انظر: «الموشى» (262 - 264)، و «تعبير الرؤيا» لابن قتيبة (35).

(3)

(ت، ص): «ممن» .

(4)

انظر: «التذكرة الحمدونية» (7/ 38)، و «نثر الدر» (7/ 257)، و «جمع الجواهر» (221)، و «محاضرات الأدباء» (1/ 303).

ص: 1474

وقال أبو القاسم الزجَّاجي: لم أر أشدَّ تطيُّرًا من ابن الرُّومي الشاعر، وكان قد تجاوز الحدَّ في ذلك، فعاتبتُه يومًا على ذلك، فقال: يا أبا القاسم: الفألُ لسانُ الزمان، والطِّيَرة عنوانُ الحَدَثان

(1)

.

وهذا جوابُ من استحكمت علَّتُه، فعجز عنه طبيبُه، بمنزلة من قد غلبه الوسواسُ

(2)

في الطهارة، فلا يلتفتُ إلى علمٍ ولا إلى ناصح.

وهذه حالُ من تقطَّعت به أسبابُ التوكُّل، وتقلَّصَ عنه لباسُه، بل تعرَّى منه.

ومن كان هكذا فالبلايا إليه أسرع، والمصائبُ به أعلَق، والمحنُ له ألزَم، بمنزلة صاحب الدُّمَّل والقُرحة الذي يتهدَّى إلى قُرحته كلُّ مؤذٍ وكلُّ مُصادِم، فلا يكادُ يُصْدَمُ من جسده أو يصابُ غيرُها!

والمتطيِّرُ مُتْعَبُ القلب، مُكْمَدُ الصَّدر

(3)

، كاسفُ البال، سيِّاءُ الخُلق، يتخيَّلُ من كلِّ ما يراه أو يسمعه، أشدُّ الناس خوفًا، وأنكدُهم عيشًا، وأضيقُهم صدرًا، وأحزنهم قلبًا، كثيرُ الاحتراز والمراعاة لما لا يضرُّه ولا ينفعُه، وكم قد حَرَمَ نفسَه بذلك من حظٍّ، ومنعها من رزقٍ، وقطعَ عليها من فائدة!

(1)

نقله أبو القاسم الزجاجي في «تفسير رسالة أدب الكتاب» (70، 71) عن شيخه أبي إسحاق الزجاج. وانظر: «رسوم دار الخلافة» للصابي (64)، و «العمدة» لابن رشيق (97)، و «زهر الآداب» (1/ 481 - 491). والحَدَثان: نوائبُ الدهر ومصائبه.

(2)

(ق): «الوساوس» .

(3)

مغموم. وفي (ق): «مكيد الصدر» .

ص: 1475

ويكفيك من ذلك قصةُ النابغة

(1)

مع زبَّان

(2)

بن سيَّار الفزاري حين تجهَّزَ إلى الغزو، فلما أراد الرحيلَ نظر النابغةُ إلى جرادةٍ قد سقطت عليه، فقال: جرادةٌ تَجْرُد، وذاتُ ألوان! غيري

(3)

مَن خرجَ من هذا الوجه. ونَفَذَ زبَّانُ لوجهه ولم يتطيَّر. فلمَّا رجع من غزوه سالمًا غانمًا أنشأ يقول:

تَخَبَّر

(4)

طيرَه فيها زيادٌ

لِتُخْبِرَه وما فيها خبيرُ

أقامَ كأنَّ لقمانَ بن عادٍ

أشارَ له بحكمته مشيرُ

تعلَّمْ أنه لا طيرَ إلا

على متطيِّرٍ وهو الثُّبورُ

بلى شيءٌ يوافِقُ بعضَ شيءٍ

أحايينًا وباطلُه كثيرُ

(5)

ولم يَحْكِ اللهُ التطيُّر إلا عن أعداء الرسل، كما قالوا لرسلهم:{إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس: 18 - 19].

وكذلك حكى الله سبحانه عن قوم فرعون، فقال: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ

(1)

نابغة بني ذبيان. واسمه زياد بن معاوية. انظر: «طبقات فحول الشعراء» (56)، و «جمهرة أنساب العرب» (253).

(2)

(ق): «زياد» . وهو تحريف.

(3)

مهملة في الأصول.

(4)

مهملة في (د). وفي (ت، ص): «تحير» . وهو تحريف.

(5)

الأبيات والقصة في «الحيوان» (3/ 447، 5/ 555)، و «العمدة» (1033)، و «الصاهل والشاحج» (272)، وغيرها.

ص: 1476

اللَّهِ} [الأعراف: 131]، يعني

(1)

: إذا أصابهم الخصبُ والسَّعةُ والعافية قالوا: لنا هذه، أي: نحن الجديرون الحقيقون به، ونحن أهلُه، وإن أصابهم بلاءٌ وضيقٌ وقحطٌ ونحوه قالوا: هذه بسبب موسى وأصحابه أُصِبْنا بشؤمهم، ونُفِضَ علينا غبارُهم، كما يقولُه المتطيِّر لمن يتطيَّر به؛ فأخبر سبحانه أنَّ طائرَهم عنده.

كما قال تعالى عن أعداء رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء: 78].

فهذه ثلاثةُ مواضع حكى فيها التطيُّر عن أعدائه.

وأجابَ سبحانه عن تطيُّرهم بموسى وقومه بأنَّ طائرهم عند الله، لا بسبب موسى، وأجابَ عن تطيُّر أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، وأجابَ عن الرسل ــ لمن تطيَّر بهم ــ بقوله

(2)

: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} .

وأمَّا قوله: {أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} ؛ فقال ابنُ عباس: طائرُهم ما قضى عليهم وقدَّر لهم.

وفي رواية: شؤمُهم عند الله، ومِن قِبَله؛ أي: إنما جاءهم الشؤمُ مِن قِبَله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله

(3)

.

(1)

(ق): «حتى» . تحريف.

(2)

(ق): «وأجاب عن الرسل بقوله» .

(3)

انظر: «تفسير البغوي» (3/ 269).

ص: 1477

وقال أيضًا: إنَّ الأرزاقَ والأقدارَ تتبعُكم

(1)

.

وهذا كقوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، أي: ما يَطِيرُ له من الخير والشرِّ فهو لازمٌ له في عنقه، والعربُ تقول: جرى له الطَّائرُ بكذا من الخير والشرِّ.

قال أبو عبيدة: الطَّائر عندهم: الحظُّ، وهو الذي تسمِّيه العامة: البَخْت

(2)

، يقولون: هذا يَطِيرُ لفلان، أي: يحصُل له.

قلت: ومنه الحديث: «فطارَ لنا عثمانُ بن مظعون»

(3)

، أي: أصابنا بالقُرعة لما اقترعَ الأنصارُ على نزول المهاجرين عليهم.

وفي حديث رويفع بن ثابت: «حتى إنَّ أحدَنا ليَطِيرُ له النصلُ والرِّيش وللآخَرِ القِدْح»

(4)

، أي: يحصُل له بالشركة في الغنيمة.

وقيل في قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} : إنَّ الطَّائر هاهنا هو العمل. قاله الفرَّاء

(5)

. وهو يتضمَّن الردَّ على نفاة القَدَر

(6)

.

(1)

انظر: «معاني القرآن» للنحاس (5/ 485).

(2)

انظر: «مجاز القرآن» (1/ 372)، و «غريب الحديث» للخطابي (2/ 169).

(3)

أخرجه البخاري (1243).

(4)

أخرجه أحمد (4/ 108)، وأبو داود (36)، وغيرهما، وفي إسناده اختلاف، وجوَّده النووي في «المجموع» (2/ 133)، وابن مفلح في «الآداب الشرعية» (3/ 141). وانظر:«مسند البزار» (2317).

(5)

«معاني القرآن» (2/ 118).

(6)

انظر: «نكت القرآن» للقصاب (2/ 108)، و «تهذيب اللغة» (14/ 11، 12)، و «شفاء العليل» (221).

ص: 1478

وخَصَّ العنقَ بذلك من بين سائر أجزاء البدن لأنها محلُّ الطَّوق الذي يُطَوَّقُه الإنسانُ في عنقه، فلا يستطيعُ فَكاكَه، ومن هذا يقال: إثمُ هذا في عنقك، وافعَلْ كذا وإثمُه في عنقي، والعربُ تقول: طُوِّقَها طوقَ الحمامة

(1)

، وهذا رِبقةٌ في رقبته

(2)

.

وعن الحسن: [يا] ابن آدم

(3)

، بُسِطَت

(4)

لك صحيفةٌ إذا بُعِثْتَ قُلِّدْتَها في عنقك

(5)

.

فخصُّوا العنقَ بذلك لأنه موضعُ القلادة والتَّميمة، واستعمالُهم التعاليقَ فيها كثير، كما خُصَّت الأيدي بالذِّكر في نحو:{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]، ونحوه.

وقيل: المعنى: أنَّ الشُّؤمَ العظيمَ هو الذي لهم عند الله من عذاب النار لا هذا الذي

(6)

أصابهم في الدنيا.

وقيل: المعنى: أنَّ سببَ شؤمهم عند الله، وهو عملُهم المكتوبُ عنده، الذي يجزي

(7)

عليه ما يسوؤهم، ويعاقبون عليه بعد موتهم بما وعدهم الله.

(1)

انظر: «جمهرة الأمثال» (1/ 275)، و «ثمار القلوب» (679).

(2)

الرِّبقة في الأصل: عروةٌ في حبلٍ تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها. «النهاية» (ربق).

(3)

في الأصول: «الحسن ابن آدم» . وأضفت (يا) النداء لدفع الاشتباه.

(4)

في الأصول: «لتنظر» . وهو تحريفٌ عن المثبت من «تفسير عبد الرزاق» (2/ 237)، والطبري (17/ 400)، و «الكشاف» (2/ 652)، وغيرها.

(5)

من قوله: «في عنقي» إلى هنا ساقط من (ت).

(6)

(ق): «وهو الذي» . تحريف.

(7)

(ق): «يجري» . بالمهملة.

ص: 1479

ولا طائرَ أشأمُ من هذا.

وقيل: حظُّهم ونصيبهم.

وهذا لا يناقضُ قولَ الرسل: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي: حظُّكم وما نالكم من خيرٍ وشرٍّ معكم، بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين ليس هو من أجلنا ولا بسببنا، بل ببغيكم وعدوانكم.

فطائرُ الباغي الظالم معه، وهو عند الله، كما قال تعالى:{وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78].

ولو فَقِهُوا وفَهِمُوا لما تطيَّروا بما جئتَ به؛ لأنه ليس فيما جاء به الرسولُ صلى الله عليه وسلم ما يقتضي الطِّيَرة، فإنه كلَّه خيرٌ محضٌ لا شرَّ فيه، وصلاحٌ لا فسادَ فيه، وحكمةٌ لا عبثَ فيها، ورحمةٌ لا جَوْرَ فيها، فلو كان هؤلاء القوم من أهل الفهم والعقول السليمة لم يتطيَّروا من هذا؛ فإنَّ الطِّيَرة إنما تكون بالشرِّ، لا بالخير المحض والمصلحة والحكمة والرحمة، وليس فيما أتيتَهم به ــ لو فَهِمُوا ــ ما يوجبُ تطيُّرهم، بل طائرهم معهم بسبب كفرهم وشركهم وبغيهم، وهو عند الله كسائر حظوظهم وأنصبائهم التي ينالونها بأعمالهم وكسبهم.

ويحتملُ أن يكون المعنى: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي: راجعٌ عليكم، فالطَّيرُ الذي حصل لكم إنما يعودُ عليكم.

وهذا من باب القِصاص في الكلام، مثل قوله في الحديث: «أخَذْنا

ص: 1480

فألكَ مِن فيك»

(1)

، ونظيره قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم:«إذا سلَّم عليكم أهلُ الكتاب فقولوا: وعليكم»

(2)

.

فعلى هذا، معنى:{طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي: نصيبُكم طِيَرتُكم التي تطيَّرتم بها؛ لأنهم اعتقدوا الشُّؤمَ فيما لا شؤمَ فيه البتة، فقيل لهم: الشُّؤمُ منكم، وهو نازلٌ بكم. فتأمَّله.

وهذا يُشْبِهُ قوله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: 46]، قيل: جزاءُ مكرهم عنده، فمَكَرَ بهم كما مكروا برسله، ومكرُه تعالى بهم إنما كان بسبب مكرهم، فهو مكرُهم عاد عليهم، وكيدُهم عاد عليهم، فهكذا طِيَرتُهم عادت عليهم وحَلَّتْ بهم. وسُمِّي جزاءُ المكر: مكرًا، وجزاءُ الكيد: كيدًا؛ تنبيهًا على أنَّ الجزاء من جنس العمل.

ولمَّا ذكر سبحانه أنَّ ما أصابهم من حسنةٍ وسيئة ــ أي نعمةٍ ومحنة ــ فالكلُّ منه تعالى بقضائه وقدره، فكأنهم قالوا: فما بالك أنتَ تصيبك الحسناتُ والسِّيئاتُ كما تصيبنا؟ فذكر سبحانه أنَّ ما أصابه من حسنةٍ فمن الله مَنَّ بها عليه، وأنعَم بها عليه، وما أصابه من سيئةٍ فمن نفسه، أي: بسببه ومِن قِبَله، أي: لا لنقصِ ما جاء به، ولا لشرٍّ فيه، ولا لشؤمٍ يقتضي أن تصيبه السيئة، بل بسببٍ من نفسِه ومِن قِبَلَه.

(1)

أخرجه أحمد (2/ 388)، وأبو داود (3917)، وغيرهما من حديث أبي هريرة بإسنادٍ فيه راوٍ لم يسمَّ. وورد التصريح به، وهو ثقة، عند أبي الشيخ في «أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم» (786، 787، 788). وانظر: «السلسلة الصحيحة» (726).

(2)

أخرجه البخاري (6258)، ومسلم (2163) من حديث أنس بن مالك.

ص: 1481

وقد قيل في قوله تعالى: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} : إنَّ طائرهم هاهنا هو السببُ الذي يجيءُ فيه خيرُهم وشرُّهم، فهو عند الله وحده، وهو قَدَرُه وقَسْمُه، إن شاء رزقكم وعافاكم، وإن شاء حرمكم وابتلاكم.

ومِنْ هذا قالوا: طائرُ الله لا طائرُك

(1)

، أي: قدرُ الله الغالبُ الذي يأتي بالحسنات ويصرفُ السيئات، ومنه:«اللهمَّ لا طيرَ إلا طيرُك، ولا خيرَ إلا خيرُك، ولا إلهَ غيرُك» .

وعلى هذا، فالمعنيُّ بطائركم

(2)

: نصيبُكم وحظُّكم الذي يطيرُ لكم

(3)

. ومَنْ فسَّره بالعمل، فالمعنى: طائرُكم الذي طار عنكم من أعمالكم.

وبهذين القولين فُسِّرَ معنى قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} ، وأنه ما طار عنه من عمله، أو طار له: ما قُضِيَ عليه، وقُدِّرَ عليه، وكُتِبَ له من الرزق والأجل والشقاوة والسَّعادة.

فصل

وقد ثبت في «الصحيحين»

(4)

عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال في وصف السَّبعين ألفًا الذي يدخلون الجنة بغير حسابٍ أنهم «الذين لا يكتوون، ولا يَسْتَرقُون،

(1)

انظر: «الزاهر» لابن الأنباري (2/ 325)، و «غريب الحديث» للخطابي (2/ 169)، و «جمهرة الأمثال» (2/ 17)، و «الكشاف» (3/ 371).

(2)

أي: المراد بطائركم.

(3)

(ق): «يطيركم» .

(4)

البخاري (5705)، ومسلم (218) من حديث ابن عباس.

ص: 1482

ولا يتطيَّرون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون»، وزاد مسلمٌ وحده:«ولا يَرْقُون» ، فسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: «هذه الزيادةُ وهمٌ من الراوي

(1)

، لم يقل النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ولا يرقُون» ؛ لأنَّ الراقي محسنٌ إلى أخيه، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الرُّقى فقال:«من استطاع منكم أن ينفعَ أخاه فلينفعه»

(2)

، وقال:«لا بأس بالرُّقى ما لم تكن شركًا»

(3)

، والفرقُ بين الراقي والمسترقِي أنَّ المسترقِي سائلٌ مستَعطٍ ملتفتٌ إلى غير الله بقلبه، والراقي محسِنٌ نافع»

(4)

.

قلت: والنبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يجعلُ تركَ الإحسان المأذون فيه سببًا للسَّبق إلى الجِنان، وهذا بخلاف ترك الاسترقاء، فإنه توكُّلٌ على الله، ورغبةٌ عن سؤال غيره، ورضاءٌ بما قضاه، وهذا شيءٌ وهذا شيء

(5)

.

وفي «الصحيحين»

(6)

من حديث أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى

(1)

وهو سعيد بن منصور، شيخ مسلم. ووقعت كذلك في حديث أنس بن مالك، وإسناده ضعيفٌ جدًّا. انظر:«السلسة الضعيفة» (3690). وفي حديث خباب عند الطبراني في «الكبير» (4/ 56)، وإسناده ساقط.

(2)

أخرجه مسلم (2199) من حديث جابر.

(3)

أخرجه مسلم (2200) من حديث عوف بن مالك الأشجعي.

(4)

انظر: «اقتضاء الصراط» (837)، و «مجموع الفتاوى» (1/ 182، 328)، و «الرد على البكري» (1/ 383). واعترض بعضهم على كلام شيخ الإسلام، كما في الفتح (11/ 409)، وأجاب عنه الشيخ سليمان بن عبد الله في «تيسير العزيز الحميد» (85).

(5)

انظر: «زاد المعاد» (1/ 495)، و «حادي الأرواح» (89).

(6)

«صحيح البخاري» (5754)، و «صحيح مسلم» (2223).

ص: 1483

ولا طِيرَة، وأحبُّ الفألَ الصالح»، ونحوه من حديث أنس

(1)

.

وهذا يحتملُ أن يكون نفيًا، وأن يكون نهيًا، أي: لا تطيَّروا، ولكن قوله في الحديث:«ولا عدوى ولا صفَر ولا هامَة»

(2)

يدلُّ على أنَّ المرادَ النفيُ وإبطالُ هذه الأمور التي كانت الجاهليةُ تُعانيها، والنفيُ في هذا أبلغُ من النهي؛ لأنَّ النفيَ يدلُّ على بطلان ذلك وعدم تأثيره، والنهي إنما يدلُّ على المنع منه.

وقد روى ابنُ ماجه في «سننه»

(3)

من حديث سفيان، عن سلمة، عن عيسى بن عاصم، عن زرٍّ، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الطِّيَرة شركٌ، وما منَّا إلا، ولكنَّ الله يُذْهِبُه بالتوكُّل» .

وهذه اللفظة «وما منَّا إلا

» إلى آخره، مدرجةٌ في الحديث، ليست من كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، كذلك قاله بعض الحفَّاظ

(4)

، وهو الصواب؛ فإنَّ الطِّيَرة نوعٌ من الشرك كما هو في أثرٍ مرفوع:«من ردَّته الطِّيَرة فقد قارَف الشِّرك»

(5)

،

(1)

أخرجه البخاري (5756)، ومسلم (2224).

(2)

أخرجه البخاري (5707)، ومسلم (2220) من حديث أبي هريرة.

(3)

(3538)، وأبو داود (3910)، والترمذي (1614)، وغيرهم. وصححه الترمذي، وابن حبان (6122)، والحاكم (1/ 18) ولم يتعقبه الذهبي.

(4)

منهم: سليمان بن حرب شيخ البخاري، والمنذري، وابن حجر. انظر:«العلل الكبير» للترمذي (485)، و «الترغيب والترهيب» (4/ 33)، و «الفتح» (10/ 213)، و «النكت على ابن الصلاح» (2/ 826، 827). وخالف في ذلك ابنُ القطان في «بيان الوهم والإيهام» (5/ 387)، والألباني في «الصحيحة» (429) جريًا على ظاهر الإسناد.

(5)

أخرجه ابن وهب في «الجامع» (656، 657)، والذهبي في «السير» (16/ 517) من حديث فضالة بن عبيد، من طرقٍ يثبت بها.

وروي من حديث رويفع بن ثابت رضي الله عنه.

أخرجه البزار (2316)، وفي إسناده جهالة. وقال أبو حاتم في «العلل» (2/ 282):«هذا حديثٌ منكر» . وحسَّنه ابن حجر في «مختصر زوائد البزار» (1160).

ص: 1484

وفي أثرٍ آخر: «من أرجعته الطِّيَرة من حاجةٍ فقد أشرك» قالوا: وما كفَّارةُ ذلك؟ قال: «أن يقول أحدُكم: اللهمَّ لا طيرَ إلا طيرُك ولا خيرَ إلا خيرُك»

(1)

.

وفي «صحيح مسلم»

(2)

من حديث معاوية بن الحكم السُّلمي أنه قال: يا رسول الله، ومنَّا أناسٌ يتطيَّرون؛ فقال:«ذلك شيءٌ يجدُه أحدُكم في نفسه فلا يصدَّنَّه» ؛ فأخبر أنَّ تأذِّيه وتشاؤمَه بالتطيُّر إنما هو في نفسه وعقيدته، لا في المتطيَّر به، فوهمُه وخوفُه وإشراكه هو الذي يُطيِّره ويصدُّه، لا ما رآه وسَمِعَه.

فأوضح صلى الله عليه وسلم لأمته الأمر، وبيَّن لهم فسادَ الطِّيَرة؛ ليعلموا أنَّ الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببًا لما يخافونه ويَحْذرونه، لتطمئنَّ قلوبُهم، ولتسكُن نفوسُهم إلى وحدانيته تعالى التي أرسَل بها رسله، وأنزَل بها كتبه، وخلَق لأجلها السموات والأرض، وعمَّر الدارين الجنة والنار، فبسبب التوحيد ــ ومن أجله ــ جعَل الجنةَ دارَ التوحيد ومُوجَباته وحقوقه، والنارَ دارَ الشرك ولوازمه ومُوجَباته، فقطعَ صلى الله عليه وسلم عَلَقَ الشرك من قلوبهم لئلَّا يبقى فيها علقةٌ منها، ولا يتلبَّسوا بعملٍ من أعمال أهله البتَّة.

(1)

أخرجه أحمد (2/ 220)، وابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 101)، وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا بسندٍ فيه لين، ومن يصحح رواية العبادلة عن ابن لهيعة يصححه.

(2)

(537).

ص: 1485

وفي الحديث المعروف: «أقرُّوا الطيرَ على مَكِناتِها»

(1)

.

قال أبو عبيد في «الغريب»

(2)

: أراد: لا تزجروها

(3)

، ولا تلتفتوا إليها، أقرُّوها على مواضعها التي جعلها اللهُ لها ولا تتعدَّوا ذلك إلى غيره، أي: أنها لا تضرُّ ولا تنفع.

وقال غيرُه: المعنى: أقرُّوها على أمكنتها، فإنهم كانوا في الجاهلية إذا أراد أحدُهم سفرًا أو أمرًا من الأمور أثارَ الطَّيرَ من أوكارها، لينظر أيَّ وجهٍ تسلُك، وإلى أيِّ ناحيةٍ تطير، فإن خرجَت

(4)

ذاتَ اليمين خرج لسفره ومضى لأمره، وإن أخَذَت ذاتَ الشمال رجعَ ولم يَمْضِ، فأمرهم أن يُقِرُّوها في أمكنتها، وأبطَل فعلَهم ذلك

(5)

ونهاهم عنه كما أبطَل الاستقسامَ بالأزلام.

(1)

أخرجه أحمد (6/ 381)، وأبو داود (2835)، وغيرهما من حديث سباع بن ثابت عن أم كرز رضي الله عنها.

وصححه ابن حبان (6126)، والحاكم (4/ 237) ولم يتعقبه الذهبي، وأعله في «الميزان» (2/ 115).

ووقع في إسناده اختلافٌ في وصله وانقطاعه، والأشبه أنه متصل.

انظر: «مسند الحميدي» (1/ 168)، و «علل الدارقطني» (5/ق 219)، و «بيان الوهم والإيهام» (4/ 586).

(2)

(2/ 138).

(3)

(د، ت): «تزجروا بها» . (ق): «تزجروا لها» . والمثبت من (ط). وفي «غريب الحديث» : «لا تزجروا الطير» .

(4)

في «تهذيب الآثار» للطبري (1/ 203 - مسند عمر): «فإن طارت» . وهو مصدر المصنف.

(5)

«تهذيب الآثار» : «وأبطل ذلك من فعلهم» .

ص: 1486

وقال ابن جرير: معنى ذلك: أقرُّوا الطَّيرَ التي تزجُرونها في مواضعها المتمكِّنة فيها، التي هي بها مستقرَّة، وامضُوا لأموركم، فإنَّ زجرَكم إيَّاها غيرُ مُجْدٍ عليكم نفعًا، ولا دافعٍ عنكم ضررًا

(1)

.

وقال آخرون: هذا تصحيفٌ من الرواة، وخطأٌ منهم، ولا نعرفُ «المَكِنات» إلا اسمًا لبَيض الضِّباب دونَ غيرها

(2)

.

قال الجوهري: «المَكِن بَيضُ الضَّبِّ. قال

(3)

:

ومَكْنُ الضِّباب طعامُ العُرَيْـ

ـبِ لا تشتهيه نفوسُ العَجَمْ

وفي الحديث: «أقرُّوا الطير على مَكِناتها» ، ومَكُناتها، بالضم والفتح.

قال أبو زياد الكلابي وغيره: إنَّا لا نعرفُ للطَّير مَكِنات، وإنما هي: وُكُنات، فأمَّا المَكِنات فإنما هي للضِّباب.

قال أبو عبيد: ويجوزُ في الكلام، وإن كان المَكِنُ للضِّباب، أن يُجْعَل للطَّير تشبيهًا بذلك، كقولهم: مَشَافرُ الحَبَش، وإنما المَشافرُ للإبل، وكقول زهير

(4)

يصفُ الأسد:

* له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقَلَّمِ *

(1)

«تهذيب الآثار» (1/ 204).

(2)

«تهذيب الآثار» (1/ 203).

(3)

أبو الهندي، شاعرٌ من ولد شبث بن ربعي، من أبياتٍ في «الحيوان» (6/ 89)، و «عيون الأخبار» (3/ 210)، وغيرهما.

(4)

من معلقته، في ديوانه (30)، وصدره:

* لدى أسدٍ شاكي السلاح مقذَّف *

ص: 1487

وإنما له مخالب»

(1)

.

قال هؤلاء: فلعل الراوي سَمِع: أقِرُّوا الطَّيرَ في وُكُناتها، بالواو؛ لأنَّ وُكُناتِ الطَّير عُشُّها

(2)

، وحيث تسقُط عليه من الشَّجر وتأوي إليه

(3)

.

وفي أثرٍ آخر: «[ثلاثٌ] من كنَّ فيه لم ينل الدَّرجات العلى: من تكهَّن، أو استقسَم، أو رجَع من سفرٍ من طِيَرة»

(4)

، وقد رُفِعَ هذا الحديث.

فمن استمسَك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصمَ بحبله المتين، وتوكَّلَ على الله، قطَع هاجسَ الطِّيَرة من قبل استقرارها، وبادَر خواطرَها من قبل استمكانها.

(1)

«الصحاح» (مكن).

(2)

«تهذيب الآثار» (1/ 203): «مواضع عشها» .

(3)

فتحصَّل في «المَكِنات» أربعة أقوال. الأول: أنَّ المراد بها الأمكنة. الثاني: أنها جمع مَكِنة، وهي اسمٌ من التمكُّن. الثالث: أنها مصحفةٌ عن «الوُكُنات» . الرابع: أنها بَيض الضِّباب واستُعير للطير. ولا تعارض بين الأول والثاني.

وانظر: «مناقب الشافعي» للبيهقي (1/ 306، 308)، و «غريب الحديث» لابن الجوزي (2/ 369).

(4)

أخرجه هناد في «الزهد» (1313)، وابن أبي شيبة (9/ 43)، والبيهقي في «الشعب» (19/ 344)، وغيرهم عن أبي الدرداء موقوفًا، وفي إسناده انقطاع.

وروي مرفوعًا، أخرجه البيهقي في «الشعب» (3/ 375)، وهو خطأ، والصواب أنه موقوف. انظر:«علل الدارقطني» (6/ 219).

وروي مرفوعًا عند الطبراني في «الأوسط» (2663)، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 174)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (5/ 201)، وغيرهم، وإسناده شديد الضعف.

ص: 1488

قال عكرمة: كنَّا جلوسًا عند ابن عباس، فمرَّ طائرٌ يصيح، فقال رجلٌ من القوم: خَيْر خَيْر، فقال له ابنُ عباس:«لا خيرَ ولا شرَّ»

(1)

. فبادره بالإنكار عليه؛ لئلَّا يعتقدَ له تأثيرًا في الخير أو الشرِّ.

وخرج طاووسٌ مع صاحبٍ له في سفر، فصاحَ غُرابٌ، فقال الرجل: خير، فقال طاووس: وأيُّ خيرٍ عنده؟! والله لا تصحَبني

(2)

.

وقيل لكعب: هل تتطيَّر؟ فقال: نعم، فقيل له: فكيف تقول إذا تطيَّرت؟ قال أقول: اللهمَّ لا طيرَ إلا طيرُك، ولاخيرَ إلا خيرُك، ولا ربَّ غيرُك، ولا قوَّة إلا بك

(3)

.

وكان بعض السلف يقولُ عند ذلك: طيرُ الله لا طيرُك، وصباحُ الله لا صباحُك، ومساءُ الله لا مساؤك

(4)

.

وقال ابن عبد الحكم

(5)

: لما خرج عمرُ بن عبد العزيز من المدينة، قال مزاحم: فنظرتُ فإذا القمرُ في الدَّبَران

(6)

، فكرهتُ أن أقولَ له، فقلت:

(1)

أخرجه الدينوري في «المجالسة» (937)، وفي إسناده انقطاع، والطبري كما في «فتح الباري» (10/ 215). وفي مصادر كثيرة دون إسناد.

(2)

أخرجه معمر في «الجامع» (10/ 406)، ومن طريقه أبو نعيم في «الحلية (4/ 4).

(3)

انظر: «شعب الإيمان» للبيهقي (3/ 376). والمشهور أنَّ هذا السؤال وقع من كعب لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وسيأتي.

(4)

انظر: «الزاهر» لابن الأنباري (2/ 326).

(5)

في «سيرة عمر بن عبد العزيز» (27).

(6)

منزل من منازل القمر، غير محمودٍ عندهم، والشعراء يذكرونه بالنحوسة. انظر:«الأنواء» لابن قتيبة (37، 38).

ص: 1489

ألا تنظُر إلى القمر ما أحسنَ استواءه في هذه الليلة! قال: فنظرَ عمرُ فإذا هو في الدَّبَران، فقال: كأنَّك أردتَ أن تُعْلِمَني أنَّ القمرَ في الدَّبَران، يا مزاحم، إنَّا لا نخرجُ بشمسٍ ولا بقمر، ولكنَّا نخرجُ بالله الواحد القهار

(1)

.

فإن قيل: فما تقولون فيما رُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يستحبُّ الفأل؛ ففي «الصحيحين»

(2)

من حديث أنسٍ وأبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى ولا طيرة، وخيرُها الفأل» ، وفي لفظ:«وأصدقُها الفأل»

(3)

، وفي لفظ:«وكان يعجبُه الفأل»

(4)

، وفي لفظ مسلم:«ويعجبني الفألُ الصالح، الكلمةُ الحسنة»

(5)

.

وقال: «إذا أبردتُم إليَّ بريدًا فاجعلوه حسَنَ الاسم حسَنَ الوجه»

(6)

.

(1)

ووقع مثل هذا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه. أخرجه الرافعي في «التدوين» (3/ 173)، والخطيب في «القول في حكم النجوم» (184 - مختصره)، ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (18/ 72).

(2)

تقدم.

(3)

كما في حديث عروة بن عامر المتقدم (ص: 1473) تعليقًا. وفي حديث حابس التميمي عند أحمد (5/ 70)، وأبي يعلى (1582)، وفي إسناده اضطراب. انظر:«الاستيعاب» (280). وفي حديث أنس عند ابن وهب في «الجامع» (640)، وإسناده ضعيف. وفي حديث أبي أمامة عند الطبراني في «الكبير» (8/ 164)، وفي إسناده ضعف كذلك.

(4)

أخرجه ابن ماجه (3536)، وصححه ابن حبان (6121). وفي الصحيحين:«ويعجبني الفأل» .

(5)

لم أجده عند مسلم، وهو في البخاري (5756).

(6)

مضى القول فيه (ص: 680).

ص: 1490

ورُوِي عن يحيى بن سعيد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لِلَقْحَةٍ تُحْلَب: «من يحلبُ هذه؟» ، فقام رجلٌ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ما اسمك؟» ، فقال الرجل: مُرَّة، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«اجلس» ، ثمَّ قال:«من يحلبُ هذه؟» فقام رجلٌ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ما اسمك؟» فقال الرجل: حرب، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«اجلس» ، ثمَّ قال:«من يحلبُ هذه؟» فقام رجلٌ، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«ما اسمك؟» فقال الرجل: يعيش، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«يعيشُ احلِب» ، فحَلَب

(1)

.

زاد ابنُ وهبٍ في «جامعه»

(2)

في هذا الحديث: فقام عمرُ بن الخطاب، فقال: أتكلَّمُ يا رسول الله أم أصمُت؟ قال: «بل اصمُت، وأُخبِرُك بما أردتَ، ظننتَ يا عمر أنها طِيَرة، ولا طيرَ إلا طيرُه، ولا خيرَ إلا خيرُه، ولكن أُحِبُّ الفأل الحسن» .

وفي «جامع ابن وهب»

(3)

أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أتي بغلام، فقال: «ما

(1)

أخرجه مالك في «الموطأ» (2789)، ومن طريقه ابن وهب في «الجامع» (652) عن يحيى بن سعيد مرسلًا.

وأخرجه ابن وهب (654)، والحربي في «إكرام الضيف» (65)، والطبراني في «الكبير» (22/ 277)، وابن قانع في «معجم الصحابة» (3/ 239)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (6677)، وابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 72) موصولًا من حديث يعيش الغفاري رضي الله عنه. وفي إسناده لين، وحسنه الهيثمي في «المجمع» (8/ 93).

وله شاهد من حديث خلدة الزرقي عند ابن عبد البر في «الاستيعاب» (136)، ولا يصح، وآخر مرسل عند ابن وهب في «الجامع» (653).

(2)

(655) من مرسل محمد بن إبراهيم التيمي. ولا يصح.

(3)

(49) من مرسل يزيد بن أبي حبيب. وفيه لين.

ص: 1491

سمَّيتم هذا الغلام؟» فقالوا: السائب، فقال «لا تسمُّوه السائب، ولكن عبد الله» ، قال: فغُلِبوا على اسمه، فلم يمُت حتى ذهَب عقلُه.

وفي «صحيح البخاري»

(1)

من رواية الزهري، عن سعيد بن المسيِّب، عن أبيه، أنَّ أباه جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال:«ما اسمك؟» قال: حَزْن، قال:«أنت سَهْل» ، قال: لا أغيِّرُ اسمًا سمَّانيه أبي. قال ابنُ المسيِّب: فما زالت الحُزونةُ فينا بعد.

وروى مالك

(2)

عن يحيى بن سعيد، أنَّ عمر بن الخطاب قال لرجل: ما اسمك؟ قال: جَمْرة، قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب، فقال: ممَّن؟ قال: من الحُرَقة، قال: أين مسكنُك؟ قال: بحرَّة النار، قال: بأيِّها؟ قال: بذاتِ لَظى، فقال له عمر: أدرِك أهلَك فقد احترقوا. فكان كما قال عمر.

وفي غير رواية مالكٍ هذه القصة: عن مجالد، عن الشعبيِّ، قال: جاء رجلٌ من جُهينة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له: ما اسمك؟ قال: شهاب، قال: ابن من؟ قال: ابن جَمْرة، قال: ابن من؟ قال: ابن ضِرَام، قال: ممَّن؟ قال: من الحُرَقة، قال: وأين منزلك؟ قال: بحرَّة النار، قال: ويحك، أدرِك منزلَك ــ أو: أهلَك ــ فقد احترقوا. قال: فأتاهم فألفاهم قد احترق عامَّتُهم

(3)

.

وقالت عائشة رضي الله عنها: «كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يعجبُه التيمُّنُ ما

(1)

(6190).

(2)

في «الموطأ» (2790). وهو منقطع. وقد تقدم (ص: 681).

(3)

انظر: «الإصابة» (1/ 539، 3/ 388).

ص: 1492

استطاع، في تنعُّله، وترجُّله، ووضوئه، وفي شأنه كلِّه»

(1)

.

وفي «صحيح البخاري»

(2)

عن ابن عمر أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «الشُّؤمُ في ثلاث: في المرأة، والدَّار، والدابَّة» .

وفي «الصحيح»

(3)

أيضًا من حديث سهل بن سعدٍ الساعديِّ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنْ كان، ففي الفرس، والمرأة، والمسكن» ، يعني: الشُّؤم.

وفي «الموطأ»

(4)

عن يحيى بن سعيدٍ قال: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله،

(1)

أخرجه البخاري (168)، ومسلم (268).

(2)

(5093). وهو في مسلم (2225).

(3)

«صحيح البخاري» (2859)، و «صحيح مسلم» (2226).

(4)

(2788).

وروي من حديث عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن أبي طلحة، عن أنس. أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (918)، وأبو داود (3924)، والبيهقي في «الكبرى» (8/ 140)، وابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» (82) و «عيون الأخبار» (1/ 150)، وابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 69). وظاهر إسناده الحُسْن، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (1529)، لكن قال البخاري:«في إسناده نظر» ، وذكر ابن عبد البر في «الاستذكار» (27/ 231) أنه روي من حديث أنسٍ مرسلًا، فلعلَّ هذه هي علَّته.

ومن حديث صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر. أخرجه الطبري في «تهذيب الآثار» (26 - مسند علي)، والبزار (6020)، وهو خطأ، كما قال البزار، وثقات أصحاب الزهري يروونه عنه عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن شدَّاد مرسلًا، ومن هذا الوجه المرسل أخرجه معمر في «الجامع» (10/ 411)، وابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 68).

ومن حديث زمعة، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة. أخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/ 231)، وهو منكر، وزمعة كثير الغلط على الزهري.

ومن حديث سكين، عن إبراهيم الهجري، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود. أخرجه البيهقي في «الشعب» (3/ 522)، وابن عدي في «الكامل» (3/ 463) وإسناده ضعيف.

ومن حديث سعد بن إسحاق، عن سهل بن حارثة الأنصاري. أخرجه ابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (4/ 180)، والطبراني في «الكبير» (6/ 104)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (3316)، وهو مرسل، لم تثبت لسهل صحبة. وفي سعد بن إسحاق جهالة. انظر:«التاريخ الكبير» (4/ 100)، و «الإصابة» (3/ 195).

ص: 1493

- صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، دارٌ سكنَّاها، والعددُ كثيرٌ، والمالُ وافر، فقلَّ العددُ وذهَب المال، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«دَعُوها، ذميمةً» .

ولما رأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوم أحدٍ فرسًا قد لوَّحَ بذنبه، ورجلًا قد استلَّ سيفَه، فقال له: «شِمْ سيفك

(1)

، فإني أرى السُّيوفَ سَتُسَلُّ اليوم»

(2)

.

وكذلك قولُه لما رمى واقدُ بن عبد الله عمرَو بن الحضرمي، فقتله؛ فقال:«[واقدٌ] وقَدَت الحرب، وعامرٌ عَمَرَت ا لحرب، وابنُ الحضرمي حَضَرَت الحرب»

(3)

.

ولما خرج النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى بدر استقبَل في طريقه جبلَين، فسأل عنهما، فقالوا: اسمُ أحدهما: مُسْلِح، والآخر: مُخْرِاء

(4)

، وأهلُهما بنو النار وبنو

(1)

أي: أغمِدْه. والشَّيْم من الأضداد، يكون سلًّا وإغمادًا. «النهاية» (شيم).

(2)

أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» (304). ولعل الرجل هو أبو بكر رضي الله عنه. انظر: «غريب الحديث» (2/ 5، 6)، و «كنز العمال» (5/ 868، 871).

(3)

هذا من كلام اليهود، وليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي (ص: 1560).

(4)

الضبط من «معجم ما استعجم» (1227)، و «معجم البلدان» (5/ 72، 129)، و «سبل الهدى والرشاد» (4/ 79، 137). وضبط السمهودي في «وفاء الوفاء» (4/ 459، 472)«مخرئ» بالضم ثم الفتح وكسر الراء المشددة. وسمِّيا بذلك فيما قيل لأن عبدًا كان يرعى بهما غنمًا لسيده، فرجع ذات يوم من المرعى، فقال له سيده: لم رجعت؟ فقال: إن هذا الجبل مُسْلِحٌ للغنم وإن هذا مُخْرِاءٌ لها، فسمِّيا بهما.

ص: 1494

حُراق؛ فكره المرور بينهما، وتركهما على يساره، وسلَك ذات اليمين

(1)

.

وعرَض عبد الله بن جعفر مالًا له على معاوية، يقالُ له: الدعان

(2)

، وقال له: اشتره منِّي، فقال له معاوية: هذا مالٌ يقول: دعني!

ولما نزل الحسينُ بن عليٍّ بكربلاء قال: ما اسمُ هذا الموضع؟ قالوا: كربلاء، قال: كربٌ وبلاء

(3)

.

ولما خرجَ عبد الله بن الزبير من المدينة إلى مكة أنشدَه أحدُ أخويه:

وكلُّ بني أمٍّ سيُمْسُون ليلةً ولم

يبقَ مِنْ أعيانهم

(4)

غيرُ واحد

فقال له عبد الله: ما أردتَ إلى هذا؟ قال: لم أتعمَّده. قال: هو أشدُّ عليَّ

(5)

.

(1)

انظر: «المغازي» للواقدي (1/ 51)، و «سيرة ابن هشام» (3/ 161)، و «تاريخ الطبري» (2/ 433).

(2)

دَعَان (كسحاب)، وادٍ بين المدينة وينبع. وخبر كراهة معاوية لشرائه في «المغانم المطابة» (299)، و «وفاء الوفا» (4/ 275، 405) في سياقٍ آخر.

(3)

انظر: «تاريخ دمشق» (14/ 220). وروي وصف كربلاء بذلك مرفوعًا. انظر: الآحاد والمثاني (1/ 307)، و «المعجم الكبير» للطبراني (3/ 106، 108، 133).

(4)

في الأصول: «أغنامهم» . وهو تحريف. والبيت لمتمم بن نويرة، يرثي أخاه، من أبياتٍ في «الأغاني» (15/ 249).

(5)

انظر: «الحيوان» (3/ 448)، و «تاريخ الطبري» (5/ 341)، و «أنساب الأشراف» (5/ 315).

ص: 1495

وقد كره السَّلفُ ومن بعدهم أن يُتْبَع الميِّتُ بنارٍ إلى قبره مِنْ مِجْمَرٍ

(1)

أو غيره

(2)

، وفي معناه الشَّمْع. قالت عائشة رضي الله عنها:«لا تجعلوا آخرَ زاده أن تَتْبعوه بالنار»

(3)

.

ولما بايعَ طلحةُ بن عبيد الله عليَّ بن أبي طالب ــ وكان أوَّلَ من بايع ــ قال رجل: أوَّلُ يدٍ بايعته يدٌ شلَّاء، لا يتمُّ هذا الأمرُ له

(4)

.

ولما بعث عليٌّ رضي الله عنه معقلَ بن قيسٍ الرِّياحي من المدائن في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذَ على الموصل ويأتي نَصِيبين ورأسَ العين، حتى يأتي الرَّقَّة فيقيمَ بها، فسارَ معقلٌ حتى نزل الحَدِيثة، فبينما هو ذات يومٍ جالسًا إذ نظر إلى كبشين يتناطحان، حتى جاء رجلان فأخذ كلٌّ منهما كبشًا فذهب به، فقال شدَّادُ بن أبي ربيعة الخثعمي: سَتُصْرَفُون من وجهكم هكذا لا تَغْلِبون ولا تُغْلَبون؛ لافتراق الكبشين سليمَيْن. فكان كذلك

(5)

.

ولمَّا بعث معاويةُ في شأن حُجر بن عديٍّ وأصحابه، كان الذي جاءهم أعورَ يقال له: هُدبة، وكانوا ثلاثة عشر رجلًا مع حُجر، فنظر إليه رجلٌ منهم،

(1)

(ت): «في مجمرة» .

(2)

انظر: «مصنف عبد الرزاق» (3/ 417)، وابن أبي شيبة (3/ 272)، و «الأوسط» لابن المنذر (5/ 371).

(3)

علَّقه مالك. انظر: «المدونة» (1/ 256). وفي «مصنف عبد الرزاق» (3/ 419)، و «الاستذكار» (8/ 226) عن بعض السلف.

(4)

انظر: «الثقات» لابن حبان (2/ 268)، و «تاريخ الطبري» (4/ 428).

(5)

انظر: «وقعة صفين» (149)، و «نثر الدر» (7/ 235)، و «التذكرة الحمدونية» (8/ 21).

ص: 1496

فقال: إنْ صدَق الفألُ قُتِلَ نصفُنا؛ لأنَّ الرسول أعور، فلمَّا قتلوا سبعةً وافى رسولٌ ثانٍ ينهى عن قتلهم، فكفُّوا عن الباقين

(1)

.

وقال عوانةُ بن الحكم: لما دعا ابنُ الزبير إلى نفسه قام عبد الله بن مطيع ليبايع، فقبضَ عبد الله بن الزبير يدَه، وقال لعبيد الله بن علي بن أبي طالب: قُم فبايع، فقال عبيد الله: قم يا مصعبُ فبايع، فقام فبايع، فتفاءلَ الناس، وقالوا: أبى أن يبايعَ ابنَ مطيع وبايع مصعبًا، ليكوننَّ في أمره صعوبةٌ أو شرٌّ

(2)

. فكان كذلك.

وقال سلمةُ بن محارب: نزلَ الحَجَّاجُ في محاربته لابن الأشعث ديرَ قُرَّة، ونزل عبد الرحمن بن الأشعث ديرَ الجماجم، فقال الحجَّاج: استقرَّ الأمرُ في يدي وتجمجمَ به أمرُه، والله لأقتلنَّه

(3)

.

وقال عمرو بن مروان الكلبي: حدَّثني مروانُ بن يسار، عن مسلمة مولى يزيد بن الوليد، قال: كنت مع يزيد بن الوليد بناحية القريتين

(4)

قبل خروجه على الوليد بن يزيد، ونحن نتذاكرُ أمره، إذ عرَض لنا ذئبٌ هناك، فتناول يزيدُ قوسَه فرمى الذِّئب، فأصابَ حلقه، فقال

(5)

: قتلتُ الوليد وربِّ الكعبة. فكان كما قال.

(1)

انظر: «عيون الأخبار» (1/ 147)، و «تاريخ الطبري» (5/ 274).

(2)

انظر: «البداية والنهاية» (11/ 667)، و «نثر الدر» (7/ 237).

(3)

انظر: «معجم ما استعجم» (593)، و «معجم البلدان» (2/ 526)، و «تاريخ الطبري» (6/ 347).

(4)

قرية كبيرة من أعمال حمص. «معجم البلدان» (4/ 336).

(5)

في الأصول: «فقلت» . والمثبت من (ط).

ص: 1497

وقال داود بن عيسى بن محمد بن علي: خرج أبي وأبو جعفر غازيَيْن في بلاد الروم، ومعه غلامٌ له، ومع أبي جعفرٍ مولى له، فسنحَت له أربعةُ أَظْبٍ

(1)

، ثمَّ مضت تُخَاتِلنا حتى غابت عنَّا، ثمَّ رجعت، ومضى واحد، فقال لنا أبو جعفر: والله لا نرجعُ جميعًا، فمات مولى أبي جعفر.

وأمرَ بعضُ الأمراء

(2)

جاريةً له تغنِّي، فاندفعت تقول:

همُ قتلوهُ كي يكونوا مكانَه

كما غَدَرَت يومًا بكسرى مَرَازِبُهْ

(3)

فقال: ويلك، غنِّي غير هذا، فغنَّت:

هذا مقامُ مُطَرَّدٍ

هُدِمَتْ منازلُه ودورُه

(4)

فقال: ويلك، غنِّي غير هذا.

فقالت: والله يا سيِّدي ما أعتمدُ إلا ما يسرُّك ويسبقُ إلى لساني ما ترى، ثم غنَّت:

كليبٌ لعمري كان أكثرَ ناصرًا

وأيسرَ جُرْمًا منكَ ضُرِّج بالدَّمِ

(5)

فقال: ما أرى أمري إلا قريبًا. فسمع قائلًا يقول: قُضِيَ الأمر الذي فيه

(1)

جمع ظبي.

(2)

هو الأمين، الخليفة العباسي.

(3)

البيت للوليد بن عقبة، في «الكامل» (916)، و «الحماسة البصرية» (445)، و «تاريخ دمشق» (39/ 541).

(4)

البيت لعبيد بن حنين. وينسب لغيره. انظر: «أخبار القضاة» (1/ 263)، و «الأغاني» (4/ 399).

(5)

البيت للنابغة الجعدي، في ديوانه (143).

ص: 1498

تستفتيان

(1)

.

وقد ذُكِرَ في حرب بني تغلب أنَّ تيمَ اللَّات أرسلَ بنيه في طلب مالٍ له، فلمَّا أمسى سمعَ صوتَ الرِّيح، فقال لامرأته: انظري من أين نشأ السحاب؟ ومن أين نشأت الرِّيح؟ فأخبرته أنَّ الرِّيحَ طالعةٌ من وجه السحاب، فقال: والله إني لأرى ريحًا تُدَهْدِهُ الصَّخر، وتمحقُ الأثر. فلمَّا دخلَ عليه بنوه، قال لهم: ما لقيتم؟ قالوا: سِرْنا من عندك، فلمَّا بلغنا دِعْص

(2)

الشَّعْثَمَيْن إذا بعُفْرٍ

(3)

جاثماتٍ على دِعْصٍ من رمل. فقال: أمشرِّقاتٌ أم مُغرِّبات؟ [قالوا: مغرِّبات]

(4)

. قال: فما ريحُكم: ناطحٌ أم دابرٌ أم بارحٌ أم سانح؟ فقالوا: ناطح. فقال لنفسه: يا تيمَ اللَّات، دِعْصُ الشَّعْثَمَيْن ــ والشَّعْثَم الشيخ الكبير

(5)

ــ، وأنت شَعْثَمُ بني بكر، وجَواثِمُ بدِعْص، وريحٌ نَطَحَت فبرحَت.

(1)

انظر: «تاريخ الطبري» (8/ 512)، و «تاريخ دمشق» (26/ 227)، و «الأغاني» (5/ 138)، و «نثر الدر» (7/ 247)، و «التذكرة الحمدونية» (8/ 23)، و «محاضرات الأدباء» (1/ 301).

(2)

(ق): «غصن» . وهو تحريف. والدِّعص: الكثيب من الرمل المجتمع. والشعثمين: موضع كانت به وقعةٌ مشهورة. وقيل: هما رجلان قتلا في تلك الوقعة، فنسب إليهما الموضع. انظر:«التاج» (شعثم)، و «أمالي القالي» (2/ 131)، وسمط «اللآلي» (112، 113).

(3)

(ت): «بجفر» . والعُفر: ظباءٌ تعلو بياضها حمرة. «المعاني الكبير» (697)، و «اللسان» (عفر).

(4)

من (ط)، وليست في الأصول.

(5)

هذا المعنى أخلَّت به المعاجم، كما أخلَّ جلُّها بهذا الحرف. وانظر:«الاشتقاق» (349)، و «الجمهرة» (1132).

ص: 1499

قال: ثمَّ ماذا؟ قالوا: ثمَّ رأينا ذئبًا قد دلَع لسانَه مِنْ فِيه، وهو يجرد شعره

(1)

عليه. فقال: ذلك حَرَّانُ ثائرٌ ذو لسانٍ عذول، حامي الظَّهر، همُّه سفكُ الدِّماء، وهو أرقمُ الأراقم، يعني مهلهِلًا

(2)

. قال: ثمَّ ماذا؟ قالوا: ثمَّ رأينا ريحًا وسحابًا. قال: فهل مُطِرتم؟ قالوا: بلى. قال: ببرقٍ؟ قالوا: قد كان ذلك. فقال: أماءٌ سائل؟ [قالوا: نعم]. فقال: ذلك دمٌ سائلٌ ومُرْهَفَاتٌ. قال: ثمَّ مه؟ قالوا: ثمَّ طلعنا تلعةَ الصَّلعاء

(3)

، ثمَّ تصوَّبنا من تلِّ فاران. قال: فكنتم سواءً أو مترادفين؟ قالوا: بل سواء. قال: فما سماؤكم؟ قالوا: دَجْناء

(4)

. قال: فما ريحُكم؟ قالوا: ناطِح. قال: فما فعل الجيشُ الذين لقيتُم؟ قالوا: نجونا منه هربًا، وجدَّ القومُ في إثرنا. قال: ثمَّ مه؟ قالوا: ثمَّ رأينا عُقابًا منقضَّةً على عُقاب، فتشابكا وهوَيا إلى الأرض، قال: ذاك جمعٌ رامَ جمعًا فهو لاقِيه. قال: ثمَّ مه؟ قالوا: ثمَّ رأينا سَبُعًا على سَبُعٍ ينهشُه، وبه بقيَّةٌ لم يمت. فقال: ذروني، أما والله إنها لقبيلةٌ مصروعةٌ مأكولةٌ مقتولةٌ من بني وائلٍ بعد عزٍّ وامتناع.

وذكروا أنَّ تيمَ الَّلات هذا مرَّ يومًا بجملٍ أجرب، وعليه ثلاثةُ غَرابِيب

(5)

، فقال لبنيه: ستقفون عليَّ مقتولًا. فكان كما قال، وقُتِل عن قريب.

(1)

كذا في (ت). وهي مهملة في (د، ق). ولست منها على بينة. وفي (ط): «يطحر وشعره عليه» .. وفي «بلوغ الأرب» للآلوسي (3/ 308): «يحرب وشعره عليه» .

(2)

مهلهل بن ربيعة.

(3)

في الأصول: «قلعة الصنعا» . وفي (ط): «قلعة الضعفاء» . وفي «بلوغ الأرب» : «قلعة صنعاء» . ولعل المثبت أقرب. انظر: «معجم البلدان» (3/ 421).

(4)

ممطرةٌ مظلمة. وفي (ت): «دخياء» . والليلة الدخياء: المظلمة.

(5)

جمع غِرْبيب، وهو الشديد السواد. والمراد هنا: الغراب.

ص: 1500

وكذلك قولُ علقمة في مسيره مع أصحابه، وقد مرُّوا في الليل بشيخٍ فانٍ، فقال: لقيتم شيخًا كبيرًا فانيًا يُغالِبُ الدَّهرَ والدَّهرُ يغالبه، يخبركم أنكم ستلقون قومًا فيهم ضعفٌ ووَهن. ثمَّ لقي سَبُعًا، فقال: دَلاجٌ

(1)

لا يُغْلَب. ثمَّ رأى غرابًا ينفضُ بجُؤْجؤه

(2)

، فقال: أبشروا، ألا ترونَ أنه يخبرُكم أن قد اطمأنت بكم الدار؟ فكان كذلك

(3)

.

وذكر المدائنيُّ، قال: خرجَ رجلٌ من لِهْبٍ ــ ولهم عِيافة ــ في حاجةٍ له، ومعه سقاءٌ من لَبَن، فسار صدرَ يومه، ثمَّ عطش، فأناخَ ليشرب، فإذا الغرابُ ينعَب، فأثارَ راحلتَه، ومضى، فلمَّا أجهَده العطشُ أناخَ ليشرب، فنعَب الغراب، فأثارَ راحلته، ثمَّ الثَّالثة، نعَب الغرابُ وتمرَّغ في التراب، فضربَ الرجلُ السِّقاءَ بسيفه، فإذا فيه أسودُ ضخم

(4)

، ثمَّ مضى، فإذا غرابٌ على سِدْرَة، فصاحَ به، فوقعَ على سَلَمَة

(5)

، فصاحَ به، فوقعَ على صخرة، فانتهى إليه، فإذا تحت الصخرة كنز. فلمَّا رجع إلى أبيه، قال له: ما صنعت؟ قال: سرتُ صدرَ يومي، ثمَّ أنختُ لأشرب، فإذا الغرابُ ينعَب. قال: أَثِرْهُ، وإلا لستَ بابني. قال: أثرتُه، ثمَّ أنختُ لأشرب، فنعَب الغراب وتمرَّغ في التراب. قال: اضرب السِّقاءَ، وإلا لستَ بابني. قال: فعلتُ، فإذا أسودُ

(1)

كذا في الأصول. والدَّلوح والدَّلوج: الذي يمرُّ بحمله مثقلًا. انظر: «اللسان» (دلح)، و «شرح أشعار الهذليين» (1/ 138).

(2)

وهو مجتمع رؤوس عظام الصدر.

(3)

لعل هذه الأخبار من كتاب المدائني في القيافة والزجر، كالأخبار التالية.

(4)

في «الجليس والأنيس» : «أسود سالخ» . والمثبت من الأصول والمصدرين الآتيين. والأسود: العظيم من الحيَّات.

(5)

شجرة معروفة ذات شوك يدبغ بورقها. «اللسان» (سلم).

ص: 1501

ضخم. قال: ثمَّ مه؟ قال: ثمَّ رأيتُ غرابًا واقعًا على سِدْرَة. قال: أَطِرْهُ، وإلا لستَ بابني. قال: أطرتُه، فوقَع على سَلَمَة. قال: أَطِرْهُ وإلا لستَ بابني. قال: فوقع على صخرة. قال: أخبرني بما وجدت. فأخبَره!

(1)

.

وذكر أيضًا أنَّ أعرابيًّا أضلَّ ذَوْدًا له وخادمًا، فخرج في طلبهما، إذ اشتدَّت عليه الشمس، وحَمِيَ النهار، فمرَّ برجلٍ يحلبُ ناقة، قال: أظنُّه من بني أسد، فسأله عن ضالَّته. قال: ادْنُ، فاشرَب من اللبن، وأدلُّك على ضالَّتك. قال: فشرب، ثمَّ قال له: ما سمعتَ حين خرجت؟ قال: بكاءَ الصِّبيان، ونباحَ الكلاب، وصراخَ الدِّيكة، وثُغاءَ الشاء. قال: تنهاك عن الغُدُوِّ. ثمَّ مه؟ قال: ثمَّ ارتفع النهار فعرض لي ذئبٌ. قال: كَسُوبٌ

(2)

ذو ظُفر. ثمَّ مه؟ قال: ثمَّ عرضت لي نعامة. قال: ذاتُ ريشٍ، واسمُها حَسَن. هل تركتَ في أهلك مريضًا يُعاد؟ قال: نعم. قال: ارجع إلى أهلك، فذَوْدُك وخادمُك عندهم. فرجع فوجدهم

(3)

.

وذكر أبو خالدٍ التيميُّ قال: كنتُ آخذُ الإبل بضمانٍ فأرعاها في ظَهْر البصرة، فطردَت، فخرجتُ أقفو أثرها حتى انتهيتُ إلى القادسية، فاختلطَت عليَّ الآثار، فقلت: لو دخلتُ الكوفة فتحسَّستُ عنها، فأتيتُ الكُناسة، فإذا الناسُ مجتمعون على عرَّاف اليمامة، فوقفتُ، ثمَّ قلتُ له حاجتي، فقال:

(1)

انظر: «الجليس والأنيس» (3/ 119)، و «نثر الدر» (7/ 238)، و «التذكرة الحمدونية» (8/ 22). وفيها:«فوقع على صخرة. فقال: أحذِني يا بني. فأحذاه» . أي: أعطني. فأعطاه.

(2)

كثير الكسب. والكواسب: الجوارح. وكساب: اسم للذئب.

(3)

انظر: «عيون الأخبار» (1/ 150)، و «الأزمنة والأمكنة» (2/ 188).

ص: 1502

بعيدةُ أشطانِ الهوى جَمْعُ مثلِها

على العاجزِ الباغي الغِنى ذو تكاليفِ

(1)

ولترجعَنَّ. قال: فوجدتُها في الشام مع ابن عمٍّ لي، فصالحتُ أصحابَها عنها.

وقال المدائني: كان بالسَّواد زاجرٌ يقالُ له: مهر، فأُخْبِرَ به بعضُ العمَّال، فجعل يكذِّبُ زجرَه، [ثمَّ] أرسَل إليه، فلمَّا أتاه قال: إني قد بعثتُ بغنمٍ إلى مكان كذا وكذا، فانظُر هل وصلَت أم لم تَصِل؟ وقد عرفَ العاملُ قبل ذلك أنَّ بينها وبين الكلأ رحلة

(2)

، فقال لغلامه: اخرُج فانظُر أيَّ شيءٍ تسمع؟ قال: وكان العاملُ قد أمرَ غلامَه أن يَكْمُنَ في ناحية الدار، ويصيحَ صياحَ ابن آوى

(3)

، فخرجَ غلامُ الزاجر ليسمع، وصاحَ غلامُ العامل، فرجعَ إلى الزاجر غلامُه وأخبره بما سمع، فقال للعامل: قد ذهبَت عنك وقُطِعَ عليها الطريق، فاستِيقَت. قال: فضحِك العامل، وقال: قد جاءني خبرُها أنها وصلت، والصَّائحُ الذي صاحَ غلامي. قال: إن كان الصائحُ الذي صاحَ ابنَ آوى فقد ذهبَت، وإن كان غلامَك فقد قُتِلَ الراعي

(4)

. قال: فبلغه بعد ذلك ذهابُ الغنم وقتلُ الراعي.

(1)

(ت): «تكانف» . (ق، د) و «بلوغ الأرب» (3/ 310): «تكاثف» . والمثبت من (ط)، وهو أشبه. وانظر:«التعليقات والنوادر» (721).

(2)

كذا في الأصول. ولعلها: مرحلة، وهي ما يقطعه السائر في نحو يوم.

(3)

حيوان من الفصيلة الكلبية، أصغر حجمًا من الذئب. «المعجم الوسيط» .

(4)

«نثر الدر» (7/ 236): «قتل راعيها قبل ذهابها» .

ص: 1503

وذكرَ عن العُكليِّ

(1)

أنه خرج في تسعة نفرٍ هو عاشرُهم ليصيبوا الطريق، فرأى غرابًا واقعًا

(2)

على بانة

(3)

، فقال: يا قوم، إنكم تُصابون في سفركم هذا، فازدَجِروا وأطيعوني وارجعوا، فأبوا عليه، فأخَذ قوسَه وانصرف، وقُتِلَت التسعة، فأنشأ يقول:

رأيتُ غرابًا واقعًا فوق بانةٍ

يُنَشْنِشُ أعلى ريشه ويُطايِرُهْ

فقلتُ: غرابٌ واغترابٌ من النوى

وبانٌ فبَيْنٌ من حبيبٍ تُجَاوِرُهْ

(4)

فما أعيفَ العُكْلِيَّ

(5)

لا دَرَّ درُّه

وأَزْجَرَه للطَّير لا عزَّ ناصِرُهْ

(6)

وذكرَ عن كُثيِّر عَزَّة أنه خرج يريدُ مصر، وكانت بها عَزَّة، فلقيه أعرابيٌّ من نَهْد، فقال: أين تريد؟ قال: أريدُ عَزَّة بمصر، قال: ما رأيتَ في وجهك؟

(1)

وهو السمهريُّ بن بشر العكلي.

(2)

(ت): «واقفا» .

(3)

شجرٌ سبط القوام ليِّن، يُتطيَّر به. انظر:«المعجم الوسيط» (77)، و «الموشى» (262، 265).

(4)

في بعض المصادر: «تحاذره» . وفي بعضها: «تعاشره» . وفي سياق البيت هنا غرابة، والمشهور فيه:

فقلت - ولو أني أشاء زجرته

بنفسي - للنهدي: هل أنت زاجره

فقال: غرابٌ واغتراب

(5)

في «الصاهل والشاحج» (609) وعامة المصادر التي نسبَت الأبيات لكثيِّر في خبره الآتي: «النهدي» . قال أبو العلاء: «نهدٌ ليس فيها عيافةٌ على ما يذكرون، وإنما الرواية: فما أعيفَ اللِّهبيَّ» . وكذا رواها ابن حزم في «الجمهرة» (376).

(6)

انظر: «الفوائد والأخبار» لابن دريد (10)، و «الحيوان» (3/ 441)، و «الأغاني» (21/ 263). والمشهور نسبة الأبيات لكثيِّر، كما سيأتي.

ص: 1504

قال: رأيتُ غرابًا ساقطًا

(1)

فوق بانةٍ ينتفُ ريشَه، فقال: ماتت عَزَّة، فانتهَره

(2)

ومضى، فوافى مصرَ والناسُ منصرفون من جنازتها، فأنشأ يقول:

فأمَّا غرابٌ، فاغترابٌ وغُربةٌ

وبانٌ، فبَينٌ من حبيبٍ تعاشِرُهْ

(3)

وذكرَ عنه أيضًا أنه هَوِيَ امرأةً من قومه بعد عَزَّة، يقالُ لها: أمُّ الحويرث، وكانت فائقةَ الجمال، كثيرةَ المال، فقالت له: اخرُج فأصِب مالًا وأتزوَّجُك، فخرَج إلى اليمن وكان عليها رجلٌ من بني مخزوم، فلمَّا كان ببعض الطريق عرَض له قُوطٌ ــ والقُوط: الجماعةُ من الظِّباء ــ، فمضى، ثمَّ عرَض له غرابٌ ينعَبُ ويفحصُ الترابَ على رأسه، فأتى كُثيِّر حيًّا من الأزد ثمَّ مِنْ بني لِهْب، وهم من أزجر العرب

(4)

، وفيهم شيخٌ قد سقط حاجباه على عينيه، فقصَّ عليه ما عرَض له، فقال: إن كنتَ صادقًا لقد ماتت هذه المرأةُ أو تزوَّجت رجلًا من بني كعب، فاغتمَّ كُثيِّر لذلك، وسقى بطنُه

(5)

، فكان ذلك سببَ موته، وقال في ذلك:

(1)

كذا في الأصول وبعض المصادر. وهو مستقيم.

(2)

في الأصول: «فانتهى» . تحريف. وفي طرة (د): «لعله: فما انتهى» .

(3)

انظر: ديوان كثيِّر (462)، و «اعتلال القلوب» (644)، و «عيون الأخبار» (1/ 148)، و «الموشى» (265)، و «زهر الآداب» (480)، و «وفيات الأعيان» (4/ 112)، و «الذخيرة» لابن بسام (8/ 535)، وغيرها.

(4)

انظر: «الاشتقاق» (491)، و «جمهرة أنساب العرب» (376)، و «نسب معد واليمن الكبير» (480)، و «ثمار القلوب» (223).

(5)

أصابه الاستسقاء، وهو تجمُّع سائلٍ مَصْليٍّ في التجويف البريتوني لا يكاد يبرأ منه. «المعجم الوسيط» .

ص: 1505

تيمَّمْتُ لِهْبًا أبتغي العلمَ عندهم

وقد رُدَّ علمُ العائفين إلى لِهْبِ

تيمَّمْتُ شيخًا منهمُ ذا أمانةٍ

بصيرًا بزَجْرِ الطَّيرِ مُنحنِيَ الصُّلْبِ

فقلتُ له: ماذا ترى في سوانحٍ

وصوتِ غرابٍ يفحصُ الأرضَ بالتُّربِ

فقال: جرى الطَّيرُ السَّنيحُ ببَيْنِها

ونادى غرابٌ بالفِراقِ وبالسَّلْبِ

فإن لا تكن ماتت فقد حالَ دونها

سواكَ حَلِيلٌ باطنٌ من بني كعبِ

(1)

وقال رجلٌ من بني أسد: تزوجتُ ابنةَ عمٍّ لي، فخرجتُ أريدُها، فلقيني شيءٌ كالكلب، مندلعًا

(2)

لسانُه في شِقٍّ، فقلت: أخفقتُ

(3)

وربِّ الكعبة، فأتيتُ القوم، فلم أصِل إليها، ونافَرني أهلُها، فخرجتُ عنهم فمكثتُ ثلاثة أيَّام، ثمَّ بدا لي فيهم، فخرجتُ نحوهم، فلقيتُ كلبةً تَنْطِفُ أطْباؤها

(4)

لبنًا، فقلت: أدركتُ وربِّ الكعبة، فدخلتُ بأهلي، وحملَت منِّي بغلامٍ، ثمَّ آخر، حتى ولدَت أولادًا.

وذكرَ عن يحيى بن خالد قال: حجَّ رجلان، فقيل لهما: هاهنا امرأةٌ تزجُر، قال: فأتَياها فسَألاها، فقال أحدُهما: ما نُضْمِر؟ فقالت: إنك لتسألني عن رجلٍ محبوسٍ مقيَّد. ثم سألها الآخر، فقالت: إنك لتسألني عن رجلٍ مقتول. فقال: هو والله الذي سأل عنه صاحبي، فقالت: هو كما قلتُ. فسألاها عن تفسير ذلك، فقالت: أمَا رأيتما الجاريةَ التي مرَّت ومعها ديكٌ

(1)

انظر: ديوان كثيِّر (469)، و «الأغاني» (9/ 33)، و «عيون الأخبار» (1/ 148).

(2)

(ق، د): «مندلها» . (ت): «مدلها» . (ط): «مدليا» . وفي «بلوغ الأرب» (3/ 212): «مندلع» .

(3)

(ت): «اجففت» . (ط) و «بلوغ الأرب» : «أخفت» . ولم تحرر في (ق).

(4)

تقطر ضروعُها.

ص: 1506

مشدودُ الرِّجلَين حين سألني الأول؟ قالا: بلى، قالت: فلذلك قلتُ: إنه محبوسٌ مقيَّد، قالت: ورأيتُ الجاريةَ حين رجعَت وسألتَني أنت والدِّيكُ مذبوحٌ، فقلتُ: مقتول.

وذكر المدائنيُّ أنَّ أهلَ بيتٍ من العَجم كانوا إذا غاب الرجلُ عن أهله ولم يأتهم خبرُه أربعَ حِجَج زوَّجوا امرأتَه، فتزوَّج منهم رجلٌ جارية، وغاب أربع حِجَجٍ لا يأتيهم، فأرادوا تزويجَ الجارية وكانت مشغوفةً به، فقالت: دعوني سنةً أخرى، فأبوا عليها، وأتوا زاجرًا لهم، فخرج الزاجرُ ومعه تليمذٌ له، فتلقَّاهم قومٌ يحملونَ ميتًا ويدُ الميت على صدره، فقال الزاجرُ لتلميذه: مات الرجل، قال: ما مات، ألا ترى يد الميت على صدره يخبرُ أنه هو الميت والرجلُ صحيح

(1)

؟ فرجعا فأخبرا الحاكمَ أنه لم يمت، فأمر بتأجيلها سنة، فجاء زوجُها بعد شهر.

وذكر ابن قتيبة عن إبراهيم بن عبد الله، قال: دخل عليَّ رجلٌ ضريرٌ زاجرٌ من العرب، وقد خبَّأتُ شيئًا به

(2)

عنوانٌ من كتابٍ

(3)

، فقلت: أخبرني بما خبَّأتُ لك، فنظرَ قليلًا، ثمَّ قال: هو من نبات الماء

(4)

. فقلت: زدني في

(1)

«نثر الدر» (7/ 235): «والرجل حي» .

(2)

رسمها في الأصول يشبه: «سحا به» . ولعل ذاك الشيء قطعة من ورق البَردي، وهو نباتٌ مائي، وكان كثيرًا منتشرًا لذلك العهد. انظر:«المخطوط العربي» للحلوجي (25، 26).

(3)

كذا في الأصول، مضبوطةً مجوَّدة في (د). وفي (ط): كتان.

(4)

الحرفان الأولان مهملان في (د). وفي (ق، ت): «بنات» . وبنات الماء كل ما يألف الماء من السمك والطير والضفادع. انظر: «المرصع» لابن الأثير (307، 316)، و «ثمار القلوب» (344). ولا موضع لها هنا.

ص: 1507

الشرح، قال: هو قطعةٌ من كتاب. فسألتُه عن ذلك، فقال: سألتني عن الخَبِيء، فوقعَت يدي على الحَصِير

(1)

، فقلتُ: إنه من نبات الماء، فقلتَ: زدني، وصاح صائحٌ من جانب الدار: يا سُوَيْد

(2)

، فقضيتُ بالسَّواد، وبأنه صغيرٌ للتصغير، ثمَّ نظرتُ فلم يكن ذلك أولى بأن يكون قطعةً من كتاب!

قال: وسألتُه عن مِقراضَيْن في يدي قد أدخلتُ إصبعي في حلقتَيهما، فقال: في يدك خاتمٌ من حديد.

وذكر ابنُ عيينة، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مُطْعِم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه كان يرمي الجمرة، فجاءته حصاةٌ فأصابت جبهتَه، ففَصَدَت منه عِرْقًا، فقال رجلٌ من بني لِهْب: أُشْعِرَ أميرُ المؤمنين

(3)

، وربِّ الكعبة، لا يقومُ هذا المقام أبدًا. فقُتِلَ بعد ذلك

(4)

.

وثبت في «الصحيحين»

(5)

من حديث ابن عمر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الشُّؤمُ في الدَّار، والمرأة، والفَرس» .

(1)

وكان يصنعُ من البَردي. انظر: «اللسان» (حصر).

(2)

«يا سويد» ليست في (ق).

(3)

أي: أُعْلِم بعلامةٍ للقتل، كما تُعْلَم البدنةُ إذا سيقت للنحر. وقيل: إن أحدهم قال ذلك، يريد أنه دُمِّي كما يدمَّى الهدي، فسمعه اللِّهبي، فذهب به إلى القتل؛ لأن العرب كانت تقول للملوك إذا قُتِلوا: أُشعِروا؛ صيانةً لهم عن لفظ القتل. انظر: «تهذيب اللغة» (1/ 416)، و «النهاية» (شعر).

(4)

أخرجه معمر في «الجامع» (10/ 402)، ومن طريقه ابن سعد (3/ 334)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (1/ 50) وغيرهما، بإسنادٍ صحيح.

ورواه ابن سعد (5/ 63) من وجهٍ آخر لا بأس به.

(5)

«صحيح البخاري» (2858)، و «صحيح مسلم» (115/ 2225).

ص: 1508

وفي لفظٍ فيهما: «لا عدوى، ولا صَفَر، ولا طِيَرة، وإنما الشُّؤمُ في ثلاثة: المرأة، والفَرس، والدار»

(1)

.

وفي لفظٍ آخر فيهما: «إن يكن الشُّؤمُ في شيءٍ حقًّا، ففي الفَرس، والمسكن، والمرأة»

(2)

.

وفي بعض طرق البخاري

(3)

: «والدَّابة» ، بدل:«الفرس» .

وفي «الصحيحين»

(4)

أيضًا عن سهل بن سعد السَّاعدي، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إن كان، ففي المرأة، والفَرس، والمسكن» . يعني الشؤم. وقال البخاري: «إن كان في شيءٍ» .

وفي «صحيح مسلم»

(5)

عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن كان في شيءٍ، ففي الرَّبْع، والخادم، والفَرس» .

وفي «صحيح مسلم»

(6)

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ» .

(1)

«صحيح البخاري» (5753)، و «صحيح مسلم» (116/ 2225).

(2)

«صحيح مسلم» (117/ 2225) بلفظ «إن يكن من الشؤم شيءٌ حقٌّ ففي الفرس والمرأة والدار» . ولم أجده في البخاري. وعزاه ابن حجر في «الفتح» (6/ 61) لمسلم. وانظر: «الجمع بين الصحيحين» لعبد الحق (3/ 383).

(3)

(5753).

(4)

«صحيح البخاري» (2859، 5095)، و «صحيح مسلم» (2226) واللفظ له.

(5)

(2227). والرَّبع: الدار.

(6)

(2221)، و «صحيح البخاري» (5771).

ص: 1509

وفي «موطأ مالك»

(1)

أنه بلغه عن بكير بن عبد الله بن الأشجِّ، عن أبي عطية أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا عدوى، ولا هامَ، ولا صَفَر، ولا يَحُلُّ المُمْرِضُ على المُصِحِّ، ولْيَحْلُل المُصِحُّ حيث شاء» ، قالوا: يا رسول الله، وما ذاك؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«إنه أذى» .

وقال ابنُ وهب

(2)

: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أنَّ أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: كان أبو هريرة رضي الله عنه يحدِّثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى» ، وحدَّثنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ» الحديث، ثمَّ صمتَ أبو هريرة بعد ذلك عن قوله:«لا عدوى» ، وأقام [على] أنْ «لا يُورِد مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ» الحديث.

قال: فقال الحارثُ بن أبي ذباب ــ وهو ابن عمِّ أبي هريرة ــ: قد كنتُ أسمعُك يا أبا هريرة تحدِّثنا مع هذا الحديث حديثًا آخر قد سكتَّ عنه، كنتَ تقول: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى» ، فأبى أبو هريرة أن يحدِّث ذلك

(3)

،

(1)

(2724 - رواية يحيى بن يحيى). وهو مرسلٌ من هذا الوجه. وأبو عطية لا يعرف. انظر: «تعجيل المنفعة» (2/ 508)، و «الاستذكار» (27/ 53)، و «التمهيد» (24/ 188)، وما سيأتي (ص: 1588).

وروي عن مالك موصولًا، وفي إسناده اختلاف، ولا يثبت.

انظر: «علل الدارقطني» (11/ 231)، و «سنن البيهقي» (7/ 217)، و «أطراف الموطأ» للداني (273)، و «بذل الماعون» لابن حجر (299).

(2)

في «الجامع» (627)، ومن طريقه مسلم (2221)، وابن حبان (6115)، وابن عبدالبر في «التمهيد» (24/ 190)، و «الاستذكار» (27/ 58).

(3)

كذا في الأصول و «التمهيد» . وفي كتاب ابن وهب ومسلم وابن حبان: «أن يعرف ذلك» . وهو أصح. وفي «الاستذكار» وما يأتي (ص: 1574): «أن يحدث بذلك» .

ص: 1510

وقال: «لا يُورِد مُمْرِضٌ على مُصِح» ، فماراه الحارثُ في ذلك، حتى غضبَ أبو هريرة ورَطَنَ بالحبشيَّة، فقال للحارث: أتدري ماذا قلتُ؟ قال: لا، قال أبو هريرة: إني أقول: أبيتُ، أبيتُ.

قال أبو سلمة: فلعمري لقد كان أبو هريرة يحدِّثنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا عدوى» ، فلا أدري أنسيَ أبو هريرة، أو نسخَ أحدُ القولين الآخر؟

قالوا: فهذا النهيُ عن إيراد المُمْرِض على المُصِحِّ إنما هو من أجل الطِّيَرة التي تلحقُ المُصِحَّ.

وقال مسدَّد: حدثنا يحيى، عن

(1)

هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحضرميِّ بن لاحق، عن سعيد بن المسيب، قال: سألتُ سعدَ بن مالك عن الطِّيَرة؟ فانتهَرني، وقال: من حدَّثك؟ فكرهتُ أن أحدِّثه، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا عدوى، ولا طِيَرة، ولا هامة، وإن كانت الطِّيَرة في شيءٍ ففي الفَرس والمرأة والدَّار، فإذا كان الطَّاعون بأرضٍ وأنتم بها فلا تَفِرُّوا»

(2)

.

وفي «صحيح مسلم»

(3)

عن الشَّريد بن سُويد، قال: كان في وفد ثقيفٍ رجلٌ مجذوم، فأرسل إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّا قد بايعناك فارْجِع» .

وفي حديثٍ آخر: «فِرَّ من المجذوم فِرارَك من الأسد»

(4)

.

(1)

في الأصول: «بن» . تحريف. ويحيى هو القطان، وهشام الدستوائي.

(2)

أخرجه مسدد، كما في «إتحاف الخيرة» (2/ 422) ومن طريقه أحمد (1/ 174، 181)، وأبو يعلى (766)، والبزار (1082)، والطحاوي في «شرح مشكل الآثار» (4/ 443)، وغيرهم. وصححه ابن حبان (6127)، وهو كما قال. وانظر:«علل الدارقطني» (4/ 370).

(3)

(2231).

(4)

أخرجه البخاري (5707) من حديث أبي هريرة.

ص: 1511

فصل

الآن التقت حَلَقتا البِطان

(1)

، وتداعى:«نَزَالِ»

(2)

الفريقان.

نعم؛ وهاهنا أضعافُ أضعاف ما ذكرتم، وأضعافُ أضعافه.

وللناس هاهنا مسلكان عليهما يعتمدُ المتكلِّمون في هذا الباب، لا نرتضيهما، بل نسلكُ مسلك العدل والتوسُّط بين طرفي الإفراط والتفريط، فدينُ الله بين الغالي فيه والجافي عنه، كالوادي

(3)

بين الجبلين والهدى بين الضَّلالتين، وقد جعَل اللهُ هذه الأمَّة هي الأمَّة الوسط في جميع أبواب الدِّين، فإذا انحرف غيرُها من الأمم إلى أحد الطَّرفين كانت هي في الوسَط:

* كما كانت وسطًا في باب أسماء الربِّ تعالى وصفاته بين الجهميَّة المعطِّلة

(4)

والمشبِّهة الممثِّلة.

* وكانت وسطًا في باب الإيمان بالرسل بين من عَبَدَهم وأشركهم بالله كالنصارى، وبين من قَتَلهم وكذَّبهم

(5)

. فآمنوا بهم وصدَّقوهم ونزَّلوهم منازلهم من العبوديَّة

(6)

.

* وكانت وسطًا في القَدَر بين الجبريَّة الذين ينفونَ أن يكون للعبد فعلٌ

(1)

مثلٌ للأمر يبلغ الغاية في الشدَّة، وقد مرَّ تفسيره (ص: 828).

(2)

اسم فعل، بمعنى: انزِل. انظر: «ما بنته العرب على فَعَال» للصغاني (86).

(3)

في الأصول: «والوادي» . تحريف. وانظر: «مدارج السالكين» (2/ 496).

(4)

في الأصول: «والمعطلة» . خطأ.

(5)

كاليهود. انظر: «الجواب الصحيح» (2/ 144، 261).

(6)

(ق): «وتركوهم من العبودية» . وهو تحريف.

ص: 1512

أو كسبٌ أو اختيارٌ البتَّة، بل هو مجبورٌ مقهورٌ لا اختيارَ له ولا فِعل، وبين القدريَّة النُّفاة الذين يجعلونه مستقلًّا بفعله، ولا يدخلُ فعلُه تحت مقدور الربِّ تعالى، ولا هو واقعٌ بمشيئة الله تعالى وقدرته.

فأثبتوا له فعلًا وكسبًا واختيارًا حقيقةً، هو متعلَّقُ الأمر والنهي والثواب والعقاب، وهو مع ذلك واقعٌ بقدرة الله ومشيئته، فما شاء الله من ذلك كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا تتحرَّكُ ذرَّةٌ إلا بمشيئته وإرادته، والعبادُ أضعفُ وأعجزُ أن يفعلوا ما لم يشأه الله ولا قدَّره ولا أقدَرهم عليه

(1)

.

* وكذلك هم وسطٌ في المطاعم والمشارب بين اليهود الذين حُرِّمت عليهم الطيباتُ عقوبةً لهم، وبين النصارى الذي يستحلُّون الخبائث، فأحلَّ اللهُ لهذه الأمة الوسط الطيبات وحرَّم عليهم الخبائث.

* وكذلك لا تجدُ أهلَ الحقِّ دائمًا إلا وسطًا بين طرفي الباطل، فأهلُ السُّنة وسطٌ في النِّحَل، كما أنَّ المسلمين وسطٌ في الملل.

* وكذلك ما نحن فيه من هذا الباب؛ فإنهم وسطٌ بين النُّفاة الذين ينفونَ الأسبابَ جملة، ويمنعون ارتباطَها بالمُسبَّبات وتأثيرَها بها، ويَسُدُّون هذا الباب بالكلِّية، ويضطربون فيما ورد من ذلك، فيقابلون بالتكذيب منه ما يُمْكِنُهم تكذيبُه، ويُحِيلون على الاتِّفاق والمصادفة ما لا قِبَل لهم بدفعه، من غير أن يكون لشيءٍ من هذه الأمور مدخلٌ في التأثير، أو تعلُّقٌ بالسببيَّة البتَّة

(2)

.

ص: 1513

وربما يقولون: إنَّ أكثر ذلك مجرَّدُ خيالاتٍ وأوهامٍ في النفوس، تنفعلُ عنها النفوسُ كانفعال أرباب الخيالات والأمراض والأوهام. وليس عندهم وراء ذلك شيء.

وهذا مسلكُ نفاة الأسباب وارتباط المسبَّبات بها، وهذا جوابُ كثيرٍ من المتكلِّمين

(1)

.

والمسلكُ الثاني مسلكُ المُثبِتين لهذه الأمور، المعتقدين لها، الذاهبين إليها، وهي عندهم أقوى من الأسباب الحِسِّيَّة أو في درجتها، ولا يلتفتون إلى قدح قادحٍ فيها، والقدحُ فيها عندهم من جنس القدح في الحِسِّيَّات والضروريَّات.

ونحن لا نسلكُ سبيل هؤلاء ولا سبيل هؤلاء، بل نسلكُ سبيلَ التوسُّط والإنصاف، ونجانبُ طريقَ الجَور والانحراف، فلا نُبطِلُ الشرعَ بالقدر، ولا نكذِّبُ بالقدر لأجل الشرع، بل نؤمنُ بالمقدور ونصدِّقُ الشرع؛ فنؤمنُ بقضاء الله وقَدَره وشرعه وأمره، ولا نُعارِض بينهما فنُبطِل الأسبابَ المقدورة أو نقدحُ في الشريعة المنزَّلة، كما فعله الطائفتان المنحرفتان.

فإحداهما: أبطلَت ما قدَّره الله من الأسباب بما فَهِمَته من الشرع. وهذا من تقصيرها في الشرع والقدر.

والأخرى: توصَّلَت إلى القدح في الشرع وإبطاله بما شاهدَته من تأثير الأسباب وارتباطها بمسبَّباتها لمَّا ظنت أنَّ الشرع نفاها، فكذَّبت بالشارع.

فالطائفتان جانيتان على القدر والشرع.

(1)

انظر: «المفهم» للقرطبي (5/ 621)، و «مدارج السالكين» (3/ 496)، و «إعلام الموقعين» (2/ 298).

ص: 1514

لكنْ الموفَّقون المهديُّون

(1)

آمنوا بقدر الله وشرعه، ولم يعارِضوا أحدَهما بالآخر، بل صدَّق كلٌّ منهما الآخر عندهم وقرَّره، فكان الأمرُ تفصيلًا للقَدَر وكاشفًا عنه وحاكمًا عليه، والقدرُ أصلٌ للأمر، ومنفذٌ له، وشاهدٌ له، ومصدِّقٌ له، فلولا القدرُ لما وُجِدَ الأمرُ ولا تحقَّق ولا قام على ساقِه، ولولا الأمرُ لما تميَّز القدرُ ولا تبيَّنت مراتبه وتصاريفُه، فالقدرُ مظهرٌ للأمر، والأمرُ تفصيلٌ له، والله سبحانه له الخلقُ والأمر، فلا يكونُ إلا خالقًا آمرًا، فأمرُه تصريفٌ لقدره، وقدرُه منفذٌ لأمره.

ومن أبصرَ هذا حقَّ البصر، وانفتحت له عينُ قلبه؛ تبيَّن له سرُّ ارتباط الأسباب بمسبَّباتها وجرَيانها فيها، وأنَّ القدحَ فيها وإبطالها إبطالٌ للأمر، وتبيَّن له أنَّ كمالَ التوحيد بإثبات الأسباب، لا أنَّ إثباتَها نقضٌ

(2)

للتوحيد كما زعَم منكروها، حيث جعلوا إبطالَها من لوازم التوحيد، فجَنَوا على التوحيد والشرع، والتزموا تكذيبَ الحِسِّ والعقل، ووقعوا في أنواعٍ من المكابرة سلَّطت عليهم أعداءَ الشريعة، وأوجبَت لهم أن أساؤوا بها الظنَّ وتنقَّصوها وزعموا أنها خطابيَّةٌ وإقناعيَّةٌ وجدليَّة، لا برهانيَّة، فعَظُمَ الخَطب، وتفاقَم الأمر، واشتدَّت البليَّةُ بالطائفتين

(3)

، وقد قيل: إنَّ العدوَّ العاقل خيرٌ من الصَّديق الجاهل.

ونحن ــ بحمد الله ــ نبيِّنُ الأمرَ في ذلك، ونوضِّحُه إيضاحًا يتبيَّن به

(1)

(ت): «المهذبون» .

(2)

(ق): «نقص» . بالمهملة.

(3)

المتكلمين، والفلاسفة. انظر:«تهافت الفلاسفة» (239)، و «تهافت التهافت» (2/ 781)، وما تقدم (ص: 1418، 1421).

ص: 1515

تصديقُ كلٍّ من الأمرين للآخر، وشهادتُه له، وتزكيتُه له، ونبيِّنُ ارتباطَ كلٍّ من الأمرين بالآخر، وعدمَ انفكاكه عنه، فنقولُ وبالله التوفيق:

* أمَّا ما ذكرتم من أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبُه الفألُ الحسَن؛ فلا ريب في ثبوت ذلك عنه، وقد قَرَن ذلك بإبطال الطِّيَرة؛ كما في «الصحيحين»

(1)

من حديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا طِيَرة، وخيرُها الفأل» ، قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: «الكلمةُ الصالحةُ يسمعُها أحدُكم» .

فابتدأهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بإزالة الشُّبهة وإبطال الطِّيَرة؛ لئلَّا يتوهَّموها عليه في إعجابه بالفأل الصَّالح.

وليس في الإعجاب بالفأل ومحبَّته شيءٌ من الشرك، بل ذلك إبانةٌ عن مقتضى الطَّبيعة ومُوجَب الفطرة الإنسانيَّة التي تميلُ إلى ما يلائمها ويوافقُها مما ينفعها.

كما أخبرهم أنه حُبِّبَ إليه من الدنيا النساءُ والطِّيب

(2)

.

(1)

«صحيح البخاري» (5754)، و «صحيح مسلم» (2223).

(2)

أخرجه أحمد (3/ 128)، والنسائي (3949)، وغيرهما من حديث ثابت عن أنس مرفوعًا.

وصحَّحه الحاكم (2/ 160) على شرط مسلم، ولم يتعقبه الذهبي، وصححه المصنف في «زاد المعاد» (1/ 150، 4/ 336)، وابن الملقن في «البدر المنير» (1/ 501)، وقوَّاه الذهبي في «الميزان» (2/ 177)، وجوَّده العراقي في «المغني عن حمل الأسفار» (1/ 378)، وحسَّنه ابن حجر في «التخليص» (3/ 133)، وصححه في «الفتح» (11/ 345).

وروي عن ثابت مرسلًا، وهو أشبه. انظر:«علل الدارقطني» (30 ق/أ - نسخة المكتبة الناصرية)، و «الضعفاء» للعقيلي (2/ 160، 4/ 420)، و «سنن البيهقي» (7/ 78)، و «المختارة» (1533، 1737).

وروي نحوه من حديث عائشة، أخرجه أحمد (6/ 72)، وفي إسناده رجلٌ مبهم.

ص: 1516

وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه وسلم كان يُعجِبُه الفاغِية

(1)

ــ وهي نَوْرُ الحِنَّاء ــ، وكان يحبُّ الحلواء والعسل

(2)

، وكان يحبُّ الشرابَ الباردَ الحُلْو

(3)

، ويحبُّ حُسْنَ الصَّوت بالقرآن والأذان، ويستمعُ إليه

(4)

، ويحبُّ معالي الأخلاق ومكارم الشِّيم

(5)

.

وبالجملة، يحبُّ كلَّ كمالٍ وخيرٍ وما يفضي إليهما.

(1)

أخرجه أحمد (3/ 152)، والعقيلي في «الضعفاء» (3/ 47)، والطبراني في «الكبير» (1/ 254) من حديث عبد الحميد بن قدامة عن أنس.

وعبد الحميد ذكره ابن حبان في «الثقات» (5/ 126)، ونقل العقيلي عن البخاري قوله:«عبد الحميد بن قدامة عن أنس في الفاغية، لا يتابع عليه» .

واشتبه على الحافظ ابن حجر في «أطراف المسند» (1/ 428)، فظنه عبد الحميد بن المنذر بن الجارود، الثقة، وتابعه محققو «المسند» (12546 - مؤسسة الرسالة).

وانظر: «السلسلة الضعيفة» (1757، 4278).

(2)

أخرجه البخاري (5431)، ومسلم (1474) من حديث عائشة.

(3)

أخرجه أحمد (6/ 38)، والترمذي (1895)، وغيرهما من حديث الزهري عن عروة عن عائشة. وصححه الحاكم (4/ 137)، ولم يتعقبه الذهبي.

وروي من حديث الزهري مرسلًا، وهو الصواب، وإليه ذهب الترمذي، وأبو زرعة في «العلل» (2/ 36)، والدارقطني في «العلل» (5/ق 28/أ)، والبيهقي في «الشعب» (10/ 472).

(4)

كما استمع إلى قراءة أبي موسى الأشعري.

(5)

وهذا معلومٌ بالضرورة من هديه وسيرته صلى الله عليه وسلم.

ص: 1517

والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجابَ بسماع الاسم الحسَن ومحبَّته وميلَ نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياحَ والاستبشارَ والسُّرورَ باسم السَّلام، والفلاح، والنجاح، والتهنئة، والبشرى، والفوز، والظَّفر، والغُنْم، والرِّبح، والطِّيب، ونيل الأمنية، والفرح، والغَوث، والعزِّ، والغنى، وأمثالها.

فإذا قرعَت هذه الأسماءُ الأسماعَ استبشرَت بها النفس، وانشرحَ لها الصَّدر، وقويَ بها القلب، وإذا سمعَت أضدادَها أوجَب لها ضدَّ هذه الحال، فأحزنها ذلك وأثار لها خوفًا وطِيَرةً وانكماشًا وانقباضًا عمَّا قصدَت له وعزمَت عليه، فأورثَ لها ذلك ضررًا في الدنيا ونقصًا في الإيمان ومقارفةً للشرك.

كما ذكره أبو عمر في «التمهيد»

(1)

من حديث المقراء، عن ابن لهيعة: حدَّثنا ابن هبيرة، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من أرجعَته الطِّيَرةُ من حاجته فقد أشرَك» ، قال: وما كفَّارةُ ذلك يا رسول الله؟ قال: «أن يقول أحدُهم: اللهمَّ لا طيرَ إلا طيرُك، ولا خيرَ إلا خيرُك، ولا إلاه غيرُك، ثمَّ يمضي لحاجته» .

وذكر ابن وهبٍ

(2)

قال: أخبرني أسامةُ بن زيد، قال: سمعتُ نافع بن جبير بن مطعم يقول: سأل كعبُ الأحبار عبد الله بن عمرو: هل تتطيَّر؟ فقال: نعم، قال: فكيف تقول إذا تطيَّرت؟ قال: أقول: اللهمَّ لا طيرَ إلا طيرُك،

(1)

(24/ 201). وتقدم الكلام عليه (ص: 1485).

(2)

في «الجامع» (660)، وابن أبي شيبة (9/ 45، 10/ 336)، وغيرهما، وإسناده حسن.

ص: 1518

ولا خيرَ إلا خيرُك، ولا ربَّ غيرُك، ولا قوَّة إلا بك، فقال كعب: إنه أفقهُ العرب، والله إنها لكذلك في التوراة.

وهذا الذي جعله الله سبحانه في طِباع الناس

(1)

وغرائزهم من الإعجاب بالأسماء الحسنة، والألفاظ المحبوبة، هو نظيرُ ما جعَل في غرائزهم من الإعجاب بالمناظر الأنيقة، والرِّياض المُنوَّرَة، والمياه الصَّافية، والألوان الحسنة، والروائح الطيِّبة، والمطاعم المستلَذَّة، وذلك أمرٌ لا يمكنُ دفعُه، ولا يجدُ القلبُ عنه انصرافًا، فهو ينفعُ المؤمن، ويَسُرُّ نفسَه، وينشِّطُها، ولا يضرُّها في إيمانها وتوحيدها.

وأخبر صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة أنَّ الفأل من الطِّيَرة، وهو خيرُها، فقال:«لا طِيَرة، وخيرُها الفأل» ، فأبطَل الطِّيَرة، وأخبر أنَّ الفأل منها، ولكنه خيرُها، ففصَل بين الفأل والطِّيَرة لما بينهما من الامتياز والتضادِّ ونَفْعِ أحدهما ومضرَّةِ الآخر.

ونظيرُ هذا منعُه من الرُّقى بالشرك وإذنُه في الرُّقية إذا لم تكن شركًا

(2)

لما فيها من المنفعة الخالية عن المفسدة.

وقد اعتاصَ هذا الفُرقانُ على أفهام كثيرٍ ممَّن غَلُظ عن معرفة الحقِّ والدِّين حجابُه، وغَلُظ طبعُه، وكثُف عنه فهمُه، فقال: السَّامعُ إذا سمع مثلًا: يا بشَارة، أو: أبشِر، أو: لا تخَف، أو: يا نَجِيح، ونحوه، وسمعَ ضدَّ ذلك، فإمَّا أن يوجب الأمران ما يُشاكِلُهما، وإمَّا أن لا يوجبا شيئًا؛ فأمَّا أن يوجبَ

(1)

(ت): «طبائع الناس» .

(2)

أخرجه مسلم (2200) من حديث عوف بن مالك الأشجعي.

ص: 1519

أحدُهما دون الآخر فلا وجهَ له

(1)

.

وهذا [قولُ]

(2)

من عَمِيَ عن الهدى وصَمَّ عن سماعه، وإنما تحصُل الهدايةُ من ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشرقُ ألفاظُها في صدر من تلقَّاها بالتصديق والقبول، فأذعَن لها بالسمع والطاعة وقابلَها بالرضا والتسليم، وعَلِمَ أنها منبعُ الهدى ومَعِينُ الحقِّ.

ونحنُ ــ بحول الله

(3)

ــ نوضِّحُ لمن اشتبه ذلك عليه فُرقانَ ما بينهما، وفائدةَ الفأل، ومضرَّةَ الطِّيَرة، فنقول: الفألُ والطِّيَرة وإن كان مأخذُهما سواءً، ومُجتَناهما واحدًا، فإنهما يختلفان بالمقاصد، ويفترقان بالمذاهب؛ فما كان محبوبًا مستحسَنًا تفاءلوا به وسَمَّوه: الفأل، وأحبُّوه ورَضُوه

(4)

، وما كان مكروهًا قبيحًا منفِّرًا تشاءموا به وكرهوه وتطيَّروا منه، وسَمَّوه: طِيَرة؛ تفرقةً بين الأمرين، وتفصيلًا بين الوجهين.

وسئل بعضُ الحكماء، فقيل له: ما بالكم تكرهون الطِّيَرة، وتحبُّون الفأل؟ فقال: لنا في الفأل عاجلُ البشرى وإن قَصُرَ عن الأمل، ونكرهُ الطِّيَرة لما يلزمُ قلوبَنا من الوَجَل.

وهذا الفرقانُ حسنٌ جدًّا، وأحسنُ منه ما قاله ابنُ الروميِّ في ذلك: الفألُ لسانُ الزمان، والطِّيَرةُ عنوانُ الحَدَثان

(5)

.

(1)

انظر: «الحيوان» (3/ 460)، و «الأزمنة والأمكنة» (2/ 354).

(2)

زيادة تقديرية.

(3)

(ق): «بحمد الله» . خطأ.

(4)

(ق): «ورضيوه» .

(5)

تقدم (ص: 1475).

ص: 1520

وقد كانت العربُ تَقْلِبُ الأسماء تطيُّرًا وتفاؤلًا، فيسمُّون اللديغَ: سليمًا؛ [تفاءلوا] باسم السَّلامة، وتطيَّروا من اسم السَّقم، ويسمُّون العطشانَ: ناهلًا، أي: سيَنْهَل ــ والنَّهلُ: الشُّرب ــ؛ تفاؤلًا باسم الرِّي، ويسمُّون الفلاةَ: مَفازة، أي: مَنجاة؛ تفاؤلًا بالفوز والنجاة، ولم يسمُّوها مَهْلكةً؛ لأجل الطِّيَرة.

وكانت لهم مذاهبُ في تسمية أولادهم:

فمنهم من سمَّوه بأسماءٍ تفاؤلًا بالظَّفر على أعدائهم، نحو: غالب، وغَلَاّب، ومالك، وظالم، وعارم، ومُنازِل، ومُقاتِل، ومُعارِك، ومُسْهِر، ومُؤرِّق، ومُصَبِّح، وطارق.

ومنهم من تفاءل بالسلامة، كتسميتهم بسالم، وثابت، ونحوه.

ومنهم من تفاءل بنيل الحظوظ والسعادة، كسعد، وسعيد، وأسعد، ومسعود، وسُعْدى، وغانم، ونحو ذلك.

ومنهم من قصد التسميةَ بأسماء السِّباع ترهيبًا لأعدائهم، نحو: أسد، وليث، وذئب، وضِرْغام وشِبْل، ونحوها.

ومنهم من قصد التسمية بما غَلُظَ وخَشُن من الأجسام تفاؤلًا بالقوة، كحَجَر، وصخر، وفِهْر، وجندل.

ومنهم من كان يخرجُ من منزله وامرأتُه تَمْخَض، فيسمِّي ما تلده باسم أوَّل ما يلقاه كائنًا ما كان، مِن سَبُعٍ أو ثعلبٍ أو ضبٍّ أو كلبٍ أو ظبيٍ أو جحشٍ

(1)

أو غيره

(2)

.

(1)

في الأصول: «حشيش» . وهو تحريف.

(2)

«الاشتقاق» لابن دريد (5، 6). وانظر: «الاشتقاق» للأصمعي (73)، و «الحيوان» (1/ 324)، و «فقه اللغة» للثعالبي (631)[و"الصاحبي" لابن فارس (62)].

ص: 1521

وكان القومُ على ذلك إلى أن جاء الله بالإسلام ومحمَّد رسوله صلى الله عليه وسلم، ففرَّق بين الهدى والضلال، والغيِّ والرشاد، وبين الحسَن والقبيح، والمحبوب والمكروه، والنافع والضار، والحقِّ والباطل، فكره الطِّيَرةَ وأبطَلها، واستحبَّ الفأل وحَمِدَه، فقال:«لا طِيَرة، وخيرُها الفأل» ، قالوا: وما الفأل؟ قال: «الكلمةُ الصالحةُ يسمعُها أحدُكم» .

وقال عبد الله بن عباس: «لا طِيَرة، ولكنَّه فأل، والفألُ المُرْسَل: يسار، وسالم، ونحوه من الاسم، يَعْرِضُ لك على غير ميعاد»

(1)

.

وسئل بعضُ العلماء عن الفأل؟ فقال: أن تسمعَ وأنت قد أضللتَ بعيرًا أو شيئًا: يا واجِد، أو وأنت خائف: يا سالم

(2)

.

وقال الأصمعي: سألتُ ابن عونٍ عن الفأل؟ فقال: أن يكون مريضًا فيسمع: يا سالم

(3)

.

وأخبِرك عن نفسي بقضيَّةٍ من ذلك، وهي أني أضللتُ بعض الأولاد يوم التَّروية بمكَّة وكان طفلًا، فجَهِدْتُ في طلبه والنِّداء عليه في سائر الرَّكْب إلى وقت يوم الثامن، فلم أقْدِر له على خبر، فأيستُ منه، فقال لي إنسان: إنَّ هذا عَجْز، اركب وادخُل الآن إلى مكَّة فتطلَّبه فيها، فركبتُ فرسًا، فما هو إلا أن استقبلتُ جماعةً يتحدَّثون في سَواد الليل في الطريق وأحدُهم يقول:

(1)

أخرجه ابن وهب في «الجامع» (624) بإسنادٍ ضعيف جدًّا.

(2)

انظر: «الحيوان» (3/ 461).

(3)

أخرجه ابن قتيبة في «تأويل مختلف الحديث» (84)، والخطابي في «غريب الحديث» (1/ 183)، و «معالم السنن» (4/ 235)، وابن عبد البر في «التمهيد» (24/ 192).

ص: 1522

ضاع له شيءٌ فلقيه، فلا أدري انقضاء كلمته كان أسرع أم وِجْداني الطِّفلَ مع بعض أهل مكة في مَحْمَله، عرفتُه بصوته.

فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا طِيَرة، وخيرُها الفأل» ينفي

(1)

عن الفأل مذهبَ الطِّيَرة من تأثيرٍ أو فعلٍ أو شرك، ويخلِّصُ الفألَ منها.

وفي الفُرقان بينهما فائدةٌ كبيرة، وهي أنَّ التطيُّر هو التشاؤمُ من الشيء المرئيِّ أو المسموع، فإذا استعملها الإنسانُ فرجع بها من سفره، وامتنع بها مما عزَم عليه؛ فقد قَرع بابَ الشرك، بل وَلَجَه وبراء من التوكُّل على الله، وفتحَ على نفسه باب الخوف والتعلُّق بغير الله والتطيُّر مما يراه أو يسمعُه، وذلك قاطعٌ له عن مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} ، و {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} ، فيصير قلبُه متعلِّقًا بغير الله عبادةً وتوكُّلًا، فيفسُد عليه قلبُه وإيمانُه وحالُه، ويبقى هدفًا لسهام الطِّيَرة، ويُسَاقُ إليه من كلِّ أوب، ويقيِّض له الشيطانُ من ذلك ما يُفْسِدُ عليه دينَه ودنياه، وكم ممَّن هلك بذلك، وخسر الدنيا والآخرة!

فأين هذا من الفأل الصالح السَّارِّ للقلوب، المؤيِّد للآمال

(2)

، الفاتح بابَ الرجاء، المسكِّن للخوف، الرابط للجأش، الباعث على الاستعانة بالله والتوكل عليه، والاستبشار المقوِّي لأمله، السَّارِّ لنفسه؟! فهذا ضدُّ الطِّيَرة.

فالفألُ يفضي بصاحبه إلى الطاعة والتوحيد، والطِّيَرة تفضي بصاحبها إلى المعصية والشرك؛ فلهذا استحبَّ صلى الله عليه وسلم الفألَ وأبطلَ الطِّيَرة.

(1)

(د): «شفى» . (ق): «يشفي» . (ت): «فنفى» . والمثبت من (ط).

(2)

(ت): «المؤيد بالإيمان» .

ص: 1523

وأمَّا حديثُ الَّلقْحة

(1)

، ومنعُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حربًا ومُرَّة من حَلْبِها، وإذنُه ليعيش في حلبها؛ فليس هذا بحمد الله في شيءٍ من الطِّيَرة؛ لأنه محالٌ أن ينهى عن شيءٍ ويُبطِلَه ثمَّ يتعاطاه هو، وقد أعاذه الله سبحانه من ذلك.

قال أبو عمر

(2)

: «ليس هذا عندي من باب الطِّيَرة؛ لأنه محالٌ أن ينهى عن شيءٍ ويفعلَه، وإنما هو من طلب الفأل الحسن، وقد كان أخبرَهم عن أقبح الأسماء أنه حربٌ ومُرَّة، فأكَّد ذلك، حتى لا يتسمَّى بها أحد» .

ثمَّ ساقَ من طريق ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الله بن عامر اليَحْصُبي، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

(3)

أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خيرُ الأسماء عبد الله وعبدُ الرحمن، وأصدقُها حارثُ وهمَّام؛ حارثٌ يحرثُ لدنياه، وهمَّامٌ يَهُمُّ بالخير»

(4)

، وكان يكره

(1)

المتقدم (ص: 1491).

(2)

في «التمهيد» (24/ 71). وانظر: «الاستذكار» (27/ 234).

(3)

سقط من (ق): «عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه» .

(4)

هكذا وقع الحديث موصولًا في «التمهيد» بزيادة معاوية رضي الله عنه، وأخرجه ابن وهب في «الجامع» (53) عن ابن لهيعة عن جعفر عن ربيعة عن عبد الله بن عامر مرسلا. وهو أشبه. والوصل من أوهام ابن لهيعة.

وهو حديثٌ شاميٌّ مرسل، لا يصحُّ موصولًا، وروي من مرسل عبد الوهاب بن بخت، والزهري، وأبي وهب الكلاعي، ومكحول. انظر:«المراسيل» لابن أبي حاتم (117، 118)، و «العلل» (2/ 312)، و «الإصابة» (7/ 461).

وفي «صحيح مسلم» (2132) من حديث ابن عمر مرفوعًا: «إن أحب أسمائكم إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن» .

ص: 1524

الاسمَ القبيح؛ لأنه كان يتفاءلُ بالحسن من الأسماء

(1)

.

ثمَّ ساق من طريق ابن وهب: حدثني ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن عبد الرحمن بن جبير، عن يعيش الغفاري، قال: دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم يومًا بناقة، فقال:«من يحلبُها؟» فقام رجل، فقال: أنا، فقال:«ما اسمك؟» قال: مُرَّة، قال:«اقعد» ، ثمَّ قام آخر، فقال:«ما اسمك؟» قال: «جمرة» ، قال:«اقعد» ، ثمَّ قام رجل، فقال:«ما اسمك؟» قال: يعيش، قال:«احلبها»

(2)

.

وروى حمَّاد بن سلمة، عن حميد، عن بكر بن عبد الله المزني: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توجَّه لحاجةٍ يحبُّ أن يسمع: يا نَجِيح، يا راشد، يا مبارك

(3)

.

وقد روي من حديث بريدة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يتطيَّر من شيء، ولكن كان إذا سأل عن اسم الرجل وكان حسنًا رُئي البشاشةُ في وجهه، وإن كان سيئًا رُئي ذلك في وجهه، وإذا سأل عن اسم الأرض وكان حسنًا رُئي ذلك فيه.

(1)

في الأصول: «الأشياء» . والمثبت من «التمهيد» .

(2)

تقدم تخريجه (ص: 1491).

(3)

أخرجه الحسن بن موسى الأشيب في جزئه (57)، والحارث بن أبي أسامة في «مسنده» (803 - زوائده).

وأخرجه الترمذي (1616)، والطبراني في «الأوسط» (4181)، وغيرهما موصولًا من حديث حماد بن سلمة عن حميد عن أنس. وقال الترمذي:«حسن صحيح غريب» ، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (2052، 2053).

ورجَّح البخاري الرواية المرسلة. انظر: «النكت الظراف» (1/ 181).

ص: 1525

قلت: الحديثُ رواه الإمام أحمد في «مسنده»

(1)

: حدثنا عبد الصمد: حدثنا هشام، عن قتادة، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لا يتطيَّر من شيء، ولكنه إذا أراد أن يأتي أرضًا سأل عن اسمها، فإن كان حسنًا رُئي ذلك في وجهه، وكان إذا بعَث رجلًا سأل عن اسمه، فإن كان حسنَ الاسم رُئي البِشْرُ في وجهه، وإن كان قبيحًا رُئي ذلك في وجهه.

وقال أبو عمر

(2)

: حدثنا عبد الوارث: حدثنا قاسم: حدثنا أحمد بن زهير: حدثنا حسين بن حريث: حدثنا أوس بن عبد الله بن بريدة، عن الحسين بن واقد، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم لا يتطيَّر، ولكن كان يتفاءل، فركب بريدةُ في سبعين راكبًا من أهل بيته من بني أسلم، فتلقَّى النبيَّ صلى الله عليه وسلم ليلًا، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«من أنت؟» قال: أنا بريدة، فالتفت إلى أبي بكر، قال:«يا أبا بكر، بَرَدَ أمرُنا وصَلَح» ، ثمَّ قال:«ممَّن؟» ، قال: من أسلم. قال لأبي بكر: «سَلِمْنا» ، ثمَّ قال:«ممَّن؟» ، قال: من بني سَهْم، قال: «خرجَ سهمُك

(3)

»

(4)

.

(1)

(5/ 347). وتقدم الكلام عليه (ص: 680).

(2)

في «التمهيد» (24/ 73)، و «الاستذكار» (27/ 235)، و «الاستيعاب» (185)، وفي مطبوعة الأخير سقطٌ وتخليط.

(3)

(ق): «سهمان» . تحريف.

(4)

وأخرجه أيضًا البغوي في «معجم الصحابة» (216)، وابن عدي في «الكامل» (1/ 410)، والخطابي في «غريب الحديث» (1/ 181)، وأبو الشيخ في «أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم» (271)، وغيرهم. وإسناده ضعيفٌ جدًّا، أوس بن عبد الله بن بريدة متروك.

انظر: «اللسان» (1/ 470)، و «بيان الوهم والإيهام» (4/ 409)، و «السلسلة الضعيفة» (4112، 5450).

ص: 1526

قال أحمد بن زهير: قال لنا أبو عمَّار

(1)

: سمعتُ أوسًا يحدِّثُ هذا الحديث بعد ذلك عن أخيه سهل بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن بريدة، فأعدتُ ثلاثًا: من حدَّثك؟ قال: سهلٌ أخي.

والذي يكشفُ أمرَ حديث الَّلقْحة ما زاده ابنُ وهب في «جامعه»

(2)

في الحديث، فقال بعد أن ذكره: فقام عمرُ بن الخطاب فقال: أتكلَّمُ يا رسول الله أم أصمُت؟ قال: «بل اصمت، وأُخبرك بما أردتَ، ظننتَ يا عمرُ أنها طِيَرة، ولا طيرَ إلا طيرُه، ولا خيرَ إلا خيرُه، ولكن أحبُّ الفألَ الحسن» .

فزال بذلك تعلُّق المتطيِّرين، ووضح أمرُ الحديث، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

ويمكنُ أن يكون هذا منه صلى الله عليه وسلم على سبيل التأديب لأمَّته، لئلَّا يتسمَّوا بالأسماء القبيحة، وليبادرَ من أسلمَ منهم وله اسمٌ قبيحٌ إلى إبداله بغيره من غير إيجابٍ منه ولا إلزام، ولكن لوجهين من الاستحباب:

أحدهما: انتقالُهم عن مذاهب آبائهم ومقاصد سلفهم الفاسدة القبيحة، التي يُحْزِنُ بها بعضُهم بعضًا عند سماعها ومُوافاة أهلها ومخالطتهم ومفاجأتهم، لِمَا يبقى في ذلك من آثار الطِّيَرة الكامنة في الغريزة، فإن سَلِمَ العبدُ منها، وجاهَد نفسَه عليها عند لُقيا صاحبها وسماعه لاسم أخيه، لم يَسْلَمْ من الكَمَد وحُزن القلب.

(1)

أحمد بن زهير هو ابن أبي خيثمة، وأبو عمار هو الحسين بن حريث.

(2)

(655) من مرسل محمد بن إبراهيم التيمي. ولا يصح.

ص: 1527

وقد يؤدِّي ذلك إلى البغضاء، وإلى ضربٍ من النُّفرة والتفرقة، كالصَّديق يدعوه الصَّديقُ القبيحُ الاسم فقد يتمنَّى خاطرُه أنه لم يصحبه

(1)

ولا رآه ولا سَمِعَ اسمَه، حتَّى إذا صاحَ به ودعاه ذو الاسم الحسَن ابتهجَ إليه وأقبلَ عليه وسُرَّ بصياحه ودعائه له؛ لراحة قلبه إلى حُسْن اسمه.

فقد يدنو

(2)

البعيدُ من قلبه ويبعُد الصديقُ من نفسه من أجل اسمه، فكيف به إذا رآه في نومه

(3)

، وعُبِّر له تعبيرُ السُّوء من اشتقاق اسمه، كيف يعودُ متمنِّيًا لفقده في رُقاده، متكرِّهًا للقائه، متطيِّرًا لرؤيته؟!

وهذا ضدُّ التوادُد والتراحُم والتآلف الذي قصَد الشارعُ ربطَه بين المؤمنين.

فكره صلى الله عليه وسلم لأمَّته مُقامها على حالةٍ يؤذي بها بعضهم بعضًا لغير عذرٍ ولا فائدةٍ تعودُ عليهم لا في الدنيا ولا في الآخرة، ويؤدِّي هذا إلى التقاطُع والتنافر، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد نَدَبهم واستحبَّ لهم إدخالَ أحدهم السُّرور على أخيه المسلم ما استطاع، ودفعَ الأذى والمكروه عنه، فقال:«لا تقاطعوا، ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلمُ أخو المسلم»

(4)

.

وقد أمرهم يوم الجمعة بالغسل والطِّيب عند اجتماعهم

(5)

؛ لئلَّا يؤذي

(1)

(ت): «فقد ينهى خاطره أن لا يصحبه» .

(2)

(ق): «يدعو» . تحريف.

(3)

في الأصول: «من نومه» .

(4)

أخرجه مسلم (2564) بنحوه من حديث أبي هريرة.

(5)

أخرجه البخاري (880)، ومسلم (846) من حديث أبي سعيد.

ص: 1528

بعضُهم بعضًا برائحته التي إنما يتجشَّمها

(1)

ساعةً للاجتماع

(2)

ثم يفترقا

(3)

، ومنعَ آكلَ الثُّوم والبصل من دخول المسجد لأجل تأذِّي النَّاس والملائكة به

(4)

، ومنع الاثنين أن يتناجيا دون صاحبهما خشية تأذِّيه وحزنه

(5)

، ومنع أحدَهم أن يأخذ

(6)

متاعَ أخيه لاعبًا لأنَّ ذلك يؤذيه

(7)

.

ومعلومٌ أنَّ ضررَ الاسم القبيح على كثيرٍ منهم أشدُّ عليه عند همِّه وخروجه من منزله ورؤية صاحبه في منامه ودعائه له من رائحة الثُّوم والبصل.

وهذا من كمال رأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين وعِزَّة ما عَنِتُوا عليه.

ولهذا ــ والله أعلم ــ:

1 ــ غيَّر كثيرًا من الأسماء القبيحة بأحسن منها.

(1)

(د، ق): «يتحشمها» . وعلَّق أحد قراء (د) بخطٍّ دقيق فوقها: «حشمه من باب ضرب، وأحشمه بمعنى، أي: آذاه وأغضبه. مختار» . «مختار الصحاح» (حشم). والمثبت من (ت) أشبه، يتجشمها، أي: يتكلَّفها.

(2)

(ت): «التي يتجشمها ساعة الاجتماع» .

(3)

كذا في الأصول.

(4)

أخرجه البخاري (854)، ومسلم (564) من حديث جابر.

(5)

أخرجه البخاري (6290)، ومسلم (2184) من حديث ابن مسعود.

(6)

في الأصول: «يأكل» . وهو تحريف طريف.

(7)

أخرجه أحمد (4/ 221)، وأبو داود (5003)، والترمذي (2160)، وغيرهم من حديث يزيد بن السائب.

قال الترمذي: «حسن غريب» . وحسنه البيهقي في «الخلافيات» . انظر: «البدر المنير» (6/ 698).

ص: 1529

2 ــ وغيَّر أسماءً حسنةً إلى غيرها؛ خشية الطِّيَرة والتأذِّي عند نفيها أو الخروج من عند المسمَّى.

3 ــ أو لتضمُّنها تزكيةَ النفس ونحوها

(1)

.

فالأول: كتغييره اسمَ الحُباب بن المنذر بعبد الرحمن، وقال:«الحُباب اسمُ الشيطان»

(2)

، وغيَّر أبا مُرَّة إلى أبي حلوة

(3)

، وغيَّر أبا العاص إلى مطيع

(4)

، وغيَّر عاصية بجميلة

(5)

، وغيَّر اسم بني الشيطان إلى بني عبد الله

(6)

،

(1)

انظر: «المسالك» لابن العربي (7/ 547).

(2)

أخرجه ابن وهب في «الجامع» (52، 76) من وجهين معضل ومرسل. وأخرجه الطبري في «التفسير» (14/ 396) من مرسل الشعبي. وابن سعد في «الطبقات» (3/ 501)، والعسكري في «تصحيفات المحدثين» (2/ 412) من مرسل عروة بن الزبير. وابن وهب في «الجامع» (58، 74) من مرسل الزهري وابن المنكدر. وفيها أنه الحباب بن عبد الله بن أبي بن سلول، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله.

وروي من وجوهٍ أخرى مرسلة.

وروي موصولًا، ولا يصح. انظر:«الآحاد والمثاني» (2479)، و «مجمع الزوائد» (3/ 122، 8/ 50).

(3)

أخرجه ابن وهب في «الجامع» (64) من مرسل الزهري. وكان مولى للعباس رضي الله عنه. ذكره الفاكهي في «أخبار مكة» عن ابن جريج. انظر: «الإصابة» (7/ 93).

(4)

أخرجه ابن وهب في «الجامع» (64) من مرسل الزهري.

وفي «صحيح مسلم» (1782) أنه صلى الله عليه وسلم غيَّر اسم العاص إلى مطيع.

(5)

أخرجه مسلم (2139).

(6)

أخرجه ابن وهب في «الجامع» (87) عن ابن لهيعة معضلًا.

وعند أحمد (4/ 350)، وأبي نعيم في «معرفة الصحابة» (4456) أنه صلى الله عليه وسلم غيَّر اسم شيطان بن قرط إلى عبد الله بن قرط، وإسناده حسن، كما قال ابن حجر في «الإصابة» (4/ 209).

ص: 1530

وغيَّر اسم أصرَم إلى اسم زُرعة

(1)

، وغيَّر اسم حَزْن ــ جدِّ سعيد بن المسيب ــ إلى سهل

(2)

، فأبى قبولَ ذلك، فلزمه مسمَّى اسمه من الحُزونة له ولذريته.

وقال أبو داود

(3)

: وغيَّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم اسم العاص

(4)

، وعزيز

(5)

، وعَتلة

(6)

، وشيطان

(7)

، والحكم

(8)

، وغُراب

(9)

، وحُباب

(10)

، وشهاب فسمَّاه: هشامًا

(11)

،

(1)

أخرجه أبو داود (4915)، والطبراني في «الكبير» (1/ 196)، وغيرهما. وصححه الحاكم (4/ 276) ولم يتعقبه الذهبي، وصححه في «السير» (9/ 39)، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (1306، 1494).

(2)

أخرجه البخاري (6190).

(3)

في «السنن» (5/ 336).

(4)

إلى مطيع. أخرجه مسلم (1782)، كما سلف.

(5)

إلى عبد الرحمن. أخرجه أحمد (4/ 178)، وصححه ابن حبان (5828)، والحاكم (4/ 276) ولم يتعقبه الذهبي.

(6)

إلى عتبة. أخرجه الطبراني في «الكبير» (17/ 120، 122)، وابن قانع في «معجم الصحابة» (2/ 266)، وابن عبد البر في «الاستيعاب» (1031)، وغيرهم.

(7)

إلى عبد الله. كما سلف.

(8)

إلى عبد الله. أخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 330)، والطبراني في «الكبير» (3/ 214)، وابن أبي عاصم في «الآحاد والمثاني» (539، 540)، وغيرهم من طرق. وخرَّجه الضياء في «المختارة» (9/ 419). وانظر:«الإصابة» (2/ 101، 102).

(9)

إلى مسلم. أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (824)، والطبراني في «الكبير» (19/ 433)، وغيرهما. وصححه الحاكم (4/ 275)، ولم يتعقبه الذهبي.

(10)

إلى عبد الله وعبد الرحمن. كما سلف.

(11)

أخرجه أحمد (6/ 75)، والبخاري في «الأدب المفرد» (825)، وغيرهما من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه ابن حبان (5823)، والحاكم (4/ 277) ولم يتعقبه الذهبي.

ص: 1531

وسمَّى حربًا: سَلْمًا

(1)

، وسمَّى المضطجعَ: المنبعِث

(2)

، وأرضًا اسمُها عَفِرة سمَّاها: خَضِرة

(3)

، وشِعْبَ الضلالة سمَّاه: شِعْبَ الهدى

(4)

، وبنو الزِّنْية سمَّاهم: بني الرِّشْدة

(5)

، وسمَّى بني مُغْوِية: بني رِشْدة

(6)

.

(1)

انظر: «الإصابة» (3/ 137).

وأخرج أحمد (1/ 98، 118)، والبخاري في «الأدب المفرد» (823)، وغيرهما عن علي رضي الله عنه قال: لما ولد الحسن سميته حربًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:«أروني ابني، ما سميتموه؟» قال: قلت: حربًا، قال:«بل هو حسن» . ثمَّ ذكر مثل ذلك في الحسين.

وصححه ابن حبان (6958)، والحاكم (3/ 165، 168) ولم يتعقبه الذهبي، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (783).

(2)

أخرجه أبو داود في «الكنى» كما في «الإصابة» (6/ 210)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (5/ 2637) من حديث عائشة. وصححه ابن حجر.

وأخرجه ابن أبي شيبة (8/ 664) مرسلًا.

(3)

أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في «الصغير» (1/ 218) ومن طريقه الخطيب في «التاريخ» (7/ 368)، وابن عدي في «الكامل» (4/ 19). وروي مرسلًا.

وروي بلفظ: «غدرة» بدل «عفرة» ، وصححه ابن حبان (5821).

وانظر التعليق على «الوابل الصيب» (357).

(4)

أخرجه معمر في «الجامع» (11/ 43) مرسلًا. وفي مطبوعته: «بقية الهدى» ، «بقية الضلالة» .

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة (12/ 205)، وعمر بن شبة كما في «الإصابة» (2/ 96)، من مرسل أبي وائل بسند حسن، وصححه ابن حجر.

وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» (1/ 292) من مرسل عروة بن الزبير ومحمد بن كعب القرظي، وإسناده ضعيف جدًّا.

(6)

أخرجه معمر في «الجامع» (11/ 43) من مرسل عروة بن الزبير. وتحرف في مطبوعته «مغوية» إلى «معاوية» .

ص: 1532

قال أبو داود: تركتُ أسانيدها للاختصار.

وقال مسروق: لقيتُ عمر، فقال: من أنت؟ فقلت: مسروقُ بن الأجدع، فقال عمر: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الأجدعُ شيطان»

(1)

.

وأما الثاني: ففي «صحيح مسلم»

(2)

عن سمرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسمِّينَّ غلامَك يسارًا ولا رباحًا ولا نجيحًا ولا أفلَح؛ فإنك تقول: أثَمَّ هو؟ فيقال: لا» ، وغيَّر اسمَ بَرَّة بزينب

(3)

، وكره أن يقال: خرَج من عند بَرَّة

(4)

.

وأما الثالث: فكتغييره أبا الحكم بأبي شُريح

(5)

، وتغييره أيضًا برَّة بزينب، وقال:«لا تزكُّوا أنفسَكم» ، فروى مسلمٌ في «صحيحه»

(6)

عن محمد بن عمرو بن عطاء أنَّ زينب بنت أبي سلمة سألته: ما سمَّيتَ ابنتك؟ قال: سمَّيتُها برَّة، فقالت: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسُمِّيَت برَّة، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لا تزكُّوا أنفسكم، الله أعلم بأهل البرِّ منكم» ، فقالوا: ما نسمِّيها؟ قال: «سمُّوها زينب» .

(1)

أخرجه أحمد (1/ 31)، وأبو داود (4957)، وابن ماجه (3731)، وغيرهم بسند ليِّن.

وأخرجه أحمد في «العلل» (1/ 144 - رواية عبدالله)، وابن سعد في «الطبقات» (6/ 76) عن عمر موقوفًا بإسناد ضعيف.

(2)

(2137).

(3)

أخرجه البخاري (6192)، ومسلم (2141) من حديث أبي هريرة.

(4)

كما في حديث ابن عباس عند مسلم (2140).

(5)

أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (811)، وأبو داود (4955)، والنسائي (5387)، وغيرهم من حديث أبي شريح هاناء بن يزد، وإسناده جيد.

(6)

(2142).

ص: 1533

ومن هذا ما في «الصحيحين»

(1)

عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ أخنعَ اسمٍ عند الله يوم القيامة رجلٌ تسمَّى: ملك الأملاك. لا مالك إلا الله» ، وقال سفيان بن عيينة: مثل: شاهان شاه.

وذكر ابن وهب

(2)

أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بغلام، فقال:«ما سمَّيتم هذا؟» قالوا: السَّائب، فقال:«لا تسمُّوه السَّائب، ولكن سمُّوه عبد الله» ، قال: فغُلِبوا على اسمه، فلم يمُت حتى ذهب عقلُه.

فإن قيل: فقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلامٌ اسمُه: رَباح

(3)

، وكان لأبي أيوب غلامٌ اسمه: أفلح

(4)

، ولعبد الله بن عمر غلامٌ اسمه: رباح

(5)

.

قيل: هذا النهيُ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم لم يكن على وجه العزيمة والحَتْم، ولكن كان على جهة الكراهة.

والدليلُ عليه: ما روى البخاريُّ في «صحيحه»

(6)

عن سعيد بن المسيب، عن أبيه، عن جدِّه حَزْن: أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال له:«ما اسمك؟» قال: حَزْن، فقال:«أنت سَهْل» ، قال: لا أغيِّر اسمًا سمَّانيه أبي. فلم ينكر عليه

(1)

«صحيح البخاري» (6206)، و «صحيح مسلم» (2143).

(2)

في «الجامع» (49) من مرسل يزيد بن أبي حبيب. وقد سلف.

(3)

أخرجه مسلم (1497). وانظر: «الإصابة» (2/ 452).

(4)

وهو ثقة من كبار التابعين. انظر: «التهذيب» (1/ 322).

(5)

لم أجد له ذكرًا. ولابن عمر غلام اسمه نافع، وهو ثقة مشهور، وآخر اسمه يسار. انظر:«التهذيب» (11/ 376). وأظن المصنف أراد الأول، وسبق قلمُه. وانظر:«تهذيب الآثار» (1/ 284 - مسند عمر).

(6)

(6190).

ص: 1534

النبيُّ صلى الله عليه وسلم، ولا أخبره أنَّ ذلك معصية، بل سكت عنه.

وكذلك لما غيَّر اسمَ السَّائب، فأبوا تغييرَه لم ينكِر عليهم.

وأيضًا، فروى مسلمٌ في «صحيحه»

(1)

من حديث أبي الزبير، عن جابر، قال: أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن ينهى أن يسمَّى بيعلى

(2)

، وبركة، وأفلح، ويسار، ونافع، ونحو ذلك، ثمَّ رأيتُه سكت بعدُ عنها فلم يقل شيئًا، ثمَّ قُبِض ولم يَنْهَ عن ذلك، ثمَّ أراد عمرُ رضي الله عنه أن ينهى عن ذلك ثمَّ تركه.

ورأيتُ لبعضهم فرقًا بين الفأل والطِّيَرة كلامًا أذكرُه بلفظه

(3)

.

قال: أمَّا ما رُوِيَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل ولا يتطيَّر، فهما وإن كان معناهما واحدًا في الاستدلال، فبينهما افتراق؛ لأنَّ الفألَ إبانة، والتطيُّر استدلال، والإبانةُ أكثر وأشهر وأوضح وأفصح؛ لأنَّ من كان في قلبه وضميره أمرٌ

(4)

فسمع قائلًا يقول: أقبلَ الخير، أو امضِ بسلام، أو أبشِر، أو نحو ذلك، فقد اكتفى بما سمع عن الاستدلال، والذي يرى طائرًا يَسْنَحُ أو يَبْرَح فليس معه إلا الاستدلالُ على اليُمْنِ بالسانح، والشُّؤم بالبارح، وهذا أمرٌ قد يكونُ وقد لا يكون، وذلك الفألُ في الأعمِّ يكون.

(1)

(2138).

(2)

في بعض نسخ «الصحيح» : «مقبل» مكان «يعلى» . ورجحه القاضي عياض في «إكمال المعلم» (7/ 12)، وعدَّ الآخر تصحيفًا، وأبى ذلك النوويُّ في شرحه (14/ 118).

(3)

(ق): «كلاما ما أذكره بلفظه» .

(4)

ساقطة من (ق).

ص: 1535

وقال آخرون: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يتطيَّر، أي: لم يكن يُسْنِدُ الأمورَ الكائنة من الخير والشرِّ إلى الطَّير كما يفعلُ الكهَنة.

وقال آخرون: إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس مع أصحابه فتكلَّمَ أحدُهم بخيرٍ، أو سمع من متكلِّم خيرًا

(1)

، حضَّهم عليه وعرَّفهم به. ومعلومٌ أنه لا بدَّ لطائرٍ أن يَمُرَّ سانحًا أو بارحًا أو قَعِيدًا أو ناطحًا، فلا يُوقِفُهم عليه ولا يعرِّفهم به، إذ ذلك مِنْ فعل الكهَّان. فكان الحديثُ المرويُّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يتفاءلُ ولا يتطيَّر من هذا المعنى.

وقد أغنى اللهُ رسولَه صلى الله عليه وسلم بإخباره إيَّاه، وبإرسال جبريل إليه بما يُحْدِثُه سبحانه، عن الاستدلال على إحداثه بالأشياء التي ينظرُ

(2)

فيها غيرُه؛ تفرقةً منه سبحانه بين النبوَّة وغيرها.

فإن قيل: فهذا الذي نزَل بهذين الرجلين، وهما: السَّائبُ وحَزْن، هل كان من أجل اسميهما أم من غير جهة الاسم؟

قيل: قد يظنُّ من لا يُنْعِم النظر

(3)

أنَّ الذي نزَل بهما هو من جهة اسميهما، ويُصَحِّحُ بذلك أمرَ الطِّيَرة وتأثيرَها.

ولو كان ذلك كما ظنُّوه لوجبَ أن ينزلَ بجميع من تسمَّى باسميهما من أول الدَّهر، ولكان اقتضاءُ الاسم لذلك كاقتضاء النار للإحراق والماء للتبريد ونحوه.

(1)

من (ص)، وليست في (ت، د، ق).

(2)

(ت): «يتطير» . وهي محتملة. والمثبت أجود.

(3)

(ت): «يمعن النظر» .

ص: 1536

ولكن يُحْمَلُ ذلك ــ والله أعلم ــ على أنَّ الأمرين الجاريَيْن عليهما قد تقدَّما في أمِّ الكتاب، كما تقدَّم لهما ــ أيضًا ــ أن يتسمَّيا باسميهما إلى أن يختارَ لهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم غيرَهما، فيرغَبون عن اختياره، ويتخلَّفون عن استحبابه، فيُعاقَبان بما قد سبَق لهما عقوبةً تُطابِقُ اسميهما؛ ليكون ذلك زاجرًا لمن سواهما.

وقد يكونُ خوفُه صلى الله عليه وسلم على أهل الأسماء المكروهة

(1)

أيضًا مِنْ مثل هذه الحوادث؛ إذ قد ينزلُ بالإنسان بلاءٌ مُشْبِهٌ بما في اسمه، فيظنُّ هو أو جميعُ من بلغه أنَّ ذلك كان من أجل اسمه عادَ عليه بشؤمه، فيعصي اللهَ عز وجل.

وقد كره قومٌ من الصحابة والتابعين أن يسمُّوا عبيدَهم: عبد الله أو عبد الرحمن أو عبد الملك، ونحو ذلك؛ مخافةَ أن يُعْتِقَهم ذلك.

قال سعيدُ بن جبير: كنتُ عند ابن عباسٍ سنةً لا أكلِّمه

(2)

ولا يَعْرِفُني، حتى أتاه يومًا كتابٌ من امرأةٍ من أهل العراق، فدعا غلمانَه، فجعَل يَكْنِي عن عبيد الله وعبد الله وأشباههم، ويدعو: يا مِخْراق، يا وثَّاب

(3)

.

وروى أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يكرهون أن يسمِّي الرجلُ غلامَه: عبد الله؛ مخافةَ أنَّ ذلك يُعْتِقُه

(4)

.

وروى مغيرة، عن أبي معشر، عن إبراهيم: أنه كره أن يسمِّي مملوكَه

(1)

(ت): «على أصحاب أهل الأسماء المكروهة» .

(2)

(ق): «لا أكلمه ولا أعرفه ولا يعرفني» . خطأ طريف.

(3)

أخرجه الطبري في «تهذيب الآثار» (1/ 285 - مسند عمر).

(4)

أخرجه الطبري (1/ 285).

ص: 1537

عبد الله، وعبيد الله، وعبد الملك، وعبد الرحمن، وأشباهَه؛ مخافةَ العتق

(1)

.

قال بعض أهل العلم

(2)

: كراهتُهم لذلك نظيرُ ما كرهه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من تسمية المماليك برباح ونافع وأفلح؛ لأنَّ ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم حذرًا من أن يقال: أهاهنا نافع؟ فيقال: لا، أو: أثَمَّ أفلح؟ فيقال لا، أو بركة، أو يسار، أو رباح، فيقال: لا.

ومعلومٌ أنَّ السائلَ عن إنسانٍ اسمُه: أفلح أو نافع أو رباح، هل هو في مكان كذا؟ إنما مسألتُه تلك عن مسمَّى

(3)

شخصٍ من أشخاص بني آدم سُمِّي باسمٍ جُعِلَ عليه دليلًا يُعْرَفُ به إذا ذُكِر، إذ كانت الأسماءُ العَوَاريُّ المفرِّقةُ بين الأشخاص المتشابهة إنما هي أدلَّةٌ على المسمَّين

(4)

بها، لا مسألةٌ عن شخصٍ صفتُه النفعُ والفلاحُ والبركة.

وذلك مِن كراهته صلى الله عليه وسلم نظيرُ كراهته تسميةَ تلك المرأة برَّة، فحَوَّل اسمَها: جويرية، وتحويله اسمَ أرضٍ كان اسمها: عَفِرة، فردَّها: خَضِرة، ونحو ذلك كثير.

ومعلومٌ أنَّ تحويلَه ما حوَّل من هذه الأسماء عمَّا كان عليه لم يكن لأنَّ التسميةَ بما كان المسمَّى به منهم مسمًّى قبل تحويله ذلك كان حرامَ التسمية، ولكن كان ذلك منه على وجه الاستحباب واختيار الأحسن على الذي هو دونه في الحُسْن، إذ كان لا شيء في القبيح من الأسماء إلا وفي الجميل

(1)

أخرجه الطبري (1/ 285).

(2)

هو أبو جعفر الطبري في «تهذيب الآثار» (1/ 286، 287).

(3)

«تهذيب الآثار» : «مسألته تلك مسألة عن» .

(4)

(ت): «المتسمين» . وفي «تهذيب الآثار» : «المسمَّى» .

ص: 1538

الحسن منها مثلُه من الدَّلالة على المسمَّى به، مع تَخَيُّر الأحسن

(1)

بفضل الحُسْن والجمال، من غير مُؤنةٍ تلزمُ صاحبَه بسبب التسمِّي [به].

وكذلك كراهةُ من كره تسميةَ مملوكه: عبد الله وعبد الرحمن، إنما كانت كراهتُه ذلك حذرًا أن يُوجِبَ ذلك له العتق

(2)

، ولا شكَّ أنَّ جميع بني آدم عبيدُ الله، أحرارُهم وعبيدُهم، وصَفَهم بذلك واصفٌ أو لم يصفهم، ولكنَّ الذين كرهوا التسميةَ بذلك صَرَفوا هذه الأسماءَ عن رقيقهم لئلَّا يقعَ اللَّبسُ على السامع بذلك

(3)

من أسمائهم، فيظنُّ أنهم أحرار؛ إذ كان استعمالُ أكثر الناس التسميةَ بهذه الأسماء في الأحرار، فتجنَّبوا ذلك إلى ما يزيلُ اللَّبسَ عنهم من أسماء المماليك

(4)

، والله أعلم.

فصل

وأمَّا الأثر الذي ذكره مالكٌ عن يحيى بن سعيد أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرجل: ما اسمُك؟ قال: جمرة

، إلى آخر الحديث

(5)

.

فالجوابُ عنه: أنه ليس ــ بحمد الله ــ فيه شيءٌ من الطِّيَرة، وحاشا أميرَ المؤمنين رضي الله عنه من ذلك، وكيف يتطيَّر رضي الله عنه وهو يعلمُ أنَّ الطِّيَرة شركٌ من الجِبْت، وهو القائلُ في حديث اللَّقْحة ما تقدَّم؟!

(1)

«تهذيب الآثار» : «مع بينونة الأحسن» . ولعلها: «تميز» بدل «تخير» .

(2)

«تهذيب الآثار» : «يوجب ذلك له العتق بانفراده بهذا الاسم» .

(3)

«تهذيب الآثار» : «لذلك» .

(4)

انتهى كلام الطبري.

(5)

المتقدم (ص: 681، 1492).

ص: 1539

ولكن وجه ذلك ــ والله أعلم ــ أنَّ هذا القولَ كان منه مبالغةً في الإنكار عليه؛ لاجتماع أسماء النار والحَرِيق في اسمه واسم أبيه وجدِّه وقبيلته وداره ومسكنه، فوافَق قولُه:«اذهَب فقد احترقَ منزلُك» قَدَرًا لعلَّ قوله كان السَّبب.

وكثيرًا ما يجري مثلُ هذا لمن هو دون عُمَر بكثير، فكيف بالمُحَدَّث المُلْهَم الذي ما قال لشيءٍ:«إني لأظنُّه كذا» إلا كان كما قال، وكان يقول الشيءَ ويشيرُ به فينزلُ القرآنُ بموافقته، فإذا نزل الأمرُ الدينيُّ بموافقة قوله فكذلك وقوعُ الأمر الكونيِّ القدريِّ موافقًا لقوله.

ففي «الصحيحين»

(1)

عن عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون، فإن يكن في أمَّتي أحدٌ منهم فعمر بن الخطاب» .

قال ابنُ وهب: تفسير «مُحَدَّثون» : مُلْهَمُون

(2)

.

وفي «صحيح البخاري»

(3)

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجالٌ يُكَلَّمون

(4)

من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن في أمَّتي منهم أحدٌ فعمر».

وفي «الصحيحين»

(5)

عن عمر رضي الله عنه قال: «وافقتُ ربِّي في

(1)

«مسلم» (2398). وفي «البخاري» (3469) من حديث أبي هريرة.

(2)

التفسير في «صحيح مسلم» عقب الحديث.

(3)

(3689).

(4)

بمعنى: «محدَّثون» . وانظر: «الفتح» (7/ 50).

(5)

«صحيح مسلم» (2399). وأخرج البخاري الرواية التالية.

ص: 1540

ثلاث: في مقام إبراهيم، وفي الحجاب، وفي أسارى بدر».

وفي «صحيح البخاري»

(1)

عن أنس قال: قال عمر: وافقني اللهُ في ثلاث، أو: وافقني ربِّي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتَّخذتَ مقامَ إبراهيم مصلَّى، وقلت: يا رسول الله يدخلُ عليك البرُّ والفاجر، فلو أمرتَ أمَّهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آيةَ الحجاب، وبلغني معاتبةُ النبي صلى الله عليه وسلم بعضَ نسائه، فدخلتُ عليهنَّ، فقلت: إن انتهيتنَّ أو ليبدلنَّ اللهُ رسولَه خيرًا منكن، حتى أتيتُ إحدى نسائه، فقالت: يا عمر أما في رسول الله ما يَعِظُ نساءَه حتى تَعِظَهُنَّ أنت؟! فأنزل الله عز وجل: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} الآية [التحريم: 5].

وفي «الصحيحين»

(2)

أنه لما قام صلى الله عليه وسلم ليصلي على عبد الله بن أبيِّ ابن سلول رأس المنافقين قام عمر فأخذ ثوبَه، وقال: يا رسول الله أتصلِّي عليه وقد نهاك اللهُ أن تصلِّي عليه؟! فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إنما خيَّرني الله، فقال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، وسأزيدُ على السبعين» ، فصلى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:{وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة: 84]، فترَك الصلاةَ عليهم.

فإذا كانت هذه موافقةُ عمر لربِّه في شرعه ودينه، ينطقُ بالشيء فيكون

(1)

(402، 4483).

(2)

«صحيح البخاري» (4670)، و «صحيح مسلم» (2400، 2774).

ص: 1541

هو المأمورَ المشروع

(1)

، فكذلك لا يبعدُ موافقتُه له تعالى

(2)

في قضائه وقدره، ينطقُ بالشيء فيكون هو المقضيَّ المقدور، فهذا لونٌ والطِّيَرةُ لون.

وكذلك جرى له نظيرُ هذه القصة مع رجلٍ آخر

(3)

سأله عن اسمه؟ فقال: ظالم، فقال: ابن من؟ قال: ابن سَرَّاق

(4)

، قال: تظلمُ أنت ويسرقُ أبوك!

وذكر المدائنيُّ عن أبي صُفرة ــ وهو أبو المهلَّب ــ أنه ابتاع سلعةً بتأخيرٍ من رجلٍ من بني سعد، فأراد أن يُشْهِدَ عليه، فقال له: ما اسمك؟ قال: ظالم، قال: ابن من؟ قال: ابن سَرَّاق، قال: لا والله لا يكونُ لي عليك شيءٌ أبدًا.

فصل

وأمَّا محبةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم التيمُّنَ في تنعُّله وترجُّله وطُهوره وشأنه كلِّه، فليس هذا من باب الفأل ولا التطيُّر بالشمال في شيء

(5)

، ولكنْ تفضيلُ

(6)

اليمين على الشمال، فكان يعجبُه أن يباشرَ الأفعالَ التي هي من باب الكرامة

(1)

(ص): «المأمور به المشروع» .

(2)

(ت، ص): «موافقته تعالى» .

(3)

(ق): «جرى له تطير مع رجل آخر» . وهو تحريف قبيح.

(4)

ظالم بن سراق، أبو صفرة، والد المهلب. والخبر في «الشعر والشعراء» لابن قتيبة (71)، و «ربيع الأبرار» (3/ 12)، وغيرهما. ولا إخاله يثبت، وخبر وفادة أبي صفرة على عمر رضي الله عنه مشهورٌ ليس فيه هذا. ولعل صوابه ما أخرجه يعقوب بن سفيان في «المعرفة والتاريخ» (3/ 201).

(5)

(ت، ص): «في شيء من ذلك» .

(6)

(ت): «يفضل» .

ص: 1542

باليمين، كالأكل والشرب والأخذ والعطاء

(1)

، وضدَّها بالشمال، كالاستنجاء وإمساك الذَّكَر وإزالة النجاسة، فإن كان الفعلُ مشتركًا بين العُضوَين بدأ باليمين في أفعال التكريم وأماكنه، كالوضوء ودخول المسجد، وباليسار في ضدِّ ذلك، كدخول الخلاء والخروج من المسجد ونحوه.

والله تعالى فضَّل بعضَ مخلوقاته على بعض، وفضَّل بعضَ جوارح الإنسان وأعضائه على بعض، ففضَّلَ العينَ على الكعب، والوجهَ على الرِّجل، وكذلك فضَّل اليد اليمنى على اليسرى

(2)

.

وخلقَ خلقَه صنفَين: سعداءَ وجعَلهم أصحابَ اليمين، وأشقياءَ وجعَلهم أصحابَ الشمال.

وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «المُقْسِطون عند الله على منابر من نورٍ عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يَعْدِلُون في حكمهم وأهلِيهم وما وَلُوا»

(3)

.

وفي «الصحيح»

(4)

عنه صلى الله عليه وسلم: أنه لما أُسْرِيَ به رأى آدمَ في سماء الدنيا وإذا عن يمينه أَسْوِدَة، وعن يساره أَسْوِدَة، فإذا نظر قِبَلَ يمينه ضَحِك، وإذا نظر قِبَلَ شماله بكى، فقال: ما هذا يا جبريل؟ فقال: هذا آدم، وهذه الأَسْوِدَةُ عن يمينه ويساره نَسَمُ بنيه، فأهلُ اليمين أهلُ السعادة من ذريته، وأهلُ اليسار أهلُ الشقاوة.

(1)

(ت): «والإعطاء» .

(2)

انظر: «فضل العرب» لابن قتيبة (111).

(3)

مضى تخريجه (ص: 1009).

(4)

«البخاري» (349)، و «مسلم» (136) من حديث أنس.

ص: 1543

وفي «المسند»

(1)

عن عائشة، قالت: «كانت يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمين لطُهوره وطعامه

(2)

، وكانت يدُه اليسرى لخلائه وما كان من أذى».

وفي «المسند» أيضًا و «سنن أبي داود» عن حفصة بنت عمر زوج النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «كان يجعلُ يمينَه لطعامه وشرابه، ويجعلُ شمالَه لما سوى ذلك»

(3)

.

وقال الإمام أحمد

(4)

: «كانت يمينُه لطعامه وطهوره وصلاته وثيابه

(5)

، وكانت شمالُه لما سوى ذلك».

(1)

(6/ 265) من طريق إبراهيم عن الأسود عن عائشة. وإسناده جيِّد. وحسَّنه الحازمي. انظر: «البدر المنير» (2/ 372). وعبدالوهاب بن عطاء قديم السماع من سعيد بن أبي عروبة.

إلا أنه روي من وجهٍ آخر عن إبراهيم عن عائشة مرسلًا، وقال الدراقطني في «العلل» (5/ق 68/ب): إنه أشبه بالصواب. وذكر أنَّ الصواب رواية أشعث عن أبيه عن مسروق عن عائشة، وهو ما أخرجه البخاري (168) ومسلم (268).

(2)

(ت، ص): «لطعامه وشرابه» .

(3)

أخرجه أحمد (6/ 287)، وأبو داود (32) وغيرهما.

وصححه ابن حبان (5227)، والحاكم (4/ 109) وتعقبه الذهبي بأنَّ في إسناده راوٍ مجهول. وليس كذلك. انظر:«مختصر استدراك الذهبي» لابن الملقن (5/ 2557).

وفي إسناده اختلافٌ أعلَّه به بعضهم. انظر: «فيض القدير» (5/ 204). ولا يظهر. انظر: «علل الدارقطني» (5/ق 164/ب).

(4)

أي في روايته لحديث حفصة. واللفظ السابق رواية أبي داود.

(5)

(ق، د، ت): «وشانه» . وهو تحريف. والمثبت من (ص) و «المسند» . قال المناوي في «فيض القدير» (5/ 204): «يعني: للبس ثيابه أو تناولها» .

ص: 1544

فصل

وأمَّا قولُه صلى الله عليه وسلم: «الشُّؤم في ثلاث» الحديث؛ فهو حديثٌ صحيحٌ من رواية ابن عمر، وسهل بن سعد، ومعاوية بن حكيم رضي الله عنهم

(1)

.

وقد رُوِيَ أنَّ أم سلمة كانت تزيد: «السَّيف» ، يعني في حديث الزهري عن حمزة وسالم عن أبيهما في الشُّؤم

(2)

.

وقد اختلفَ الناسُ في هذا الحديث، وكانت عائشةُ أم المؤمنين رضي الله عنها تُنكِرُ أن يكون كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتقول: إنما حكاه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن أهل الجاهلية وأقوالهم.

فذكر أبو عمر بن عبد البر

(3)

من حديث هشام بن عمَّار: حدثنا

(1)

تقدم تخريج حديثي ابن عمر وسهل بن سعد.

وحديث معاوية بن حكيم عن عمه حكيم بن معاوية: أخرجه الترمذي (2284)، وابن ماجه (1993)، وغيرهما.

وفي اسم حكيم خلاف، وفي صحبته نظر، ومعاوية لم يُؤْثَر فيه توثيق، ولذا قال ابن حجر في «الفتح» (6/ 62):«في إسناده ضعف» . وانظر: «الإصابة» (2/ 114).

(2)

أخرجها معمر في «الجامع» (10/ 411)، ومن طريقه ابن عبد البر في «التمهيد» (9/ 278)، وابن ماجه (1995)، والدارقطني في «غرائب مالك» كما في «الفتح» (6/ 63). والظاهر أنها مدرجة، كما في «النكت الظراف» (5/ 338).

ورويت مرفوعة من مرسل سالم بن عبد الله بن عمر، أخرجها النسائي في «الكبرى» (9235)، على اختلافٍ في إسنادها.

(3)

في «التمهيد» (9/ 289)، وأحمد (6/ 150، 240، 246)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 314) وغيرهم.

وصححه الحاكم (2/ 479) ولم يتعقبه الذهبي.

ص: 1545

الوليد بن مسلم، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي حسَّان: أنَّ رجلين دخلا على عائشة وقالا: إنَّ أبا هريرة يحدِّثُ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنما الطِّيَرة في المرأة والدار والدَّابة» ، فطارت شِقَّةٌ

(1)

منها في السماء، وشِقَّةٌ في الأرض، ثمَّ قالت: كذَب ــ والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم ــ من حدَّث عنه بهذا، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:«كان أهلُ الجاهلية يقولون: إنَّ الطِّيَرة في المرأة والدَّابة» ، ثمَّ قرأت عائشة:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22].

قال أبو عمر: وكانت عائشةُ تنفي الطِّيَرة، ولا تعتقدُ شيئًا منها، حتى قالت لنسوةٍ كنَّ يكرهن البناءَ بأزواجهنَّ في شوَّال: ما تزوَّجني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا في شوَّال، وما دخل بي إلا في شوَّال، فمن كان أحظى منِّي عنده؟! وكانت تستحبُّ أن يدخلنَ على أزواجهنَّ في شوَّال

(2)

.

قال أبو عمر: وقولها في أبي هريرة: «كَذَبَ» فإنَّ العرب تقول: كذبتَ، بمعنى غلطتَ فيما قدَّرتَ، وأوهَمْتَ فيما قلتَ، ولم تظُنَّ حقًّا

(3)

، ونحو هذا، وذلك معروفٌ من كلامهم

(4)

، موجودٌ في أشعارهم كثيرًا، قال

(1)

أي: قطعة. مبالغة في الغضب والغيظ، كأنها تفرَّقت وتقطَّعت قطعًا من شدة الغضب. «النهاية» (شقق، طير).

(2)

أخرجه مسلم (1423).

(3)

(ت): «ولم يكن حقًّا» .

(4)

انظر: «صحيح ابن حبان» (1732)، و «الثقات» (6/ 114)، و «غريب الحديث» للخطابي (2/ 302)، و «النهاية» (كذب)، و «خزانة الأدب» (6/ 194، 197).

ص: 1546

أبو طالب

(1)

:

كذبتم وبيتِ الله نَتْرُكُ مكَّةً

ونَظْعَنُ، إلا أمرُكم في بَلابلِ

كذبتم وبيتِ الله نُبْزَى محمدًا

(2)

ولمَّا نُطاعِنْ دونه ونُناضِلِ

ونُسْلِمُه حتَّى نُصَرَّع حولَه

ونُذْهَلَ عن أبنائنا والحلائل

وقال شاعرٌ من هَمْدان

(3)

:

كذبتم ــ وبيتِ الله ــ لا تأخذُونها

مُراغَمةً ما دام للسَّيفِ قائمُ

وقال زُفَرُ بن الحارث العبسي

(4)

:

أفي الحقِّ أمَّا بَحْدَلٌ وابنُ بَحْدَلٍ

فيحيا وأمَّا ابنُ الزُّبير فيُقْتَلُ

كذبتم ــ وبيتِ الله ــ لا تقتلونه

ولمَّا يكن أمرٌ أغرُّ محجَّلُ

قال: ألا ترى أنَّ هذا ليس من باب الكذب الذي هو ضدُّ الصِّدق، وإنما هو من باب الغلط وظنِّ ما ليس بصحيح، وذلك أنَّ قريشًا زعموا أنهم يُخْرِجون بني هاشم من مكة إن لم يتركوا جِوارَ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فقال لهم

(1)

في ديوانه (74، 193) من لاميَّته المتقدم بعضها (ص: 269).

(2)

أي: نُغْلَب ونُقْهَر عليه، و «محمدًا» منصوبٌ بنزع الخافض. انظر:«الخزانة» (2/ 63). وتروى: يُبْزى محمدٌ، أي: يُقْهَر ويُغلَب. «اللسان» (بزا). ورواية الديوان في الموضع الأول: نبرا محمدًا. وفي الثاني: يخزى محمدٌ.

(3)

وهو عمر بن براقة، فارسُ همدان وشاعرها لعصره، من كلمةٍ باذخة في «الإكليل» (10/ 195)، و «أمالي القالي» (2/ 122)، و «الوحشيات» (31)، و «الحماسة البصرية» (1/ 340)، و «الأغاني» (21/ 199)، وغيرها.

(4)

من كلمةٍ حماسية. انظر: «الحماسة» بشرح المرزوقي (649، 651).

ص: 1547

أبو طالب: «كذبتم» أي: غلطتم فيما قلتم وظننتم. وكذلك معنى قول الهَمْدانيِّ والعبسي.

وهذا مشهورٌ من كلام العرب.

قلت: ومن هذا قولُ سعيد بن جبير: «كذبَ جابرُ بن زيد» يعني في قوله: «الطلاقُ بيد السيِّد»

(1)

، أي: أخطأ.

ومن هذا قولُ عبادة بن الصامت: «كذبَ أبو محمَّد» لمَّا قال: «الوترُ واجب»

(2)

أي: أخطأ.

وفي «الصحيح»

(3)

أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «كذَبَ أبو السَّنابل» ، لمَّا أفتى أنَّ الحاملَ المتوفَّى عنها زوجُها لا تتزوَّج حتى تتمَّ لها أربعة أشهر وعشرًا، ولو وضعَت.

وهذا كثير.

والمقصود: أنَّ عائشة رضي الله عنها ردَّت هذا الحديث، وأنكرَته، وخطَّأت قائلَه

(4)

.

(1)

أخرجه سعيد بن منصور (1/ 210)، وعبدالرزاق (7/ 239)، وغيرهما.

(2)

أخرجه أحمد (5/ 315)، وأبو داود (425)، وغيرهما، وصححه ابن حبان (1731). وأبو محمد هو مسعود بن زيد بن سبيع الأنصاري، له صحبة، سكن الشام. انظر:«الإصابة» (6/ 98).

(3)

الحديث في الصحيحين دون موضع الشاهد، وهو عند أحمد (1/ 447)، وعبد الرزاق (6/ 474)، والبيهقي (7/ 429)، وغيرهم من طرقٍ موصولة ومرسلة. انظر:«السلسلة الصحيحة» (3274).

(4)

نقل ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (67/ 352 - 353) تعليقًا طويلًا لابن خزيمة في توجيه تكذيب عائشة لخبر أبي هريرة، والاعتذار لهما. وأظنه من كتاب التوكل من «الصحيح» ، وهو من جملة المفقود منه.

ص: 1548

ولكنَّ قولَ عائشة هذا مرجوح

(1)

، ولها رضي الله عنها اجتهادٌ في ردِّ بعض الأحاديث الصحيحة خالفها فيه غيرُها من الصحابة

(2)

.

وهي رضي الله عنها لما ظنَّت أنَّ هذا الحديث يقتضي إثباتَ الطِّيَرة التي هي من الشرك لم يَسَعْها غيرُ تكذيبه وردِّه، ولكنَّ الذين رووه ممَّن لا يمكنُ ردُّ روايتهم، ولم ينفرد بهذا أبو هريرة وحده، ولو انفرد به فهو حافظُ الأمَّة على الإطلاق، وكلُّ ما رواه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فهو صحيح، بل قد رواه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر بن الخطاب، وسهل بن سعد الساعدي، وجابر بن عبد الله الأنصاري، رضي الله عنهم، وأحاديثهم في «الصحيح»

(3)

.

فالواجبُ بيانُ معنى الحديث، ومباينته للطِّيَرة الشِّركيَّة.

فنقولُ وبالله التوفيق:

هذا الحديثُ قد رُوِي على وجهين:

أحدهما: بالجزم. والثاني: بالشرط.

فأمَّا الأول؛ فرواه مالك، عن ابن شهاب، عن سالم وحمزة ابني عبد الله بن عمر، عن أبيهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«الشُّؤم في الدار والمرأة والفرس» ، متفقٌ عليه.

(1)

انظر: «كشف المشكل» لابن الجوزي (2/ 268).

(2)

وجمع هذه الأحاديث أبو منصور البغدادي والزركشي في كتابين مشهورين مطبوعين بُنِي الثاني منهما على الأول.

(3)

وتقدم تخريجها.

ص: 1549

وفي لفظٍ في «الصحيحين» عنه: «لا عدوى، ولا صفر، ولا طِيَرة، وإنما الشُّؤم في ثلاثة: المرأة، والفَرس، والدار» .

وأمَّا الثاني؛ ففي «الصحيحين» أيضًا عن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنْ كان؛ ففي المرأة، والفَرس، والمسكن» ، يعني: الشُّؤم. وقال البخاري: «إن كان في شيء» .

وفي «صحيح مسلم» عن جابر مرفوعًا: «إن كان في شيءٍ؛ ففي الرَّبْع، والخادم، والفَرس»

(1)

.

وفي «الصحيحين»

(2)

عن ابن عمر مرفوعًا: «إن يكن من الشُّؤم شيءٌ حقًّا؛ ففي الفَرس، والمسكن، والمرأة» .

وروى زهير بن معاوية، عن عُتبة بن حميد، قال: حدثني عبيد الله بن أبي بكر، أنه سمع أنسًا يقول: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا طِيَرة، والطِّيَرة على من تطيَّر، وإن يكن في شيءٍ ففي المرأة، والدَّار، والفَرس» . ذكره أبو عمر

(3)

.

وقالت طائفةٌ أخرى: لم يجزم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالشُّؤم في هذه الثلاثة، بل علَّقه على الشَّرط، فقال:«إن يكن الشُّؤم في شيءٍ» ، ولا يلزمُ من صِدق الشَّرطيَّة

(1)

تقدم تخريج هذه الأحاديث.

(2)

تقدم أنه عند مسلم بنحو هذا اللفظ.

(3)

في «التمهيد» (9/ 284) تعليقًا، ووصله الطبري في «تهذيب الآثار» (22 - مسند علي)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (6/ 98). وفي إسناده ضعف.

وصححه ابن حبان (6123)، ومن طريقه الضياء في «المختارة» (2269). وقال ابن حجر في «الفتح» (6/ 63):«في صحته نظر؛ لأنه من رواية عتبة بن حميد، وهو مختلفٌ فيه» .

ص: 1550

صدقُ كلِّ واحدٍ من مفردَيها، فقد يصدقُ التلازمُ بين المستحيلَين

(1)

.

قالوا: ولعلَّ الوهمَ وقع من ذلك، وهو أنَّ الراوي غَلِط، وقال: الشُّؤم في ثلاثة، وإنما الحديث:«إن كان الشُّؤم في شيءٍ ففي ثلاثة» .

قالوا: وقد اختُلف على ابن عمر، والروايتان صحيحتان عنه.

قالوا: وبهذا يزولُ الإشكال، ويتبيَّن وجهُ الصواب.

وقالت طائفةٌ أخرى

(2)

: إضافةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشُّؤم إلى هذه الثلاثة مجازٌ واتِّساع، أي: قد يحصلُ الشُّؤم مقارنًا لها وعندها، لا أنها هي في أنفسها مما يوجبُ الشُّؤم.

قالوا: وقد تكونُ الدارُ قد قضى الله عز وجل عليها أن يميتَ فيها خلقًا من عباده، كما يقدِّرُ ذلك في البلد الذي ينزلُ الطاعونُ به، وفي المكان الذي يكثرُ الوباءُ فيه، فيضافُ ذلك إلى المكان مجازًا، والله خلقه عنده، وقدَّره فيه، كما يخلقُ الموتَ عند قتل القاتل، والشِّبعَ والرِّيَّ عند أكل الآكل وشُرب الشارب.

فالدارُ التي يهلكُ بها أكثرُ ساكنيها توصَفُ بالشُّؤم، لأنَّ الله عز وجل قد خصَّها بكثرة من قبض فيها، فمن كتبَ اللهُ عليه الموتَ في تلك الدار حَسَّنَ إليه سُكناها، وحرَّكه إليها، حتى يقبض روحَه في المكان الذي كتبَ له، كما ساقَ الرجلَ من بلدٍ إلى بلدٍ للأثر

(3)

والبقعة التي قضى أنه يكونُ مدفنُه بها.

(1)

(ص): «بين شيئين مستحيلين» .

(2)

وهم نفاة الأسباب من المتكلمين.

(3)

كذا رسمها في الأصول. ولست منها على ثقة.

ص: 1551

قالوا: وكذلك ما يوصفُ من طول أعمار بعض أهل البلدان، ليس ذلك من أجل صحَّة هواءٍ، ولا طِيب تُربة، ولا طبعٍ يزدادُ

(1)

به الأجل، وينقصُ لفواته، ولكنَّ الله سبحانه قد خلقَ ذلك المكان وقضى أن يسكنَه أطولُ خلقه أعمارًا، فيسوقُهم إليه، ويجمعهُم فيه، ويحبِّبه إليهم.

قالوا: وإذا كان هذا على ما وصفنا في الدُّور والبقاع جاز مثلُه في النِّساء والخَيل؛ فتكون المرأة قد قدَّر الله عليها أن تتزوَّج عددًا من الرجال، ويموتون معها، فلا بدَّ من إنفاذ قضائه وقدره، حتى إنَّ الرجلَ ليُقْدِمُ عليها من بعد علمه بكثرة من مات معها

(2)

لوجهٍ من الطَّمع يقودُه إليها، حتى يتمَّ قضاؤه وقدرُه، فتوصفُ المرأة بالشُّؤم لذلك، وكذلك الفَرس، وإن لم يكن لشيءٍ من ذلك فعلٌ ولا تأثير.

وقال ابن القاسم: سئل مالكٌ عن الشُّؤم في الفرس والدار، فقال: إنَّ ذلك كذلك

(3)

فيما نرى، كم من دارٍ قد سكنها ناسٌ فهلكوا، ثم سكنها آخرون فهلكوا. قال: فهذا تفسيره فيما نرى، والله أعلم

(4)

.

وقالت طائفةٌ أخرى: شؤمُ الدار مجاورة جار السُّوء لها

(5)

، وشؤمُ

(1)

(ت، ص): «يزاد» .

(2)

(ق، د): «عنها» .

(3)

في الأصول: «كذب» . وهو تحريف. ولم ترد هذه الجملة في المصادر التالية التي نقلت كلام مالك.

(4)

انظر: «سنن أبي داود» (3922)، و «البيان والتحصيل» (17/ 275)، و «المنتقى» للباجي (7/ 294).

(5)

(ت، ص): «جار الشؤم لها» .

ص: 1552

الفَرس أن لا يُغزى عليها في سبيل الله، وشؤمُ المرأة أن لا تلد وتكونَ سيِّئةَ الخُلق

(1)

.

وقال طائفةٌ أخرى، منهم الخطابي: هذا مستثنى من الطِّيَرة، أي: الطِّيَرة منهيٌّ عنها إلا أن يكون له دارٌ يكره سُكناها، أو امرأةٌ يكره صحبتَها، أو فرسٌ أو خادم، فليفارق الجميعَ بالبيع والطَّلاق ونحوه، ولا يقيمُ على الكراهة والتأذِّي به، فإنه شؤم

(2)

.

وقد سلك هذا المسلكَ أبو محمد بن قتيبة في كتاب «مشكل الحديث» له

(3)

، لمَّا ذكر أنَّ بعض الملاحدة اعترض بحديث هذه الثلاثة.

وقال طائفةٌ أخرى: الشُّؤم في هذه الثلاثة إنما يلحقُ من تشاءم بها وتطيَّر بها، فيكونُ شؤمها عليه، ومن توكَّل على الله ولم يتشاءم ولم يتطيَّر لم تكن مشؤومةً عليه.

قالوا: ويدلُّ عليه حديثُ أنس: «الطِّيَرة على من تطيَّر»

(4)

، وقد يجعلُ الله سبحانه تطيُّر العبد وتشاؤمه سببًا لحلول المكروه به، كما يجعلُ الثِّقةَ به والتوكُّل عليه وإفرادَه بالخوف والرجاء من أعظم الأسباب التي يدفعُ بها الشرَّ المتطيَّر به.

وسرُّ هذا: أنَّ الطِّيَرة إنما تتضمَّنُ

(5)

الشركَ بالله تعالى، والخوفَ من

(1)

انظر: «الجامع» لمعمر (10/ 411).

(2)

انظر: «معالم السنن» (4/ 236)، و «أعلام الحديث» (2/ 1379).

(3)

(82).

(4)

تقدم تخريجه (ص: 1550).

(5)

كذا في الأصول. ولعل الصواب: لما كانت تتضمَّن.

ص: 1553

غيره، وعدم التوكُّل عليه والثِّقة به، كان صاحبُها غرضًا لسهام الشرِّ والبلاء، فيسرعُ نفوذُها فيه، لأنه لم يتدرَّع من التوحيد والتوكُّل بجُنَّةٍ واقية، وكلُّ من خاف شيئًا غيرَ الله سُلِّطَ عليه، كما أنَّ من أحبَّ مع الله غيرَه عُذِّبَ به، ومن رجا مع الله غيرَه خُذِلَ من جهته. وهذه أمورٌ تجربتُها تكفي

(1)

عن أدلَّتها.

والنَّفسُ لابدَّ أن تتطيَّر، ولكنَّ المؤمنَ القويَّ الإيمان يدفعُ مُوجَبَ تطيُّره بالتوكُّل على الله، فإنَّ من توكَّل على الله وحده كفاه مِنْ غيره، قال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 98 - 100].

ولهذا قال ابن مسعود: «وما منَّا إلا» يعني: من يُقارِبُ التطيُّر، «ولكنَّ الله يُذْهِبه بالتوكُّل»

(2)

.

ومن هذا قولُ زبَّان بن سيَّار:

أطارَ الطيرَ إذ سِرْنا زيادٌ

لِتُخْبِرَنا وما فيها خبيرُ

أقام كأنَّ لقمان بن عادٍ

أشار له بحكمته مشيرُ

تَعَلَّمْ أنه لا طيرَ إلا

على مُتَطيِّرٍ وهو الثُّبورُ

قالوا: فالشُّؤم الذي في الدار والمرأة والفَرس قد يكونُ مخصوصًا بمن تشاءم بها وتطيَّر، وأمَّا من توكَّل على الله وخافَه وحده ولم يتطيَّر ولم يتشاءم فإنَّ الفَرس والمرأة والدار لا تكون شؤمًا في حقِّه.

(1)

(ت): «تكفي وتغني» .

(2)

تقدم تخريجه، وتصويب وقفه على ابن مسعود (ص: 1484).

ص: 1554

وقالت طائفةٌ أخرى: معنى الحديث: إخبارُه صلى الله عليه وسلم عن الأسباب المثيرة للطِّيَرة الكامنة في الغرائز، يعني: أنَّ المثيرَ للطِّيَرة في غرائز الناس هي هذه الثلاثة، فأخبَرنا بها لنأخُذ الحذرَ منها، فقال:«الشُّؤم في الدار والمرأة والفرس» ، أي: أنَّ الحوادثَ التي تكثرُ مع هذه الأشياء

(1)

، والمصائبَ التي تتوالى عندها، تقودُ الناسَ إلى التشاؤم بها، فقال:«الشُّؤم فيها» ، أي: أنَّ الله قد يقدِّره فيها على قومٍ دون قوم.

فخاطَبهم صلى الله عليه وسلم بذلك لِمَا استقرَّ عندهم منه صلى الله عليه وسلم من إبطال الطِّيَرة وإنكار العدوى، ولذلك لم يستفهموه في ذلك عن معنى ما أراده صلى الله عليه وسلم، كما تقدَّم لهم في قوله:«لا يوردُ المُمْرِضُ على المُصِحِّ»

(2)

، فقالوا عنده: وما ذاك يا رسول الله؟ فأخبرهم أنه خافَ في ذلك الأذى الذي يُدْخِلُه المُمْرِضُ على المُصِحِّ، لا العدوى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالتَّوادُد، وإدخال السُّرور بين المؤمنين، وحُسْن التجاوز، ونهى عن التقاطُع والتباغُض والأذى.

فمن اعتقدَ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبَ الطِّيَرةَ والشُّؤم إلى شيءٍ من الأشياء على سبيل أنه مؤثِّرٌ لذلك دون الله، فقد أعظمَ الفرية على الله وعلى رسوله وضلَّ ضلالًا بعيدًا.

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم ابتدأهم بنفي الطِّيَرة والعدوى، ثمَّ قال:«الشُّؤم في ثلاث» ، قطعًا لتوهُّم الطِّيَرة المنفيَّة في الثلاثة التي أخبرَ أنَّ الشُّؤم يكونُ فيها، فقال:«لا عدوى، ولا طيَرة، والشُّؤم في ثلاثة» ، فابتدأهم بالمؤخَّر من الخبر تعجيلًا لهم بالإخبار بفساد العدوى والطِّيَرة المتوهَّمة من قوله:«الشُّؤم في ثلاثة» .

(1)

(ت، ص): «هذه الثلاثة أشياء» .

(2)

مضى تخريجه (ص: 1509).

ص: 1555

وبالجملة؛ فإخباره صلى الله عليه وسلم بالشُّؤم أنه يكونُ في هذه الثلاثة ليس فيه إثباتُ الطِّيَرة التي نفاها، وإنما غايتُه أنَّ الله سبحانه قد يخلقُ منها أعيانًا مشؤومةً على مَنْ قارَبها وسكَنها، وأعيانًا مباركةً لا يلحقُ مَنْ قارَبها منها شؤمٌ ولا شرٌّ.

وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدًا مباركًا يرَيان الخيرَ على وجهه، ويعطي غيرَهما ولدًا مشؤومًا نذلًا يرَيان الشرَّ على وجهه، وكذلك ما يُعْطَاهُ العبدُ من ولايةٍ أو غيرها، فكذلك الدارُ والمرأةُ والفَرس.

واللهُ سبحانه خالقُ الخير والشرِّ والسُّعود والنُّحوس، فيخلقُ بعضَ هذه الأعيان سُعودًا مباركة، ويقضي بسعادة مَنْ قارَبها

(1)

، وحصول اليُمْن له والبركة، ويخلقُ بعضَ ذلك نحوسًا ينتحسُ بها مَنْ قارَبها.

وكلُّ ذلك بقضائه وقدره، كما خلقَ سائرَ الأسباب وربَطها بمسبَّباتها المتضادَّة والمختلفة، فكما

(2)

خلقَ المِسْكَ وغيرَه من حامل الأرواح الطِّيبة

(3)

، ولذَّذَ بها مَنْ قارَبها من الناس، وخلقَ ضدَّها وجعلها سببًا لألم مَنْ قارَبها من الناس. والفرقُ بين هذين النوعين يُدْرَكُ بالحِسِّ، فكذلك في الدِّيار والنِّساء والخيل، فهذا لونٌ والطِّيَرة الشركيَّةُ لون.

فصل

وأمَّا الأثرُ الذي ذكره مالكٌ عن يحيى بن سعيد: جاءت امرأةٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، دارٌ سكنَّاها والعددُ كثيرٌ والمالُ وافر، فقلَّ العدد، وذهبَ المال، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«دعوها، ذميمة» .

(1)

(ق): «قارنها» . وهكذا في المواضع التالية.

(2)

كذا في الأصول. ولعلها: «وكما» .

(3)

جمع ريح أو رَوْح.

ص: 1556

وقد ذكر هذا الحديثَ غيرُ مالكٍ من رواية أنس، أنَّ رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنَّا نزلنا دارًا فكَثُرَ فيها عددُنا، وكثُرت فيها أموالُنا، ثمَّ تحوَّلنا عنها إلى أخرى، فقلَّت فيها أموالُنا، وقلَّ فيها عددُنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«تحوَّلوا عنها»

(1)

.

فليس هذا من الطِّيَرة المنهيِّ عنها، وإنما أمرهم صلى الله عليه وسلم بالتحوُّل عنها عندما وقعَ في قلوبهم منها، لمصلحتين ومنفعتين:

إحداهما: مفارقتُهم لمكانٍ هم له مستثقلون، ومنه مستوحشون، لِمَا لحقهم فيه ونالهم عنده، ليتعجَّلوا الرَّاحةَ مما داخَلَهم من الجزع في ذلك المكان والحُزن والهلع؛ لأنَّ الله عز وجل قد جعل في غرائز الناس وتركيبهم استثقالَ ما نالهم الشرُّ فيه وإن كان لا سببَ له في ذلك، وحُبَّ من جرى لهم على يديه الخيرُ وإن لم يُرِدْهم به.

فأمرهم بالتحوُّل مما كرهوه؛ لأنَّ الله عز وجل بعثه رحمةً ولم يبعثه عذابًا، وأرسله ميسِّرًا ولم يرسله معسِّرًا، فكيف يأمرُهم بالمقام في مكانٍ قد أحزنهم المقامُ به، واستوحشوا عنده، لكثرة من فقدوه فيه، لغير منفعةٍ ولا طاعةٍ ولا مزيد تقوى وهدى؟!

لاسيَّما

(2)

وطولُ مقامهم فيها ــ بعدما وصل إلى قلوبهم منها ما وصل ــ قد يبعثُهم ويقودُهم إلى التشاؤم والتطيُّر، فيوقعُهم ذلك في أمرين عظيمين:

(1)

تقدم تخريج الحديث (ص: 1493).

(2)

ما يلي هي المصلحة الثانية.

ص: 1557

أحدهما: مقارفةُ

(1)

الشرك.

والثاني: حلولُ مكروهٍ آخرَ بهم

(2)

؛ بسبب الطِّيَرة التي إنما تلحقُ المتطيِّر.

فحماهم صلى الله عليه وسلم ــ بكمال رأفته ورحمته ــ من هذين المكروهَيْن بمفارقة تلك الدار، والاستبدال بها، من غير ضررٍ يلحقُهم بذلك في دنيا، ولا نقصٍ في دين.

وهو صلى الله عليه وسلم حين فَهِمَ عنهم في سؤالهم ما أرادوه من التعرُّف عن حال رحلتهم عنها

(3)

، هل ذلك لهم ضارٌّ مؤدٍّ إلى الطِّيَرة؟ قال:«دعوها، ذميمة» .

وهذا بمنزلة الخارج من أرضٍ بها الطَّاعونُ غير فارٍّ منه.

ولو مُنِعَ الناسُ الرحلةَ من الدار التي تتوالى عليهم المصائبُ فيها والمحنُ وتعذُّرُ الأرزاق، مع سلامة التوحيد في الرحلة، للَزِمَ ذلك كلَّ من ضاق عليه رزقٌ في بلدٍ أن لا ينتقلَ عنه إلى بلدٍ آخر، ومَنْ قلَّت فائدةُ صناعته أن لا ينتقلَ عنها إلى غيرها.

فصل

وأمَّا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للذي سلَّ سيفه يومَ أحد: «شِمْ سيفك، فإني أرى السيوفَ سَتُسَلُّ اليوم»

(4)

؛ فهذه القصةُ لم يكن الرجلُ قد سَلَّ فيها السَّيف،

(1)

في الأصول: «مقارنة» . بالنون. والمثبت أشبه، وهو لفظ الحديث.

(2)

في الأصول: «احزنهم» . وهو تحريف.

(3)

(ت، ص): «من غير ضرر يلحقهم بذلك في رحلتهم عنها» .

(4)

تقدم تخريجه (ص: 1494).

ص: 1558

ولكنَّ الفَرسَ لوَّح بذنبه، فسَلَّ السيف، ولم يُرِد صاحبُه سَلَّه، هكذا في القصة.

ولا ريب أنَّ الحربَ تقومُ بالخيل والسيوف، ولما لوَّحَ الفَرسُ بذنبه فاستلَّ السيف، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنِّي أرى السيوف سَتُسَلُّ اليوم» .

فهذا له محملٌ من ثلاثة محامل:

أحدها: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر عن ظنٍّ ظنَّه في ذلك، ولم يجعَل هذا دليلًا عامًّا في كلِّ واقعةٍ تشبهُ هذه، وإذا كان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه ــ وهو أحدُ أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلٌ من أمَّته ــ كان إذا قال: أظنُّ كذا، أو: أرى كذا، خرجَ الأمرُ كما ظنَّه وحَسِبَه، فكيف يُظَنُّ برسول الله

(1)

صلى الله عليه وسلم؟!

الثاني: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان قد عَلِمَ قبل مخرجه أنَّ السيوفَ سَتُسَلُّ ويقعُ القتال، ولهذا أخبرهم أنه رأى في منامه بقرًا تُنْحَرُ

(2)

، وعَلِمَ أنَّ ذلك شهادةُ من قتلَ من أصحابه.

الثالث: أنَّ الوحيَ الذي كان يَعْرِفُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الحوادثَ والنوازلَ كان مُغْنِيًا له عن الإشارات والعلامات والأمارات وما في معناها مما يحتاجُ إليه غيرُه، وأمَّا من يأتيه خبرُ السماء صباحًا ومساءً فإخباره بقوله:«أرى السيوفَ سَتُسَلُّ» لم يكن عن تلك الأمارة، وإنما وقع الإخبارُ به عَقِيبها، والشيءُ بالشيء يُذْكَر.

(1)

(ت): «يظن رسول الله» . ولعلها: بظن رسول الله.

(2)

أخرجه البخاري (3622)، ومسلم (2272) من حديث أبي موسى.

ص: 1559

فصل

وأمَّا ما احتجَّ به

(1)

ونسَبه إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «وقَدَت الحرب» ، لمَّا رمى

(2)

واقدُ بن عبد الله الحضرميَّ، «والحضرميُّ حضرت الحرب» ؛ فكذبٌ عليه صلى الله عليه وسلم، وإنما قال ذلك أعداؤه من اليهود، فتطيَّروا بذلك وتفاءلوا به

(3)

، فكانت الطِّيَرة عليهم، ووقَدَت الحربُ عليهم.

فصل

وأمَّا استقبالُه صلى الله عليه وسلم الجبلين في طريقه، وهما: مُسْلِح ومُخْرِاء، وتركُ المرور بينهما، وعدلُ ذات اليمين

(4)

؛ فليس هذا أيضًا من الطِّيَرة، وإنما هو من العدول عمَّا يؤذي النفوسَ ويُشَوِّشُ القلوبَ إلى ما هو بخلافه، كالعدول عن الاسم القبيح وتغييره بأحسنَ منه

(5)

، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك بما فيه كفاية.

وأيضًا؛ فإنَّ الأماكنَ فيها الميمونُ المبارك والمشؤومُ المذموم، فاطَّلعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على شؤم ذلك المكان، وأنه مكانُ سوء، فجاوزَه إلى غيره، كما جاوزَ الوادي الذي ناموا فيه عن الصُّبح إلى غيره، وقال:«هذا مكانٌ حَضَرَنا فيه الشيطان»

(6)

، والشيطانُ يحبُّ الأمكنةَ المذمومة وينتابُها.

(1)

من يحتج لإثبات الطِّيرة ويصححها، وقد سلف احتجاجه (ص: 1494).

(2)

(ق): «رأى» . وهو تحريف.

(3)

انظر: «طبقات ابن سعد» (3/ 390)، و «تفسير الطبري» (4/ 304)، و «سيرة ابن هشام» (3/ 149).

(4)

كما تقدم (ص: 1494).

(5)

انظر: «الروض الأنف» (3/ 57).

(6)

أخرجه مسلم (680) من حديث أبي هريرة.

ص: 1560

وأيضًا؛ فَلِمَا كان المرورُ بين ذينِكَ الجبلين قد يُشَوِّشُ

(1)

القلب.

على أنَّا نقولُ في ذلك قولًا كلِّيًّا نبيِّنُ به سرَّ هذا الباب، بحول الله وعونه وتوفيقه:

اعلَم أنَّ بين الأسماء ومسمَّياتها ارتباطًا قدَّره العزيزُ العليم، وألهَمَه نفوسَ العباد، وجعَله في قلوبهم بحيث لا تنصرفُ عنه، وليس هذا الارتباطُ هو ارتباطَ العلَّة بمعلولها، ولا ارتباطَ المقتضي الوجوبَ لمقتضاه وموجَبه، بل ارتباط تناسُبٍ وتشاكُلٍ اقتضته حكمةُ الحكيم.

فقَلَّ أن ترى اسمًا قبيحًا إلا وبين مسمَّاه وبينه رابطٌ من القُبح، وكذلك إذا تأمَّلتَ الاسم الثقيلَ الذي تنفرُ عنه الأسماع، وتنبو عنه الطِّباع، فإنك تجدُ مسمَّاه يُقارِبُ أو يُلِمُّ أن يُطابِق.

ولهذا من المشهور على ألسنة الناس: أنَّ الألقابَ تنزلُ من السماء

(2)

. فلا تكادُ تجدُ الاسمَ الشنيعَ القبيحَ إلا على مسمًّى يناسبُه.

وفي ذلك قولُ القائل:

وقَلَّ أنْ أبصَرَتْ عيناكَ ذا لَقَبٍ

إلا ومعناهُ إن فكَّرتَ في لَقَبِهْ

(3)

(1)

(ق): «تشوف» . (د، ت، ص)«يشوق» . والمثبت من (ط).

(2)

انظر: «التمثيل والمحاضرة» (45)، و «مجمع الأمثال» (2/ 257).

(3)

ثاني بيتين في «نور القبس» (332) لبعض أصحاب ثعلب في هجاء المبرد. وهو في «المفردات» للراغب (744)، و «شرح المقامات» للشريشي (1/ 24) دون نسبة. وبمعناه في «محاضرات الأدباء» (3/ 660).

ص: 1561

وهذا كثيرًا ما يوجدُ أيضًا

(1)

في أسماء الأجناس.

والواضعُ

(2)

له عنايةٌ بمطابقة الألفاظ للمعاني، ومناسبتها لها، فيجعلُ الحروفَ الهوائيَّة الخفيفةَ للمسمَّى المُشاكِل لها، كالهواء، والحروفَ الشَّديدة للمسمَّى المناسب لها، كالصَّخر والحَجَر، وإذا تتابعَت حركةُ المسمَّى تابَعوا بين حركة اللفظ، كالدَّوَران والغَلَيان والنَّزَوان، وإذا تكرَّرت الحركةُ كرَّروا اللفظ، كقَلْقَلَ وزَلْزَلَ ودَكْدَكَ وصَرْصَرَ، وإذا اكتَنزَ المسمَّى وتجمَّعت أجزاؤه جعَلوا في اسمه من الضَّمِّ الدالِّ على الجمع والاكتناز ما يناسبُ المسمَّى، كالبُحْتُر للقصير المجتمع الخَلْق، وإذا طالَ جعلوا في اسمه

(3)

من الفتح الدالِّ على الامتداد نظيرَ ما في المعنى، كالعَشَنَّق للطَّويل. ونظائرُ ذلك أكثرُ من أن تُسْتَوعَب، وإنما أشرنا إليها أدنى إشارة

(4)

.

وهذا هو الذي أراده من قال: بين الاسم والمسمَّى مناسبة

(5)

، فلم يفهم عنه بعضُ المتأخِّرين مرادَه، فأخذ يشنِّعُ عليه بأنه لا تناسُبَ طبعِيًّا

(6)

بينهما، واستدلَّ على إنكار ذلك بما لا طائل تحته

(7)

؛ فإنَّ عاقلًا لا يقول: إنَّ

(1)

(ت، ص): «مما يوجد» .

(2)

واضعُ اللغة.

(3)

(د، ق): «المسمى» . وهو تحريف.

(4)

انظر: «الخصائص» لابن جني (2/ 152 - 168)، و «جلاء الأفهام» (146 - 153)، و «بدائع الفوائد» (189)، و «تحفة المودود» (51، 146)، و «زاد المعاد» (2/ 336)[و"مجموع الفتاوى" (20/ 418)].

(5)

وهو عباد بن سليمان الصيمري.

(6)

(ت): «طبيعيا» .

(7)

انظر: «المحصول» (1/ 181، 183)، و «الإبهاج» (1/ 196)، و «البحر المحيط» (2/ 32)، و «المزهر» للسيوطي (1/ 47).

ص: 1562

التناسُبَ الذي بين الاسم والمسمَّى كالتناسُب الذي بين العلَّة والمعلول، وإنما هو ترجيحٌ وأولويَّةٌ تقتضي اختصاصَ الاسم بمسمَّاه، وقد يتخلَّف عنه اقتضاؤها كثيرًا.

والمقصود أنَّ هذه المناسبة تنضمُّ إلى ما جعل الله في طبائع الناس وغرائزهم من النُّفرة من الاسم

(1)

القبيح المكروه، وكراهته، وتطيُّر أكثرهم به، وذلك يوجبُ عدمَ ملابسته ومجاوزته إلى غيره، فهذا أصلُ هذا الباب.

فصل

وأمَّا كراهيةُ السلف أن يُتْبَعَ الميِّتُ بشيءٍ من النار، أو أن يُدْخَلَ القبرَ شيءٌ مَسَّته النار، وقولُ عائشة رضي الله عنها:«لا يكونُ آخرُ زاده أن تَتْبعوه بالنار»

(2)

؛ فيجوزُ أن يكون كراهتُهم لذلك مخافةَ الإحداث لما لم يكن في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فكيف وذلك مما يُنْتِجُ

(3)

الطِّيَرة به والظُّنونَ الرديَّة بالميت؟!

وقد قال غيرُ واحدٍ من السلف، منهم عبد الملك بن حبيب وغيره: إنما كرهوا ذلك تفاؤلًا بالنار في هذا المقام أن تَتْبعه

(4)

.

وذكر ابنُ حبيب وغيره أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على جنازة، فجاءت امرأةٌ ومعها مِجْمَر، فما زال يصيحُ بها حتى توارت بآجام المدينة

(5)

.

(1)

مهملة في (د). (ق): «بين الاسم» . وهو تحريف.

(2)

تقدم تخريجه (ص: 1496).

(3)

(ق، د، ت): «يبيح» . والمثبت من (ص) أشبه.

(4)

انظر: «تفسير غريب الموطأ» لابن حبيب (2/ 66).

(5)

أخرجه عبد الرزاق (3/ 420)، وابن أبي شيبة (3/ 272)، وابن قانع في «معجم الصحابة» (3/ 119)، وأبو نعيم في «معرفة الصحابة» (2329) من حديث حنش بن المعتمر مرسلًا.

ولا تصحُّ للمعتمر صحبة، بل ضعَّفه البخاري وطائفة. انظر:«الإصابة» (2/ 216)، و «أسد الغابة» (2/ 55)، و «التهذيب» (3/ 59).

ويروى من حديث حنش عن أبيه. أخرجه الطبراني في «الكبير» (20/ 321)، ولا أراه محفوظًا، وأبوه لا يعرف. انظر:«الإصابة» (6/ 176).

ص: 1563

قال بعضُ أهل العلم: وليس خوفُهم من ذلك على الميِّت، لكنْ على الأحياء المجبولين على الطِّيَرة، لئلَّا تحدِّثهم أنفسُهم بالميِّت أنه من أهل النار، لِمَا رأوا من النار التي تَتْبَعُه في أول أيَّامه من الآخرة، ولا سيَّما في مكانٍ يرادُ منهم فيه كثرةُ الاجتهاد للميِّت بالدعاء، فإذا لم يبقَ له زادٌ غيرُه فيظنُّون أنَّ تلك النار من بقايا زاده إلى الآخرة، فتسوءُ ظنونُهم به، وتنفرُ عن رحمته قلوبُهم في مكانٍ هم فيه شهداءُ الله؛ كما جاء في الحديث الصحيح لما مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازةٍ فأثنوا عليها خيرًا، فقال:«وجبَت» ، فقالوا: ما وجبَت؟ قال: «وجبَت له الجنة، أنتم شهداءُ الله في الأرض، من أثنيتم عليه خيرًا وجبَت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شرًّا وجبَت له النار»

(1)

.

وفي أثرٍ آخر: «إذا أردتم أن تعلموا ما للميت عند الله فانظروا ما يتبعُه من حسن الثناء»

(2)

.

فقالت عائشة رضي الله عنها: لا يكونُ آخرُ زاده من الثَّناء والدعاء أن

(1)

أخرجه البخاري (1367)، ومسلم (949) من حديث أنس.

(2)

أخرجه مالك (2630) من قول كعب الأحبار بإسنادٍ صحيح.

وروي مرفوعًا من حديث علي، أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (13/ 374)، ولا يصح. انظر:«السلسلة الضعيفة» (1620).

ص: 1564

تَتْبعوه بالنار، فتهيِّجوا بها خواطرَ الناس، وتبعثوا ظنونَهم بالتطيُّر بالنار والعذاب. والله أعلم.

فصل

وأمَّا تلك الوقائعُ التي ذكروها مما يدلُّ على وقوع ما تطيَّر به مَنْ تطيَّر؛ فنعم، وهاهنا أضعافُها وأضعافُ أضعافها.

ولسنا ننكرُ موافقةَ القضاء والقدر لهذه الأسباب وغيرها كثيرًا، وموافقةُ حَزْر الحازرين وظنون الظَّانِّين وزَجْر الزاجرين للقَدَر أحيانًا مما لا ينكرُه أحد.

ومن الأسباب التي توجبُ وقوعَ المكروه: الطِّيَرة، كما تقدَّم، وأنَّ الطِّيَرة على من تطيَّر، ولكنْ نصَبَ اللهُ سبحانه لها أسبابًا يُدْفَعُ بها مُوجَبُها وضررُها، من التوكُّل عليه، وحسن الظَّنِّ به، وإعراض قلبه عن الطِّيَرة، وعدم التفاته إليها وخوفه منها، وثقته بالله عز وجل.

ولسنا ننكرُ أنَّ هذه الأمور ظنونٌ وتخمينٌ وحَدْسٌ وخَرْص، وما كان هذا سبيلُه فيصيبُ تارةً ويخطاءُ تارات.

وليس كلُّ ما تطيَّر به المتطيِّرون وتشاءموا به وقعَ جميعه وصَدَق، بل أكثرُه كاذب، وصادقُه نادر، والناسُ في هذا المقام إنما يعوِّلون

(1)

وينقلون ما صحَّ ووقَع ويعتنونَ به، فيُرى كثيرًا، والكاذبُ منه أكثرُ من أن يُنْقَل.

قال ابن قتيبة: مِنْ شأن [الناس]

(2)

حفظُ الصَّواب للعجَب به والشَّغف

(1)

(ت): «يقولون» .

(2)

ليست في الأصول.

ص: 1565

والاستغراب، وتناسي الخطأ.

قال: ومن ذا الذي يتحدَّثُ أنه سأل منجِّمًا فأخطأ؟! وإنما الذي يُتَحَدَّثُ به ويُنقَلُ أنه سأله فأصاب.

قال: والصوابُ في المسألة إذا كان بين أمرين، قد يقعُ للمعتوه والطِّفل، فضلًا عن أولي العقل

(1)

.

وقد تقدَّم من بطلان الطِّيَرة وكذبها ما فيه كفاية.

وقد كانت عائشةُ أمُّ المؤمنين رضي الله تستحبُّ أن تتزوَّج المرأةُ أو يُبنى بها في شوَّال، وتقول: ما تزوجني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا في شوَّال، فأيُّ نسائه كان أحظى عنده منِّي؟!

(2)

، مع تطيُّر الناس بالنكاح في شوَّال.

وهذا فعلُ أولي العزم والقوَّة من المؤمنين، الذين صحَّ توكُّلهم على الله، واطمأنت قلوبُهم إلى ربِّهم، ووثقوا به، وعلموا أنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنهم لن يصيبهم إلا ما كتبَ الله لهم، وأنهم ما أصابهم من مصيبةٍ إلا وهي في كتابٍ

(3)

من قبل أن يخلُقهم ويُوجِدَهم، وعلموا أنه لا بدَّ أن يصيروا إلى ما كتبه وقدَّره، ولا بدَّ أن يجري عليهم، وأنَّ تطيُّرهم لا يردُّ قضاءَه وقدرَه عنهم، بل قد يكونُ تطيُّرهم من أعظم الأسباب التي يجري عليهم بها القضاءُ والقدر، فيُعِينونَ على أنفسهم، وقد جرى لهم القضاءُ والقدر بأنَّ نفوسَهم هي سببُ إصابة المكروه لهم، فطائرُهم معهم.

(1)

انظر: «القول في علم النجوم» للخطيب (193)، و «رسائل الجاحظ» (3/ 261).

(2)

تقدم تخريجه (ص: 1546).

(3)

(ص): «في كتاب الله» .

ص: 1566

وأمَّا المتوكِّلون على الله، المفوِّضون إليه، العالمون به وبأمره، فنفوسُهم أشرفُ من ذلك، وهممُهم أعلى، وثقتُهم بالله وحسنُ ظنِّهم به عُدَّةٌ لهم وقوَّةٌ وجُنَّة مما يتطيَّر به المتطيِّرون، ويتشاءمُ به المتشائمون، عالمون أنه لا طيرَ إلا طيرُه، ولا خيرَ إلا خيرُه، ولا إلهَ غيرُه، ألا له الخلقُ والأمر، تبارك الله ربُّ العالمين.

فصل

ومما كان الجاهليةُ يتطيَّرون به ويتشاءمون منه: العُطاس

(1)

، كما يتشاءمون بالبَوارِح والسَّوانِح.

قال رؤبة بن العجَّاج يصف فلاةً:

* قطعتُها ولا أهابُ العُطاسا *

(2)

وقال امرؤ القيس

(3)

:

وقد أغتدي قبل العُطاسِ بهيكلٍ

شديدِ مَشَكِّ الجَنْبِ فَعْمِ المُنَطَّق

أراد

(4)

أنه كان ينتبهُ للصَّيد قبل أن ينتبه الناسُ من نومهم؛ لئلَّا يسمَع

(1)

انظر: «المعاني الكبير» (271، 1185)، و «جمهرة اللغة» (835)، و «الأزمنة والأمكنة» (2/ 352)، و «العمدة» لابن رشيق (1032).

(2)

كذا في الأصول. ولم أجده. والمشهور في هذا الباب قوله:

* ولا أبالي اللَّجَم العَطُوسا *

انظر: ديوانه (71)، و «تهذيب اللغة» (2/ 65، 11/ 103)، و «العباب» (عطس)، و «المعاني الكبير» ، و «خزانة الأدب» (2/ 279). وفي روايته اختلاف.

(3)

ديوانه (172).

(4)

(ت): «أي» .

ص: 1567

عطاسًا فيتشاءم به.

وكانوا إذا عَطس من يحبُّونه قالوا له: عُمْرًا وشبابًا، وإذا عَطس من يبغضونه قالوا له: وَرْيًا وقُحَابًا

(1)

. والوَرْي ــ كالرَّمْي ــ: داءٌ يصيبُ الكبد فيفسدُها، والقُحَاب كالسُّعال، وزنًا ومعنى.

وكان الرجلُ إذا سَمِع عطاسًا يتشاءمُ به، يقول: بكَ لا بي، أي: أسألُ الله أن يجعل شؤمَ عطاسك بكَ لا بي.

وكان تشاؤمهم بالعَطْسة الشَّديدة أشدَّ، كما يحكى عن بعض الملوك أنَّ مسامرًا له عطسَ عطسةً شديدةً راعَتْه، فغضبَ الملك، فقال سميرُه: والله ما تعمَّدتُ ذلك، ولكنَّ هذا عُطاسي، فقال: والله لئن لم تأتني بمن يشهدُ لك بذلك لأقتلنَّك، فقال: أخرِجني إلى الناس لعلِّي أجدُ من يشهدُ لي، فأخرجَه، وقد وكَّل به الأعوان، فوجدَ رجلًا، فقال: يا سيِّدي نشدتُك بالله، إن كنتَ سمعتَ عُطاسي يومًا تشهدُ لي به عند الملك، فقال: نعم، أنا أشهدُ لك، فنهَض معه، وقال: أيها الملك، أنا أشهدُ أنَّ هذا الرجل عطسَ يومًا فطار ضرسٌ من أضراسه! فقال له الملك: عُد إلى حديثك ومجلسك

(2)

.

فلمَّا جاء الله سبحانه بالإسلام، وأبطَل رسوله صلى الله عليه وسلم ما كان عليه الجاهليةُ من الضلال؛ نهى أمَّته عن التشاؤم والتطيُّر، وشرَع لهم أن يجعلوا مكانَ الدعاء على العاطس بالمكروه دعاءً له بالرحمة، كما أمر العائن أن يدعو بالتبريك للمَعِين.

(1)

انظر: «البصائر والذخائر» (8/ 135). والمشهور أنَّ ذلك يقال عند السعال. انظر: «أمالي القالي» (2/ 221)، و «تهذيب اللغة» (4/ 74)، وغيرهما.

(2)

انظر: «الأغاني» (3/ 47)، و «التذكرة الحمدونية» (9/ 390).

ص: 1568

ولما كان الدعاءُ على العاطس نوعًا من الظُّلم والبغي جُعِلَ الدعاءُ له بلفظ الرحمة المنافي للظُّلم، وأُمِرَ العاطسُ أن يدعو لسامعه ويُشَمِّته بالمغفرة والهداية وإصلاح البال، فيقول:«يغفرُ الله لنا ولكم»

(1)

، أو:«يهديكم الله ويصلح بالكم»

(2)

.

فأما الدعاء بالهداية، فلِمَا أنه اهتدى إلى طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورَغِبَ عمَّا كان عليه أهلُ الجاهلية، فدعا له أن يثبِّته الله عليها، ويهديه إليها.

وكذلك الدعاء بإصلاح البال، وهي حكمةٌ جامعةٌ لصلاح شأنه كلِّه، وهي من باب الجزاء على دعائه لأخيه بالرحمة، فناسبَ بأن يجازيه بالدعاء له بإصلاح البال.

وأمَّا الدعاء بالمغفرة، فجاء بلفظٍ يشملُ العاطسَ والمشمِّت، كقوله:«يغفرُ الله لنا ولكم» ، ليتحصَّل من مجموع دعوتَي العاطس والمشمِّت لهما المغفرةُ والرحمةُ معًا.

فصلواتُ الله وسلامه على المبعوث بصلاح الدنيا والآخرة.

ولأجل هذا ــ والله أعلم ــ لم يُؤمَر بتشميت من لم يحمد الله

(3)

؛ فإن

(1)

ورد هذا في أحاديث مرفوعة لا يثبتُ منها شيء، وصحَّ عن غير واحدٍ من الصحابة موقوفًا. انظر:«المستدرك» (4/ 266، 267)، و «عمل اليوم والليلة» للنسائي (212، 324، 225، 229)، و «علل ابن أبي حاتم» (2/ 243)، و «علل الدارقطني» (5/ 334).

(2)

أخرجه البخاري (6224) من حديث أبي هريرة. وهو أحسن وأصحُّ ما ورد في باب تشميت العاطس.

(3)

واختلفوا: هل يستحبُّ لمن عنده أن يذكِّره بالحمد؟ مال المصنف إلى عدم تذكيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكِّر الذي عطس ولم يحمد الله. انظر: «زاد المعاد» (2/ 442)، و «عارضة الأحوذي» (10/ 205)، و «الفتح» (10/ 611).

ص: 1569

الدعاء له بالرحمة نعمةٌ، فلا يستحقُّها من لم يحمد الله ويشكرَه على هذه النعمة، ويتأسَّى بأبيه آدم؛ فإنه لما نُفِخَت فيه الروحُ وبلغَت إلى خياشيمه عَطَسَ، فألهمه ربُّه تبارك وتعالى أنْ نَطَقَ بحمده، فقال: الحمدُ لله، فقال الله سبحانه: يرحمُك الله يا آدم

(1)

.

فصارت تلك سُنَّة العاطس

(2)

، فمن لم يحمد الله لم يستحقَّ هذه الدعوة.

ولمَّا سبقت هذه الكلمةُ لآدم قبل أن يصيبه ما أصابه كان مآلُه إلى الرحمة، وكان ما جرى عارضًا وزالَ، فإنَّ الرحمة سبقت العقوبة وغلَبت الغضب.

وأيضًا؛ فإنما أُمِرَ العاطسُ بالتحميد عند العطاس لأنَّ الجاهلية كانوا يعتقدون فيه أنه داء، ويكرهُ أحدُهم أن يعطس، ويودُّ أنه لم يصدُر منه، لِمَا في ذلك من الشُّؤم، وكان العاطسُ يحبسُ نفسَه عن العطاس، ويمتنعُ من ذلك جهدَه، من اعتقاد جُهَّالهم فيه.

ولذلك ــ والله أعلم ــ بنَوا لفظَه على بناء الأدواء، كالزُّكام والسُّعال والدُّوار والسُّهام

(3)

وغيرها، فأُعْلِمُوا أنه ليس بداء، ولكنه أمرٌ يحبُّه الله، وهو

(1)

كما تقدم (ص: 69).

(2)

كذا في الأصول. وفي (ط): «العطاس» .

(3)

وهو الضُّمْر وتغيُّر اللون وذبول الشفتين. وهو أيضًا داءٌ يأخذ الإبل. «اللسان» (سهم).

ص: 1570

نعمةٌ منه يستوجبُ عليها من عبده أن يحمدَه عليها. وفي الحديث المرفوع: «إنَّ الله يحبُّ العطاسَ ويكرهُ التثاؤب»

(1)

.

والعطاس ريحٌ مختنقةٌ

(2)

تخرُج وتفتحُ السَّدَدَ من الكبد، وهو دليلُ خيرٍ للمريض

(3)

، مُؤْذِنٌ بانفراج بعض علَّته، وفي بعض الأمراض يُسْتَعْمَلُ ما يُعَطِّسُ العليل، ويُجْعَلُ نوعًا من العلاج ومُعِينًا عليه

(4)

. وهذا

(5)

قدرٌ زائدٌ على ما أحبَّه الشارعُ من ذلك، وأمرَ بحمد الله عليه، وبالدعاء لمن صدرَ منه وحَمِدَ اللهَ عليه.

ولهذا ــ والله أعلم ــ يقال: شمَّته، إذا قال له: يرحمك الله، وسمَّته، بالمعجمة وبالمهملة، وبهما رُوِي الحديث.

فأمَّا التسميت ــ بالمهملة ــ، فهو تفعيلٌ من السَّمْت الذي يُرادُ به حسنُ الهيئة والوقار، فيقال: لفلانٍ سَمْتٌ حسن.

فمعنى «سمَّتَّ العاطس» : وقَّرتَه وأكرمتَه وتأدَّبتَ معه بأدب الله ورسوله في الدعاء له، لا بأخلاق أهل الجاهلية من الدعاء عليه والتطيُّر به والتشاؤم منه.

وقيل: «سمَّته» : دعا له أن يعيدَه الله إلى سَمْته قبل العُطاس من السُّكون والوقار وطمأنينة الأعضاء؛ فإنَّ في العُطاس من انزعاج الأعضاء واضطرابها

(1)

أخرجه البخاري (6223) من حديث أبي هريرة.

(2)

(ت): «منخنقة» .

(3)

(ق): «دليل جيد للمريض» .

(4)

انظر: «زاد المعاد» (4/ 95، 96).

(5)

في الأصول: «هذا» .

ص: 1571

ما يُخْرِجُ العاطسَ عن سَمْته، فإذا قال له السامع:«يرحمك الله» ، فقد دعا له أن يعيدَه إلى سَمْته وهيئته

(1)

.

وأمَّا التشميت ــ بالمعجمة ــ، فقالت طائفةٌ منهم ابنُ السِّكِّيت وغيره: إنه بمعنى التسميت، وإنهما لغتان. ذكر ذلك في كتاب «القلب والإبدال»

(2)

، ولم يذكر أيهما الأصل، ولا أيهما البدل.

وقال أبوعلي الفارسي: المهملة هي الأصلُ في الكلمة، والمعجمة بدلٌ منها. واحتجَّ بأن العاطسَ إذا عطس انتفَش وتغيَّر شكلُ وجهه، فإذا دعا له فكأنه أعاده إلى سَمْته وهيئته

(3)

.

وقال تلميذُه ابن جنِّي

(4)

: لو جعَل جاعلٌ الشِّينَ المعجمة أصلًا، وأخذَه من الشَّوامت ــ وهي القوائم ــ لكان وجهًا صحيحًا، وذلك أنَّ القوائمَ هي التي تحملُ الفَرسَ ونحوه، وبها عِصمتُه، وهي قِوامُه، فكأنه إذا دعا له فقد أنهضَه وثبَّت أمرَه وأحكمَ دعائمَه.

وأنشَد للنابغة

(5)

:

* طَوْعَ الشَّوامِتِ من خوفٍ ومن صَرَدِ *

(6)

(1)

انظر: «القبس» (1145)، و «عارضة الأحوذي» (10/ 207).

(2)

(41 - الكنز اللغوي).

(3)

انظر: «شرح الحماسة» للمرزوقي (399).

(4)

في «التنبيه على شرح مشكلات الحماسة» (168، 169). وقد شرح ابن جني كتاب ابن السكيت في القلب والإبدال، فلا ريب أنه بسط ذلك هناك.

(5)

(ق، ت): «النابغة» .

(6)

ديوانه (18). وصدر البيت:

* فارتاع من صوت كلَّابٍ فبات له *

ص: 1572

وقالت طائفة منهم ابنُ الأعرابي: هو من قولهم: اشْتَمَتَتْ

(1)

الإبلُ، إذا حَسُنَت وسَمِنت.

وقالت فرقةٌ أخرى: معنى «شمَّتَّ العاطس» : أزلتَ عنه الشَّماتة

(2)

. يقال: مرَّضت العليل، أي: قُمت عليه ليزول مرضُه. ومثلُه: قذَّيت عينه، أزلت قذاها. فكأنه لما دعا له بالرحمة قد قصَد إزالةَ الشَّماتة عنه. ويُنْشَدُ في ذلك:

ما كان ضرَّ المُمْرِضِي بجفونه

لو كان مرَّضَ مُنْعِمًا مَن أَمْرَضا

(3)

وإلى هذا ذهب ثعلب

(4)

.

والمقصود: أنَّ التطيُّر من العُطاس

(5)

مِن فعل الجاهلية الذي أبطلَه الإسلام

(6)

، وأخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ الله يحبُّ العطاس، كما في «صحيح

(1)

(ت، د): «اشمت» . تحريف. قال ابن الأعرابي: الاشتمات أول السِّمَن، وإبلٌ مشتمتة، إذا كانت كذلك. «التكملة» (شمت).

(2)

من قوله: «هو من قولهم» إلى هنا ساقط من (ق).

(3)

أثر الصنعة على البيت لائح، ولم أجده في مصدرٍ آخر.

(4)

انظر: «البيان والتحصيل» (17/ 141)، و «الاستذكار» (27/ 169)، و «التمهيد» (17/ 334)، وعنه ابن الجوزي في «غريب الحديث» (1/ 560)، و «كشف المشكل» (1/ 273).

(5)

(ت): «التطير بالعطاس» .

(6)

في طرة (ق) حاشية بخط نعمان الآلوسي: «أقول: وشبيه هذا ما يعتقده الرافضة من التفاؤل بالعطستين والتشاؤم بالعطسة الواحدة، فإذا همَّ بفعلٍ فعطس هو أو غيره مرَّةً فإنه لا يمضي على فعله، أو مرَّتين فإنه يفعل، وهذا كاستخارتهم بالسبحة» .

ص: 1573

البخاري»

(1)

من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ الله يحبُّ العطاسَ ويكرهُ التثاؤب، فإذا تثاءبَ أحدُكم فليستره ما استطاع، فإنه إذا فتحَ فاهُ فقال: آه آه، ضَحِك منه الشيطان» .

فصل

وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ» ، فالمُمْرِضُ الذي إبلُه مِرَاض، والمُصِحُّ الذي إبلُه صِحَاح.

وقد ظنَّ بعضُ الناس أن هذا معارضٌ لقوله: «لا عدوى ولا طِيَرة» ، وقال: لعلَّ أحد الحديثين نسَخ الآخر، وأورد الحارثُ بن أبي ذُباب ــ وهو ابنُ عمِّ أبي هريرة رضي الله عنه ــ عليه جمعَه بين الرِّوايتين، وظنَّهما أنهما

(2)

متعارضتان.

فروى الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، قال: كان أبو هريرة يحدِّثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى» ، ثمَّ حدَّثنا أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ» ، قال: فقال الحارثُ بن أبي ذُباب ــ وهو ابن عمِّ أبي هريرة ــ: قد كنتُ أسمعُك يا أبا هريرة تحدِّثنا حديثًا آخر قد سكتَّ عنه، كنتَ تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى» ، فأبى أبو هريرة أن يحدِّث بذلك، وقال:«لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِح» ، فماراه الحارثُ في ذلك حتى غضبَ أبو هريرة ورَطَنَ بالحبشيَّة، ثمَّ قال للحارث: أتدري ما قلتُ؟ قال: لا، قال: إني أقول: أبَيتُ أبَيتُ. فلا أدري

(3)

أنسي أبو هريرة أو نسَخ أحدُ

(1)

(6223).

(2)

كذا في الأصول.

(3)

قائل هذا أبو سلمة.

ص: 1574

القولين الآخر؟

(1)

.

قلت: قد اتفق مع أبي هريرة: سعدُ بن أبي وقاص

(2)

، وجابر بن عبد الله

(3)

، وعبدُ الله بن عباس

(4)

، وأنسُ بن مالك

(5)

، وعمير بن سلمة

(6)

، رضي الله عنهم، على روايتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قولَه:«لا عدوى»

(7)

.

وحديثُ أبي هريرة محفوظٌ عنه بلا شكٍّ من رواية أوثق أصحابه وأحفظهم: أبي سلمة بن عبد الرحمن

(8)

، ومحمد بن سيرين

(9)

، وعبيد الله ابن عبد الله بن عتبة

(10)

، والحارث بن أبي ذُباب

(11)

.

(1)

تقدم تخريجه (ص: 1510).

(2)

تقدم تخريج حديثه (ص: 1511).

(3)

أخرجه مسلم (222).

(4)

أخرجه أحمد (1/ 328)، وابن ماجه (3539)، وغيرهما.

(5)

أخرجه البخاري (5756)، ومسلم (2224).

(6)

كذا في الأصول، و «التمهيد» لابن عبد البر (24/ 196)، وهو مصدر المصنف. وهو تحريف. والصواب:«عمير بن سعد» . أخرج حديثه ابن عبد البر، وأبو يعلى في «المسند» (1580)، و «المفاريد» (93)، وابن حبان في «الثقات» (3/ 300)، والطبراني في «الكبير» (17/ 54)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 250) من طريق حماد عن أبي طلحة الخولاني عنه. وفي إسناده ضعف.

(7)

وروي من حديث جماعةٍ آخرين من الصحابة.

(8)

أخرجها البخاري (5717، 5770)، ومسلم (2220، 2221).

(9)

أخرجه مسلم (2223).

(10)

أخرجه البخاري (5754)، ومسلم (2223).

(11)

كما في رواية مسلم (2221).

ص: 1575

ولم يتفرَّد أبو هريرة بروايته عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، بل رواه معه من الصحابة من ذكرناه.

وقوله: «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ» صحيحٌ أيضًا، ثابتٌ عنه صلى الله عليه وسلم.

فالحديثان صحيحان، ولا نسخَ ولا تعارضَ بينهما بحمد الله، بل كلٌّ منهما له وجه.

وقد طعَن أعداءُ السنَّة في أهل الحديث، وقالوا: يروُونَ الأحاديثَ التي ينقضُ بعضُها بعضًا ثمَّ يصحِّحونها، والأحاديث التي تخالفُ العقل.

فانتدبَ أنصارُ السنة للردِّ عليهم، ونفي التعارض عن الأحاديث الصحيحة، وبيان موافقتها للعقل.

قال أبو محمد بن قتيبة في كتاب «مختلف الحديث»

(1)

له:

«قالوا: حديثان متناقضان.

قالوا: رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا عدوى ولا طِيَرة» ، وأنه قيل له: إنَّ النُّقْبةَ تقعُ بمِشْفَر البعير

(2)

، فتَجْرَبُ لذلك الإبل، فقال:«فما أعدى الأول؟»

(3)

هذا أو معناه.

(1)

(80 - 84).

(2)

النُّقبة: أول شيء يظهر من الجرب. وجمعها: نُقْب. «النهاية» (نقب).

(3)

أخرجه أحمد (2/ 327)، وأبو يعلى (6112)، وغيرهما، من حديث أبي زرعة عن أبي هريرة. وصححه ابن حبان (6119).

وروي عن أبي زرعة عن صاحب له عن ابن مسعود. أخرجه أحمد (1/ 440). قال أبو حاتم في «العلل» (2/ 272): «وهو أشبه بالصواب» . وانظر: «تاريخ يحيى بن معين» (3/ 571 - رواية الدوري).

ص: 1576

ثمَّ رويتم في خلاف ذلك: «لا يُورِد ذو عاهةٍ على مُصِحٍّ»

(1)

، و «فِرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد»

(2)

، وأتاه رجلٌ مجذومٌ ليبايعَه بيعةَ الإسلام، فأرسلَ إليه البيعة

(3)

، وأمره بالانصراف

(4)

، ولم يأذن له

(5)

، وقال:«الشُّؤم في المرأة والدَّار والدابَّة»

(6)

.

قالوا: وهذا كلُّه مختلفٌ لا يُشْبِهُ بعضُه بعضًا.

قال أبو محمد: ونحن نقول: إنه ليس في هذا اختلاف، ولكلِّ واحدٍ معنى في وقتٍ

(7)

وموضع، فإذا وُضِعَ موضعَه زال الاختلاف.

والعدوى جنسان:

أحدهما: عدوى الجُذام؛ فإنَّ المجذوم

(8)

تشتدُّ رائحتُه حتى يُسْقِمَ من أطال مجالستَه ومؤاكلتَه، وكذا المرأة تكونُ تحت المجذوم فتضاجعُه في شعارٍ واحد، فيوصِلُ إليها الأذى، وربَّما جُذِمَت، وكذلك ولدُه ينزِعون في

(1)

أخرجه أبو عبيد في «غريب الحديث» (2/ 221) من مرسل أبي المليح. وتقدم بلفظ: «لا يورد ممرض على مصح» ، وهو في «الصحيح» .

(2)

تقدم تخريجه (ص: 1511).

(3)

«تأويل مختلف الحديث» : «بالبيعة» .

(4)

تقدم تخريجه (ص: 1511).

(5)

«تأويل مختلف الحديث» : «ولم يأذن له عليه» .

(6)

تقدم تخريجه (ص: 1493).

(7)

في الأصول: «فيها وقت» . والمثبت من (ط). وفي «تأويل مختلف الحديث» و «زاد المعاد» (4/ 151): «ولكل معنى منها وقت» .

(8)

في الأصول: «الجذام» . وهو خطأ. والمثبت من «تأويل مختلف الحديث» و «زاد المعاد» .

ص: 1577

الكِبَر إليه، وكذلك من به سِلٌّ ودِقٌّ ونُقْب

(1)

.

والأطباءُ تأمرُ أن لا يجالَس المجذومُ ولا المَسْلول، ولا يريدونَ بذلك معنى العدوى، وإنما يريدون به معنى تغيُّر الرائحة، وأنها قد تُسْقِمُ من أطال اشتمامَها، والأطباءُ أبعدُ الناس من الإيمان بيُمْنٍ وشؤم

(2)

.

وكذلك النُّقْبةُ تكونُ بالبعير ــ وهو جَرَبٌ رطب ــ، فإذا خالطَ الإبلَ أو حاكَّها وأوى في مَبارِكها أوصَل إليها بالماء الذي يسيلُ منه والنَّطْف

(3)

نحوًا ممَّا به.

فهذا هو المعنى الذي قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا يُورِد ذو عاهةٍ على مُصِحٍّ» ، كَرِه أن يخالِط المَعْيُوهُ

(4)

الصحيحَ فيناله من نَطْفِه وحِكَّته نحوٌ ممَّا به.

قال: وقد ذهب قومٌ إلى أنه أراد بذلك أن لا يظُنَّ أنَّ الذي نال إبلَه من ذوات العاهة، فيأثَم.

وليس لهذا عندي وجهٌ إلا الذي خبَّرتُك به عِيانًا

(5)

.

(1)

السِّل: مرضٌ يصيب الرئة يهزل صاحبه ويضنيه ويقتله. وحمَّى الدِّق: حمَّى تصاحب السِّل غالبًا. والنُّقب: الجرب.

(2)

انظر: «زاد المعاد» (4/ 130).

(3)

وهو القَطْر. نَطَفَ الكوزُ: قَطَر. «اللسان» (نطف).

(4)

في الأصول: «المعتوه» . وهو تحريف. المعتوه: ناقص العقل. ولا موضع له هنا. وغيرت في (ط) إلى: «المصاب» . والمثبت من «تأويل مختلف الحديث» ، و «زاد المعاد». والعاهة: الآفة. وعاهَ المالُ: أصابته العاهة. وأرضٌ معيوهة. ويقال: مَعُوه، ومعهوه. «اللسان» (عيه).

(5)

«تأويل مختلف الحديث» : «لأنا نجد الذي أخبرتك به عيانًا» .

ص: 1578

وأمَّا الجنسُ الآخرُ من العدوى، فهو الطاعون ينزلُ ببلد، فيخرجُ منه خوفَ العدوى.

حدثني سهل بن محمد، قال: حدثني الأصمعي، عن بعض البصريِّين: أنه هرَب من الطاعون، فركب حمارًا، ومضى بأهله نحو سَفَوان

(1)

، فسمع حاديًا يحدُو خلفَه وهو يقول:

لنْ يُسْبَقَ اللهُ على حمارِ

ولا على ذي مَيْعَةٍ مُطَارِ

(2)

أو يأتيَ الحتفُ على مقدارِ

قد يُصْبِحُ اللهُ أمامَ السَّاري

(3)

وقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان بالبلد الذي أنتم فيه فلا تخرُجوا منه» ، وقال:«إن كان ببلدٍ فلا تدخلوه»

(4)

، يريد بقوله:«لا تخرُجوا من البلد إذا كان فيه» كأنكم تظنُّون أنَّ الفرارَ من قَدَر الله ينجيكم من الله، ويريد [بقوله]:«إن كان ببلدٍ فلا تدخلوه» أنَّ مقامكم في الموضع الذي لا طاعون فيه أسكنُ لأنفسكم، وأطيبُ لمعيشتكم.

ومن ذلك: المرأةُ تُعْرَفُ بالشُّؤم، أو الدار، فينالُ الرجلَ مكروهٌ أو جائحة، فيقول: أعْدَتْني بشؤمها.

فهذا هو العدوى الذي قال فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى» .

(1)

ماءٌ على قدر مرحلة من باب المربد بالبصرة. «معجم البلدان» (3/ 225).

(2)

الميعة: أنشطُ الجري. والمُطار: الحديد الفؤاد، الماضي. ويصح أن تقرأ بفتح الميم وتشديد الطاء، بمعنى السريع العدو.

(3)

الخبر والبيتان في «الحيوان» (3/ 461)، و «البيان والتبين» (3/ 278)، و «التعازي والمراثي» (218)، و «أمالي المرتضى» (4/ 112)، وغيرها.

(4)

أخرجهما البخاري (3473)، ومسلم (2218) من حديث أسامة بن زيد.

ص: 1579

فأمَّا الحديثُ الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه [عن النبي صلى الله عليه وسلم] أنه قال: «الشُّؤم في المرأة والدَّار والدَّابة» ، فإنَّ هذا الحديثَ يُتَوهَّمُ فيه الغلطُ على أبي هريرة، وأنه سمع فيه شيئًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يَعِه.

حدثني محمد بن يحيى القُطَعي: حدَّثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي حسَّان الأعرج: أنَّ رجلين دخلا على عائشة، فقالا: إنَّ أبا هريرة رضي الله عنه يحدِّثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنما الطِّيَرة في المرأة والدار والدابَّة» ، فطارت شِقَقًا

(1)

، ثمَّ قالت: كذَبَ ــ والذي أنزل الفرقَان على أبي القاسم ــ من حدَّث بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«كان أهلُ الجاهلية يقولون: إنَّ الطِّيَرة في الدَّابَّة والمرأة والدار» ، ثمَّ قرأَت:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22].

حدثني أبي

(2)

، قال: حدَّثني أحمد بن الخليل، حدَّثنا موسى بن مسعود النَّهدي، عن عكرمة بن عمَّار، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنَّا نزلنا دارًا فكَثُرَ فيها عَدَدنا، وكثرت فيها أموالُنا، ثمَّ تحوَّلنا عنها إلى أخرى، فقلَّت فيها أموالُنا، وقلَّ فيها عَدَدنا، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:

(1)

أي: قِطَعًا. وفي (ق) ومطبوعة «تأويل مختلف الحديث» : «شفقا» . (ت): «سعفا» . وكله تحريف. وتقدم أنها كنايةٌ عن الغضب، كأنها تشقَّقت من شدَّته.

(2)

قائل هذا هو أحمد بن عبد الله بن قتيبة. وهو راوية كتب أبيه. وابن قتيبة يروي عن أحمد بن الخليل دون واسطة، وهو من شيوخه الذين أكثر عنهم. ولم ترد «حدثني أبي» في مطبوعتي «تأويل مختلف الحديث» و «عيون الأخبار» (1/ 150).

ص: 1580

«ذَرُوها

(1)

، وهي ذميمة»

(2)

.

قال أبو محمد: وهذا ليس ينقضُ الحديثَ الأول، ولا الحديثُ الأولُ ينقضُ هذا، وإنما أمَرهم بالتحوُّل منها لأنهم كانوا مقيمين فيها على استثقالٍ لظلِّها، واستيحاشٍ لِمَا نالهم فيها، فأمرهم بالتحوُّل، وقد جعَل الله في غرائز الناس وتركيبهم استثقالَ ما نالهم السوءُ فيه وإن كان لا سببَ له في ذلك، وحُبَّ من جرى على يده الخيرُ لهم وإن لم يُرِدْهم به، وبغضَ من جرى على يده الشرُّ لهم وإن لم يُرِدْهم به، وكيف يتطيَّر صلى الله عليه وسلم والطِّيَرة من الجِبْت؟! وكان كثيرٌ من الجاهليَّة لا يرونها شيئًا، ويمدحونَ من كذَّب بها».

ثمَّ أنشَد ما ذكرنا من الأبيات سالفًا

(3)

.

ثمَّ قال: حدثنا إسحاق بن راهويه: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن إسماعيل بن أبي أمية، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ لا يَسْلَمُ منهنَّ أحد: الطِّيَرة والظنُّ والحسد» ، قيل: فما المخرجُ منهن؟ قال: «إذا تطيَّرتَ فلا ترجِع، وإذا ظننتَ فلا تحقِّق، وإذا حسدتَ فلا تَبْغِ»

(4)

. هذه الألفاظ أو نحوها.

حدثني أبو حاتم، قال: حدثنا الأصمعي، عن سعيد بن سَلْم

(5)

، عن

(1)

«تأويل مختلف الحديث» : «ارحلوا عنها وذروها» .

(2)

تقدم تخريجه (ص: 1493).

(3)

(ص: 1471، 1472).

(4)

تقدم تخريجه (ص: 1472).

(5)

(ت) ومطبوعة «تأويل مختلف الحديث» : «مسلم» . وهو تحريف. وهو سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي.

ص: 1581

أبيه، أنه كان يَعْجَبُ ممَّن يصدِّقُ بالطِّيَرة، ويعيبُها أشدَّ العيب، وقال: فَرَقَت لنا ناقةٌ وأنا بالطَّفِّ

(1)

، فركبتُ في إثرها، فلقيني هاناء بن عبيد من بني وائل وهو مسرع، وهو يقول:

* والشرُّ يُلْقَى مطالعَ الأكَم *

(2)

ثمَّ لقيني آخرُ من الحيِّ، وهو يقول:

ولئن بَغَيْتُ

(3)

لهم بُغا

ةً ما البُغاةُ بواجِدينا

(4)

ثمَّ دفَعنا إلى غلامٍ قد وقعَ في صغره في نار، فأحرقَته، فقبُح وجهُه

(5)

وفَسَد، فقلتُ له: هل ذكرتَ من ناقةٍ فارِق؟ قال: هاهنا أهلُ بيتٍ من الأعراب، فانظُر، فنظرتُ فإذا هي عندهم وقد أنتجَت، فأخذناها وولدَها.

قال أبو محمد: الفارِق: التي حَمَلَت ففارقَت صواحبَها.

(1)

أرضٌ من ضاحية الكوفة. انظر: «معجم البلدان» (4/ 36). ووقع في الأصول: «بالطائف» . وهو بعيد. والمثبت من «تأويل مختلف الحديث» و «عيون الأخبار» (1/ 145) و «التمهيد» (24/ 197) حيث روى الخبر من طريق ابن قتيبة.

(2)

أي: الشرُّ ظاهرٌ بارز. انظر: «تهذيب اللغة» (2/ 174)، و «أساس البلاغة» (طلع). وهو عجز بيت للنابغة الجعدي في ديوانه (150)، وصدره:

* من عهد ما أورثت حبيبه *

(3)

كذا في الأصول، ومطبوعتي «تأويل مختلف الحديث» ، و «الحيوان» (3/ 450). وفي ديوان لبيد، و «عيون الأخبار» ، و «نثر الدر» (7/ 237)، وإحدى نسخ «الحيوان»:«بعثت» ، وهي أجود.

(4)

البيت للبيد في «ديوانه» (323).

(5)

(ت، ص): «فقيح وجهه» بالياء آخر الحروف.

ص: 1582

وقال عكرمة: كنَّا جلوسًا عند ابن عباس، فمرَّ طائرٌ يصيح، فقال رجل: خَيْر خَيْر، فقال ابن عباس: لا خير ولا شر

(1)

.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحبُّ الاسمَ الحسن، والفألَ الصالح.

حدثني الرِّياشي: حدثنا الأصمعي، قال: سألتُ ابن عون عن الفأل؟ فقال: هو أن يكونَ مريضًا فيسمع: يا سالم، أو يكون باغيًا

(2)

فيسمع: يا وَاجِد

(3)

.

وهذا أيضًا مما جُعِل في غرائز الناس وتركيبهم استحبابُه

(4)

والأنسُ به، وكما جُعِل على الألسنة من التحيَّة بالسَّلام، والمَدِّ في الأمنية، والتبشير بالخير، وكما يقال: انعَم، واسْلَم، وأَنعِمْ صباحًا، وكما تقول الفُرس: عِشْ ألفَ نَوْرُوز

(5)

.

والسامعُ لهذا يعلمُ أنه لا يقدِّمُ ولا يؤخِّر، ولا يزيدُ ولا ينقص، ولكن جُعِل في الطِّباع محبةُ الخير، والارتياحُ للبشرى والمنظر الأنيق والوجه الحسن والاسم الخفيف

(6)

.

وقد يمرُّ الرجلُ بالروضة المنوِّرة فتسرُّه وهي لا تنفعه، وبالماء الصافي فيُعْجَبُ به وهو لا يشربُه ولا يَرِدُه.

(1)

تقدم (ص: 1489).

(2)

طالبًا يطلب شيئًا.

(3)

تقدم (ص: 1522).

(4)

(ت، ص): «استحسانه» .

(5)

أوَّل يوم من السنة الشمسية عندهم، وهو من أعيادهم. «التاج» (نرز).

(6)

(ص، ت): «والاسم الحسن» .

ص: 1583

وفي بعض الحديث أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يُعْجَبُ بالأترجِّ، ويعجبه الحَمَامُ الأحمر

(1)

، وتعجبه الفاغِيةُ

(2)

، وهو نَوْرُ الحنَّاء.

وهذا مثلُ إعجابه بالاسم الحسن والفأل الحسن.

وعلى حسب هذا كانت كراهتُه الاسمَ القبيح، كبني النار، وبني حُرَاق

(3)

، وأشباه هذا. انتهى كلامه

(4)

.

وقد سلك أبو عمر ابن عبد البرِّ في هذا الحديث نحوًا من مسلك أبي محمد بن قتيبة، فقال: أمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى» ، فهو نهيٌ أن يقول أحد: إنَّ شيئًا يُعْدِي شيئًا، وإخبارٌ أنَّ شيئًا لا يُعْدِي شيئًا، فكأنه قال: لا يُعْدِي شيءٌ شيئًا. يقول: لا يصيبُ أحدٌ من أحدٍ شيئًا من خُلُقٍ أو فعلٍ أو داءٍ أو مرض.

وكانت العربُ تقول في جاهليَّتها في مثل هذا: إنه إذا اتصل شيءٌ من ذلك بشيءٍ أعداه، فأخبرهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أنَّ قولهم واعتقادَهم في ذلك ليس كذلك، ونهى عن ذلك القول؛ إعلامًا منه بأنَّ ما اعتَقَد من ذلك من

(1)

أخرجه والذي قبله الطبراني في «الكبير» (22/ 339)، وابن قانع في «معجم الصحابة» (2/ 221)، وابن حبان في «المجروحين» (3/ 148)، وغيرهم من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه بإسنادٍ شديد الضعف.

وأخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (1357).

وروي من أوجه أخرى مظلمة لا يصلح شيءٌ منها للاعتبار. انظر: «السلسلة الضعيفة» (1393).

(2)

تقدم تخريجه (ص: 1517).

(3)

انظر: «سيرة ابن هشام» (3/ 160)، و «البداية والنهاية» (5/ 69).

(4)

«تأويل مختلف الحديث» (80 - 84).

ص: 1584

اعتَقَد منهم كان باطلًا

(1)

.

قال: وأمَّا المُمْرِضُ: فالذي إبلهُ مِراض، والمُصِحُّ: الذي إبلهُ صِحاح.

وروى ابن وهب، عن ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: يُكرَه

(2)

أن يدخُل المريضُ على الصَّحيح منها

(3)

. وليس به إلا قولُ الناس

(4)

.

فأشار إلى أن المنع من ذلك سدًّا لذريعة قول الناس

(5)

، وحمايةً للقلب مما يستبقُ إليه من الأفهام ويقعُ فيه من التطيُّر والتشاؤم بذلك.

وقد قال أبو عبيد قولًا قريبًا من ذلك، فقال: قوله في هذا الحديث: «إنه أذى» أي: إيرادَ المُمْرِض على المُصِحِّ. فقال: معنى الأذى عندي المأثم

(6)

. يعني أنَّ المُورِدَ يأثم بأذاه من أورَد عليه، وتعريضِه للتشاؤم والتطيُّر.

وقد سلك بعضُهم مسلكًا آخر، فقال: ما يُخْبِرُ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم نوعان:

أحدُهما: يخبِرُ به عن الوحي، فهذا خبرٌ مُطابِقٌ لمخبَره من جميع الوجوه، ذهنًا وخارجًا، وهو الخبرُ المعصوم.

والثاني: ما يخبِرُ به عن ظنِّه من أمور الدنيا التي هم أعلمُ بها منه، فهذا ليس في رتبة النوع الأول، ولا تثبتُ له أحكامُه.

(1)

«التمهيد» (24/ 200)، و «الاستذكار» (27/ 57).

(2)

في «جامع ابن وهب» (629): «قد كنا نكره» .

(3)

«منها» ليست في «التمهيد» و «الاستذكار» و «جامع ابن وهب» .

(4)

«التمهيد» (24/ 200)، و «الاستذكار» (27/ 57).

(5)

«قول الناس» ليست في (ت).

(6)

«غريب الحديث» (2/ 223).

ص: 1585

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن نفسه الكريمة بذلك تفريقًا بين النوعين، فإنه لما سمع أصواتَهم في النَّخل وهم يؤبِّرونها ــ وهو التلقيح ــ قال:«ما هذا؟» فأخبروه بأنهم يلقِّحونها، فقال:«ما أرى لو تركتموه يضرُّ شيئًا» ، فتركوه، فجاءَ شِيصًا، فقال:«إنما أخبرتكم عن ظنِّي، وأنتم أعلمُ بأمور دنياكم، ولكنْ ما أخبرتكم عن الله»

(1)

.

والحديثُ صحيحٌ مشهور، وهو من أدلَّة نبوَّته وأعلامها؛ فإنَّ من خفي عليه مثلُ هذا من أمر الدنيا وما أجرى اللهُ به عادته فيها، ثمَّ جاء من العلوم التي لا يمكنُ للبشر أن تطَّلع عليها

(2)

البتَّة إلا بوحيٍ من الله، فأخبرَ عمَّا كان، وما يكون، وما هو كائنٌ من لَدُن خَلْقِ العالم إلى أن استقرَّ أهلُ الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، وعن غيب السموات والأرض، وعن كلِّ سببٍ دقيقٍ أو جليلٍ تُنالُ به سعادةُ الدارين، وكلِّ سببٍ دقيقٍ أو جليلٍ تُنالُ به شقاوةُ الدارين، وعن مصالح الدنيا والآخرة وأسبابهما، ومفاسد الدنيا والآخرة وأسبابهما.

مع كون معرفتهم بالدنيا وأمورها وأسباب حصولها ووجوه تمامها أكثرَ من معرفته، كما أنهم أعرفُ بالحساب والهندسة والصِّناعات والفِلاحة وعمارة الأرض والكتابة.

فلو كان ما جاء به مما ينالُ بالتعلُّم والتفكُّر والنظر

(3)

والطُّرق التي يسلُكها الناسُ لكانوا أولى به منه، وأسبقَ إليه؛ لأنَّ أسبابَ ما ينالُ بالفكرة

(1)

أخرجه مسلم (2361، 2362، 2363).

(2)

(ت): «لايمكن البشر الاطلاع عليها» .

(3)

(ق): «والتطير» . وهو تحريف.

ص: 1586

والكتابة والحساب والنظر والصِّناعات بأيديهم.

فهذا من أقوى براهين نبوَّته وآيات صدقه، وأنَّ هذا الذي جاء به لا صُنْعَ للبشر فيه البتَّة، ولا هو مما ينالُ بسعيٍ وكسبٍ وفكرٍ ونظر، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} ، {الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أنزلَه {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} .

قالوا: فهكذا إخباره عن عدم العدوى إخبارٌ عن ظنِّه، كإخباره عن عدم تأثير التلقيح، لا سيَّما وأحدُ البابين قريبٌ من الآخر، بل هو في النوع

(1)

، فإنَّ اتصال الذَّكر بالأنثى وتأثُّره به كاتِّصال المُعْدى بالمُعْدي وتأثُّره به، ولا ريب أنَّ كليهما من أمور الدنيا لا مما يتعلَّق به حكمٌ من أحكام الشرع، فليس الإخبارُ به كالإخبار عن الله سبحانه وصفاته وأسمائه وأحكامه.

قالوا: فلمَّا تبيَّن له صلى الله عليه وسلم من أمر الدنيا الذي أجرى الله سبحانه عادتَه به ارتباطَ هذه الأسباب بعضها ببعض، وتأثيرَ التلقيح في صلاح الثمار، وتأثيرَ إيراد المُمْرِض على المُصِحِّ= أقرَّهم على تأبير النخل، ونهاهم أن يُورِد مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ.

قالوا: وإن سمِّي هذا نسخًا بهذا الاعتبار فلا مشاحَّة في التسمية إذا ظهر المعنى، ولهذا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسَخ أحدُ القولين الآخر؟ يعني تحديثَه

(2)

بالحديثين؛ فجوَّز أبو سلمة النسخَ في ذلك مع أنه خبر، وهو بما ذكرنا من الاعتبار.

(1)

(ط): «في النوع واحد» .

(2)

الحرف الأول مهمل في الأصول. وفي (ط): «بحديثه» . وسقطت «يعني» من (ت).

ص: 1587

وهذا المسلكُ حسن، لولا أنه قد اجتمع الفصلان

(1)

في حديثٍ واحد، كما في «موطأ مالك» أنه بلغه عن بكير بن عبد الله بن الأشجِّ، عن ابن عطية أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا عدوى ولا هامَ ولا صفَر، ولا يَحْلُل المُمْرِضُ على المُصِحِّ، وليَحْلُل المُصِحُّ حيث شاء» ، قالوا: يا رسول الله، وما ذاك؟ فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:«إنه أذى»

(2)

.

وقد يجابُ عن هذا بجوابين:

أحدُهما: أنَّ الحديثَ لا يثبت؛ لوجهين:

أحدهما: إرسالُه.

والثاني: أنَّ ابنَ عطية هذا ــ ويقال: أبو عطية ــ مجهولٌ لا يُعْرَفُ إلا في هذا الحديث.

الجواب الثاني: قولُه فيه: «لا عدوى» نهيٌ لا نفي، أي: لا يُعْدِ

(3)

المُمْرِضُ المُصِحَّ

(4)

بحلوله عليه.

ويدلُّ على ذلك ما رواه أبو عمر النمري

(5)

: حدَّثنا خلف بن القاسم: حدثنا محمد بن عبد الله: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد: حدثنا أبو هشام

(1)

«الفصلان» ليست في (ت، ص).

(2)

تقدم تخريجه (ص: 1510).

(3)

في الأصول: «يعدي» . بإثبات حرف العلة. هنا وفي الموضع الآتي. وحذفتها على الجادة، وليفهَم سياقُ الكلام.

(4)

(ت، ص، ق): «على المصح» . والمثبت أشبه.

(5)

في «التمهيد» (24/ 189، 190).

ص: 1588

الرفاعي: حدثنا بشر بن عمر الزهراني، قال: قال مالك: إنه بلغه عن بكير بن عبد الله بن الأشجِّ، عن أبي عطية أو ابن عطية ــ شكَّ بِشْر ــ، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لا طِيَرة ولا هامَ، ولا يُعْدِ سقيمٌ صحيحًا، وليحلَّ المُصِحُّ حيث شاء» .

ففي هذا النهيِ

(1)

كالإثبات للعدوى والنهي عن أسبابها، ولعل بعضَ الرواة رواه بالمعنى، فقال: لا عدوى ولا طيَرة ولا هامَ، وإنما مخرجُ الحديث النهيُ عن العدوى، لا نفيُها.

وهذا أيضًا حسنٌ لولا حديثُ ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «فمن أعدى الأول؟»

(2)

.

فهذا الحديثُ قد فهمَ منه السامعُ النفي، وأقرَّه عليه صلى الله عليه وسلم، ولهذا استشكَل نفيَه، وأوردَ ما أورده، فأجابه صلى الله عليه وسلم بما يتضمنُ إبطالَ الدعوى، وهو قولُه:«فمن أعدى الأول؟» .

وهذا أصحُّ من حديث أبي عطية المتقدِّم.

وحينئذٍ، فيُرجَعُ

(3)

إلى مسلك التلقيح المذكور آنفًا، أو ما قبله

(4)

من المسالك.

(1)

(ق): «النفي» . وهو تحريف.

(2)

تقدم تخريجه (ص: 1576).

(3)

(ت): «فلنرجع» .

(4)

في الأصول: «أو قبله» . والمثبت من (ط).

ص: 1589

وعندي في الحديثين مسلكٌ آخر يتضمَّن إثباتَ الأسباب والحِكَم، ونفيَ ما كانوا عليه من الشرك واعتقاد الباطل، ووقوعَ النفي والإثبات على وجهه، فإنَّ القوم

(1)

كانوا يثبتونَ العدوى على مذهبهم من الشرك الباطل، كما يقوله المنجِّمون من تأثير الكواكب في هذا العالم وسُعودها ونحوسها، كما تقدَّم الكلامُ عليهم.

ولو قالوا: إنها أسبابٌ أو أجزاءُ أسبابٍ إذا شاء الله صرَف مقتضياتها بمشيئته وإرادته وحكمته، وإنها مسخَّرةٌ بأمره لِمَا خُلِقَت له، وإنها في ذلك بمنزلة سائر الأسباب التي ربَط بها مسبَّباتها، وجعَل لها أسبابًا أخرَ تعارضها وتمانعها، وتمنعُ اقتضاءها لِمَا جُعِلَت أسبابًا له.

وإنها لا تقتضي مسبَّباتها إلا بإذنه ومشيئته وإرادته، ليس لها من ذاتها ضرٌّ ولا نفعٌ ولا تأثيرٌ البتَّة، إنْ هي إلا خلقٌ مسخَّرٌ مصرَّفٌ مربوب، لا تتحركُ إلا بإذن خالقها ومشيئته، وغايتُها أنها جزءُ سببٍ، ليست سببًا تامًّا، فسببيَّتها من جنس سببيَّة وطء الوالد في حصول الولد، فإنه جزءٌ واحدٌ من أجزاء كثيرةٍ من الأسباب التي خلقَ الله بها الجنين، وكسببيَّة شَقِّ الأرض وإلقاء البَذْر، فإنه جزءٌ يسيرٌ من جملة الأسباب التي يكوِّنُ الله بها النبات، وهكذا جملةُ أسباب العالَم من الغذاء والدواء والعافية والسَّقم وغير ذلك.

وإنَّ الله سبحانه يجعلُ من ذلك سببًا ما يشاء ويبطلُ السببيَّةَ عمَّا يشاء، ويخلقُ من الأسباب المعارضة له ما يحولُ بينه وبين مقتضاه.

فهم لو أثبتوا العدوى على هذا الوجه

(2)

لما أُنكِرَ عليهم.

(1)

غير بيِّنة في (ق، ت). (د): «العوام» . تحريف. والمثبت من (ص).

(2)

(ص): «الحكم» .

ص: 1590

كما أنَّ ذلك ثابتٌ في الداء والدواء، وقد تداوى النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأمر بالتَّداوي

(1)

، وأخبر أنَّ ما أنزَل اللهُ داءً إلا أنزَل له دواءً، إلا الهَرَم

(2)

، فأعلمَنا أنه خالقُ أسباب الداء وأسباب الدواء المعارِضة المقاوِمة لها، وأمرَنا بدفع تلك الأسباب المكروهة بهذه الأسباب.

وعلى هذا قيامُ مصالح الدارين، بل الخلقُ والأمرُ مبنيٌّ على هذه القاعدة، فإنَّ تعطيلَ الأسباب وإخراجَها عن أن تكون أسبابًا تعطيلٌ للشرع ومصالح الدنيا، والاعتمادَ عليها والركونَ إليها واعتقادَ أنَّ المسبَّبات بها وحدها وأنها أسبابٌ تامةٌ= شركٌ بالخالق عز وجل وجهلٌ به وخروجٌ عن حقيقة التوحيد، وإثباتُ سببيَّتها على الوجه الذي خلقها اللهُ عليه وجعلها له إثباتٌ للخلق والأمر، للشرع والقدر، للسبب والمشيئة، للتوحيد والحكمة

(3)

.

فالشارعُ يثبتُ هذا ولا ينفيه، وينفي ما عليه المشركون من اعتقادهم في ذلك.

ويُشْبِهُ هذا نفيُه سبحانه وتعالى الشفاعةَ في قوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ

(1)

انظر: «زاد المعاد» (4/ 10، 13 - 17).

(2)

أخرجه أحمد (4/ 278)، وأبو داود (3855)، والترمذي (2038)، وابن ماجه (3436)، وغيرهم من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه.

وصححه الترمذي، وابن حبان (486)، والحاكم (4/ 400) ولم يتعقبه الذهبي، وخرَّجه الضياء في «المختارة» (1383، 1384، 1385).

(3)

انظر: «تلبيس إبليس» (282)، و «مجموع الفتاوى» (1/ 131، 8/ 70، 139، 169 - 180، 10/ 257)، و «منهاج السنة» (5/ 366)، و «مدارج السالكين» (1/ 244، 3/ 499)، و «طريق الهجرتين» (391).

ص: 1591

عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48]، وفي الآية الأخرى:{وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 123]، وفي قوله:{مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254]، وإثباتُها في قوله:{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقوله:{لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} [مريم: 87].

فإنه سبحانه نفى الشفاعةَ الشِّركيَّة التي كانوا يعتقدونها وأمثالُهم من المشركين، وهي شفاعةُ الوسائط لهم عند الله في جلب ما ينفعُهم ودفع ما يضرُّهم بذواتها وأنفسها بدون توقُّف ذلك على إذن الله ومرضاته لمن شاء أن يَشْفَعَ فيه الشافع، فهذه الشفاعةُ التي أبطلَها اللهُ سبحانه ونفاها، وهي أصلُ الشرك كلِّه، وقاعدتُه التي عليها بناؤه، وآخيَّتُه

(1)

التي يَرجِعُ إليها.

وأثبتَ سبحانه الشفاعةَ التي لا تكونُ إلا بإذن الله للشافع ورضاه عن المشفوع قولِه وعملِه، وهي الشفاعةُ التي تُنال بتجريد التوحيد، كما قال صلى الله عليه وسلم:«أسعدُ الناس بشفاعتي من قال: لا إله إلا الله، خالصًا من قلبه»

(2)

.

والشفاعةُ الأولى هي الشفاعةُ التي ظنَّها المشركون، وجعلوا الشرك وسيلةً إليها.

فالمقامات ثلاثة:

أحدها: تجريدُ التوحيد، وإثباتُ الأسباب، وهذا هو الذي جاءت به الشرائع، وهو مطابقٌ للواقع في نفس الأمر.

(1)

غير محرَّرة في (ق). (ط): «أخبيته» . وهو تحريف. وتقدم شرحها.

(2)

أخرجه البخاري (99) من حديث أبي هريرة.

ص: 1592

الثاني: الشرك في الأسباب بالمعبود

(1)

، كما هو حالُ المشركين على اختلاف أصنافهم.

الثالث: إنكارُ الأسباب بالكلِّية محافظةً من مُنكِرها على التوحيد.

فالمنحرفون طرفان مذمومان؛ إمَّا قادحٌ في التوحيد بالأسباب، وإمَّا منكِرٌ للأسباب بالتوحيد، والحقُّ غيرُ ذلك، وهو إثباتُ التوحيد والأسباب، وربطُ أحدهما بالآخر، فالأسبابُ محلُّ حكمه الدِّينيِّ والكوني، والحُكمان عليها يجريان، بل عليها يترتَّب الأمرُ والنهي، والثوابُ والعقاب، ورضا الربِّ وسخطه، ولعنته وكرامته.

والتوحيدُ تجريدُ الربوبية والإلهية عن كلِّ شرك.

فإنكارُ الأسباب إنكارٌ لحكمته، والشركُ بها قدحٌ في توحيده، وإثباتُها والتعلُّقُ بالمسبِّب

(2)

والتوكُّلُ عليه والثقةُ به والخوفُ منه والرجاءُ له وحده هو محضُ التوحيد والمعرفة.

ففرقٌ

(3)

بين ما أثبته الرسولُ وبين ما نفاه، وبين ما أبطله وبين ما اعتبره، فهذا لونٌ وهذا لون، والله الموفِّق للصواب.

فصل

ويُشْبِهُ هذا ما رُوِي عنه صلى الله عليه وسلم من نهيه عن وطء الغَيْل، وهو وطء المرأة إذا

(1)

(ص، ق): «بالمعهود» . (ت): «بالعهود» . والمثبت من (د).

(2)

(ق): «بالسبب» . وهو تحريفٌ فاحش.

(3)

في الأصول: «تفرق» . وهو تحريف.

ص: 1593

كانت تُرضِع، وأنه يشبهُ قتلَ الولد سرًّا، وأنه يُدْرِكُ الفارسَ فيُدَعْثِرُه

(1)

.

وقوله في حديثٍ آخر: «لقد هممتُ أن أنهى عنه، ثمَّ رأيتُ فارسَ والروم يفعلونه ولا يضرُّ ذلك أولادَهم شيئًا»

(2)

.

وقد قيل: إنَّ أحدَ الحديثين منسوخٌ بالآخر، وإن لم نعلَم عَيْنَ الناسخ منهما من المنسوخ، لعدم علمنا بالتاريخ.

وقيل ــ وهو أحسن ــ: إنَّ النفيَ والإثباتَ لم يتواردا على محلٍّ واحد، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبَر في أحد الجانبين أنه يفعَل في الولد مثلَ ما يفعَل من يصرعُ الفارسَ عن فرسه، كأنه يُدَعْثِرُه ويصرعُه، وذلك يوجبُ نوعَ وَهْن

(3)

، ولكنه ليس بقتلٍ للولد وإهلاكٍ له، وإن كان قد يترتبُ عليه نوعُ أذًى للطفل؛ فأرشدَهم إلى تركه، ولم ينهَ عنه، بل قال:«علامَ يفعلُ أحدُكم ذلك؟»

(4)

، ولم يقل: لا تفعلوه، فلم يجئ عنه صلى الله عليه وسلم لفظٌ واحدٌ بالنهي عنه.

ثمَّ عزَمَ على النهي سدًّا لذريعة الأذى الذي ينالُ الرضيع، فرأى أنَّ سدَّ هذه الذريعة لا يقاوم المفسدةَ التي تترتبُ على الإمساك عن وطء النساء مدَّة الرضاع، ولاسيَّما من الشَّباب وأرباب الشَّهوة التي لا يَكْسِرُها إلا مواقعةُ نسائهم.

(1)

أخرجه أحمد (6/ 453)، وأبو داود (3881)، وابن ماجه (2012)، وغيرهم من حديث أسماء بنت يزيد.

وصححه ابن حبان (5984)، وحسنه ابن حجر في «الإصابة» (7/ 498).

و «يدعثره» : يصرعه ويهلكه. «النهاية» (دعثر).

(2)

أخرجه مسلم (1442) من حديث جدامة بنت وهب.

(3)

(ق): «نوع نهي» .

(4)

لم أجده.

ص: 1594

فرأى أنَّ هذه المصلحةَ أرجحُ من مفسدة سدِّ الذريعة بوطئهنَّ

(1)

، ورأى الأمَّتين اللتين هما من أكثر الأمم وأشدِّها بأسًا يفعلونه ولا يتَّقونه، مع قوَّتهم وشدَّتهم، فأمسَك عن النهي عنه.

فلا تعارضَ إذًا بين الحديثين، ولا ناسخَ منهما ولا منسوخ، والله أعلم بمراد رسوله

(2)

.

فصل

ويُشْبِهُ هذا قولُه صلى الله عليه وسلم

(3)

للذي قال له: إنَّ لي أمَةً، وأنا أكرهُ أن تحبَل، وإني أعزِلُ عنها، فقال:«سيأتيها ما قُدِّرَ لها»

(4)

.

فليس بين هذه الأحاديث تعارض، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقل: إنَّ الولدَ يُخْلَقُ من غير ماء الواطاء، بل أخبر أنه سيأتيها ما قُدِّر لها ولو عَزَل، فإنه إذا قُدِّرَ خلقُ الولد قُدِّرَ سبقُ الماء والواطاءُ لا يشعر، بل يخرجُ منه ماءٌ يمازجُ ماءَ المرأة لا يشعُر به يكونُ سببًا في خلق الولد.

ولهذا قال: «ليس من كلِّ الماء يكونُ الولد»

(5)

، فلو خرج منه نطفةٌ لا

(1)

غير محررة في الأصول، رسمها يشبه:«وطرين» . وفي (ط): «فنظر» .

(2)

انظر: «تحفة المودود» (192)، و «زاد المعاد» (5/ 147).

(3)

فيما أخرجه مسلم (1439) من حديث جابر.

(4)

هاهنا بياض في (د) بمقدار سطرين ونصف، كأنَّ المصنف تركه في أصله ليكتب الأحاديث التي تدلُّ على أن الولد يخلق من ماء الرجل والمرأة، وظاهرها يوهمُ معارضة هذا الحديث. ويدل لذلك قوله:«فليس بين هذه الأحاديث تعارض» ، وهو إنما أورد حديثًا واحدًا لا معارض له.

(5)

أخرجه مسلم (1438) من حديث أبي سعيد الخدري.

ص: 1595

يُحِسُّ بها لجعلها اللهُ مادةً للولد

(1)

.

قلت: مادةُ الولد [غير] مقصورةٍ على وقوع الماء بجملته في الرَّحم، بل إذا قدَّر الله خَلْقَ الولد من الماء فلو وُضِعَ على صخرةٍ لخُلِقَ منه الولد.

كيف، والذي يعزِلُ في الغالب إنما يلقي ماءه قريبًا من الفرج، وذلك إنما يكونُ غالبًا عندما يحسُّ بالإنزال، وكثيرًا ما ينزلُ بعضُ الماء ولا يشعُر به، فينزلُه خارجَ الفرج ولا شعورَ له بما ينزلُ في الفرج، ولا بما خالطَ ماءَ المرأة منه.

وبالجملة؛ فليس سببُ خلقِ الولد مقصورًا على الإنزال التَّامِّ في الفرج.

ولقد حدَّثني غيرُ واحدٍ ممَّن أثقُ به أنَّ امرأته حَمَلَت مع عزله عنها لرضاعٍ وغيره، ورأيتُ بعض أولادهم ضعيفًا ضئيلًا.

فصلواتُ الله وسلامه على من يصدِّقُ كلامُه بعضُه بعضًا، ويشهدُ بعضُه لبعض، فالاختلافُ والإشكالُ والاشتباهُ إنما هو في الأفهام، لا فيما خرجَ من بين شفتيه من الكلام.

والواجبُ على كلِّ مؤمنٍ

(2)

أن يَكِلَ ما أشكَل عليه إلى أصدق قائل، ويعلمَ أنَّ فوق كلِّ ذي علمٍ عليم

(3)

، وأنه لو اعترَض على ذي صناعةٍ أو علمٍ من العلوم التي استنبطتها معاولُ الأفكار ولم يُحِط علمًا بتلك الصِّناعة والعلم، لأزرى على نفسه، وأضحَك صاحبَ تلك الصِّناعة والعلم على عقله.

(1)

انظر: «إعلام الموقعين» (2/ 297، 298).

(2)

(ت): «مسلم» . (ص): «عاقل» .

(3)

كذا في الأصول، على الحكاية.

ص: 1596

والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يذكرُ المقتضي في موضعٍ والمانعَ في موضعٍ آخر، ويُثْبِتُ الشيءَ في موضعٍ وينفي مثلَه في الصُّورة وعكسَه في الحقيقة، ولا يحيطُ أكثرُ الناس بمجموع نصوصه علمًا، ويسمعُ النصَّ ولا يسمعُ شرطَه ولا موانع مقتضاه ولا تخصيصَه، ولا ينتبهُ للفرق بين ما أثبته ونفاه، فينشأ من ذلك في حقِّه من الإشكالات ما ينشأ.

وينضافُ هذا إلى عدم معرفة الخاصِّ بخطابه ومجاري كلامه.

وينضافُ إلى ذلك تنزيلُ كلامه على الاصطلاحات التي أحدثَها أربابُ العلوم من

(1)

الأصوليِّين والفقهاء وعلم أحوال القلوب وغيرهم، فإنَّ لكلٍّ من هؤلاء اصطلاحاتٍ حادثةً في مخاطباتهم وتصانيفهم، فيجيءُ من قد أَلِفَ تلك الاصطلاحات الحادثة وسبقَت معانيها إلى قلبه فلم يعرِف سواها، فيسمعُ كلامَ الشارع فيحملُه على ما ألِفَه من الاصطلاح، فيقعُ بسبب ذلك في الفهم عن الشارع ما لم يُرِده بكلامه، ويقعُ من الخلل في نظره ومناظرته ما يقع

(2)

.

وهذا من أعظم أسباب الغلط عليه

(3)

، مع قلَّة البضاعة من معرفة نصوصه.

(1)

مهملة في (د). (ت، ق): «بين» . والمثبت من (ط).

(2)

انظر: «مجموع الفتاوى» (1/ 243، 12/ 106، 13/ 146، 14/ 101،133)، و «الاستقامة» (1/ 23)، و «الجواب الصحيح» (4/ 483)، و «إعلام الموقعين» (1/ 35، 43، 90)، و «زاد المعاد» (1/ 283، 2/ 118)، و «الصواعق المرسلة» (189، 289، 672، 675)، و «شفاء العليل» (141).

(3)

(ت): «من أسباب عليه» .

ص: 1597

فإذا اجتمعت هذه الأمورُ مع نوع فسادٍ في التصوُّر، أو القصد، أوهَما ما شئتَ من خَبْطٍ وغلطٍ وإشكالاتٍ واحتمالاتٍ وضرب كلامه بعضه ببعض، وإثبات ما نفاه ونفي ما أثبته، والله المستعان.

فصل

وأمَّا قضيةُ المجذوم؛ فلا ريب أنه رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فِرَّ من المجذوم فرارَك من الأسد»

(1)

، وأرسل إلى ذلك المجذوم:«إنَّا قد بايعناك فارجِع»

(2)

، وأخَذ بيد مجذومٍ فوضعها في القصعة، وقال:«كُلْ، ثقةً بالله وتوكُّلًا عليه»

(3)

.

ولا تنافي بين هذه الآثار، ومن أحاطَ علمًا بما قدَّمناه تبيَّن له وجهُها، وأنَّ غايةَ ذلك أنَّ مخالطةَ المجذوم من أسباب العدوى، وهذا السببُ يعارضُه أسبابٌ أخرُ تمنعُ اقتضاءه.

فمِنْ أقواها: التَّوكُّلُ على الله والثقةُ به، فإنه يمنعُ تأثيرَ ذلك السبب المكروه، ولكن لا يقدرُ كلُّ واحدٍ من الأمَّة على هذا، فأرشدَهم إلى مجانبة

(1)

تقدم تخريجه (ص: 1511).

(2)

تقدم تخريجه (ص: 1511).

(3)

أخرجه أبو داود (3925)، والترمذي (1817)، وابن ماجه (3542) من حديث جابر. وصححه ابن حبان (6120)، والحاكم (4/ 136) ولم يتعقبه الذهبي.

وفي إسناده ضعف، والصوابُ أنه موقوفٌ على عمر أو سلمان، وأنكر رفعه البخاري والترمذي والعقيلي وابن عدي.

انظر: «علل الترمذي الكبير» (303)، و «الجامع» ، و «الضعفاء» (4/ 242)، و «الكامل» (6/ 409).

ص: 1598

السبب المكروه والفرار والبعد منه.

ولذلك أرسل إلى ذلك المجذوم الآخر بالبيعة، تشريعًا منه للفرار من أسباب الأذى والمكروه وأن يتعرَّض العبدُ لأسباب البلاء.

ثمَّ وضعُ يده معه في القصعة، فإنما هو بسبب التوكُّل على الله والثقة به الذي هو من أعظم الأسباب التي يُدْفَعُ بها المكروه والمحذور؛ تعليمًا منه للأمَّة دفعَ الأسباب المكروهة بما هو أقوى منها، وإعلامًا بأنَّ الضرَّ والنفعَ بيد الله عز وجل، فإن شاء أن يضرَّ عبدَه ضرَّه، وإن شاء أن ينفعه نفعه، وإن شاء أن يصرفَ عنه الضرَّ صرَفه، بل إن شاء أن ينفعه بما هو من أسباب الضرر، ويضرَّه بما هو من أسباب النفع فعَل.

ليتبيَّن العبادُ أنه وحده الضارُّ النافع، وأنَّ أسبابَ الضرِّ والنفع بيده، وهو الذي جعلها أسبابًا، وإن شاء خلعَ منها سببيَّتها، وإن شاء جعَل ما تقتضيه بخلاف المعهود منها، ليُعْلَم أنه الفاعلُ المختار، وأنه لا يضرُّ شيءٌ ولا ينفعُ إلا بإذنه، وأنَّ التوكُّل عليه والثقةَ به تحيلُ الأسبابَ المكروهةَ إلى خلاف موجَباتها، وتبيِّن مرتبتَها، وأنها مَحَالُّ لمجاري مشيئة الله وحكمته، وأنه سبحانه هو الذي يضرُّ بها وينفع، ليس إليها ولا لها من الأمر شيء، وأنَّ الأمر كلَّه لله، وأنها إنما ينالُ ضررُها من علَّق قلبه بها، ووقفَ عندها، وتطيَّر بما يُتَطيَّر منها، فذلك الذي يصيبه

(1)

مكروهُ الطِّيَرة.

والطِّيَرة سببٌ للمكروه

(2)

على المتطيِّر، فإذا توكَّل على الله ووثقَ به

(1)

(ت، ص): «يصله» .

(2)

(ت، ص): «سبب المكروه» .

ص: 1599

واستعان به لم يصدَّه التطيُّر

(1)

عن حاجته، وقال: اللهم لا طيرَ إلا طيرُك، ولا خيرَ إلا خيرُك، ولا إلهَ غيرُك، اللهمَّ لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهبُ بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوَّة إلا بك، فإنه لا يضرُّه ما تطيَّر منه شيئًا.

قال ابنُ مسعود: «ما منَّا إلا» يعني: من يتطيَّر، «ولكنَّ الله يُذْهِبه بالتوكُّل»

(2)

. وقد رُوِي مرفوعًا، والصوابُ عن ابن مسعودٍ قولَه.

فالطِّيَرة إنما تصيبُ المتطيِّر لشركه، والخوفُ دائمًا مع الشرك، والأمنُ دائمًا مع التوحيد؛ قال تعالى حكايةً عن خليله إبراهيم أنه قال في محاجَّته لقومه:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 81]، فحَكَم الله عز وجل بين الفريقين بحكمه، فقال:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].

وقد صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفسيرُ الظُّلم فيها بالشرك، وقال:«ألم تسمعوا قولَ العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]»

(3)

.

فالتوحيدُ من أقوى أسباب الأمن من المَخاوِف، والشركُ من أعظم أسباب حصول المَخاوِف.

(1)

(ت، ص): «تصده الطيرة» .

(2)

تقدم تخريجه (ص: 1484).

(3)

أخرجه البخاري (32)، ومسلم (124) من حديث ابن مسعود.

ص: 1600

ولذلك

(1)

من خافَ شيئًا غيرَ الله سُلِّط عليه، وكان خوفُه منه هو سببَ تسليطه عليه، ولو خاف اللهَ دونه ولم يَخَفْهُ لكان عدمُ خوفه منه وتوكُّلُه على الله من أعظم أسباب نجاته منه. وكذلك من رجا شيئًا غيرَ الله حُرِمَ ما رجاه منه، وكان رجاؤه غيرَ الله من أقوى أسباب حرمانه، فإذا رجا اللهَ وحده كان توحيدُ رجائه أقوى

(2)

أسباب الفوز بما رجاه، أو بنظيره، أو بما هو أنفعُ له منه، والله الموفق للصواب.

وليكن هذا آخرَ الكتاب، وقد جُلِبَت

(3)

إليك فيه نفائس في مثلها يتنافسُ المتنافسون، وجُلِيَت عليك فيه عرائس إلى مثلهنَّ بادَر الخاطبون.

فإن شئتَ اقتبستَ منه معرفةَ العلم وفضله، وشدَّة الحاجة إليه، وشرفَه وشرفَ أهله، وعِظَم موقعه في الدارين.

وإن شئتَ اقتبستَ منه معرفةَ إثبات الصانع بطُرقٍ واضحاتٍ جليَّات تَلِجُ القلوبَ بغير استئذان، ومعرفةَ حكمته في خلقه وأمره.

وإن شئتَ اقتبستَ منه معرفةَ قَدْر الشريعة، وشدَّةَ الحاجة إليها، ومعرفةَ جلالتها وحكمتها.

وإن شئتَ اقتبستَ منه معرفة النبوَّة وشدَّةَ الحاجة إليها بل ضرورة

(4)

الوجود إليها، وأنه يستحيلُ من أحكم الحاكمين أن يُخْلِيَ العالم عنها.

(1)

(د، ت): «وكذلك» .

(2)

(ت): «من أقوى» .

(3)

(ق، ص، ت): «جليت» . بالياء. والضبط من (د).

(4)

(ق): «بل وضرورة» .

ص: 1601

وإن شئتَ اقتبستَ منه معرفةَ ما فَطر اللهُ عليه العقولَ

(1)

من تحسين الحسن وتقبيح القبيح، وأنَّ ذلك أمرٌ عقليٌّ فطري، بالأدلة والبراهين التي اشتَمل عليها هذا الكتاب ولا توجدُ في غيره.

وإن شئتَ اقتبستَ منه معرفة الردِّ على المنجِّمين القائلين بالأحكام بأبلغ طرق الردِّ عليهم من نفس صناعتهم وعلمهم، وإلزامهم بالإلزامات المُفْحِمة التي لا جوابَ لهم عنها، وإبداء تناقضهم في صناعتهم، وفضائحهم وكذبهم على الخلق والأمر.

وإن شئتَ اقتبستَ منه معرفةَ الطِّيَرة والفأل والزَّجْر، والفرقَ بين صحيح ذلك وباطله، ومعرفةَ مراتب هذه في الشريعة والقَدَر.

وإن شئتَ اقتبستَ منه أصولًا نافعةً جامعةً مما تَكْمُلُ به النفسُ البشرية وتنالُ بها سعادتَها في معاشها ومعادها.

إلى غير ذلك من الفوائد التي ما كان منها صوابًا فمن الله وحده هو المانُّ به

(2)

، وما كان منها خطأً

(3)

فمن مؤلِّفه ومن الشيطان، والله بريءٌ منه ورسوله.

والله سبحانه المسؤولُ والمرغوبُ إليه المأمولُ أن يجعلَه خالصًا لوجهه، وأن يعيذَنا من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، وأن يوفِّقنا لما يحبُّه ويرضاه، إنه قريبٌ مجيب.

(1)

(ت): «فطر الله القلوب عليه» .

(2)

(ت): «المنان به» .

(3)

(ق، د): «من خطأ» .

ص: 1602

والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

* * * *

ص: 1603