المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المؤسسات الخيرية ليس أدل على رقي الأمة وجدارتها بالحياة واستحقاقها لقيادة - مقتطفات من كتاب من روائع حضارتنا

[مصطفى السباعي]

الفصل: ‌ ‌المؤسسات الخيرية ليس أدل على رقي الأمة وجدارتها بالحياة واستحقاقها لقيادة

‌المؤسسات الخيرية

ليس أدل على رقي الأمة وجدارتها بالحياة واستحقاقها لقيادة العالم، من سمو النزعة الإنسانية في أفرادها، سمواً يفيض بالخير والبر والرحمة على طبقات المجتمع كافة، بل على كل من يعيش على الأرض من إنسان وحيوان، وبهذا المقياس تخلد حضارات الأمم. وبآثارها في هذا السبيل يفاضل بين حضارتها ومدنياتها.

وأمتنا بلغت في ذلك الذروة التي لم يصل إليها شعب من قبلها على الإطلاق، ولم تلحقها من بعدها أمة حتى الآن: أما في العصور الماضية، فلم تعرف الأمم والحضارات ميالين للبر إلا في نطاق ضيق لا يتعدى المعابد والمدارس، وأما في العصور الحاضرة، فإن أمم الغرب وإن بلغت الذروة في استيفاء الحاجات الاجتماعية وعن طريق المؤسسات الاجتماعية وعن طريق

ص: 193

المؤسسات العامة، لكنها لم تبلغ ذروة السمو الإنساني الخالص لله عز وجل كما بلغته أمتنا في عصور قوتها ومجدها، أو عصور ضعفها وانحطاطها. إن لطلب الجاه أو الشهرة أو انتشار الصيت أو خلود الذكر، الأثر الأكبر في اندفاع الغربيين نحو المبرات الإنسانية العامة، بينما كان الدافع الأول لأمتنا على أعمال الخير، ابتغاء وجه الله جل شأنه، سواء علم الناس بذلك أم لم يعلموا ..

وشيء آخر: أن الغربيين في مؤسساتهم الاجتماعية كثيراً ما يقتصر الانتفاع بها على أبناء بلادهم، أو مقاطعاتهم، بينما كانت مؤسساتنا الاجتماعية تفتح أبوابها لكل إنسان على الإطلاق، بقطع النظر عن جنسه أو لغته أو بلده أو مذهبه ..

وفارق ثالث: أننا أقمنا مؤسسات اجتماعية لوجوه من الخير والتكافل الاجتماعي لم يعرفها الغربيون حتى

ص: 194

اليوم، وهي وجوه تبعث على العجب والدهشة، وتدل على أن النزعة الإنسانية في أمتنا كانت أشمل وأصفى وأوسع أفقاً من كل نزعة إنسانية لدى الأمم الأخرى. وقبل أن نفيض في الحديث عن تعدد وجوه البر في المؤسسات الاجتماعية في عصور حضارتنا يجب أن نلم بمبادئ حضارتنا في هذا الميدان، وهي المبادئ التي عملت عملها في نفوس أمتنا فدفعتها إلى إنشاء هذه المؤسسات دفعاً لا نعرف له مثيلاً في أمم أخرى.

ينادي الإسلام بالدعوة إلى الخير نداء تنهزم معه النفس الإنسانية بواعث الشح ووسوسة الشيطان في التخويف من الفقر، فيقول القرآن بعد الحث على الإنفاق:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (1).

ويعمم الدعوة إلى الخير على كل مقتدر، بل كل إنسان، فقيراً كان أو غنياً.

ولقد كان مما شكاه الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الأغنياء يسبقونهم في فعل

(1) البقرة- 268.

ص: 195

الخيرات إذ يتصدقون بأموالهم ولا يجد هؤلاء الفقراء ما يتصدقون به، فبيّن الرسول عليه السلام أن فعل الخير ليست وسيلته المال فحسب، بل كل نفع للناس فهو من عمل الخير:(إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، وفي إماطة الأذى عن الطريق صدقة، وأن تصلح بين اثنين صدقة، وأن تعين الرجل على دابته فتحمله عليها صدقة)(1). وهكذا يفتح الإسلام أبواب الخير للناس جميعاً.

ويسمو الإسلام بالنفوس إلى أعلى أفق من النزعة الإنسانية الكاملة حين يجعل البر لجميع عباد الله مهما كانت أديانهم ولغاتهم وأوطانهم وأجناسهم فيقول: (الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إليهم أنفعهم لعياله)(2).

(1) رواه البخاري ومسلم.

(2)

رواه الطبراني وعبد الرزاق.

ص: 196

لما نزل قول الله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (1). قال صحابي يسمى أبا الدحداح: أو يستقرض الله من عبده يا رسول الله؟! قال: نعم، فقال: أمدد يا رسول الله يدك، فأشهده أنه تصدق ببستانه الذي لا يملك غيره، وكان فيه سبعمائة نخلة مثمرة، ثم عاد إلى زوجه، وكانت تقيم هي وأولادها في هذا البستان، فأخبرها بما صنع، وغادرت هي وأولادها البستان وهي

(1) البقرة- 245.

ص: 197

تقول له: ربح بيعك يا أبا الدحداح .. ولما نزل قول الله تبارك وتعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} (1). قال أبو طلحة الأنصاري: يا رسول الله، إن أحب أموالي إليّ بيرحاء - وهي بئر طيبة الماء - وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله تبارك وتعالى، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال عليه السلام:(بخ بخ، ذاك مال رابح، ذاك مال رابح، حبّس الأصل وسبّل الثمرة)(2). وكانت هذه الصدقة أول وقف في الإسلام .. ومن هنا نشأ (الوقف)، وهو الذي كان يمد كل المؤسسات الاجتماعية بالموارد المالية التي تعينها على أداء رسالتها الإنسانية النبيلة.

(1) آل عمران- 92.

(2)

تفسير ابن كثير.

ص: 198

كانت هذه المؤسسات نوعين: نوعاً تنشئة الدولة وتوقف عليه الأوقاف الواسعة، ونوعاً ينشئه الأفراد من أمراء وقواد وأغنياء ونساء. ولا نستطيع في مثل هذا الحديث أن نعدد أنواع المؤسسات الخيرية كلها، ولكن حسبنا أن نلمّ بأهمها:

فمن أول المؤسسات الخيرية المساجد، وكان الناس يتسابقون إلى إقامتها ابتغاء وجه الله، بل كان الملوك يتنافسون في عظمة المساجد التي يؤسسونها، وحسبنا أن نذكر هنا مبلغ ما أنفقه الوليد بن عبد الملك

ص: 199

من أموال بالغة على بناء الجامع الأموي، مما لا يكاد يصدقه الإنسان لكثرة ما أنفق من مال وما استخدم في إقامته من رجال.

ومن أهم المؤسسات الخيرية المدارس والمستشفيات، وسنفرد لها حديثاً خاصاً إن شاء الله.

ومن المؤسسات الخيرية بناء الخانات والفنادق للمسافرين المنقطعين وغيرهم من ذوي الفقر، ومنها التكايا والزوايا التي ينقطع فيها من شاء لعبادة الله عز وجل، ومنها بناء بيوت خاصة للفقراء يسكنها من لا يجد ما يشتري به أو يستأجر داراً، ومنها السقايات أي تسبيل الماء في الطرقات العامة للناس جميعاً، ومنها المطاعم الشعبية التي كان يفرق فيها الطعام من خبز ولحم وحساء (شوربة) وحلوى، ولا يزال عهدنا قريباً بهذا النوع في كل من تكية السلطان سليم، وتكية الشيخ محيي الدين بدمشق، ومنها بيوت للحجاج في مكة ينزلونها حين يفدون إلى بيت الله الحرام، وقد كثرت هذه البيوت حتى عمت أرض مكة كلها، وأفتى بعض الفقهاء ببطلان إجارة بيوت مكة في أيام الحج لأنها كلها موقوفة على الحجاج، ومنها حفر الآبار في الفلوات لسقي الماشية والزروع والمسافرين،، فقد كانت كثيرة جداً بين بغداد ومكة، وبين دمشق والمدينة، وبين

ص: 200

عواصم المدن الإسلامية ومدنها وقراها، حتى قل أن يتعرض المسافرون - في تلك الأيام - لخطر العطش. ومنها أمكنة المرابطة على الثغور لمواجهة خطر الغزو الأجنبي على البلاد، فقد كانت هنالك مؤسسات خاصة بالمرابطين في سبيل الله، يجد فيها المجاهدون كل ما يحتاجون إليه من سلاح وذخيرة وطعام وشراب، وكان لها أثر كبير في صد غزوات الروم أيام العباسيين، وصد غزوات الغربيين في الحروب الصليبية عن بلاد الشام ومصر.

ويتبع ذلك وقف الخيول والسيوف والنبال وأدوات الجهاد على المقاتلين في سبيل الله عز وجل، وقد كان لذلك أثر كبير في رواج الصناعة الحربية وقيام مصانع كبيرة لها في بلادنا، حتى كان الغربيون في الحروب الصليبية، يفدون إلى بلادنا - أيام الهدنة - ليشتروا منا السلاح، وكان العلماء يفتون بتحريم بيعه للأعداء، فانظر كيف انقلب الأمر الآن فأصبحنا عالةً على الغربيين في السلاح لا يسمحون لنا به إلا بشروط تقضي على كرامتنا واستقلالنا.

ص: 201

ومن المؤسسات الاجتماعية ما كانت وقفاً لإصلاح الطرقات والقناطر والجسور، ومنها ما كانت للمقابر يتبرع الرجل بالأرض الواسعة لتكون مقبرة عامة.

ومنها ما كان لشراء أكفان الموتى الفقراء وتجهيزهم ودفنهم، أما المؤسسات الخيرية لإقامة التكافل الاجتماعي، فقد كانت عجباً من العجب، فهناك مؤسسات للقطاء واليتامى ولختانهم ورعايتهم، ومؤسسات للمقعدين والعميان والعجز، يعيشون فيها موفوري الكرامة لهم كل ما يحتاجون من سكن وغذاء ولباس وتعليم أيضاً.

وهناك مؤسسات لتحسين أحوال المساجين ورفع مستوى تغذيتهم بالغذاء الواجب لصيانة صحتهم،

ص: 202

ومؤسسات لإمداد العميان والمقعدين بمن يقودهم ويخدمهم.

ومؤسسات لتزويج الشباب والفتيان العزّاب ممن تضيق أيديهم أو أيدي أوليائهم عن نفقات الزواج وتقديم المهور .. فما أروع هذه العاطفة وما أحوجنا إليها اليوم!

ومنها مؤسسات لإمداد الأمهات بالحليب والسكر، وهي أسبق في الوجود من جمعية نقطة الحليب عندنا، مع تمحُّضها للخير الخالص لله عز وجل، وقد كان من مبرات صلاح الدين أنه جعل في أحد أبواب القلعة - الباقية حتى الآن في دمشق - ميزاباً يسيل منه الحليب، وميزاباً آخر يسيل منه الماء المذاب فيه السكر، تأتي إليه الأمهات يومين في كل أسبوع ليأخذن لأطفالهن وأولادهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر.

وآخر ما نذكره من هذه المؤسسات، المؤسسات

ص: 203

التي أقيمت لعلاج الحيوانات المريضة، أو لإطعامها، أو لرعايتها حين عجزها، كما هو شأن المرج الأخضر في دمشق الذي يُقام عليه الملعب البلدي الآن، فقد كان وقفاً للخيول والحيوانات العاجزة المسنة ترعى منه حتى تلاقي حتفها.

أما بعد، فهذه ثلاثون نوعاً من أنواع المؤسسات الخيرية التي قامت في ظل حضارتنا، فهل تجد لها مثيلاً في أمة من الأمم السابقة؟ بل هل تجد لكثير منها مثيلاً في ظل الحضارة الراهنة؟ .. اللهم إنه سبيل الخلود تفردنا به وحدنا يوم كانت الدنيا كلها في غفلة وجهل وتأخر وتظالم .. اللهم إنه سبيل الخلود كشفنا به عن الإنسانية المعذبة أوصابها وآلامها .. فما هو سبيلنا اليوم؟ أين هي تلك الأيدي التي تمسح عبرة اليتيم، وتأسو جراح الكليم، وتجعل من مجتمعنا مجتمعاً متراصاً، ينعم فيه الناس جميعاً بالأمن والخير والكرامة والسلام.؟ ..

ص: 204